00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المائدة من آية 70 ـ 96 من ( 105 ـ 154 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[105]

الآيتان

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَـقَ بَنِى إِسْرَءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ(70) وحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثمّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثمّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(71)

التّفسير

في آيات سابقة من سورة البقرة، وفي أوائل هذه السورة أيضاً إِشارة إِلى عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني إِسرائيل وفي هذه الآية تذكير بهذا الميثاق: (لقد أخذنا ميثاق بني إِسرائيل وأرسلنا إِليهم رسلا).

يبدو أنّ هذا الميثاق هو الذي جاءت الإِشارة إِليه في الآية (93) من سورة البقرة، أي العمل بما أنزل الله!

ثمّ يضاف إِلى ذلك القول بأنّهم، فضلا عن كونهم لم يعملوا بذاك الميثاق، (كلّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون).

هذه هي طرائق المنحرفين الأنانيين وسبلهم، فهم بدلا من إِتباع قادتهم، يصرون على أن يكون القادة هم التابعين ولاهوائهم، وإِلاّ فليس لهؤلاء الهداة

[106]

والأنبياء حتى حق الحياة.

في هذه الآية جاء الفعل «كذبوا» بصيغة الماضي بينما جاء الفعل «يقتلون» بصيغة المضارع، ولعل السبب ـ بالإِضافة إِلى المحافظة على التناسب اللفظي في أواخر الآيات السابقة والتّالية وكلها بصيغة المضارع ـ هو كون الفعل المضارع يدل على الإِستمرار، والقصد من ذلك الإِشارة إِلى إِستمرار هذه الروح فيهم، وأن تكذيب الأنبياء وقتلهم لم يكن حدثاً عارضاً في حياتهم، بل كان طريقاً وإِتجاهاً لهم(1).

في الآية التّالية إِشارة إِلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم: (وحسبوا أن لا تكون فتنة) أي ظنوا مع ذلك أن البلاء والجزاء لن ينزل بهم، واعتقدوا ـ كما صرحت الآيات الأُخرى ـ أنّهم من جنس أرقى، وأنّهم أبناء الله!!

وأخيراً إِستحال هذا الغرور الخطير والتكبر إِلى ما يشبه حجاباً غطى أعينهم وآذانهم: (فعموا وصمّوا) عن رؤية آيات الله وعن سماع كلمات الحقّ.

ولكنّهم عندما أصابتهم مظاهر من عقاب الله وشاهدوا نتائج أعمالهم المشؤومة، ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أن وعد الله حق، وأنّهم ليسوا عنصراً متميزاً فائقاً.

وتقبل الله توبتهم: (ثمّ تاب الله عليهم).

إِلاّ أنّ حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلا، فسرعان ما عاد الطغيان والتجبر وسحق الحقّ والعدالة، وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الإِنغماس في الإِثم تحجب أعينهم وآذانهم مرّة أُخرى (ثمّ عموا وصمّوا كثير منهم) فلم يعودوا يرون آيات أو يسمعوا كلمة الحقّ، وعمت الحالة الكثير منهم.

ولعل تقديم «عموا» على «وصمّوا» يعني أن عليهم أوّلا أن يبصروا آيات الله

_____________________________

1 ـ في الواقع وكما جاء في تفسير «مجمع البيان» وفي غيره إِنّ عبارة، «فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون» في الأصل «كذبوا وقتلوا» و«يكذبون ويقتلون».

[107]

ومعجزات رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ يستمعوا إِلى تعاليمه ويستوعبوها.

وورود عبارة (كثير منهم) بعد تكرار (عموا وصمّوا) جاء لتوضيح أنّ حالة الغفلة والجهل والعمى والصمم تجاه الحقائق لم تكن عامّة، بل كان بينهم بعض الأقلية من الصالحين، وفي هذا دليل على أن تنديد القرآن باليهود لا ينطوي على أي جانب عنصري أو طائفي، بل هو موجّه إِلى أعمالهم فحسب.

هل أن تكرار عبارة (عموا وصمّوا) ذو طابع عام تأكيدي، أم للإِشارة إِلى حادثتين مختلفتين؟

يرى بعض المفسّرين أنّ التكرار يشير إِلى واقعتين مختلفتين حدثتا لبني إِسرائيل، الاُولى: الغزو البابلي لهم، والثّانية: غزو الإِيرانيين والروم، والقرآن أشار إِليها بشكل عابر في بداية سورة بني إِسرائيل.

ولا يستبعد ـ أيضاً ـ أنّ بني إِسرائيل قد تعرضوا مرات عديدة لهذه الحالات فحينما يشاهدون نتائج أعمالهم الشريرة، كانوا يتوبون، ثمّ ينقضون توبتهم، وقد حدث هذا عدّة مرّات لا مرّتين فقط.

في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول: إنّ الله لا يغفل أبداً عن أعمالهم، إِذ أنّه يرى كل ما يعملون: (والله بصير بما يعملون).

* * *

[108]

الآيات

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَـبَنِى إِسْرَءِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّـلِمِينَ مِنْ أنصَار(72)لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَـثَة وَمَا مِنْ إِلَـه إِلاَّ إِلَـهٌ وَحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيـَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(74)

التّفسير

تعقيباً على البحوث الماضية بشأن انحرافات اليهود التي مرّت في الآيات السابقة، تتحدث هذه الآيات والتي تليها عن إِنحرافات المسيحيين، فتبدأ أولا بأهم تلك الإِنحرافات، أي «تأليه المسيح» «تثليث المعبود»: (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم).

وأيّ كفر أشدّ من أن يجعلوا الله اللامحدود من جميع الجهات متحداً مع مخلوق محدود من جميع الجهات، وأن يصفوا الخالق بصفات المخلوق. مع أنّ

[109]

المسيح(عليه السلام) نفسه يعلن صراحة لبني إِسرائيل: (يا بني إِسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم) وبهذا يستنكر كل لون من ألوان الشرك، ويفرض الغلوّ في شخصه، ويعتبر نفسه مخلوقاً كسائر مخلوقات الله.

ولكي يشدد المسيح التوكيد على هذا الأمر، وليزيل كل إِبهام وخطأ، يضيف قائلا: (إِنّ من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنّة ومأواه النّار).

ويمضي في التوكيد وإِثبات أنّ الشرك والغلو ضرب من الظلم الواضح، فيقول أيضاً: (وما للظالمين من أنصار).

سبق أن أشرنا إِلى أنّ تاريخ المسيحية يؤكّد بأنّ التثليث لم يكن معروفاً في القرون الاُولى من المسيحية، ولا حتى على عهد المسيح(عليه السلام)، بل أن الأناجيل الموجودة ـ على الرغم من كل ما فيها من تحريفات وإِضافات ـ ليس فيها أدنى إِشارة إِلى التثليث، وهذا ما يعترف به المحققون المسيحيون أنفسهم، وعليه فإِن ما ورد في الآية المذكورة عن إِصرار المسيح(عليه السلام) على مسألة التوحيد إِنّما ينسجم مع المصادر المسيحية الموجودة، ويعتبر من دلائل عظمة القرآن(1).

وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الموضوع الذي تتناوله الآية هو الغلو ووحدة المسيح بالله، أو بعبارة أُخرى، هو «التوحيد في التثليث»، ولكن الآية التّالية تشير إِلى مسألة «تعدد الآلهة» في نظر المسيحيين، أي «التثليث في التوحيد»، وتقول: إنّ الذين قالوا أن الله ثالث الأقانيم(2) الثلاثة لا ريب أنّهم كافرون: (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة).

إِعتقد كثير من المفسّرين، ومنهم الطبرسي في «مجمع البيان»، والشيخ الطوسي في «التبيان»، والفخر الرازي والقرطبي في تفسيريهما، أنّ الآية السابقة تشير إِلى فرقة من المسيحيين باسم «اليعاقبة» يعتقدون أن الله متحد بالمسيح(عليه السلام)،

_____________________________

1 ـ للمزيد من توضيح التثليث والوحدة في التثليث أُنظر المجلد الثالث من هذا التّفسير.

2 ـ «الأقنوم» بمعنى الأصل والذات، جمعها «أقانيم».

[110]

وهذه الآية وردت بشأن فرقة أُخرى هي «الملكانية» و«النسطورية» الذين يقولون بالأقانيم الثلاثة، أو الآلهة الثلاثة.

غير أنّ هذه النظرة عن المسيحية كما سبق أن قلنا ـ لا تطابق مع الواقع، لأن الإِعتقاد بالتثليث عام بين المسيحيين كافة، كما أن التوحيد بيننا نحن المسلمين عقيدة عامّة قطعية، ولكنّهم في الوقت الذي يعتقدون حقاً بتثليث الأرباب، يؤمنون أيضاً بالوحدة الحقيقية، قائلين أن ثلاثة حقيقيين يؤلفون واحداً حقيقياً!

الظاهر أنّ الآيتين المذكورتين تشيران إِلى جانبين مختلفين لهاتين القضيتين: في الاُولى إِشارة إِلى وحدة الآلهة الثلاثة، وفي الثّانية إِشارة إِلى تعددها، وتوالي المسألتين هو في الحقيقة إِشارة الى واحد من الأدلة الواضحة على بطلان عقيدتهم، فكيف يمكن لله أن يكون واحداً مع المسيح وروح القدس مرّة، ومرّة أُخرى يكون ثلاثة أشياء؟ أمن المعقول أن يتساوى الثلاثة مع الواحد؟!

إنّ ما يؤيد هذه الحقيقة هو أنّنا لا نجد بين المسيحيين أية طائفة لا تؤمن بالآلهة الثلاثة!(1)

ويرد القرآن عليهم رداً قاطعاً فيقول: (وما من إِله إِلاّ إِله واحد) وفي ذكر «من» قبل «إِله» نفي أقوي لأي معبود آخر.

ثمّ ينذرهم بلهجة قاطعة: (وإِن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم).

يقول بعضهم أن «من» في «منهم» بيانية، ولكن الظاهر أنّها تبعيضية تشير إِلى الذين بقوا على كفرهم حتى بعد أن دعا القرآن إِلى التوحيد، لا الذين تابوا ورجعوا.

يذكر صاحب «المنار» قصّة في المجال تكشف عن غموض تثليث النصارى

_____________________________

1 ـ ورد في بعض الرّوايات، وكذلك بعض التواريخ أنّ بين المسيحيين أقلية لاتؤمن بالتثليث، بل يعتقدون اتحاد عيسى بالله، ولكننا لا نرى لهؤلاء في هذا العصر اسم ولا رسم.

[111]

وتوحيدهم نقلا عن صاحب (إِظهار الحقّ) قال:

«نقل أنّه تنصر ثلاثة أشخاص، وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية، سيما عقيدة التثليث وكانوا في خدمته، فجاء أحد المسيحيين إِلى هذا القسيس، وسأله عمن تنصّر. فقال: ثلاثة أشخاص تنصّروا فسأله: هل تعلموا شيئاً من العقائد الضرورية؟ فقال: نعم، واستدعى واحداً منهم ليريه ذلك فسأله القسيس عن عقيدة التثليث، فقال: إِنّك علمتني أن الآلهة ثلاثة، أحدهم في السماء، والثّاني تولد من بطن مريم العذراء، والثّالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإِله الثّاني بعدما صار ابن ثلاثين سنة، فغضب القسيس وطرده وقال: هذا جاهل.

ثمّ طلب الآخر منهم سأله فقال: إِنّك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إِلهان، فغضب عليه القسيس أيضاً وطرده.

ثمّ طلب الثّالث وكان ذكياً بالنسبة إِلى الأولين وحريصاً في حفظ العقائد، فسأله، فقال: يا مولاي، حفظت ما علمتني حفظاً جيداً، وفهمت فهماً كاملا بفضل السيد المسيح: أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وصلب واحد منهم ومات، فمات الكل لأجل الإِتحاد، ولا إِله الآن، وإِلاّ يلزم نفي الإِتحاد!

في الآية الثّالثة يدعوهم القرآن إِلى أن يتوبوا عن هذه العقيدة الكافرة لكي يغفر لهم الله تعالى، فيقول: (أفلا يتوبون إِلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم).

* * *

[112]

الآيات

مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الاَْيَـتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(76) قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَـبِ لاَ تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْم قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ(77)

التّفسير

تواصل هذه الآيات البحث الذي جاء في الآيات السابقة حول غلو المسيحيين في المسيح(عليه السلام) واعتقادهم بألوهيته، فتفند في بضع آيات قصار اعتقادهم هذا، وتبدأ متسائلة عمّا وجدوه في المسيح من إِختلاف عن باقي الأنبياء حتى راحوا يؤلهونه، فالمسيح ابن مريم قد بعثه الله كما بعث سائر الأنبياء من قبله: (ما المسيح ابن مريم إِلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل).

إِذا كان بعثه من قبل الله سبباً للتأليه والشرك، فلماذا لا تقولون القول نفسه بشأن سائر الأنبياء؟

[113]

ولكنّنا نعلم أنّ المسيحيين المنحرفين لا يقنعون باعتبار عيسى(عليه السلام) مجرّد مبعوث من الله، فاعتقادهم العام في الوقت الحاضر هو اعتباره ابن الله، وأنّه هو الله بمعنى من المعاني وأنّه جاء ليفتدي ذنوب البشر (ولم يأت لهدايتهم وقيادتهم) لذلك أطلقوا عليه اسم «الفادي» أي الذي افتدى بنفسه آثام البشر.

ولمزيد من التوكيد، يقول: (وأُمّه صديقة) أي أنّ من تكون له أُمّ حملته في رحمها، ومن يكون محتاجاً إِلى كثير من الأُمور، كيف يمكن أن يكون إِلهاً؟! ثمّ إِذا كانت أُمّه صديقة فذلك لأنّها هي أيضاً على خط رسالة المسيح(عليه السلام)، منسجمة معه، وتدافع عن رسالته، لهذا فقد كان عبداً من عباد الله المقربين، فينبغي ألاّ يتخذ معبوداً كما هو السائد بين المسيحيين الذين يخضعون أمام تمثاله إِلى حدّ العبادة.

ومرّة أُخرى يشير القرآن إِلى دليل آخر ينفي الربوبية عن المسيح(عليه السلام)، فيقول: (كانا يأكلان الطعام).

فهذا الذي يحتاج إِلى الطعام، ولو لم يتناول طعاماً لعدّة أيّام يضعف عن الحركة، كيف يمكن أن يكون ربّاً أو يقرن بالربّ؟!

وفي ختام الآية إِشارة وضوح هذه الدلائل من جهة، وإِلى عناد أُولئك وجهلهم من جهة أُخرى، فيقول: (انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثمّ انظر كيف يؤفكون)(1).

تكرر كلمة «انظر» في الآية توجيه للنظر إِلى جهتين: إِلى الدلائل الواضحة الكافية لكل شخص، وإِلى رد الفعل السلبي المحير المثير للعجب الصادر من هؤلاء.

ولكي يكمل الإِستدلال السابق تستنكر الآية التّالية عبادتهم المسيح مع أنّهم يعلمون أن له احتياجات بشرية، وإِنّه لا قدرة له على دفع الضرر عن نفسه أو

_____________________________

1 ـ الإِفك: كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، والمأفوك: المصروف عن الحقّ، وإن كان عن تقصيره، ومن هنا يسمّى إفكاً، لأنّه يصد الإِنسان عن الحقّ.

[114]

نفعها، فكيف يتسنى له دفع الضرر عن الغير أو نفعهم؟ (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً)؟

فكثيراً ما تعرّض هو وأتباعه للأذى على أيدي أعدائهم، ولولا أنّ الله شمله بلطفه لما استطاع أن يخطو خطوة واحدة.

وفي النهاية يحذرهم من أن يظنوا أنّ الله لا يسمع ما يتقولونه أو لا يعلم ما يكنونه: (والله هو السميع العليم).

ممّا يلفت النظر أنّ مسألة كون المسيح(عليه السلام) بشراً ذا حاجات مادية جسمانية ـ وهي ما يستند إِليها القرآن في هذه الآية وفي آيات أُخرى ـ كانت من أكبر المعضلات بوجه المسيحيين الذين يدعون ألوهيته، فسعوا إِلى تبرير ذلك بشتى الأساليب، حتى أنّهم إِضطروا أحياناً إِلى القول بثنائية المسيح: اللاهوت والناسوت، فهو من حيث لاهوتيته ابن الله، بل هو الله نفسه ومن حيث ناسوتيته فهو جسم ومخلوق من مخلوقات الله، وأمثال ذلك من التبريرات التي هي خير دلالة على ضعف منطقهم وخطله.

لابدّ من الإِلتفات أيضاً أنّ الآية استعملت «ما» بمكان «من» والتي تشير عادة إِلى غير العاقل، ولعل ذلك يفيد الشمول بالنسبة للمعبودات والأصنام المصنوعة من الحجر أو الخشب، فيكون المقصود هو أنّه إِذا جاز أن يعبد الناس مخلوقاً، جازت كذلك عبادتهم الأصنام، لأنّ هذه المعبودات تتساوى من حيث كونها جميعاً مخلوقات، وأنّ تأليه المسيح(عليه السلام) ضرب من عبادة الأصنام، لا عبادة الإِله.

الآية التّالية تأمر رسول الله(عليه السلام)، بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو أن يدعوهم بالأدلة الجلية إِلى الرجوع عن السير في هذا الطريق: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ)(1).

_____________________________

1 ـ «لا تغلو» من مادة «الغلو» وهي بمعنى تجاوز الحدّ، إِلاّ أنّها تستعمل للإِشارة تجاوز الحدّ بالنسبة لمقام شخص من الأشخاص ومنزلته، وبالنسبة للأسعار وتستعمل كلمة «الغلاء» و«غلو» السهم على وزنه «دلو» ارتفاعه وتجاوزه مداه، وفي الماء يقال «غليان» و«الغلواء» جموح في الحيوان، وهي جميعاً من أصل واحد، ويرى بعضهم أن الغلو يعني الإِفراط والتفريط معاً، ويحصر بعضهم معناه بالتفريط فقط، ويقابله التقصير.

[115]

إِنّ غلو النصارى معروف، إِلاّ أنّ غلو اليهود، الذي يشملهم تعبير (يا أهل الكتاب) قد يكون إِشارة إِلى ما كانوا يقولونه عن العزير وقد اعتبروه ابن الله، ولما كان الغلو ينشأ ـ أكثر ما ينشأ ـ عن إِتباع الضالين أهواءهم، لذلك يقول الله سبحانه (ولا تتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل).

وفي هذا إِشارة أيضاً إِلى ما انعكس في التّأريخ المسيحي، إِذ أنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيح(عليه السلام) لم يكن له وجود خلال القرون الاُولى من المسيحية، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وامثالهم من عبدة الأصنام المسيحية أدخلوا فيها شيئاً من دينهم السابق، كالتثليث والشرك.

إِنّ الثالوث الهندي (الإِيمان بالآلهة الثلاثة: برهما، وفيشنو، وسيغا)، كان تاريخياً أسبق من التثليث المسيحي الذي لا شك أنّه انعكاس لذاك، ففي الآية الثلاثين من سورة التوبة وبعد ذكر غلو اليهود والنصارى في مسألة العزير والمسيح(عليه السلام) يقول سبحانه (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل).

وقد وردت كلمة «ضلوا» في هذه الآية مرّتين بالنسبة للكفار الذين اقتبس منهم أهل الكتاب الغلو، ولعل هذا التكرار من باب التوكيد، إِذ أنّهم كانوا قبل ذلك من الضّالين، ثمّ لمّا أضلّوا ّلآخرين بدعاواهم وقعوا في ضلال آخر، ومن يسعى لتضليل الآخرين يكون أضلّ منهم في الواقع، لأنّه يكون قد استهلك قواه لدفع نفسه ودفع الآخرين إِلى طريق التعاسة ولحمل آثام الآخرين أيضاً على كاهله، وهل يرتضي المرء السائر على الطريق المستقيم أن يضيف إِلى آثامه آثام غيره أيضاً؟

* * *

[116]

الآيات

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا  لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَر فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَروُا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَـلِدُونَ(80)

التّفسير

تشير هذه الآيات إِلى المصير المشؤوم الذي انتهى إِليه الكافرون السابقون، لكي يعتبر به أهل الكتاب فلا يتبعونهم إِتباعاً أعمى، فيقول: (لعن الذين كفروا من بني إِسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم).

أمّا لماذا ورد اسما هذين النّبيين دون غيرهما، فللمفسّرين في ذلك أقوال، فمن قائل: إنّ السبب هو أنّهما كانا أشهر الأنبياء بعد موسى(عليه السلام)، وقيل: إنّ السبب هو أنّ كثيراً من أهل الكتاب كانوا يفخرون بأنّهم من نسل داود.

وتذكر الآية أوّلا أنّ داود كان يلعن السائرين على طريق الكفر والطغيان.

ويقول بعض: إنّ في الآية إِشارة إِلى حادثتين تأريخيتين أثارتا غضب هذين

[117]

النّبيين، فلعنا جمعاً من بني إِسرائيل، فداود قد لعن سكان مدينة (ايله) الساحلية المعروفين باسم (أصحاب السبت)، وسيأتي تفصيل تأريخهم في سورة الأعراف، وعيسى(عليه السلام) لعن جمعاً من اتباعه ممن أصروا على اتباع طريق الإِنكار والمعارضة حتى بعد نزول المائدة من السماء.

على كل حال، فالآية تشير إِلى أنّ مجرّد كون الإِنسان من بني إِسرائيل، أو من أتباع المسيح دون أن ينسجم مع خط سيرهما، لا يكون مدعاة لنجاته، بل أنّ هذين النّبيين قد لعنا من كان على هذه الشاكلة من الناس.

وفي آخر الآية توكيد لهذا الأمر وبيان للسبب: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).

الآية التّالية تؤكّد أنّ هؤلاء لم يعترفوا أبداً بأنّ عليهم يتحملوا أية مسؤولية اجتماعية، ولا هم كانوا يتناهون عن المنكر، بل أنّ بعضاً من صلحائهم كانوا بسكوتهم وممالاتهم يشجعون العصاة عملياً (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه)لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة وقبيحة: (لبئس ما كانوا يفعلون).

هنالك في تفسير هذه الآية روايات منقولة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أهل البيت(عليهم السلام) ذات دلالات تعليمية.

ففي حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحقّ اطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم»(1).

وفي حديث آخر عن الامام الصّادق(عليه السلام) في تفسير (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) أنّه قال: «أمّا أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوهم وأنسوا بهم»(2)

_____________________________

1 ـ تفسير (مجمع البيان) لهذه الآية، وفي تفسير القرطبي، ج 4، ص 2250 حديث مشابه منقول عن الترمذي.

2 ـ تفسير البرهان: ج1، ص492، وتفسير نور الثقلين: ج1، ص661.

[118]

الآية الثّالثة تشير إِلى معصية أُخرى من معاصيهم: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا).

من البديهي أنّ صداقتهم لأولئك لم تكن صداقة عادية، بل كانت ممتزجة بأنواع المعاصي، وكانوا يشجعون الأعمال والأفكار الخاطئة، لذلك أدانت الآية في عباراتها الأخيرة الأعمال التي قدموها ليوم المعاد، تلك الأعمال التي استوجبت غضب الله وعذابه الدائم: (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون).

أمّا من هم المقصودون بتعبير (الذين كفروا) فإنّ بعضاً يقول: إِنّهم كانوا مشركي مكّة الذين صادقوا اليهود.

ويرى بعض أنّهم الجبارون والظالمون الذين كان اليهود قديماً يمدون إِليهم يد الصداقة، وهذا الرأي يؤكّده الحديث المنقول عن الإِمام الباقر(عليه السلام) إِذ قال: «يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم»(1).

وليس ثمّة ما يمنع أن تشمل الآية كلا المعنيين، بل وتكون أعم منهما أيضاً.

* * *

_____________________________

1 ـ (مجمع البيان) في تفسير الآية المذكورة.

[119]

الآية

وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِىِّ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَـسِقُونَ(81)

التّفسير

هذه الآية تبيّن لهم طريق النجاة من نهجهم الخاطىء، وهو أنّهم لو كانوا حقاً يؤمنون بالله وبرسوله وبما أنزل عليه، لما عقدوا أواصر الصداقة مع أعداء الله ولا اعتمدوهم أبداً:

(ولو كانوا يؤمنون بالله والنّبي وما أنزل إِليه ما اتّخذوهم أولياء) ولكن الذي يؤسف له هو أنّ الذين يطيعون أوامر الله قلّة، ومعظمهم خارجون عن نطاق إِطاعته وسائرون على طريق الفسق (ولكنّ كثيراً منهم فاسقون).

من الواضح أنّ كلمة «النّبي» هنا تعني «رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)» وذلك لأنّ هذه الكلمة قد استعملت في القرآن المجيد في آيات متعددة بهذا المعنى، وهذا الموضوع يتكرر في عشرات الآيات.

ثمّة إِحتمال آخر في تفسير هذه الآية، هو أنّ الضمير في «كانوا» يعود على المشركين وعبدة الأصنام، أي لو أنّ هؤلاء المشركين الذين يعتمدهم اليهود ويثقون بهم، قد آمنوا برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن، لما اختارهم اليهود أصدقاء لهم،

[120]

وهذا دليل بيّن على على ضلال هؤلاء وفسقهم، وذلك لأنّهم ـ على الرغم من زعمهم أنّهم يتبعون الكتب السماوية ـ يتخذون عبدة الأصنام أصدقاء لهم مادام هؤلاء مشركين، ولكنّهم يبتعدون عنهم إِذا توجهوا إِلى الله والكتب السماوية.

بيد أنّ التّفسير الأوّل أقرب إِلى ظاهر الآيات، حيث الضمائر كلّها تعود إِلى مرجع واحد هو اليهود.

* * *

[121]

 

الجزء السَّابعْ مِنَ القُرآنٌ الكريم

[123]

 

الآيات

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَـرَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَيَسْتَكْبِرُونَ(82) وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـهِدِينَ(83) وَمَالَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّـلِحِينَ(84)فَأَثَـبَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمـُحْسِنِينَ(85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِأَيَـتِنَآ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ الْجَحِيمِ(86)

سبب النّزول

المهاجرون الأوّل في الإِسلام:

كثير من المفسّرين ـ ومنهم الطبرسي في «مجمع البيان»، والفخر الرازي،

[124]

وصاحب «المنار» ينقلون في تفاسيرهم عن المفسّرين السابقين أنّ هذه الآيات قد نزلت بحقّ «النّجاشي» صاحب الحبشة على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه، وفي تفسير «البرهان» حديث يشرح هذا الموضوع شرحاً وافياً.

يمكن تلخيص الرّوايات الإِسلامية والتواريخ وأقوال المفسّرين بهذا الخصوص في مايلي:

في السنوات الاُولى من بعثة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته العامّة كان المسلمون أقلية ضعيفة، وكانت قريش قد تواصت أن تضيق الخناق على مواليها وأتباعها الذين يؤمنون برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا فقد أصبح كلّ مسلم واقعاً تحت ضغط عشيرته وقومه يومئذ لم يكن عدد المسلمين يكفي للقيام بجهاد تحرري.

ولكي يحافظ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على حياة هذه الجماعة القليلة، ويهيىء قاعدة للمسلمين خارج الحجاز، إِختار لهم الحبشة وأمرهم بالهجرة إِليها قائلا: «إِنّ بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد فاخرجوا إِليه حتى يجعل الله عزّ وجلّ للمسلمين فرجاً».

كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقصد النجاشي (النجاشي اسم عام لجميع سلاطين الحبشة، مثل كسرى لملوك إِيران، أمّا النجاشي المعاصر لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو (أصحمة)، أي العطية والهبة بلغة الأحباش).

فهاجر أحد عشر رجلا وأربع نساء من المسلمين إِلى الحبشة بحراً على ظهر سفينة صغيرة استأجروها، كان ذلك في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة، وقد أُطلق عليها اسم الهجرة الاُولى.

ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى لحقهم جعفر بن أبي طالب وجمع من المسلمين، فكانوا مع السابقين جمعاً مؤلفاً من 82 رجلا سوى النساء والصبيان، وشكلت هذه المجموعة النواة الاُولى للتجمع الإسلامي المنظم.

كان لفكرة هذا الهجرة وقع شديد على عبدة الأصنام، لأنّهم أدركوا جيداً أنّه

[125]

لن يمضي زمن طويل حتى يكون عليهم أن يواجهوا جمعاً قوياً من المسلمين الذين اعتنفوا الإِسلام ـ بالتدريج ـ ديناً لهم في أرض الحبشة حيث الأمن والأمان.

فشمروا عن ساعد الجد لإِحباط تلك الفكرة، فاختاروا اثنين من فتيانهم الأذكياء المعروفين بالدهاء والمكر، وهما (عمرو بن العاص) و(عمارة بن الوليد) وحملوهما مختلف الهدايا والتحف إِلى النجاشي ليوغروا صدره على المسلمين فيطردهم من بلاده، وعلى ظهر السفينة التي أقلت هذين إِلى الحبشة سكرا وتخاصما إِلاّ أنّهما ـ لكي ينفذا المهمّة التي جاءا من أجلها ـ نزلا إِلى البر الحبشي، وحضرا مجلس النجاشي بكثير من الأبهة، وخاصّة بعد أن اشتريا ضمائر حاشية النجاشي بالكثير من الهدايا والرشاوي، فوعدهم هؤلاء بالوقوف إِلى جانبهما وتأييدها.

بدأ عمرو بن العاص كلامه للنجاشي قائلا: «أيّها الملك، إِنّ قوماً خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا، وصاروا إِليك فردهم إِلينا».

ثمّ قدما ما حملاه من هدايا إِلى النجاشي.

فوعدهم النجاشي أن يبت بالأمر بعد استجواب ممثلي اللآجئين وبعد التشاور مع حاشيته.

وفي يوم آخر عقدت جلسة حافلة حضرتها حاشية النجاشي وجمع من العلماء المسيحيين، وممثل المسلمين جعفر بن أبي طالب، ومبعوثا قريش، وبعد أن استمع النجاشي إِلى أقوال مبعوثي قريش، إِلتفت إِلى جعفر وطلب منه بيان ما لديه.

قال جعفر: يا أيّها الملك سلهم، أنحن عبيد لهم؟

فقال عمرو: لا، بل أحرار كرام.

جعفر: سلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

عمرو: لا، ما لنا عليكم ديون.

[126]

جعفر: فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بذخول بها؟

عمرو: لا.

جعفر: فما تريدون منّا؟ أذيتمونا فخرجنا من دياركم، ثمّ قال:

«نعم أيّها الملك خالفناهم بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الإِستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة، وحرّم الظلم والجور وسفك الدّماء بغير حقّها، والزنا والربا والميتة والدّم ولحم الخنزير، وأمرنا بالعدل والإحسان وإِيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي».

فقال النّجاشي: بهذا بعث الله عيسى، ثمّ قال النجاشي لجعفر:

هل تحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئاً؟

قال جعفر: نعم، فقرأ سورة مريم، فلمّا بلغ قوله: (وهزي إِليكِ بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا) قال: هذا والله هو الحقّ.

فقال عمرو: إِنّه مخالف لنا فردّه إِلينا.

فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسكت، والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك وقال: ارجعوا إِلى هذا هديته، وقال لجعفر وأصحابه: إِمكثوا فإِنّكم آمنون.

كان لهذا الحدث أثر بالغ بعيد المدى، ففضلا عمّا كان له من أثر إِعلامي عميق في تعريف الإِسلام لجمع من أهل الحبشة، فإنّه شد من عزيمة المسلمين في مكّة وحملهم على الإِطمئنان والثقة بقاعدتهم في الحبشة لإِرسال المسلمين الجدد إِليها، إِلى أن يشتد ساعدهم وتقوى شوكتهم.

ومضت سنوات، وهاجر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة، وارتفع شأن الإِسلام، وتمّ التوقيع على صلح الحديبية، وتوجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح خيبر، وفي ذلك اليوم الذي كان فيه المسلمون يكادون يطيرون فرحاً لتحطيمهم أكبر قلعة للأعداء اليهود، فإذا بهم يشهدون من بعيد قدوم جمع من الناس صوبهم، ثمّ ما لبثوا حتى عرفوا أن أُولئك لم يكونوا سوى المهاجرين الأوائل إِلى الحبشة وقد عادوا في

[127]

ذلك اليوم إِلى أوطانهم بعد أن تحطمت قوى الأعداء الشيطانية، وقويت جذور شجيرة الإِسلام النامية.

وإِذ شاهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مهاجري الحبشة، قال قولته التّأريخية: «لا أدري أنا بفتح خيبر أسر أم بقدوم جعفر»؟!

يروى أنّ جعفر وأصحابه جاؤوا إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعهم سبعون رجلا، اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب، فقرأ عليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سورة «يس» إِلى آخرها فبكوا حتى سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما اشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.

وروي عن سعيد بن جبير في سبب نزول الآية أنّ النجاشي أرسل ثلاثين شخصاً من أخلص أتباعه إِلى المدينة لإِظهار حبّه لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وللإِسلام، أُولئك هم الذين إِستمعوا إِلى آيات سورة «يس» فأسلموا، فنزلت الآيات المذكورة تقديراً لأُولئك المؤمنين.

(لا يتعارض سبب النّزول هذا مع كون سورة المائدة قد نزلت في أواخر عمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم))، إذ أنّ هذا القول يرجع إِلى معظم آيات السورة، وليس ثمّة ما يمنع أن تكون بعض تلك الآيات قد نزلت في حوادث سابقة، ثمّ وضعت ـ لأسباب ـ بأمر من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه السّورة.

التّفسير

حقد اليهود ومودّة النصارى:

تقارن هذه الآيات بين اليهود والنصارى الذين عاصروا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

في الآية الاُولى وضع اليهود والمشركون في طرف واحد والمسيحيون في طرف آخر: (لتجدن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا قالوا إِنّا نصارى).

يشهد تاريخ الإِسلام بجلاء على هذه الحقيقة، ففي كثير من الحروب التي

[128]

أثيرت ضد المسلمين كان لليهود ضلع فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولم يتورعوا عن التوسل بأية وسيلة للتآمر، وقليل منهم إِعتنق الإِسلام، ولكننا قلّما نجد المسلمين يواجهون المسيحيين في غزواتهم، كما أنّ الكثيرين منهم إِلتحقوا بصفوف المسلمين.

ثمّ يعزوا القرآن هذا الإِختلاف في السلوك الفردي والإِجتماعي إِلى وجود خصائص في المسيحيين المعاصرين لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن موجودة في اليهود:

فأوّلا كان بينهم نفر من العلماء لم يسعوا ـ كما فعل علماء اليهود ـ إِلى إِخفاء الحقائق (ذلك بأن منهم قسيسين)(1).

ثمّ كان منهم جمع من الزهاد الذين تركوا الدنيا، وهي النقطة المناقضة لما كان يفعله بخلاء اليهود الجشعين.

وعلى الرغم من كلّ إِنحرافاتهم كانوا على مستوى أرفع بكثير من مستوى اليهود: «ورهباناً».

وكثير منهم كانوا يخضعون للحق، ولم يتكبروا، في حين كان معظم اليهود يرون أنّهم عنصر أرفع، فرفضوا قبول الإِسلام الذي لم يأت على يد عنصر يهودي: (وإِنّهم لا يستكبرون).

ثمّ إنّ نفراً منهم كانوا إِذا استمعوا لآيات من القرآن تنحدر دموعهم مثل من صحب جعفر من الأحباش لأنّهم يعرفون الحقّ إِذا سمعوه: (وإِذا سمعوا ما أنزل إِلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحقّ).

فكانوا ينادون بكل صراحة وشجاعة، و(يقولون ربّنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين).

لقد كان تأثرهم بالآيات القرآنية من الشدة بحيث أنّهم كانوا يقولون: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصالحين).

سبق أن قلنا إِنّ هذه المقارنة كانت بين اليهود والنصارى المعاصرين لرسول

_____________________________

1 ـ «القسيس» تعريب لكلمة سريانية تعني الزعيم والموجه الديني عند المسيحيين.

[129]

الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فاليهود ـ وإِن كانوا من أصحاب الكتب السماوية ـ بلغت شدة تعلقهم بالمادة وحبّهم لها أن انخرطوا في سلك المشركين الذين لم يكن يربطهم بهم أي وجه شبه مشترك، مع أن اليهود في البداية كانوا من المبشرين بمجيء الإِسلام ولم تكن قد دخلتهم إِنحرافات كالتثليث والغلو اللذين كانا عند المسيحيين، غير أن حبّهم للدنيا حبّ عبادة قد أبعدهم عن الحقّ، بينما معاصروهم المسيحيون لم يكونوا على هذه الشاكلة.

إِلاّ أنّ التّأريخ القديم والمعاصر يقول لنا: أنّ المسيحيين في القرون التي أعقبت ذلك قد ارتكبوا بحق الإِسلام والمسلمين جرائم لا تقل عمّا فعله اليهود في هذا المجال.

إِنّ الحروب الصليبية الطّويلة والدّموية في القرون الماضية، والإِستفزازات الكثيرة التي يقوم بها الإِستعمار ضد الإِسلام والمسلمين اليوم غير خافية على أحد، لذلك ليس لنا أن نأخذ الآيات المذكورة مأخذ قانون عام بالنسبة لجميع المسيحيين، بل إِنّ الآية: (إِذا سمعوا ما أنزل إِلى الرّسول ...) وما بعدها دليل على إِنّها نزلت بحق جمع من المسيحيين الذين كانوا يعاصرون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

الآيتان الأخيرتان فيهما إِشارة إِلى مصير هاتين الطائفتين وإِلى عقابهما وثوابهما، أُولئك الذين أظهروا المودة للمؤمنين وخضعوا لآيات الله وأظهروا إِيمانهم بكل شجاعة وصراحة: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين)(1).

وأمّا أُولئك الذين ساروا في طريق العداء والعناد فتقول الآية عنهم: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أُولئك أصحاب الجحيم).

* * *

_____________________________

1 ـ «أثابهم» من الثواب، وهي في الأصل بمعنى العودة وما يرجع إِلى الإِنسان من جزاء أعماله.

[130]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَتُحَرِّمُوا طَيِّبَـتِ مَآ أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَـلا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ(88) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـنِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمْ الاَْيْمَـنَ فَكَفَّـرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْكِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـثَةِ أَيَّام ذَلِكَ كَفَّـرَةُ أَيْمَـنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَـنَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ءَايَـتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89)

سبب النّزول

لا تتجاوزوا الحدود!

ثمّة روايات متعددة وردت بشأن نزول هذه الآيات منها: في أحد الأيّام أخذ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يصف بعض ما يجري يوم القيامة وحال الناس في تلك المحكمة الإِلهية العظمى، فهزّ الوصف نفوس الناس وراح بعضهم يبكي، وعلى أثر ذلك عزم بعض أتباع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على ترك بعض لذائذ الحياة ورفاهها، وأن ينصرف

[131]

بدلا من ذلك إِلى العبادة، فأقسم أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن ينام من الليل أقلّه ويصرفه في العبادة، وأقسم بلال أن يصوم أيّامه كلّها، وأقسم عثمان بن مظعون أن يترك إِتيان زوجته وأن ينقطع إِلى العبادة.

جاءت زوجة عثمان بن مظعون ـ وكانت إمرأة جميلة ـ يوماً إِلى عائشة فعجبت عائشة من حالها فقالت: ما لي أراك متعطلة؟

فقالت: لمن أتزين؟ فو اللّه ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فانّه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا، فبلغ ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء إِليهم وأخبرهم أن ذاك خلاف سنّته وقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال:

«ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أمّا إِنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا إِتّخاذ الصوامع، وإِنّ سياحة أُمّتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ...».

فقام الذين كانوا قد أقسموا على ترك تلك الأُمور وقالوا: يا رسول الله، لقد أقسمنا على ذلك، فماذا نفعل؟ فنزلت الآيات المذكورة جواباً لهم(1).

لابدّ من القول بأنّ قَسَم البعض مثل قسم عثمان بن مظعون لم يكن مشروعاً لما فيه من غمط لحقوق زوجته، ولكن فيما يتعلق بقسم الإِمام علي(عليه السلام) بإحياء الليل بالعبادة، فإنّه كان أمراً مباحاً، ولكن المستفاد من الآيات هو أنّ الاُولى أن لا يكون ذلك بصورة مستمرة ودائمة، ولا يتعارض مع عصمة علي(عليه السلام)، لأننا نقرأ بما يشبه ذلك بالنسبة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الاُولى من سورة التحريم: (يا أيّها

_____________________________

1 ـ ما ذكر أعلاه في سبب النّزول، قسم منه مأخوذ من تفسير علي بن إبراهيم، وقسم من تفسير مجمع البيان وتفاسير أُخرى.

[132]

النّبي لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة أزواجك).

التّفسير

القسم وكفارته:

في هذه الآية والآيات التّالية لها مجموعة من الأحكام الإِسلامية المهمّة، بعضها يشرع لأوّل مرّة، وبعض آخر جاء توكيداً وتوضيحاً لأحكام سابقة وردت في آيات اُخرى من القرآن، لأنّ هذه السورة ـ كما سبق أن قلنا ـ نزلت في أواخر عمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فكان لابدّ من التأكيد فيها على أحكام اسلامية مختلفة.

في الآية الاُولى إِشارة إِلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإِلهية، فنهاهم الله عن ذلك قائلا: (يا أيّها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم)(1).

إِنّ ذكر هذا الحكم، مع أخذ سبب النّزول بنظر الإِعتبار، قد يكون إِشارة إِلى أنّه إِذا كان في الآيات السابقة شيء من الثناء على فريق من علماء المسيحية ورهبانها لتعاطفهم مع الحقّ والتسليم له، لا لتركهم الدنيا وتحريم الطيبات، وليس للمسلمين أن يقتبسوا منهم ذلك، فبذكر هذا الحكم يعلن الإِسلام صراحة إِستنكار الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون (ثمّة شرح أوفى لهذا الموضوع في تفسير الآية (27) من سورة الحديد: (... ورهبانية ابتدعوها).

ثمّ لتوكيد هذ الأمر تنهي الآية عن تجاوز الحدود، لأنّ الله لا يحبّ الذين يفعلون ذلك (ولا تعتدوا إِنّ الله لا يحبّ المعتدين).

وفي الآية التي تليها آخر للأمر، إِلاّ أنّ الآية السابقة كان فيها نهي عن التحريم، وفي هذه الآية أمر بالإِنتفاع المشروع من الهبات الإِلهية، فيقول: (وكلوا ممّا رزقكم الله حلالا طيباً).

_____________________________

1 ـ في معنى «الحلال» و«الطيب» أنظر المجلد الأوّل من هذا التّفسير.

[133]

والشرط الوحيد لذلك هو الإِعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) أي أنّ إِيمانكم بالله يوجب عليكم إحترام أوامره في التمتع وفي الإِعتدال والتقوى.

هناك إِحتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو أنّ الأمر بالتقوى يعني إِن تحريم المباحات والطيبات لا يأتلف مع درجات التقوى المتكاملة الرفيعة، فالتقوى تستلزم أن لا يتجاوز الإِنسان حد الإِعتدال من جميع الجهات.

والآية التي بعدها تتناول القسم الذي يقسم به الإِنسان في حالة تحريم الحلال وفي غيره من الحالات بشكل عام، ويمكن القول أنّ القسم نوعان:

فالاُولى: هو القسم اللغو، فيقول: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم).

في تفسير الآية (225) من سورة البقرة ـ التي تتناول موضوع عدم وجود عقاب على اللغو في الأيمان ـ قلنا: إِنّ المقصود باللغوّ في الأيمان ـ كما يقول المفسّرون والفقهاء ـ الأيمان التي ليس لها هدف معين ولا تصدر عن وعي وعزم إِرادي، وإِنما هي قسم يحلف به المرء من غير تمعن في الأمر فيقول: والله وبالله، أو لا والله ولا بالله، أو إِنّه في حالة من الغضب والهياج يقسم دون وعي.

ويقول بعضهم: إنّ الإِنسان إِذا كان واثقاً من أمر فاقسم به، ثمّ ظهر أنّه قد أخطأ، فقسمه ـ يعتبر أيضاً ـ من نوع اللغو في الأيمان، كأن يتيقن أحدهم من خيانة زوجته على أثر سعاية بعض الناس ووشايتهم، فيقسم على طلاقها، ثمّ يتّضح له أن ما سمعه بحقّها كان كذباً وافتراء، فإِن قسمه ذاك لا إِعتبار له، إِننا نعلم أيضاً أنّه بالإِضافة إِلى توفر القصد والإِرادة والعزم في القسم الجاد، يجب أن يكون محتواه غير مكروه وغير محرم، وعليه إِذا أقسم أحدهم مختاراً أن يرتكب عملا محرماً أو مكروهاً، فإن قسمه لا قيمة له ولا يلزمه الوفاء به، ويحتمل أن يكون مفهوم «اللغو» في هذه الآية مفهوماً واسعاً يشمل هذا النوع من الأيمان أيضاً.

[134]

والقسم الثّاني: هو القَسَم الجاد الإِرادي الذي قرره المرء بوعي منه، هذا النوع من القسم هو الذي يعاقب عليه الله إِذا لم يف به الإِنسان: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان).

كلمة «العقد» تعني في الأصل ـ كما قلنا في بداية سورة المائدة ـ جمع أطراف الشيء جمعاً محكماً.

ومنه تسمية ربط طرفي الحبل بـ«العقدة» ثمّ انتقل هذا المعنى إِلى الأُمور المعنوية، فأطلق على كل إِتفاق وعهد اسم العقد، فعقد الأيمان ـ كما في الآية ـ يعني التعهد بكل جد وعزم وتصميم على أمر ما بموجب القسم.

بديهي أن الجد وحده في القسم لا يكفي لصحته، بل لابدّ أيضاً من صحة محتواه ـ كما قلنا ـ وأن يكون أمراً مباحاً في الأقل، كما لابدّ من القول بأنّ القسم بغير اسم الله لا قيمة له.

وعليه إِذا أقسم إِمرؤ بالله أن يعمل عملا محموداً، أو مباحاً على الأقل، فيجب عليه أن يعمل بقسمه، فإن لم يفعل، فعليه كفارة التخلف.

وكفارة القسم هي ما ورد في ذيل الآية المذكورة، وهي واحدة من ثلاثة:

الاُولى: (فكفارته إِطعام عشرة مساكين)، ولكيلا يؤخذ هذا الحكم على إطلاقه بحيث يصار إِلى أي نوع من الطعام الدنيء والقليل، فقد جاء بيان نوع الطعام بما لا يقل عن أوسط الطعام الذي يعطى لأفراد العائلة عادة: (من أوسط ما تطعمون أهليكم).

ظاهر الآية يدل على النوعية المتوسطة، ولكن يحتمل أنّه إِشارة إِلى الكمية والكيفية كليهما، فقد جاء عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه الحد الوسط من الكيفية، وعن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه الحدّ الوسط من الكمية، الأمر الذي يدل على أن المطلوب هو الحد الوسط من كليهما(1).

_____________________________

1 ـ «نور الثقلين»، ج 1، ص 666 وتفسير «البرهان»، ج 1، ص 496.

[135]

ولا حاجة للقول بأنّ «الحدّ الوسط» سواء في الكمية أو الكيفية، يختلف بإختلاف المدن والقرى والأزمنه.

وقد إِحتمل بعضهم تفسيراً آخر للأوسط، وهو أنّه يعني الجيد الرفيع، وهما من معاني «الأوسط» كما نقرأ في الآية (28) من سورة القلم: (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون).

الثّانية: (أو كسوتهم).

من الطبيعي أنّ ذلك يعني الملابس التي تغطي الجسم حسب العادة، لذلك ورد في بعض الرّوايات أنّ الإِمام الصادق(عليه السلام) بيّن أنّ المقصود بالكسوة في هذه الآية قطعتا اللباس (الثوب والسروال)، أمّا الرواية المنقولة عن الإِمام الباقر(عليه السلام)بأن ثوباً واحداً يكفي، فربّما تكون إِشارة إِلى الثوب العربي الطويل المعروف والذي يكسو الجسم كلّه، أمّا بشأن النسوة فلا شك أنّ ثوباً واحداً لا يكفي، بل لابدّ من غطاء للرأس والرقبة، وهذا هو الحدّ الأدنى لكسوة المرأة لذلك لا يستبعد أن تكون الكسوة التي تعطى كفارة تختلف أيضاً بإختلاف الفصول(1) والأمكنة والأزمنة.

أمّا من حيث الكيفية، وهل يكفي الحد الأدنى، أم ينبغي مراعاة الحد الأوسط؟ فإن للمفسرين رأيين في ذلك:

1 - إن كل كسوة تكفي إِذا أخذت الآية على إِطلاقها.

2 - إِنّه ما دمنا قد راعينا الحدّ الأوسط في الإِطعام، فلابدّ أن نراعي هذا الحد في الكساء أيضاً، غير أن الرأي الأوّل أكثر إِنسجاماً مع إِطلاق الآية.

الثّالثة: (أو تحرير رقبة).

ثمّة كلام بين الفقهاء والمفسّرين عمّا إِذا كانت الرقبة المحررة يجب أن تكون مسلمة، أو أنّ عتق أي عبد يكفي؟ لذلك ينبغي الرجوع إِلى الكتب الفقهية في ذلك،

_____________________________

1 ـ ثمّة حديث بهذا الشأن عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أو الإِمام الصادق(عليه السلام) أنظر تفسير «البرهان»، ج 1، ص 496.

[136]

وإِن كانت الآية مطلقة في الظاهر.

وهذا ما يدل على أنّ الإِسلام يتوسل بطرق مختلفة لتحرير العبيد، أمّا في الوقت الحاضر حيث يبدو أنّه لا وجود للرق، فإنّ على المسلمين أن يختاروا واحدة من الكفارتين المتقدمتين.

ليس ثمّة شك في أنّ هذه المواضيع الثلاثة متباينة من حيث قيمتها تبايناً كبيراً، ولعل القصد من هذا التباين هو حرية الإِنسان في إِختيار الكفارة التي تناسبه وتناسب إِمكاناته المادية.

ولكن قد يوجد من لا قدرة له على أيّ منها، لذلك فإنّه بعد بيان تلك الأحكام يقول سبحانه وتعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام).

إِذن، فصيام ثلاثة أيّام مقصور على الذين لا قدرة لهم على تحقيق أي من الكفارات الثلاث السابقة، ثمّ يؤكّد القول ثانية: (ذلك كفارة أيمانكم إِذا حلفتم).

ومع ذلك، فلكي لا يظن أحد أنّه بدفع الكفارة يجوز للمرء أن يرجع عن قَسَم صحيح أقسمه، يقول تعالى: (واحفظوا أيمانكم).

وبعبارة أُخرى: إنّ الإِلتزام بالقَسَم واجب تكليفي، وعدم تنفيذه حرام، والكفارة تأتي بعد الرجوع عن القَسَم.

في ختام الآيات يبيّن القرآن أنّ هذه الآيات توضح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك: (كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون).

* * *

[137]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالاَْزْلَـمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(91) وَأَطِيعُوااللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـغُ الْمُبِينُ(92)

سبب النّزول

تذكر التفاسير الشيعية والسنّية روايات متعددة عن سبب نزول الآية الاُولى تكاد تكون متشابهة، من ذلك أنّه جاء في تفسير «الدر المنثور» عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال: إِنّ هذه الآية قد نزلت بشأني. كان أنصاري قد أعد طعاماً دعانا إِليه مع جمع من الناس، فتناولوا الطعام وشربوا الخمر، وكان هذا قبل تحريمها في الإِسلام، وعندما صعدت النشوة إِلى رؤوسهم أخذوا يتفاخرون وارتفع بينهم الكلام شيئاً فشيئاً حتى وصل الأمر بأحدهم أن تناول عظم بعير فضربني به على أنفي فشجه فقمت إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحكيت له ما جرى، فنزلت الآية المذكورة.

[138]

وفي «مسند أحمد» و«سنن أبي داود» و«النسائي» و«الترمذي» أنّ عمر (وكان يكثر من الخمر كما جاء في تفسير «في ظلال القرآن» ج 3، ص 33) كان يدعو الله أن ينزل حكماً واضحاً في الخمر، وعندما نزلت الآية (219) من سورة البقرة (يسألونك عن الخمر والميسر ...) قرأها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّه ظل يكرر دعاءه ويطلب مزيداً من التوضيح حتى نزلت الآية (43) من سورة النساء:  (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى) فقرأها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أيضاً، غير أنّه إِستمر في دعاءه، حتى نزلت الآية التي نحن بصددها موضحة الحكم بشكل كامل، وعندما قرأها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على عمر، فقال: انتهينا انتهينا(1)!

التّفسير

مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي:

سبق أنّ ذكرنا في المجلد الثّالث من هذا التّفسير في ذيل الآية (43) من سورة النساء، إِنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإِسلام كانت منتشرة إِنتشاراً أشبه بالوباء العام، حتى قيل: أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصوراً على ثلاثة: الشعر والخمر والغزو.

ويستفاد من بعض الرّوايات، أنّه حتى بعد تحريم الخمر فإن الإِقلاع عنها كان شاقّاً على بعض المسلمين، حتى قالوا: ما حرم علينا شيء أشد من الخمر(2)!

من الواضح أنّ الإِسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والإِجتماعية بنظر الإِعتبار لتعذر الأمر وشق تطبيق التحريم، لذلك إِتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإِعداد الأفكار والأذهان لإِقتلاع

_____________________________

1 ـ تفسير «المنار»، ج 7، ص 50.

2 ـ نفس المصدر، ج 7، ص 51.

[139]

هذه الآفة من جذورها، وهي العادة التي كانت قد تأصلت في نفوسهم وعروقهم، ففي أوّل الأمر وردت إِشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر، كما في الآية (67) من سورة النحل: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً).

فهنا «سكر» وتعني الشراب المسكر الذي كانوا يستخرجونه من التمر والعنب، قد وضع في قبال الرزق الحسن، فاعتبره شراباً غير طيب بخلاف الرزق الحسن، إِلاّ أنّ تلك العادة الخبيثة ـ عادة معاقرة الخمرة ـ كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإِشارات، ثمّ أنّ الخمر كانت تؤلف جانباً من دخلهم الإِقتصادي لذلك، عندما هاجر المسلمون إِلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإِسلامية، نزلت آية ثانية أشد في تحريم الخمر من الاُولى، لكي تهيىء الأذهان أكثر إِلى التحريم النهائي، تلك هي الآية (219) من سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إِثمّ كبير ومنافع للناس وإِثمهما أكبر من نفعهما).

فها هنا إِشارة إِلى منافع الخمر الإِقتصادية لبعض المجتمعات، كالمجتمع الجاهلي، مصحوبة بإشارة إِلى أخطارها الكبيرة ومضارها التي تفوق كثيراً منافعها الإِقتصادية.

ثمّ في الآية (43) من سورة النساء: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) يأمر الله المسلمين أمراً صريحاً بأن لا يقيموا الصّلاة وهم سكارى حتى دركوا ما يقولونه أمام الله.

واضح أنّ هذا لم يكن يعني أنّ شرب الخمر في غير الصّلاة جايز، بل هي مسألة التدرج في تحريم الخمر مرحلة مرحلة، أي أنّ هذه الآية كأنّها تلتزم الصمت ولا تقول شيئاً صراحة في غير مواقع الصّلاة.

إِنّ تقدم المسلمين في التعرف على أحكام الإِسلام واستعدادهم الفكري لإِستئصال هذه المفسدة الإِجتماعية الكبيرة التي كانت متعمقة في نفوسهم، أصبحا

[140]

سبباً في نزول آية صريحة تماماً في تحريم الخمر حتى سدت الطريق أمام الذين كانوا يتصيدون الأعذار والمسوغات، وهذه الآية هي موضوع البحث.

وإِنّه لمما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبر عنه في هذه الآية بصورة متنوعة:

1 ـ فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين: (يا أيّها الذين آمنوا) أي أنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإِيمان.

2 ـ استعمال «إِنّما» التي تعني الحصر والتوكيد.

3 ـ وضعت الخمر والقمار إِلى جانب الأنصاب(1) (وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلان ضرراً عن عبادة الأصنام، ولهذا جاء في حديث شريف أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «شارب الخمر كعابد الوثن»(2).

4 ـ الخمر والقمار وعبادة الأصنام، والإِستقسام والأزلام (ضرب من اليانصيب)(3) كلها قد إِعتبرها القرآن رجساً وخبثاً: (إِنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس).

5 ـ وهذه الأعمال القبيحة كلّها من أعمال الشيطان: (من عمل الشيطان).

6 ـ وأخيراً يصدر الأمر القاطع الواجب الإِتباع: (فاجتنبوه).

لابدّ من التنوية بأنّ لتعبير «فاجتنبوه» مفهوماً أبعد، إِذ أنّ الإِجتناب يعني الإِبتعاد والإِنفصال وعدم الإِقتراب، ممّا يكون أشد وأقطع من مجرّد النهي عن شرب الخمر.

7 ـ وفي الختام يقول تعالى أن ذلك: (لعلكم تفلحون) أي لا فلاح لكم بغير

_____________________________

1 ـ انظر المجلد الثّالث، من هذا التّفسير بشأن الأنصاب والنصيب.

2 ـ هامش تفسير الطبري، ج 7، ص 31، وقد جاء هذا الحديث في تفسير «نور الثقلين»، ج 1، ص 69 عن الإِمام الصادق(عليه السلام).

3 ـ انظر شرح كيفية الأزلام في المجلد الثالث من هذا التّفسير.

[141]

ذلك.

8 ـ وفي الآية التّالية لها يعدد بعضاً من أضرار الخمر والقمار، التي يريد الشيطان أن يوقعها بهم: (إِنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصّلاة).

9 ـ وفي ختام هذه الآية يتقدم بإِستفهام تقريري: (فهل أنتم منتهون)؟

أي بعد كل هذا التوكيد والتوضيح، ثمّة مكان لخلق المبررات أو للشك والتردد في تجنب هذين الإِثمين الكبيرين؟ لذلك نجد أنّ عمر الذي كان شديد الولع بالخمر (كما يقول مفسروا أهل السنة) والذي كان ـ لهذا السبب ـ لا يرى في الآيات السابقة ما يكفي لمنعه، قال عندما سمع هذه الآية: إنتهينا، إنتهينا! لأنّه رأى فيها الكفاية.

10 ـ في الآية الثالثة التي تؤكّد هذا الحكم، يأمر المسلمين: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرّسول واحذروا).

ثمّ يتوعد المخالفين بالعقاب، وأنّ مهمّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هي الإِبلاغ: (فإن توليتم فاعلموا إِنّما على رسولنا البلاغ المبين).

الآثار المهلكة للخمر والميسر:

على الرغم من أننا أشرنا في تفسير الآية (219) من سورة البقرة في المجلد الثّاني من هذا التّفسير إِشارة موجزة أضرار هاتين الآفتين الإِجتماعيتين، إِلاّ أنّنا لتوكيد الأمر ـ إِقتداء بالقرآن الكريم ـ نضيف هنا أُموراً أُخرى هي مجموعة من الإِحصاءات المختلفة كل واحدة منها تعتبر شهادة وافية تدل على عظم تلك الأضرار وعمق تأثيرها.

1 ـ في إِحصائية صدرت في بريطانيا بشأن الجنون الكحولي ومقارنته بالجنون العادي، جاء أنّه في مقابل (2249) مجنوناً بسبب الإِدمان على الخمر

[142]

هناك (53) مجنوناً فقط لأسباب مختلفة أُخرى(1).

2 ـ وفي إِحصاء آخر من أمريكا أنّ 85% من المصابين بأمراض نفسية هم من المدمنين على الخمر(2).

3 ـ يقول عالم إِنجليزي اسمه (بنتام): أنّ المشروبات الكحولية تحول أهالي الشمال إِلى أناس حمقى وبله، وأهالي الجنوب إِلى مجانين، ثمّ يضيف: إِنّ الدين الإِسلامي يحرم جميع أنواع المسكرات، وهذا واحد من مميزات الإِسلام(3).

4 ـ لو أجري إِحصاء عن السكارى الذين إِنتحروا، أو ارتكبوا الجرائم وحطموا العوائل، لكان لدينا رقم رهيب(4).

5 ـ في فرنسا يموت كلّ يوم 440 شخصاً ضحية للخمور(5).

6 ـ تقول إِحصائية أُخرى من أمريكا: أنّ عدد المرضى النفسانيين خلال سنة واحدة بلغ ضعف قتلاها في الحرب العالمية الثّانية، ويرى العلماء الأمريكان أنّ السببين الرئيسيين لهذا هما المشروبات الكحولية والتدخين(6).

7 ـ جاء في إِحصائية وضعها عالم يدعى (هوگر) نشرها في مجلة (العلوم) بمناسبة عيد تأسيسها العشرين، قال فيها: أنّ 60% من القتل المتعمد، 75% من الضرب والجرح و 30% من الجرائم الأخلاقية (بما فيها الزنا بالمحارم!) و20% من جرائم السرقة، سببها المشروبات الكحولية، وعن هذا العالم نفسه أنّ 40% من الأطفال المجرمين قد ورثوا آثار الكحول(7).

8 ـ إِنّ الخسائر التي تصيب الإِقتصاد البريطاني من جراء تغيب العمال عن

_____________________________

1 ـ كتاب «ندوة الكحول»، ص 65.

2 ـ كتاب «ندوة الكحول»، 65.

3 ـ تفسير الطنطاوي، ج؟، 165.

4 ـ دائرة المعارف فريد و جدي، ج 3، ص 790.

5 ـ الآفات الإِجتماعية في قرننا، ص 205.

6 ـ مجموعة منشورات الجيل الجديد.

7 ـ ندوة الكحول، ص 66.

[143]

العمل بسبب إِدمانهم على الخمر تبلغ سنوياً نحو 50 مليون دولار، وهو مبلغ يكفي لإِنشاء الآلاف من رياض الأطفال والمدارس الإِبتدائية والثانوية.

9 ـ الإِحصاءات التي نشرت عن خسائر الإِدمان على الكحول في فرنسا تقول: أنّ الخزينة الفرنسية تتحمل سنوياً مبلغ (137) مليارد فرنك، إِضافة إِلى الأضرار الأُخرى كما يلي:

60 مليار فرنك للصرف المحاكم والسجون.

40 مليار فرنك للصرف على الإِعانات العامّة والمؤسسات الخيرية.

10 مليارات من الفرنكات للصرف على المستشفيات الخاصّة لمعالجة المدمنين على المسكرات.

70 مليار فرنك للصرف على الأمن الإِجتماعي.

وهكذا يتّضح أنّ عدد المرضى النفسانيين ومصحات الأمراض العقلية وجرائم القتل والمخاصمات الدموية والسرقة والإِغتصاب وحوادث المرور، تتناسب تناسباً طردياً مع عدد حانات الخمور.

10 ـ أثبتت الدوائر الإِحصائية في أمريكا أنّ القمار كان السبب المباشر في 30% من الجرائم، وفي إِحصائية أُخرى عن جرائم القمار نرى وللأسف الشديد أن 90% من جرائم السرقة و50% من الجرائم الجنسية و10% من فساد الأخلاق و30% من الطلاق و40% من الضرب والجرح و5% من حوداث الإِنتحار إِنما هي بسبب القمار(1).

* * *

_____________________________

1 ـ ندوة الكحول، ص 66.

[144]

الآية

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ ثمّ اتَّقَوا وَّءَامَنُوا ثمّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ(93)

سبب النّزول

جاء في تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الطبري» وتفسير «القرطبي» وغيرها من التفاسير أنّه بعد نزول آية تحريم الخمر والميسر، قال بعض أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِذا كان هذان العملان على هذا القدر من الإِثم، فما حال المسلمين الذين توفاهم الله قبل نزول هذه الآية وكانوا ما يزالون يمارسونهما؟ فنزلت هذه الآية جواباً لهم.

التّفسير

تجيب هذه الآية الذين يتساءلون عن الماضين قبل نزول آية تحريم الخمر والميسر، أو الذين لم يسمعوا بعد تلك الآية لبعد مناطقهم التي يعيشون فيها،

[145]

فتقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيها طعموا)(1) ولكنّها تشترط لتلك التقوى والإِيمان والعمل الصالح: (إِذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات)، ثمّ تكرر ذلك (ثمّ اتقوا وآمنوا) وللمرّة الثالثة تكرر الآية بقليل من الإِختلاف (ثمّ اتقوا وأحسنوا)، وتنتهي بالتوكيد (والله يحبّ المحسنين).

هنالك كلام كثير بين المفسّرين القدامى والمحدثين حول هذا التكرار، فبعض يراه للتوكيد ويقول: أنّ أهمية التقوى والإِيمان والعمل الصالح تقتضي الإِعادة والتكرار والتوكيد.

إِلاّ أنّ جمعاً آخر من المفسّرين يعتقدون أنّ كلّ جملة من هذه الجمل المكررة تشير إِلى حقيقة منفصلة عن الأُخرى، وأنّ هناك إِحتمالات متعددة بشأن إِختلاف كل جملة عن الأُخرى، ولكن معظم هذه الإِحتمالات لا يقوم عليها دليل أو شاهد.

ولعل خير ما قيل بهذه الخصوص هو قولهم: أنّ المقصود بالتقوى في المرّة الاُولى هو ذلك الإِحساس الداخلي بالمسؤولية والذي يسوق الإِنسان نحو البحث والتدقيق في الدين، ومطالعة معجزة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والبحث عن الله، فتكون نتيجة ذلك الإِيمان والعمل الصالح، وبعبارة أُخرى: إِذا لم يكن في الإِنسان شيء من التقوى فإنّه لا يتجه إِلى البحث عن الحقيقة، وعليه فإن ورد كلمة «التقوى» لأوّل مرّة في هذه الآية إِشارة إِلى هذا المقدار من التقوى، وليس في هذا تناقض مع بداية الآية التي تقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...) لأنّ الإِيمان هنا يمكن أن يكون بمعنى التسليم الظاهري، بينما الإِيمان الذي يحصل بعد التقوى هو الإِيمان الحقيقي.

وتكرار التقوى للمرّة الثّانية إِشارة إِلى التقوى التي تنفذ إِلى أعماق الإِنسان

_____________________________

1 ـ تطلق كلمة عام «الطعام» على المأكولات غالباً، ولكنّها قد تطلق على المشروبات أيضاً، كما جاء في الآية(249) من سورة البقرة: (فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه مني).

[146]

فيزداد تأثيرها، وتكون نتيجتها الإِيمان الثابت الوطيد الذي يؤدي إِلى العمل الصالح، ولذلك لم يرد «العمل الصالح» بعد «الإِيمان» في الجملة الثّانية: (ثمّ اتقوا وآمنوا) أي أنّ هذا الإِيمان من الثبوت والنفاذ بحيث لا حاجة معه لذكر العمل الصالح.

وفي المرحلة الثّالثة يدور الكلام على التقوى التي بلغت حدّها الأعلى بحيث أنّها فضلا عن دفعها إِلى القيام بالواجبات، تدفع إِلى الإِحسان أيضاً، أي إِلى الأعمال الصالحة التي ليست من الواجبات.

وعليه فإنّ هذه الضروب الثلاثة من التقوى تشير إِلى ثلاث مراحل من الإِحساس بالمسؤولية وكأنّها تمثل المرحلة (الإِبتدائية) والمرحلة (المتوسطة) والمرحلة (النهائية)، ولكل مرحلة قرينة تدل عليها في الآية.

أمّا ما ذهب إِليه مفسّرون آخريون بشأن تناول الآية ثلاثة أنواع من التقوى وثلاثة أنواع من الإِيمان فلا قرينة عليه ولا شاهد في الآية.

* * *

[147]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَىْء مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(94) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ هَدْيَاً بَـلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّـرَةٌ طَعَامُ مَسَـكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذَو انتِقَام(95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَـعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(96)

سبب النّزول

جاء في كتاب الكافي وفي كثير من التفاسير أنّه في سنة الحديبية، عندما قصد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المسلمين العمرة وهم محرمون، صادفوا في

[148]

طريقهم كثيراً من الحيوانات البرية وكانوا قادرين على صيدها باليد أو بالرمح، لقد كان الصيد من الكثرة بحيث قيل أنّ الحيوانات كانت تجوس بين الخيام وتمر بين الناس، الآية الاُولى من هذه الآيات نزلت في هذا الوقت تحذر المسلمين من صيدها، وتعتبر إِمتناعهم عن صيدها ضرباً من الإِمتحان لهم.

التّفسير

أحكام الصّيد عند الإِحرام:

تبيّن هذه الآيات أحكام صيد البر والبحر أثناء الإِحرام للحج أو للعمرة.

في البداية إِشارة إِلى ما حدث للمسلمين في عمرة الحديبية، فيقول سبحانه وتعالى: (يا أيّها الذين آمنوا ليبلونّكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم).

يستفاد من تعبير الآية أنّ الله تعالى يريد إِنباء الناس عن قضية سوف تقع في المستقبل، كما يظهر أيضاً أنّ وفرة الصيد في ذلك المكان لم يكن أمراً مألوفاً، فكان هذا إِمتحاناً للمسلمين، على الأخص إِذا أخذنا بنظر الإِعتبار حاجتهم الماسة إِلى الحصول على طعامهم من لحوم ذلك الصيد الذي كان موفوراً وفي متناول أيديهم، إنّ تحمل الناس في ذلك العصر الحرمان من ذلك الغذاء القريب يعتبر إِمتحاناً كبيراً لهم.

قال بعضهم: أنّ المقصود من عبارة (تناله أيديكم) هو أنّهم كانوا قادرين على صيدها بالشباك أو بالفخاخ، ولكن ظاهر الآية يشير إِلى أنّهم كانوا حقّاً قادرين على صيدها باليد.

ثمّ يقول من باب التوكيد: (ليعلم الله من يخافه بالغيب) سبق أن أوضحنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (143) من سورة البقرة أنّ تعبير «لنعلم» أو «ليعلم» وأمثالها لا يقصد بها، أن الله لم يكن يعلم شيئاً، وأنّه يريد أن

[149]

يعلمه عن طريق إختبار الناس، بل المقصود هو الباس الحقيقة المعلومة لدى الله لباس العمل والتحقق الخارجي، وذلك لأنّ الإِعتماد على نوايا الأشخاص الداخلية وإِستعدادهم غير كاف للتكامل وللمعاقبة والإِثابة، بل يجب أن ينكشف كل ذلك خلال أعمال خارجية لكي يكون لها تلك الآثار (لمزيد من التوضيح انظر ذيل الآية المذكوره).

والآية في الخاتمة تتوعد الذين يخالفون هذا الحكم الإِلهي بعذاب شديد: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم).

على الرّغم من أنّ الجملة الأخيرة في الآية تدل على تحريم الصيد أثناء الإِحرام، ولكن الآية التّالية لها تصدر حكماً قاطعاً وصريحاً وعاماً بشأن تحريم الصيد أثناء الإِحرام، إِذ تقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم).

وهل تحريم الصيد (وهو صيد البر بدلالة الآية التي تليها) يشمل جميع أنواع الحيوانات البرية، سواء أكان لحمها حلالا أم حراماً، أم أنّه يختص بحلال اللحم منها؟

لا تتفق آراء المفسّرين والفقهاء بهذا الشأن، إِلاّ أنّ المشهور بين فقهاء الإِمامية ومفسريهم أنّ الحكم عام، ويؤيد ذلك الرّوايات المروية عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، أمّا فقهاء أهل السنة فمنهم ـ مثل أبي حنيفة ـ من يتفق مع الإِمامية في ذلك، ومنهم ـ كالشافعي ـ من يرى الحكم مقصوراً على الحيوانات المحللة اللحوم ولكن الحكم، على كل حال، لا يشمل الحيوانات الأهلية، لأنّ الحيوانات الأهلية لا توصف بالصيد، إِنّ ممّا يستلفت النظر في رواياتنا هو أنّ الصيد ليس وحده المحرم أثناء الإِحرام، بل التحريم يشمل حتى الإِعانة على الصيد، والإِشارة أو الدلالة عليه أيضاً.

قد يظن بعض أنّ الصيد لا يشمل ذوات اللحم الحرام، إِلاّ أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّ الغرض من صيد الحيوان متنوع، فمرّة يكون الغرض لحمها، وأُخرى

[150]

جلدها، وثالثة لدفع أذاها، ثمّة بيت ينسب إِلى الإِمام علي(عليه السلام) من الممكن أن يكون شاهداً على هذا التعميم: يقول:

صيد الملوك أرانب وثعالب وإِذا ركبت فصيدي الأبطال

وللإِستزادة من المعرفة بشأن أحكام الصيد الحلال والحرام يمكن الرجوع إِلى الكتب الفقهية.

ثمّ بعد ذلك يشار إِلى كفارة الصيد في حال الإِحرام، فيقول: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم).

فهل المقصود من «مثل» هو التماثل في الشكل والحجم أي إِذا قتل أحد حيواناً وحشياً كبيراً مثل النعامة ـ مثلا ـ فهل يجب عليه أنّ يختار الكفارة من الحيوانات الكبيرة، كالبعير مثلا أو إِذا صاد غزالا، فهل كفارته تكون شاة تقاربه في الحجم والشكل؟ أم أنّ «مثل» هو التماثل في القيمة؟

إِنّ المشهور والمعروف بين الفقهاء والمفسّرين هو الرأي الأوّل، كما أنّ ظاهر الآية أقرب إِلى هذا المعنى، وذلك لأنّه بالنظر لعمومية الحكم على الحيوانات ذوات اللحم الحلال وذوات اللحم الحرام، فإنّ أكثر هذه الحيوانات ليس لها قيمة ثابتة لكي يمكن إختيار مثيلاتها من الحيوانات الأهلية.

وهذا ـ على كلّ حال ـ قد يكون ممكناً في حالة وجود المثيل من حيث الشكل والحجم، أمّا حالة انعدام المثيل، فلا مندوحة من تقدير قيمة للصيد بشكل من الأشكال، وليمكن إِختيار حيوان أهلي حلال اللحم يقاربه في القيمة.

ولمّا كان من الممكن أن تكون قضية التماثل موضع شك عند بعضهم فقد أصدر القرآن حكمه بأن ذلك ينبغي أنّ يكون بتحكيم شخصين مطلعين وعادلين: (يحكم به ذوا عدل منكم).

أمّا عن مكان ذبح الكفارة، فيبيّن القرآن أنّه يكون بصورة «هدي» يبلغ أرض الكعبة: (هدياً بالغ الكعبة).

[151]

والمشهور بين فقهائنا هو أنّ «كفارة الصيد أثناء الإِحرام للعمرة» يجب أنّ تذبح في «مكّة» و«كفارة الصيد أثناء الإِحرام للحج» يجب أن تذبح في «منى»، وهذا لا يتعارض مع الآية المذكورة، لأنّها نزلت في إِحرام العمرة، كما قلنا.

ثمّ يضيف أنّه ليس ضرورياً أنّ تكون الكفارة بصورة أضحية، بل يمكن الإِستعاضة عنها بواحد من اثنين آخرين: (أو كفارة طعام مساكين) و(أو عدل ذلك صياماً).

مع أنّ الآية لا تذكر عدد المساكين الذين يجب إِطعامهم، ولا عدد الأيّام التي يجب أنّ تصام، فإن إِقتران الاثنين معاً من جهة، والتصريح بلزوم الموازنة في الصيام، يدل على أنّ المقصود ليس إِطلاق عدد المساكين الذين يجب إِطعامهم بحسب رغبتنا، بل المقصود تحديد ذلك بمقدار قيمة الأضحية.

أمّا كيف يتمّ التوازن بين الصيام وإِطعام المسكين، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّ مقابل كلّ «مدّ» من الطعام (ما يعادل نحو 750 غراماً من الحنطة وأمثالها) يصوم يوماً واحداً، ويستفاد من روايات أُخرى أنّه يصوم يوماً واحداً في مقابل كلّ «مدّين» من الطعام، وهذا يعود في الواقع إِلى أن الذي لا يستطيع صوم رمضان يكفّر عن كل يوم منه بمدّ واحد أو بمدّين اثنين من الطعام للمحتاجين (لمزيد من الإطلاع بهذا الخصوص انظر الكتب الفقهية).

أمّا إِذا ارتكب محرم صيداً فهل له أن يختار أيّاً من هذه الكفارات الثلاث، أو أنّ عليه أن يختار بالترتيب واحدة منها، أي الذبيحة أوّلا، فإن لم يستطع فإطعام المسكين، فإنّ لم يستطع فالصيام، فالفقهاء مختلفون في هذا، ولكن ظاهر الآية يدل على حرية الإِختيار.

إِنّ الهدف من هذه الكفارات هو (ليذوق وبال أمره)(1).

_____________________________

1 ـ في «مفردات الراغب» أنّ «وبال» من «الوبل والوابل» وهو المطر الغزير، ثمّ أطلق على العمل الشاق الجسيم، ولمّا كان العقاب شديداً وثقيلا عادة، فقد وصف بأنّه «وبال».

[152]

ثمّ لما لم يكن لأي حكم أثر رجعي يعود إِلى الماضي، فيقول: (عفا الله عما سلف).

أمّا من لم يعتن بهذه التحذيرات المتكررة ولم يلتفت إِلى أحكام الكفارة وكرر مخالفاته لحكم الصيد وهو محرم فإنّ الله سوف ينتقم منه في الوقت المناسب: (ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام).

ثمّة نقاش بين المفسّرين عمّا إِذا كانت كفارة صيد المحرم تتكرر بتكرره، أو لا، ظاهر الآية يدل على أنّ التكرار يستوجب انتقام الله، فلو استلزم تكرار الكفارة لوجب أنّ لا يكتفي بذكر الإِنتقام الإِلهي، وللزم ذكر تكرار الكفارة صراحة، وهذا ما جاء في الرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيت(عليهم السلام).

بعد ذلك يتناول الكلام صيد البحر: (أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه).

لكن ما المقصود من الطعام؟ فإن بعض المفسّرين يرون أنّه ذلك النوع من السمك الذي يموت بدون صيد ويطفو على سطح الماء، مع أنّنا نعلم أنّ هذا الكلام ليس صحيحاً، لأنّ السمك الميت بهذا الشكل حرام مع أنّ بعض الرّوايات التي يرويها أهل السنّة تدل على حليته.

إِنّ ما يستفاد من التعمق في ظهور الآية هو أنّ القصد من الطعام ما يهيأ للأكل من سمك الصيد إِذ أنّ الآية تريد أن تحلل أمرين، الأوّل هو الصيد، والثّاني هو الطعام المتخذ من هذا الصيد.

وبهذه المناسبة، ثمّة فتوى معروفة بين فقهائنا تعتمد مفهوم هذا التعبير، وذلك فيما يتعلق بصيد البر، فإِن هذا الصيد ليس وحده حراماً، بل أنّ طعامه حرام أيضاً.

ثمّ تشير الآية إِلى الحكمة في هذا الحكم وتقول: (متاعاً لكم وللسيارة)، أي لكيلا تعانوا المشقّة في طعامكم وأنتم محرومون، فلكم أن تستفيدوا من نوع واحد من الصيد، ذلكم هو صيد البحر.

ولمّا كان من المألوف أن يكون السمك الذي يحمله المسافر معه هو السمك

[153]

المملح، فقد ذهب بعض المفسّرين إِلى تفسير العبارة المذكورة في الآية بأنّه يجوز «للمقيمين» أن يطعموا السمك الطازج و«للمسافرين» السمك المملح.

ولابدّ من التنبيه إِلى أنّ حكم (أحلّ لكم صيد البحر وطعامه) ليس حكماً مطلقاً وعاماً في حلّية صيد البحر كافة كما يظن بعضهم، وذلك لأنّ الآية ليست في معرض بيان أصل حكم صيد البحر، بل هدف الآية هو أنّ تبيّن للمحرم أنّ صيد البحر (الذي كان حلالا قبل الإِحرام له أن يطعمه في حال الإِحرام أيضاً)، وبعبارة أُخرى: لتبيّن الآية أصل تشريع القانون، وإِنّما تشير إِلى خصائص قانون سبق تشريعه فليست الآية في معرض عمومية الحكم، بل هي تبيّن حكم المحرم فحسب.

وللتوكيد تعود الآية إِلى الحكم السابق مرّة أُخرى وتقول: (وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً).

ولتوكيد جميع الأحكام التي ذكرت، تقول الآية في الخاتمة: (واتقوا الله الذي إِليه تحشرون).

حكمة تحريم الصّيد حال الإِحرام:

معلوم أنّ الحج والعمرة من العبادات التي تفصل الإِنسان عن عالم المادة وتنقله إِلى محيط ملىء بالمعنويات، فخصوصيات الحياة المادية، والجدال الخصام، والرغبات الجنسية، واللذائذ المادية كلّها تنفصل عن الإِنسان في مناسك الحج والعمرة، ويبدأ الإِنسان ضرباً من الرياضة الإِلهية المشروعة، ويبدو أن تحريم صيد البرّ في حال الإِحرام يرمي إِلى الهدف نفسه.

ثمّ لو أحل الصيد لزائري بيت الله الحرام، مع الأخذ بنظر الإِعتبار كثرة الزوار وكثرة ترددهم في كلّ سنة على هذه الأرض المقدسة، لقضي على وجود الكثير من الحيوانات القليلة أصلا في تلك الأرض القاحلة الخالية من الماء والزرع،

[154]

فجاء هذا التشريع لضمان بقاء حيوانات تلك المنطقة والحفاظ عليها من الإِنقراض.

وإِذا أخذنا بنظر الإِعتبار أنّه حتى في غير حال الإِحرام يمنع صيد الحرم، وكذلك قطع أشجاره وحشائشه، تبيّن لنا أنّ لهذا التشريع ارتباطاً وثيقاً بقضية الحفاظ على البيئة وعلى النبات والحيوان في تلك المنطقة، وصيانتها من الإِبادة.

إِنّ هذا التشريع من الدّقة والإِحكام بحيث أنّه يمنع فيه حتى هداية الصياد إِلى مكان الصيد، فقد جاء في بعض الرّوايات من طرق أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الإِمام الصادق(عليه السلام) قال لأحد أصحابه: «لا تستحلن شيئاً من الصيد وأنت حرام ولا أنت حلال في الحرم ولا تدلن محلا ولا محرماً فيصطاده، ولا تشر إِليه فيستحل من أجلك، فإنّ فيه فداء لمن تعمّده»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ «وسائل الشيعة»، ج 5، ص 75.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338437

  • التاريخ : 29/03/2024 - 10:53

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net