الآية
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)
سبب النّزول
يقول الطبرسي في مجمع البيان في سبب نزول هذه الآية : كان لرجل من المدينة اسمه «ابو الحصين» ولدان دعاهما إلى اعتناق المسيحية بعض التجّار الذين كانوا يفدون على المدينة، فتأثّر هذان بما سمعا واعتنقا المسيحية، ورحلا مع أُولئك التجّار إلى الشام عند عودتهم. فأزعج ذلك أبو الحصين، وأقبل يخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما حدث، وطلب منه أن يعمل على الاعادة ولديه إلى الإسلام، وسأله إن كان يجوز إجبارهما على الرجوع إلى الإسلام، فنزلت الآية المذكورة وبيّنت أن (لا إكراه في الدين).
وجاء في تفسير المنار أنّ أبو الحصين كان يريد إكراه ولديه على الرجوع إلى أحضان الإسلام، فجاءا مع أبيهما لعرض الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال
(259)
أبو الحصين : كيف أجيز لنفسي أن أنظر إلى ولديَّ يدخلان النار دون أن أفعل شيئاً ؟ فنزلت الآية.
التّفسير
الدين ليس إجباريّاً :
إنّ آية الكرسيّ في الواقع هي مجموعة من توحيد الله تعالى وصفاته الجمالية والجلالية التي تشكّل أساس الدين، وبما أنّها قابلة للأستدلال العقلي في جميع المراحل وليست هناك حاجة للإجبار والإكراه تقول هذه الآية : (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي).
(الرشد) لغوياً تعني الهداية للوصول إلى الحقيقة، بعكس (الغيّ) التي تعني الانحراف عن الحقيقة والإبتعاد عن الواقع.
ولمّا كان الدين يهتّم بروح الإنسان وفكره ومبنيّ على أساس من الإيمان واليقين، فليس له إلاّ طريق المنطق والاستدلال وجملة : (لا إكراه في الدين) في الواقع إشارة إلى هذا المعنى، مضافاً إلى أنّ المستفاد من شأن نزول هذه الآية وأنّ بعض الجهلاء طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم بتغيير عقائد الناس بالإكراه والجبر فجاءت الآية جواباً لهؤلاء وأنّ الدين ليس من الاُمور التي تفرض بالإكراه والإجبار وخاصّة مع كلّ تلك الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة التي أوضحت طريق الحقّ من طريق الباطل، فلا حاجة لأمثال هذه الاُمور.
وهذه الآية ردٌّ حاسم على الذين يتهمّون الإسلام بأنّه توسّل أحياناً بالقوّة وبحدّ السيف والقدرة العسكرية في تقدّمه وإنتشاره، وعندما نرى أنّ الإسلام لم يسوّغ التوسل بالقوّة والإكراه في حمل الوالد لولده على تغيير عقيدته الدينيّة فإنّ واجب الآخرين بهذا الشأن يكون واضحاً، إذ لو كان حمل الناس على تغيير
(260)
أديانهم بالقوّة والإكراه جائزاً في الإسلام، لكان الأولى أن يجيز للأب ذلك لحمل إبنه على تغيير دينه، في حين أنّه لم يعطه مثل هذا الحقّ.
ومن هنا يتّضح أنّ هذه الآية لاتنحصر بأهل الكتاب فقط كما ظنّ ذلك بعض المفسّرين، وكذلك لم يمسخ حكم هذه الآية كما ذهب إلى ذلك آخرون، بل أنّه حكم سار وعام ومطابق للمنطق والعقل.
ثمّ أنّ الآية الشريفة تقول كنتيجة لما تقدّم (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة الوثقى لا إنفصام لها).
(الطاغوت) صيغة مبالغة من طغيان، بمعنى الإعتداء وتجاوز الحدود، ويطلق على كلّ ما يتجاوز الحدّ. لذلك فالطاغوت هو الشيطان والصنم والمعتدي والحاكم الجبّار والمتكبّر، وكلّ معبود غير الله، وكلّ طريق لا ينتهي إلى الله. وهذه الكلمة تعني المفرد وتعني الجمع.
أمّا المقصود بالطاغوت، فالكلام كثير بين المفسّرين. قال بعض إنّه الصنم، وقال بعض إنّه الشيطان، أو الكهنة، أو السحرة، ولكن الظاهر أنّ المقصود هو كلّ أُولئك، بل قد تكون أشمل من كلّ ذلك، وتعني كلّ متعدّ للحدود، وكلّ مذهب منحرف ضال.
إنّ الآية في الحقيقة تأييد للآيات السابقة التي قالت أن (لا إكراه في الدين)، وذلك لأنّ الدين يدعو إلى الله منبع الخير والبركة وكلّ سعادة، بينما يدعو الآخرون إلى الخراب والإنحراف والفساد. على كلّ حال، إنّ التمسّك بالإيمان بالله هو التمسّك بعروة النجاة الوثقى التي لا تنفصم.
(والله سميعٌ عليم).
الإشارة في نهاية الآية إلى الحقيقة القائلة إنّ الكفر والإيمان ليسا من الأُمور الظاهرية، لأنّ الله عالم بما يقوله الناس علانية ـ وفي الخفاء ـ وكذلك هو عالم بما
(261)
يكنّه الناس في ضمائرهم وقلوبهم.
وفي هذه الجملة ترغيب للمؤمنين الصادقين، وترهيب للمنافقين.
* * *
بحث
الدين لا يُفرض :
لايمكن للإسلام ولا للأديان الحقّة الاُخرى أن تُفرض فرضاً على الناس لسببين :
1 ـ بَعدَ كلّ تلك الأدلّة والبراهين الواضحة والإستدلالات المنطقية والمعجزات الجلية لم تكن ثمة حاجة لذلك. إنّما يستخدم القوّة من أعوزه المنطق والحجّة. والدين الإلهي ذو منطق متين وحجّة قويّة.
2 ـ أنّ الدين القائم على أساس مجموعة من العقائد القلبية لا يمكن أن يُفرض بالإكراه. إن عوامل القوّة والسيف والقدرة العسكرية يمكنها أن تؤثّر في الأجسام، لا في الأفكار والمعتقدات.
يتّضح ممّا تقدّم الردّ على الإعلام الصليبي ـ المسموم ضدّ الإسلام ـ القائل «إنّ الإسلام انتشر بالسيف»، إذ لا قول أبلغ ولا أفصح من (لا إكراه في الدين)الذي أعلنه القرآن.
هؤلاء الحاقدون يتناسون هذا الإعلان القرآني الصريح، ويحاولون من خلال تحريف مفهوم الجهادوأحداث الحروب الإسلامية أن يثبتوا مقولتهم، بينما يتّضح بجلاء لكلّ منصف أنّ الحروب التي خاضها الإسلام كانت إمّا دفاعية، وإمّا تحريرية، ولم يكن هدف هذه الحروب السيطرة والتوسّع، بل الدفاع عن النفس، أو إنقاذ الفئة المستضعفة الرازحة تحت سيطره طواغيت الأرض وتحريرها من
(262)
ربقة العبودية لتستنشق عبير الحرية وتختار بنفسها الطريق الذي ترتئيه.
والشاهد الحيّ على هذا هو ما تكرّر حدوثه في التاريخ الإسلامي، فقد كان المسلمون إذا افتتحوا بلداً تركوا أتباع الأديان الأُخرى أحراراً كالمسلمين.
أمّا الضريبة الصغيرة التي كانوا يتقاضونها منهم باسم الجزية، فقد كانت ثمناً للحفاظ على أمنهم، ولتغطية ما تتطلّبه هذه المحافظة من نفقات، وبذلك كانت أرواحهم وأموالهم وأعراضهم مصونة في حمى الإسلام. كما أنّه كانوا أحراراً في أداء طقوسهم الدينية الخاصّة بهم.
جميع الذين يطالعون التاريخ الإسلامي يعرفون هذه الحقيقة، بل إن المسيحيين الذين كتبوا في الإسلام يعترفون بهذا أيضاً. يقول مؤلّف «حضارة الإسلام او العرب» : «كان تعامل المسلمين مع الجماعات الأُخرى من التساهل بحيث إنّ رؤساء تلك الجماعات كان مسموحاً لهم بإنشاء مجالسهم الدينية الخاصّة».
وقد جاء في بعض كتب التاريخ أنّ جمعاً من المسيحيين الذين كانوا قد زاروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للتحقيق والإستفسار أقاموا قدّاساً في مسجد النبي في المدينة بكلّ حرّية.
إنّ الإسلام ـ من حيث المبدأ ـ توسّل بالقوّة العسكرية لثلاثة اُمور :
1 ـ لمحو آثار الشرك وعبادة الأصنام، لأنّ الإسلام لا يعتبر عبادة الأصنام ديناً من الأديان، بل يراها انحرافاً ومرضاً وخرافة، ويعتقد أنّه لا يجوز مطلقاً أن يسمح لجمع من الناس أن يسيروا في طريق الضلال والخرافة، بل يجب إيقافهم عند حدّهم. لذلك دعا الإسلام عبدة الأصنام إلى التوحيد، وإذا قاوموه توسّل بالقوِّة وحطّم الأصنام وهدّم معابدها، وحال دون بروز أي مظهر من مظاهر عبادة الأصنام، لكي يقضي تماماً على منشأ هذا المرض الروحي والفكري.
(263)
وهذا يتبيّن من آيات القتال مع المشركين، مثل الآية 193 من سورة البقرة : (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة). وليس هناك أيّ تعارض بين الآية التي نحن بصددها وهذه الآية، ولا نسخ في هذا المجال.
2 ـ لمقابلة المتآمرين للقضاء على الإسلام، عندئذ كانت الأوامر تصدر بالجهاد الدفاعي وبالتوسّل بالقوّة العسكرية. ولعلّ معظم الحروب الإسلامية على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت من هذا القبيل، مثل حرب أُحد والأحزاب وحنين ومؤته وتبوك.
3 ـ للحصول على حريّة الدعوة والتبليغ. حيث إنّ لكل دين الحقّ في أن يكون حرّاً في الإعلان عن نفسه بصورة منطقية، فإذا منعه أحد من ذلك فله أن ينتزع حقّه هذا بقوّة السلاح.
* * *
(264)
الآية
اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ أُوْلَئَكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيَها خَـالِدُونَ (257)
التّفسير
نور الإيمان وظلمات الكفر :
بعدأن أشير في الآيات السابقة إلى مسألة الإيمان والكفر وإتضاح الحقّ من الباطل والطريق المستقيم عن الطريق المنحرف توضّح هذه الآية الكريمة إستكمالاً للموضوع أنّ لكل من المؤمن والكافر قائداً وهادياً فتقول : (الله وليّ الذين آمنوا) فهم يسيرون في ظلّ هذه الولاية من الظلمات إلى النور (يخرجهم من الظلمات إلى النور).
كلمة (وليّ) في الأصل بمعنى القرب وعدم الإنفصال ولهذا يقال للقائد والمربّي (ولي) ـ وسيأتي شرحها في تفسير آية (إنّما وليّكم الله ورسوله...)(1) ـ
_____________________________
1 ـ المائدة : 55.
(265)
تطلق أيضاً على الصديق والرفيق الحميم، إلاّ أنّه من الواضح أنّ الآية مورد البحث تعني في هذه الكلمة المعنى الأوّل، ولذلك تقول (الله وليّ الذين آمنوا...).
ويمكن أن يقال أنّ هداية المؤمنين من الظلمات إلى النور هو تحصيل للحاصل، ولكن مع الإلتفات إلى مراتب الهداية والإيمان يتّضح أنّ المؤمنين في مسيرهم نحو الكمال المطلق بحاجة شديدة إلى الهداية الإلهيّة في كلّ مرحلة وفي كلّ قدم وكلّ عمل، وذلك مثل قولنا في الصلاة كلّ يوم : (إهدنا الصراط المستقيم).
ثمّ تضيف الآية إنّ أولياء الكفّار هم الطاغوت (الأوثان والشيطان والحاكم الجائر وأمثال ذلك) فهؤلاء يسوقونهم من النور إلى الظلمات (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) ولهذا السبب (اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
* * *
ملاحظات
1 ـ إنّ تشبيه الإيمان والكفر بالنور والظلمة تشبيه بليغٌ رائع، فالنور هو منبع الحياة ومصدر البركات والرشد والنمّو التكامل والتحرّك ومنطلق الاطمئنان والعرفة والهداية، بينما الظلام رمز السكون والموت والنوم والجهل والضلال والخوف، وهكذا الإيمان والكفر.
2 ـ النقطة الثانية هي أنّ «الظلام» في هذه الآية وفي آيات اُخرى جاء بصيغة الجمع (ظلمات)، والنور جاء بصيغة المفرد، وهذا يشير إلى أنّ مسيرة الحقّ ليس فيها تفرّق وتشتّت، بل هي مسيرةٌ واحدة فهي كالخط المستقيم بين نقطتين حيث إنّه واحدٌ دائماً غير متعدّد، أمّا الباطل والكفر فهما مصدر جميع أنواع الاختلاف والتشتّت، حتّى أنّ أهل الباطل غير منسجمين في باطلهم، وليس لهم هدف واحد
(266)
كما هو الحال في الخطوط المائله والمنحرفة بين نقطتين حيث يكون عددها على طرفي الخط المستقيم غير محدود ولا معدود.
وأحتمل البعض أنّ المراد من ذلك أن صفوف الباطل بالنسبة لأهل الحقّ كثيرة.
3 ـ يمكن أن يقال أنّ الكفّار ليس لهم نورٌ فيخرجوا منه، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ نور الإيمان موجودٌ في فطرتهم دائماً فينطبق عليه هذا التعبير انطباقاً كاملاً.
4 ـ من الواضح أنّ الله تعالى لا يجبر المؤمنين للخروج من الظلمات إلى النور (ظلمات المعصية والجهل والصفات الذميمة والبعد عن الحقّ) ولا يكره الكفّار على خروجهم من نور التوحيد الفطري، بل أنّ أعمال هؤلاء هي التي توجب هذا المصير وتثمر هذه العاقبة.
* * *
(267)
الآية
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَـاهُ اللهُ الْمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ قَالَ أَنّاْ أُحْي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ واللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ (258)
التّفسير
محاجة إبراهيم مع طاغوت زمانه :
تعقيباً على الآية السابقة التي تناولت هداية المؤمنين بواسطة نور الولاية والهداية الإلهيّة، وضلال الكافرين لاتّباعهم الطاغوت، يذكر الله تعالى في هذه الآية : عدّة شواهد لذلك، وأحدها ما ورد في الآية أعلاه وهي تتحدّث عن الحوار الذي دار بين إبراهيم (عليه السلام) وأحد الجبّارين في زمانه ويدعى (نمرود) فتقول : (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه).
وتعقِّب الآية بجمله اُخرى تشير فيها إلى الدافع الأساس لها وتقول : إنّ ذلك الجبّار تملّكه الغرور والكبر وأسكره الملك (أن آتاه الله الملك).
(268)
وما أكثر الأشخاص الذين نجدهم في الحالات الطبيعيّة أفراد معتدلين ومؤمنين، ولكن عندما يصلون إلى مقام أو ينالون ثروةً فأنّهم ينسون كلّ شيء ويسحقون كلّ المقدّسات.
وتضيف الآية أنّ ذلك الجبّار سأل إبراهيم عن ربّه : من هو الإله الذي تدعوني إليه ؟ (إذ قال إبراهيم ربّ الذي يحيي ويميت).
الواقع أنّ أعظم قضيّة في العالم هي قضيّة الخلقة، يعني قانون الحياة والموت الذي هو أوضح آية على علم الله وقدرته.
ولكن نمرود الجبّار إتّخذ طريق المجادلة والسفسطة وتزييّف الحقائق لإغفال الناس والملأ من حوله فقال : إنّ قانون الحياة والموت بيدي (قال أنا أحيي واُميت).
ومن أجل إثبات هذه الدعوى الكاذبة استخدم حيلة كما ورد في الرواية المعروفة حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما وأمر بقتل الآخر، ثمّ قال لإبراهيم والحضّار : أرأيتم كيف أحيي وأُميت.
ولكنّ إبراهيم قدّم دليلاً آخر لإحباط هذه الحيله وكشف زيف المدّعي بحيث لا يمكنه بعد ذلك من إغفال النّاس فقال : (قال إبراهيم فإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب) وهنا ألقم هذا المعاند حجراً (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين).
وبهذا اُسقط في يدي العدوّ المغرور، وعجز عن الكلام أمام منطق إبراهيم الحيّ، وهذا أفضل طريق لاسكات كلّ عدوّ عنيد. بالرغم من أنّ مسألة الحياة والموت أهم من قضيّة حركة الشمس وشروقها وغروبها من حيث كونها برهاناً على علم الله وقدرته، ولهذا السبب أورده إبراهيم دليلاً أوّل، ولو كان في ذلك المجلس عقلاء ومتفكِّرون لاَكتفوا بهذا الدليل واقتنعوا به، إذ أنّ كلّ شخص يعرف
(269)
أنّ مسألة اطلاق سراح سجين وقتل آخر لا علاقة له بقضيّة الإحياء والإماتة الطبيعيتين أبداً، ولكن قد يكون هذا الدليل غير كاف لأمثال هؤلاء السذّج، ويحتمل وقوعهم تحت تأثير سفسطة ذلك الجبّار المكّار، فلهذا قدّم إبراهيم (عليه السلام)دليله الآخر وهو مسألة طلوع وغروب الشمس لكي يتضح الحق للجميع(1).
وما أحسن ما صنع إبراهيم (عليه السلام) من تقديمه مسألة الحياة والموت كدليل على المطلوب حتّى يدّعي ذلك الجبّار مشاركة الله تعالى في تدبير العالم، ثمّ طرح مسألة طلوع وغروب الشمس بعد ذلك ليتّضح زيف دعواه ويحجم عن دعوى المشاركة.
ويتّضح ضمناً من جملة (والله لا يهدي القوم الظالمين) أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّهما من أفعال الله تعالى، إلاّ أنّ مقدّماتهما بيد العباد، فارتكاب الآثام من قبيل الظلم والجور والمعاصي المختلفة تشكّل على القلب والبصيرة حجبٌ مظلمة تمنع من أدراك الحقائق على حقيقتها.
* * *
ملاحظات
1 ـ القرآن لا يذكر اسم هذا الشخص الذي حاجَّ إبراهيم، ويشير إليه بقوله : (أن آتاه الله الملك) أي أنّه لغروره بحكمه قام بمحاججة إبراهيم.
صاحب تفسير الدرّ المنثور نقل عن أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) رواية تذكر أنّه «النمرود بن كنعان» وكتب التاريخ تذكر هذا الإسم أيضاً.
2 ـ على الرغم من عدم تعرّض القرآن لذكر وقت هذا الحوار، فالقرائن تدلّ
_____________________________
1 ـ إن الاستدلال الثاني يبدأ بالغاءز وقد يكون إشارة إلى أن الاستدلال الثاني لا يعني صرف النظر عن الاستدلال الأوّل بل تضاف إليه.
(270)
على أنّه وقع بعد قيام إبراهيم بتحطيم الأصنام ونجاته من النار، إذ من الواضح أنّه قبل إلقائه في النار لم تكن لتجري أمثال هذه المجادلات، لأنّ عبدة الأصنام ما كانوا يسمحون له بالكلام وهم يعتبرونه مجرماً ينبغي أن ينال بأسرع وقت جزاءه على فعلته الشنيعة بتحطيم آلهتهم المقدّسة !
إنّهم سألوه عن سبب فعلته ثمّ أصدروا أمرهم بإحراقه وهم غاضبون، ولكن عندما خرج من النار سليماً على تلك الصورة العجيبة استطاع أن يصل إلى نمرود وأن يحاوره.
3 ـ يتبيّن جليّاً من الآية أنّ نمرود لم يكن في الواقع يبحث عن الحقيقة، بل كان يريد أن يظهر باطله بمظهر الحق. ولعلّ استعمال الفعل «حاجَّ» قصد به هذا المعنى، لأنّه يستعمل عادة في مثل هذه الحالات.
4 ـ يستدلّ من الآية بصورة واضحة أنّ جبّار ذلك الزمان كان يدعي الألوهيّة، لا ليعبدوه فحسب، بل ليؤمنوا به خالقاً لهذا العالم أيضاً، أي أنّه كان يرى نفسه معبوداً وخالقاً.
وليس في هذا ما يدعو إلى العجب، ففي الوقت الذي يسجد فيه الناس لأصنام من الحجر والخشب، وفضلاً عن عبادتها يعتبرونها مؤثرة في إدارة العالم وتساهم فيها، فإنّ الفرصة مناسبة لجبّار مخادع أن يستغفل الناس ويستغلّ سذاجتهم ويدعوهم إليه ويظهر نفسه بمظهر صنم يعبدونه ويعتبرونه خالقاً.
5 ـ تاريخ عبادة الأصنام
يصعب لنا بيان تاريخ لعبادة الأصنام وتعيين مبدأ له، فمنذ أقدم الأزمنة التي كانت عبادة الأصنام سائدة بين البشر الذين كانت أفكارهم منحطّة وعلى مستوى واطىء.
الواقع أنّ عبادة الأصنام نوع من التحريف في العقيدة الفطرية الطبيعية
(271)
المودعة في الإنسان المتمثّلة في عبادة الله. ولمّا كانت هذه الفطرة موجودة في الإنسان دائماً، فإنّ تحريفها كان أيضاً موجوداً بين المجموعات البشرية المنحطّة دائماً. لذلك يمكن القول أنّ تاريخ عبادة الأصنام يكاد يوازي تاريخ ظهور الإنسان على الأرض، وذلك لأن الإنسان بمقتضى فطرته وخلقه يتوجّه إلى قوّة فوق الطبيعة. إنّ طبيعته هذه كانت تؤيّدها أدلّة واضحة من نظام الوجود تقضي بوجود مبدأ عالم قادر، وكان الإنسان يدرك هذا بقدر ما عن طريقين ـ فطرته وعقله ـ والإحساس بالجوع في الأطفال مثلاً إذا لم يوجّه في الوقت المناسب إلى الغذاء السليم فإنّ الطفل قد يمدّ يده إلى أشياء كالطين والتراب، ويتعود على ذلك بالتدريج فيفقد صحّته من جراء ذلك. كذلك الإنسان الذي يبحث عن الله بفطرته وعقله إذا لم يوجّه الوجهة الصحيحة يمدّ نظره إلى مختلف الآلهة والأصنام المصطنعة، فينحني ويسجد لها ويسبغ عليها كلّ صفات الألوهيّة.
ولا حاجة إلى القول بأنّ قصيري النظر والسفهاء يسعون إلى أن يجسّموا كلّ شيء في قالب حسّي، لأنّ فكرهم لا يفارق منطقة المحسوسات أبداً، لذلك كان يصعب عليهم عبادة إله غير منظور ومرئي، ورغبوا في صبّ آلهتهم في قالب حسّي. إنّ هذا الجهل إذا امتزج بفطرة عبادة الله يظهر في صورة عباده الأصنام والآلهة المجسّدة.
وقيل من جهة اُخرى : إنّ الأقوام السالفة كانت تقدّس أنبياءها وشخصيّاتها الدينية، فإذا توفي هؤلاء أقامت لهم التماثيل لإحياء ذكراهم مدفوعين بروح تقديس الأبطال، والغلوّ التي نجدها في ضعفاء العقول، ومن ثمّ تقديس تماثيلهم إلى حدّ التأليه، وكان هذا سبباً آخر من أسباب عبادة الأصنام.
ومن الأسباب الأُخرى لعبادة الأصنام هو أنّ عدداً من الموجودات الطبيعية التي هي مصدر خير وبركة للإنسان كالقمر والشمس والنار والماء وغيرها قد
(272)
أثارت اهتمام الإنسان بها، فراح يحني رأسه أمامها تعظيماً لها واعترافاً منه بجميلها دون أن يوسع أُفق تفكيره ليرى المبدأ الأوّل في خلق العالم وراء تلك الموجودات، فاتّخذ هذا التقدير والإحترام بمرور الزمان صورة عبادة لهذه الموجودات.
إنّ منشأ كلّ أنواع عبادة الأصنام شيء واحد، وهو الإنحطاط الفكري والجهل وعدم وجود الهادي المخلّص إلى طريق الله، الأمر الذي يمكن الوقاية منه باتّباع تعاليم الأنبياء وتربيتهم وإرشاداتهم.
* * *
(273)
الآية
أَوْ كَِالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَة وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيي هَـذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِاْئَةَ عَام ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَام فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(259)
التّفسير
قصة «عُزير» العجيبة :
جاءت هذه الآية معطوفة على الآية السابقة وتقصّ حكاية أحد الأنبياء القدامى، وهي من الشواهد الحيّة على مسألة البعث. وقد دارت الآيات السابقة ـ التي استعرضت الحوار بين إبراهيم (عليه السلام)والنمرود ـ حول التوحيد ومعرفة الله. أمّا هذه الآية والآيات التالية فتدور حول المعاد والحياة بعد الموت. نبدأ بشرح
(274)
الحكاية بصورة مجملة ثمّ نباشر بالتفسير.
الآية تشير إلى حكاية رجل سافر على حماره ومعه طعام وشراب، فمرّ بقرية قد تهدّمت وتحوّلت إلى أنقاض تتخلّلها عظام أهاليها النخرة. وإذ رأى هذا المشهد المروع قال : كيف يقدر الله على إحياء هؤلاء الأموات ؟
لم يكن تسأوله بالطبع من باب الشكّ والإنكار، بل كان من باب التعجّب، إذ أنّ القرائن الأُخرى في الآية تدلّ على أنّه كان أحد الأنبياء، وقد تحدّث إليه الله، كما أنّ الأحاديث تؤيّد هذا كما سيأتي.
عند ذلك أماته الله مدة مائة سنة، ثمّ أحياه مرّة اُخرى وسأله : كم تظنّ أنّك بقيت في هذه الصحراء ؟ فقال وهو يحسب أنّه بقي سويعات : يوماً أو أقل، فخاطبه الله بقوله : بل بقيت هنا مائة سنة، انظر كيف أنّ طعامك وشرابك طوال هذه المدّة لم يصبه أي تغيّر بإذن الله. ولكن لكي تؤمن بأنك قد أمضيت مائة سنة كاملة هنا انظر إلى حمارك الذي تلاشى ولم يبق منه شيء بموجب نواميس الطبيعة، بخلاف طعامك وشرابك، ثمّ انظر كيف إنّنا نجمع أعضاءه ونحييه مرّة اُخرى. فعندما رأى كلّ هذه الأُمور أمامه قال : (اعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير)، أي : إنني الآن على يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسّمة أمامي.
ومَن هذا النبيّ الذي تحدّثت عنه هذه الآية ؟ ثمّة أقوال عديدة، قال بعض : إنّه «ارميا». وقال آخرون : إنّه «الخضر». إلاَّ أنّ أشهر الأقوال : إنّه «العزير» ويؤيّده حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)(1).
واختلفت الأقوال أيضاً بشأن القرية المذكورة، قال بعض : إنّها «بيت المقدس» التي دمّرها نبوخذ نصّر، وهو احتمال بعيد.
_____________________________
1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 370.
(275)
نعود إلى تفسير الآية :(أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها).
هذه الآية ـ كما قلنا ـ تكملة للآية السابقة التي دارت حول التوحيد. هذه الآية والآيات التالية تجسّد مسألة المعاد.
«عروش» جمع عرش، وهنا تعني السقف. و «خاوية» في الأصل بمعنى خالية، ولكنّها هنا كناية عن الخراب والدمار، فالبيوت العامرة تكون عادةً مسكونة، أمّا الدور الخالية فإمّا أن تكون قد تهدّمت من قبل، أو أنّها تهدّمت بسبب خلوّها من الساكنين، وعليه فإنّ قوله (وهي خاوية على عروشها) تعني أنّ دور تلك القرية كانت كلّها خربة، فقد هوت سقوفها ثمّ انهارت الجدران عليها، وهذا هو الخراب التام إذ أنّ الإنهدام يكون عادةً بسقوط السقف أوّلاً، وتبقى الجدران قائمة بعض الوقت، ثمّ تنهار فوق السقف.
(قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها).
الظاهر أنّ أحداً لم يكن مع النبيّ في هذه الواقعة، فهو بهذا يخاطب نفسه. وبديهيّ أنّ القرية هنا تعني أهل القرية، وهذا يعني أنّه كان يرى عظام أهل القرية بعينيه، فأشار إليها وهو ينطق بتساؤله.
(فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه).
يرى أكثر المفسّرين أنّ هذه الآية تعني أنّ الله قد أمات النبيّ المذكور مدّة مائة سنة ثمّ أحياه بعد ذلك، وهذا ما يستفاد من كلمة «أماته». إلاَّ أنّ صاحب تفسير المنار يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى نوع من النوم الطويل المعروف عند بعض الحيوانات المسمّى بالسبات. حيث يغطّ الكائن الحي في نوم عميق وطويل دون أن تتوقف فيه الحياة، كالذي حدث مثلاً عند أصحاب الكهف.
(276)
وإذا كان النوم لبضع سنوات ممكناً، فهو على رأي صاحب المنار ممكن أيضاً لمائة عام وإن لم يكن اعتيادياً. ويلزم في قبول الخوارق أن تكون ممكنة لا محاله عقلاً(1).
ولكن ليس في هذه الآية ما يدلّ على صحّة هذا القول، بل إن ظاهر الآية يدلّ على أنّ النبيّ قد فارق الحياة، وبعد مائة سنة استأنف الحياة مرّة أُخرى. ولا شكّ أنّ موتاً وحياةً كهذين هما من خوارق العادات، وإن لم يكن مستحيلاً. وعلى كلّ حال فإنّ الحوادث الخارقة للعادة في القرآن ليست منحصرة بهذه الحادثة بحيث نعمد إلى تأويلها.
نعم نستطيع في هذا المجال ذكر مسألة النوم الطويل الطبيعي أو السبات الشتوي لبعض الحيوانات التي تنام خلال أشهر الشتاء وتستيقظ عند انخفاض حدّة البرد، أو مسألة انجماد بعض الحيوانات انجماداً طبيعياً، أو تجميد بعض الأحياء على يد البشر لمدة طويلة دون أن تموت، كلّ ذلك لتقريب فكرة الإماتة والإحياء مدّة عام إلى الأذهان، ويكون ذكر هذه المسائل بهدف الخروج بالنتيجة التالية :
إنّ الله القادر على الابقاء الأحياء مئات السنين في نوم طويل أو حالة انجماد، ثمّ إيقاظها وإعادتها إلى حالتها الأُولى لهو قادر على إحياء الموتى.
إننا بقبولنا أصل المعاد وإحياء الموتى في البعث وكذلك بقبول خوارق العادات والمعجزات على أيدي الأنبياء ليس ثمّة ما يدعونا إلى محاولة تفسير جميع آيات القرآن بسلسلة من المسائل العادية والطبيعية مخالفين بذلك ظاهر الآيات، فهذا ليس صحيحاً ولا لزوم له.
وكما قال بعض المفسّرين : كأننا نسينا أننا هنا أموات في البداية وقد أحيانا
_____________________________
1 ـ تفسير المنار والمراغي في ذيل الآيه المبحوثة.
(277)
الله تعالى، فما المانع أن تتكرر ظاهرة الموت والحياة هذه.
(قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم).
يسأل الله نبيّه في هذه الآية عن المدّة التي قضاها في النوم، فيتردّد في الجواب بين قضائه يوماً كاملاً أو جزءاً من اليوم. ويستفاد من هذا التردّد أنّ الساعة التي أماته الله فيها تختلف عن الساعة التي أحياه فيها من ساعات النهار، كأن تكون إماتته قد حدثت مثلاً قبل الظهر، وأُعيد إلى الحياة بعد الظهر. لذلك انتابه الشكّ إن كان قد نام يوماً كاملاً بليله ونهاره، أم أنّه لم ينم سوى بضع ساعات من النهار. ولهذا بعدأن قال إنّه قضى يوماً، راوده الشكّ فقال (أو بعض يوم). ولكنّه ما لبث أن سمع الله يقول له :(بل لبثت مائة عام).
ثمّ أن الله تعالى أمر نبيه بأن ينظر إلى طعامه الذي كان معه من جهة، وينظر إلى مركوبه من جهة اُخرى ليطمئن إلى واقعية الأمر فالأول بقي سالماً تماماً. أمّا الثاني فتلاشى وأصبح رميماً. ليعلم قدرة الله على حفظ الأشياء القابلة للفساد خلال هذه الأعوام، ويدرك من جهة اُخرى مرور الزمان على وفاته :
(فانظرإلى طعامك وشرابك لم يتَسنّه).
«لم يتسنّه» من مادّة «سَنَة» أي لم يمض عليه مدّة سنة، لعدم تعفّنه وتفسّخه. وعلى ذلك يكون معنى الآية : لاحظ طعامك وشرابك تجده كأنّه لم تمض عليه سنة ولا مدّة زمنية، فلم يتغير، أي أنّ الله القادر على إبقاء ما يسرع إليه التفسّخ والفساد كالطعام والشراب، قادر أيضاً على إحياء الموتى بيسر. فإبقاء الطعام والشراب نوع من إدامة الحياة لهذه المواد السريعة التفسّخ، وعملية الإبقاء هذه ليست بأيسر من إحياء الموتى(1).
_____________________________
1 ـ الضمير في «لم يتسنّه» مفرد وعائده مثّنى : الطعام والشراب،وإنّما أفرد لقصد الجنس، فكلاهما من جنس واحد.
(278)
إلاَّ أنّ الآية لم تشر إلى ماهيّة طعام النبيّ وشرابه. يقول بعض : إنّ طعامه كان فاكهة التين وكان شرابه عصير بعض الفواكه، وكلاهما يسرع إليه الفساد والتفسّخ كما هو معلوم، لذلك فإنّ بقاءهما هذه المدّة الطويلة دون تلف أمرٌ مهم.
(وانظر إلى حمارك).
لم يذكر القرآن عن حماره شيئاً في الآيات السابقة، إلاَّ أنّ الآيات التالية تشير إلى أنّ حماره قد تلاشى تماماً بمضيّ الزمان، ولولا ذلك لما كان هناك ما يشير إلى انقضاء مائة سنة، وهذا أمر عجيب أيضاً، لأنّ حيواناً معروفاً بطول العمر يتلاشى على هذه الصورة، بينما الذي يطرأ عليه التفسّخ السريع كالفاكهة وعصيرها لم يتغيّر لا في الرائحة ولا في الطعم، وهذا منتهى تجلّي قدرة الله.
(ولنجعلك آيةً للناس).
أي أنّ حكايتك هذه ليست آية لك وحدك، بل هي كذلك للناس جميعاً.
(وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً).
«النشوز» هو الارتفاع والبروز، ويعني هنا رفع العظام من مكانها وتركيبها مرّة اُخرى. فمعنى الآية يكون : انظر إلى هذه العظام النخرة كيف نرفعها من مواضعها ونربط بعض ببعض ثمّ نغطّيها باللحم ونحييها. واضح أنّ العظام المقصودة هي عظام حماره المتلاشي، لا عظام أهل القرية لما في ذلك من انسجام مع الآيات السابقة.
واحتمل بعض المفسّرين أن المراد من العظام هي عظام نفس ذلك النبي، وهذا بعيد جدّاً، لأنّ الحديث كان بعد احياءه، وكذلك احتمل الآخرون هي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من احيائهم(1)، وهذا أيضاً بعيد لأن الكلام
_____________________________
1 ـ الكشّاف : ج 1 ص 307.
(279)
قبل هذه الجملة كان يدور حول الحمار والراكب لا أهل القرية.
(فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير).
عندما اتّضحت كلّ هذه المسائل للنبيّ المذكور قال إنّه يعلم أن الله قادر على كلّ شيء. لاحظ أنّه لم يقل : الآن علمت كقول زليخا بشأن يوسف (الآن حصحص الحقّ)(1) بل قال «أعلم» أي أنني أعترف ومعرفتي بهذا الأمر بعلمي.
* * *
_____________________________
1 ـ يوسف : 51.
(280)
الآية
وَإِذْ قَالَ إِبَراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِن الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ ِ جَبَل مّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(260)
التّفسير
تجلّي آخر للمعاد في هذه الدنيا :
يذكر القرآن الكريم حول مسألة المعاد بعد قصة عزير قصةً اُخرى عن إبراهيم (عليه السلام) ليكتمل البحث، ويذكر معظم المفسّرين والمؤرخين في تفسير هذه الآية الحكاية التالية :
مرّ إبراهيم (عليه السلام) يوماً على ساحل البحر فرأى جيفة مرميّة على الساحل نصفها في الماء ونصفها على الأرض تأكل منها الطيور والحيوانات البرّ والبحر من الجانبين وتتنازع أحياناً فيما بينها على الجيفة، عند رؤية إبراهيم (عليه السلام) هذا المشهد خطرت في ذهنه مسألة يودّ الجميع لو عرفوا جوابها بالتفصيل، وهي كيفيّة عودة
(281)
الأموات إلى الحياة مرّة اُخرى، ففكّر وتأمّل في نفسه أنّه لو حصل مثل هذا الحادث لبدن الإنسان وأصبح طعاماً لحيوانات كثيرة، وكان بالتالي جزءً من بدن تلك الحيوانات، فكيف يحصل البعث ويعود ذلك الجسد الإنساني نفسه إلى الحياة ؟
فخاطب إبراهيم (عليه السلام) ربّه وقال : (ربّ أرني كيف تحيي الموتى).
فأجابه الله تعالى : أوَلم تؤمن بالمعاد ؟ فقال (عليه السلام) : بلى ولكن ليطمئّن قلبي.
فأمره الله أن يأخذ أربعة طيور ويذبحها ويخلط لحمها، ثمّ يقسّمها عدّة أقسام ويضع على كلّ جبل قسماً منها، ثمّ يدعو الطيور إليه، وعندئذ سوف يرى مشهد يوم البعث، فأمتثل إبراهيم للأمر واستولت عليه الدهشة لرؤيته أجزاء الطيور تتجمّع وتأتيه من مختلف النقاط وقد عادت إليها الحياة.
وثمّة تفسير آخر للآية نقله الفخر الرازي عن أحد المفسّرين يدعى (أبو مسلم) يخالف آراء بقيّة المفسّرين ولكنّنا نذكره هنا لئنّ مفسّراً معاصراً وهو صاحب المنار قد اختار هذا الرأي.
يقول هذا المفسّر : ليس في هذه الآية ما يدلّ على أنّ إبراهيم (عليه السلام) ذبح الطيور وبعد ذلك عادت إلى الحياة من جديد بأمر الله تعالى، بل أنّ الآية في صدد بيان مثال لتوضيح مسألة المعاد، يعني أنّك يا إبراهيم خذ أربعة من الطير فضمّها إليك حتّى تستأنس بك بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوانات إستعداداً لذلك، ثمّ إجعل كلّ واحدة منهنّ على جبل ثمّ ادعها، فإنّها تسرع إليك، وهذه المسألة اليسيرة بالنسبة لك تماثل في سهولتها ويسرها مسألة إحياء الأموات وجمع إجزائها المتناثرة بالنسبة إلى الله تعالى.
فعلى هذا يكون أمر الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) في الطيور الأربعة لايعني أن يقدم إبراهيم على هذا العمل حتماً، بل أنّه مجرّد بيان مثال وتشبيه كأن يقول شخصٌ
(282)
لآخر لبيان سهولة الأمر عليه : إشرب هذا القدح من الماء حتّى انهي هذا العمل ويريد بذلك بيان سهولته، لا أنّ الآخر يجب عليه أن يشرب الماء.
وأستدلّ أنصار النظريّة الثانية بكلمة (فصرهنّ إليك) وقالوا إنّ هذه الجملة إذا كانت متعدّية بحرف (إلى) فتكون بمعنى الأنس والميل، فعلى هذا يكون مفهوم الجملة أنّه (خذ هذه الطيور وآنسهى بك) مضافاً إلى أنّ الضمائر في (صرهنّ) و (منهنّ) و (ادعهنّ) كلّها تعود إلى الطيور، وهذا لا يكون سليماً إلاّ إذا أخذنا بالتفسير الثاني، لأنّه على التفسير الأوّل تعود بعض هذه الضمائر على نفس الطيور وتعود البعض الآخر على أجزائها، وهذا غير مستساغ في الاستعمال.
الجواب على هذه الاستدلالات سيأتي ضمن تفسيرنا للآية الشريفة ولكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنّ الآية تبيّن بوضوح هذه الحقيقة، وهي أنّ إبراهيم(عليه السلام)طلب من الله تعالى المشاهدة الحسيّة للمعاد والبعث لكي يطمئّن قلبه، ولاشكّ أنّ ضرب المثل والتشبيه لا يجسّد مشهداً ولا يكون مدعاة لتطمين الخاطر، وفي الحقيقة أنّ إبراهيم كان مؤمناً عقلاً ومنطقاً بالمعاد، ولكنّه كان يريد أن يدرك ذلك عن طريق الحس أيضاً.
والآن نبدأ بتفسير الآية ليتّضح لنا أيّ التفسيرين أقرب وأنسب :
(وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى).
سبق أن قلنا إنّ هذه الآية تكملة للآية السابقة في موضوع البعث، يفيد تعبير (أرني كيف...) أنّه طلب الرؤية والشهود عياناً لكيفيّة حصول البعث لا البعث نفسه.
(قال أوَلم تؤمن قال بلى ولكن لِيطمئنَّ قلبي).
كان من الممكن أن يتصور بعضهم أنّ طلب إبراهيم (عليه السلام) هذا إنّما يدلّ على تزلزل إيمان إبراهيم (عليه السلام)، ولإزالة هذا التوهّم أوحى إليه السؤال : «أوَلم تؤمن ؟»
(283)
لكي يأتي جوابه موضحاً الأمر، ومزيلاً كلّ التباس قديقع فيه البعض في تلك الحادثة، لذلك أجاب إبراهيم (عليه السلام) (بلى ولكن ليطمئن قلبي).
يفهم من هذه الآية أيضاً على أنّ الإستدلالات العملية والمنطقية قد تؤدّي إلى اليقين ولكنها لا تؤدّي إلى اطمئنان القلب، إنّها ترضي العقل لا القلب ولا العواطف. إنّ ما يستطيع أن يرضي الطرفين هو الشهود العيني والمشاهد الحسيّة. هذا موضوع مهمّ سوف نزيده إيضاحاً في موضعه.
التعبر بالاطمئنان القلبي يدلّ على أن الفكر قبل وصوله إلى مرحلة الشهود يكون دائماً في حالة حركة وتقلَّب ولكن اذا وصل مرحلة الشهود يسكن ويهدأ.
(قال فخذ أربعةً من الطير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءاً).
«صرهنّ» من «الصَوْر» أي التقطيع، أو الميل، أو النداء، ومعنى التقطيع أنسب. أي خذ أربعة من الطير واذبحهنّ وقطّعهنّ واخلطهنّ.
لقد كان المقصود أن يشاهد إبراهيم (عليه السلام) نموذجاً من البعث وعودة الأموات إلى الحياة بعد أن تلاشت أجسادها. وهذا لا يأتلف مع أملهنّ ولا مع صح بهنّ وعلى الأخصّ ما يأتي بعد ذلك (ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءاً) وهذا دليل على أنّ الطيور قد قطّعت أوّلاً وصارت أجزاء. ولعلّ الذين قالوا إنّ (صرهنّ إليك) تعني استمالتهنّ وايناسهنّ قد غفلوا عن لفظة «جزءاً» هذه، وكذلك الهدف من هذا العمل.
وبذلك قام إبراهيم بهذا العمل وعندما دعاهنّ تجمّعت أجزائهنّ المتناثرة وتركبّت من جديد وعادت إلى الحياة، وهذا الأمر أوضح لإبراهيم (عليه السلام) أنّ المعاد يوم القيامة سيكون كذلك على شكل واسع وبمقياس كبير جدّاً.
ويرى بعضهم أنّ كلمة (سعيّاً) تعني أنّ الطيور بعد أن عادت إليهنّ الحياة لم يطرن، بل مشين مشياً إلى إبراهيم (عليه السلام) لئنّ السعي هو المشي السريع، وينقل عن
(284)
الخليل ابن أحمد الأديب المعروف أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يمشي عندما جاءت إليه الطيور، أي أنّ (سعياً) حال من إبراهيم لا من الطيور(1)، ولكن بالرغم من كلّ ذلك فالقرائن تشير إلى أنّ (سعياً) كناية عن الطيران السريع.
* * *
بحوث
1 ـ الحادثة الخارقة للعادة
لاشكّ في أنّ هذه الحادثة التي حدثت للطيور كانت أمراً خارقاً للعادة تماماً كما في وقوع البعث يوم القيامة، ونعلم أنّ الله تعالى حاكمٌ على قوانين الطبيعة وليس محكوماً لها، فعلى هذا لا يكون من العسير حدوث مثل هذه القضايا بأمره، وكما أشرنا سابقاً إلى أنّ إصرار بعض المفسّرين المثقفين على الأعراض عن التفسير المشهور. والقول بأنّ المراد هو تدجين وتأهيل هذه الطيور حتّى تستأنس به ثمّ يدعوها إليه فتستجيب، ضعيفٌ جدّاً وكلامٌ لا يستند على أساس منطقي ولا يتناسب مع مسألة المعاد ولا مع قصّة إبراهيم (عليه السلام) ورؤيته للجيفة على ساحل البحر ثمّ طلبه رؤية مشهد البعث والمعاد.
والجدير بالذكر أنّ (الفخر الرازي) قال بأنّ جميع المفسّرين إتّفقوا على ما ذكر من التفسير المشهور إلاّ أبو مسلم حيث أنكر ذلك(2).
2 ـ أربع طيور مختلفة
لاشكّ أنّ الطيور الأربعة كانت من أربعة أنواع مختلفة، وإلاَّ فإنّ هدف
_____________________________
1 ـ البحر المحيط : ج 2 ص 300 ذيل الآية المبحوثة.
2 ـ تفسير الكبير : ج 7 ص 41.
(285)
إبراهيم (عليه السلام)من عودة كلّ جزء إلى أصله لايتحقق. وفي بعض الروايات أنّ هذه الطيور كانت طاووساً وديكاً وحمامةً وغراباً، فكان الإختلاف بينها كبيراً، ويرى بعض أنّها مظهر للصفات والخصال المختلفة في البشر. فالطاووس يمثّل العجب والخيلاء والتكبّر، والديك يمثّل الرغبات الجنسية الشديدة، والحمامة تمثّل اللهو واللعب، والغراب يمثّل الآمال والمطامح البعيدة.
3 ـ عدد الجبال
لم يرد في القرآن ذكر عدد الجبال التي وضع عليها إبراهيم أجزاء الطيور، ولكن الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) تقول أنّها عشرة. ولهذا ورد في الروايات : إنّ من يوصي بإنفاق جزء من أمواله في أمر من الأُمور دون تعيين النسبة فإن صرف عشرة بالمائة يكفي(1)..
4 ـ متى وقعت هذه الحادثة ؟
هل وقعت عندما كان إبراهيم في بابل، أم بعد نزوله بالشام ؟ يظهر أنّ ذلك قد حدث في الشام، لأنّ منطقة بابل خالية من الجبال.
5 ـ المعاد الجسماني
معظم الآيات الواردة في القرآن المجيد بشأن البعث تشرح وتوضح المعاد الجسماني. إنّ العليم بالمفاهيم القرآنية الخاصّة بالمعاد يعلم أنّ ما يذكره القرآن هو المعاد الجسماني فقط، أي عندما يبعث الناس يكون البعث للجسم والروح معاً.
_____________________________
1 ـ تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 278.
(286)
لذلك فالقرآن يعبّر عن ذلك بأنّه إحياء الموتى، ولو كان البعث يقتصر على الروح لما كان للإحياء أي مفهوم.
وهذه الآية تشرح بكلّ وضوح كيفيّة تجمّع أجزاء الجسد المتناثرة، وهو ما رآه إبراهيم (عليه السلام) بعينيه.
6 ـ شبهة الأكل والمأكول
ما ذكرناه من الدافع الذي دفع بإبراهيم (عليه السلام) إلى طلب مشاهدة إحياء الموتى وحكاية الجيفة التي كان يأكل منها حيوانات البرّ والبحر، نفهم أنّ إهتمام إبراهيم (عليه السلام) كان منصبّاً على أن يعرف كيف يمكن إرجاع جسد ميّت إلى حالته الأُولى بعد أن أكلته الحيوانات وأصبح جزءاً من أجساد تلك الحيوانات ؟ وهذا ما يطلق عليه في علم العقائد اسم «شبهة الآكل والمأكول».
لتوضيح ذلك نقول : إنّ الله سبحانه يعيد الإنسان في يوم القيامة بهذا الجسد المادّي. وبعبارة أُخرى يعود جسم الإنسان وتعود روحه أيضاً.
في هذه الحالة يبرز تساؤل يقول : إذا استحال جسد الإنسان إلى تراب، وامتصّته جذور الأشجار والنباتات وأصبح ثمراً أكله إنسان آخر وغدا جزءاً من جسده. أو إذا افترضنا مثلاً سنوات قحط شديدة أكل فيها إنسان لحم إنسان، فإلى أيّ جسد ستعود هذه الأجزاء المأكولة ؟ فإذا غدت جزء من الجسد الأوّل أصبح الجسد الثاني ناقصاً، وإن بقيت جزء من الجسد الثاني نقص الأول أو انعدم.
الجواب :
هذا الإعتراض القديم أجاب عليه الفلاسفة وعلماء العقائد إجابات مختلفة لا نرى ضرورة لدرجها جميعاً هنا. وهناك آخرون لم يستطيعوا أن يعثروا على جواب مقنع، فراحوا يؤوّلون الآيات المرتبطة بالمعاد الجسماني وعمدوا إلى
(287)
اعتبار شخصية الإنسان منحصرة بالروح والخصائص الروحية، مع أنّ شخصية الإنسان لا تنحصر بالروح فقط، ولا الآيات الخاصّة بالمعاد الجسماني غامضة بحيث يمكن تأويلها، بل هي صريحة صراحة قاطعة كما قلنا.
وهناك غيرهم قالوا بنوع من المعاد الجسماني الذي لا يختلف كثيراً عن المعاد الروحاني، إلاَّ أننا نجد أمامنا طريقاً أكثر وضوحاً بالإعتماد على النصوص القرآنية ويتّفق مع ما توصّل إليه العلم الحديث، ويحتاج توضيحه إلى عدّة مقدّمات.
1 ـ إننا نعلم أنّ أجزاء جسد الإنسان تتبدّل مرّات عديدة من الطفولة إلى الموت، حتّى خلايا الدماغ التي لا تتغيّر من حيث العدد، تتغيّر من حيث الأجزاء، فهي من جهة تتغذّى ومن جهة اُخرى تتجزّأ، وهذا نفسه يؤدّي إلى تبديلها الكامل على مدى الزمن، بحيث إنّه بعد مرور عشر سنوات لا تبقى أيّة ذرّة من ذرّات الجسم القديمة.
ولكن الذرّات السابقة عندما تكون على أعتاب الهلاك تنقل جميع خواصّها وآثارها إلى الخلايا الجديدة، لذلك فإنّ مميّزات الإنسان الجسمية كالطول والشكل والهيئة وغيرها من الكيفيات الجسمانية تبقى ثابتة على مرور الزمان، وهذا لايكون إلاَّ بانتقال هذه الصفات إلى الخلايا الجديدة، (لاحظ هذا بدقّة).
وعليه فإنّ الأجزاء الأخيرة من كلّ إنسان، عندما تتبدّل بعد الموت إلى تراب، تكون حاوية على مجموعة من الصفات التي اكتسبتها على امتداد العمر، فهي تاريخ ينطق بمسيرة جسم الإنسان على امتداد العمر كلّه.
2 ـ صحيح أنّ الروح هي الأساس الذي تبنى عليه شخصية الإنسان، ولكن ينبغي أن نعرف أنّ الروح تتكامل وتتربّى بالجسم، وهما يتبادلان التأثير. لذلك فكما أنّ جسدين لايتشابهان من جميع الجهات، كذلك لا تتشابه روحان من
(288)
جميع الجهات أيضاً.
ولهذا السبب فإنّ الروح لا تستطيع أن تتفاعل تفاعلاً كاملاً إلاَّ مع الجسد الذي تربّت وتكاملت معه. لذلك ففي البعث لابدّ من حضور الجسد السابق نفسه لكي تستطيع الروح الإندماج به وتستأنف نشاطها في عالم أسمى، ولتجني ثمار أعمالها.
3 ـ تتمثّل في كلّ ذرّة من ذرّات الجسم جميع صفاته، أي أنّنا لو أمكننا أن نربّي كلّ خليّة من خلايا جسم الإنسان لتصبح إنساناً كاملاً، فإنّ ذلك الإنسان سوف يحمل جميع صفات الإنسان الذي اُخذ منه هذا الجزء، (لاحظ بدقّة).
هل أن الإنسان كان في اليوم الأوّل أكثر من خلية واحدة ؟ خلية النطفة التي كانت تحمل جميع الصفات، ثمّ راحت كلّ خلية تنشطر إلى خليتين على التوالي حتى اكتملت جميع خلايا الجسم، وعليه فإنّ كلّ خلية في جسم الإنسان هي جزء من الخلية الأُولى بحيث لو أنّها تربّت لأستحالت إلى إنسان شبيه بالأوّل يحمل صفاته من جميع الجهات.
والآن مع أخذ هذه المقدّمات الثلاث بنظر الإعتبار نباشر بالإجابة على الإعتراض المذكور.
في القرآن آيات تقول بوضوح : إنّ الذرّات الموجودة في جسم الإنسان عند الموت هي التي تعود إلى ذلك الجسد يوم القيامة(1). فإذا كان شخص آخر قد طعم من لحمه فإنّ الأجزاء التي طعمها تنفصل عنه وتعود إلى الجسم الأصلي، كلّ ما في الأمر أنّ جسم الشخص الآخر يصبح ناقصاً، ولكن ينبغي أن نقول إنّه لا ينقص، بل يصغر، لأنّ أجزاء الجسم المأكول تكون قد انتشرت في كلّ أجزاء جسم الآكل،
_____________________________
1 ـ انظر الآيات التي تشير إلى أنّ الله يبعث من في القبور.
(289)
ولذلك فإنّ جسم الآكل حين تُسترجع منه الأجزاء ينحف ويصغر بنسبة ما يؤخذ منه. فالذي يزن ستين كيلوغراماً، مثلاً، حين يؤخذ منه أربعون كيلوغراماً لتعطى للشخص الأوّل يصغر بحيث لا يزيد على وزن طفل.
وهل يسبّب هذا مشكلة ؟ كلاّ طبعاً، لأنّ هذا الجسد الصغير يكون حاوياً على جميع صفات الشخص دون زيادة ولا نقصان، وعند البعث يكون كالطفل الذي يولد صغيراً ثمّ ينمو ويكبر ويحشر بهيئة إنسان كامل. وليس في هذا النوع من النموّ عند البعث أيّ إشكال عقلي أو نقلي.
هل هذا النموّ عند البعث فوريّ أم تدريجي ؟ هذا ما لانعلمه، ولكن الذي نعلمه هو أنّه سواء أكان هذا أم ذاك، فلا يثير أيّة مشكلة، والمسألة محلولة في كلتا الحالتين.
ويبقى سؤال واحد، وهو : إذا كان كلّ جسد الشخص الآكل مكوّناً من أجزاء جسد الشخص المأكول، فما العمل ؟
الجواب بسيط، لأنّ حالة كهذه مستحيلة الوجود، فقضية الآكل والمأكول تقتضي أن يكون هناك أوّلاً جسد معيّن، ثمّ يتغذّى على جسد آخر وينمو، وعلى هذا فلا يمكن أن تكون جميع أجزاء جسم الآكل متكونة من أجزاء جسم المأكول، إذ ينبغي أن نفترض أوّلاً وجود جسم سابق حتى يمكن أن يتغذَّى على جسم آخر، وعليه فإنّ جسم الثاني سوف يكون جزء من جسم الأوّل لا كلّه، فتأمّل.
يتّضح من هذا الشرح أنّ مسألة المعاد الجسماني لجسم الإنسان نفسه ليس فيه أيّ إشكال، ولا حاجة إلى تأويل الآيات الصريحة في إثبات هذا الموضوع.
* * *
(290)
الآية
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّة اَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ ِ سُنبُلَة مِّاْئَةُ حَبَّة وَاللهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (261)
التّفسير
الإنفاق وترشيد الشخصيّة :
تعتبر مسألة الإنفاق إحدى أهمّ المسائل التي أكدّ عليها الإسلام والقرآن الكريم، والآية أعلاه هي أوّل آية في مجموعة الآيات الكريمة من سورة البقرة التي تتحدّث عن الإنفاق، ولعلّ ذكرها بعد الآيات المتعلّقة بالمعاد من جهة أنّ أحد الأسباب المهمّة للنجاة في الآخرة هو الإنفاق في سبيل الله. وذهب البعض إلى أنّ الآيات لها إرتباط بآيات الجهاد المذكورة قبل آيات المعاد والتوحيد في هذه السورة.
تقول الآية الشريفة : (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة) فيكون المجموع المتحصّل من حبّة واحدة
(291)
سبعمائة حبّة، وتضيف الآية بأنّ ثواب هؤلاء لاينحصر بذلك (والله يضاعف لمن يشاء).
وذلك بإختلاف النيّات ومقدار الأخلاص في العمل وفي كفيّته وكميّته. ولا عجب في هذا الثواب الجزيل لأنّ رحمة الله تعالى واسعة وقدرته شاملة وهو مطّلع على كلّ شيء (والله واسع عليم).
ويرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الإنفاق في الآية أعلاه هو الإنفاق للجهاد في سبيل الله فقط لأنّ هذ الآية في الواقع تأكيدٌ لما مرّ في الآيات التي تحدّثت عن قصة عزير وإبراهيم وطالوت، ولكنّ الإنصاف أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك ومجرّد إرتباطها بالآيات السابقة لا يمكن أن يكون دليلاً على تخصيص هذه الآية والآيات التالية لأنّ عبارة (في سبيل الله)لها مدلول واسع يشمل كلّ مصارف الخير، مضافاً إلى أنّ الآيات التالية أيضاً ورد فيها بحث الإنفاق بسورة مستقلّة، وقد إشير كذلك في يالروايات الإسلامية إلى عموم معنى الإنفاق في هذه الآية(1).
والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تشبّه الأشخاص الذين ينفقون في سبيل الله بالبذرة المباركة التي تزرع في أرض خصبة في حين أنّ التشبيه عادةً يجب أن يكون بين الإنفاق نفسه والبذرة أي أعمالهم لا أنفسهم، ولذلك ذهب الكثير من المفسّرين أنّ في الآية حذفٌ مثل كلمة (صدقات) قبل كلمة (الذين ينفقون) أو كلمة (زارع) قبل كلمة الحبّة وأمثال ذلك.
ولكن ليس هناك أي دليل على وجود الحذف والتقدير في هذه الآية، بل إنّ تشبيه المنفقين بحبّات كثيرة البركة تشبيه رائع وعميق وكأنّ القرآن يريد أن يقول :
_____________________________
1 ـ «الطبرسي» في مجمع البيان بعد أن يذكر المفهوم الآية معناً واسعاً يقول : وهو المروي عن أبي عبدالله (عليه السلام)
(292)
إنّ عمل كلّ إنسان إنعكاس لوجوده، وكلّما إتّسع العمل إتّسع في الواقع وجود ذلك الإنسان.
وبعبارة اُخرى : أنّ القرآن لا يفصل عمل الإنسان عن وجوده، بل يرى أنّهما مظهران مختلفان لحقيقة واحدة، ووجهان لعملة واحدة، لذلك فإنّ آية قابلة للتفسير من دون أن نفترض فيها حذفاً وتقديراً، فالآية إشارة إلى حقيقة أنّ شخصية الإنسان الصالح تنمو وتكبر معنويّاً بأعماله الصالحة، فمثل هؤلاء المنفقين كمثل البذور الكثيرة الثمر التي تمدّ جذورها واغصانها إلى جميع الجهات وتفيض ببركتها على كلّ الأرجاء.
والخلاصة أنّه في كلّ مورد للتشبيه مضافاً إلى وجود أداة التشبيه لابدّ من وجود ثلاثة اُمور اُخرى :
المشبّه، والمشبّه به، ووجه التشبيه، ففي هذا المورد المشبّه هو الإنسان المنفق، والمشبّه به هو البذور الكثيرة البركة، ووجه التشبيه هو النموّ والرشد، ونحن نعتقد أنّ الإنسان المنفق ينمو ويرشد معنويّاً وإجتماعيّاً من خلال عمله ذاك ولايحتاج إلى أيّ تقدير حينئذ.
وشبيه هذا المعنى ورد كذلك في الآية 265 من هذه السورة، وهناك بحث بين المفسّرين في التعبير بقوله (أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبّة) حيث أشارت الآية إلى أنّ حبّة واحدة تصير سبعمائة حبّة أو أكثر، وأنّ هذا التشبيه لا وجود خارجي له فهو تشبيه فرضي (لأنّ حبّة الحنطة لا تبلغ في موسم الحصاد سبعمائة حبّة أبداً) وأو أنّ المقصود هو نوعٌ خاصّ من الحبوب (كالدخن) التي تعطي هذا القدر من الناتج، ويلفت النظر أنّ الصحف كتبت أخيراً أنّ بعض مزارع القمح أنتجت في السنوات الممطرة سنابل طويلة يحمل بعضها نحواً من اربعمائة آلاف
(293)
حبّة، وهذا يدلّ على أنّ تشبيه القرآن واقعي وحقيقي.
جملة (يضاعف) من مادّة (ضعف) ويعني مقدار المرتين أو المرّات وبالنظر إلى ما ذكرنا آنفاً من وجود حبوب تعطي عدّة آلاف من المحصول نعرف بأنّ هذا التشبيه هو تشبيه واقعيّ أيضاً.
* * *
بحث
الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقيّة :
من المشكلات الإجتماعية الكبرى التي يعاني منها الإنسان دوماً ولازال يعاني رغم كلّ ما حقّقه البشر من تقدّم صناعي ومادّي هي مشكلة التباين الطبقي المتمثّلة بالفقر المدقع في جانب، وتراكم الثروة في جانب آخر.
إنّك لترى بعضهم يكتنز من الثروة بحيث إنّه لا يستطيع أن يحصيها، وترى بعضهم من الفقر في عذاب ممض بحيث لا يستطيع أن يجد حتّى الضروريّ اللازم لحياته كالحدّ الأدنى من الغذاء والملبس والمأوى.
لاشكّ أنّ المجتمع الذي يقوم قسم من بنيانه على الغنى الفاحش، والقسم الأعظم على الفقر المدقع والجوع القاتل، لا دوام له، ولن يصل إلى السعادة الحقيقة أبداً، إنّ مجتمعاً كهذا يسوده حتماً الهلع والإضطراب والقلق والخوف وسوء الظن، ومن ثمّ العداء والصراع.
هذا التباين الطبقي الذي كان موجوداً في القديم قد تفشّى فينا اليوم ـ مع الأسف ـ بأكثر وأخطر ممّا سبق، ذلك لأنك تجد أبواب التعاون الإنساني الحقيقي قد أُغلقت بوجوه الناس، وفُتحت بمكانها أبواب الربا الفاحش الذي هو من أهمّ أسباب اتساع الهوة الطبقية بين الناس، ولا أدلّ على ذلك من ظهور الشيوعية
(294)
وأمثالها، وإراقة الدماء في أنواع الحروب المروعة التي اندلعت في قرننا الأخير وما زالت مندلعة هنا وهناك في أنحاء مختلفة من العالم، ومعظمها ذات منشأ اقتصادي وردّ فعل لحرمان أكثرية شعوب العالم.
وقد سعى العلماء والمذاهب الإقتصادية في العالم للبحث عن علاج، واختار كلّ طريقاً، فالشيوعية اختارت إلغاء الملكية الفردية، والرأسمالية اختارت طريق استيفاء الضرائب الثقيلة وإنشاء المؤسّسات الخيرية العامّة (وهي شكلية أكثر من كونها حلاًّ لمشكلة الطبقية)،ظانّين أنّهم بذلك يكافحون هذه المشكلة، لكن أيّاً من هؤلاء لم يستطع في الحقيقة أن يخطو خطوة فعّالة في هذا السبيل، وذلك لأنّ حلّ هذه المشكلة غير ممكن ضمن الروح المادّية التي تسيطر على العالم.
بالتدقيق في آيات القرآن الكريم يتّضح أنّ واحداً من الأهداف التي يسعى لها الإسلام هو إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم الإجتماعي بين الطبقتين الغنية والفقيرة، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم الحياتية ولا توفير حدّ أدنى من متطلّباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين. وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجاً واسعاً يتمثّل بتحريم الربا مطلقاً، وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة والخُمس، والحثّ على الإنفاق، وقرض الحسنة، والمساعدات المالية المختلفة، وأهمّ من هذا كلّه هو إحياء روح الأخوّة الإنسانية في الناس.
* * *
(295)
الآية
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّاً وَلاَ أَذَىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
التّفسير
الإنفاق المقبول :
الآية السابقة بيّنت أهميّة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام، ولكن في هذه الآية بيّنت بعض شرائط هذا الإنفاق (ويستفاد ضمناً من عبارات هذه الآية أنّ الإنفاق هنا لايختصّ بالإنفاق في الجهاد).
تقول الآية (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا ... ولا هم يحزنون)(1).
_____________________________
1 ـ «مَنَّ» بمعنى حجر الميزان المعروف ثمّ اُطلقت على النعم المهمّة التي يلاحظ فيها الجانب العملي «ومنن الله تعالى من هذا القبيل» وإن كان الملحوظ فيها الجانب اللفظي كانت قبيحة جدّاً وفي الآية أعلاه وردت بهذا المعنى الثاني.
(296)
يستفاد بوضوح من هذه الآية أنّ الإنفاق في سبيل الله لا يكون مقبولاً عند الله تعالى إذا تبعته المنّة وما يوجب الأذى والألم للمعوزين والمحتاجين، وعليه فإنّ من ينفق ماله في سبيل الله ولكنّه يمنّ به على من ينفق عليه، أو ينفقه بشكل يوجب الأذى للآخرين فإنّه في الحقيقة يحبط ثوابه وأجره بعمله هذا.
إنّ ما يثير الإهتمام أكثر في هذه الآية هو أنّ القرآن لايعتبر رأسمال الإنسان في الحياة مقتصراً على رأس المال المادّي، بل يحسب حساب رؤوس الأموال المعنوية والإجتماعية أيضاً.
إنّ من يعطي شيئاً لأحد ويمنّ عليه بهِ أو يقوم بما يثير الألم في نفس المعطي له ويجرح عواطفه فإنّه لا يكون قد أعطاه شيئاً في الواقع، لأنّه إذا كان قد أعطاه رأسمال، فإنّه قد أخذ منه رأسمال أيضاً، بل لعلّ المنّة التي يمنّ بها عليه ونظرة التحقير التي ينظر بها إليه ذات أضرار باهضة يفوق ثمنها ما أنفقه من مال.
إذا لم ينل أمثال هؤلاء الأشخاص أيّ ثواب على إنفاقهم هذا فهو أمر طبيعي وعادل. وقديصحّ القول إنّ هؤلاء في كثير من الأحوال هم المدينون لا الدائنون لأنّ كرامة الإنسان أغلى بكثير من أيّ مال وثروة.
ولاحظ في الآية إنّ كلمتي المنّ والأذى مسبوقتان بـ (ثمّ) التي تفيد التراخي، أي وجود فتره زمنية بين فعلين. فيكون معنى الآية : إنّ الذين ينفقون، وبعد ذلك لا يمنّون على أحد ولا يؤذون أحداً يكون ثوابهم محفوظاً عند الله. ويعني هذا ضروره الإبتعاد عن المنّ والأذى لا في حالة الإنفاق فحسب، بل عليه أن لا يمنّ عليه في أوقات تالية عن طريق تذكير المنفق عليه بالإنفاق، وهذا دليل على الدقّة المتناهية التي يبتغيها الإسلام من الخدمات الإسلامية الخالصة.
لابدّ من القول إنّ المنّ والأذى اللذين يحبطان قبول الإنفاق لايختصّان بالإنفاق على الفقراء فقط، بل تجنّبهما لازم في جميع الأعمال العامّة والإجتماعية
(297)
كالجهاد في سبيل الله والأعمال ذات المنفعة العامّة التي تتطلّب بذل المال.
(لهم أجرهم عند ربّهم).
تطمئن هذه الآية المنفقين أنّ أجرهم محفوظ عندالله لكي يواصلوا هذا الطريق بثقة ويقين. فما كان عند الله باق ولا ينقص منه شيء، بل أنّ عبارة (ربّهم) قد تشير إلى أن الله تعالى سيزيد في أجرهم وثوابهم.
(ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
سبق أن قلنا إنّ الخوف يكون من المستقبل، والحزن على ما مضى. وعليه فإنّ المنفقين بعلمهم أنّ جزاءهم محفوظ عند الله لن ينتابهم الخوف من يوم البعث الآتي، ولا هم يحسّون بالحزن على ما أنفقوه في سبيل الله.
وذهب البعض إلى أنّه لا خوف من الفقر والحقد والبخل والغبن وأمثال ذلك ولا حزن على ماأنفقوا في سبيل الله.
وفي الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثمّ آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته»(1) فالشخص الذي ينفق في سبيل الله ولم يرتكب مثل هذه الأعمال بعد ذلك لايخشى بطلان إنفاقه، والمفاهيم الإسلامية تؤكّد دقّة الشريعة المقدّسة في هذا المجال بحيث أنّ بعض العلماء الأقدمون قالوا : (أنّك إذا تصدّقت على شخص وتعلم أنّك إذا سلّمت عليه سيصعب عليه ذلك فيتذكر صدقتك عليه فلا تسلّم عليه)(2).
* * *
_____________________________
1 ـ تفسير البرهان : ج 1 ص 253 ح 1.
2 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي : ج 2 ص 364.
(298)
الآية
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صَدَقَة يَتْبَعُهَآ أَذَى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ(263)
التّفسير
الكلمة الطيبة أفضل من الصدقة مع المنّة :
هذه الآية تكمّل ما بحثته الآية السابقة في مجال ترك المنّة والأذى عند الإنفاق والتصدّق فتقول : إنّ الكلمة الطيّبة للسائلين والمحتاجين والصفح عن أذاهم أفضل من الصدقة التي يتبعها الأذى (قولٌ معروفٌ ومغفرة خيرٌ من صدقة يتبعها أذىً).
ويجب أن يكون معلوماً أنّ ما تنفقوه في سبيل الله فهو في الواقع ذخيرةٌ لكم لإنقاذكم ونجاتكم لأنّ الله تعالى غير محتاج إليكم وإلى أموالكم وحليم في مقابل جهالاتكم (والله غنيّ حليم).
* * *
بحوث
1 ـ تبيّن هذه الآية منطق الإسلام في قيمة الأشخاص الإجتماعيّة وكرامتهم،
(299)
وترى أن أعمال الذين يسعون في حفظ رؤوس الأموال الإنسانية، ويعاملون المحتاجين باللطف ويقدّمون لهم التوجيه اللازم، ولا يفشون أسرارهم، أفضل وأرفع من إنفاق أُولئك الأنانيّين ذوي النظرة الضيّقة الذين إذا قدّموا عوناً صغيراً يتبعونه تجريح الناس المحترمين وتحطيم شخصيّاتهم. في الحقيقة إنّ أمثال هؤلاء الأشخاص ضررهم أكثر من نفعهم، فهم إذا أعطوا ثروة عرضوا ثروات للإبادة والضياع.
يتّضح ممّا قلناه إنّ لتعبير (قول معروف) مفهوماً واسعاً يشمل كلّ أنواع القول الطيّب والتسلية والتعزية والإرشاد.
وذهب بعضهم إلى أن المراد هو الأمر بالمعروف(1) ولكن هذا المعنى لايتناسب مع الآية ظاهراً.
«المغفرة» بمعنى العفو بإزاء خشونة المحتاجين، أُولئك الذين طفح كيل صبرهم بسبب تراكم الإبتلاءات عليهم، فتزلّ ألسنتهم أحياناً بالخشن من القول ممّا لا يودُونه قلبياً. هؤلاء بعنفهم هذا إنّما يريدون أن ينتقموا من المجتمع الذي ظلمهم وغمط حقوقهم، فأقلّ ما يمكن للاشخاص الأثرياء في مقابل حرمان هؤلاء المحرومين هو أن يتحمّلوا منهم اندفاعاتهم اللفظية التي هي شرر النار التي تستعر في قلوبهم فتنطلق على ألسنتهم.
لاشكّ أنّ تحمّل عنفهم وخشونتهم والعفو عنها يخفّف عنهم ضغط عُقدِهم النفسية، وبهذا تتّضح أكثر أهميّة هذه الأوامر الإلهيّة.
يرى بعض أنّ «المغفرة» يقصد بها هنا المعنى الأصلي، وهو الستر والإخفاء. أي ستر أسرار المحتاجين الذين لهم كرامتهم مثل غيرهم. غير أنّ هذا التفسير لا يتعارض مع ما قلناه، لأنّنا إذا فسّرنا المغفرة بمعناها الأوسع فهي تشمل العفو كما تشمل الستر والإخفاء أيضاً.
جاء في تفسير «مجمع البيان» عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «إذا سأل السائل
_____________________________
1 ـ ذكره في تفسير «البحر المحيط» : ج 2 ص 307 بعنوان : قيل.
(300)
فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها، ثمّ ردّوا عليه بوقار ولين إمّا ببذل يسير أو ردّ جميل، فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرونكم كيف صنيعكم فيما خوّلكم الله تعالى»(1).
في هذا الحديث يبيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جانباً من آداب الإنفاق.
2 ـ إن العبارات القصيرة التي تأتي في ختام الآيات عادةً وتورد بعض صفات الله تعالى ترتبط حتماً بمضمون الآية نفسها. وعلى هذا فمن الممكن أن يكون المقصود من (والله غنيّ حليم) هو : أنّ الإنسان ظالم بالطبع، ولذلك فإنّه إذا نال منصباً وحصل ثروةً حسِب نفسه غنياً ولم يعد بحاجة إلى الآخرين، وقد تحدو به هذه الحالة إلى استعمال الخشونة والتهجّم ضدّ المحرومين والمحتاجين. لذلك يقول القرآن إنّ الغنيّ بذاته هو الله، فالله هو وحده الغنيّ الذي لايحتاج شيئاً، أمّا إحساس البشر بإنّه غنيّ فسراب خادع لا ينبغي أن يؤدي إلى الطغيان والتعالي على الفقراء. ثمّ إنّ الله حليم بالنسبة للذين لا يشكرون، فعلى المؤمنين أن يكونوا كذلك أيضاً.
وقد تكون الآية إشارة إلى أنّ الله غنيّ عن إنفاقكم. وأنّ ما تنفقونه إنّما هو لخيركم أنفسكم، فلا تمنّوا على أحد. ثمّ إنّ الله حليم باتجاه خشونتكم ولا يتعجّل معاقبتكم لعلّكم تستيقظون وتصلحون أنفسكم.
* * *
_____________________________
1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 375، نورالثقلين : ج 1 ص 283.
(301)
|