00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المائدة من آية 97 ـ آخر السورة من ( ص 155 ـ 198 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[155]

الآيات

جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَـماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَـئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(97) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَـغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(99)

التّفسير

بعد الكلام في الآيات السابقة على تحريم الصيد في حال الإِحرام، يشير القرآن الكريم في هذه الآية إِلى أهمية «مكّة» وأثرها في بناء حياة المسلمين الإِجتماعية، فيقول أوّلا: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس).

فهذا البيت المقدس رمز وحدة الناس ومركز لتجمع القلوب حوله، ومؤتمر عظيم لتوثيق الرّوابط المختلفة، فهم في ظل هذا البيت المقدس وفي مركزيته ومعنويته المستمدة من جذور تاريخية عميقة يستطيعون إِصلاح الكثير ممّا يستوجب الإِصلاح والترميم في حياتهم، وإِقامة سعادتهم على قواعده المتينة، لذلك فقد وصف هذا البيت في سورة آل عمران (الآية 96): (إِنّ أوّل بيت وضع

[156]

للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين).

في الحقيقة إنّ المسلمين يستطيعون ـ إِنطلاقاً من المفهوم الواسع لقوله: (قياماً للناس) ـ أن يصلحوا كل أُمورهم بالركون إِلى هذا البيت وفي إطار تعاليم الحج البناءة.

ولما كانت هذه المناسك يجب أنّ تجري في جو آمن وخال من الحروب والمنازعات والمخاصمات، فقد أشارت الآية إِلى أثر الأشهر الحرم (وهي الأشهر التي تمنع فيها الحرب مطلقاً) وقالت: (والشهر الحرام)(1) كما أشارت إِلى الأضاحي الفاقدة للعلامة (الهدي) والأضاحي ذات العلامة (القلائد) التي منها يطعم الناس في موسم الحج، وتؤمن جانباً من إِحتياجات الحاج للقيام بمناسكه، فقالت: (والهدي والقلائد).

ولمّا كان مجموع هذه الأحكام والقوانين والتشريعات بشأن الصيد، وكذلك بشأن حرم مكّة والشهر الحرام وغير ذلك، يحكي عمق تدبير الشارع وسعة علمه تقول الآية: (ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأنّ الله بكل شيء عليم).

بناءاً على ما مرّ بنا في تفسير هذه الآية يتّضح الإِرتباط بين بدايتها ونهايتها، إِذ أنّ هذه الأحكام التشريعية لا يستطيع أن ينظمها إِلاّ من كان عليماً بأعماق القوانين التكوينية، فالذي لا علم له بدقائق شؤون السماء والأرض وبما استقرّ في روح الإِنسان وجسمه عند خلقه، لا تكون له القدرة على تقرير أحكام كهذه، فالقانون الصحيح السليم هو ذاك الذي ينسجم مع قانون الخلق والفطرة.

الآية التّالية تؤكّد تلك التشريعات، وتحث الناس على إِتباعها وتهدد المخالفين والعاصين فتقول: (إِعلموا أنّ الله شديد العقاب وأنّ اللّه غفور رحيم).

ولعل تقديم (شديد العقاب) على (غفور رحيم) إِشارة إِلى أنّ عقاب الله الشديد يمكن إطفاؤه بماء التوبة والدخول في رحمة الله وغفرانه.

ومرّة أُخرى تؤكّد الآية على أنّ الناس هم المسؤولون عن أعمالهم، وأنّ

_____________________________

1 ـ مرّ ذكر الأشهر الحرم في تفسير الآية (194) من سورة البقرة، ارجع إِلى المجلد الثّاني من هذا التّفسير.

[157]

النّبي مسؤول عن تبليغ الرّسالة لا غير (وما على الرّسول إِلاّ البلاغ) وفي الوقت نفسه: (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون).

أهمية الكعبة:

إِنّ «الكعبة» ـ التي ذكرت في هذه الآية وفي الآيات السابقة مرّتين ـ من مادة «كعب» أي بروز خلف القدم، ثمّ أطلق على كل بروز، والمكعب كذلك لأنّه بارز من جهاته الأربع، والكاعب (وجمعها كواعب) هي الأنثى التي برز صدرها.

والظاهر أنّ تسمية بيت الله بالكعبة يرجع أيضاً، إِلى ارتفاعه الظاهري وبروزه، كما هو رمز لإِرتفاع مقامه وعظمة مكانته.

إِنّ للكعبة تاريخاً عريقاً حافلا بالحوادث والوقائع، وكلّ هذه الحوادث تنطلق من عظمتها ومكانتها المهمّة.

أهمية الكعبة تبلغ حداً بحيث أنّ الأحاديث الإِسلامية تعتبر هدمها في مصاف قتل النّبي والإِمام والنظر إِليها عبادة، والطواف بها من أفضل الأعمال، وقد جاء في رواية عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «لا ينبغي لأحد أن يرفع بناءه فوق الكعبة»(1).

طبيعي أنّ أهمية الكعبة واحترامها لم يأتيا من بنائها، فقد قال أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في الخطبة القاصعة: «ألا ترون أنّ الله، سبحانه، اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إِلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجلعها بيته الحرام (الذي جعله للنّاس قياماً) ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الدنيا مدراً ...»(2).

أهمية مكانة الكعبة عند الله تعود إِلى أنّها أقدم مراكز العبادة والتوحيد، ونقطة تجتذب إِليها أنظار الشعوب والأقوام المختلفة.

* * *

_____________________________

1 ـ «سفينة البحار»، ج 2، ص 482.

2 ـ «نهج البلاغة»، الخطبة القاصعة، رقم 192.

[158]

الآية

قُل لاَّيَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَـأُوْلِى الاَْلْبَـبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100)

التّفسير

الأكثرية ليست دليلا على الطهارة:

دار الحديث في الآيات السّابقة حول تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام وصيد البر في حال الإِحرام، ولكن قد نجد أناساً يتذرعون لإِرتكاب هذه المعاصي بالكثرة الكاثرة من الذين يرتكبونها في بعض الأمصار، فيقولون مثلا: أنّ أكثر أهل المدينة الفلانية يعاقرون الخمرة، أو أنّهم يمارسون القمار، أو أنّ أكثرية الناس في ظروف خاصّة لا يقيمون وزناً لتحريم الصيد ولغيره لذلك، فهم أيضاً يحذون حذوهم ويهملون العمل بتلك التشريعات، فلكيلا يتذرع الناس بأمثال هذه الأعذار، يضع الله سبحانه قاعدة كلية عامّة ورئيسية في عبارة قصيرة شاملة يخاطب بها رسوله الكريم: (قل لا يستوي الخبيث والطّيب ولو أعجبك كثرة الخبيث).

وعليه فإِن الخبيث والطبيب ـ في الآية ـ يشملان كل ما يرتبط بالإِنسان، طعاماً كان ذلك أم فكراً.

[159]

وفي الختام يخاطب العلماء وأصحاب العقول والأذكياء فيقول: (فاتقوا الله يا أُولي الألباب لعلكم تفلحون).

أمّا أنّ مدلول الآية من قبيل توضيح الواضحات، فذلك لأن ثمّة من يظن أنّ أُموراً عارضة، مثل كثرة إِتباع الخبيث، أو ما يسمى بـ«الأكثرية» تجعل ذلك الخبيث في مصاف الطيب، كما يحدث أحياناً أنّ نرى بعضهم يقع تحت تأثير الجماعة وإِتجاه أهواء الأكثرية، ظاناً أنّه حيثما مالت الأكثرية كان ذلك دليلا قاطعاً على صحة ما مالت إِليه، بينما الأمر ليس كذلك، والقضايا التي أيدتها الأكثرية وظهر بطلانها كثيرة جداً.

في الواقع إنّ ما يميز الخبيث من الطيب هو الأكثرية الكيفية لا الكمية، أي أنّ المطلوب هو أفكار أقوى وأرفع وأسمى وأنقى لاكثرة المؤيدين.

هذه القضية لا تلاءم أذواق بعض الناس في العصر الحاضر، بعد أنّ تشبعت أذهانهم على أثر التلقين ووسائل الأعلام بأن الأكثرية هي معيار معرفة الخبيث من الطيب، إِلى حدّ الإِيمان بأن «الحقّ» هو ما أرادته الأكثرية، و«الطيب» هو ما مالت إِليه الأكثرية، وليس كذلك. إن معظم مشاكل العالم ناتجة عن هذا اللون من التفكير.

نعم، إِذا تمتعت الأكثرية بقيادة صادقة وتعليمات صحيحة، بحيث تؤلف أكثرية ناضجة بما للكلمة من معنى، فيمكن حينئذ اعتبار هذه الأكثرية واتجاهاتها مقياس تمييز الخبيث عن الطيب، لا الأكثرية الفجة غير الناضجة.

على كل حال، يشير القرآن إِلى هذا الأمر في هذه الآية، ويحذر الناس من الإِنجراف مع أكثرية الخبثاء، وفي مواضع أُخرى تكاد تبلغ العشرة يقول تعالى: (ولكن أكثر النّاس لا يعلمون) أمّا تقديم «الخبيث» على «الطيب» في الآية، فذلك لأنّ الكلام موجه إِلى الذين يحسبون كثرة الخبيث دليلا على صحة ما يذهبون إِليه، فلابدّ من الردّ على هؤلاء، وتعريفهم بأن معيار الخباثة والطيبة لم

[160]

يكن في يوم من الأيّام هو الأكثرية أو الأقلية، بل في كل زمان ومكان كان «الطيب» خيراً من «الخبيث» وأن أصحاب الحجى والتبصر لا ينخدعون بالكثرة، فهم يتجنبون الخبيث دائماً حتى وإِن تلوث به جميع المحيطين بهم، ويندفعون نحو الطّيب حتى وإِن ابتعد عنه الجميع.

* * *

[161]

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمُ وَإِن تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثمّ أَصْبَحُوا بِهَا كَـفِرِينَ(102)

سبب النّزول

الأقوال في سبب نزول هاتين الآيتين مختلف في مصادر الحديث والتّفسير، ولكن الذي ينسجم أكثر مع سبب نزول هاتين الآيتين، هو ما جاء في تفسير «مجمع البيان» عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «إِنّ الله كتب عليكم الحج» فقام عكاشة بن محصن وقيل سراقة بن مالك فقال: أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله: «ويحك ما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني كما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإِذا نهيتكم عن

[162]

شيء فاجتنبوه»(1).

ينبغي ألا يظن أحد بأن سبب نزول هاتين الآيتين ـ كما سنتطرق إِلى ذلك في تفسيرهما ـ يعني غلق أبواب السؤال وباب تفهم الأُمور بوجوه الناس، لأنّ القرآن في آياته يأمر الناس صراحة بالرجوع إِلى أصحاب الخبرة في فهم الأُمور: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(2) بل المقصود هو الأسئلة التافهة والتحجج، والإِلحاح المؤدي غالباً إِلى تشويش أفكار الناس وقطع التسلسل الفكري للخطيب.

التّفسير

الأسئلة الفضولية:

لاشك أنّ السّؤال مفتاح المعرفة، ولذلك من قلّت أسئلته قلت معرفته، وفي القرآن وفي الرّوايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عمّا لا يعرفون، ولكن لكل قاعدة استثناء، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضاً، منها أن هناك أحياناً بعض المسائل التي يكون إِخفاؤها أفضل لحفظ النظام الإِجتماعي ولمصلحة أفراد المجتمع، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإِلحاح في السؤال عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيداً عن الفضيلة فحسب، بل يكون مذموماً أيضاً مثلا:

يرى معظم الأطباء ضرورة كتمان الأمراض الصعبة الشفاء والمخيفة عن المريض نفسه، وقد يخبرون أهله شريطة أنّ يلتزموا كتمان الأمر عن المريض، والسبب هو أن التجارب قد دلت على أنّ المريض إِذا عرف أنّ مرضه لا يشفى بسرعة انتابه الرعب والهلع وقد يؤخر ذلك شفاءه، إِن لم يكن مرضه مهلكاً فعلى

_____________________________

1 ـ تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الدر المنثور» و«المنار» في ذيل الآية المذكورة مع بعض الإِختلاف.

2 ـ النحل، 43.

[163]

المريض أنّ لا يلح في القاء الأسئلة على طبيبه العطوف، لأنّ هذا الإِلحاح قد يحرج الطبيب، فيصرّح للمريض بما لا ينبغي أنّ يصارحه به تخلصاً من هذا الإِصرار واللجاج.

كذلك الناس عموماً، فهم في التعامل فيما بينهم يحتاجون إِلى أن يحسن بعضهم الظن ببعض، فللحفاظ على هذا الرصيد الهام، خير لهم ألاّ يعرفوا خفايا الآخرين، إِذ أن لكل امرىء نقاط ضعيفه، فانكشاف نقاط ضعف الناس يضرّ بالتعاون فيما بينهم فقد يكون امرؤ ذو شخصية مؤثرة قد ولد في عائلة واطئة ومنحطة، وإِذا انكشف هذا فقد تتزلزل آثاره الوجودية في المجتمع، لذلك ينبغي على الناس ألا يلحوا في السؤال والتفتيش في هذا المجال.

كما أنّ الكثير من الخطط والمناهج الإِجتماعية يلزمها الكتمان حتى يتمّ تنفيذها، فالإِعلان عنها يعتبر ضربة تؤخر سرعة إِنجاز العمل.

هذه وأمثالها نماذج لما لا يصح فيه الإِلحاح في السؤال، وعلى القادة أن لا يفشوا أمثال هذه الأسرار ما لم يقعوا تحت ضغط شديد.

والقرآن في هذه الآية يشير إِلى الموضوع نفسه ويقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إِن تبد لكم تسؤكم).

ولكن الحاح بعض الناس بالسؤال من جهة، وعدم الإِجابة على أسئلتهم من جهة أُخرى، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدي الأمر إِلى مفاسد أكثر، لذلك تقول الآية: (وإِن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم) فيشق عليكم الأمر.

أمّا قصر افشائها على وقت نزول القرآن، فذلك لأنّ تلك التساؤلات كانت متعلقة بمسائل ينبغي أن تنزل أجوبتها عن طريق الوحي.

ثمّ لا تحسبوا الله غافلا عن ذكر بعض الأُمور إِن سكت عنها، فقد (عفا الله عنها والله غفور حليم).

[164]

يقول علي(عليه السلام): «إِنَّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها»(1).

سؤال:

قد يسأل سائل: إِذا كان إِفشاء هذه الأُمور يتعارض مع مصلحة الناس، فلماذا يماط اللثام عنها على أثر الإلحاح؟

الجواب:

السبب هو ما قلناه من قبل، فالقائد إِذا لزم الصمت رغم الإِلحاح بالسؤال، فقد تنجم عن ذلك مفاسد أخطر، ويثار سوء ظن يشوب أذهان الناس، مثل صمت الطبيب إِزاء الحاح المريض في السؤال عن مرضه، فإن ذلك يثير شكوك المريض، وقد يحمله على الظن بأن الطبيب لم يشخص مرضه بعد، فيهمل استعمال ما يصفه له من علاج، عندئذ لا يسع الطبيب إِلاّ أن يفشي له سرّ مرضه، ولو سبب له ذلك بعض المشاكل.

الآية التي بعدها تؤكّد هذه الحقيقة، وتبيّن أنّ أقواماً سابقين كانت لهم أسئلة كهذه، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا: (لقد سألها قوم من قبلكم ثمّ أصبحوا بها كافرين).

وللمفسّرين أقوال مختلفة بشأن تلك الأقوام، منهم من ذهب إِلى أن الأمر يخص تلامذة عيسى(عليه السلام) عندما طلبوا مائدة من السماء، فعندما تحقق لهم ما أرادوا عصوا، ويقول بعض: إِنّها حكاية مطالبة النّبي صالح(عليه السلام) بمعجزة، ولكن الظاهر أن هذه الإِحتمالات بعيدة عن الصواب، لأنّ الآية تتحدث عن «سؤال» عن مجهول يراد الكشف عنه، لا عن «طلب» شيء، ولعل استعمال كلمة «سؤال» في كلا الحالين هو سبب هذا الخطأ.

_____________________________

1 ـ «مجمع البيان»، ذيل الآية المذكورة.

[165]

قد تكون تلك الأقوام من بني إِسرائيل أمروا بذبح بقرة للتحقيق في أمر جريمة (انظر شرح ذلك في المجلد الأوّل من هذا التّفسير) فراحوا يمطرون موسى بالأسئلة عن خصائص البقرة ومميزاتها ممّا لم يكن قد نزل بشأنها أي شيء، ولكنّهم بسؤالاتهم المتكررة التي لم تكن ضرورية أخذوا يشقون على أنفسهم، بحيث أن العثور على تلك البقرة الموصوفة أصبح من الصعوبة بمكان وتحملوا الكثير من النفقات في سبيل ذلك، حتى كادوا أن ينصرفوا عن التنفيذ.

في تفسير قوله تعالى (وأصبحوا بها كافرين) إحتمالان:

الأوّل: أنّ المقصود بالكفر هو العصيان، كما سبقت الإِشارة إِليه.

والثّاني: هو أنّ الكفر قصد بمعناه المعروف، وذلك لأن سماع الإِجابات المزعجة التي تثقل على السامع قد تدفع به إِلى إِنكار أصل الموضوع وصلاحية المجيب، كأن يسمع مريض جواباً لا يروقه من طبيبه، فيؤدي ردّ الفعل به إِلى إِنكار صلاحية الطبيب واتهامه بعدم الفهم مثلا أو بالهرم ونسيان المعلومات.

في ختام هذا البحث نجد لزاماً أن نكرر ما قلناه في بدايته، وهو أنّ هذه الآيات لا تمنع أبداً القاء الأسئلة المنطقية التربوية والبناءة، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها، وبالتعمق في أُمور لا ضرورة للتعمق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم ـ أحياناً ـ بقاؤها في طي الكتمان.

* * *

[166]

الآيتان

مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَة وَلاَ سَآئِبَة وَلاَ وَصِيلَة وَلاَحَام وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(103)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنَزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ(104)

التّفسير

في الآية الاُولى إِشارة إِلى أربعة «بدع» كانت سائدة في الجاهلية، فقد كانوا يضعون على بعض الحيوانات علامات وأسماء لأسباب معينة ويحرمون أكل لحومها ولا يجيزون شرب لبنها أو جز صوفها أو حتى امتطاءها، كانوا أحياناً يطلقون سراح هذه الحيوانات تسرح وتمرح دون أن يعترضها أحد، أي أنّهم كانوا يطلقونها سائبة دون أن يستفيدوا منها شيئاً، لذلك يقول الله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولاحام).

[167]

بحوث

1 ـ «البحيرة» هي النّاقة التي ولدت خمسة أبطن خامسها أنثى ـ وقيل ذكر ـ فيشقون أذُنها، وتترك طليقة ولا تذبح.

«البحيرة» من مادة «بحر» بمعنى الواسع العريض، ولهذا سمي البحر بحراً، وتسمية الناقة بالبحيرة جاءت من شق أذنها شقاً واسعاً عريضاً.

2 ـ «السائبة» هي الناقة التي تكون قد ولدت اثني عشر بطناً ـ وقيل عشرة أبطن ـ فيطلقونها سائبة ولا يمتطيها أحد، ولها أن ترعى حيثما تشاء وترد حيثما تشاء دون أن يعترضها أحد، وقد يحلبونها أحياناً لإِطعام الضيف، و«السائبة» من مادة «سيب» أي جريان الماء أو المشي بحرّية.

3 ـ «الوصيلة» هي الشاة التي ولدت سبعة أبطن ـ وقيل أنّها التي تلد التوائم، من مادة «وصل» وكانوا يحرمون ذبحها.

4 ـ «الحام» واللفظة اسم فاعل من مادة «حمى»، ويطلق على الفحل الذي يتخذ للتلقيح، فإذا استفيد منه في تلقيح الأناث عشر مرات وولدن منه، قالوا: لقد حمى ظهره، فلا يحق لأحد ركوبه، ومن معاني «الحماية» المحافظة والحيلولة والمنع.

هناك احتمالات أُخرى وردت عند المفسّرين وفي الأحاديث بشأن تحديد هذه المصطلحات الأربعة، لكن القاسم المشترك بين كل هذه المعاني هو أنّها تدل جميعاً على حيوانات قَدّمت خدمات كبيرة لأصحابها في «النتاج» فكان هؤلاء يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك.

صحيح أنّ عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر، حتى نحو الحيوانات، وهو بهذا جدير بالتقدير والإِجلال، ولكنّه كان تكريماً لا معنى له لحيوانات لا تدرك ذلك.

كما كان ـ فضلا عن ذلك ـ مضيعة للمال وإِتلافاً لنعم الله وتعطيلها عن

[168]

الإِستثمار النافع، ثمّ أنّ هذه الحيوانات، بسبب هذا الإِحترام والتكريم، كانت تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنّه قلما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها.

ولما كانت هذه الحيوانات كبيرة في السن عادة، فقد كانت تقضي بقية أيّامها في كثير من الحرمان والحاجة حتى تموت ميتة محزنة، ولهذا كله وقف الإِسلام بوجه هذه العادة!

إِضافة إِلى ذلك، يستفاد من بعض الرّوايات والتفاسير أنّهم كانوا يتقربون بذلك كله، أو بقسم منه إِلى أصنامهم، فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات لتلك الأصنام، ولذلك كان إِلغاء هذه العادات تأكيداً لمحاربة كل مخلفات الشرك.

والعجيب في الأمر، أنّهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إِذا ما ماتت موتاً طبيعياً (وكأنّهم يتبركون بها) وكان هذا عملا قبيحاً آخر(1).

ثمّ تقول الآية: (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) قائلين أنّ هذه قوانين إِلهية دون أن يفكروا في الأمر ويعقلوه، بل كانوا يقلدون الآخرين في ذلك تقليداً أعمى: (وأكثرهم لا يعقلون).

الآية الثّانية تشير إلى منطقهم ودليلهم على قيامهم بهذه الأعمال: (وإِذا قيل لهم تعالوا إِلى ما أنزل الله وإِلى الرّسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا).

في الواقع، كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنية، هو التسليم الأعمى للعادات الخرافية التي كان عليها أسلافهم، معتبرين ممارسات أجدادهم لها دليلا قاطعاً على صحتها، ويرد القرآن بصراحة على ذلك بقوله: (أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون).

أي لو كان أجدادكم الذين يستندون إِليهم في العقيدة والعمل من العلماء والمهتدين لكان إِتباعكم لهم إِتباع جاهل لعالم، لكنكم تعلمون أنّهم، لا يعلمون أكثر منكم ولعلهم أكثر تخلفاً منكم، ومن هنا فإنّ تقليدكم إِيّاهم تقليد جاهل

_____________________________

1 ـ تفسير «نورالثقلين»، ج 1، ص 684.

[169]

لجاهل، وهو فوض ومذموم في ميزان العقل.

تركيز القرآن في هذه الآية على كلمة «أكثر» يدل على أنّه كانت في ذلك المحيط الجاهلي المظلم فئة ـ وإِن قلت ـ على قدر من الفهم بحيث تنظر بعين الإِحتقار والإِشمئزاز إِلى تلك الممارسات.

وثن اسمه «الأسلاف»:

من الأُمور التي كانت سائدة في الجاهلية والتي تكررت الإِشارة إِليها في القرآن التفاخر بالآباء والأجداد وإِجلالهم إِلى حدّ التقديس الأعمى وإِتباع أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم. وليس هذا مقصوراً على الجاهلية الاُولى، فهو موجود بين كثير من الأقوام المعاصرة، ولعلّه أحد أسباب اشاعة الخرافات وانتقالها من جيل إِلى جيل، وكان «الموت» يضفي هالة من القدسية والإِحترام والإِجلال على الأسلاف.

لا شك أنّ روح الإِعتراف بالجميل ورعاية المبادىء الإِنسانية توجب علينا إِحترام الماضين من آبائنا وأجدادنا، ولكن لا أن نعتبرهم معصومين عن كل خطأ ومصونين عن كل نقد وتجريح لأفكارهم وسلوكهم فنتبع خرافاتهم ونقلدهم فيها تقليداً أعمى، ليس هذا في الواقع سوى لون من ألوان الوثنية والمنطق الجاهلي، إِنّنا من الممكن أن نحترم أفكارهم وتقاليدهم المفيدة، ونحطم في الوقت نفسه عاداتهم غير الصحيحة، خاصّة وأن الأجيال الحديثة أوسع علماً وأعمق معرفة من الأجيال السابقة بسبب مضي الزمن وتقدم العلم والتجربة، وما من عقل رصين يجيز تقليد الماضين تقليداً أعمى.

ومن العجيب أنْ نرى بعض العلماء وأساتذة الجامعة يعيشون هذا اللون من التقديس الأعمى لعادات السلف، فيبلغ بهم التعصب القومي إِلى التمسك بعادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان متبعين بذلك منطق العرب في جاهليتهم الاُولى.

[170]

تناقض بلا مبرّر:

جاء في تفسير «الميزان» و«الدر المنثور» عن عدد من الرواة منهم الحكيم الترمذي في «نوادر الأُصول» وعن غيره، عن أبي الأحوص عن أبيه، قال: أتيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في خَلِقان من الثياب، فقال لي: «هل لك من مال؟» قلت: نعم، قال: «من أي المال؟» قلت: من كل المال، من الإِبل والغنم والخيل والرقيق، قال: «فإِذا أتاك الله، فلُيرَ عليك». أي لا ينبغي أن تعيش كالمساكين مع انك صاحب ثروة.

ثمّ قال: «تنتج ابلك وافية آذانها؟» قلت: نعم وهل تنتج الإِبل إِلاّ كذلك؟ قال: «فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول: هذه بحر، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه الصرم؟» قلت: نعم، قال: «فلا تفعل، إِن كل ما أتاك الله لك حل، ثمّ قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام»(1).

نفهم من هذه الرواية أنّهم كانوا يجمدون قسماً من أموالهم، ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا يقتصدون في ملبسهم، بل ويبخلون فيه، وهذا نوع من التناقض الذي لا مسوغ له.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير «الميزان»، ج 6، ص 172.

[171]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعمَلُونَ(105)

التّفسير

كلّ اُمرىء مسؤول عن عمله:

دار الحديث في الآية السابقة حول تقليد الجاهليين آباءهم الضالين، فأنذرهم القرآن بأن تقليداً كهذا لا ينسجم مع العقل والمنطق، فمن الطبيعي أن يتبادر إِلى أذهانهم السؤال: إِنّنا إِذا كان علينا أن ننفصل عن أسلافنا في هذه الأُمور، فماذا سيكون مصيرهم؟ ثمّ إِذا نحن أقلعنا عن هذه التقاليد فما مصائر الكثير من الناس الذين ما يزالون متمسكين بها وواقعين تحت تأثيرها فكان جواب القرآن: (يا أيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم).

ثمّ يشير إِلى موضوع البعث والحساب ومراجعة حساب كل فرد: (إِلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون).

[172]

ردّ على اعتراض:

أثار بعضهم شبهة حول هذه الآية، فظن أنّ بين هذه الآية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وهو من التشريعات الإِسلامية الصريحة المسلم بها ـ ضرب من التضاد أو التناقض، إِذ أن هذه الآية تقول (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم).

هناك أحاديث وروايات تدل على أنّ هذا الموضوع أثار شبهة حتى في عصر نزول الآية يقول (جبير بن نفيل): كنت في جمع من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)جالسين بحضرته، وكنت أحدثهم سناً، وكان الحديث يدور حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقاطعتهم وقلت: ألم يأت في القرآن (يا أيّها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إِذا اهتديتم) (أي بهذه الآية لا يبقى ما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإِذا بالحاضرين يجمعون على توبيخي وتقريعي قائلين: كيف تقتبس آية من القرآن دون أن تعرف معناها وتفسيرها؟ فندمت على ما قلت أشد الندم، وعادوا إِلى بحثهم السابق.

وعند انفضاض المجلس التفتوا إِلي قائلين: إِنّك شاب حدث السن، قمت بتفصيل آية من القرآن عما حولها بغير أن تعرف معناها.

وقد يطول بك العمر حتى ترى كيف يحيط البخل بالناس ويسيطر عليهم، وتسيطر عليهم أهواؤهم ويعتّد كل منهم برأيه، فلتحذر يؤمئذ من أن يضرّك من ضل منهم (أي أنّ الآية تشير إِلى ذلك الزمان).

واليوم نجد الراكنين إِلى الدعة وطلاب الراحة، عندما يدور الحديث حول القيام بهاتين الفريضتين الإِلهيتين الكبيرتين ـ الأمر بالعروف ـ والنهي عن المنكر ـ يتذرعون بهذه الآية ويحرفونها عن موضعها، مع أنّنا بقليل من الدقّة في النظر ندرك ألاّ تضاد بين هاتين الفريضتين وما جاء في هذه الآية:

فأوّلا: تبيّن الآية أنّ كل امرىء يحاسب على إِنفراد، وأنّ ضلال الآخرين من

[173]

الأسلاف وغير الأسلاف لا يؤثر في هداية الذين اهتدوا، حتى وإِنّ كانوا قريبين قرب الأخ أو الأب أو الابن، لذلك فلا تتبعوهم وانجوا بأنفسكم (لا حظ بدقّة).

وثانياً: تشير هذه الآية إِلى الحالة التي لا يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أثر، أو تكون شروط فاعليتهما غير متوفرة، ففي أمثال هذه الحالات يشعر بعض المؤمنين بالألم، ويتساءلون عمّا ينبغي لهم أن يفعلوه، فتجيبهم الآية: لا تثريب عليكم، فقد أديتم واجبكم، إذ (لا يضرّكم من ضلّ إِذا اهتديتم).

نجد هذا المعنى في الحديث الذي ذكرناه أعلاه، وكذلك في بعض الأحاديث الأُخرى فقد سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية فقال: «إِئتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإِذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وهوى متبعاً واعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم»(1).

وهنالك روايات أُخرى بالمضمون نفسه وتفيد هذه الحقيقة ذاتها.

فخر الدين الرازي ـ حسب عادته ـ يذكر عدة أوجه في الإِجابة على السؤال المذكورة، ولكنّها تكاد تعود كلها إِلى الأمر الذي ذكرناه، ولعله ذكرها جميعاً لبيان كثرة عددها.

على كلّ حال، لا شك أنّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان الإِسلام التي لا يمكن التغاضي عنها بأي شكل من الأشكال، ولا تسقط إِلاّ عند اليأس من تأثيرها أو من توفر شروطها.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 684.

[174]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَـدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ فَأَصَـبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَوةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبى وَلاَنَكْتُمُ شَهَـدَةَ اللهِ إِنَّآ إِذاً لَّمِنَ الاَْثِمِينَ(106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَأَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاَْوْلَيَـنِ فَيُقْسِمَانِ باللهِ لَشَهَـدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَـدَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّآ إِذاً لَّمِنَ الظَّـلِمِينَ(107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَـدَةِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَـنُ بَعْدَ أَيْمَـنِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـسِقِينَ(108)

سبب النّزول

جاء في «مجمع البيان» وبعض التفاسير الأُخرى في سبب نزول هذه الآيات أنّ أحد المسلمين، ويدعى (ابن أبي مارية) ومعه اخوان مسيحيان من العرب

[175]

يدعيان (تميم)، (عدي) خرجوا من المدينة للتجارة، وفي الطريق مرض (ابن أبي مارية) المسلم، فكتب وصية أخفاها في متاعه، وعهد بمتاعه إلى رفيقيه ـ النصرانيين ـ في السفر، وطلب منهما أن يسلماه إلى أهله، ثمّ مات ففتح النصرانيان متاعه واستوليا على الثمين والنفيس فيه، وسلما الباقي إِلى الورثة، وعندما فتح الورثة متاعه لم يجدا فيه بعض ما كان ابن أبي مارية قد أخذه معه عند سفره وفجأة عثروا على الوصية، ووجدوا فيها ثبتاً بكل الأشياء المسروقة، ففاتحوا المسيحيين بالموضوع، فانكرا وقالا: لقد سلمناكم كل ما سلمه لنا، فشكوا الرجلين إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت هذه الآيات تبيّن حكم القضية.

غير أن سبب النّزول المذكور في «الكافي» يقول: إنّهما أنكرا أوّلا وجود متاع آخر، ووصل الأمر إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولما لم يكن هناك دليل ضدهما طلب منهما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحلفا اليمين، وبرأهما، ولكن بعد أيّام قليلة ظهر بعض المتاع المسروق عند الرجلين فثبت كذبهما، فبلغ ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فانتظر حتى نزلت الآيات المذكورة، عندئذ أمر أولياء الميت بالقسم، وأخذ الأموال دفعها إِليهم.

التّفسير

من أهم المسائل التي يؤكّدها الإِسلام هي مسألة حفظ حقوق الناس وأموالهم وتحقيق العدالة الإِجتماعية هذه الآيات تبيّن جانباً من التشريعات الخاصّة بذلك، فلكيلا تغمط حقوق ورثة الميت وأيتامه الصغار، يصدر الأمر للمؤمنين قائلا: (يا أيّها الذين آمنوا شهادة بينكم إِذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل).

المقصود بالعدل هنا العدالة، وهي تجنب الذنوب الكبيرة ونظائرها، ولكن يحتمل من معنى الآية أيضاً أنّ يكون المقصود من العدالة: الأمانة في الشؤون

[176]

المالية، إِلاّ إِذا ثبت بدلائل أُخرى ضرورة توفر شروط أُخرى في الشاهد.

و«منكم» تعني من المسلمين بازاء غير المسلمين، الذين تأتي الإِشارة إِليهم في العبارة التّالية من الآية.

لابدّ من القول بأنّ القضية هنا لا تتعلق بالشهادة العادية المألوفة، بل هي شهادة مقرونة بالوصاية، أي أن هذين وصيان وشاهدان في الوقت نفسه، أمّا الإِحتمال القائل باختيار شخص ثالث كوصي بالإِضافة إلى الشاهدين هنا، فإنه خلاف ظاهر الآية ويخالف سبب نزولها، لأنّنا لاحظنا أنّ ابن أبي مارية لم يكن يرافقه في السفر غير اثنين اختارهما وصيين وشاهدين.

ثمّ تأمر الآية: إِذا كنتم في سفر ووافاكم الأجل ولم تجدوا وصيّاً وشاهداً من المسلمين فاختاروا اثنين من غير المسلمين: (أو آخران من غيركم إِنّ أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت).

وعلى الرغم من عدم وجود ما يفهم من الآية أنّ اختيار الوصي والشاهد من غير المسلمين مشروط بعدم وجودهما من المسلمين، فهو واضح، لأنّ الإِستعاضة تكون عندما لا تجد من المسلمين من توصيه، كما أنّ ذكر قيد السفر يفيد هذا المعنى أيضاً، وعلى الرغم من أنّ (أو) تفيد «التخيير» عادة، إِلاّ أنّها هنا ـ وفي كثير من المواضع الأُخرى ـ تفيد «الترتيب»، أي اخترهما أوّلا من المسلمين، فإن لم تجد، فاخترهما من غير المسلمين.

وغني عن القول أنّ المقصود من غير المسلمين هم أهل الكتاب من اليهود والنصاري طبعاً، لأنّ الإِسلام لم يقم وزناً في أية مناسبة للمشركين وعبدة الأصنام مطلقاً.

ثمّ تقرر الآية حمل الشاهدين عند الشهادة على القسم بالله بعد الصّلاة، في حالة الشك والتردد: (تحبسونهما من بعد الصّلاة فيُقسمان بالله إِن ارتبتُم).

ويجب أنّ تكون شهادتهما بما مفاده: إِنّنا لسنا على استعداد أن نبيع الحقّ

[177]

بمنافع مادية، فنشهد بغير الحقّ حتى وإن كانت الشهادة ضد أقربائنا: (لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى) وإِننا لن نخفي أبداً الشهادة الإِلهية، وإِلاّ فسنكون من المذنبين: (ولا نكتم شهادة الله إِنّا إِذاً لمن الآثمين).

ولابدّ أن نلاحظ مايلي:

أوّلا: إِنّ هذه التفاصيل في أداء الشهادة إِنّما تكون عند الشك والتردد.

وثانياً: لا فرق بين المسلم وغير المسلم في هذا كما يبدو من ظاهر الآية، وإِنّما هو في الحقيقة وسيلة لإِحكام أمر حفظ الأموال في إِطار الإِتهام، وليس في هذا ما يناقض القبول بشهادة عدلين بغير تحليف، لأنّ هذا يكون عند انتفاء الشك في الشاهدين، لذلك فلا هو ينسخ الآية ولا هو مختص بغير المسلمين (تأمل بدقّة).

ثالثاً: الصّلاة بالنسبة لغير المسلمين يقصد بها صلاتهم التي يتوجهون فيها إلى الله ويخشونه، أمّا بالنسبة للمسلمين فيقول بعض: إِنّها خاصّة بصلاة العصر، وفي بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إِشارة إِلى ذلك، إِلاّ أنّ ظاهر الآية هو الإِطلاق ويشمل الصلوات جميعها، ولعل ذكر صلاة العصر في رواياتنا يعود إلى جانبه الإِستحبابي، إِذ أنّ الناس يشتركون أكثر في صلاة العصر، ثمّ ان وقت العصر كان الوقت المألوف للتحكيم والقضاء بين المسلمين.

رابعاً: اختيار وقت الصّلاة للشهادة يعود إِلى أنّ المرء في هذا الوقت يعيش آثار الصّلاة التي (تنهى عن الفحشاء والمنكر)(1) وأنّه في هذا الظرف الزماني والمكاني يكون أقرب إِلى الحقّ، بل قال بعضهم: إنّ من الأفضل أن تكون الشهادة في «مكّة» عند الكعبة وبين «الركن» و«المقام» باعتباره من أقدس الأمكنة، وفي المدينة تكون جنب قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الآية التّالية يدور الكلام على ثبوت خيانة الشاهدين إِذا شهدا بغير

_____________________________

1 ـ العنكبوت، 45.

[178]

الحقّ، كما جاء في سبب نزول الآية، فالحكم في مثل هذه الحالة ـ أي عند الإِطلاع على أن الشاهدين قد ارتكبا إِثمّ العدوان على الحقّ واضاعته ـ هو أن تستعيضوا عنهما باثنين آخرين ممن ظلمهما الشاهدان الأولان (أي ورثة الميت) فيشهدان لإحقاق حقهما: (فإن عثر على أنّهما استحقا إِثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان).

يذهب العلاّمة الطبرسي في «مجمع البيان» إِلى أنّ هذه الآية تعتبر من حيث المعنى والإِعراب من أعقد الآيات وأصعبها، ولكن بالإِلتفات إِلى نقطتين نجد أنّها ليست بتلك الصعوبة والتعقيد.

فالنّقطة الاُولى: هي أن معنى «استحق» هنا بقرينة كلمة «إِثم» هو إِثمّ العدوان على حق الآخرين.

والنّقطة الثّانية: هي أنّ «الأوليان» تعني هنا «الأولان» أي الشاهدان اللذان كانا عليهما أنّ يشهدا أوّلا ولكنّهما انحرفا عن طريق الحقّ.

وعليه يكون المعنى: إِذا ثبت أنّ الشاهدين الأولين ارتكبا مخالفة، فيقوم مقامهما اثنان آخران ممن وقع عليهم ظلم الشاهدين الأولين(1).

ثمّ يبيّن ما ينبغي على هذين الشاهدين أن يفعلاه (فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إِنّا إِذاً لمن الظالمين).

لمّا كان أولياء الميت على علم بالأموال والأمتعة التي أخذها معه عند سفره أو التي يملكها عموماً، فيمكن أن يشهدوا على أنّ الشاهدين الأولين قد خانا وظلما، وتكون هذه الشهادة حسية مبنية على القرائن، لا حدسية.

والآية الأخيرة، في الحقيقة، بيان لحكمة الأحكام التي جاءت في الآيات السابقة بشأن الشهادة وهي أنّه إِذا أجريت الأُمور بحسب التعاليم، أي إِذا طلب

_____________________________

1 ـ على هذا يكون إعراب «آخران» مبتدأ، وجملة «يقومان مقامهما» خبر، و«أوليان» فاعل «إستحقا» و«من الذين» أي من ورثة الميت الذين وقع عليهم الظلم، والجار والمجرور صفة لـ«آخران» «تأمل بدقّة».

[179]

الشاهدان للشهادة بعد الصّلاة بحضور جمع، ثمّ ظهرت خيانتهما، وقام اثنان آخران من الورثة مقامهما للكشف عن الحقّ، فذلك يحمل الشهود على أن يكونوا أدق في شهادتهم، خوفاً من الله أو خوفاً من الناس: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم).

في الواقع سيكون هذا سبباً في الخشية من المسؤولية أمام الله وأمام الناس، فلا ينحرفان عن محجة الصواب.

ولتوكيد الأحكام المذكورة يأمر الناس قائلا: (اتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين).

* * *

[180]

الآية

يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَعِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّـمُ الْغُيُوبِ(109)

التّفسير

هذه الآية، في الحقيقة، تكملة للآيات السابقة، ففي ذيل تلك الآيات الخاصّة بالشهادة الحقّة والشهادة الباطلة، كان الأمر بالتقوى والخشية من عصيان أمرالله، وفي هذه الآية تذكير بذلك اليوم الذي يجمع الله الرسل فيه ويسألهم عن رسالتهم ومهمتهم و عمّا قاله الناس رداً على دعواتهم (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم).

لقد نفوا عن أنفسهم العلم، وأوكلوا جميع الحقائق إِلى علم الله و(قالوا لا علم لنا إِنّك أنت علاّم الغيوب) وعليه فإنكم أمام علام الغيوب وأمام محكمة هذا شأنها، فاحذروا أن تنحرف شهادتكم عن الحقّ والعدل(1).

هنا يبرز سؤالان: الأوّل: إنّ ما يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الأنبياء شهداء

_____________________________

1 ـ يتّضح من هذا أن (يوم ...) مفعول به لفعل محذوف تفسره الآية السابقة وتقدير «اتقوا يوم».

[181]

على أممهم، بينما نجدهم في هذه الآية ينكرون كل علم ويوكلون كل شيء إِلى الله.

ولكن ليس في هذا اختلاف ولا تضاد، بل هو يحكي عن مرحلتين، في المرحلة الاُولى وهي التي تشير إِليها الآية التي نحن بصددها، يُظهر الأنبياء الأدب بازاء سؤال الله، فينفون العلم عن أنفسهم، ويوكلون كل شيء إِلى علم الله، ولكنّهم في المراحل التّالية يبيّنون ما يعرفونه عن أممهم ويشهدون، وهذا يكاد يشبه المعلم الذي يطلب من تلميذه أن يجيب على سؤال فيظهر التلميذ التأدب أوّل الأمر ويقول: أن علمه لا شيء بالنسبة لعلم المعلم، ثمّ بعد ذلك يدلي بما يعرف.

والسؤال الآخر: كيف ينفي الأنبياء العلم عن أنفسهم مع أنّهم إِضافة إِلى العلوم العادية يعلمون الكثير من الحقائق الخفية التي علمها الله لهم.

رغم أنّ للمفسّرين كلاماً كثيراً في جواب هذا السؤال، نرى أنّ الموضوع واضح وهو أنّ الأنبياء يرون علمهم لا شيء بالنسبة لعلم الله، والحقّ كذلك، فوجودنا لا شيء بالنسبة لوجود الله الأبدي وعلمنا لا وزن له بازاء علم الله، فمهما يكن «الممكن» فإنّه لا يكون شيئاً بازاء «الواجب»، وبعبارة أُخرى: إِنّ علم الأنبياء، وإِن كان في حد ذاته غزيراً، لكنه لا شيء بالقياس إِلى علم الله.

في الحقيقة، العالم الحقيقي هو الذي يكون حاضراً وناظراً في كل مكان وزمان، وعارفاً بتركيب كل ذرة من ذرات العالم، وبكل أجزاء هذا العالم المترابط في وحدة واحدة، وهذه صفة تختص بالله سبحانه.

يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية ليست دليلا على نفي كل علم بالغيب عن الأنبياء والأئمّة كما زعم بعضهم، وذلك لأن «علم الغيب» بالذات يختص بمن يكون حاضراً في كل مكان وزمان، وأمّا غيره تعالى فإنّه لا علم له بالغيب سوى ما يعلمه الله.

وهذا مأخوذ من آيات عديدة في القرآن، منها الآية (26) من سورة الجن:

[182]

(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إِلاّ من ارتضى من رسول) والآية (49) من سورة هود: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إِليك).

يستفاد من هذه الآيات وأمثالها أنّ علم الغيب مختص بذات الله، ولكنّه يُعلِّمه لمن يشاء وبالقدر الذي يشاء.

* * *

[183]

الآية

إِذْ قَالَ اللهُ يَـعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَلِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَةَ وَالاِْنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِى وَتُبْرِىءُ الاَْكْمَهَ وَالاَْبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(110)

التّفسير

نعم الله على المسيح:

هذه الآية والآيات التّالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة السيد المسيح(عليه السلام) والنعم التي أسبغها الله عليه وعلى أُمّته، يبيّنها الله هنا لتوعية المسلمين وايقاظهم فتقول الآية: (إِذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك).

ومعنى «إِذ قال»: واذكر إِذ قال.

[184]

وحسب هذا التّفسير، تشرع هذه الآيات ببحث مستقل له جانبه التربوي للمسلمين ويرتبط بهذه الدنيا، إِلاّ أن عدداً من المفسّرين ـ كالطبرسي والبيضاوي وأبي الفتوح والرازي ـ يرون أنّ هذه الآية تابعة للآية السابقة وتتعلق بالحوار الذي يدور بين الله والأنبياء يوم القيامة، وعلى هذا يكون الفعل الماضي «قال» بمعنى «يقول» المضارع، غير أنّ هذا يخالف ظاهر الآية، خاصّة وأنّ تعداد النعم التي أنزلت على شخص ما يستهدف إحياء روح الإِعتراف بالجميل والشكر فيه، وهذا لا مكان له يوم القيامة.

ثمّ تشرع الآية بذكر النعم: (إِذ أيدتك بروح القدس).

لقد بحثنا معنى «روح القدس» في المجلد الأوّل من هذا التّفسير بحثاً مستفيضاً وأحد الإِحتمالات المقصودة هو أنّه إِشارة إِلى ملك الوحي، جبرائيل، والإحتمال الآخر هو تلك القوة الغيبية التي كانت تعين عيسى على إِظهار المعجزات وعلى تحقيق رسالته المهمّة، وهذا المعنى موجود في غير الأنبياء أيضاً بدرجة أضعف.

من نعم الله الأُخرى: (تكلم الناس في المهد وكهلا) أي أنّ كلامك في المهد، مثل كلامك وأنت كهل، كلام ناضج ومحسوب، لا كلام طفل غر.

ثمّ أيضاً: (وإِذا علمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإِنجيل) إِنّ ذكر التّوراة والإِنجيل بعد ذكر كلمة كتاب مع أنّهما من الكتب السماوية، إِنّما هو من باب التفصيل بعد الإِجمال.

ومن النعم الأُخرى: (وإِذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً باذني).

ومع ذلك فإِنّك تشفي بإذن الله الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي البرص: (وتبرىء الأكمه والأبرص باذني).

ثمّ (وإِذ تخرج الموتى باذني).

[185]

وأخيراً كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذي بني إِسرائيل يوم قام الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنّه السحر، فدفعت أذى أُولئك المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتى تسير بدعوتك: (وإِذ كففت بني إِسرائيل عنك إِذ جئتهم بالبيانات فقال الذين كفروا منهم إِن هذا إِلاّ سحر مبين).

يستلفت النظر في هذه الآية أنّها تكرر «باذني» أربع مرات لكيلا يبقى مكان للغلو في المسيح(عليه السلام) وادعاء الألوهية له، أي أنّ ما كان يحققه المسيح(عليه السلام) بالرغم من إِعجازه وإِثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإِلهية، لم يكن ناشئاً منه، بل كان من الله وباذنه، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد الله، مطيع لأوامره، وما كان له إِلاّ ما يستمده من قوة الله الخالدة.

وقد يسأل سائل: إِنّ كانت هذه النعم كلها قد أسبغت على عيسى(عليه السلام) فلماذا تعتبر الآية هذه النعم قد أسبغت على أُمّه أيضاً؟

لا شك أنّ كل موهبة تصل الابن تكون قد وصلت الأُم أيضاً، فكلاهما من اصل واحد، ومن شجرة واحدة.

وكما ذكرنا في ذيل الآية (49) من سورة آل عمران، فإن هذه الآية والآيات المشابهة دلائل على ولاية أولياء الله التكوينية، ففي تاريخ حياة المسيح(عليه السلام)ينسب إِليه إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأبرص، ولكن بأمر الله وإِذنه.

يتّضح من هذا أنّ من الممكن أن ينعم الله على من يشاء قدرة كهذه تمكنه من التصرف بعالم التكوين والقيام بأمثال هذه الأعمال أحياناً، إِنّ تفسير هذه الآية بأنّها تشير إِلى دعاء الأنبياء وإستجابة الله لدعائهم هو خلاف ظاهر الآية، وأنّ ما نقصده بولاية أولياء الله التكوينية هو هذا الذي قلناه آنفاً، إِذ ليس ثمّة دليل على أكثر من هذا المقدار (انظر تفسير سورة آل عمران الآية (49) لمزيد من التوضيح).

* * *

[186]

الآيات

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ أَنْ ءَامِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَـعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(112) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّـهِدِينَ(113)قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تكُونُ لَنَا عِيداً لاَِّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(114) قَالَ اللهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَـلَمِينَ(115)

التّفسير

قصّة نزول المائدة على الحواريين:

تعقيباً على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم الله به على المسيح(عليه السلام) وأُمّه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم الله بها على الحواريين، أي أصحاب المسيح(عليه السلام).

ففي البداية تشير الآية إِلى ما أوحي إِلى الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله المسيح(عليه السلام) فاستجابوا (وإِذ أوحيت إِلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا

[187]

وأشهد بأنّنا مسلمون).

إن للوحي في القرآن معنى واسعاً لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء، بل أن الإِلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضاً، لذلك جاء هذا المعنى في الآية (7) من سورة القصص بشأن أم موسى التي أوحي إليها(1) بل إن الكلمة تطلق في القرآن حتى على الغرائز التكوينية عند الحيوان، كالنحل.

وهناك احتمال أن يكون المقصود هو الإِيحاء الذي كان يلقيه المسيح(عليه السلام)بواسطة المعاجز في نفوسهم.

لقد تناولنا الحواريين وأصحاب المسيح(عليه السلام) بالبحث في تفسير آية (52) آل عمران هذا التّفسير.

ثمّ تذكر الآية نزول المائدة من السماء: (إِذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا من السماء).

«المائدة» تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها وأصلها من «ميد» بمعنى التحرك والإِهتزاز، ولعل سبب إِطلاق لفظة المائدة على السفرة والطعام هو ما يلازمها من تحريك وانتقال.

شعر المسيح(عليه السلام) بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات، فخاطبهم و(قال اتقوا الله إِن كنتم مؤمنين).

ولكنّهم سرعان ما أكّدوا للمسيح(عليه السلام) أن هدفهم برىء، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج، بل يريدون الأكل منها (مضافاً إِلى الحالة النّورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته اثر مسلّم في روح الانسان) (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين).

_____________________________

1 ـ (وأوحينا إِلى أُم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم...).

[188]

فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإِلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين.

ولمّا أدرك عيسى(عليه السلام) حسن نيّتهم في طلبهم ذاك، عرض الأمر على الله: (قال عيسى ابن مريم اللّهم ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين).

من الواضح هنا أنّ الأُسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.

فاستجاب الله لهذا الطلب الصادر عن حسن نية وإِخلاص، (قال الله إِني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذاباً لا اُعذبه أحداً من العالمين).

فبعد نزول المائدة تزداد مسؤوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضاً في حالة الكفر والإِنحراف.

ملاحظات

هنا لابدّ من التحقيق في عدّة نقاط من هذه الآيات الكريمة:

1 ـ ما القصد من طلب المائدة؟

لاشك أنّ الحواريين لم يكونوا مدفوعين بقصد سيء في طلبهم هذا، ولا هم كانوا يريدون المشاكسة والمعاندة، بل كانوا يرغبون في بلوغ مرحلة الإِطمئنان الأقوى وإِبعاد ما بقي من رواسب الشك والوسوسة من أعماقهم، فكثيراً ما يحدث أنّ انساناً يتأكد من أمر بالمنطق وحتى بالتجربة، ولكن إِذا كان الأمر مهماً جدّاً فإنّ بقايا من الشك والتردد تظل في ثنايا قلبه، لذلك فهو شديد الرغبة في أن تتكرر تجاربه واختباراته، أو أن تتبدل استدلالاته المنطقية والعلمية إِلى مشاهدات عينية تقتلع من أعماق قلبه جذور تلك الشكوك والوساوس، ولهذا نرى إِبراهيم(عليه السلام)، على ما كان عليه من مقام ويقين يسأل الله أن يرى المعاد رأي

[189]

العين لكي يتبدل إِيمانه العلمي إِلى «عين اليقين» وإِلى «شهود».

ولكن اُسلوب طلب الحواريين تميز بشيء من الفضاضة لذلك ظن عيسى(عليه السلام)أنّهم بصدد البحث عن الأعذار والحجج، فاعترضهم وبعد أن شرحوا له حقيقة موقفهم وافق على طلبهم.

2 ـ ما المقصود بعبارة (هل يستطيع ربّك)؟

لا شك أنّ ظاهر هذا الكلام يوحي بأنّ الحواريين كانوا يشكون في قدرة الله على إِنزال مائدة، إِلاّ أنّ المفسّرين المسلمين لهم آراء أُخرى في تفسيرها، منها أنّ هذا الطلب وقع في بداية أمرهم وقبل أن يتعرفوا على جميع صفات الله.

ورأي آخر يقول: إِنّ سؤالهم يعني: هل يرى الله أن من المصلحة أن ينزل عليهم مائدة من السماء؟ كأن يقول شخص: لا أستطيع أن أعهد إِلى فلان بكل ثروتي، ولا يعني أنّه ليس بقادر على ذلك، بل يعني أنّه لا يرى مصلحة في الأمر.

ورأي ثالث يقول: أن «يستطيع» تعني «يستجيب» لأن مادة (طوع) تعني الإِنقياد، فإِذا وردت من باب (الإِستفعال) فيمكن أن تفيد المعنى نفسه، فيكون المعنى: هل يستجيب الله لطلبنا بشأن إِنزال مائدة من السماء؟

3 ـ ما هي تلك المائدة السماوية؟

لم يذكر القرآن شيئاً عن محتوياتها، ولكن يستفاد من بعض الأحاديث، وخاصة الحديث المروي عن الإِمام الباقر(عليه السلام)، أن تلك المائدة كانت تحوي أرغفة من الخبز ومقداراً من السمك، ولعل سبب طلب هذه المعجزة كان ما سمعوه عن المائدة السماوية التي نزلت على بني إِسرائيل باعجاز من موسى(عليه السلام) فطلبوا هم أيضاً من عيسى(عليه السلام) مثل ذلك.

4 ـ هل نزلت عليهم مائدة؟

رغم أنّ الآيات المذكورة تكاد تصرح بنزول المائدة، فالله لا يخلف وعده، ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين يشكون في نزول المائدة، ويقولون: أنّ الحواريين حين عرفوا عظم المسؤولية التي سوف تقع عليهم بعد نزول المائدة،

[190]

تخلوا عن طلبهم، ولكن الواقع أنّ المائدة قد نزلت فعلا.

5 ـ ما العيد؟

«العيد» في اللغة من «العود» أي الرجوع، لذلك فذكرى الأيّام التي تنداح فيها المشاكل عن قوم أو مجتمع وتعود أيام الفوز والهناء الأوّل تكون عيداً. كذلك هي الأعياد الإِسلامية فبعد شهر من طاعة الله في صوم رمضان، أو بعد أداء فريضة الحج العظيمة، يعود إِلى النفس طهرها وصفاؤها الأولين الفطريين، ويزول التلوث عن الفطرة، فيكون العيد، ولما كان يوم نزول المائدة يوم العودة إِلى الفوز والطهارة والإِيمان بالله، فقد سمّاه المسيح(عليه السلام) عيداً.

وقد ورد في الأخبار أنّ نزول المائدة كان في يوم الأحد، ولعل هذا هو سبب الإِحترام الذي يكنه المسيحيون لهذا اليوم.

إِنّنا نقرأ لأمير المؤمنين علي(عليه السلام) قوله: «وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد»(1).

وفي هذا إِشارة إِلى الموضوع نفسه، لأنّ يوم ترك المعصية هو يوم فوز وطهارة وعودة إِلى الفطرة الاُولى.

6 ـ لماذا العقاب الشديد؟

هنا أمر مهم ينبغي ألا نغفل عنه، وذلك أنّه عندما يبلغ الإِيمان مرحلة الشهود وعين اليقين أي عندما ترى الحقيقة رأي العين، ولا يبقى مكان لأي شك أو تردد، فإنّ مسؤولية المرء تزداد وتثقل، لأنّ هذا المرء لم يعد ذلك الذي كانت تنتابه الوساوس والشكوك من قبل، بل هو امرؤ ورد مرحلة جديدة من الإِيمان وتحمل المسؤولية، فأقل تقصير أو غفلة من جانبه يستدعي العقاب الشديد، ولهذا فإنّ مسؤولية الأنبياء وأولياء الله أشد وأثقل، بحيث أنّهم كانوا في خشية دائمة منها، إِننا في الحياة اليومية نصادف نماذج من هذا القبيل أيضاً، فمثلا يعلم كل شخص أنّ في بلده أو مدينته جياعاً يتحمل مسؤوليتهم، ولكنه عندما يرى بعينيه انساناً

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 428.

[191]

بريئاً يتضور جوعاً ويتألم سغباً، فلا شك أنّ درجة مسؤوليته تكون عندئذ أعلى.

7 ـ «العهد الجديد» والمائدة

في الأناجيل الأربعة الموجودة حالياً لا نجد كلاماً عن المائدة كما في القرآن، عدا ما جاء في إِنجيل يوحنا، في الباب (21)، حول استضافة المسيح الإِعجازية جمعاً من الناس بالخبز والسمك، ولكننا بقليل من التفحص ندرك أنّ ذلك لا علاقة له بالمائدة التي نزلت من السماء للحواريين(1).

ثمّة كلام في كتاب «أعمال الرسل» وهو من كتب العهد الجديد، يدور حول نزول مائدة على أحد الحواريين واسمه بطرس، ولكن هذا أيضاً ليس هو الموضوع الذي نحن بصدده، غير أنّنا نعلم أن كثيراً من الحقائق التي نزلت على عيسى(عليه السلام) لا أثر لها في الأناجيل السائدة، كما أن كثيراً ممّا نراه في هذه الأناجيل لم ينزل على المسيح(عليه السلام)(2).

* * *

_____________________________

1 ـ «الهدى إلى دين المصطفى»، ج 2، ص 239.

2 ـ نفس المصدر.

[192]

الآيات

وَإِذْ قَالَ اللهُ يَـعِيَسى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخُذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَـنَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّـمُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبِدُوا اللهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّادُمْتُ فِيهُمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ(117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزَيزُ الْحَكِيمُ(118)

التّفسير

براءة المسيح من شرك أتباعه:

هذه الآيات تشير إِلى حديث يدور بين الله والمسيح يوم القيامة، بدليل أنّنا بعد بضع آيات نقرأ: (هذا يوم ينفع الصّادقين صدقهم) ولا شك أنّه يوم القيامة.

ثمّ أنّ جملة (فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم) دليل آخر على أنّ الحوار قد جرى بعد عهد نبوة المسيح(عليه السلام)، والفعل «قال» الماضي لا يتعارض مع ما ذهبنا

[193]

إِليه، لأنّ القرآن مليء بذكر أُمور عن يوم القيامة استعمل فيها الزمن الماضي، وهو إِشارة إِلى أنّ وقوعه حتمي، أي أنّ مجيئه فى المستقبل على درجة من الثبوت والحتمية بحيث أنّه يبدو وكأنّه قد وقع فعلا، فيستعمل له صيغة الماضي.

على كل حال تقول الآية الاُولى: (وإِذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إِلهين من دون الله).

لا ريب أنّ المسيح(عليه السلام) لم يقل شيئاً كهذا، بل دعا إِلى التوحيد وعبادة الله،أنّ القصد من هذا الإِستفهام هو إِستنطاقه أمام أُمّته وبيان إِدانتها.

فيجيب المسيح(عليه السلام) بكل احترام ببضع جمل على هذا السؤال:

1 ـ أوّلا ينزّه الله عن كل شرك وشبهة: (قال سبحانك).

2 ـ ثمّ يقول: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.

فهو في الحقيقة لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.

3 ـ ثمّ يستند إِلى علم الله الذي لا تحده حدود تأكيداً لبراءته فيقول: (إِن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إِنّك أنت علام الغيوب)(1).

4 ـ (ما قلت لهم إِلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه ربّي وربَّكم)، لا أكثر من ذلك.

5 ـ (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد)(2).

أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم، فكنت

_____________________________

1 ـ إطلاق كلمة «نفس» على الله لا يعني الروح، فمن معاني النفس الذات.

2 ـ في معنى «توفى» وكونها لا تعني موت المسيح(عليه السلام) أُنظر ذيل الآية (55) من سورة آل عمران في المجلد الثّاني.

[194]

الرقيب والشاهد عليهم، ولكن بعد أن رفعتني إِليك، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.

6 ـ (إِن تعذبهم فإنّهم عبادك وإِن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)، أي على كل حال فالأمر أمرك والإِرادة إِرادتك، إِن شئت أن تعاقبهم على إِنحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفروا من عذابك، فهذا حقّك بإزاء العصاة من عبيدك، وإِن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم، فلا عفوك دليل ضعف، ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.

* * *

هنا يتبادر إِلى الذهن سؤالان:

1 ـ هل يوجد في تاريخ المسيحية ما يدل على أنّهم اتّخذوا من (مريم) معبودة؟ أم أنّهم إِنّما قالوا فقط بالتثليث أو الآلهة الثلاثة: (الإِله الأب) و(الإِله الابن) و(روح القدس) على اعتبار أن (روح القدس) هو الوسيط بين (الإِله الأب) و(الإِله الابن) وهو ليس (مريم).

للإِجابة على هذا السؤال نقول: صحيح أنّ المسيحيين لم يؤلهوا مريم، ولكنّهم كانوا يؤدون أمام تمثالها طقوس العبادة، كالوثنيين الذى لم يكونوا يعتبرون الأصنام آلهة، ولكنّهم كانوا يعتبرونها شريكة لله في العبادة.

وهناك فرق بين «الله» بمعنى الخالق، والـ«إله» بمعنى المعبود، وكانت (مريم) عند المسيحيين (آلهة) لا أنّها بمثابة «الله».

يقول أحد المفسّرين: إِنّ المسيحيين على إختلاف فرقهم، وإن لم يطلقوا كلمة (إِله) أو معبود على مريم، واعتبروها أم الإِله لا غير، فهم في الواقع يقدمون لها طقوس الدعاء والعبادة، سواء أطلقوا عليها هذا الاسم أم لم يطلقوه، ثمّ يضيف

[195]

قائلاً: قبل مدّة صدر في بيروت العدد التاسع من السنة السابقة من مجلة (المشرق) المسيحية بمناسبة الذكرى الخمسين للبابا (بيوس التاسع) وفيها مواضيع مثيرة عن السيدة مريم، منها تصريح بأنّ كلتا الكنيستين الشرقية والغربية تعبدان (مريم).

وفي العدد الرّابع عشر من السنة الخامسة من المجلة نفسها مقال بقلم (الأب انستانس الكرملي) حاول فيه أن يعثر عن أُصول عبادة مريم حتى في العهد القديم، فراح يفسر حكاية الأفعى (الشيطان) والمرأة (حواء) باعتبارها حكاية مريم(1).

وعليه فإنّ عبادة مريم موجودة بينهم.

2 ـ السؤال الثّاني: كيف يتحدث المسيح(عليه السلام) عن مشركي أُمّته بعبارات يشم منها رائحة الشفاعة لهم فيقول: (وإِن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم)؟ أيكون المشرك أهلا للشفاعة والغفران؟

في الجواب نقول: لو كان قصد عيسى(عليه السلام) هو الشفاعة لهم لكان عليه أن يقول: (فإنك أنت الغفور الرحيم) لأن غفران الله ورحمته هما اللذان يناسبان مقام الشفاعة، ولكنّنا نراه يقول (فإنّك أنت العزيز الحكيم) من هذا يتّضح أنّه لم يكن في مقام الشفاعة لهم، بل كان يريد أن ينفي عن نفسه أي اختيار وأن يوكل الأمر كلّه إلى الله، إِن شاء عفا، وإِن شاء عاقب، وكل مشيئة منه سبحانه تستند إِلى حكمة.

ثمّ ربّما كما بينهم جماعة أدركت خطأها وسارت على طريق التوبة، فتكون هذه الجملة قد قيلت بحقها.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير «المنار»، ج 7، ص 263.

[196]

الآيتان

قَالَ اللهُ هَـذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(119) للهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(120)

التّفسير

الفوز العظيم:

بعد الحوار الذي جرى بين الله والمسيح(عليه السلام) يوم القيامة ـ كما شرحناه في تفسير الآيات السابقة ـ تقول الآية (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم).

طبيعي أنّ المقصود من هذا هو أنّ الصدق في القول والعمل في هذه الدنيا هو الذي ينفع في الآخرة، لأن الصدق في الآخرة ـ التي لا تكليف فيها ـ لا ينفع شيئاً ثمّ أنّ الوضع في تلك الحياة مختلف بحيث لا يستطيع أحد إِلاّ أن يقول الصدق، حتى المذنبون يعترفون بسيئات ما عملوا، وعلى هذا فلا وجود للكذب يوم القيامة.

وعليه، فإنّ الذين أنجزوا ما كلّفوا من مسؤولية ورسالة ولم يسيروا إِلاّ في

[197]

طريق الصدق، مثل المسيح(عليه السلام) وأتباعه الصادقين، أو أتباع سائر الأنبياء الآخرين الذين التزموا الصدق سينالون ثوابهم.

يتّضح لنا من هذا بأنّ جميع الأعمال الصالحات يمكن أن تنطوي تحت عنوان الصدق في القول والفعل، وأنّه الرصيد الذي ينفع يوم القيامة لا غير.

وهؤلاء الصادقون: (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) وخير من هذه النعمة المادية أنّهم: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شيء عظيم: (ذلك الفوز العظيم).

يلفت النظر أنّ الآية، بعد ذكر بساتين الجنّة ونعمها الكثيرة، تذكر نعمة رضى الله عن عباده، ورضى عباده عنه وتصف ذلك بأنّه الفوز العظيم، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الرضى المتبادل، فقد يكون أمرؤ غارقاً في أرفع نعم الله، ولكنّه إِذا أحس بأنّ مولاه ومعبوده ومحبوبه ليس راضياً عنه، فإن جميع تلك النعم والهبات تصير علقماً في ذائقة روحه.

كما يمكن أن يتوفر لأمرىء كل شيء، ولكنه لا يكون راضياً ولا قانعاً بما عنده، فمن الواضح أنّ هذه النعم بأجمعها غير قادرة على إِسعاد تلك الروح، بل تكون دائماً معرضة لعذاب قلق غامض واضطراب نفسي مستمر يقضيان على الراحة النفسية التي هي من أعظم نعم الله.

ثمّ إِذا كان الله راضياً عن أمرىء فإنّه يعطيه كل ما يريد، فإذا أعطاه كل ما يريد فإنّه يكون راضيا عن ربّه أيضاً، من هنا فإنّ أعظم النعم هي أن يرضى الله عن الإِنسان ويرضى الإِنسان عن ربّه.

وفي آخر الآية إِشارة إِلى امتلاك الله كل شيء وسيطرته على السموات والأرض وما فيها، وأنّ قدرته عامّة تشمل كل شيء: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير).

[198]

هذه الآية، في الواقع، تعتبر سبب رضى عباد الله عن الله، وذلك لأنّ الذي يملك كل شيء في عالم الوجود له القدرة أن يعطي عباده ما يريدون وأن يغفر لهم وأن يفرحهم ويرضيهم، كما تتضمن إِشارة إِلى عدم صدق أعمال النصارى في عبادة مريم، لأنّ العبادة جديرة بأن تكون لمن يحكم عالم الخليقة بأكمله، لا مريم التي لا تزيد عن كونها مخلوقة مثلهم.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339122

  • التاريخ : 29/03/2024 - 14:00

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net