00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة هود من آية 96 ـ آخر السورة من ( ص 51 ـ 108 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[51]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأَيَـتِنَا وَسُلْطَـن مُّبِين(96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَِيْهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيد(97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)وَأُتْبِعُوا فِى هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ(99)

التّفسير

البطل المبارز لفرعون:

بعد إنتهاء قصّة شعيب وأهل مدين، يُشير القرآن الكريم الى زاوية من قصّة موسى ومواجهته لفرعون وهذه القصّة هي القصّة السابعة من قصص الأنبياء في هذه السورة.

تحدث القرآن الكريم عن قصّة موسى(عليه السلام) وفرعون وبني اسرائيل أكثر من مائة مرّة.

وخصوصية قصّة موسى(عليه السلام) بالنسبة لقصص الأنبياء ـ كشعيب وصالح وهود ولوط(عليهم السلام) التي قرأناها في ما سبق ـ هي أنّ أُولئك الأنبياء(عليهم السلام) واجهوا الأقوام الضالين، لكن موسى(عليه السلام) واجه إِضافة الى ذلك حكومة «ديكتاتور» طاغ مستبدّ

[52]

هو فرعون الجبار.

وأساساً فإنّ الاصلاح ينبغي أن يبدأ من الاصل والمنبع، وطالما هناك حكومات فاسدة فلن يُبصر أي مجتمع وجه السعادة، وعلى القادة الإِلهيين في مثل هذه المجتمعات أن يدمروا مراكز الفساد قبل كل شيء.

ولكن ينبغي الإِلتفات الى أنّنا نقرأ في هذا القسم من قصّة موسى زاوية صغيرة فحسب ولكنّها في الوقت ذاته تحمل رسالة كبيرة للناس جميعاً.

يقول القرآن الكريم أوّلا: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين).

«السلطان» بمعنى التسلّط، يستعمل تارةً في السلطة الظاهرية، وأحياناً في السلطة المنطقية، السلطة التي تحاصر المخالف في طريق مسدود بحيث لا يجد طريقاً للفرار.

ويبدو في الآية المتقدمة أنّ «السلطان» استعمل في المعنى الثّاني، والمرادُ بـ «الآيات» هي معاجز موسى الجليلة، وللمفسرين احتمالات أُخرى في هاتين الكلمتين.

وعلى كل حال فإنّ موسى أُرسل بتلك المعجزات القاصمة وذلك المنطق القوي (إِلى فرعون وملإِيه).

وكما قلنا مراراً فإنّ كلمة «الملأ» تُطلق على الذين يملأ مظهرهم العيون بالرّغم من خلوّ المحتوى الداخلي، وفي منطق القرآن تطلق هذه الكلمة غالباً على الوجوه والأشراف والأعيان الذين يحيطون بالمستكبرين وبالقوى الظالمة .. إِلاّ أنّ جماعة فرعون الذين وجدوا منافعهم مهددة بالخطر بسبب دعوة موسى، فإنّهم لم يكونوا مستعدين للاستجابة .. لمنطقه الحق ومعجزاته (فاتبعوا أمر فرعون). ولكن فرعون ليس من شأنه هداية الناس الى الحياة السعيدة أوضمان نجاتهم وتكاملهم:(وما أمر فرعون بِرشيد).

إِنّ هذا نجاح فرعون هذا لم يحصل بسهولة، فقد استفاد من كل أنواع السحر

[53]

والخداع والتآمر والقوى لتقدم أهدافه وتحريك الناس ضد موسى(عليه السلام)، ولم يترك في هذا السبيل أيّ نقطة نفسية بعيدة عن النظر، فتارةً كان يقول: إِنّ موسى (يريد أن يخرجكم من أرضكم).(1)

وأُخرى كان يقول: (إِنّي أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).(2) فيحرك مشاعرهم وأحاسيسهم المذهبيّة.

وأحياناً كان يتهم موسى، وأُخرى كان يهدّده، وأحياناً يبرز قوّته وشوكته بوجه الناس في مصر، أو يدعي الدهاء في قيادته بما يضمن الخير والصلاح لهم.

ويوم الحشر حين يأتي الناس عرصات القيامة فإنّ زعماؤهم وقادتهم في الدنيا هم الذين سيقودوهم هناك حين يُرى فرعون هناك: (يقدم قومه يوم القيامة) وبدلا من أن ينقذهم ويخلصهم من حرارة المحشر وعطشه يوصلهم الى جهنم (فأوردهم النّار وبئس الورد المورود) فبدلا من أن يسكَن عطش اتباعه هناك يحرق وجودهم وبدلا من الإِرواء يزيدهم ظمأ الى ظمأ.

مع ملاحظة أنّ «الورود» في الأصل معناه التحرّك نحو الماء والإِقتراب منه، ولكن الكلمة أُطلقت لتشمل الدخول على كل شيء وتوسّع مفهومها.

و«الورد» هو الماء يرده الإِنسان، وقد يأتي بمعنى الورود أيضاً. و«المورود» هو الماء الذي يورد عليه، فـ «هم» اسم مفعول، فعلى هذا يكون معنى الجملة بئس الورد والمورود(3) على النحو التالي: النّار بئس ماؤها ماءً حين يورد عليه.

ويلزم ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ العالم بعد الموت ـ كما قلنا سابقاً ـ

_____________________________

1 ـ الأعراف، 110.

2 ـ غافر، 22.

3 ـ هذا الجملة من حيث التركيب النحوي يكون إِعرابها كالتالي: «بئس» من أفعال الذم، وفاعله «الورد» و«المورود» صفة، والمخصوص بالذم «النار» التي حذفت من الجملة، واحتمل البعض أنّ المخصوص بالذم هو كلمة «المورود» فعلى هذا لم يحذف من الجملة شيء، إِلاّ أنّ الأوّل أقوى كما يبدو.

[54]

عالم «تتجسم فيه أعمالنا وأفعالنا» الدنيوية بمقياس واسع، فالشقاء والسعادة في ذلك العالم نتيجة أعمالنا في هذه الدنيا، فالاشخاص الذين كانوا في هذه الدنيا قادة الصلاح يقودون الناس الى الجنّة والسعادة في ذلك العالم، والذين كانوا قادة للظالمين والضالين وأهل النّار يسوقونهم الى جهنم يتقدمونهم هناك!

ثمّ يقول القرآن: (واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة). فأسماؤهم الذليلة تثبت على صفحات التاريخ أبداً على أنّهم قوم ضالون وجبابرة، فقد خسروا الدنيا والآخرة وساءت النّار لهم عطاء وجزاءً (وبئس الرفد المرفود)(1).

و«الرفد» في الأصل معناه الإِعانة على القيام بعمل معين، وإِذا أرادوا أن يسندوا شيئاً الى شيء آخر عبروا عن ذلك بالرفد، ثمّ أطلقت هذه الكلمة على العطاء لأنّه إِعانة من قِبَل المُعطي إلى المُطعى له!

* * *

_____________________________

1 ـ إعراب هذه الجملة كإعراب أُختها السابقة.

[55]

الآيات

ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100)وَمَا ظَلَمْنَـهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَىْء لَّـمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَازَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيب(101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاَْخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ(103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاَِجَل مَّعْدُود(104)

التّفسير

في آيات هذه السورة تبيان لقصص سبعة أقوام من الأقوام السابقين ولمحات من تأريخ أنبيائهم، وكل واحد منهم يكشف للإِنسان قسماً جديراً بالنظر من حياته المليئة بالحوادث ويحمل بين جنبيه دروساً من العبرة للإِنسان.

وهنا إِشارة الى جميع تلك القصص، فيتحدث القرآن عن صورة مستجمعة لما مرّ من الحوادث والأنباء حيث يقول: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد).

[56]

وكلمة «قائم» تشير الى المدن والعمارات التي لا تزال باقية من الأقوام السابقين، كأرض مصر التي كانت مكان الفراعنة ولا تزال آثار أُولئك الظالمين باقية بعد الغرق، فالحدائق والبساتين وكثير من العمارات المذهلة قائمة بعدهم.

وكلمة «حصيد» معناها اللغوي قطع النباتات بالمنجل، وفي هذه الكلمة إِشارة الى بعض الأراضي البائرة، كأرض قوم نوح وأرض قوم لوط، حيث أنّ واحدة منهما دمرها الغرق والثانية أُمطرت بالحجارة.

(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) حيث ركنوا ولجأوا الى الأصنام والآلـهة «المزعومة» (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله لما جاء أمر ربّك) بل زادوهم ضرراً وخسراناً (وما زادوهم غير تتبيب)(1).

(وكذلك أخذ ربّك إِذ أخذ القرى وهي ظالمة) فلا يدعها على حالها و(إِنّ أخذه أليم شديد).

هذا قانون إِلـهي عام ومنهج دائم، فما من قوم أو أُمّة من الناس يتجاوزون حدود الله ويمدون أيديهم للظلم ولا يكترثون لنصائح أنبيائهم ومواعظهم، إِلاّ أخذهم الله أخذاً شديداً واعتصرتهم قبضة العذاب.

هذه الحقيقة تؤكّد أنّ المنهاج السابق منهاج عمومي وسنّة دائمة، وتستفاد من آيات القرآن بصورة جيدة، وهي في الواقع إِنذار لأهل العالم جميعاً: أن لا تظنوا أنّكم مستثنون من هذا القانون، أو أنّ هذا الحكم مخصوص بالأقوام السابقين.

والطبع فإنّ الظلم بمعناه الواسع يشمل جميع الذنوب، ووصُفت القرية أو المدينةُ بأنّها «ظالمة» مع أنّ الوصف ينبغي أن يكون لساكنيها، فكأنما هناك مسألة دقيقة وهي أنّ أهل هذه المدينة انغمسوا في الظلم الى درجة حتى كأنّ المدينة لها أصبحت مغموسة في الظلم أيضاً.

_____________________________

1 ـ «التتبيب» مشتق من مادة «تبّ» ومعناه الإِستمرار في الضرر، وقد يأتي بمعنى الهلاك أيضاً.

[57]

وحيث أنّ هذا قانون كلّي وعام فإنّ القرآن يقول مباشرةً (إِنّ في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة).

لانّ الدنيا لا تعدُّ شيئاً إِزاء الآخرة، وجميع ما في الدنيا حقير حتى ثوابها وعقابها، والعالم الآخر أوسع ـ من جميع النواحي ـ من هذه الدنيا. فالمؤمنين بيوم القيامة يعتبرون لدى مشاهدة واحد من هذه المُثُل والنماذج في الدنيا، ويواصلون طريقهم.

وفي ختام الآية إِشارة الى وصفين من أوصاف يوم القيامة حيث يقول القرآن (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).

هي إِشارة الى أنّ القوانين والسنن الإِلهية كما هي عامّة في هذا العالم، فإنّ اجتماع الناس في تلك المحكمة الإِلهية أيضاً عام، وسيكون في زمان واحد ويوم مشهود للجميع يحضره الناس كلّهم ويرونه.

من الطريف هنا أنّ الآية تقول (ذلك يوم مجموع له الناس) ولم تقل «مجموع فيه الناس» وهذا التعبير إِشارة الى أنّ يوم القيامة ليس ظرفاً لإِجتماع الناس فحسب، بل هو هدف يمضي إِليه الناس في مسيرهم التكاملي.

ونقرأ في الآية (9) من سورة التغابن (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يومُ التغابن).

وبما أنّ البعض قد يتوهم أنّ الحديث عن ذلك اليوم لم يحن أجله فهو نسيئة وغير معلوم وقت حلوله، لهذا فإنّ القرآن يقول مباشرة: (وما نؤخره إِلاّ لأجل معدود).

وذلك أيضاً لمصلحة واضحة جليّة ليرى الناس ميادين الإِختبار والتعلم، وليتجلى آخر منهج للأنبياء وتظهر آخر حلقة للتكامل الذي يمكن لهذا العالم أن يستوعبها ثمّ تكون النهاية.

والتعبير بكلمة «معدود» إِشارة الى قُرب يوم القيامة، لأنّ كل شيء يقع تحت

[58]

العدّ والحساب فهو محدود وقريب.

والخلاصة أنّ تأخير ذلك اليوم لا ينبغي أن يغترّ به الظالمون، لأنّ يوم القيامة وإِن تأخر فهو آت لا محالة، وإنّ التعبير بتأخره أيضاً غير صحيح.

* * *

[59]

الآيات

يَوْمَ يَأْتِ لاَتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ(105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ(106) خَـلِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـوَتُ وَالاَْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ(107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَـلِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـوَتُ وَالاَْرْضُ إِلاَّ مَاشَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذ(108)

التّفسير

السّعادة الشّقاوة:

أشير في الآيات المتقدّمة الى مسألة القيامة واجتماع الناس كلّهم في تلك المحكمة العظيمة ... وهذه الآيات ـ محل البحث ـ بيّنت زاوية من عواقب الناس ومصيرهم في ذلك اليوم، إِذ تقول الآيات أوّلا: (يوم يأتي لا تكلّم نفسٌ إِلاّ بإذنه).

قد يُتصور أحياناً أنّ هذه الآية الدالة على تكلّم الناس في ذلك اليوم بإذن الله، تنافي الآيات التي تنفي التكلم هناك مطلقاً، كالآية (65) من سورة يس

[60]

(اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)، وكالآية (35) من سورة المرسلات حيث نقرأ: (هذا يوم لا ينطقون).

ولهذا السبب قال بعض المفسّرين الكبار: إِنّ التكلم هناك «يوم القيامة» لا مفهوم له أساساً. لأنّ التكلم وسيلة لكشف باطن الأشخاص وداخلهم، ولو كان لدينا إِحساس نستطيع أن نطّلع به على أفكار كل شخص لم يكن حاجة الى التكلم أبداً.

فعلى هذا لمّا كانت الأسرار وجميع الأشياء تنكشف «يوم القيامة» على حالة «الظهور والبروز» فلا معنى للتكلم أصلا.

وببيان آخر: إِنّ الدار الآخرة دار مكافأة وجزاء لا دار عمل، وعلى هذا فلا معنى هناك لإِختيار الإِنسان وتكلمه حسب رغبته وإِرادته، بل هو الإِنسان وعمله وما يتعلق به، فلو أراد التكلم فلا يكون كلامه عن اختيار وارادة وحاكيا عمّا في ضميره كما في الدنيا، بل كل ما يتكلم به هناك فهو نوع من الإِنعكاس عن أعماله التي تظهر جليّة ذلك اليوم. أي أنّ الكلام هناك ليس كالكلام في الدنيا بحيث يستطيع الإِنسان على حسب ميله أن يتكلم صادقاً أو كاذباً.

وعلى كل حال فإِنّ ذلك اليوم هو يوم كشف حقائق الأشياء وعودة الغيب الى الشهود، ولا شبه له بهذه الدنيا.

ولكن هذا الإِستنتاج من الآية المتقدّمة لا ينسجم مع ظاهر الآيات الأُخرى في القرآن، لأنّ القرآن يتحدث عن كثير من كلام المؤمنين والمجرمين والقادة والجبابرة وأتباعهم، والشيطان والمنخدعين به، وأهل النّار وأهل الجنّة، بحيث يدل على أنّ هناك كلاماً كالكلام في هذه الدنيا أيضاً.

حتى أنّ بعض الآيات يستفاد منها أنّ قسماً من المجرمين يكذبون في ردهم على بعض الأسئلة، كما هو مذكور في سورة الأنعام الآيات (22) الى (24) حيث تقول الآيات (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم

[61]

الذين كنتم تزعمون * ثمّ لم تكن فتنتهم إِلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين * انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون).

فعلى هذا، من المستحسن أن يجاب على السؤال المتعلق بتناقض ظواهر الآيات حول التكلم بما ذكره كثير من المفسّرين، وهو أنّ الناس يقطعون في ذلك اليوم مراحل مختلفة ... وكل مرحلة لها خصوصياتها، ففي قسم من المراحل لا يُسألون أبداً حتى أنّ أفواههم يُختم عليها فلا يتكلمون، وإِنّما تنطق أعضاء أجسادهم التي حفظت آثار أعمالها بلغة من دون لسان، وفي المراحل الأُخرى يرفع الختم أو القفل عن أفواههم ويتكلمون بإذن الله فيعترفون بأخطائهم وذنوبهم ويلوم المخطئون بعضهم بعضاً، بل يحاولون أن يُلقوا تبعات أوزارهم على غيرهم.

ويشار في نهاية الآية الى تقسيم الناس جميعاً الى طائفتين: طائفة محظوظة، وأُخرى بائسة تعيسة (فمنهم شقي وسعيد).

و«السعيد» مشتق من مادة «السعادة» ومعناها توفر أسباب النعمة.

و«الشقي» مشتق من مادة «الشقاء» ومعناه توفر أسباب البلاء والمحنة.

فالسعداء ـ إِذاً ـ هم الصالحون الذين يتمتعون بأنواع النعم في الجنّة والأشقياء هم المسيئون الذين هم يتقلبون في أنواع العذاب والعقاب في جهنم.

وليس هذا الشقاء ـ على كل حال ـ وتلك السعادة سوى نتيجة الأعمال والأقوال والنيّات التي سلفت من الإِنسان في الدنيا.

والعجيب أن بعض المفسّرين يتخذون هذه الآية ذريعة لعقيدتهم الباطلة في مجال الجبر، في حين أنّ الآية ليس فيها أقلّ دليل على هذا المعنى، بل هي تتحدث عن السعداء والأشقياء في يوم القيامة وأنهم وصلوا جميعاً بأعمالهم الى هذه المرحلة، ولعلهم توهموا هذه النتيجة من هذه الآية بالخلط بينها وبين بعض الأحاديث التي تتكلم عن شقاء الإِنسان أو سعادته وهو في بطن أُمّه قبل الولادة،

[62]

ولكن هذه المسألة ليس هنا مجالها إِذ لها قصّة أُخرى وحديث طويل.

ثمّ تشرح الآيات حالات السعداء والأشقياء في عبارات موجزة وأخّاذة حيث تقول (فأمّا الذين شقوا ففي النّار لهم فيها زفير وشهيق) وتضيف حاكية عن حالهم أيضاً: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إِلاّ ما شاء ربّك أنّ ربّك فعال لما يريد وأمّا الذين سُعدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إِلاّ ما شاء ربّك عطاءً غير مجذوذ).

* * *

ملاحظات

1 ـ هل أنّ السعادة والشقاوة ذاتيان؟

أراد البعض أن يثبت من الآيات المتقدمة ـ كما قلنا آنفاً ـ كون السعادة والشقاء ذاتيين، في حين أنّ الآيات المتقدمة لا تدل على هذا الأمر فحسب، بل تثبت بوضوح كون السعادة والشقاء اكتسابيين، إِذ تقول (فأمّا الذين شقوا) أو تقول (وأمّا الذين سُعدوا) فلو كان كل من الشقاء والسعادة ذاتيين لكان ينبغي أن يُقال «أمّا الأشقياء وأمّا السعداء» وما أشبه ذلك التعبير، ومن هنا يتّضح بطلان ما جاء في تفسير الفخر الرازي ممّا مؤداه: «إِنّ هذه الآيات تحكم من الآن أنّ جماعة في القيامة سعداء وجماعة أشقياء، ومن حكم الله عليه مثل هذا الحكم ويعلم أنه في القيامة إِمّا شقي أو سعيد، فمحال عليه أن يغير ذلك وإِلاّ للزم ـ في الآية ـ أن يكون ما أخبر الله به كذباً ويكون علمه جهلا!! وهذا محال». ... فكل ذلك لا أساس له .

وهذا هو الإِشكال المعروف على «علم الله» في مسألة الجبر والإِختيار والذي أُجيب عليه قديماً بأنه: إِذا لم نرد تحميل أفكارنا وآراؤنا المسبقة على آيات القرآن الكريم، فإنّ مفاهيمها تبدو واضحة، إِنّ هذه الآيات تقول: (يوم

[63]

يأتي) يكون فيه جمع من الناس سعداء من خلال أعمالهم، وجمع آخر أشقياء بسبب أعمالهم، والله سبحانه يعلم من الذي اختار طريق السعادة باختياره، وبإرادته، ومن الذي خطا خطوات في مسير الشقاء بإِرادته. وهذا المعنى يعطي نتيجة معاكسة تماماً لما ذكره الرازي حيث أنّ الناس اذا كانوا مجبورين على هذا الطريق فإنّ علم الله سيكون جهلا (والعياذ بالله)، لأنّ الجميع اختاروا طريقهم وانتخبوه بإِرادتهم ورغبتهم.

الشاهد في الكلام أنّ الآيات المتقدمة تتحدث عن قصص الأقوام السابقين، حيث عوقبت عقاباً جماعة عظيمة منهم ـ بسبب ظلمهم وانحرافهم عن جادة الحق والعدل، وبسبب التلوث بالمفاسد الأخلاقية الشديدة، والوقوف بوجه الأنبياء والقادة الإِلهيين ـ أليماً في هذه الدنيا ... والقرآن يقص علينا هذه القصص من أجل إِرشادنا وتربيتنا وبيان طريق الحق من الباطل، وفصل مسير السعادة عن مسير الشقاء.

وإِذا كنّا ـ أساساً ـ كما يتصوّر الفخر الرازي ومن على شاكلته ـ محكومين بالسعادة والشقاء الذاتيين، ونؤخذ دون إرادتنا بالسيئات أو الصالحات، فإنّ «التعليم والتربية» سيكونان لغواً وبلا فائدة ... ومجيء الأنبياء ونزول الكتب السّماويّة والنصيحة والموعظة والتوبيخ والملامة والمؤاخذة والسؤال والمحاكمة والثواب ... كل ذلك يُعدّ غير ذي فائدة، أو يُعدّ ظلماً.

الاشخاص الذين يرون الناس مجبورين على عمل الخير أو الشرّ، سواءً كان هذا الجبر جبراً إِلهياً، أو جبراً طبيعياً، أو جبراً اقتصادياً، أو جبراً اجتماعياً متطرفون في عقيدتهم هذه في كلامهم فحسب، أو في كتاباتهم، ولكنّهم حتى أنفسهم لا يعتقدون ـ عند العمل ـ بهذا الإِعتقاد، ولهذا فلو وقع تجاوز على حقوقهم فإنّهم يرون المتجاوز مستحقاً للتوبيخ والملامة والمحاكمة والمجازاة ... وليسوا مستعدين أبداً للإِغضاء عنه بحجة أنه مجبور على هذا العمل وأنّ من

[64]

الظلم عقابه ومجازاته، أو يقولوا إِنه لم يستطع أن لا يرتكب هذا العمل لأنّ الله أراد ذلك، أو أنّ المحيط أجبره، أو الطبيعة ... وهذا بنفسه دليل آخر على أنّ أصل الإِختيار فطري.

وعلى كل حال لا نجد للجبر مسلكاً في أعمالنا اليومية يرتبط بهذه العقيدة، بل أعمال الناس جميعاً تصدر عنهم بصورة حرّة ومختارة وهم مسؤولون عنها. وجميع الأقوام في الدنيا يقبلون حرية الإِرادة، بدليل تشكيل المحاكم والإِدارات القضائية لمحاكمة المتخلفين.

وجميع المؤسسات التربوية في العالم تقبل بهذا الأصل ضمناً، وهو أنّ الإِنسان يعمل بإرادته ورغبته، ويمكن بإرشاده وتعليمه وتربيته أن يتجنب الأخطاء والإِشتباهات والأفكار المنحرفة.

2 ـ واقع الانسان بين السعادة والشقاوة

الطريف أنّ لفظ «شقوا» في الآيات المتقدمة ورد بصيغة المبني للمعلوم، ولفظ «سُعِدُوا»(1) ورد بصيغة المبني للمجهول، ولعل في هذا الإِختلاف في التعبير إِشارة لطيفة الى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الإِنسان يطوي طريق الشقاء بخطاه، ولكن لابدّ لطيّ طريق السعادة في الإِمداد والعون الإِلهي، وإِلاّ فإنّه لا يوفّق في مسيره، ولا شكّ أنّ هذا الإِمداد والعون يشمل أُولئك الذين يخطون خطواتهم الأُولى بإرادتهم واختيارهم فحسب وكانت فيهم اللياقة والجدارة لهذا الإِمداد. (فلاحظوا بدقة).

_____________________________

1 ـ «سُعدوا» من مادة (سعد) وحسب رأي أصحاب اللغة فإنّ هذا الفعل لازم ولا يتعدّى الى مفعول، فعلى هذا ليست له صيغة للمجهول، فاضطروا أن يقولوا: إِنّه مخفّف من (أسعِدوا) وبابه (الإِفعال) ولكن كما ينقل الآلوسي في كتاب روح المعاني في شرح الآية عن بعض أهل اللغة، أنّ الفعل الثلاثي من «سعد» يتعدّى الى المفعول أيضاً ـ قالوا: سعده الله وهو مسعود، فعلى هذا لا حاجة الى أن نقول بأنّ (سُعدوا) مخفف من «أُسعدوا» «فتدبّر».

[65]

3 ـ مسألة الخلود في القرآن

معنى «الخلود» لغة البقاء الطويل، كما جاء بمعنى الأبد أيضاً، فكلمة «الخلود» لا تعني الأبد وحده لأنّه تشمل كل بقاء طويل.

ولكن ذُكرت في كثير من آيات القرآن مع قيود بفهم منها معنى الأبد، فمثلا في الآية (100) من سورة التوبة، والآية (11) من سورة الطلاق، والآية (9) من سورة التغابن، حين تذكر هذه الآيات أهل الجنّة تأتي بالتعبير عنهم (خالدين فيها أبداً)ومفهومها أبديّة الجنّة لهؤلاء، ما نقرأ في آيات القرآن الأُخرى وصف أهل النّار كالآية (169) من سورة النساء، والآية (23) من سورة الجن هذا التعبير أيضاً (خالدين فيها أبداً) وهو دليل على عذابهم الأبدي.

وتعبيرات أُخرى مثل الآية (3) من سورة الكهف (ماكثين فيه أبداً) والآية (108) من سورة الكهف أيضاً (لا يبغون عنها حولا) وأمثالها تدل بصورة قطعيّة على أنّ طائفة من أهل الجنّة وطائفة من أهل النّار سيبقون في العذاب أو النعمة.

ولم يستطع البعض أن يحل الإِشكالات في الخلود والجزاء الأبدي، فاضطر الى الرجوع الى معناه اللغوي وفسّره بالبقاء الطويل، على حين أنّ تعابير كالتعابير الوارده في الآيات المتقدمة لا تفسّر بمثل هذا التّفسير.

سؤال مهم:

هنا ترتسم في ذهن كل سامع علامة استفهام كبيرة، إِذ كيف نتصوّر عدم التعادل عند الله بين الذنب والعقاب؟! وكيف يمكن القبول بأنّ يقضي الإِنسان كل عمره الذي لا يتجاوز ثمانين سنة ـ أو مئة سنة على الاكثر بالعمل الصالح أو بالإثم، ثمّ يثاب على ذلك أو يعاقب ملايين الملايين من السنين.

وهذا الأمر ليس مهماً بالنسبة للثواب لأنّ الأجر والثواب كلما ازداد كان دليلا على كرم المثيب والمعطي، فلا مجال للمناقشة في هذا الأمر.

ولكن السؤال يَرِدُ في العمل السيء والذنب والظلم والكفر، وهو: «هل

[66]

ينسجم العذاب الدائم مقابل ذنب محدود مع أصل العدل عندالله»؟ فالذي لم تتجاوز مرحلة ظلمه وطغيانه وعناده في أقصى ما يمكن احتماله مئة سنة، كيف يعذب في النّار عذاباً دائماً؟ أفلا تقتضي العدالة أن يكون هناك نوع من التعادل؟ فمثلا يعاقب مئة سنة بمقدار أعماله السيئة.

الأجوبة غير المُقنِعَة

إِنّ تعقيد المسألة كان السبب في توجيه معاني آيات الخلود عند البعض وتفسيرها بما لا يستفاد منه العقاب الدائم الذي هو على خلاف أصل العدالة في عقيدتهم ... .

1 ـ ذهب البعض: إِنّ المقصود بـ«الخلود» هو المعنى المجازي أو الكنائي عنه، أي مدة وطويلة نسبيّاً، كما يقال مثلا لأُولئك الذين يحكم عليهم بالسجن طول عمره «محكوم عليه بالسجن المؤبد» مع أنّه من المسلم به لا أبديّة في السجن حيث ينتهي السجن، مع انتهاء ويقال في العربية أيضاً «يخلّد في السجن» وهو مأخوذ من الخلود في هذه الموارد.

2 ـ وقال آخرون: إِنّ أمثال هؤلاء الطغاة والمعاندين الذين اكتنفت وجودَهم الآثام، فتحوّل وجودُهم الى ماهية الكفر أو الإِثم، هؤلاء وإِنّ بقوا في نار جهنم دائمين، إِلاّ أنّ جهنّم لا تبقى على حالها، فسيأتي يوم تنطفي نارها. كأية نار أُخرى، ويعم أهل النّار نوع من الهدوء والراحة.

3 ـ واحتمل آخرون أنّه مع مرور الزمان وبعد معاناة العذاب الطويل ينسجم أهل النّار مع محيطهم، أي أنهم يتطبّعون ويتعوّدون على هذا المحيط شيئاً فشيئاً حتى تبلغ بهم الحالة ألاّ يحسوا بالعذاب والشقاء.

وبالطبع فإنّ الداعي الى هذه التوجيهات هو عجزهم وعدم استطاعتهم أن يحلّوا مشكلة خلود العذاب ودوامه، وإِلاّ فإن ظهور آيات الخلود في ديمومة العذاب وبقائه غير قابلة للإِنكار.

[67]

الحلّ النهائي للإِشكال

ومن أجل حلّ هذا الإِشكال ينبغي أن نعود الى البحوث السالفة ونعالج الإِشتباهات الناشئة من قياس مجازاة يوم القيامة بالمجازاة الأُخرى، ليعلم أنّ مسألة الخلود لا تنافي عدالة الله أبداً.

ولتوضيح هذا البحث ينبغي الإِلتفات الى ثلاثة أُصول:

1 ـ إنّ العذاب الدائم ـ وكما أشرنا إِليه من قبل ـ هو لأُولئك الذين أوصدوا أبواب النجاة بوجوههم، وأضحوا غرقى الفساد والإِنحراف عامدين، وغشى الظلّ المشؤوم للإِثم قلوبهم وأرواحهم فاصطبغوا بلون الكفر، وكما نقرأ عنهم في سورة البقرة الآية (81) (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأُولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون).

2 ـ يُخطىء من يتصور أنّ مدّة العقاب وزمانه ينبغي أن تكون على قدر مدّة الإرثم وزمانه، لأنّ العلاقة بين الإثم والعقاب ليست علاقة زمانية بل كيفية، أي أن زمان العقاب يتناسب مع كيفية الإِثم لا مع زمانه.

فمثلا قد يقدم شخص في لحظة على قتل نفس محترمة، وطبقاً لما في بعض القوانين يحكم عليه بالحبس الدائم، فهنا نلاحظ أنّ زمن الإِثم لحظة واحدة، في حين أنّ العقاب قد يبلغ ثمانين سنة.

إِذن المهم في الإِثم هو «كيفيته» لا «كمية زمانه».

3 ـ قلنا أنّ العقاب والمحاسبات في يوم القيامة لها أثر طبيعي للعمل وخصوصية الذنب، وبعبارة أوضح: إِن ما يجده المذنبون من ألم وأذى يوم القيامة هو نتيجة أعمالهم التي أحاطت بهم في الدنيا.

نقرأ في القرآن كما في سورة يس الآية (54): (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إِلاّ ماكنتم تعملون) ونقرأ في الآية (33) من سورة الجاثبة: (وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) وفي سورة القصص الآية

[68]

(84): (فلا يُجزى الذين عملوا السيئات إِلاّ ما كانوا يعملون).

والآن وبعد أن اتّضحت مقدمات هذه الأُصول، فإنّ الحل النهائي لهذا الإِشكال لم يُعد بعيداً، ويكفي للوصل إِليه أن نجيب على الأسئلة التالية.

ولنفرض أنّ شخصاً يُبتلى بالقرحة المعدية نظراً لإِدمانه على المشروبات الكحولية لمدّة سبعة أيّام تباعاً، فيكون مجبوراً على تحمل الألم والأذى الى آخر عمره، تُرى هل هذه المعادلة بين هذا العمل السيء ونتيجته مخالفة للعدالة؟! ولو كان عمر هذا الإِنسان (مكان الثمانين سنة) ألف سنة أو مليون سنة، ولأجل نزوته النفسية بشرب الخمر أسبوعاً يتألم طول عمره، تُرى هل هذا التألم لمليون سنة ـ مثلا ـ مخالف لأصل العدالة ... في حين أنّه أُبلغ حال شرب الخمر بوجود هذا الخطر وأعلم بنتيجته؟

ولنفرض أيضاً أنّ سائق، سيارة لا يلتزم بأوامر المرور ومقرراته، والإِلتزام بها ينفع الجميع قطعاً ويقلل من الحوادث المؤسفة، لكنه يتجاهلها ولا يصغي لتحذير أصدقائه ... وفي لحظة قصيرة تقع له حادثة ـ وكل الحوادث تقع في لحظه ـ ويفقد بذلك عينه أو يده أو رجله في هذه اللحظة. ونتيجة لما وقع يعاني الألم سنين طويلة لفقده البصر أو اليد أو الرجل، فهل تتنافى هذه الظاهرة فيه مع أصل عدالة الله؟!

ونأتي هنا بمثال آخر ـ والأمثلة تقرب الحقائق العقليّة الى الذهن وتُهيّىءُ لنيل النتيجة النهائية ـ فلنفرض أننا نثرنا على الأرض عدة غرامات من بذور الشوك، وبعد عدّة أشهر أو عدة سنوات نواجه صحراء مليئة بالشوك الذي يدمي أقدامنا و على العكس ننثر بذور الزهور ـ مع اطلاعنا ـ ولا تمرّ فترة حتى نواجه خميلة مليئة بالأزهار العطرة، فهي تعطرنا وتنعش قلوبنا، فهل في هذه الأُمور التي هي آثار لأعمالنا منافاة لأصل العدالة في حين أنّه لا مساواة بين كمية هذا العمل ونتيجته؟

[69]

ومن مجموع ما بيناه نستنتج ما يلي:

حين يكون الجزاء والثواب نتيجة وأثراً لعمل المرء نفسه، فإنّ مسألة المساواة من حيث الكمية والكيفية لا تؤخذ بنظر الإِعتبار. فما أكثر ما يكون العمل صغيراً في الظاهر، ولكنه يحوّل حياة الانسان الى جحيم وعذاب وألم طيلة العمر، وكذلك ما أكثر ما يكون العمل صغيراً في الظاهر، ولكنّه يكون سبباً للخيرات والبركات طيلة عمر الإِنسان!

ينبغي أن لا يُتوهم أنّ المقصود من صغر العمل (من حيث مقدار الزمان) لأنّ الأعمال والذنوب الداعية الى خلود الإِنسان في العذاب ليست صغيرة من حيث الأهمية والكيفيّة.

فعلى هذا حين يحيط الذنب والكفر والطغيان والعناد بوجود الإِنسان ويحرق جميع أجنحته وريشه وروحه في نار ظلمه ونفاقه، فأي مكان للعجب أن يُحرم في الدار الآخرة من التحليق في سماء الجنّة وأن يكون مُبتلى هناك بالعذاب والبلاء.

تُرى أمّا حذّروه وأبلغوه وأنذروه من هذا الخطر الكبير؟!

أجل فأنبياء الله من جهة، وما يأمره العقل من جهة أُخرى ... جميعاً حذروه بما يلزم، فهل كان ما أقدم عليه من دون اختياره فلقي هذا المصير، أم كان عن علم وعمد واختيار؟ الحقيقة هو أنّه كان عالماً عامداً.

وكانت نفسه ونتيجة أعماله المباشرة قد ساقته الى هذا المصير؟! بل إنّ كل ما حدث له فهو من آثار أعماله!

فلهذا لم يبق مجال للشكوى، ولا إِيراد أو إِشكال مع أحد، ولا منافاة مع قانون عدالة الله سبحانه.

[70]

4 ـ مفهوم الخلود في هذه الآيات

هل الخلود في الآيات ـ محل البحث ـ بمعنى البقاء الدائم؟! أو هو بالمعنى اللغوي المراد منه المدّة الطويلة؟

قال بعض المفسّرين: بما أنّ الخلود مقيد هنا بقوله (ما دامت السّماوات والأرض) فإنّ الخلود ليس معناه البقاء الأبدي الدائم، لأنّ السّماوات والأرض لا أبدية لهما ... وطبقاً لصريح القرآن فإن يوماً سيأتي تنطوي فيه السّماوات وتبدل الأرض الى أرض أُخرى.(1).

ولكن، مع ملاحظة أنّ مثل هذه التعابير في اللغة العربية يراد بها البقاء الدائم، فالآيات ـ محل البحث ـ أيضاً تبيّن الدوام.

فمثلا تقول العرب: هذا الأمر قائم ما لاح كوكب، أو ما كرّ الجديدان (الليل والنهار) أو ما أضاء فجر، أو ما اختلف الليل والنهار، وأمثالها ... وهي كناية عن البقاء الدائم، ونقرأ عن الإِمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة وذلك حين أشكل عليه بعض المنتقدين الجهلة على تقسيمه من بيت المال بالسويّة وعدم التمييز بين مقامات الناس لتوطيد دفة الحكم.

فانزعج الإِمام(عليه السلام) وقال: «أتأمرني أن أطلب النصر بالجور في من وليت عليه؟ والله لا أَطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السّماء نجماً»(2).

ونقرأ في قصيدة دعبل الخزاعي المعروفة التي أنشدها في حضرة الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) هذا البيت:

سأبكيهمُ ما ذرّ في الأفق شارق ونادى منادي الخير في الصلوات(3)

وبالطبع فإنّ هذا الاستعمال ليس مخصوصاً بلغة العرب وآدابها، ففي اللغات

_____________________________

1 ـ كما في سورة إِبراهيم، الآية (48)، والأنبياء، الآية (104).

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 126.

3 ـ نور الأبصار للشبلنجي، ص 140 وكتاب الغدير، وكتب اُخرى.

[71]

الأُخرى يوجد مثل هذا الاستعمال أيضاً ... على كل حال فإنّ دلالة الآية على الدوام قطعية وغير قابلة للنقاش.

5 ـ ما معنى الإِستثناء في الآية؟

الجملة الإِستثنائية (إِلاّ ما شاء ربّك) التي وردت في الآيات المتقدمة في أهل الجنّة وفي أهل النّار أيضاً، أضحت ميداناً واسعاً للمفسرين ومثاراً للبحث، وقد نقل المفسّر الكبير الطبرسي في تفسير هذا الإِستثناء عشرة أوجه عن المفسّرين القدامى، ونعتقد أنّ كثيراً من هذه الأوجه ضعيف ولا ينسجم مع الآيات السابقة أو اللاحقة، ولذلك نغض النظر عنها، ونورد ما نراه صحيحاً هنا، هو وجهان فحسب:

1 ـ الهدف في بيان هذا الإِستثناء أن لا يُتصور أنّ الخلود في النّار أو في الجنّه جار على غير مشيئة الله وإِرادته بما يعطي معنى الالزام وتحديد قدرة الله تعالى وإرادته، بل في الوقت الذي يكون أهل الجنّة وأهل النار خالدين فيهما، فإنّ قدرة الله وإرادته حاكمة على الجميع، وأنّ العذاب والثواب يتحققان بمقتضى حكمته لكلّ من هذين الطرفين.

والشاهد على هذا الكلام ما ورد في الجملة الثّانية بعد الإِستثناء وهي قوله تعالى: (عطاء غير مجذوذ) أي غير منقطع، وهو دليل على أنّ الجملة الإِستثنائية لبيان قدرته فحسب.

2 ـ وحيث تذكر الآيات هذين الطرفين (فمنهم شقي وسعيد) فليس الأشقياء هم الكفار المستحقين للخلود في النّار فقط بل قد يُوجد بينهم مؤمنون من أهل الكبائر فيكون هؤلاء داخلين في هذا الإِستثناء.

ولكن قد ينقدح هذا السؤال أيضاً وهو: ما المراد من الإِستثناء في الجملة الثّانية (التي تتحدث عن الذين سُعدوا)؟

[72]

وفي الجواب على هذا السؤال أُجيب ـ أيضاً ـ بأنّ المؤمنين المذنبين يدخلون النّار أوّلا ليتطهروا من الذنوب، ثمّ يلتحقون بصفوف أهل الجنّة.

فإنّ الإِستثناء في الجملة الأُولى هو بالنسبة لآخر الأمر ... وفي الجملة الثّانية لأوّل مرّة (فلاحظوا بدقّة).

ويحتمل في الجواب على السؤال الآنف الذكر أنّ الإِستثناء في الجملة الأُولى إِشارة الى المؤمنين المذنبين الذين يُعتقون من النّار بعد مدة، والإِستثناء في الجملة الثّانية إِشارة الى قدرة الله سبحانه، والشاهد على هذا الكلام ورود قوله تعالى (إِنّ ربّك فعّال لما يريد) في الجملة الأُولى بعد الإِستثناء، ليدل على تحقق المشيئة الإِلهية، وفي الجملة الثّانية ورد قوله تعالى: (عطاءً غير مجذوذ)ليدل على الأبديّة (فتدّبر).

وقد احتمل البعض أن يكون العقاب والثواب متعلقان بحياة البرزخ «النعيم في البرزخ أو الشقاء في البرزخ» التي تكون محدودة المدّة ولابدّ أن تنتهي، ولكنّه احتمال بعيد جدّاً، لأنّ الآيات المتقدمة تتحدث عن يوم القيامة بصراحة، وعلاقة هذه الآيات بتلك الآيات علاقة لا تقبل الإِنفكاك.

كما أنّ احتمال كون الخلود هنا بمعنى المدّة الطويلة ـ كما هو في بعض آيات القرآن الأُخرى، وليس هو البقاء الدائم الأبدي ـ لا ينسجم مع قوله تعالى: (عطاء غير مجذوذ) ولا مع الإِستثناء نفسه الذي يدل على الأبدية في الجمل السابقة.

6 ـ تقول الآيات المتقدمة في شأن أهل النّار: (لهم فيها زفير وشهيق) وقد احتمل أهل اللغة والمفسّرون في معنى هاتين الكلمتين «الزفير والشهيق» احتمالات متعددة:

1 ـ فقال البعض: المراد بـ «الزفير» هو الصراخ المصطحبِ بإخراج النَفس الى الخارج، وأمّا «الشهيق» فهو الأنين المقترن بِسحبِ الهواء الى داخل الرئة.

[73]

2 ـ وقال آخرون: إنّ الزفير هو بداية صوت الحمار والشهيق نهايته، ولعل هذا التّفسير لا تختلف عن التّفسير الأوّل كثيراً.

وعلى كل حال فإِنّ هذين الصوتين يحكيان عن صراخ وعويل أهل النّار الذين يضجون ـ من الحُزن والغمّ والحسرة ـ ضجيجاً يملأ جميع وجودهم ويدلّ على منتهى أذاهم وشدّة عذابهم.

وينبغي الإِلتفات الى أنّ «الزفير والشهيق» كلاهما مصدر، و«الزفير» في الأصل حمل العبء الثقيل على الكتف، ولأنّ هذا العمل يؤدي الى التأوه والضجيج فقد سمىّ زفيراً، وأمّا «الشهيق» فمعناه في الأصل الإِطالة والإِرتفاع، ومن هنا فقد سمي الجبل المرتفع بالجيل الشاهق أيضاً، ثمّ أطلقوا هذا اللفظ «الشهيق» على الأنين.

أسباب السعادة والشقاء

السعادة ضالّة كل الناس، وكلّ واحد يبحث عنها في شيء ما ويطلبها في مكان ما، وهي توفّر أسباب تكامل الفَرد في المجتمع، والنقطة المقابلة لها هي الشقاء الذي يتنفر منه كل أحد، وهو عبارة عن عدم مساعدة الظروف للنجاح والتقدم والتكامل.

فعلى هذا، كل من توفرت له اسباب التحرك والتقدم نحو الاهداف السامية روحياً وجسمياً وعائلياً وبيئياً وثقافياً، فهو أقرب للسعادة، وبتعبير آخر هو أكثر سعادة!

ولكن ينبغي الإِلتفات الى أنّ أساس السعاده أو الشقاء هو إِرادة الإِنسان نفسه، فهو يستطيع أن يوفر الوسائل لترشيد نفسه وحتى مجتمعه، وهو الذي يستطيع أن يواجه عوامل الشقاء ويهزمها أو يستسلم لها.

وليس الشقاء أو السعادة في منطق الوحي ومدرسة الانبياء في داخل ذات

[74]

الإِنسان شيئاً وحتى النواقص في المحيط والعائلة والوراثة كل ذلك قابل للتغيير بتصميم الإِنسان وإِرادته إِلاّ أن ننكر أصل الإِرادة في الإِنسان وحريته، ونعدّه محكوماً بالظروف الجبرية، وكل من سعادته أو شقائه ذاتي أو هو نتيجة جبرية لمحيطه، وما الى ذلك.

وهذا الرأي مرفوض في نظر الأنبياء وفي نظر المذهب العقلي أيضاً.

الطريف أنّنا نجد في الرّوايات المنقولة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام)اشارات الى مسائل مختلفة على أنّها أسباب السعادة، أو أسباب الشقاء ... بحيث يتعرف الإِنسان خلال مطالعتها على طريقة التفكير الإِسلامي في هذه المسألة المهمّة، وسيقفُ على الواقعيات العينية وأسباب السعادة الحقيقية، بدلا من أن يقف عليها في المسائل الخرافية والتصوّرات والسنن الخاطئة الموجودة في كثير من المجتمعات.

ونلفت نظر القارىء الكريم على سبيل المثال الى بعض الأحاديث الشريفة في هذا الصدد:

1 ـ ينقل الإِمام الصّادق(عليه السلام) عن جدّه أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه قال «حقيقة السعادة أن يختم للرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاوة أن يختم للرجل بالشقاوة»(1).

فهذه الرّواية تقول بصراحة: إنّ المرحلة النهائية لعمر الإِنسان وأعماله هي المرحلة التي تكشف عن سعادته و شقاوته، وعلى هذا فهي تنفي السعادة أو الشقاء الذاتيين، وتجعل الإِنسان رهين عمله، كما تجعل طريق العودة مفتوحاً في جميع المراحل حتى نهاية عمره.

2 ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإِمام علي(عليه السلام) «السعيد من وُعظ بغيره

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج2، ص 398.

[75]

والشقي من انخدع لِهواه وغروره»(1).

وكلام الإِمام علي(عليه السلام) هذا تأكيد آخر على عدم ذاتية السعادة والشقاء وبيان بعض أسبابهما.

3 ـ ويقول نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «أربع من أسباب السعادة وأربع من الشقاوة، فالأربع التي من السعادة المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب البهيّ. والأربع التي من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء»(2).

مع ملاحظه أنّ هذه الأُمور الأربعة لها تأثير بالغ في الحياة المادية والمعنوية لكل أحد، ويمكن أن تكون من عوامل النجاح او الفشل وتتّضح بهذا سعة مفهوم السعادة والشقاوة في منطق الإِسلام.

فالمرأة الصالحة ترغّب الإِنسان في أنواع «الحسنات»، والبيت الواسع يهب روح الإِنسان وفكره الهدوء والراحة ويهيؤه للنشاط والفعالية، والجار الصالح الذي يقدم له عوناً مؤثراً في راحته واستقراره وحتى في تقدم أهداف الإِنسانية، المركب الجيد عامل مؤثر في الوصول إلى الأعمال والوظائف الإِجتماعية، في حين أنّ المركب السوء يكون عاملا في التأخير ولا يوصل صاحبه الى هدفه.

4 ـ كما روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الحديث أيضاً: «من علامات الشقاء: جمود العينين، وقسوة القلب، وشدّة الحرص في طلب الرزق، والإصرار على الذنب»(3).

هذه الأُمور الأربعة التي وردت في الحديث المتقدم، هي أُمور اختيارية وهي نتيجة أعمال الإِنسان وأخلاقه الإِكتسابية نفسه، وعلى هذا فإنّ أبعاد أسباب الشقاء هذه تكمن في اختيار الإِنسان نفسه.

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 86.

2 ـ مكارم الاخلاق، ص 65.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 398.

[76]

وإذا لاحظنا أسباب السعاده والشقاوة في الأحاديث المتقدمة وحقيقتهما وأثرهما البالغ في حياة البشر، وقارنّاهما مع الأسباب والمسائل الخرافية التي يعتقد بها جمع كثير ـ حتى في عصرنا عصر الذّرة والفضاء ـ لوصلنا الى هذا الواقع الذي يؤكّد أنّ التعاليم الإِسلامية منطقيّة ومدروسة الى أقصى حد.

ولا يزال الى اليوم من يعتقد أنّ نعل الفرس سبب للسعادة، وأنّ اليوم الثّالث عشر سبب لسوء الحظّ ... والقفز على النّار في بعض ليالي السنة من أسباب السعادة، وصوت بعض الطيور سبب للشقاء وسوء الحظ، وسكب الماء عند خروج المسافر من أسباب السعادة، والعبور من تحت السلم سبب للشقاء!!

وحتى تعليق بعض الأشياء في رقبة الفرد أو على وسائل النقل من أسباب السعادة والعطاس علامة على الفشل اذا كان حين العمل وكثير من أمثال هذه الخرافات نجدها في الشرق والغرب بين الأقوام والأُمم المتعددة.

وكم من أُناس تعطلوا عن نشاطهم في الحياة نتيجة ابتلائهم بمثل هذه الخرافات وأصبحوا رهن المصائب الكثيرة.

لقد شطب الإِسلام بقلم أحمر على جميع هذه التصوّرات الخرافية، وحدّد ـ مبيّناً بوضوح ـ سعادة الإِنسان وشقاوته في الفعاليّات الإِيجابية والسلبية ونقاط الضعف والقوّة في الأخلاق والمناهج العملية وطريقة التفكير والعقيدة لكل فرد، من خلال الأمثلة التي قدمناها في الأحاديث الأربعة عن أهل اليبت(عليهم السلام).

* * *

[77]

الآيات

فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاَءِ مَايَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوص(109) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيب(110) وَإِنَّ كُلاًّ لَّـمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَـلَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(111) فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَتَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)

التّفسير

الاستقامة والثّبات:

هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ بمثابة تسلية لخاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أنّها نازلة لبيان وظيفته ومسؤوليته، وفي الواقع إِنّ من أهم النتائج التي يُتوصل إِليها من القصص السابقة للأُمم الماضية هي أن لا يكترث النّبي ومن معه من أتباعُه المؤمنون حقّاً من كثرة الأعداء، ولا يخافوا منهم، ولا يشكّوا أو يتردّدوا في هزيمة عَبَدة الأصنام والظالمين الذي يقفون بوجوههم، وأن يواصلوا طريقهم ويعتمدوا على الله واثقين به.

[78]

لذلك يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (فلاتكُ في مِرية ممّا يعبدُ هؤلاء ما يعبدون إِلاّ كما يعبدُ آباؤهم)(1).

ويقول بعدها مباشرةً: (وإِنّا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص) على أنّ جملة موفوهم نصيبم تعني أداء الحق كاملا، لكن ذكر كلمة غير منقوص للتأكيد أكثر على هذه المسألة.

وفي الحقيقة إِنّ هذه الآية تجسّم هذه الحقيقة، وهي أنّ ما قرأناه من قصص الأُمم السابقة لم يكن أسطورة، كما أنّها لا تختص بالماضين، فهي سنّة أبدية وخالدة وهي لجميع الناس ماضياً وحاضراً ومستقبلا.

غاية ما فيه الأمر أنّ هذا العقاب في كثير من الأُمم السابقة نزل على شكل بلايا مهولة وعظيمة، لكنّه وجد شكلا آخر في شأن أعداء نبي الإِسلام، وهو أنّ الله أعطى القدرة والقوة العظيمة لنبيّه وأصحابه المؤمنين بحيث استطاع أن يهزم أعداءه الظالمين اللجوجين الذين اصروا على انحرافهم وغرورهم.

ويسلّي القرآن قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة أُخرى، فيحدّثه عن موسى وقومه قائلا: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) ... ويقول إِذا ما رأيت أنّ الله لا يعجل العذاب على قومك، فلأنّ مصلحة الهداية والتعليم والتربية لقومك توجب ذلك وإِلاّ فانّ القرار الالهي المسبق يقتضي التعجيل بعملية التحكيم والقضاء وبالتالي أنزال العقاب (ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم وإِنّهم لفي شكٍّ منه مريب)وبالرغم من ذلك فهم في شك من هذا الامر(2).

_____________________________

1 ـ «المِرية» على وزن «جِزيَة» كما تأتي على وزن «قَرْيَة» ومعناها التردد في التصميم على أمر ما ... وقد قال البعض: إنّها تعني الشكّ المقترن بالتُهمة، والجذر الأصلي لهذه الكلمة معناه عصر ثدي الناقة بعد احتلابها. على أمل أن يكون شيء من اللبن لا يزال باقياً في الثدي، ولأنّ هذا العمل منشؤهُ التردد والشك فلذلك أطلقت الكلمة على كل ما فيه شكّ وتردد.

2 ـ هناك كلام بين المفسّرين في عودة الضميرين «هم» و«منه» على أية كلمتين في الآية؟! فقال بعضهم: إِنّ هذا الضمير هم «وإِنهم» يعود على قوم موسى و«منه» يعود على كتاب (التوراة) فمعنى الآية: إِن هؤلاء القوم لا يزالون يشكّون في كتاب موسى، ولكن قال آخرون: إِنّ الضمير في (إِنّهم) يعود على مشركي مكّة و«منه» يعود على القرآن، وبملاحظة أن الآيات جاءت لتسلية قلب النّبي فيكون التّفسير الثّاني أقرب للنظر.

[79]

كلمة «مريب» مشتقّة من «الريب» ومعناه الشكّ المقترن بسوء الظن والنظرة السيئة والقرائن المخالفة، وعلى هذا فيكون مفهوم هذه الكلمة أنّ عبدة الأصنام ما كانوا يترددون في مسألة حقيقة القرآن أو نزول العذاب على المفسدين فحسب، بل كانوا يدّعون بأنّ لديهم قرائن تخالف ذلك أيضاً.

أمّا «الراغب» فيقول في «مفرداتة»: إِنّ معنى الريب هو الشك الذي يرفع عنه الحجاب بعدئذ ويعود الى اليقين، فعلى هذا يكون مفهوم الآية أنّ الحجاب سيكشف عاجلا عن حقانية دعوتك وكذلك عن عقاب المفسدين وتظهر حقيقة الأمر!

ويضيف القرآن لمزيد التأكيد (وأنّ كلاًّ لما ليوفينّهم ربّك أعمالهم) وهذا الأمر ليس فيه صعوبة على الله ولا حرج إِذ (إِنّه بما تعملون خبير).

الطريف أنّ القرآن يقول: (ليوفّينهم أعمالهم) ليشير مرّة أُخرى الى مسألة تجسّم الأعمال وأنّ الجزاء والثواب هما في الحقيقة أعمال الإِنسان نفسه التي تتخذ شكلا آخر وتصل إِليه ثانيةً.

وبعد ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة ورمز نجاحهم ونصرهم، وبعد تسلية قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية إِرادته، يبيّن القرآن ـ عن هذا الطريق ـ أهمّ دُستور أُمر به النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو (استقم كما أُمرت).

«استقم» في طريق الإِرشاد والتبليغ ... استقم في طريق المواجهة والمواصلة ... استقم في أداء الوظائف الإِلهية ونشر التعليمات القرآنية.

ولكن هذه الإِستقامة ليست لينال فلانٌ أو فلان مستقبلا زاهراً، وليست للرياء وما شابه ذلك، وليست لإِكتساب عنوان البطولة، ولا اكتساب «المقام» أو «الثروة» أو «الموفقية» أو «القدرة»، بل هي لمجرّد طاعة الله واتباع أمره (كما

[80]

أُمرت).

كما أنّ هذه الإِستقامه ليست عليك وحدك، فعليك أن تستقيم أنت (ومن تاب معك) استقامة خاليةً من كل زيادة ونقصان وإِفراط أو تفريط (ولا تطغوا)إِذ (إِنّه بما تعملون بصير) ولا تخفى عليه حركة ولا قول ولا أي خطّة أُخرى ... الخ.

المسؤولية الكبيرة!!

نقرأ في حديث معروف عن ابن عباس أنّه قال: ما نزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)آية كانت أشدّ عليه ولا أشقّ من هذه الآية. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إِليك الشيب يا رسول الله قال:(صلى الله عليه وآله وسلم) «شيبتني هود والواقعة»(1).

ونقرأ في رواية أُخرى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال حين نزلت هذه الآية: «شمّروا شمّرُوا ... فما رُئي ضاحكاً ...»(2).

والدليل واضح، لانّ أربعة أوامر مهمّة موجودة في هذه الآية يلقي كل واحد منها عبئاً ثقيلا على الكتف.

وأهمها الأمر بالإِستقامة ... الإِستقامة (المشتقة من مادة القيام» من جهة أنّ الإِنسان يكون تسلطه وسعيه في عمله حال القيام أكثر ... الإِستقامة التي معناها طلب القيام، أي أوجِدْ حالةً في نفسك بحيث لا تجد طريقاً للضعف فيك، فما أصعَبه من أمر وما أشدّه؟!

غالباً ما يكون النجاح في العمل أمراً هيّناً نسبياً ... لكن المحافظة على النجاح فيها كثير من الصعوبة ... وفي أي مجتمع؟! في مجتمع متأخر متخلف ... في مجتمع بعيد عن العلم والتعقل .. في مجتمع لجوج وبين أعداء كثيرين

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 199.

2 ـ الدر المنثور في تفسير الآية هذه.

[81]

معاندين ... وفي سبيل بناء مجتمع سالم وحضارة انسانية زاهرة فالإِستقامة في هذا الطريق ليس أمراً هيّناً.

والأمر الآخر: أن تحملَ هذه الإِستقامةُ هدفاً إِلـهياً فحسب، وأن تكون الوساوس الشيطانية بعيدة عنها تماماً، أي أن تكتسب هذه الاستقامة أكبر القدرات السياسية والإِجتماعيّة من أجل الله.

والأمر الثّالث: مسألة قيادة أُولئك الذين رجعوا الى طريق الحق وتعويدهم على الإِستقامة أيضاً.

والأمر الرّابع: المواجهة والمبارزة في مسير الحق والعدالة والقيادة الصحيحة وصدّ كل أنواع التجاوز والطغيان، فكثيراً ما يبدي بعض الناس منتهى الإِستقامة في سبيل الوصول للهدف، لكن لا يستطيعون أن يراعوا مسألة العدالة، وغالباً ما يبتلون بالطغيان والتجاوز عن الحدّ.

أجل ... مجموع هذه الأُمور وتواليها على النّبي حمّلته مسؤولية كبرى، حتى أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) ما رُئي ضاحكاً ... وشيّبته هذه الآية من الهمّ.

وعلى كل حال فإنّ هذا الأمر لم يكن للماضي فحسب، بل هو للماضي والحاضر والمستقبل، وهو للأمس واليوم والغد القريب والغد البعيد أيضاً.

واليوم مسؤوليتنا المهمّة ـ نحن المسلمين أيضاً، وبالخصوص قادة الإِسلام ـ تتلخّص في هذه الكلمات الأربعة. وهي: الإِستقامة، والإِخلاص، وقيادة المؤمنين، وعدم الطغيان والتجاوز. ودون ربط هذه الأُمور بعضها الى بعض فإنّ النصر على الأعداء الذين أحاطونا من كل جانب من الداخل والخارج، واستفادوا من جميع الأساليب الثقافية والسياسية والإِقتصادية والإِجتماعية والعسكريّة ... هذا النصر لايكون سوى أوهام في مخيلة المسلمين.

* * *

[82]

الآية

وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ(113)

التّفسير

الرّكون إِلى الظالمين:

إِنّ هذه الآية تبيّن واحداً من أقوى وأهم الاسس والبرامج الإِجتماعية والسياسية والعسكرية والعقائدية، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول: (ولا تركنوا الى الذين ظلموا) والسبب واضح (فتمسكم النّار وما لكم من دون الله من أولياء) ومعلوم عندئذ حالكم (ثمّ لا تُنصرون).

* * *

ملاحظات

1 ـ ما هو مفهوم الرّكون؟

مفهوم «الركون» مشتق من مادة «رُكن» ومعناه العمود الضخم من الحجر أو الجدار الذي يربط البناء أو الأشياء الأُخرى بعضها الى بعض، ثمّ اطلق هذا اللفظ على الإِعتماد أو الإِستناد الى الشيء.

[83]

وبالرغم من أنّ المفسّرين أعطوا معاني كثيرة لهذه الكلمة في تفسيرهم للآية، ولكنّها في الغالب تعود الى مفهوم جامع وكلي فمثلا فسّرها البعض بالميل، وفسّرها البعض بـ «التعاون»، وفسّرها البعض بـ «إظهار الرضا»، وفسّرها آخرون بـ «المودّة»، كما فسرها جماعة بالطاعة وطلب الخير، وكل هذه المعاني ترجع الى الإِعتماد والإِتكاء كما هو واضح.

2 ـ في أيّ الأُمور لا ينبغي الرّكون الى الظالمين؟

بديهي أنّه في الدرجة الأُولى لا يصح الإِشتراك معهم في الظلم أو طلب الإِعانة منهم، وبالدرجة الثّانية الإِعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الإِسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله الى مجتمع تابع وضعيف لا يستحق الحياة، لأنّ هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الإِسلامي.

وأمّا ما نلاحظه أحياناً من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين المسلمين والمجتمعات غير الإِسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين واستقلال المجتمعات الإِسلامية وثباتها، فهذا ليس داخلا في مفهوم الركون الى الظالمين ولم يكن شيئاً ممنوعاً من وجهة نظر الإِسلام، وفي عصر النّبي نفسه(صلى الله عليه وآله وسلم)والأعصار التي تلته كانت هذه الأُمور موجودة وطبيعية أيضاً.

3 ـ فلسفة تحريم الركون إِلى الظالمين

الرّكون الى الظالمين يورث مفاسد كثيرة لا تخفى على أحد بصورتها الاجمالية ولكن كلّما تفحصنا في هذه المسألة أكثر اكتشفنا مسائل دقيقة جديدة.

فالركون الى الظالمين يبعث على تقويتهم، وتقويتهم مدعاة الى اتساع رقعة الظلم والفساد في المجتمعات، ونقرأ في الأوامر الإِسلامية أنّ الإِنسان ما لم يُجبر

[84]

«وفي بعض الأحيان حتى مع الإِجبار» لا يحق له أن يراجع القاضي الظالم من أجل اكتساب حقّه، لأنّ مراجعة مثل هذا القاضي الحاكم الجائر من أجل إِحقاق الحق مفهومها أن يعترف ضمناً برسميته وتقواه، ولعل ضرر هذا العمل أكبر من الخسارة التي تقع نتيجة فقدان الحق.

والركون الى الظلمة يؤثر تدريجاً على الثقافة الفكرية للمجتمع، فيضمحل مفهوم «قبح الظلم» ويؤدي بالناس الى الرغبة في الظلم.

وأساساً لا نتيجة من الركون الى الغير بصورة التعلق والإِرتباط الشديد إِلاَّ سوء الحظ والشقاء، فكيف إِذا كان هذا الركون الى الظالمين؟

إِنّ المجتمع الحضاري المقتدر هو المجتمع الذي يقف على قدميه، كما يعبر القرآن الكريم في مثل بديع في الآية (29) من سورة الفتح إِذ يقول: (فاستوى على سوقه) والمجتمع الحرّ المستقلّ هو المجتمع الذي يكتفي ذاتياً، وارتباطه أو تعاونه مع الآخرين هو ارتباط على أساس المنافع المتبادلة لا على أساس رُكون الضعيف الى القوي، لأنّ هذا الركون ـ سواء كان من جهة فكرية أو ثقافية أو اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ـ لا يخلّف سوى الأسر والإِستثمار، ولا يثمر سوى المساهمة في ظلمهم والمشاركة في خِططَهم.

وبالطبع فإنّ الآية المتقدمة ليست خاصّة بالمجتمعات فحسب، بل تشمل العلاقة والإِرتباط بين فردين أيضاً، فلا يجوز لإِنسان مؤمن أن يركن الى أي ظالم، فإنّه إضافة الى فقدان استقلاله لركونه الى دائرة ظلمه، فيسؤدي الى تقويته واتساع الفساد والعدوان كذلك.

4 ـ من المقصود بـ «الذين ظلموا»؟

ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات مختلة، فقال بعضهم: المقصود  بـ (الذين ظلموا) هم المشركون، ولكن ـ كما قال آخرون ـ لا دليل على انحصار

[85]

هذا اللفظ بالمشركين رغم أن مصداق الظالمين في عصر نزول الآية هو المشركين.

كما إنّ تفسير هذه الكلمة في الرّوايات بالمشركين لا يدلُّ على الإِنحصار، لأنّنا قلنا مراراً وتكراراً إِنّ مثل هذه الرّوايات إِنّما تبيّن المصداق الواضح والجلي، فعلى هذا الأساس يدخل في دائرة هذه الآية جميع الذين امتدّت أيديهم الى الظلم والفساد، أو استعبدوا خلق الله وعباده، أو استغلوا قواهم لمنافعهم، وباختصار كل الذين دخلوا في المفهوم العام لهذا التعبير (الذين ظلموا).

ولكن من الواضح أن من أخطأوا في حياتهم خطأ بسيطاً وصاروا من مصاديق الظالم أحياناً غير داخلين في مفهوم الآية قطعاً لأنّه في هذه الصور لا يخرج عن شمولية هذه الآية إلاّ النادر، فلا يصح الرّكون والاعتماد على أي شخص، اللّهم إلاّ أن نقول: أنّ المراد بالركون هو الاعتماد على الظالم من جهة ظلمه وجوره، وفي هذه الحال حتى الذين تلوّثت أيديهم بالظلم مرّة واحدة لا يجوز الركون إِليهم.

5 ـ إِشكالٌ

بعض المفسّرين من أهل السنة إِشكالا يصعب الجواب عليه من مبناهم وهو ما ورد في رواياتهم من وجوب الطاعة والتسليم لسلطان الوقت الذي هو من (أولو الأمر) أيّاً كان، لما نقلوا حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوب طاعة السلطان «وإِن أخذ مالك وضرب ظهرك ...»! وروايات أُخرى تؤكّد طاعة السلطان بمعناها الواسع.

ومن جهة أُخرى تقول الآية: (ولا تركنوا إِلى الذين ظلموا) فهل يصحّ الجمع بين هذين الأمرين؟!

أراد البعض أن يرفع هذا التضاد باستثناء واحد، وهو أن طاعة السلطان

[86]

تكون واجبة ما لم ينحرف الى طريق العصيان ويخطو في طريق الكفر.

ولكن لحن تلك الرّوايات لا ينسجم مع هذا الإِستثناء.

وعلى كل حال فنحن نعتقد ـ وكما ورد في مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ـ بوجوب طاعة ولي الأمر العادل والعالم الذي يصح أن يكون خليفة عامّاً للنّبي وإِماماً من بعده فحسب.

وإِذا كان سلاطين بني أُميّة وبني العباس قد وضعوا الاحاديث في هذا المجال لمصلحتهم، فلا تنسجم بأي وجه مع أُصول مذهبنا والتعليمات القرآنية، وينبغي أن نعالج هذه الرّوايات ، فإن كانت تقبل التخصيص خصّصناها، وإِلاّ طرحناها جانباً، لانّ كل رواية تخالف كتاب الله فهي مردودة وباطلة، والقرآن يصرح أنّ إِمام المسلمين لا يجوز أن يكون ظالماً، والآية المتقدمة تقول بصراحة أيضاً: (ولا تركنوا إِلى الذين ظلموا) ... أو نقول: إِنّ أمثال هذه الرّوايات مخصوصة بالحالات الضرورية والإِضطرارية.

* * *

[87]

الآيتان

وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَـتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ(114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيْعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ(115)

التّفسير

الصلاة والصبر:

هذه الآيات تشير الى أمرين من أهمّ الأوامر الإِسلامية، وهما في الواقع روح الإِيمان وقاعدة الإِسلام، فيأتي الأمر أوّلا بالصلاة (وأقم الصّلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل).

وظاهر التعبير من (طرفي النهار) هو بيان صلاة الصبح وصلاة المغرب اللتين يقعان طرفي النهار، و«الزُلف» جمع «زلفة» التي تعني القرب، ويشار بها الى أوّل الليل القريب من النهار فتنطبق على صلاة العشاء.

وهذا التّفسير وارد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) أيضاً، أي إِنّ الآية تشير الى الصلوات الثلاث «الصبح والمغرب والعشاء».

ويرد هنا سؤال وهو: لِمَ ذكرت هذه الصلوات الثلاث من بين الصلوات الخمس؟!

[88]

غموض الإِجابة دعا بعض المفسّرين لانّ يتوسع في معنى (طرفي النهار)ليشمل صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب أيضاً. وبالتعبير بـ(وزُلفاً من الليل)الذي يشير الى صلاة العشاء تكون جميع الصلوات الخمس قد دخلت في الآية!

والإِنصاف أن تعبير (طرفي النهار) لا يتحمل مثل هذا التّفسير، مع ملاحظة أنّ المسلمين في الصدر الأوّل من الإِسلام كانوا مقيدين بأداء صلاة الظهر في أوّل الوقت وأداء صلاة العصر في حدود نصف الوقت، أي بين وقت الظهر ووقت المغرب.

الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقال هنا: أنّ آيات القرآن قد تذكر جميع الصلوات الخمس أحياناً كما في سورة الإِسراء: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إِلى غسق الليل وقرآن الفجر)(1).

وقد تذكر ثلاث صلوات ـ كالآية محل البحث ـ وقد تذكر صلاة واحدة كما في سورة البقرة (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)(2).

فعلى هذا لا يستلزم ذكر جميع الصلوات الخمس في كل مورد، وقد توجب المناسبات الإِشارة الى صلاة الظهر «الصلاة الوسطى» لأهميتها أو تشير الى صلاة الصبح أو المغرب والعشاء وذلك لإِحتمال أن تقع في دائرة النسيان للتعب أو النوم.

ولأهمية الصلوات اليوميّة ـ خاصّة ـ وجميع العبادات والطاعات والحسنات ـ عموماً ـ فإنّ القرآن يشير بهذا التعبير (إِن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).

والآية آنفة الذكر كسائر آيات القرآن تبيّن تأثير الأعمال الصالحة في محو

_____________________________

1 ـ الآية، 78.

2 ـ الآية، 238.

[89]

أثر الأعمال السيئة، حيث نقرأ في سورة النساء الآية (31): (إِن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم) ونقرأ في سوره العنكبوت الآية (7): (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنّ عنهم سيئاتهم).

وبهذا تثبت مقولة إِبطال السيئات بالطاعات والأعمال الحسنة.

ومن الناحية النفسية ـ أيضاً ـ لا ريب في أن الذنب والعمل السيء يوجد نوعاً من الظلمة في روح الإِنسان ونفسه، بحيث لو استمرّ على السيئات تتراكم عليه الآثار فتمسخ الإِنسان بصورة موحشة.

ولكن العمل الصالح الصادر من الهدف الإِلهي يهب روح الإِنسان لطافةً بامكانها أن تغسل آثار الذنوب وأن تبدّلَ ظلمات نفسه إِلى أنوار.

وبما أنّ الجملة الآنفة (إِنّ الحسنات يذهبن السيئات) ذكرت بعد الأمر بإقامة الصلاة مباشرة، فإنّ واحدة من مصاديقها هي الصلاة اليومية، وإِذا ما لاحظنا في الرّوايات إِشارة الى الصلاة اليومية في التّفسير فحسب فليس ذلك دليلا على الإِنحصار، بل ـ كما قلنا مراراً ـ إِنّما هو بيان مصداق واضح قطعي.

الأهميّة القصوى للصلاة:

تلاحظ في الرّوايات المتعددة المنقولة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الطاهرين(عليهم السلام)تعبيرات تكشف عن الأهمية الكبرى للصلاة في نظر الإِسلام.

يقول أبو عثمان: كنت جالساً مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ غصناً يابساً وهزّه حتى تساقطت أوراقه جميعاً، ثمّ التفت إِليّ وقال: ما سألتني لم فعلت ذلك؟!

فقلتُ: وما تريد؟!

قال: هذا ما كان من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حين كنت جالساً معه تحت شجرة ثمّ سألني النّبي هذا السؤال وقال: «ما سألتني لِمَ فعلت ذلك؟».

[90]

فقلت له: ولمَ يا رسولَ الله؟

فقال: «إِنّ المسلم إِذا توضأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما تحاتّ هذا الورق» ثمّ قرأ الآية «وأقم الصلاة ... الخ».(1)

ونقرأ في حديث آخر عن أحد أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه أبو أمامة أنّه قال: «كنت جالساً يوماً في المسجد مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فجاءه رجل وقال: يا رسول الله، أذنبت ذنباً يستوجب الحدّ فأقم عليَّ الحدّ، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «أصليت معنا؟» قال: نعم يا رسول الله، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «فإن الله غفر ذنبك» ... أو «أسقط عنك الحد»(2).

كما نقل عن علي(عليه السلام) أنه قال: «كنّا مع رسول الله ننتظر الصلاة فقام رجل وقال: يا رسول الله، أذنبت. فأعرض النّبي بوجهه عنه، فلما إنتهت الصلاة قام ذلك الرجل وأعاد كلامه ثانيةً، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ألم تصلّ معنا وأحسنت لها الوضوء؟ فقال بلى، فقال: هذه كفارة ذنبك»(3).

ونقل عن علي(عليه السلام) أيضاً أنّه قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّما منزلة الصلوات الخمس لأُمتي كنهر جار على باب أحدكم، فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرات، أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأُمتي»(4).

وعلى كل حال، لا مجال للشكّ في أنّه متى ما أدّيت الصلاة بشرائطها فإنّها تنقل الإِنسان الى عالم من المعنويّة والروحانيّة بحيث توثق علائقه الإِيمانية بالله، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران وآثار الذنوب.

الصلاة تجير الإِنسان من الذنب، تجلو صدأ القلوب.

الصلاة تجذّر الملكات السامية للإِنسان في أعماق الروح البشرية، والصلاة

_____________________________

1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية.

2 ـ المصدر السّابق.

3 ـ المصدر السّابق.

4 ـ المصدر السّابق.

[91]

تقوي الإِرادة وتطهر القلب والروح، وبهذا الترتيب فإن الصلاة الواعية الفاعلة هي مذهب تربوي عظيم.

أرجى آية في القرآن:

ينقل في تفسير الآية ـ محل البحث ـ حديث طريف عن الإِمام علي(عليه السلام) بهذا المضمون، وهو أنّه التفت مرّة الى الناس وقال: «أي آية في كتاب الله أرجى عندكم»؟!

فقال بعضهم: (إِنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

فقال(عليه السلام): حسنة ليست إِيّاها.

فقال آخرون: هي آية (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).

فقال(عليه السلام): حسنة ليست إيّاها.

فقالوا: هي آية (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً).

قال(عليه السلام): حسنة ليست إيّاها.

فقال آخرون: هي آية: (والذين إِذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إِلا الله) فقال الإِمام أيضاً: «حسنة ليست إيّاها».

ثمّ أجم الناس، فقال: مالكم يا معشر المسلمين، فقالوا: والله ما عندنا شيء قال(عليه السلام): «سمعت حبيبي رسول الله يقول: أرجى آية في كتاب الله (وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفا من الليل إِنّ الحسنات يُذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)(1).

_____________________________

1 ـ المصدر السابق.

[92]

وبالطبع كما ذكرنا في شرح الآية (48) من سورة النساء: إِنه ورد حديث آخر يشير إِلى أن أرجى آية في القرآن هي آية (إِنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

ولكن مع ملاحظة أنّ كل آية من هذه الآيات تنظر الى زاوية من هذا البحث وتبيّن بُعداً من الأبعاد، فلا تضادّ بينها.

وفي الواقع إِنّ الآية محل البحث تتحدّث عن أُولئك الذين يؤدّون الصلاة بصورة صحيحة، صلاة مع حضور القلب والروح، بحيث تغسل آثار الذنوب عن قلوبهم وأرواحهم. أمّا الآية الأُخرى تتحدّث عن أُولئك الذين حُرموا من هذه الصلاة، فبامكانهم من باب التوبة، فإذن هذه الآية لهؤلاء الجماعة أرجى آية، وتلك الآية لأُولئك الجماعة أرجى آية.

وأيّ رجاء أعظم من أن يعلم الإِنسان أنّه متى زلت قدمه وغلب عليه هواه (دونَ أن يصرّ على الذنب) وحين يحل وقت الصلاة فيتوضأ ويقف أمام معبوده للصلاة، فيحسّ بالخجل عند التوجه الى الله لما قدمه من أعمال سيئة ويرفع يديه بالدعاء وطلب العفو فيغفر وتزول عن قلبه الظلمة وسوادها.

وتعقيباً على تأثير الصلاة في بناء شخصية الإِنسان وبيان تأثير الحسنات على محو السيئات، يأتي الأمر بالصبر في الآية الأُخرى بعدها (واصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين).

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين حاول تحديد معنى الصبر في هذه الآية في الصلاة، أو إيذاء الأعداء للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّ من الواضح أن لا دليل على ذلك ـ بل أن الآية تحمل مفهوماً واسعاً كلياً وجامعاً ويشمل كل أنواع الصبر أمام المشاكل والمخالفات والأذى والطغيان والمصائب المختلفة، فالصمود أمام جميع هذه الحوادث يندرج تحت مفهوم الصبر.

«الصبر» أصل كلّي وأساس إِسلامي، يأتي أحياناً في القرآن مقروناً

[93]

بالصلاة، ولعل ذلك آت من أن الصلاة تبعث في الإِنسان الحركة، والأمر بالصبر يوجب المقاومة، وهذان الأمران، أي «الحركة والمقاومة» حين يكونان جنباً الى جنب يثمران كل اشكال النجاح والموفقية.

وأساساً يتحقق عمل صالح دون صبر ومُقاومة ... لأنّه لابدّ من إِيصال الأعمال الصالحة الى النهاية، ولذلك فإنّ الآية المتقدمة تعقب على الأمر بالصبر بثواب الله وأجره إِذ تقول: (إِنّ الله لا يضيع أجر المحسنين) ومعنى ذلك أن العمل الصالح لا يتيسر دون صبر ومقاومة ... لا بأس بذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الناس ينقسمون الى عدّة جماعات إزاء الحوادث العسيرة الصعبة:

1 ـ فجماعة تفقد شخصيّتها فوراً، وكما يعبر القرآن (وإِذا مسّه الشر جزوعاً).

2 ـ وجماعة آخرون يصمدون أمام الأزمات بكل تحمّل وتجلّد.

3 ـ وجماعة آخرون بالإِضافة الى صمودهم وتحملهم للأزمة، فإنّهم يؤدّون الشكر لله.

4 ـ وجماعة آخرون يتجهون الى الأزمات والمصاعب بشوق وعشق، ويفكرون في كيفية التغلب عليها. ولا يعرفون التعب والنصب في متابعة الأُمور، ولا يهدأون حتى تزول المشاكل.

وقد وعد الله مثل هؤلاء الصابرين بالنصر المؤزر (إِن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)(1).

وأنعم عليهم وأثابهم في الدار الأُخرى بالجنّة (وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً)(2).

* * *

_____________________________

1 ـ الأنفال، 65.

2 ـ سورة الإِنسان، 12.

[94]

الآيتان

فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الاَْرْضِ إِلاَّ قَلِيلا مِّمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)

التّفسير

عامل الإِنحراف والفساد في المجتمعات:

من أجل إِكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين أصل أساسي اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد، وهو أنّه مادام هناك في كل مجتمع طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد والانحراف، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكرياً وثقافياً ودينياً، فإِنّ هذا المجتمع سيكون مصوناً من الزيغ والانحراف.

لكن متى ما سكت عن الحق أهله وحماته، وبقي المجتمع دون مدافع أمام عوامل الفساد، فإنّ انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك أمر حتمي.

الآية الأُولى أشارت إلى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد أنواع

[95]

البلاء قائلة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّة ينهون عن الفساد) ثمّ تستثني جماعة فتقول: (إِلاّ قليلا ممن أنجينا).

هذه الجماعة القليلة وإِن كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكنّها كحال لوط(عليه السلام) وأُسرته الصغيرة، ونوح والمعدودين ممن آمن به، وصالح وجماعة من أتباعه، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإِصلاح العام والكلي في المجتمع.

وعلى كل حال فإنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم، وكما تقول الآية: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين).

وللتأكيد على هذه الحقيقة، تأتي الآية الثّانية لتقول: إِنّ هذا الذي ترون من إِهلاك الله للأُمم، إِنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم (وما كان ربُّك ليهلك القرى بظُلم وأهلها مصلحون).

واحياناً يسود الظلم والفساد في المجتمع، لكن المهم أنّ الناس يشعرون بالظلم والفساد وهم في طريق الإِصلاح، وبهذا الشعور والإِحساس والتحرك بخطوات في طريق الإِصلاح يمهلهم الله، ويقرّ لهم قانون الخلق حق الحياة.

ولكن هذا الإِحساس متى ما انعدم وأصبح المجتمع صامتاً، وأخذ الفساد والظلم في الإِنتشار بكل مكان فإنّ قانون الخلق والوجود لا يعطيهم الحق في الحياة، وهذه الحقيقة تتضح بمثال يسير ... في البدن قوّة ومناعة كريّات الدم البيضاء التي تواجه المكروبات والجراثيم عند دخولها البدن عن طريق الهواء أو الغذاء أو الماء أو الجروح الجلدية الخ ...

وهذه الكُريّات البيضاء بمثابة الجنود المقاتلة إِذ تقف بوجه المكروبات و الجراثيم فتبيدها، أو على الأقل تحدّ من انتشارها ونموّها.

وبديهي أن هذه القوة الدفاعية التي تتشكل من ملايين الجنود، لو أضربت يوماً عن العمل وبقي البدن دون مدافع، فسيكون ميداناً لهجوم الجراثيم الضارّة

[96]

بحيث تسرع أنواع الأمراض الى البدن.

وجميع المجتمعات البشرية لها مثل هذه الحالة، فلو ارتفعت هذه القوّة المدافعة عنها وهي ما عبّر عنه القرآن بـ(أولوا بقيّة) فإن جراثيم الأمراض الإِجتماعية المتوفرة في كل زاوية من المجتمع سرعان ما تنمو وتتكاثر ويسقط المجتمع صريع الامراض المختلفة.

إِن أثر (أُولوا بقيّة) في بقاء المجتمع حساس للغاية، حتى يمكن القول: إنّ المجتمع من دون «أُولي بقية» يُسلب حق الحياة، ومن هنا فقد وردت الإِشارة إِليهم في الآية المتقدمة.

من هم أُولوا بقيّة ؟

كلمة «أولوا» تعني الأصحاب، وكلمة «بقيّة» معناها واضح أي ما يبقى، ويستعمل هذا التعبير في لغة العرب بمعنى «أولو الفضل» لأنّ الإِنسان يدخر الأشياء النفيسة والجيّدة لتبقى عنده، فالمصطلح (أولوا بقيّة) يحمل في نفسه مفهوم الخير والفضل.

ونظراً لأنّ الضعفاء ـ عادةً ـ يرجّحون الفرار على القرار في ميدان المواجهة الإِجتماعية، أو يصيبهم الفناء، ولا يبقى في ميدان المواجهة إِلاّ من يتمتع بقوّة فكرية أو جسدية، وبذلك يبقي الأقوياء فقط، ومن هذا المنطلق أيضاً تقول العرب في أمثالها: في الزوايا خبايا ... وفي الرجال بقايا.

كما جاءت كلمة «بقيّة» في القرآن الكريم في ثلاثة موارد وهي تحمل هذا المفهوم، حيث نقرأ في قصّة طالوت وجالوت (إِنَّ آية ملكة أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم وبقية ممّا ترك آل موسى)(1).

وقرأنا أيضاً قصّة شعيب (في هذه السورة) مخاطباً قومه: (بقية الله خير

_____________________________

1 ـ سوره البقرة، الآية 248.

[97]

لكم إِن كنتم مؤمنين)(1).

وحيث نجد في قسم من التعبيرات إطلاق (بقية الله) على «المهدي الموعود»(عليه السلام) فهو إِشارة الى هذا الموضوع أيضاً، لأنّه وجود ذو فيض وذخيرة إِلهية كبرى، وهو مُعَدّ ليطوي بساط الظلم والفساد وليرفع لواء العدل في العالم كله.

ومن هنا نعرف الحق الكبير لهؤلاء الرجال الأجلاّء الافذاذ والمكافحين للفساد، والمصطلح عليهم بـ(أولوا بقيّة) على المجتمعات البشرية لأنّهم رمز لبقاء الأمم وحياتها ونجاتها من الهلاك.

المسألة الأُخرى التي تستجلب النظر في الآية المتقدمة أنّها تقول: (وما كان ربّك ليُهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).

وبملاحظة التفاوت بين كلمتي «مصلح» و«صالح» تتجلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الصلاح وحده لا يضمنُ البقاء، بل اذا كان المجتمع فاسداً ولكن أفراده يسيرون باتجاه اصلاح الأُمور فالمجتمع يكون له حق البقاء والحياة أيضاً.

فلو انعدم الصالح والمصلح في المجتمع فإنّ من سنةِ الخلقِ أن يحرم ذلك المجتمع حق الحياة ويهلك عاجلا.

وبتعبير آخر: متى كان المجتمع ظالماً ولكنه مقبل على اصلاح نفسه، فهذا المجتمع يبقى، ولكن إِذا كان المجتمع ظالماً ولم يُقبل على نفسه فيصلحها أو يطهرها فإنّ مصيره إلى الفناء والهلاك.

المسألة الدقيقة الأُخرى: إنّ واحداً من أسس الظلم والإِجرام ـ كما تشير إِليه الآيات المتقدمة ـ هو اتباع الهوى وعبادة اللّذة وحبّ الدنيا، وقد عبّر القرآن عن كل ذلك بـ«الترف».

فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الإِنحرافات في

_____________________________

1 ـ هود، 86.

[98]

المجتمعات المرفهة، لأنّ سكرها من شهواتها يصدها عن إِعطاء القيم الإِنسانية الأصيلة حقّها ودرك الواقعيات الإِجتماعية، ويغرقها في العصيان والآثام.

* * *

[99]

الآيتان

وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَحِدَةً وَلاَيَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)

التّفسير

في الآية الأُولى محل البحث إِشارة الى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتيّة لسائر المسائل المرتبطة بالإِنسان ... وهي مسألة الإِختلاف والتفاوت في بناء الإِنسان روحاً وفكراً وجسماً وذوقاً وعشقاً، ومسألة حرية الإِرادة والإِختيار.

تقول الآية (ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدةً ولا يزالون مختلفين).

لئلا يتصور أحد من الناس أنّ تأكيد الله وإِصراره على طاعة أمره دليل على عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.

نعم، لم يكن ـ أي مانع ـ أن يخلق جميع الناس بحكم إِلزامه وإِجباره على شاكلة واحدة، ويجعلهم مؤمنين بالحق ومجبورين على قبول الإِيمان به ...

لكن مثل هذا الإِيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد ... فالإِيمان القسري الذي ينبع من هدف غير إرادي لايكون علامة على شخصية

[100]

الفرد ولا وسيلة للتكامل، ولا يوجب الثواب كما هو الحال في خلق النحل خلقاً يدفعها بحكم الغريزة الى أن تجمع الرحيق من الأزهار ... وخلق بعوضة الملاريا خلقاً يجعلها تستقر في المستنقعات، ولا يمكن لأيّ منهما أن تتخلى عن طريقتها.

إِلاّ أنّ قيمة الإِنسان و امتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة، وهي حرية الإِرادة والإِختيار، وكذلك امتلاك الأذواق والأطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسماً من المجتمع ويؤمّن بُعداً من أبعاده.

ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب أمر طبيعي مترتب على حرية الارادة ويكون سبباً لأنّ تقبل جماعة طريق الحق وتتبع جماعة أُخرى الباطل، إِلاّ أن يتربى الناس تربية سليمة في احضان الرحمة الالهية ويتعلموا المعارف الحقة بالاستفادة من مواهب الله تعالى لهم ... ففي هذه الحال، ومع جميع ما لديهم من اختلافات، ومع الإِحتفاظ بالحريّة والإِختيار، فإنّهم سيخطون خطوات في طريق الحق وإِن كانوا يتفاوتون في هذا المسير.

ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الأُخرى: (إِلا من رحم ربُّك) ولكن هذه الرحمة الإِلهية ليست خاصّة بجماعة معينة، فالجميع يستطيعون «شريطة رغبتهم» أن يستفيدوا منها (ولذلك خلقهم).

الاشخاص الذين يريدون أن يستظلوا برحمة الله فإنّ الطريق مفتوح لهم ... الرحمة التي أفاضها الله لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.

ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة، فإنّ أبواب الجنّة والسعادة الدائمة تفتح بوجوههم، وإلاّ: فلا: (وتمت كلمة ربّك لأملأن جهنم من الجنّة والناس أجمعين ).

* * *

[101]

ملاحظات

1 ـ حرية الإِرادة هي أساس خلق الإِنسان ودعوة جميع الأنبياء، وأساساً لا يستطيع الإِنسان بدونها أن يخطو ولو خطوة واحدة في مسير التكامل «التكامل الإِنساني والمعنوي» ولهذا فقد أكّدت آيات متعددة على أنّه لو شاء الله أن يهدي الناس بإِجباره لهم جميعاً لفعل، لكنّه لم يشأ.

فيما يتعلق بالله هو الدعوة الى المسير الحق وتعريف الطريق ووضع العلامات، والتنبيه، على ما ينبغي الحذر منه وتعيين القائد للمسيرة البشرية والمنهج فحسب.

يقول القرآن الكريم: (إِنّ علينا للهدى)(1) كما يقول أيضاً (إِنّما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر)(2) ويقول في سورة الشمس: (فألهمها فجورها وتقواها)(3)ونقرأ أيضاً في سورة الدهر الآية (4): (إِنّا هديناه السبيل إِمّا شاكراً وإِمّا كفوراً)فعلى هذا فإِن الآيات محل البحث من أوضح الآيات التي تؤكّد على حرية الإِرادة ونفي مذهب الجبر، وتدل على أنّ التصميم النهائي هو بيد الإِنسان.

2 ـ في الهدف من الخلق والوجود، في آيات القرآن بيانات مختلفة، وفي الحقيقة يشير كل واحد منها الى بعد من أبعاد هذا الهدف، من هذه الآيات (وما خلقت الجن والإِنس إِلاّ ليعبدون)(4) أي ليتكاملوا في مذهب العبادة وليبلغوا أعلى مقام للإِنسانية في هذا المذهب.

ونقرأ في مكان آخر (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن

_____________________________

1 ـ الليل، 12.

2 ـ الغاشية، 21.

3 ـ الشمس، 8.

4 ـ الذاريات، 56.

[102]

عملا)(1).

أمّا في الآية محل البحث فيقول: (ولذلك خلقهم) ... وكما تلاحظون فإنّ جميع هذه الخطوط تنتهي الى نقطة واحدة، وهي تربية الناس وهدايتهم وتقدمهم وتكاملهم، وكل ذلك يعدّ الهدف النهائي للخلق.

وفائدة هذا الهدف تعود للإِنسان نفسه لا الى الله، لأنّ الله وجود مطلق لا نهاية له من جميع الجهات، ومثل هذا الوجود لا نقص فيه ليرفعه ويزيله بالخلق.

3 ـ وفي نهاية الآية الأخيرة تأكيد على الأمر الالهي بملء جنهم من الجن والإِنس أجمعين، وبديهي أنّ هذا الأمر المحتوم فيه شرط واحد وهو الخروج من دائرة رحمة الله، والتقهقر عن هداية الرسل والادلاّء من قِبَلهِ، وبهذا الترتيب فإنّ هذه الآية لا يعتبر دليلا على مذهب الإِجبار بل هي تأكيد جديد على مذهب الإِختيار.

* * *

_____________________________

1 ـ الملك، 2.

[103]

الآيات

وَكُلاًَّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(120) وَقُل لِّلَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَـمِلُونَ (121)وَانتَظِروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(122) وَللهِ غَيْبُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاَْمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)

التّفسير

أربع معطيات لقصص الماضين:

بانتهاء هذه الآيات تنتهي سورة هود، وفي هذه الآيات استنتاج كلي لمجموع بحوث هذه السورة، وبما أنّ القسم الأهمّ من هذه السورة يتناول القصص التي تحمل العبر من سيره الأنبياء والأُمم السابقة، فإنّ هذه القصص تعطي نتائج قيّمة ملخّصة في أربعة مواضيع.

تقول هذه الآيات أوّلا: (وكلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك). وكلمة «كُلاًَّ» إِشارة الى تنوع هذه القصص، وكل نوع منها يشير الى

[104]

اتّخاذ جبهة «قبال الأنبياء» ونوع من الإِنحرافات ونوع من العقاب، وهذا التنوّع يلقي أشعة نيرة على أبعاد حياة الناس.

«تثبيت قلب النّبي»(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية إِرادته ـ التي يشار إِليها في هذه الآية ـ أمر طبيعي، لأنّ معارضة الأعداء اللجوجين الشديدة والقاسية ـ رضينا أم أبينا ـ تؤثر على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه إِنسان وبشر أيضاً. ولكن من أجل ان لا ينفذ اليأس الى قلب النّبي المطهّر وتضعف إِرادته الفولاذية من هذه المعارضة والمخالفات والمثبطات، فإنّ الله يقص عليه قصص الأنبياء وما واجهوه، ومقاومتهم قبال أممهم المعاندين، وانتصارهم الواحد تلو الآخر ليقوي قلب النّبي والمؤمنين الذي يلتّفون حوله يوماً بعد يوم.(1).

ثمّ تشير الآية الى النتيجة الكبرى الثّانية فتقول الآيات: (وجآءك في هذه الحق).

أمّا ثالث الآثار ورابعها اللذان يستلفتان النظر هما (موعظة وذكرى للمؤمنين) .

الطريف هنا أنّ صاحب المنار يقول في تفسير الآية معقباً: إِنّ الإِيجاز والإِختصار في هذه الآية المعجزة في غاية ما يُتصور، حتى كأنّ جميع المعاجز السالفة قد جُمعت في الآية نفسها وبيّنت فوائدها جميعاً بعدّة جمل قصيرة.

وعلى أية حال، فإنّ هذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى أنّه لا ينبغي أن نعدّ قصص القرآن ملهاة أو يستفاد منها لإِشغال السامعين، بل هي مجموعة من أحسن الدروس الحياتية في جميع المجالات، وطريق رحب لجميع الناس في الحاضر والمستقبل.

_____________________________

1 ـ ممّا ذكر في المتن يتّضح أنّ مرجع الضمير في «هذه» يعود على «أنباء الرسل» وعودة الضمير على هذه الكلمة لقربها وتناسبها مع البحوث الواردة في هذه الآية واضح جدّاً، لكنّ الإِحتمالات الأُخرى بأنّ المشار إِليه هو «الدنيا» أو «خصوص الآيات السابقة» فبعيد، كما يبدو، وما قاله كثير من المفسّرين من أنّ المشار إليه هو «السورة» فقابل للمطابقة مع ما ذكرنا، لأنّ القسم الأهمّ من السورة يتناول قصص الأنبياء السابقين.

[105]

ثمّ تخاطب الآيات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يواجه أعداءه الذين يؤذونه ويظهرون اللجاجة والعناد إِن واصل الطريق (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إِنّا عاملون وانتظروا إِنّا منتظرون).

فستعلمون من الذي سينتصر، انتظروا هزيمتنا كما تزعمون انتظاراً غير مُجد، ونحن ننتظر العذاب من الله عليكم، وهو ما ستذقونه من قِبَلنا أو من قِبَل الله مباشرةً.

وهذه التهديدات التي تذكر بصيغة الأمر تلاحظ في أماكن أُخرى من القرآن كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم إِنّه بما تعملون بصير)(1).

ونقرأ في شأن الشيطان أيضاً (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأَجلب عليهم بخيلك ورجلك)(2).

وبديهي أنّه لا يراد بأيّة صيغة من صيغ الأمر هنا طلب الفعل، بل جميعها جاءت للتهديد والتنديد.

وآخر الآيات من هذه السورة تتحدث عن التوحيد «التوحيد المعرفي والتوحيد الأفعالي، وتوحيد العبادة» كما تحدثت الآيات الأُولى من هذه السورة عن التوحيد أيضاً.

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تشير الى ثلاث شعب من التوحيد، توحيد علم الله أوّلا، فغيب السّماوات والأرض خاص بالله وهو المطّلع عليها جميعاً (ولله غيب السّماوات والأرض).

أمّا سواه فعلمه محدود، وفي الوقت ذاته فإنّ هذا العلم ناشيء من التعليم الإِلهي، فعلى هذا فإنّ العلم غير المحدود، والعلم الذاتي بالنسبة لجميع ما في السموات والأرض مخصوص بذات الله المقدسة.

_____________________________

1 ـ فصّلت، 40.

2 ـ الإِسراء، 64.

[106]

ومن جهة ثانية فإنّ أزمّة جميع الأفعال مرهونة بقدرته (وإليه يرجع الأمر كله) ... وهذه مرحلة توحيد الأفعال.

ثمّ تستنتج الآية أنّه إِذا علمت أنّ الإِحاطة والعلم غير المحدود والقدرة التي لا تنتهي ... جميعها مخصوص بذات الله المقدّسة (فاعبده وتوكل عليه) وهذه مرحلة توحيد العبادة.

فينبغي اجتناب العصيان والعناد والطغيان (وما الله بغافل عمّا تعملون).

* * *

ملاحظات

1 ـ علم ا لغيب خاص بالله...

كما تحدثنا بالتفصيل في تفسير الآية (188) من سورة الأعراف، وفي تفسير الآية (50) من سورة الأنعام، أنه لا مجال للتردد في أن الإِطلاع على الأسرار الخفية أو الأسرار الماضية والآتية كله خاص بالله ... والآيات المختلفة من القرآن تؤكّد هذه الحقيقة وتؤيدها أيضاً ... إِنّه ليس كمثله شيء وهو متفرد بهذه الصفة.

وإِذا وجدنا في قسم من آيات القرآن بيان أنّ الأنبياء قد يعلمون بعض الأُمور الغيبية، أو قرأنا في بعض الآيات أو الرّوايات الكثيرة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والإِمام عليّاً والأئمة المعصومين(عليهم السلام) قد يخبرون عمّا يجري في المستقبل من حوادث ويبيّنون أسراراً خفيّة منها، فينبغي أن نعرف أن كل ذلك بتعليم الله سبحانه.

فهو سبحانه حيث يجد المصلحة يطلع عباده وأولياءه على قسم من أسرار الغيب، ولكن هذا العلم لا هو علم ذاتي ولا غير محدود، بل هو من تعليم الله وهو محدود بمقدار ما يريده الله.

[107]

وبهذا البيان تتّضح الإِجابة على المنتقدين لعقيدة الشيعة في مجال على الغيب حيث يرون أنّ الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) يعلمون الغيب.

وليس الإِطلاع على علم الغيب من قبل الله خاصاً بالأنبياء أو الأئمّة فقد يطلع الله غير النّبي والأئمّة على غيبه أيضاً ... فنحن نقرأ في قصّة أُم موسى في القرآن أنّ الله قال لها: (ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إِليك وجاعلوه من المرسلين)(1).

وقد يطلع الله لضرورة الحياة ـ أحياناً ـ الطيور والحيوانات على الأسرار الخفيّة وحتى على المستقبل البعيد نسبيّاً ممّا يصعب علينا تصوّره وبهذا الترتيب قد تكون بعض المسائل التي نحسبها غيباً، هذه المسائل نفسها بالنسبة للطيور أو الحيوانات لا تعد من الغيب.

2 ـ العبادة لله وحده

في الآية المتقدمة دليل لطيف على أنّ العبادة لله وحده، وهو أنّه لو كانت العبادة من أجل العظمة وصفات الجمال، والجلال فهذه الصفات قبل كل شيء موجودة في الله، وأمّا الآخرون فلا شيء بالنسبة إِليه. وأكبر دليل على عظمة الله علمه الواسع غير المحدود وقدرته اللامتناهية، وقد أشارت الآية الآنفة إلى أنّهما مختصّان بالله.

وإِذا كانت العبادة لأجل الإِلتجاء ـ في حلّ المشاكل ـ الى المعبود ... فإنّ مثل هذا العمل جدير بمن هو عليم بجميع حاجات العباد وأسرارهم الخفيّة. وما يغيب عليهم، وهو قادر على إِجابة دعوتهم، وبالنتيجة فإنّ توحيد الصفات يكون سبباً لتوحيد العبادة (لاحظوا بدقّة).

3 ـ قال بعض المفسّرين: إِنّ سير الإِنسان في طريق عبودية الله، لُخِّصَ كلّه

_____________________________

1 ـ القصص، 7.

[108]

في جملتين في هذه الآية (فاعبده وتوكل عليه) لأنّ العبادة سواء كانت عبادة جسمانية كالعبادة العامّة، أو عبادة روحانية كالتفكّر في خلق الله ونظام أسرار الوجود، هي بداية هذا السير.

والتوكّل الذي يعني الإِلتجاء المطلق الى الله وإِيداع جميع الأشياء بيده، بحيث يعدّ نوعاً من «الفناء في الله» هو آخر نقطة من هذا السير.

وفي جميع هذا المسير من بدايته حتى نهايته يوجههم الى حقيقة توحيد الصفات، ويعين السائرين في هذا المسير ويدعوهم الى البحث المقرون بالعشق لساحته.

اللّهم ألهمنا معرفتك بصفات جلالك وجمالك.

وألهمنا أن نتحرك إِليك بعرفان.

اللّهم وفقنا لأنّ نعبدَك مخلصين ونتوكل عليك عاشقين.

اللّهم أنت رجاؤنا وملاذنا في حل مشاكلنا، ففي هذه الفترة من الزمن أحاطت بالمسلمين المشاكل من كل جانب، وسعى أعداء الله لإِطفاء نور هذه الصحوة المباركة، فانت وليّنا.

اللهم: لم نكن لنصل لهذه المرحلة لولا تأييداتك الظاهرة والخفيّة التي أعانتنا للوصول إِليها. نسألك أن لا تحرمنا من مواهبك العظيمة في ما بقي من الطريق ولا تقطع ـ ألطافك الخاصّة ـ عنّا.

ووفقنا برحمتك أن نواصل هذا التّفسير الذي يفتح نافذة جديدة على كتابك السّماويّ العظيم.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404332

  • التاريخ : 20/04/2024 - 06:09

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net