00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة هود من آية 69 ـ 95 من ( اول الجزء السابع ـ 50 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد السّابع

[5]

الآيات

وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَـماً قَالَ سَلَـمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْل حَنِيذ(69) فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيْفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوط(70) وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَـهَا بِإِسْحَـقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـقَ يَعْقُوبَ(71) قَالَتْ يَـوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِى شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ(72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَـتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ(73)

التّفسير

جانبٌ من حياة محطم الأصنام:

والآن جاء الدور للحديث عن جانب من حياة «إبراهيم(عليه السلام)» هذا البطل العظيم الذي حطم الأصنام، وما جرى له مع قومه. طبعاً كل ذلك مذكور بتفصيل أكثر في سور أُخرى من القرآن غير هذه السورة، كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والأنعام، والأنبياء، وغيرها.

وهنا تذكر الآيات قسماً من حياته المرتبطة بقصّة «قوم لوط» وعقاب هؤلاء الجماعة الملوّثين بالآثام والعصيان، فتقول في البداية: (ولقد جاءت رسلنا

[6]

إِبراهيم بالبشرى).

وهؤلاء الرسل ـ كما سيتبيّن من خلال الآيات التالية ـ هم الملائكة الذين أُمروا بتدمير مدن قوم لوط، ولكنّهم قبل ذلك جاؤوا إِلى إِبراهيم ليسلموه بلاغاً يتضمّن بشرى سارة.

أمّا عن ماهية هذه البشرى فهناك إحتمالان، ولا مانع من الجمع بينهما.

الإِحتمال الأوّل: البشرى بتولّد إِسماعيل وإِسحاق، لأنّ إِبراهيم(عليه السلام) لم يرزق ولداً بعد عمر طويل، في حين كان يتمنى أن يرزق ولداً أو أولاداً يحملون لواء النبوّة، فإبلاغهم له بتولد إِسماعيل وإسحاق بعد بشارة عظمى.

والإِحتمال الثّاني:إنّ إِبراهيم كان مستاءً ممّا وجده في قوم لوط من الفساد والعصيان، فحين أخبروه بأنّهم أُمروا بهلاكهم سُرَّ، وكان هذا الخبر بشرى له.

فحين جاءوا إِبراهيم (قالوا سلاماً) فأجابهم أيضاً و(قال سلام) ورحّب بهم (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ).

«العجل» في اللغة ولد البقر و«الحنيذ» معناه المشوي، واحتمل بعضهم أنّ ليس كل لحم مشوي يطلق عليه أنّه حنيذ، بل هو اللحم المشويّ على الصخور إِلى جنب النّار دون أن تصيبه النّار، وهكذا ينضج شيئاً فشيئاً.

ويستفاد من هذه الجملة أنّ من آداب الضيافة أن يعجل للضيف بالطعام، خاصّة إِذا كان الضيف مسافراً، فإنّه غالباً ما يكون متعباً وجائعاً وبحاجة إِلى طعام، فينبغي أن يقدم له الطعام عاجلا ليخلد إِلى الراحة.

وربّما يقول بعض المنتقدين: أليس هذا العجل كثيراً على نفر معدود من الأضياف، ولكن مع ملاحظة أنّ القرآن لم يذكر عدد هؤلاء الأضياف أوّلا، وهناك أقوال في عددهم، فبعض يقول: كانوا ثلاثة، وبعض يقول: أربعة، وبعض يقول: كانوا تسعة، وبعض قال: أحد عشر، ويحتمل أن يكونوا أكثر من ذلك.

وثانياً: فإِنّ إِبراهيم كان له أتباع وعمال وجيران، وهذا الأمر متعارف أن

[7]

يصنع مثل هذا عند الضيافة ويكون فوق حاجة الأضياف ليأكل منه الجميع. .

ولكن حدث لإِبراهيم حادث عجيب مع أضيافه عند تقديم العجل الحنيذ لهم، فقد رآهم لا يمدّون أيديهم إِلى الطعام، وهذا العمل كان مريباً له وجديداً عليه، فأحسّ بالإِستيحاش واستغرب ذلك منهم (فلمّا رأى أيديهم لا تصل اليه نكرهم وأوجس منهم خيفة).

ومن السنن والعادات القديمة التي لا تزال قائمة بين كثير من الناس الذين لهم التزام بالتقاليد الطيبة للاسلاف. هي أنّ الضيف إِذا تناول من طعام صاحبه (وبما اصطلح عليه: تناول من ملحه وخبزه) فهو لا يكنّ له قصد سوء، وعلى هذا فإنّ من له قصد سوء مع أحد ـ واقعاً ـ يحاول ألاّ يأكل من طعامه «وخبزه وملحه» ومن هذا المنطلق شك إِبراهيم في نيّاتهم، وأساء الظن بهم، واحتمل أنّهم يريدون به سوءاً.

أمّا الرسل فإنّهم لمّا اطلعوا على ما في نفس إِبراهيم، بادروا لرفع ما وقع في نفسه و(قالوا لا تخف إِنّا أُرسلنا إِلى قوم لوط).

وفي هذه الحال كانت امرأته «سارة» واقفة هناك فضحكت كما تقول الآية (وامرأته قائمة فضحكت).

هذا الضحك من سارة يحتمل أن يكون لأنّها كانت مستاءةً من قوم لوط وفجائعهم، واطلاعها على قرب نزول العذاب عليهم كان سبباً لسرورها وضحكها.

وهناك احتمال آخر وهو أنّ الضحك كان نتيجة لتعجبها أو حتى لإِستيحاشها أيضاً، لأنّ الضحك لا يختص بالحوادث السارّة بل يضحك الإِنسان ـ أحياناً ـ من الإِستياء وشدة الإِستيحاش، ومن أمثال العرب في هذا الصدد «شر الشدائد ما يضحك».

أو أنّ الضحك كان لأنّ الأضياف لم يتناولوا الطعام ولم تصل أيديهم إِليه

[8]

بالرغم من إِعداده وتهيأته لهم.

ويحتمل أيضاً أنّ ضحكها لسرورها بالبشارة بالولد. وإِن كان ظاهر الآية ينفي هذا التّفسير، لأنّ البشرى بإسحاق كانت بعد ضحكها، إِلاّ أن يقال: إِنّهم بشروا إِبراهيم أوّلا بالولد، واحتملت سارة أن سيكون الولد منها فتعجبت، وأنّه هل يمكن لامرأة عجوز وفي هذه السن أن يكون لها ولد من زوجها؟ لذلك سألتهم بتعجب فأجابوها بالقول: نعم، وهذا الولد سيكون منك. والتأمل في سورة الذاريات بهذا الشأن يؤكّد ذلك.

وينبغي الإِلتفات هنا إِلى أنّ بعض المفسّرين يصرون على أنّ «ضحكت» مشتقة من «ضَحْك» بمعنى العادة النسائية وهي «الحيض» وقالوا:إنّ سارة بعد أن بلغت سنّ اليأس أتتها العادة في هذه اللحظة وحاضت، والعادة الشهرية تدل على إِمكان إِنجاب الولد، ولذلك فحين بشرت بإِسحاق أمكنها أن تصدّق ذلك تماماً ... وهؤلاء المفسّرون استندوا في قولهم إِلى لغة العرب، حيث قالوا في هذا الصدد: ضحكت الأرنب، أي حاضت.

ولكن هذا الإِحتمال مستبعد من جهات مختلفة:

أوّلا: لأنّه لم يسمع أنّ هذه «المادة» استعملت في الإِنسان بمعنى الحيض في اللغة العربية، ولهذا فإنّ الراغب حين يذكر هذا المعنى في مفرداته يقول بصراحة: إِنّ هذا ليس تفسير جملة فضحكت كما تصوّره بعض المفسّرين، بل معناها هو الضحك المألوف، ولكنّها حاضت وهي في حال الضحك أيضاً، ولذلك وقع الخلط بينهما.

ثانياً: إِذا كانت هذه الجملة بمعنى حصول العادة النسائية فلا ينبغي لسارة أن تتعجب من البشرى بالولد «إِسحاق» لأنّه ـ والحال هذه ـ لا غرابة في الإِنجاب، في حين نستفيد من الجمل الأُخرى أنّها لم تتعجب من الإِنجاب فحسب، بل صرخت وقالت: (يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً).

[9]

وعلى كل حال فإنّ هذا الإِحتمال في الآية يبدو بعيداً جدّاً.

ثمّ تضيف الآية أنّ إِسحاق سيعقبه ولد من صلبه اسمه يعقوب: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إِسحاق يعقوب).

الواقع أنّ الملائكة بشّروها بالولد وبالحفيد، فالأوّل إِسحاق والثّاني يعقوب، وكلاهما من أنبياء الله.

ومع التفات «سارة» امرأة إِبراهيم إِلى كبر سنّها وسن زوجها فإنّها كانت آيسة من الولد بشدّة، فاستنكرت بصوت عال متعجبة من هذا الأمر و (قالت ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إِن هذا لشيءٌ عجيب).

وكان الحق معها، لأنّه طبقاً للآية (29) من سورة الذاريات، فإنّها كانت في شبابها عاقراً، وحين بشرت بالولد كانَ عمرها ـ كما يقول المفسّرون وتذكره التوراة في سفر التكوين ـ تسعين عاماً أو أكثر، أمّا زوجها إِبراهيم(عليه السلام) فكان عمره مئة عام أو أكثر.

وهنا ينقدح سؤال وهو: لم استدلت سارة على عدم الإِنجاب بكبر سنّها وكبر سنّ زوجها، في حين أننا نعلم أنَّ النساء عادة يصبحن آيسات بعد الخمسين لإِنقطاع «الحيض» أو «العادة» واحتمال الإِنجاب في هذه المرحلة بالنسبة لهنّ ضعيف، أمّا الرجال فقد أثبتت التجارب الطبيعية أنّهم قادرون على الإِنجاب لسنين أطول ...؟

والجواب على هذا السؤال واضح: فإنّ الرجال وإن كانوا قادرين على الإِنجاب، ولكن يضعف احتماله كلما طعنوا في السنّ ولذا فطبقاً للآية (54) من سورة الحجر نجدُ إِبراهيم نفسه متعجباً من هذه البشرى لكبر سنّه، أضف إِلى ذلك فإنّ سارة من الناحية النفسية لعلها لم تكن في الانفراد بهذه المشكلة (العقم) وأرادت اقحام زوجها معها.

وعلى كل حال فإنّ رسل الله ازالوا التعجب عنها فوراً وذكّروها بنعم الله «الخارقة للعادة» عليها وعلى اسرتها ونجاتهم من الحوادث الجمة، فالتفتوا إِليها

[10]

و(قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت(1) ...).

ذلك الربّ الذي نجّى إِبراهيم من مخالب نمرود الظالم، ولم يصبه سوء وهم في قلب النار، هو ذلك الرّب الذي نصر إِبراهيم محطم الأصنام ـ وهو وحيد ـ على جميع الطواغيت، وأَلْهَمَهُ القدرة والإِستقامة البصيرة.

وهذه الرحمة الإِلهية لم تكن خاصّة بذلك اليوم فحسب، بل هي مستمرة في أهل هذا البيت، وأي بركة أعظم من وجود رسول الله محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) في هذه الأُسرة وفي هذا البيت بالذات.

واستدل بعض المفسّرين بهذه الآية على أنّ الزوجة تعدّ من «أهل البيت» أيضاً، ولا يختص هذا العنوان بالولد والأب والأم. وهذا الإِستدلال صحيح طبعاً، وحتى مع غضّ النظر عن الآية هذه، فإنّ كلمة «أهل» من حيث المحتوى تصحّ بهذا المعنى، ولكن لا مانع أبداً أن يخرج جماعة من أهل بيت النّبوة من الناحية المعنوية بسبب انحرافهم من أهل البيت «وسيأتي فريد من الإِيضاح والشرح في هذا الصدد إِن شاء الله ذيل الآية 33 من سورة الأحزاب».

وقال ملائكة الله لمزيد التأكيد على بشارتهم وكلامهم في شأن الله (إِنّه حميد مجيد).

الواقع إنّ ذكر هاتين الصفتين لله تعالى على الجملة السابقة، لأنّ كلمة «حميد» تعني من له أعمال ممدوحة وتستوجب الثناء والحمد، وقد جاء صفة لله ليشير إلى نعمه الكثيرة على عباده ليُحمد عليها، وأمّا كلمة «مجيد» فتطلق على من يهب النعم حتى قبل استحقاقها.

ترى هل من العجيب على ربّ له هذه الصفات أن يعطي مثل هذه النعمة العظيمة ... أي الابناء الصالحين لنبيّه الكريم؟!

* * *

_____________________________

1 ـ إنّ جملة «رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت» يمكن أنّ تكون خبرية، وهي حال، كما يمكن أن تكون بمعنى الدعاء أيضاً، ولكن الإِحتمال الأوّل أقرب.

[11]

الآيات

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَـدِلُنَا فِى قَوْمِ لُوط(74) إِنَّ إِبْرَهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّهٌ مُّنِيبٌ(75) يَـإِبْرَهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَآ إِنَّهُ، قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ ءَاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود(76)

التّفسير

رأينا في الآيات السابقة أنّ إِبراهيم عرف فوراً أنّ أضيافه الجدد لم يكونوا أفراداً خطرين أو يخشى منهم، بل كانوا (رسل الله) على حد تعبيرهم، ليؤدوا وظيفتهم التي أُمروا بها في قوم لوط.

ولمّا ذهب الهلع والخوف عن إِبراهيم من أُولئك الأضياف، ومن ناحية أُخرى فقد بشروه بالوليد السعيد، شرع فوراً بالتفكير في قوم لوط الذين أُرسل إِليهم هؤلاء الرُسل «الملائكة» فأخذ يجادلهم ويتحدث معهم في أمرهم (فلمّا ذهب عن إِبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط)(1).

_____________________________

1 ـ كلمة «رَوْع» على وزن «نَوع» معناها «الخوف والوحشة» وكلمة «رُوْع» على وزن «نوح» معناها «الروح» أو قسم منها الذي هو محل الخوف ومركزه، لمزيد الإِيضاح تراجع المعاجم اللغوية.

[12]

وهنا يمكن أن ينقدح هذا السؤال، وهو: لِمَ تباحث إِبراهيم(عليه السلام) مع رسل الله وجادلهم في قوم آثمين ظالمين ـ كقوم لوط ـ وقد أُمروا بتدميرهم، في حين أنّ هذا العمل لا يتناسب مع نبيّ ـ خاصّة اذا كان إِبراهيم(عليه السلام) في عظمته وشأنه؟

لهذا فإنّ القرآن يعقّب مباشرة في الآية عن شفقة إِبراهيم وتوكله على الله فيقول (إِنّ إِبراهيم لحليم أواه منيب)(1).

في الواقع هذه الكلمات الثلاث المجملة جواب على السؤال المشار إِليه آنفاً. وتوضيح ذلك: إنّ هذه الصفات المذكورة لإِبراهيم تشير إِلى أنّ مجادلته كانت ممدوحة، وذلك لأنّ إِبراهيم لم يتّضح له أنّ أمر العذاب صادر من قبل الله بصورة قطعية، بل كان يحتمل أنّه لا يزال لهم حظ في النجاة، ويحتمل أنّهم سيرتدون عن غيهم ويتّعظون، ومن هنا فما زال هناك مجال للشفاعة لهم ... فكان راغباً في تأخير العذاب و العقاب عنهم، لأنّه كان حليماً، ومشفقاً وأوّاهاً ومنيباً إِلى الله.

فما ذكره البعض من أنّ مجادلة إِبراهيم اذا كانت مع الله فلا معنى لها، وإِذا كانت مع رسله فهم أيضاً لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً من أنفسهم، فعلى كل حال فالمجادلة هذه غير صحيحة ـ مجانب للصواب.

والجواب: أنّه لا كلام في الحكم القطعي، أمّا لو كان الحكم غير قطعي فمع تغيير الظروف وتبدل الأوضاع يمكن تغييره، لأنّ طريق الرجوع لا زال مفتوحاً، وبتعبير آخر: فإنّ الإوامر في هذه الحالة مشروطة لا مطلقة.

وأمّا من احتمل أنّ المجادلة كانت مع الرسل في شأن نجاة المؤمنين، واستشهدوا على هذا القول بالآيتين (31) و(32) من سورة العنكبوت (ولمّا جاءت رسلنا إِبراهيم بالبشرى قالوا إِنّا مهلكوا أهل هذه القرية إِنّ أهلها كانوا

_____________________________

1 ـ «الحليم» مشتق من «الحلم» وهو: الأناة والصبر في سبيل الوصول إِلى هدف مقدّس، والأوّاه في الأصل: كثير التحسّر والآه سواء من الخوف من المسؤولية التي يحملها أو من المصائب، والمنيب من الإِنابة أي الرجوع.

[13]

ظالمين، قال إِنّ فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إِلا امرأته كانت من الغابرين).

فهذا الإِحتمال غير صحيح أيضاً، ولا ينسجم مع الآية التي تأتي بعدها وهي محل وتقول الآية التالية: إِنّ الرسل قالوا لإِبراهيم ـ مباشرةً ـ أن أعرض عن اقتراحِك لأنّ أمر ربّك قد تحقق والعذاب نازل لا محالة.

(يا إِبراهيم اعرض عن هذا إِنّه قد جاء أمر ربّك وإنّهم آتيهم عذاب غير مردود).

والتعبير بـ«ربّك» لايدل على أنّ هذا العذاب خلو من الطابع الانتقامي فحسب، بل يدل أيضاً على أنّه علامة لتربية العباد وإِصلاح المجتمع الإِنساني.

وما نقرؤه في بعض الرّوايات أنّ إِبراهيم(عليه السلام) قال لرسل الله: إِذا كان بين هؤلاء القوم مئة مؤمن فهل يعذب المؤمنون؟ قالوا: لا. فقال: إِذا كان بينهم خمسون مؤمناً؟ فقالوا: لا أيضاً. قال: فإذا كان بينهم ثلاثون مؤمناً؟ قالوا: لا. قال: فإذا كان بينهم عشرة؟ قالوا: لا. قال: فإذا كان بينهم خمسة؟ قالوا: لا. قال: فإذا كان بينهم مؤمن واحد؟ قالوا: لا. قال: فإنّ فيها لوطاً. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته(1) ... الخ.

فمثل هذه الرّواية لا تدل بوجه مطلق على أنّ المجادلة اقتصرت على هذا الكلام; بل كان ذلك منه بالنسبة إِلى المؤمنين، وهو شيء آخر غير مجادلته عن الكفار. ومن هنا يتّضح أنّ الآيات التي وردت في سورة العنكبوت لا تنافي هذا التّفسير أيضاً «فتدبّر».

* * *

_____________________________

1 ـ راجع تفسير البرهان، ص 226، ج 2.

[14]

الآيات

وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ(77) وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاَتِ قَالَ يَـقَوْمِ هَـؤُلاَءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ(78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَالَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ(79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْن شَدِيد(80)

التّفسير

قوم لوط وحياة الخزي:

مرّت في آيات من سورة الأعراف إشارة إلى شيء من مصير قوم لوط، وفسّرنا ذلك في محلّه، وهنا يتناول القرآن الكريم ـ وبمناسبة ما ذكره من قصص الأنبياء وأقوامهم وبما ورد في الآيات المتقدمة عن قصّة لوط وقومه ـ قسماً آخر من حياة هؤلاء القوم المنحرفين الضالين ليتابع بيان الهدف الأصلي ألا وهو سعادة المجتمع الإِنساني ونجاته بأسره.

[15]

يبيّن القرآن الكريم في هذا الصدد أوّلا ... أنّه لما جاءت رسلنا لوطاً طار هلعاً وضاق بهم ذرعاً وأحاط به الهمّ من كل جانب (ولما جاءت رسلنا لوطاً سيىء بهم وضاق بهم ذرعاً).

وقد ورد في الرّوايات الإِسلامية أنّ لوطاً كان في مزرعَته حيث فوجىء بعدد من الشباب الوسيمين الصِباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النّزول عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في مدينته الملوّثة بالإِنحراف الجنسي من جهة أُخرى، كل ذلك أوجب له الهم ...

ومرّت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره، وتحدث مع نفسه (وقال هذا يوم عصيب).

لإحتمال الفضيحة والتورط في مشاكل عويصة كلمة (سيىء) مشتقّة من ساء، ومعناها عدم الإِرتياح وسوء الحال، و«الذرع» تعني «القلب» على قول، وقال آخرون: معناها «الخُلق» فعلى هذا يكون معنى (ضاق بهم ذرعاً) أنّ قلبه أصيب بتأثر شديد لهؤلاء الأضياف غير المدعوين في مثل هذه الظروف الصعبة.

ولكن بحسب ما ينقله «الفخر الرازي» في تفسيره عن «الأزهري» أنّ الذرع في هذه الموارد يعنى «الطاقة» وفي الأصل معناه الفاصلة بين اذرع البعير أثناء سيره.

وطبيعي حين يحمل البعير أكثر من طاقته فإنّه يضطر إِلى تقريب خطواته وتقليل الفاصلة بين خطواته، وبهذه المناسبة وبالتدريج استعمل هذا المعنى في عدم الإِرتياح والإِستثقال من الحوادث.

ويستفاد من بعض كتب اللغة ككتاب (القاموس» أنّ هذا التعبير إِنّما يستعمل في شدة الحادثة بحيث يجد الإِنسان جميع الطرق بوجهه موصدة.

وكلمة «عصيب» مشتقّة من «العصب» على زنة «الكلب» ومعناه ربط الشىء بالآخر وشده شدّاً محكماً، وحيث أنّ الحوادث الصعبة تشدُّ الإِنسان

[16]

وكأنّها تسلبه راحته فيظل مبلبل الأفكار سُمّيت «عصيبة» وتطلق العرب على الأيّام شديدة الحر أنّها عصيبة أيضاً.

وعلى كل حال، فإنّ لوطاً لم يجد بدأ من أن يأتي بضيوفه إِلى البيت ويقوم بواجب الضيافة ولكنّه حدّثهم في الطريق ـ عدة مرّات ـ أنّ أهل هذه المدينة منحرفون وأشرار ليكونوا على حذر منهم.

ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ الله سبحانه أمر ملائكته أن لا يعذبوا قوم لوط حتى يعترف لوط عليهم ثلاث مرّات، ومعنى ذلك أنّه حتى في تنفيذ حكم الله بالنسبة لقوم ظالمين لابدّ من تحقق موازين عادلة في المحاكمة، وقد سمع رسل الله شهادة لوط في قومه ثلاث مرّات أثناء الطريق(1).

وورد في بعض الرّوايات أنّ لوطاً أخّر ضيوفه كثيراً حتى حلول الليل، فلعله يستطيع أن يحفظ ماء وجهه من شرور قومه، ويقوم بواجب الضيافة دون أن يُساء إِلى أضيافه. ولكن ما عسى أن يفعل الإِنسان إِذا كان عدوه داخل بيته، وكانت امرأة لوط امرأة كافرة وتساعد قومه الظالمين، وقد اطلعت على ورود هؤلاء الأضياف إِلى بيتها، فصعدت إِلى أعلى السطح وصفقت بيديها أوّلا، ثمّ بإشعال النّار وتصاعد الدخان أعلمت جماعة من هؤلاء القوم بأنّ طعمة دسمة قد وقعت في «الشِباك»(2).

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد (وجاءه قومه يُهرعون إِليه)(3) وكانت حياة هؤلاء القوم مسودّة وملطخة بالعار (ومن قبلُ كانوا يعملون السيئات)فكان من حق لوط أن يضيق ذرعاً يصرخ ممّا يرى من شدّة استيائه و(قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) فأنا مستعد أن أزوجهن إِيّاكم (فاتقوا الله ولا

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، في شرح الآية آنفة الذكر.

2 ـ الميزان، ج 10، ص 362.

3 ـ «يُهرعون» مشتقّة من الإِهراع ومعناها السياقة الشديدة، فكأنّما تسوق غريزة هؤلاء إِيّاهم بشدّة إِلى أضيافه.

[17]

تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) يصدكم عن هذه الأعمال المخزية وينصحكم بالإِقلاع عنها.

ولكن هؤلاء القوم المفسدين أجابوا لوطاً بكل وقاحة وعدم حياء و(قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإِنّك لتعلم ما نريد).

وهنا وجد لوط هذا النّبي العظيم نفسه محاصراً في هذه الحادثة المريرة فنادي و(قال لو أنّ لي بكم قوةً) أو سند من العشيرة والأتباع والمعاهدين الأقوياء حتى اتغلّب عليكم (أو آوي إِلى ركن شديد).

* * *

ملاحظات

1 ـ العبارة التي قالها لوط عند هجوم القوم على داره وأضيافه ـ (هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم) فتزوجوهنّ إِنّ شئتم فهنّ حلال لكم ولا ترتكبوا الإثم و الذنب وقد ـ أثارت هذه العبارة بين المفسّرين عدّة أسئلة:

أوّلا: هل المراد من (هؤلاء بناتي) بنات لوط على وجه الحقيقة والنسب؟! في حين أنّ عددهن ـ وطبقاً لما ينقل التاريخ ـ ثلاث أو أثنتان فحسب، فكيف يعرض تزويجهن على هذه الجماعة الكثيرة؟!

أم أنّ المراد من قوله (هؤلاء بناتي) بنات «القبيلة» والمدينة، وعادة ينسب كبير القوم ورئيسهم بنات القبيلة اليه ويطلق عليهنّ «بناتي».

الإِحتمال الثّاني يبدو ضعيفاً لأنّه خلاف الظاهر.

والصحيح هو الإِحتمال الأوّل، لأنّ الذين هجموا على داره وأضيافه كانوا ثلّة من أهل القرية لا جميعهم فاقترح عليهم لوط ذلك الاقتراح، أضف إِلى ذلك أنّ لوطاً كان يريد أن يبدي مُنتهى إِيثاره وتضحيته لحفظ ماء وجهه وليقول لهم: إِنّي مستعد لتزويجكم من بناتي لتُقِلعوا عن آثامكم وتتركوا أضيافي فلعل هذا

[18]

الإِيثار المنقطع النظير يردعهم ويوقظ ضمائرهم الذي غطته السيئات.

ثانياً: هل يجوز تزويج النبات المؤمنات أمثال بنات لوط من الكفار حيى يقترح عليهم لوط ذلك؟!

وقد أجيب على هذا السؤال من طريقين.

الأوّل: إِنّ مثل هذا الزواج في مذهب لوط ـ كما كان في بداية الإِسلام ـ لم يكن محرماً، ولذلك فإنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) زوّجَ ابنته زينب من أبي العاص قبل أن يسلم، ولكن هذا الحكم نسخ بعدئذ(1).

الثّاني: إِنّ المراد من قول لوط(عليه السلام) كان زواجاً مشروطاً بالإِيمان، أي هؤلاء بناتي فتعالوا وآمنوا لأزوجهن إِيّاكم.

ويتّضح أنّ الإِشكال على النّبي لوط ـ من أنّه كيف يزوج بناته المطهرات من جماعة أوباش ـ غير صحيح، لإنّ عرضه عليهم ذلك الزواج كان مشروطاً بالإيمان وليثبت منتهى علاقته بهدايتهم.

2 ـ ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ كلمة «أطهر» لا تعني بمفهومها أنّ عملهم المخزي والسيء كان «طاهراً» ولكن الزواج من البنات «أطهر»، بل هو تعبير شائع في لسان العرب ـ ولغات أُخرى ـ في المفاضلة والمقايسة بين أمرين، مثلا يقال لمن يسوق بسرعة رعناء «الوصول المتأخّر خير من عدم الوصول أبداً» أو «الاعراض من الطعام المشكوك أفضل من إِلقاء الإِنسان بيده إِلى التهلكة» ونقرأ في بعض الرّوايات مثلا أنّ الإِمام الصادق(عليه السلام) حين يشعر بالخطر الشديد و«التقيّة» من خلفاء بني العباس يقول «والله لئن أفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إِليّ من أن تضرب عنقي»(2).

مع أنّه لا القتل محبوب ولا هو أمر حسن بنفسه، ولا عدم الوصول أبداً، ولا

_____________________________

1 ـ اُنظر الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وتفسير مجمع البيان في هذا الصدد.

2 ـ وسائل الشيعة، الجزء 7، ص 95، كتاب الصوم باب 57.

[19]

أمثالهما.

3 ـ تعبير لوط (أليس منكم رجل رشيد) في آخر كلامه مع قومه المنحرفين يكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ وجود رجل ـ ولو رجل واحد رشيد ـ بين قوم ما وقبيلة ما يكفي لردعهم من أعمالهم المخزية، أي لو كان فيكم رجل عاقل ذو لبّ ورشد لمّا قصدتم بيتي ابتغاء الإِعتداء على ضيفي!

هذا التعبير يوضح بجلاء أثر «الرّجل الرّشيد» في قيادة المجتمعات الإِنسانية، وهو الواقع الذي وجدنا نماذج كثيرة منه على امتداد التاريخ.

4 ـ من العجيب أنّ هؤلاء القوم المنحرفين الضالين قالوا للوط: (ما لنا في بناتك من حق) وهذا التعبير كاشف عن غاية الإِنحراف في هذه الجماعة، أي أنّ مجتمعاً منحرفاً ملوثاً بلغ حدّاً من العمى بحيث يرى الباطل حقّاً والحقّ باطلا!!

فالزواج من البنات المؤمنات الطاهرات لا يعدّ حقاً عندهم، وعلى العكس من ذلك يعدّ الإِنحراف الجنسي عندهم حقّاً.

إِنّ الإِعتياد والتطبع على الإِثم والذنب يكون في مراحله النهائية والخطرة عندما يُتصور أنّ أسوأ الأعمال وأخزاها هي «حق عند صاحبها» وأنّ أنقى الإِستمتاع الجنسي وأطهره أمرٌ غير مشروع.

5 ـ ونقرأ في حديث للإِمام الصّادق(عليه السلام) في تفسير الآيات المتقدمة أنّ المقصود بالقوّة هو القائم من آل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ «الركن الشديد» هم أصحابه الذين عددهم (313) شخصاً(1).

وقد تبدو هذه الرّواية عجيبة وغريبة إِذ كيف يمكن الإِعتقاد أنّ لوطاً كان يتمنّى ظهور مثل هذا الشخص مع أصحابه المشار إِليهم آنفاً.

ولكن التعرف على الرّوايات الواردة في تفسير آيات القرآن حتى الآن يعطينا مثل هذا الدرس، وهو أنّ قانوناً كلياً يتجلى غالباً في مصداقه البارز، ففي

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 228.

[20]

الواقع إِنّ لوطاً كان يتمنّى أن يجد قوماً ورجالا لديهم تلك القدرة والقوّة الروحيّة والجسمية الكافية لإِقامة حكومة العدل الإِلهية ... كما هي موجودة في أصحاب المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» الذين يشكلون حكومة عالمية حال ظهور الإمام المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» وقيامه، لينهض بهم ويواجه الإِنحراف والفساد فيزيله عن بكرة أبيه ويبير هؤلاء القوم الذين لا حياء لهم.

* * *

[21]

الآيات

قَالُوا يَـلُوطُ إِنَّا رُسُلُ ر َبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْع مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب(81) فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيل مَّنضُود(82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِىَ مِنَ الظَّـلِمينَ بِبَعِيد(83)

التّفسير

عاقبة الجماعة الظّالمة:

وأخيراً حين شاهد الملائكة (رسل الله) الأضياف ما عليه لوط من العذاب النفس كشفوا «ستاراً» عن أسرار عملهم و(قالوا يا لوط إِنّا رسل ربّك لن يصلوا إِليك).

الطريف هنا أنّ ملائكة الله لم يقولوا: لن يصلنا سوء وضرر، بل قالوا: لن يصلوا إِليك يا لوط فيؤذوك ويسيؤوا إِليك!

وهذا التعبير إِمّا لأنّهم كانوا يحسبون أنّهم غير منفصلين عن لوط لأنّهم

[22]

أضيافه على كل حال، وهتك حرمتهم هتك لحرمة لوط. أو لأنّهم أرادوا أن يفهموا لوطاً بأنّهم رسل الله، وأنّ عدم وصول قومه إِليهم بالإِساءة أمر مسلّم به، بل حتى لوط نفسه الذي هو رجل من جنس أُولئك لن يصلوا إِليه بسوء، وذلك بلطف الله وفضله.

نقرأ في الآية (37) من سورة القمر(ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم)وهذه الآية تدل على أن هؤلاء الجماعة الذين أرادوا السوء بأضياف لوط، فقدوا بصرهم بإذن الله، فلم يستطيعوا الهجوم عليهم. ونقرأ في بعض الرّوايات ـ أيضاً ـ أنّ أحد الملائكة غشّى وجوههم بحفنة من التراب فعموا جميعاً.

وعلى كل حال، فاطلاع لوط(عليه السلام) على حال أضيافه ومأموريتهم نزل كالماء البارد على قلبه المحترق وأحسّ بلحظة واحدة أن ثقلا كبيراً من الغمّ والحيرة قد أُزيل عن قلبه، وأشرقت عيناه بالسرور والبهجة، وعلم أنّ مرحلة الغم والحيرة اشرفت على الإِنتهاء، ودنا زمن السرور والنجاة من مخالب هؤلاء القوم المنحرفين المتوحشين.

ثمّ أمر الأضيافُ لوطاً ـ مباشرة ـ أن يرحل هو وأهله من هذه البلدة وقالوا: (فأسر بأهلك بقطع من الليل)(1).

ولكن كونوا على حذر (ولا يلتفت منكم أحد) إِلى الوراء (إِلاّ امرأتك فإنّه مصيبها ما أصابهم) لتخلّفها عن أمر الله وعصيانهم مع العُصَاة الظَلَمَة.

وفي قوله تعالى: (لا يلتفت منكم أحد) عند المفسّرين احتمالات عديدة.

الأوّل: لا ينظر أحد إِلى ورائه مديراً وجهه إِلى الخلف.

الثّاني: لا تفكروا بما تركتم خلفكم من الأموال ووسائل المعاش، إِنّما عليكم

_____________________________

1 ـ «أسر» مشتق من «الإِسراء» وهو المسير ليلا، وذكر الليل في الآية من باب توكيد الموضوع، والقطع معناه ظلمة الليل، إشارة إِلى أن يتحرك والناس نيام أو مشغولون عنه بالشراب وحلك الليل ليخرج وهم في غفلة عنه.

[23]

أن تنجوا أنفسكم من الهلاك.

الثّالث: لا يتخلف منكم أحد عن هذه القافلة الصغيرة.

الرّابع: إِنّ الأرض ستضطرب حال خروجكم وستبدأ مقدمات العذاب فاهربوا بسرعة ولا تلتفتوا إِلى الوراء ...

ولكن لا مانع من الجمع بين هذه الإِحتمالات كلها في الآية(1).

وخلاصة الأمر فإنّ آخر ما قاله رسل الله ـ أي الملائكة ـ للوط(عليه السلام): إِنّ العذاب سينزل قومه صباحاً. ومع أوّل شعاع للشمس سيحين غروب حياة هؤلاء: (إِنّ موعدهم الصبح).

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ الملائكة حين وعدوا لوطاً بنزول العذاب صباحاً، سأل لوط الملائكة لشدة ما لقيه من قومه ممّا ساءَه، وجرح قلبه وملأه همّاً وغمّاً أن يعجلوا عليهم بالعذاب في الحال فإنّ الأفضل الإِسراع، ولكن الملائكة طمأنوه وسرّوا عنه بقولهم: (أليس الصبح بقريب).

وأخيراً دنت لحظة العذاب وتصرّمت ساعات انتظار لوط النّبي(عليه السلام)، وكما يقول القرآن الكريم (فلمّا جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود).

وكلمة «سجّيل» فارسية الأصل، وهي مركبة من «سنك» ومعناها الحجارة و«گِل» ومعناها الطين، فعلى هذا هي شيء صلباً كالحجارة ولا رخواً كالزهرة،

_____________________________

1 ـ في قوله (إِلاَّ امرأتك) هذا الإِستثناء من أي جملة هو؟ للمفسّرين احتمالان: «الأوّل» إنّه يعدّ استثناء من (لاَ يلتفت منكم أحد) ومفهومها أنّ لوطاً وأهله بما فيهم امرأته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم أحد كما أمرهم الرسل، إِلا امرأة لوط فإنّها بحكم علاقتها بقوم لوط وتأثرها على مصيرهم، وقفت لحظة ونظرت إِلى الوراء، وطبقاً لبعض الرّوايات أصابها حجر من الأحجار التي كانت تهوي على المدينة فقُتلت به. «الثاني» إنّه استثناء من جملة (فأسر بأهلك) فيكون معناها أنّ جميع أهله ذهبوا معه ولكن امرأته بقيت في المدينة ولم يأخذها لوط معه، ولكن الإِحتمال الأوّل أنسَبُ.

[24]

وإِنّما هي برزخ «وسط» بينهما.

و«المنضود» من مادة «نضد» ومعناه كون الشيء مصفوفاً وموضوعاً بشكل متتابع ومتراكم، أي إِنّ هذا المطر كان متتابعاً سريعاً إِلى درجة حتى كأنّ هذه الأحجار تتراكب بعضها فوق بعض فتكون «منضودة».

ولكن هذه الأحجار ليست أحجاراً عادية، بل هي أحجار فيها علامات عندالله (مسوّمة عند ربّك).

ولا تتصوروا أنّ هذه الأحجار مخصوصة بقوم لوط، بل (وما هي من الظالمين ببعيد).

هؤلاء القوم المنحرفون ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم، لعبوا بمصير أُمتهم كما هزئوا بالإِيمان والأخلاق الإِنسانيّة، وكلّما نصحهم نبيّهم باخلاص وحرقة قلب لم يسمعوا له وسخروا منه، وبلغت صلافتهم وعدم حيائهم حدّاً أنّهم أرادوا الاعتداء على ضيوف زعيمهم ويهتكوا حرمتهم.

هؤلاء الذين كانوا قد قلبوا كل شيء يجب أن تنقلب مدينتهم عليهم، ولا يكفي أن يغدو عليها سافلها، بل ليُمطروا بوابل من الأحجار تدمّر كل شيء من «معالم الحياة» هناك ولا يبقى منهم سوى صحراء موحشة وقبور مظلمة تحت ركام الأحجار الصغيرة.

وهل أنّ الذين ينبغي معاقبتهم هم قوم لوط فحسب؟ قطعاً لا. فكل جماعة منحرفة وأُمّة ظالمة ينتظرها مثل هذا المصير، فتارة تكون تحت وابل الأحجار، وأُخرى تحت ضربات القنابل المحرقة، وحيناً تحت ضغط الإِختلافات الإِجتماعية القاتلة، وأخيراً فإنّ لكلٍّ شكلا من العذاب وصورة معينة.

* * *

[25]

ملاحظات

1 ـ لِمَ كان العذاب صباحاً؟

ملاحظة الآيات المتقدمة تثير في ذهن القارىء هذا السؤال، وهو أيّ أثر للصبح في هذا الأمر، ولِمَ لم ينزل العذاب في قلب الليل البهيم؟!

ترى هل كان ذلك لأنّ الجماعة الذين هجموا على دار لوط فعموا وعادوا إِلى قومهم وحدثوهم بما جرى لهم، فحينئذ فكر أُولئك بما حدث! وإِنّ الله أمهلهم إِلى الصباح لعلهم ينتبهون ويتوبون؟

أو أنّ الله لم يرد الاغارة عليهم في الليل، ولذلك فقد أمر الملائكة أن ينتظروا حتى يحين الصباح؟!

لم يرد في كتب التّفسير شيء من هذا، ولكنّ ما ذكرناه آنفاً احتمالات تستحق المطالعة.

2 ـ لَمِ قلب الله عاليها سافلها؟

قلنا: إِنّ العذاب ينبغي أن يتناسب مع الإِثم، وحيث أنّ هؤلاء القوم قلبوا كل شيء عن طريق الإِنحراف الجنسي فإنّ الله جعل مدنهم عاليها سافلها أيضاً، وحيث كانوا دائماً يتقاذفون بالكلمات البذيئة فيما بينهم، فإنّ الله امطرهم بحجارة لتتهاوى على رؤوسهم أيضاً.

3 ـ لماذا الوابل من الأحجار؟!

وهل كان إِمطارهم بالأحجار الصغيرة قبل انقلاب المدن، أو كان مقترناً ومتزامناً معها، أو بعدها؟!

هناك أقوال بين المفسّرين، والآيات القرآنية لم تصرّح بشيء في هذا الشأن أيضاً، لأنّ الجملة عُطفت بالواو، وهي لمطلق العطف ولا يستفاد منها الترتيب.

[26]

ولكن بعض المفسّرين ـ كصاحب المنار ـ يعتقد أنّ مطر الاحجار إِمّا أن يكون قبل أن يقلب عاليها سافلها، أو مقترن مع القلب، وذلك لينال بعض الافراد الذين التجأوا إِلى زاوية أو معزل ولم يدفنوا تحت الأنقاض جزاءهم العادل ولا تبقى لهم فرصة للهروب.

والرّواية التي تقول: إِنّ أمرأة لوط حين سمعت الصوت والتفتت لترى ما حدث أصابها حجر في الحال فقتلها، هذه الرّواية تدل على أنّ الأمرين «القلب ووابل المطر» حدثا مقترنين.

ولكن لو تجاوزنا عن ذلك فما يمنع أن يكون وابل الأحجار ـ لتشديد العذاب ـ بعد قلب المدن عاليها سافلها، لتتوارى أرضهم وتنمحى آثارها تماماً.

4 ـ لماذا العلامة المتميّزة؟!

قلنا: إِنّ جملة (مسوّمة عند ربّك) تفهمنا هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ هذه الأحجار كانت ذوات علائم خاصّة ومميّزة عند الله سبحانه ... ولكن كيف كانت علاماتها؟ هناك أقوال بين المفسّرين ... فقال بعضهم: كان في هذه الأحجار علامات تدل على أنّها ليست كسائر الأحجار «العادية» بل هي خاصّة لنزول العذاب الإِلهي لئلا تختلط مع سقوط الأحجار الأُخرى، ولذا قال آخرون: إِنّ هذه الأحجار لم يكن لها شبه مع أحجار الأرض بل تدل مشاهدة وضعها على أنّها أحجار سماويّة نزلت إِلى الكرة الأرضية من خارجها.

وقال آخرون: هي علامات في علم الله، إِنّ كل حجر منها يصيب شخصاً بعلامته أو يستهدف نقطة معينة، وهي إِشارة إِلى دقة الحساب في عقاب الله وجزائه بحيث يعلم أيَّ شخص يصيبه أي حجر! وليس المسألة اعتباطيّة.

[27]

5 ـ تحريم الإِنحراف الجنسي

يُعدّ الميل الجنسي إِلى المماثل «سواء وقع ذلك بين الرجال أو بين النساء» من الذنوب الكبيرة في الإِسلام، وقد جعل الإِسلام لكل من الحالتين حداً شرعياً.

فالحدّ الشرعي في «اللواط» هو القتل فاعلا كان الرجل أم مفعولا. وهناك طرق مبيّنة لهذا القتل في الفقه الإِسلامي، ويجب أن يعوّل على طرق معتبرة وقطعية لإِثبات هذا الذنب وردت في الفقه الاسلامي وروايات المعصومين في هذا المجال. فلا يكفي لإِقامة الحد الشرعي ـ وهو القتل هنا ـ حتى إقرار المذنب على نفسه ثلاث مرات، بل يجب أن يقرّ على نفسه أربع مرات على الأقل.

وأمّا الحدّ على المرأة في عملية المساحقة فيكون بعد الإِقرار بالذنب على نفسها أربع مرات، أو شهادة أربعة شهود «وبالشرائط المذكورة في الفقه» مئة جلدة، وقال بعض الفقهاء، إِذا كانت المرأة التي تقوم بهذا العمل الشنيع ذات بعل فحدّها القتل.

وإِقامة هذه الحدود لها شرائط دقيقة ذكرت في كتب الفقه الإِسلامي.

والرّوايات التي تذم الميل الجنسي إلى المماثل والمنقولة عن قادة الإِسلام كثيرة ومذهلة والمطالع لهذه الرّوايات يحسُّ أنّ قبح هذا الذنب ليس له مثيل بين الذنوب.

نقرأ مثلا من هذه الرّوايات رواية عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لمّا عمل قوم لوط ما عملوا بكت الأرض إِلى ربّها حتى بلغت دموعها السّماء، وبكت السّماء حتى بلغت دموعها العرش، فأوحى الله إِلى السّماء أن أحصبيهم وأوحى إِلى الأرض أن اخسفي بهم»(1).

ونقرأ في حديث للإِمام الصادق أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من جامع غلاماً جاء

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 231.

[28]

يوم القيامة جنباً لا ينقّيه ماء الدنيا، وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيراً. ثمّ قال: إِن الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك»(1).

ونقرأ في حديث للإِمام الصادق(عليه السلام) «.... والعامل على هذا من الرجال إِذا بلغ أربعين سنة لم يتركه، وهم بقية سدوم. أمّا إِني لست أعني بهم أنّهم بقيتهم أنّهم ولدهم، ولكنّهم من طينتهم، قال: قلت: سدوم التي قُلبت، قال: هي أربع مدائن «سدوم وصريم والدما وغميرا»... أو [ولدنا وعموّرا] الخ ... .(2).

ونقرأ في رواية أُخرى عن الإِمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»(3).

فلسفة تحريم الميول الجنسية لأمثالها

بالرغم من أنّ العالم الغربي مليء بالإِنحرافات الجنسية، وأنّ هذه الأعمال السئية قد باتت متعارفة بحيث سمع أنّ بعض الدول كبريطانيا وطبقاً لقانون صدر بكل وقاحة من المجلس النيابي «البرلمان» فيها يجوز هذا الموضوع «اللواط أو السحاق» ولكن شيوع هذه المنكرات لا يخفف من قبحها ومن مفاسدها الأخلاقية والإِجتماعية والنفسية.

بعض أتباع المذاهب المادّيه الذين تلوّثوا بمثل هذه المنكرات يقولون: نحن لا نجد محذوراً طبيّاً في هذا الامر.

ولكنّهم لم يلتفتوا لى أنّ كل انحراف جنسي له أثره السلبي في روحية الإِنسان وبنائه النفسي يفقده توازنه.

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 14، ص 249.

2 ـ وسائل الشيعة، ج14، ص 253.

3 ـ وسائل الشيعة، ج 14، ص 255.

[29]

توضيح ذلك، أنّ الإِنسان الطبيعي والسليم يميل إِلى المخالف من جنسه، أي أنّ الرجل يميل إِلى المرأة، والمرأة تميل إِلى الرجل، وهذا الميل ن أشدّ الغرائز المتجذرة فيه، والضامن لبقاء نسله، فأيّ عمل يؤدّي إِلى تحوير هذا الميل الطبيعي عن مساره فسيوجد نوعاً من المرض والإِنحراف النفسي في الإِنسان.

فالرجل الذي يميل إِلى نظيره من جنسه، ليس رجلا كاملا، وقد عُدّ هذا الإِنحراف في كتب الأُمور الجنسية «هموسكواليسيم» أي الميل الجنسي للمماثل من أهم الإِنحرافات.

والإِستمرار على هذا العمل وإدامته يميت في الفرد الميل الجنسي إِلى المخالف. والشخص الذي يسلّم نفسه لممارسة هذا العمل معه يشعر شيئاً فشيئاً «بإحساسات المرأة» ويورث هذا العمل الطرفين «الفاعل والمفعول» ضعفاً مفرطاً في الجنس حتى أنّه لا يستطيع بعد مدّة على المعاشرة الطبيعية مع جنسه المخالف.

ومع ملاحظة أنّ الإِحساسات الجنسيّه [بالنسبة للرجل والمرأة] لها تأثيرها في أعضاء بدن كل منهما، كما أنّ لها تأثيرها على روحية كلٍّ منهما وأخلاقه. تتّضح أنّ فقدان الإِحساسات الطبيعية إِلى أي درجة سيؤثر على روح الإِنسان وجسمه حتى أنه من الممكن أن يبتلى الأفراد هؤلاء بالضعف الجنسي الذي يؤدّي إِلى عدم القدرة على الإِنجاب والتوليد.

وهؤلاء الأشخاص ـ غالباً ـ ليسوا أصحاء من الناحية النفسيّة، ويحسون في داخلهم أنّهم غرباء عن أنفسهم وغرباء عن مجتمعهم ... ويفقدون بالتدريج القدرة على الإِرادة التي هي أساس لكم نجاح وشرط من شروطه، ويتكرس في روحهم نوع من الإِضطراب والقلق.

وإذا لم يصمموا على إِصلاح أنفسهم فوراً، ولم يستعينوا عند الضرورة والحاجة بالطبيب النفسي أو الطبيب الجسمي فسيغدو هذا العمل عندهم عادة

[30]

يصعب تركها، فمن وعلى كلِّ حال، فإنّ أي وقت لترك هذا العمل القبيح لا يعدّ خارجاً عن أوانه، بل لابدّ من التصميم الجاد.

ولا ريب أنّ الحيرة والإِضطراب النفسي قد يجرّ هؤلاء إِلى استعمال المواد المخدرة والمشروبات الكحولية، كما يجرّهم إِلى انحرافات أخلاقية أُخرى، وهذا بنفسه شقاء عظيم.

الطريف أنّنا نقرأ في الرّوايات الإِسلامية عبارة موجزة وذات معنى كبير تشير إِلى هذه المفاسد، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّ رجلا سأله: لم حرّم الله اللواط؟ فقال سلام الله عليه: «من أجل أنّه لو كان إِيتان الغلام حلالا لإستغنى الرجال عن النساء وكان فيه قطع النسل وتعطيل الفروج وكان في اجازة ذلك فَساد كبير»(1).

وما يجدر ذكره أنّ أحد العقوبات الشرعية لهذا العمل أنّ الإِسلام حرم الزواج من أخت المفعول وأُمّه وبنته على الفاعل، أي إذا تحقق اللواط قبل الزواج فعندئذ يحرم الزواج منهنّ حرمة مؤبدة.

وآخر ما ينبغي التذكير به هنا من المسائل الدقيقة، أن جرّ الأفراد إِلى مثل هذا الإِنحراف الجنسي له أسباب وعلل مختلفة، حتى من ضمنها أحياناً طريقة التعامل والمعاشرة من قبل الوالدين مع أبنائهما، أو الغفلة عنهم وعدم مراقبة من معهم من بني جنسهم، وطريقة معاشرتهم ومنامهم معاً في بيت واحد، كل ذلك له أثره الفاعل في هذا التلوّث والإِنحراف.

نحن نقرأ في أحوال قوم لوط أنّ سبب انحرافهم وتلوثهم بهذا الذنب أنّهم كانوا قوماً بخلاء، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ولم يكونوا ليرغبوا في استضافة العابرين من المسافرين، كانوا يوحون إِليهم بداية الأمر أنّهم يريدون أن يعتدوا عليهم جنسياً ليفرّ منهم الضيوف والمسافرون،

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 14، ص 252.

[31]

ولكنّ هذا العمل أصبح بالتدريج مألوفاً عندهم ونما عندهم الإِنحراف الجنسي وبلغ عملهم حدّاً أنّهم تلوّثوا بالآثام من قرنهم إِلى قدمهم(1).

وربّما جرّ المزاح غير المناسب بين الذكور أو بين الإِناث إِلى هذا الإِنحراف، فعلى كل حال، ينبغي ملاحظة هذه المسائل بدقة إِنقاذ المنحرفين والملوّثين بهذا الذنب بسرعة، ويطلب من الله التوفيق في هذا السبيل.

أخلاق قوم لوط:

ونقرأ في الرّوايات والتواريخ الإِسلامية أعمالا سيئة كانت عند قوم لوط سوى الإِنحراف الجنسي المشار إِليه، ومن هذه الأعمال ما ورد في «سفينة البحار» حيث نقرأ مايلي:

... قبل كانت مجالسهم، تشتمل على أنواع المناكير مثل الشتم والسخف والصفع والقمار وضرب المخراق وخذف الأحجار على من مرّ بهم، وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات(2).

وواضح أنّ الإِنحراف في مثل هذه البيئة وأعمال السوء تأخذ أبعاداً جديدة كل يوم، وبغض النظر عن قبح الأعمال السيئة ـ أساساً ـ تبلغ الحال درجةً لا يُرى عندها أي عمل في نظر تلك البيئة سيّئاً أو منكراً.

ويوجد في عصر تقدم العلوم من هم أشقى من قوم لوط حيث يسلكون نفس ذلك السبيل وقد تصل أعمال هؤلاء المخزية إِلى درجة ننسى عندها أعمال قوم لوط ... .

* * *

_____________________________

1 ـ البحار، ج 12، ص 147.

2 ـ سفينة البحار، ص 517.

[32]

الآيات

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُم بِخَيْر وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم مُّحِيط(84) وَيَـقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ  وَلاَ تَعْثَوْا فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ(85) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنينَ وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفيظ(86)

التّفسير

مدين بلدة شعيب ...

مع انتهاء قصّة قوم لوط تصل النوبة إِلى قوم شعيب وأهل مدين، أُولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام، ولم يعبدوا الأصنام فحسب، بل الدّرهم والدينار والثروة والمال، ومن أجل ذلك فإنّهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.

في بداية القصّة تقول الآيات (وإِلى مدين أخاهم شعيباً) وكلمة «أخاهم» كما أشرنا إِليها سابقاً تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قِبَل

[33]

الأنبياء لقومهم، لا لأنّهم أفراد قبيلته وقومه فحسب، بل إِضافةً إِلى ذلك فإنّه يريد الخيرَ لهم. ويتحرق قلبه عليهم، فمثله مثل الأخ الودود.

و«مدين» على وزن «مريم» اسم لمدينة شعيب وقبيلته، وتقع المدينة شرق خليج العقبة، وأهلها من أبناء إِسماعيل، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان وفلسطين.

ويطلق اليوم على مدينة «مدين» اسم «معّان» ولكن بعض الجغرافيين أطلقوا اسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.

وورد في التوراة أيضاً اسم «مديان» ولكن تسمية لبعض القبائل، وطبيعي أنّ اطلاق الاسم على المدينة وأهلها أمر رائج(1).

هذا النّبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه ـ كأي نبيّ في أُسلوبه وطريقته في بداية الدعوة ـ دعاهم أوّلا إِلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو «التوحيد» وقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إِله غيره).

لأنّ الدعوة إِلى التوحيد دعوة إِلى هزيمة جميع «الطواغيت» والسُنَن الجاهلية ولا يتيسر أيّ إِصلاح اجتماعي أو أخلاقي بدونه.

ثمّ أشار إِلى أحد المفاسد الإِقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذ جدّاً، وقال: (ولا تنقصوا المكيال)أي حال البيع والشراء.

و«المكيال» و«الميزان» من ادوات الوزن يعرف بهما وزن المبيع ومقداره، ونقصانه يعني عدم إِيفاء حقوق الناس والبخس في البيع.

ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في أعمالهم ونموذجاً للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.

ويشير هذا النّبي العظيم بعد هذا الأمر إلى علّتين:

_____________________________

1 ـ أعلام القرآن، ص 573.

[34]

العلّة الأُولى: هي قوله (إِنّي أراكم بخير).

يقول أوّلا: إِنّ قبول نصحي يكون سبباً لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الجملة (إِنّي أراكم بخير) أنّ شعيباً يقول لهم: إِنّي أراكم منعمين وفي خير كثير، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام وإضاعة حقوق الناس والكفر بدلا من الشكر على نعم الله سبحانه.

وثانياً: (وإِنّي أخاف عليكم عذاب يوم محيط) بسبب إِصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة ... الخ.

وكلمة «محيط» جاءت صفة ليوم، أي يوم شامل ذو إِحاطة، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم، وهذا التعبير فيه إِشارة إِلى عذاب الآخرة كما يشير إِلى عقاب الدنيا الشامل.

فعلى هذا لا أنتم بحاجة إِلى مثل هذه الأعمال، ولا ربّكم غافل عنكم، فينبغي اِصلاح أنفسكم عاجلا.

والآية الأُخرى تؤكّد على نظامهم الإِقتصادي، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال، فهنا يدعوهم إِلى إِيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط).

ويجب أن يحكم هذا الأصل «وهو اقامة القسط والعدل، وإِعطاء كل ذي حقّ حقه» على مجتمعكم بأسره.

ثمّ يخطو خطوة أوسع ويقول: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) و«البخس» ومعناه في اللغة التقليل، وجاء هنا بمعنى الظلم أيضاً. ويطلق على الأراضي المزروعة دون سقي «إِنّها بخس» لأنّ ماءها قليل، حيث تعتمد على ماء المطر فحسب، أو أنّ هذه الأراضي قليلة الإِنتاج بالنسبة إِلى الأراضي الزراعية الأُخرى.

[35]

وإِذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة إِلى رعاية جميع الحقوق الفردية والإِجتماعية ولجميع الملل والنحل، ويظهرُ «بخس الحق» في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحياناً، والتعاون وإِعطاء قرض معين (كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا).

ونجد في نهاية الآية أنّ شعيباً يخطو خطوةً أُخرى أوسع ويقول لقومه: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).

فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والإِعتداء على حقوق الآخرين، والفساد أيضاً يقع في الإِخلال بالموازين والمقاييس الإِجتماعيّة، ويقع أيضاً ببخس الناس أشياءهم وأموالهم، وأخيراً يقع الفساد على الحيثيات بالإِعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.

وجملة (لا تعثوا) معناها «لا تفسدوا» بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد التوكيد على هذا الموضوع.

إِنّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء، وهي أنّه بعد الإِعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح، يُنظر إِلى الإِقتصاد السليم بأهمية خاصّة، كما تدلاّن على أنّ الإِخلال بالنظام الإِقتصادي سيكون أساساً للفساد الوسيع في المجتمع.

ثمّ يخبرهم أنّ زيادة الثروة ـ التي تصل إِلى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين ـ ليست هي السبب في غناكم، بل ما يغنيكم هو (بقيّة الله خير لكم إِنّ كنتم مؤمنين).

التعبير بـ(بقية الله) إِمّا لأنّ الربح الحلال القليل المترشح عن أمر الله فهو «بقية الله» وإِمّا لأنّ الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم الله وبقاء البركات ... وإِمّا لأنّه يشير إِلى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى إِلى الأبد. فإنّ الدنيا فانية وما فيها لا محاله فان، وتشير الآية (46) من سورة الكهف: (والباقيات الصالحات خير عند ربّك ثواباً وخير أملا) إِلى هذا المضمون أيضاً. والتعبير

[36]

بقوله: (إِنّ كنتم مؤمنين) إِشارة إِلى أنّ هذه الواقعية لا يعرفها إِلاّ المؤمنون بالله وحكمته وفلسفة أوامره.

ونقرأ في روايات متعددة في تفسير (بقية الله) أنّ المراد بها وجود المهدي عجل الله فرجه الشريف، أو بعض الأئمّة الآخرين، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في كتاب إِكمال الدين:

«أوّل ما ينطق به القائم(عليه السلام) حين يخرج هذه الآية (بقية الله خير لكم إِنّ كنتم مؤمنين) ثمّ يقول: أنا بقية الله وحجّته وخليفته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلم إِلاّ قال: السّلام عليك يا بقية الله في أرضه»(1).

وقد قلنا مراراً إِنّ آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصّة، إِلاّ أنّها تحمل مفاهيم جامعة وكلية، بحيث يمكن أن تكون أثر مصداقاً في العصور والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع أيضاً.

صحيح أنّ المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب، والمراد من (بقية الله) هو الربح ورأس المال الحلال أو الثواب الإِلهي، إِلاّ أنّ كل موجود نافع باق من قبل الله للبشرية، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ (بقية الله) أيضاً.

فجميع أنبياء الله ورسله المكرمين هم (بقية الله) وجميع القادة الحقّ الذين يبقون بعد الجهاد المرير في وجه الأعداء فوجودهم في الأُمّة يُعدّ (بقية الله)وكذلك الجنود المقاتلون إذا عادوا إِلى ذويهم من ميدان القتال بعد انتصاهم على الأعداء فهم «بقية الله» ومن هنا فإنّ «المهدي الموعود»(عليه السلام) آخر إِمام وأعظم قائد ثوري بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجلى مصاديق (بقية الله) وهو أجدر من سواه بهذا اللقب، خاصّة أنّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام).

وفي نهاية الآية ـ محل البحث ـ نقرأ على لسان شعيب (وما أنا عليكم بحفيظ) إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسؤولا على «إِجبار» أحد أبداً.

* * *

_____________________________

1 ـ نقلا عن تفسير الصافي، في شرح المتقدمة.

[37]

الآيات

قَالُوا يَـشُعَيْبُ أَصَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَلِنَا مَا نَشَـؤُا إِنَّكَ لاََنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)قَالَ يَـقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَـكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الاِْصْلَـحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(88) وَيَـقُوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوح أَوْ قَوْمَ هُود أَوْ قَوْمَ صَـلِح وَمَا قَوْمُ لُوط مِّنكُم بِبَعِيد(89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ(90)

التّفسير

المنطق الواهي:

والآن فَلْنَرَ ما كان ردّ القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السّماوي «شعيب».

[38]

فبما إنّهم كانوا يتصورون أنّ عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح، ودلالة على أصالة ثقافتهم، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح الوفير عن هذا الطريق قالوا (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا)ونترك حريتنا في التصرف بأموالنا فلا نستطيع الإِستفادة منها (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) إِن هذا بعيد منك (إِنّك أنت الحليم الرشيد)؟!

وهنا ينقدح هذا السؤال وهم لِمَ سألوه عن الصلاة وأظهروا اهتمامهم بها؟!

قال بعض المفسّرين: كان ذلك لأنّ شعيباً كان يكثر من صلاته ويقول للناس:

إِنّ الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكرات.

ولكن هؤلاء الأغبياء الذين لم يعرفوا السرّ والعلاقة بين الصلاة وترك المنكرات، كانوا يسخرون من شعيب وكانوا يقولون له: أهذه الأذكار والأوراد والحركات التي تقوم بها تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ونهمل سنّة السلف وثقافتنا التقليدية أو أن نسلب اختيارنا من التصرف بأموالنا كيف شئنا؟!

واحتمل البعض أنّ «الصلاة» إشارة إِلى العقيدة والدين، لأنّها عبارة عن المظهر البارز للدين.

وعلى كل حال لو كان أُولئك يفكرون جيداً لأدركوا هذا الأمر الواقعي وهو أنّ الصلاة توقظ في الإِنسان الإِحساس بالمسؤولية والتقوى ومخافة الله ومعرفة الحقوق، وتذكره بالله وبمحكمة عدل الله، وتنفض عن قلبه غبار حبّ الذات وعبادة الذات! وتصرفه عن هذه الدنيا المحدودة والملوّثة إِلى عالم ما وراء الطبيعة، إِلى عالم الصالحات وتزكية النفس، ولذلك فهي تخلّصه من الشرك وعبادة الأصنام والتقليد الأعمى للسلف الجاهل وبخس الناس أشياءهم، وعن أنواع الغش والخداع ... الخ.

كما ينقدح هنا سؤال آخر، وهو: إِنّ قولهم لشعيب (إِنّك لأنت الحليم

[39]

الرشيد)هل كان كلاماً واقعياً من منطلق الإِيمان به، أم هو على سبيل الإِستهزاء والسخرية؟!

احتمل المفسّرون الوجهين ولكن مع ملاحظة أسلوب سؤالهم (أصلاتك تأمرك) الذي يستبطن الإِستهزاء، يظهر أنّ هذه الجملة على نحو الإِستهزاء، وهي إِشارة إِلى أنّ الإِنسان الحليم الرشيد هو من لم يتعجل القول أو الرأي في أمر دون أن يسبر غوره ويعرف كنهه، والإنسان العاقل الرشيد هو من لم يسحق سنن قومه تحت رجليه ويسلب حريتهم في التصرف بأموالهم، فيظهر أنّك لم تسبر غور الأُمور وليس لديك عقل حصيف وفكر عميق، لأنّ الفكر العميق والعقل يوجبان على الإِنسان ألاّ يرفع يده عن طريقة السلف، ولا يسلب من الآخرين الإِختيار وحرية العمل.

ولكن شعيباً ردّ على من اتّهمه بالسفه وقلّة العقل بكلام متين و (قال يا قوم أرأيتم إِنّ كنت على بينة من ربّي ورزقني منه رزقاً حسناً)(1).

إنّه يريد أن يفهم قومه أنّ في عمله هذا هدفاً معنوياً وإِنسانياً وتربوياً، وأنّه يعرف حقائق لا يعرفها قومه، والإِنسان دائماً عدوّ ما جهل.

ومن الطريف أنّه في هذه الآيات يكرر عبارة (يا قوم) وذلك ليُعبّىء عواطفهم لقبول الحق وليشعرهم بأنّهم منه وأنّه منهم، سواء أكان المقصود بالقوم القبيلة أو الطائفة أو الجماعة أو الأُسرة، أم كان المقصود الجماعة التي كان يعيش وسطهم ويُعدّ جزءاً منهم.

ثمّ يضيف هذا النّبي العظيم قائلا: (وما أُريد أن أخالفكم إِلى ما أنهاكم عنه)فلا تتصوروا أنني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا المكيال، وأنا أبخس الناس أو أنقص المكيال، أو أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وأنا أفعل

_____________________________

1 ـ ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ جزاء الجملة الشرطية محذوف هنا وتقديره هكذا، أفأعدل مع ذلك عمّا أنا عليه من عبادته وتبليغ دينه.

[40]

ذلك كلّه، كلا فإنّني لا أفعل شيئاً من ذلك أبداً.

ويستفاد من هذه الجملة أنّهم كانوا يتهمون شعيباً بأنّه كان يريد الربح لنفسه، ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحةً ويقول تعقيباً على ما سبق (إِن أُريد إِلاّ الإصلاح ما استطعت).

وهذا هو هدف الأنبياء جميعاً، حيث كانوا يسعون إِلى إِصلاح العقيدة، وإِصلاح الأخلاق، وإِصلاح العمل، وإِصلاح العلائق والروابط الإِجتماعية وأنظمتها (وما توفيقي إِلاّ بالله) للوصول إِلى هذا الهدف.

وعلى هذا فإِنني، ولأجل أداء رسالتي والوصول إِلى هذا الهدف الكبير (عليه توكلت وإِليه أنيب).

وأسعى للإِستعانة به على حل المشاكل، وأتوكل عليه في تحمّل الشدائد في هذا الطريق، وأعود إِليه أيضاً.

ثمّ ينبههم إِلى مسألة أخلاقية، وهي أنّه كثيراً ما يحدث للإِنسان أنّه لا يعرف مصالحه وينسى مصيره، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر أو التعصب الأعمى واللجاجة في شيء ما، فيقول لهم (ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي)فتبتلوا بما ابتلى به غيركم و(أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح) وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث أمطرهم الله بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليها سافلها (وما قوم لوط منكم ببعيد) فلا زمانهم بعيد عنكم كثيراً، ولا مكان حياتهم، كما أنّ أعمالكم وذنوبكم لا تقل عن أعمالهم وذنوبهم أيضاً.

و«مدين» التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط، لأنّ الموطنين كلاهما كانا من مناطق «الشامات» وإِذا كان بينهما فاصل زمني، فلم يكن الفاصل بالمقدار الذي يستدعي نسيان تأريخه، وأمّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الإِنحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والإِنحراف

[41]

الإِقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإِخلال بالنظام الإِجتماعي وإِماتة الفضائل الخُلقية وإِشاعة الإِنحراف، ومن هنا نجد في الرّوايات أحياناً مقارنة الدرهم الربوي المرتبط ـ بالطبع ـ بالمسائل الإِقتصادية بالزنا الذي هو تلوّث جنسي(1).

ثمّ يأمر شعيب قومه الضالين بشيئين هما في الواقع ما كان يؤكّد عليه جميع الأنبياء المتقدمين.

الأوّل: قوله: (واستغفروا ربّكم) أي لتطهروا من الذنوب وتجتنبوا الشرك وعبادة الأوثان والخيانة في المعاملات.

والثّاني: قوله: (ثمّ توبوا إِليه) أي ارجعوا إِليه.

والواقع أنّ الإِستغفار توقف في مسير الذنب وغسل النفس، والتوبة عودة إِلى الله الكمال المطلق.

واعلموا أنّه مهما يكن الذنب عظيماً والوزر ثقيلا فإنّ طريق العودة إِليه تعالى مفتوح وذلك لأنّ (ربّي رحيم ودود).

وكلمة «الودود» صيغة مبالغة مشتقّة من الود ومعناه المحبّة، وذكر هذه الكلمة بعد كلمة «رحيم» إِشارة إِلى أنّ الله يلتفت بحكم رحمته إِلى المذنبين التائبين، بل هو إِضافة إِلى ذلك يحبّهم كثيراً لأنّ رحمته ومحبته هما الدافع لقبول الإِستغفار وتوبة العباد.

* * *

_____________________________

1 ـ ينبغي ذكر هذه المسألة أيضاً وهي أنّ جملة (لا يجرمنّكم) ذات احتمالين:

الأوّل: بمعنى لا يحملنكم، ففي هذه الصورة تكون على النحو التالي لا يجرمن فعل و(شقاقي) فاعله، و«كم» الضمير المتصل بالفعل مفعول به أوّل و(أن يصيبكم) مصدر مؤول مفعول ثان فيكون معنى الآية: يا قوم لا يحملنكم شقاقي (مخالفتكم إِياي) أن يصيبكم مصير كمصير قوم نوح وأمثالهم من الأقوام المذكورين.
الإِحتمال الثّاني: أنّ (لا يجرمنكم) أي لا يجرنكم إِلى الذنب والإِجرام، ففي هذه الصورة تكون الجملة على النحو التالي، و«لا يجرمن» فعلٌ و(شقاقي) فاعله و«كم» مفعوله و(أنى يصيبكم) نتيجته، ويكون معنى الآية كما ذكرناه في المتن.

[42]

الآيات

قَالُوا يَـشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـكَ وَمَآ أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز(91) قَالَ يَـقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(92) وَيَـقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَـمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَـذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ(93)

التّفسير

التّهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه:

إِنّ شعيباً هذا النّبي العظيم الذي لُقِّبَ بخطيب الأنبياء(1) لخطبة المعروفة والواضحة، والتي كانت أفضل دليل أمين للحياة المادّية والمعنوية لهذه الجماعة، واصل محاججته لقومه بالصبر والأناة والقلب المحترق، ولكن تعالوا لنرى كيف ردّ عليه هؤلاء القوم الضالون؟!

لقد أجابوه بأربع جمل كلّها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم:

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، مادة: شعيب.

[43]

فأوّلها: أنّهم قالوا: (يا شعيب ما نفقه كثيراً ممّا تقول) ... فكلامك أساساً ليس فيه أوّل ولا آخر، وليس فيه محتوى ولا منطق قيم لنفكر فيه ونتدبره وليس لديك شيء نجعله ملاكاً لعملنا، فلا ترهق نفسك أكثر! وامض الى قوم غيرنا...

والثّانية: قولهم (وإِنّا لنراك فينا ضعيفاً) فإذا كنت تتصور أنّك تستطيع إثبات كلماتك غير المنطقية بالقدرة والقوّة فانت غارق في الوهم.

والثّالثة: هي أنّه لا تظنّ أنّنا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفاً منك ومن بأسك، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك (ولولا رهطك لرجمناك)!

والطريف أنّهم عبّروا عن قبيلة شعيب: بـ «الرّهط» وهذه الكلمة تطلق في لغة العرب على الجماعة التي مجموع أنصارها ثلاثة الى سبعة، أو عشرة، أو على قول. وهو الحدّ الأكثر ـ تطلق على أربعين نفراً.

وهم يشيرون بذلك الى أنّ قبيلتك تتمتع بالقوة الكافية مقابل قوتنا، ولكن تمنعنا أمور أُخرى، وهذا يشبه قول القائل: لولا هؤلاء الأربعة من قومك وأُسرتك لأعطيناك جزاءك بيدك. في حين أنّ قومه وأسرته ليسوا بأربعة، بل المراد بيان هذه المسألة، وهي أنّهم لا أهمية لقدرتهم في نظر القائل.

وقولهم الأخير: (وما أنت علينا بعزيز) فمهما كانت منزلتك في عشيرتك، ومهما كنت كبيراً في قبيلتك إِلاّ أنّه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف والمرفوض.

ولكنّ شعيباً دون أن يتأثر بكلماتهم الرخيصة واتهاماتهم الواهية أجابهم بمنطقه العذب وبيانه الشائق متعجباً وقال: (يا قوم أرهطي أعزّ عليكم من الله)أفتذروني من أجل رهطي وقبيلتي التي لا تتجاوز عدّة أنفار ولا ينالني منكم سوء، فَلِمَ لا تصغون لكلامي في الله؟ وهل يمكن أن نقارن عدّة أفراد بعظمة الله

[44]

سبحانه ... وأنتم لم تهابوه وتوقّروه (واتخذتموه وراءكم ظهرياً)(1).

وفي الختام يقول لهم: لا تظنوا أنّ الله غافل عنكم أو أنّه لا يرى أعمالكم ولا يسمع كلامكم، بل (إنّ ربّي بما تعلمون محيط).

إِنّ المتحدّث البليغ هو من يستطيع أن يعرّف موقفه من بين جميع المواقف الى الطرف المقابل ويشخصه من خلال أحاديثه.

فحيث أنّ المشركين من قوم شعيب هددوهُ في آخر كلامهم بالرجم، وأبرزوا قوتهم أمامه، كان موقف شعيب من تهديداتهم على النحو التالي: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم(2) إِنّي عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه وارتقبوا إِنّي معكم رقيب)(3). أي انتظروا لتنتصروا علىّ بقواكم وجماعتكم وأموالكم، وأنا منتظر أيضاً أن يصيبكم الله بعذابه ويهلككم جميعاً.

* * *

_____________________________

1 ـ هناك في اللغة العربية أُسلوب يستعمل عند عدم الإِعتناء بشيء ما وذلك على نحو الكناية فيقال مثلا «جعلته تحت قدمي» أو يقال مثلا «جعلته دبر أذني» أو «جعلته وراء ظهري» أو «جعلته ظهرياً» و«الظهر» على زنة «قهر»، والياء بعده ياء النسبة وإِنّما كسرت الظاء فذلك لما يطرأ على الاسم المنسوب من تغيرات.

2 ـ المكانة: مصدر أو اسم مصدر ومعناه القدرة على الشيء.

3 ـ الرقيب: معناه الحافظ والمراقب وهو مشتق في الأصل من الرقبة وإِنّما سُمّي بذلك لأنّه يكون حافظاً على رقبة شخص ما «كناية عن أنّه مراقب على روحه» أو يحرك الرقبة ليؤدي دور الرقابة والحفظ.

[45]

الآيتان

وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دِيَـرِهِمْ جَـثِمِينَ(94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ(95)

التّفسير

عاقبة المفسدين في مدين:

قرأنا في قصص الأقوام السابقين مراراً، أنّ الأنبياء كانوا في المرحلة الأُولى يدعونهم الى الله ولم يألوا جهداً في النصيحة والإِبلاغ وبيان الحجّة، وفي المرحلة التي بعدها حيث لم ينفع النصح للجماعه ينذرها نبيّها ويخوّفها من عذاب الله، ليعود الى طريق الحق من فيه الإِستعداد ولتتم الحجّة عليهم، وفي المرحلة الثّالثة، وبعد أن لم يُغن أي شيء ممّا سبق ـ تبدأ مرحلة التصفية وتطهير الأرض، وينزل العقاب فيزيل الأشواك من الطريق.

وفي شأن قوم شعيب ـ أي أهل مدين ـ وصل الأمر الى المرحلة النهائية أيضاً، إذ يقول القرآن الكريم فيهم: (ولما جاء أمرنا نجيّنا شعيباً والذين آمنوا

[46]

معه برحمة منّا وأخذت الذين ظلموا الصّيحة).

«الصيحة» كما قلنا سابقاً معناها في اللغة كل صوت عظيم، والقرآن الكريم يحكي عن هلاك أقوام متعددين بالصيحة السّماوية، هذه الصيحة يحتمل أن تكون صاعقةً من السّماء أو ما شابهها، وكما بينا في قصّة ثمود «قوم هود» قد تبلغ الأمواج الصوتية حدّاً بحيث تكون سبباً لهلاك جماعة من الناس.

ثمّ يعقّب القرآن فيقول: (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) أي: أجساداً هامدة بلا روح، لتبقى أجسادهم هناك عبرة لمن اعتبر ...

وهكذا طُوي سجلّ وطومار حياتهم (كأنّ لم يغنوا فيها). وانطفأ بريق كل شيء، فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم.

وكما كانت نهاية عاد وثمود ـ وقد حكى عنهما القرآن ـ فهو يقول عن نهاية مدين أيضاً (ألا بعداً لمدين كما بعدث ثمود).

وواضح أنّ المقصود من كلمة «مدين» أهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة الله وكانوا من الهالكين.

دروس تربوية في قصّة شعيب:

إِنّ أفكار الأنبياء والوقائع التي جرت للاقوام السابقة تستلهم منها الأجيال التي بعدها، لأنّ تجارب حياة أُولئك الأقوام هي التي تمخضت عن عشرات السنين أو مئات السنين ... ثمّ نُقلت إِلينا في عدّة صفحات من «التاريخ» وكل فرد منّا يستطيع أن يستلهم العبر في حياته.

قصّة هذا النّبي العظيم «شعيب» فيها دروس كثيرة، ومن هذه الدروس ما يلي:

[47]

1 ـ أهمية المسائل الإِقتصادية

قرأنا في هذه القصّة أنّ شعيباً دعا قومه بعد التوحيد الى الحق والعدالة في الأُمور المالية والتجارية، وهذا نفسه يدل على أنّ المسائل الإِقتصادية في المجتمع لا يمكن تجاوزها وتهميشها. كما يدل على أنّ الأنبياء لم يؤمروا بالمسائل الأخلاقية فحسب، بل كانت دعوتهم تشكل «الإِصلاح» ... إِصلاح الوضع الإِجتماعي غير الجيد، وإِصلاح الوضع الإِقتصادي كذلك، حيث كانت هذه الأُمور من أهم الأُمور ـ عند الأنبياء ـ بعد التوحيد.

2 ـ لا ينبغي التّضحية بالأصالة من أجل التعصب

كما قرأنا في هذه القصّة فإنّ أحد العوامل التي دعت الى سقوط هؤلاء في أحضان الشقاء أنّهم نسوا الحقائق لحقدهم وعدائهم الشخصي، في حين أنّ الإِنسان العاقل والواقعي ينبغي أن يتقبل الحق من كل أحد حتى ولو كان من عدوّه.

3 ـ الصلاة تدعو الى التوحيد والتطهير

لقد سأل شعيباً قومُه (أصلاتُك تأمُرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) وأن نترك الغش وعدم إِيفاء الميزان حقّه. فلعلهم كانوا يتصورون متساءلين: إِنَّ هذه الأذكار والأدعية ما عسى أن تؤثر في هذه الأُمور؟ على حين أنّنا نعرف أن أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين الصلاة وهذه الأُمور، فاذا كانت الصلاة بمعناها الواقعي أي مع حضور الانسان بجميع وجوده أمام الله فإنّ هذا الحضور معراج التكامل وسلّم الصعود في تربية روحه ونفسه، والمطهّر لصدأ ذنوبه ورين قلبه وهذا الحضور يقوّي إِرادته ويجعل عزمه راسخاً وينزع عنه غروره وكبرياءه.

[48]

4 ـ النظرة الذاتيّة (الأنانيّة) رمزٌ للجمود!

لقد كان قوم شعيب ـ كما عرفنا في الآيات السابقة ـ أفراداً أنانيين و«ذاتيين» إِذ كانوا يتصورون أنفسهم ذوي فهم، وأنّ شعيباً يجهل الأُمور!! وكانوا يسخرون منه ويعدّون كلامه بلا محتوى ويرونه ضعيفاً، وهذه النظرة الضيقة والأنانية صيّرت سماء حياتهم مظلمة ورمت بهم الى هاوية الهلاك.

ليس الإِنسان وحده ـ بل حتى الحيوان ـ إِذا كان «أنانيّاً» ذا نظرة ضيقة فإنّه سيتوقف في الطريق!!

يقال إنّ فارساً وصل الى نهر وأراد عبوره ولكنّه لاحظ بتعجب أنّ الفرس غير مستعدّة أن تعبر النهر الصغير والقليل العمق، وكلما الحّ على الفرس لكي تعبر لم يُفلح، فمرّ به رجل حكيم، فقال له: حرّك ماء النهر ليذهب فإنّ المشكلة ستنحلّ. ففعل ذلك فعبرت الفرس النهر بكل هدوء!! فسأل الحكيم عن السرّ في ذلك، فقال: حين كان الماء صافياً كانت صورة الفرس في الماء فلم يَرُق للفرس أن تطأ نفسها، وحين اختلط الماء بالطين ذهبت الصورة ونسيت الفرس صورتها فعبرت بكل بساطة!

5 ـ تلازم الإِيمان والعمل

لا يزال الكثيرون يتصورون أنه يمكن للمسلم أن يكون بالعقيدة وحدها مسلماً حتى وإِن يقم بأيّ عمل، وما يزال الكثيرون يريدون من الدين ألاّ يكون مانعاً لرغباتهم وميولهم، ويريدون أن يكونوا أحراراً بوجه مطلق.

قصّة شعيب تدلنا على أنّ قومه كانوا يريدون مثل هذا المنهج، لذلك كانوا يقولون له: نحن غير مستعدين أن نترك ما كان عليه السلف من عبادة الأصنام، ولا نفقد حريتنا في التصرف بأموالنا ما نشاء.

لقد نسي أُولئك أنّ ثمرة شجرة الإِيمان ـ أساساً ـ هي العمل، وكان نهج

[49]

الأنبياء أن يصلحوا الإِنحرافات العمليّة للإِنسان ويسددوا خطواته، وإِلاّ فإنّ شجرة بلا ثمر وورق وفائدة عملية لا تستحق إِلاّ أن تُحرق!

نحن اليوم ـ وللأسف ـ نرى بعض المسلمين قد غلب عليهم هذا الطراز من الفكر، وهو أنّ الإِسلام عبارة عن عقائد جافّة لا تتعدّى حدود المسجد، فما داموا في المسجد فهي معهم، وإذا خرجوا ودّعوها فيه!! فلا تجد أثراً لإِسلامهم في السوق أو الإِدارات أو المحيط.

إِنّ السير في كثير من الدول الإِسلامية ـ حتى الدول التي كانت مركزاً لإنتشار الإِسلام ـ يكشف لنا هذا الواقع المرير، وهو أنّ الإِسلام منحصر في حفنة من «الإِعتقادات وعدد من العبادات عديمة الروح» لا تجد فيها أثراً عن المعرفة والعدالة الإِجتماعية والنمو الثقافي والأخلاق الإِسلاميّة ... .

ولكن ـ لحسن الحظ ـ نرى في ضمن هذه الصحوة الاسلامية ولا سيما بين الشباب تحرّك نحو الإِسلام الصحيح والممازجة بين الإِيمان والعمل، فلا تكاد تسمع في هذا الوسط مثل هذا الكلام «ما علاقة الإسلام بأعمالنا؟!» أو أنّ «الإِسلام مرتبط بالقلب لا بالحياة والمعاش» وما الى ذلك.

الأطروحة التي نسمعها من بعض المنحرفين بقولهم: نحن نستوحي عقيدتنا من الإِسلام واقتصادنا من ماركس، هي شبيهة بطريقة تفكير قوم شعيب الضالين وهي محكومة مثلها أيضاً، ولكن هذا الإِنفصال أو التفرقة بين العمل والإِيمان كان موجوداً منذ القدم ولا يزال، وينبغي أن نكافح مثل هذا التفكير!

6 ـ الملكية غير المحدودة أساس الفساد

لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون أنّه من الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قِبَل مالكيها، ولذلك تعجبوا من شعيب وقالوا له: أمثلك وأنت الحليم الرشيد يمنعنا من التصرف بأموالنا ويسلب حريتنا

[50]

منها، إِنّ هذا الكلام سواء كان على نحو الحقيقة والواقع، أم كان على نحو الإِستهزاء، يَدّل على أنّهم كانوا يرون تحديد التصرّف بالمال دليلا على عدم العقل والدارية.

في حين أنّهم كانوا على خطأ كبير في تصورهم هذا... إِذ لو كان الناس أحراراً في التصرّف بأموالهم لعمّ المجتمع الفساد والشقاء، فيجب أن تكون الأُمور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس، وإِلاّ فستجرّ الحرية المطلقة المجتمع نحو الإِنحراف والفساد.

7 ـ هدف الأنبياء هو الإِصلاح

لم يكن هذا الشعار: (إِنّ أُريدُ إِلا الإِصلاح) شعار شعيب فحسب، بل هو شعار جميع الأنبياء وكل القادة المخلصين، وإِنّ أعمالهم وأقوالهم شواهد على هذا الهدف. فهم لم يأتوا لإِشغال الناس، ولا لغفران الذنوب، ولا لبيع الجنّة، ولا لحماية الأقوياء وتخدير الضعفاء من الناس، بل كان هدفهم الإِصلاح بالمعنى المطلق والوسيع للكلمة ... الإِصلاح في الفكر، الإِصلاح في الأخلاق، الإِصلاح في النظم الثقافية والإِقتصادية والسياسيّة للمجتمع، والإِصلاح في جميع أبعاد المجتمع.

وكان اعتمادهم ودعامتهم على تحقق هذا الهدف هو الله فحسب ولهذا لم يخافوا من التهديدات والمؤامرات كما قال شعيب (وما توفيقي إِلا بالله عليه توكلت وإلِيه أنيب).

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339131

  • التاريخ : 29/03/2024 - 14:02

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net