00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 244 ـ 255 ( من ص 211 ـ 258 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآيتان

وَقَـاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنَّ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَـاعِفَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)

سبب النّزول

قيل في سبب نزول الآية الثانية أنّ رسول الله قال : من تصدّق بصدقة فله مثلاها في الجنّة. سوف ينال ضعفه في الجنّة فقال (أبو الدحداح الأنصاري) : يا رسول الله إنّ لي حديقتين إن تصدقت بأحدهما فإن لي مثليها في الجنّة، قال : نعم. قال : واُم الدحداح معي، قال : نعم. قال : والصبية معي. قال : نعم. فتصدّق بأفضل حديقتيه فدفعها إلى رسول الله. فنزلت الآية فضاعف الله له صدقته الفي الف وذلك قوله أضعاف كثيرة.

فرجع أبو الدحداح فوجد أُم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة وتحرج أن يدخلها فنادى يا اُمّ الدحداح، قالت : لبيك يا أبا الدحداح، قال : إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة واشتريت مثليها في

(211)

الجنّة واُم الدحداح معي والصبية معي. قالت : بارك الله لك فيما اشتريت وفيما اشتريت، فخرجوا منها واسلموا الحديقة إلى النبي فقال النبي : كم نخلة متدلّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنة(1).

التّفسير

الجهاد بالنّفس والمال :

هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد وتعقّب بذكر قصّة في هذا الصدّد عن الأقوام السّالفة، مع الإلتفات إلى الأحداث التي مرّت على جماعة من بني إسرائيل الّذين تهرّبوا من الجهاد بحجّة الإصابة بمرض الطّاعون وأخيراً ماتوا بهذا المرض، يتّضح الإرتباط بين هذه الآيات والآيات السّابقة.

في البداية تقول الآية (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أنّ الله سميع عليم)يسمع أحاديثكم ويعلم نياتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية : (من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة) أي ينفق من الأموال التي رزقه الله تعالى إيّاه في طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين.

فعلى هذا يكون إقراض الله تعالى بمعنى (الإنفاق في سبيل الله)، وكما ذكر بعض المفسّرين أنّها تعني المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد، لأنّ تأمين احتياجات الجهاد في ذلك الوقت كان في عهدة المسلمين المجاهدين، في حين أنّ البعض يرى بأنّ الآية تشمل كلّ أنواع الإنفاق(2).

ولكنّ التفسير الثاني أقرب وأكثر إنسجاماً مع ظاهر الآية، وخاصّة أنّه شاملٌ للمعنى الأوّل أيضاً، وأساساً فإنّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمساكين

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 349.

2 ـ راجع تفسير الكبير : ج 6 ص 166.

(212)

وحماية المحرومين يُعطي ثمرة الجهاد أيضاً، لأنّ كلاًّ منها يبعث على استقلال المجتمع الإسلامي وعزّته.

(أضعاف) جمع (ضعف) على وزن «عِلم». والضّعف هو أنّ تضيف إلى المقدار مثله أو أمثاله، وقد ورد هنا الجمع مؤكّداً بالكثرة (كثيرة) كما أنّ كلمة (يضاعف) فيها تأكيد على هذا المعنى أكثر من كلمة (يُضعّف)(1)، وكلّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يعطي كلّ من ينفق في سبيله الكثير الكثير كالبذرة التي تُبذر في أرض صالحة وتُسقى فينّميها ويعيدها إلى صاحبها أضعافاً كثيرة كما سيأتي في الآية (261).

وفي ختام الآية يقول : (والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون)

وتشير الآية إلى أنّه لا تتصوروا إن الإنفاق والبذل سوف يؤدي إلى قلّة أموالكم، لأنّ سعة وضيق ارزاقكم بيد الله فهو القادر على أن يعوض ما انفقتموه أضعافاً مضاعفا، بملاحظة الإرتباط الوثيق لأفراد المجتمع، فإن نفس تلك الأموال التي انفقتموها سوف تعود إليكم في الواقع.

هذا من البعد الدنيوي، وأمّا البعد الآخروي للإنفاق فلا تنسوا أن جميع المخلوقات سوف تعود إلى الله عزّوجلّ وسوف يثيبكم حينذاك ويجزل لكم العطاء.

* * *

بحث

لماذا ورد التعبير بالقرض ؟

لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدّة آيات قرآنية، وهذا من جهة يحكي عظيم لطف الله بالنسبة لعباده، وأهمية مسائلة الإنفاق من جهة اُخرى،

_____________________________

1 ـ قال الراغب في المفردات، في مادة «ضعف» : قال البعض : ضاعفت أبلغ من ضعّفته.

(213)

فالبرغم من أن المالك الحقيقي لجميع عالم الوجود هو الله تعالى وأن الناس يمثلون وكلاء عن الله في التصرف في جزء صغير من هذا العالم كما ورد في الآية (7) من سورة الحديد (آمنوا بالله ورسوله وانفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه).

ولكن مع ذلك يعود سبحانه إلى العبد ليستقرض منه وأيضاً استقراض بربح وفير جدّاً (فانظر إلى كرم الله ولطفه).

يقول الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة : «واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض وهو الغني الحميد وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملاً»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة القسم الأخير من الخطبة 183.

(214)

الآيات

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلا َِ مِن بَنِي إِسْرَاءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَـاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَـاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَـاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـارِنَا وَأَبْنَآئنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمُ بِالظَّـالِمِينَ (246)  وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَـارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائكَةُ إنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتَ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بَنَهَر فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّيِ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ

(215)

فَإِنَّهُ مِنّيِ إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَ بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامُنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَطَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُّنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُواْ اللهِ كَم مِّن فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ (249)وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ(250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَءاتَـاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْ لاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْض لَفَسَدَتِ الاَْرْضُ وَلَـكِنَّ اللهَ ذُو فَضْل عَلَى الْعَـالَمِينَ(251) تِلْكَ ءَايَـاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

حادثة ذات عبرة :

من الضروري وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الشريفة التعرض لجانب من تاريخ بني إسرائيل المنظور في هذه الآيات.

اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى (عليه السلام) الحكيمة حتى بلغوا القوّة والعظمة.

لقد أنعم الله على اليهود ببركة نبيّهم الكثير من النِعم بما فيها «صندوق العهد»(1) الذي حمله اليهود أمام الجند فأضفى عليهم الطمأنينة والمعنوية العالية، وظلّت هذه الروحية فيهم بعد رحيل موسى (عليه السلام) مدّة من الزمن، إلاَّ أنّ تلك النِعم

_____________________________

1 ـ سوف نتطرّق قريباً إلى تاريخ هذا الصندوق ومحتوياته.

(216)

والإنتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئاً فشيئاً، وأخذوا بمخالفة القوانين، وأخيراً اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوّتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد، فكان أن تشتّتوا وضعفوا ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم حتّى أمام أتفه أعدائهم، بحيث إنّ هؤلاء الأعداء طردوا الكثيرين منهم من أرضهم وأسروا أبناءهم.

استمرّت حالهم على هذا سنوات طوالاً، إلى أن أرسل إليهم الله نبيّاً اسمه «اشموئيل» لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمّع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائداً وأميراً لكي يتوحّدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدوّ متّحدين يداً ورأياً، لإستعادة عزّتهم الضائعة.

اشموئيل الذي كان يعرف ضعفهم وتهاونهم وهبوط معنويّاتهم قال لهم : أخشى إن اخترت لكم قائداً أن تخذلوه عندما يدعوكم إلى الجهاد ومحاربة العدو.

فقالوا : كيف يمكن أن نعصي أوامر أميرنا ونرفض القيام بواجبنا، مع أنّ العدوّ قد شرّدنا من أوطاننا واستولى على أرضنا وأسر أبناءنا ! !

فرأى اشموئيل أنّ هؤلاء القوم قد شخّصوا داءهم وها هُم قد اتجهوا للمعالجة، ولعلّهم أدركوا سبب تخلّفهم، فتوجّه إلى الله يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى إليه : أن اخترنا «طالوت» ملكاً عليهم.

فقال اشموئيل : ربّ إِني لا أعرف طالوت ولم أره حتّى الآن. فجاءه الوحي : سنرسله إليك فاعطه قيادة الجيش ولواء الجهاد.

من هو طالوت ؟

كان طالوت رجلاً طويل القامة، ضخماً، حسن التركيب، متين الأعصاب قويّها، ذكيّاً، عالماً، مدبّراً.

(217)

ويقول بعض : إنّ اختيار اسم «طالوت» له كان لطوله، ولكنّه مع كلّ ذلك لم يكن معروفاً، حيث كان يعيش مع أبيه في قرية على أحد الأنهر، ويرعى ماشية أبيه ويشتغل بالزراعة.

أضاع يوماً بعض ماشيته في الصحراء، فراح يبحث عنها مع صاحب له بضعة أيّام حتّى اقتربا من مدينة صوف.

قال له صاحبه : لقد اقتربنا من صوف مدينة النبيّ اشموئيل، فتعال نزوره لعلّه يدلّنا بما له من اتصال بالوحي وحصانة في الرأي على ضالّتنا. والتقيا باشموئيل عند دخولهما المدينة.

ما أن تبادل اشموئيل وطالوت النظرات حتّى تعارف قلباهما، وعرف اشموئيل طالوت وأدرك أنّ هذا الشاب هو الذي أرسله الله ليقود الجماعة. وعندما انتهى طالوت من قصّته عن ضياع ماشيته، قال له اشموئيل : أمّا ماشيتك الضائعة فهي الآن على طريق القرية تتّجه إلى بستان أبيك فلا تقلق بشأنها. ولكني أدعوك لأمر أكبر من ذلك، إنّ الله قد أختارك لنجاة بني إسرائيل.

فأصاب العجب طالوت من هذا الأمر في البداية، ولكنّه قَبل المهمّة مسروراً فقال اشموئيل لقومه : لقد اختار الله طالوت لقيادتكم، فعليكم جميعاً أن تطيعوه، وأن تتهيّأوا للجهاد ومحاربة الأعداء.

كان بنو إسرائيل يعتقدون أنّ قائدهم يجب أن تتوفّر فيه بعض المميّزات من حيث نسبه وثروته، ممّا لم يجدوا منها شيئاً في طالوت، فانتابتهم حيرة شديدة لهذا الإختيار، فطالوت لم يكن من أَسرة لاوي التي ظهر منها الأنبياء، ولا كان من أسرتي يوسف أو يهودا اللتين سبق لهما الحكم، بل كان من أُسرة بنيامين المغمورة الفقيرة، فاعترضوا قائلين : كيف يمكن لطالوت أن يحكمنا، ونحن أحقّ منه بالحكم !

فقال اشموئيل ـ الذي رآهم على خطأ كبير ـ : إنّ الله هو الذي اختاره أميراً

(218)

عليكم، والقيادة تحتاج إلى كفاءة جسمية وروحية وهي متوفّرة في طالوت، وهو يفوقكم فيها. إِلاَّ أنّهم لم يقبلوا بهذا القول، وطلبوا دليلاً على أنّ هذا الإختيار إنّما كان من الله سبحانه.

فقال اشموئيل : الدليل هو أنّ التابوت ـ صندوق العهد ـ الذي هو أثرٌ مهمٌّ من آثار أنبياء بني إسرائيل، وكان مدعاةً لثقتكم واطمئنانكم في الحروب، سيعود إليكم يحمله جمع من الملائكة. ولم يمض وقت طويل حتّى ظهر الصندوق، وعلى أثر رؤيته وافق بنو إسرائيل على قيادة طالوت لهم.

طالوت في الحكم

تسلّم طالوت قيادة الجيش، وخلال فتره قصيرة أثبت لياقته وجدارته للإضطلاع بمهامّ إدارة المُلك وقيادة الجيش، ثمّ طلب من بني إسرائيل أن يعدّوا العدّة لمحاربة عدوّ كان يهدّدهم من كلّ جانب. قال لهم مؤكّداً إنّه لا يريد أن يسير معه للقتال إلاَّ الّذين ينحصر كلّ تفكيرهم في الجهاد، أمّا الذين لهم عمارة لم تتم، أو معاملة لم تكمل، وأمثالهم، فليس لهم الإشتراك في الجهاد. وسرعان ما اجتمع حوله جمع تظهر عليه الكثرة والقوّة، وتحرّكوا صوب العدو.

وفي المسيرة الطويلة وتحت أشعة الشمس المحرقة أصابهم العطش. فأراد طالوت ـ بأمر من الله ـ أن يختبرهم ويصفيهم، فقال لهم : سوف نصل قريباً إلى نهر في مسيرتنا، وأنّ الله يريد أن يمتحنكم به، فمن شرب منكم منه وارتوى فليس منّي، ومن لا يشرب إلاَّ قليلاً منه فهو منّي. ولكنّهم ما أن وقعت أنظارهم على النهر حتّى فرحوا وهرعوا إليه وشربوا منه حتّى ارتووا، إلاَّ نفرٌ قليلٌ منهم ظلّوا على العهد.

أدرك طالوت أنّ أكثرية جيشه يتألّف من أُناس ضعفاء الإرادة وعديمي
العهد، ما خلا بعض الأفراد المؤمنين، لذلك فقد تخلّى عن تلك الأكثرية واتّجه مع

(219)

النفر المؤمن القليل خارجاً من المدينة إلى ميادين الجهاد.

إلاَّ أنّ هذا الجيش الصغير انتابه القلق من قلّته، فقالوا لطالوت : إننا لا طاقة لنا بمقابلة جيش قويّ كثير العدد. غير أنّ الذين كان لهم إيمان راسخ بيوم القيامة، وكانت محبّة الله قد ملأت قلوبهم، لم يرهبوا كثرة العدوّ وقلّة عددهم، فخاطبوا طالوت بكلّ شجاعة قائلين : قرّر ما تراه صالحاً، فنحن معك حيثما ذهبت، ولسوف نجالدهم بهذا العدد القليل بحول الله وقوّته، ولطالما انتصر جيش صغير بعون الله على جيش كبير، والله مع الصابرين.

فاستعدّ طالوت بجماعته القليلة المؤمنة للحرب، ودعوا الله أن يمنحهم الصبر والثبات، وعند التقاء الجيشين خرج جالوت من بين صفوف عسكره وطلب المبارزة بصوت قوي أثار الرعب في القلوب، فلم يجرأ أحد على منازلته. في تلك اللحظة خرج شابٌ اسمه داود من بين جنود طالوت، ولعلّه لصغر سنّه، لم يكن قد خاض حرباً من قبل، بل كان قد جاء إلى ميدان المعركة بأمر من أبيه ليكون بصحبة اخوته في صفوف جيش طالوت. ولكنّه كان سريع الحركة خفيفها، وبالمقلاع الذي كان بيده رمى جالوت بحجرين ـ بمهارة شديدة ـ فأصابا جبهته ورأسه، فسقط على الأرض ميّتاً وسط تعجّب جيشه ودهشتهم. وعلى أثر ذلك استولى الرعب والهلع على جيش جالوت، ولم يلبثوا حتّى ركنوا إلى الفرار من أمام جنود طالوت وانتصر بنو إسرائيل(1).

التّفسير

نعود إلى تفسير الآيات محلّ البحث في أوّل آية يخاطب الله تعالى نبيّه الكريم ويقول : (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث

_____________________________

1 ـ عن مجمع البيان والدرّ المنثور وقصص القرآن باختصار.

(220)

لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله).

(الملأ) هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالاً ولذلك يقال لأشراف كلّ قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين.

هذه الآية ـ كما قلنا ـ تشير إلى جماعة كبيرة من بني إسرائيل طلبوا بصوت واحد من نبيّهم أن يختار لهم أميراً وقائداً ليحاربوا بقيادته (جالوت) الّذي كان يُهدّد مجتمعهم ودينهم واقتصادهم بالخطر.

وعلى الرّغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويُعيدوا ما اُخذ منهم، فقد وُصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل الله، وبهذا يتبيّن أنّ ما يُساعد على تحرّر النّاس وخلاصهم من الأسر ورفع الظّلم والعدوان يُعتبر في سبيل الله.

وقد ذكر البعض أنّ اسم ذلك النبي هو (شمعون) وذكر آخرون بأنّه (إشموئيل) وبعضٌ (يوشع) ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّه (إشموئيل) إى إسماعيل بلغة العرب، وبهذا وردت رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً(1).

ولمّا كان نبيّهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم : يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا).

ولكنّهم قالوا : كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق بيننا وبين أبنائنا (قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل في سبيل الله وقد اُخرجنا من ديارنا وأبناءنا) وبذلك أعلنوا وفاءهم وتمسّكهم بالعهد.

ومع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم الله ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبناءهم من نقض العهد،

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و 2 ص 350.

(221)

ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك : (فلمّا كُتب عليهم القتال تولّوا إلاَّ قليلاً منهم والله عليم بالظالمين).

وذكر بعض المفسّرين أنّ عدّة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر(1).

وعلى كلّ حال فإنّ نبيّهم أجابهم على طلبهم إلتزاماً منه بواجبه وجعل عليهم طالوت ملكاً بأمر من الله تعالى (وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً).

ويتّضح من هذه الآية أنّ الله هو الذي اختار طالوت ليكون ملكاً على بني إسرائيل وقائداً لعسكرهم، ولعلّ استعمال كلمة (قد بعث) يشير إلى ما ذكرنا في القصّة من الحوادث غير المتوقّعة الذي جاءت بطالوت إلى مدينة ذلك النبي والحضور في مجلسه، فكذلك يظهر من كلمة (ملكاً) أنّ طالوت لم يكن قائداً للجيش فحسب، بل كان ملكاً على ذلك المجتمع(2).

ومن هنا بدأت المخالفات والإعتراضات وقال بعضهم : (قالوا أنّا يكون له الملك علينا ونحن أحقُّ بالملك منه ولم يُؤتَ سعةً من المال).

وهذا هو أوّل اعترضاً ونقض في العهد من قِبل بني إسرائيل لنبيّهم مع أنّه قد صرّح لهم أنّ الله هو اختار طالوت، وفي الواقع أنّهم اعترضوا على الله تعالى بقولهم : (إنّنا أجدر من طالوت بالحكم لأنّ الحكم لابدّ فيه من شرطين لا يتوفّران في طالوت وهما : الحسب والنسب من جهة، والمال والثروة من جهة اُخرى، وقد ذكرنا في القصّة أنّ طالوت كان من قبيلة مغمورة من قبائل بني إسرائيل، ومن حيث الثروة لم يكن سوى مُزارع فقير.

_____________________________

1 ـ روح المعاني وتفسير الكبير في ذيل الآية المبحوثة.

2 ـ اعتبر صاحب «الكشّاف» طالوت اسماً أعجمياً مثل : جالوت وداود، وقال الآخرون : إنّه اسم عربي مأخوذ من مادة «طول» وإشارة إلى طول قامة. (تفسير الكبير : ج 6 ص 172).

(222)

غير أنّ القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الإعتراض إذ يقول : (إنّ الله اصطفاه وزاده بسطة في العلم والجسم).

فأفهمهم بذلك أنّ اختيار الله طالوت ملكاً وقائداً لما يتمتّع به من علم وحكمة وعقل، ومن الناحية البدنيّة فهو قوي ومقتدر.

وهذا يعني أوّلاً : أنّ هذا الإختيار هو إختيار الله تعالى.

وثانياً : إنّكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة، لأنّ النسب الرّفيع والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقاً، لأنّهما من الإمتيازات الإعتبارية الخارجيّة، أمّا العلم والمعرفة وكذلك القوّة الجسميّة فهما امتيازان واقعيّان ذاتيان حيث يلعبان دوراً مهمّاً في شخصيّة القائد.

إنّ قائد العالم يعرف طريق سعادة المجتمع ويرسم الخطط للوصول إليه بعلمه وحنكته، وكذلك يرسم الاُسلوب الصحيح في مواجهة الأعداء، ثمّ يقوم بقوّته الجسمانيّة بتمثيل هذا المخطَّط على أرض الواقع.

كلمة (بسطة) إشارة إلى اتساع وجود الإنسان في أنوار العلم والقوّة، أي أنّ الإنسان بالعلم والحكمة والقوّة الجسميّة الكافية يزداد سعةً في وجوده، وهنا نلحظ أنّ البسطة في العلم تقدّمت على القوّة الجسميّة، لأنّ الشرط الأوّل هو العلم والمعرفة.

ويُستفاد ضمناً من هذا التعبير أنّ مقام الإمامة والقيادة من الأحكام الإلهيّة وأنّ الله تعالى هو الذي يشخّص اللاّئق لها، فلو رأى اللّياقة الكافية في أولاد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لجعل الإمامة عندهم، ولو توفّرت عند أشخاص آخرين لجعلها فيهم، وهذا هو ما يعتقد به علماء الشيعة ويدافعون عنه.

ثمّ تضيف الآية (والله يُؤتي ملكه من يشاء والله واسعٌ عليم).

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد، وهو توفير الله

(223)

تعالى الإمكانيّات وآليات القيادة ووسائل الحكم، لأنّه من الممكن أن يكون قائداً كاملاً من حيث العلم والقوّة ولكنّه محاط بظروف لا تمنحه أيّ استعداد للوصل إلى أهدافه المقدّسة، ولاشكّ أنّ قائداً مع هذه الظّروف لا يمكن أن ينتصر وينجح في قيادته، ولذلك يقول القرآن هنا أنّ الله تعالى يمنح الحكومة الإلهيّة لمن يشاء، أي أنّه يهيّأ الظروف اللأزمة لنجاحه.

الآية التالية تبيّن أنّ بنى إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كلّ الإطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من الله تعالى لقيادتهم على الرّغم من أن نبيّهم صرّح ذلك لهم، ولهذا طلبوا منه الدّليل، فكان جوابه أنّ الدليل سيكون مجيء التابوت أو صندوق العهد إليهم (وقال لهم نبيّهم إنّ آية ملكه أن يأتيكم التّابوت).

فما هو تابوت بني إسرائيل أو صندوق العهد ؟ ومن الذي صنعه ؟ وما هي محتوياته ؟ فإنّ في تفاسيرنا وأحاديثنا، وكذلك في العهد القديم ـ التوراة ـ كلاماً كثيراً عنه. إلاَّ أنّ أوضحها هو ما جاءنا في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وأقوال بعض المفسّرين من أمثال ابن عبّاس، حيث قالوا إنّ التابوت هو الصندوق الذي وضعت فيه أُمّ موسى ابنها موسى وألقته في اليمّ، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه، ظلّ الصندوق في بيت فرعون ثمّ وقع بأيدي بني إسرائيل، فكانوا يحترمونه ويتبرّكون به.

موسى (عليه السلام) وضع فيه الألواح المقدّسة ـ التي تحمل على ظهرها أحكام الله ـ ودرعه وأشياء أُخرى تخصّه وأودع كلّ ذلك في أواخر عمره لدى وصيّه يوشع ابن نون.

وبهذا ازدادت أهميّة هذا الصندوق عند بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم كلّما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء، ليصعّد معنوياتهم، لذلك قيل : إنّ بني إسرائيل كانوا أعزّة كرماء ما دام ذلك الصندوق بمحتوياته المقدّسة بينهم، ولكن

(224)

بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق. واشموئيل ـ كما تذكر الآية ـ وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلاً على صدق قوله.

(فيه سكينةٌ مِن ربّكم وبقيةٌ ممّا ترك آلُ موسى وآلُ هارون).

هذه الفقرة من الآية تبيّن أنّ الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة (فيه سكينة من ربّكم).

ثمّ إنّ محتويات الصندوق كانت تضمّ آثاراً ممّا خلف آل موسى وآل هارون أُضيفت إلى ما كان فيه من قبل، وممّا يجدر ذكره هو أنّ «السكينة» بمعنى الهدوء، ويقصد بها هنا هدوء النفس والقلب.

قال لهم اشموئيل : إنّ الصندوق سوف يعود إليكم لتستعيدوا الهدوء الذي فقدتموه. وفي الحقيقة أنّ هذا الصندوق بطابعه المعنويّ والتاريخيّ كان أكثر من مجرّد لواء لبني إسرائيل وشعار لهم. كان يمثّل رمز استقلالهم ووجودهم وبرؤيته كانوا يسترجعون ذكرى عظمتهم السابقة. لذلك كان الوعد بعودته بشارة عظيمة لهم.

(تحمله الملائكة).

كيف جاء الملائكة بصندوق العهد ؟ في هذا أيضاً للمفسّرين كلام كثير أوضحها قولهم : جاء في التاريخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بيد عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة، فقال بعضهم : ما هذه المصائب إلاَّ بسبب هذا الصندوق، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمّة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء. واتّفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه
نصب طالوت مَلكاً على بني إسرائيل. وأمر الله الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو

(221)

مدينة اشموئيل. وعندما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم، اعتبروه إشارة من الله على اختيار طالوت مَلكاً عليهم.

وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل.

في الحقيقة أنّ للملائكة معنىً واسعاً في القرآن والروايات، يشمل فضلاً عن الكائنات الروحية العاقلة، مجموعة من القوى الغامضة الموجودة في هذا العالم.

ويُستفاد ممّا تقدّم أنّه بالرّغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهيّة لطالوت بالأدلّة والمعاجز الإلهيّة، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلّموا إلى هذا الحقّ، وقد ظهرت هذه الحقيقة على أعمالهم العباديّة ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه الآية (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين).

ثمّ أنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشاً كثيرة وساروا إلى القتال، وهنا تعرّض بني إسرائيل لإختبار عجيب، ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الاُمور من القرآن نفسه حيث يقول : (فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلاّ من اغترف غرفة بيده)(1).

ويتّضح في هذه الموارد الإمتحان الكبير الذي تعرّض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش، وكان هذا الإمتحان ضروريّاً لجيش طالوت وخاصّة مع السّوابق السيّئة لهذا الجيش في بعض الحروب السابقة، لأنّ الإنتصار يتوقّف على مقدار الإنضباط وقدرة الإيمان والإستقامة في مقابل الأعداء والطّاعة لأوامر القيادة.

_____________________________

1 ـ جنود جمع جند في الأصل بمعنى الأرض الكثيره الأحجار والمتراكمة الصخور ثمّ اطلقت على كلّ شيء متراكم وعادةً تأتي بمعنى الجيش الكبير، وعبارة «لم يطعمه» جاءت بدل كلمة لم يشربه وهي إشارة إلى أن الجنود لا ينبغي لهم أن يشربوا منه بمقدار كف واحدة بل لا يذوقونه أيضاً.

(226)

وطالوت الذي كان يتّجه بجنوده للجهاد، كان لابدّ له أن يعلم إلى أيّ مدى يمكن الإعتماد على طاعة هؤلاء الجنود، وعلى الأخصّ أُولئك الذين ارتضوه واستسلموا له على مضض متردّدين، ولكنّهم في الباطن كانت تراودهم الشكوك بالنسبة لإمرته، لذلك يؤمر طالوت أمراً إلهيّاً باختبارهم، فيخبرهم أنّهم سوف يصلون عمّا قريب إلى نهر، فعليهم أن يقاوموا عطشهم، وألاَّ يشربوا إلاَّ قليلاً، وبذلك يستطيع أن يعرف إن كان هؤلاء الذين يريدون أن يواجهوا سيوف الأعداء البتّارة يتحمّلون سويعات من العطش أم لا.

وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية، وكما جاء بايجاز في الآية.

وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت. وكانت التصفية الأُولى عندما نادى المنادي للإستعداد للحرب وطلب الجميع بالإشتراك في الجهاد إلاَّ الذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.

(فلمّا جاوَزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوتَ وجنودِه).

تفيد هذه الآية أنّ تلك القلّة التي نجحت في الإمتحان هي وحدها التي تحرّكت معه، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلّة أنهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلّة عددهم، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية.

(قال الذين يظُنّون أنّهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين)(1).

«الفئة» أصلاً من «الفيء» بمعنى الرجوع، ويقصد بها الجماعة الملتحمة التي يرجع بعضهم إلى بعض ليعضده. تقول الآية : إنّ الذين كانوا يؤمنون بيوم القيامة

_____________________________

1 ـ «فئة» من «فىء» في الأصل بمعنى الرجوع وبما أن كلّ جماعة تتعاضد فيما بينها وتعود أحدها على الاُخرى بالعون والمساعدة اطلقت كلمة «فئة».

(227)

إيماناً راسخاً قالوا للآخرين : ينبغي ألاَّ تلتفتوا إلى (الكم) بل إلى (الكيف) إذ كثيراً ما يحدث أنّ الجماعة الصغيرة المتحلّية بالإيمان والعزم والتصميم تغلب الجماعة الكبيرة بإذن الله.

ينبغي أن ننتبه إلى أنّ «يظنّون» هنا تعني يعلمون، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة، ولا يعني الظنّ هنا الإحتمال، وظنّ هذه تعني اليقين في كثير من الحالات، حتّى لو اعتبرناها بمعنى الإحتمال، فإنّها هنا تناسب المقام أيضاً، إذ في هذه الحالة يكون المعنى أنّ مجرّد احتمال قيام يوم القيامة يكفي، فكيف باليقين به حيث يحمل الإنسان على اتّخاذ قرار بالنسبة للأهداف الربّانية. إنّ من يحتمل النجاح في حياته ـ في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السياسة ـ يمضي في مسيرته بكلّ عزم وتصميم.

أمّا لماذا يطلق على يوم القيامة يوم لقاء الله، فذلك ما أوضحناه في الجزء الأول من هذا التفسير.

في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين ويقول : (ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربّنا أفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين).

(برزوا) من مادّة (بروز) بمعنى الظّهور، فعندما يستعد المحارب للقتال ويتّجه إلى الميدان يقال أنّه برز للقتال، وإذا طلب القتال من الأعداء يُقال أنّه طلب مبارزاً.

تقول هذه الآية أنّه عندما وصل طالوت وجنوده إلى حيث ظهر لهم جالوت وجيشه القوي ووقفوا في صفوف أمامه رفعوا أيديهم بالدّعاء، وطلبوا من الله العليّ القدير ثلاثة اُمور، الأوّل : الصّبر والإستقامة إلى آخر حد، ولذا جاءت الجملة تقول : (أفرغ علينا صبراً).

و (الإفراغ) تعني في الأصل صبّ السائل بحيث يخلو الإناء ممّا فيه تماماً،

(228)

ومجيء (صبر) بصيغة النكرة يؤكّد هذا المعنى بشكل أكبر.

الإعتماد على ربوبيّة الخالق جلّ وعلا بقولهم (ربّنا) وكذلك عبارة (إفراغ) مضافاً إلى كلمة (على) التي تبيّن أنّ النزول من الأعلى، وكذلك عبارة (صبراً) في صيغة النكرة كلّ هذه المفردات تدلُّ على نكات عميقة لمفهوم هذا الدعاء وأنّه دعاء عميق المغزى وبعيد الأُفق.

الثاني : أنّهم طلبوا من الله تعالى أن يثبّت أقدامهم (وثبّت أقدامنا) حتّى لا يُرجّح الفرار على القرار، والواقع أنّ الدعاء الأوّل إتّخذ سمة الطلب النفسي والباطني، وهذا الدعاء له جنبة ظاهريّة وخارجيّة، ومن المسلّم أنّ ثبّات القدم هو من نتائج روح الإستقامة والصبر.

الثالث : من الاُمور التي طلبها جيش طالوت هو (وانصرنا على القوم الكافرين) وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد ويُنفّذ النتيجة النهائيّة للصبر والإستقامة وثبات الأقدام.

ومن المسلّم أنّ الله تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلّة عددهم وكثرة جيش العدو، ولذلك تقول الآية التالية : (فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت).

وكان داوود في ذلك الوقت شابّاً صغير السن وشجاعاً في جيش طالوت. ولا تبيّن الآية كيفيّة قتل ذلك الملك الجبّار بيد داود الشاب اليافع، ولكن كما تقدّم في شرح هذه القصّة أنّ داود كان ماهراً في قذف الحجارة بالقلاّب حيث وضع في قلاّبه حجراً أو اثنين ورماه بقوّة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدّة فصرعه في الوقت، فتسّرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت، وكأنّ الله تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأنّ الملك العظيم والجيش الجرّار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلّح بسلاح ابتدائي لا قيمة له.

(229)

تضيف الآية : (وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء) الضّمير في هاتين الجملتين يعود على داود الفاتح في هذه الحرب، وعلى الرّغم من أنّ الآية لا تقول أنّ داود هذا هو داود النبي والد سليمان (عليهما السلام) ولكنّ جملة (وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه ممّا يشاء) تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوّة، لأنّ هذا ممّا يوصف به الأنبياء عادةً، ففي الآية 20 من سورة ص نقرأ عن داود (وشددنا ملكه وآتيناه الحكم) كما أنّ الأحاديث الواردة في ذيل هذه الآية تشير إلى أنّه كان داود النبي نفسه.

وهذه العبارة يمكن أن تكون إشارة إلى العلم الإداري وتدبير البلاد وصنع الدّروع ووسائل الحرب وأمثال ذلك حيث كان داود (عليه السلام) يحتاج إليها في حكومته العظيمة، لأنّ الله تعالى لا يُعطي منصباً ومقاماً لأحد العباد إلاّ ويؤتيه أيضاً الاستعداد الكامل والقابليّة اللاّزمة لذلك.

وفي ختام الآية إشارة إلى قانون كلّي فتقول : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ الله ذو فضل على العالمين).

فالله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من تشرّي الفساد وسرايته إلى المجتمع البشري قاطبة.

وصحيح أنّ سنّة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحريّة والإرادة والإختيار وأنّ الإنسان حرٌّ في اختيار طريق الخير أو الشر، ولكن عندما يتعرّض العالم إلى الفساد والإندثار بسبب طغيان الطّواغيت، فإنّ الله تعالى يبعث من عباده المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده. وشبيه هذا المعنى ورد في آية 40 من سورة الحج (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد...).

وهذه الآيات في الحقيقة بشارة للمؤمنين الّذين يقفون في مواقع أماميّة من مواجهة الطّواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة الله لهم.

(230)

ويرد هنا سؤال، وهو أنّ هذه الآية هل تشير إلى مسألة تنازع البقاء التي تعتبر أحد الأركان الأربعة لفرضية داروِن في مسألة تكامل الأنواع ؟ تقول الفرضيّة أنّ الحرب والنّزاع ضروريٌّ بين البشر، وإلاّ فالسّكون والفساد سيعم الجميع، فتعود الأجيال البشريّة إلى حالتها الاُولى، فالتّنازع والصّراع الدائمي يؤدّي إلى بقاء الأقوى وزوال الضعفاء وانقراضهم، وهكذا يتمّ البقاء للأصلح بزعمهم.

الجواب :

إنّ هذا التفسير يصح فيما إذا قطعنا صله هذه الآية لما قبلها تماماً، وكذلك الآية المشابهة لها في سورة الحجّ ولكنّنا إذا اخذنا بنظر الإعتبار هذه الآيات رأيناها تدور حوّل محاربة الظّالمين والطّغاة، فلولا منع الله تبارك وتعالى لملؤوا الأرض ظلماً وجوراً، فعلى هذا لا تكون الحرب أصلاً كليّاً مقدّساً في حياة البشريّة.

ثمّ أنّ ما يقال عن قانون (تنازع البقاء) المبني على المبادىء الأربعة لنظريّة داروِن في (تطوّر الأنواع) ليست قانوناً علميّاً مسلّماً، به بل هو فرضيّة أبطلها العلماء، وحتّى الّذين كانوا يؤيّدون نظريّة تكامل الأنواع لم يعد أيّاً منهم يعوّل عليها ويعتبرون تطوّر الأحياء نتيجة الطفرة(1).

وإذا ما تجاوزنا عن كلّ ذلك واعتبرنا فرضيّة تنازع البقاء مبدءً علميّاً فإنّه يمكن أن يكون كذلك فيما يتعلّق بالحيوان دون الإنسان، لأنّ حياة الإنسان لا يمكن أن تتطوّر وفق هذا المبدأ أبداً، لأنّ تكامل الإنسان يتحقّق في ضوء التّعاون على البقاء لا تنازع البقاء.

ويبدو أنّ تعميم فرضيّة تنازع البقاء على عالم الإنسان انّما هو ضربٌ من الفكر الاستعماري الّذي يؤكّده بعض علماء الإجتماع في الدول الرأسمالية لتسويغ حروب حكوماتهم الدمويّة البغيضة وإطفاء الطّابع العلمي على سلوكياتهم

_____________________________

1 ـ لمزيد من الإطلاع راجع الكتاب «الفرضية الأخيرة في التكامل».

(231)

وجعل الحرب والنزاع ناموساً طبيعياً لتطوّر المجتمعات الإنسانية وتقدّمها، أمّا الأشخاص الّذين وقعوا دون وعي تحت تأثير أفكار هؤلاء اللاّإنسانيّة وراحوا يطبّقون هذه الآية عليها فهم بعيدون عن تعاليم القرآن، لأنّ القرآن يقول بكلّ صراحة : (يا أيّها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّة)(1).

ومن العجب أنّ بعض المفسّرين المسلمين مثل صاحب المنار وكذلك (المرائي) في تفسيره وقعوا تحت تأثير هذه الفرضيّة إلى الحدّ الذي اعتبروها أحد السنن الإلهيّة، ففسّروا بها الآية محلّ البحث وتصوّروا أنّ هذه الفرضيّة من إبداعات القرآن لا من ابتكارات واكتشافات داروِن، ولكن كما قلنا أنّ الآية المذكورة ليست ناظرة إلى هذه الفرضيّة، ولا أنّ هذه الفرضيّة لها أساس علمي متين، بل أنّ الأصل الحاكم على الروابط بين البشر هو التعاون على البقاء لاتنازع البقاء.

وآخر آية في هذا البحث تقول : (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ وإنّك لمن المرسلين).

تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلاَّ منها دليلاً على قدرة الله وعظمته ومنزّهة عن كلّ خرافة واُسطورة (بالحقّ) حيث نزلت على نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت إحدى دلائل صدق نبوّته وأقواله.

* * *

_____________________________

1 ـ البقرة : 208.

(232)

الجزء الثالث من القُرآن الكريم

من الآية 253

من سورة البقرة

(233)

الآية

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـات وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَـتِ وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

التّفسير

دور الأنبياء في حياة البشر :

هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانباً من دورهم فيى حياة المجتمعات البشرية، تقول الآية : (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض).

«تلك» اسم إشارة للبعيد. والإشارة إلى البعيد ـ كما نعلم ـ تستعمل أحياناً لإضفاء الإحترام والتبجيل على مقام الشخص أو الشيء المشار إليه، هنا أيضاً أُشير إلى الرسل باسم الإشارة «تلك» لتبيان مقام الأنبياء الرفيع.

واختلف المفسّرون في المقصود بالرسل هنا، هل هم جميع الرسل والأنبياء ؟

(234)

أم هم الرسل الذين وردت أسماؤهم أو ذكرت حكاياتهم في ما سبق من آيات هذه السورة فقط، مثل إبراهيم، موسى، عيسى، داود، اشموئيل ؟ أم هم جميع الرسل الذين ذكرهم القرآن حتّى نزول هذه الآية ؟

ولكن يبدو أنّ المقصود هم الأنبياء والمرسلون جميعاً، لأنّ كلمة «الرسل» جمع حلّيَ بالألف واللام الدالّتين على الإستغراق، فتشمل الرسل كافّة.

(فضّلنا بعضَهم على بعض).

يتّضح جليّاً من هذه الآية أنّ الأنبياء ـ وإن كانوا من حيث النبوّة والرسالة متماثلين ـ هم من حيث المركز والمقام ليسوا متساوين لإختلاف مهمّاتهم، وكذلك مقدار تضحياتهم كانت مختلفة أيضاً.

(منهم من كلّم اللهُ).

هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء، وواضح أنّ المقصود بالآية موسى (عليه السلام)المعروف باسم «كليم الله»، كما أنّ الآية 163 من سوره النساء تقول عنه (وكلّم الله مُوسى تكليماً).

أمّا القول بأنّ المقصود هو نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ التكليم المنظور هنا هو التكليم الذي كان في ليله المعراج مع الرسول، أو أنّ المراد هو الوحي الإلهي الذي ورد في آية 51 من سورة الشورى (وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحي...)حيث اُطلق عليه عنوان التكلّم، فإنّه بعيد جدّاً، لأنّ الوحي كان شاملاً لجميع الأنبياء، فلا يتلائم مع كلمة «منهم» لأنّ (من) تعبضيّة.

ثمّ تضيف الآية (ورفع بعضهم درجات)

ومع الإلتفات إلاّ أنّ الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدّرجات والمراتب، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معيّنين وعلى

(235)

رأسهم نبيّ الإسلام الكريم لأنّ دينه آخر الأديان وأكملها، فمن تكون رسالته الابلاغ أكمل الأديان لابدّ أن يكون هو نفسه أرفع المرسلين، خاصّةً وأنّ القرآن يقول فيه في الآية 41 من سورة النّساء (فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)(1).

والشاهد الآخر على هذا الموضوع، وهو أنّ الآية السابقة تشير إلى فضيلة موسى (عليه السلام)، والآية التالية تبيّن فضيلة عيسى (عليه السلام)، فالمقام يتطلّب الإشارة إلى فضيلة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء الثلاثة كان صاحب أحد الأديان الثلاثة العظيمة في العالم. فإذاكان اسم نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاء بين اسميهما، فلا عجب في ذلك، أوَليس دينه الحدّ الوسط بين دينيهما وأنّ كلّ شيء قد جاء فيه بصورة معتدلة ومتعادلة ؟ ألا يقول القرآن : (وكذلك جعلناكم أُمّة وسطاً)(2) !

ومع ذلك، فإنّ العبارات المتقدّمة في هذه الآية تدلّ على أنّ المقصود من (رفع بعضهم درجات) هم بعض الأنبياء السابقين، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية : (ولو شاءَاللهُ ما اقتتل الذين من بعدهم) أي لو شاء الله ما أخذت اُمم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعدرحيل أنبيائها.

(وآتينا عيسى بن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس).

أي أنّنا وهبنا عيسى (عليه السلام) براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينيّة الساميّة.

أمّا المراد من (روح القدس) هل هو جبرئيل حامل الوحي الإلهي، أو قوى اُخرى غامضة موجودة بصورة متفاوتة لدى أولياء الله ؟ تقدّم البحث مشروحاً في الآية 87 من سورة البقرة، وعندما تؤكّد هذه الآية على أنّ عيسى (عليه السلام) كان مؤيّداً

_____________________________

1 ـ النساء : 41.

2 ـ البقرة : 143.

(236)

بروح القدس فلأنّه كان يتمتّع بسهم أوفر من سائر الأنبياء من هذه الرّوح المقدّسة.

وتشير الآية كذلك إلى وضع الاُمم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والإختلافات التي جرت بينهم فتقول : (ولو شاء الله ما اقتتل الّذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيّنات) فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الإختلافات والإقتتال والحرب بين أتباعهم لأنّها سنّة إلهيّة أن جعل الله الإنسان حرّاً ولكنّه أساء الإستفادة من هذه الحريّة (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر).

ومن الواضح أنّ هذا الإختلاف بين الناس ناشىءٌ من اتّباع الأهواء والشّهوات وإلاّ فليس هناك أيّ صراع واختلاف بين الأنبياء الإلهيّين حيث كانوا يتّبعون هدفاً واحداً.

ثمّ تؤكّد الآية أنّ الله تعالى قادرٌ على منع الإختلافات بين النّاس بالإرادة التكوينيّة وبالجبر، ولكنّه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان ولذلك تركه مختاراً (ولو شاء الله ما أقتتلوا ولكنّ الله يفعل ما يريد).

ولا شكّ في أنّ بعض الناس أساء استخدام هذه الحريّة، ولكنّ وجود الحريّة في المجموع يُعتبر ضروريّاً لتكامل الإنسان، لأنّ التكامل الإجباري لا يُعدّ تكاملاً.

وضمناً يُستفاد من هذه الآية الّتي تعرّضت إلى مسألة الجبر مرّة اُخرى بطلان الإعتقاد بالجبر،حيث تثبت أنّ الله تعالى ترك الإنسان حرّاً فبعضٌ آمن وبعضٌ كفر.

* * *

مسألة :

هل الأديان تسبّب الإختلافات ؟

يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء، فالتاريخ شهد الكثير من

(237)

الحروب الدينية، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات.

وإزاء هذا القول لابدّ من الإنتباه إلى ما يلي :

أولاً : أنّ الإختلافات ـ كما جاء في الآية المذكورة ـ لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه. وإذا ما شاهدنا صراعاً بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات.

ثانياً : إنّ الدين ـ أو تأثيره ـ قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية، ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوةً واتساعاً وانتشرت في مختلف أرجاء العالم. فهل أن الدين هو السبب، أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب، ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين، وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الإقتصادية والسياسية، وفي أيّام اُخرى بقوالب ومسمّيات أُخرى ؟ ! وعليه فالدِين لا ذنب له في هذا، إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة.

ثالثاً : إنّ الأديان السماوية ـ وعلى الأخصّ الإسلام ـ التي تكافح العنصرية والقومية، كانت سبباً في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل. وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين. كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.

رابعاً : أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة،وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على

(238)

الظالمين والمستغلّين، من أمثال فرعون والنمرود. إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهاداً في سبيل تحرير الإنسان، ليست عيوباً تلصق بالأديان، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها. إنّ حروب رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة، ومع قيصر وكسرى من جهة أُخرى، كانت كلّها من هذا القبيل.

* * *

(239)

الآية

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَـاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَـاعَةٌ وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ (254)

التّفسير

الإنفاق من أهمّ أسباب النجاة يوم القيامة :

بعد أن تحدّثت الآيات السّابقة عن الاُمم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهيّة والإختلافات الّتي حدثت بعد الأنبياء (عليهم السلام) تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير إلى أحد الواجبات المهمّة عليهم الّتي تسبّب في تقوية بنيتهم الدّفاعيّة وتوحّد كلمتهم فتقول : (يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا ممّا رزقناكم).

جملة (ممّا رزقناكم) لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب والمستحب، وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك، ولكن مع الإلتفات إلى التهديد الوارد في ذيل الآية لايبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة وأمثالها، مضافاً إلى أنّ الإنفاق الواجب هو الّذي يعزّز بيت المال ويقوّم كيان

(240)

الحكومة، وبهذه المناسبة يشير تعبير (ممّا) أنّ هذا الإنفاق يكون بجزء من المال الّذي يملكه الشخص لا كلّه.

وقد رجّح المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان شموليّة الآية للإنفاق الواجب والمستحب، وذهب إلى أنّ ذيل الآية لا يُعتبر تهديداً، بل هو إخبار عن الحوادث المخوفة يوم القيامة(1).

ولكن مع ملاحظة آخر جملة في هذه الآية الّتي تقول إنّ الكافرين هم الظالمون يتضح أنّ ترك الإنفاق نوع من الكفر والظلم، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق الواجب.

ثمّ تضيف الآية (من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه ولا خُلّة ولا شفاعة)(2).

عليكم أن تنفقوا ما دمتم اليوم قادرين على ذلك، لأنّ العالم الآخر الذي هو محلّ حصاد ما زرعتموه في الدنيا لن يتسنى لكم فيه أن تفعلوا شيئاً، فلا معاملات ولا صفقات تجارية تستطيعون بها أن تشتروا السعادة والخلاص من العقاب، ولا هذه الصداقات المادّية التي تكسبونها في الدنيا بأموالكم تنفعكم في شيء هناك، لأنّ أصدقاءكم أنفسهم يعانون نتائج أعمالهم ولا يدفعون من أنفسهم للآخرين، ولا تنفعكم شفاعة، لأنكم بتخلّفكم حتّى عن الإنفاق الواجب لم تفعلوا ما هو جدير بأن يشفع لكم. وعليه فإنّ جميع أبواب النجاة مسدودة بوجوهكم.

(والكافرون هم الظالمون) لأنهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.

ويريد القرآن في هذه الآية أن يوضّح ما يلي :

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 و ج 2 ص 360.

2 ـ «خُلّة» مأخوذة من مادة «خلل» بمعنى الفاصلة بين شيئين وبما أن المحبّة والصداقة تحل في وجود الإنسان وروحه وتملأ الفواصل لذا اُطلقت هذه المفردة على الصداقة العميقة.

(241)

أولاً : إنّ الكافرين يظلمون أنفسهم، فبتركهم الإنفاق الواجب وسائر التكاليف الدينية والإنسانية حرموا أنفسهم من أعظم السعادات، وأنّ أعمالهم هذه هي التي تثقل كواهلهم في العالم الآخر، لذلك فإنّ الله لم يظلمهم أبداً.

ثانياً : يظلم الكافرون أفراد مجتمعهم أيضاً، لأنّ الكفر منبع القسوة وتحجّر القلب والتمسّك بالمادة وعبادة الدنيا، وهذه كلّها من مصادر الظلم، لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الكفر في الآية يعني التمرّد والعصيان والتخلّف عن إطاعة أمر الله لورود الكلمة بعد الأمر بالإنفاق. واستعمال الكفر بهذا المعنى شائع في القرآن وغيره من النصوص الإسلامية.

* * *

(242)

الآية

اللهُ لاَ إِلَـهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىء مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَلاَيَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255)

آية الكرسي من أهم آيات القرآن :

يكفي لبيان أهميّة وفضيلة هذه الآية قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما سأله (اُبي بن كعب) : أي آية من آيات كتاب الله أفضل ؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم. قال : فضرب يده في صدري ثمّ قال : ليهنك العلم، والذي نفس محمّد بيده إن لهذه الآية لساناً وشفتين يقدس الملك لله عن ساق العرض.

وفي حديث آخر عن عليّ (عليه السلام) عن رسول الله قال : سيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسي، يا علي إنّ فيها لخمسين كلمة في كلّ كلمة خمسون بركة، وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف

(243)

مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر. وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إن لكلّ شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي.(1)

والروايات الواردة في كتب العلماء الشيعة والسّنة في فضيلة هذه الآيات الشريفة كثيرة جدّاً ونختتم كلامنا هذا بروايتين عن رسول الله قال : اُعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرض ولم يؤتها نبيٍّ كان قبلي(2).

وفي حديث آخر أنّ أخوين جاء إلى رسول الله فقالا نريد الشام في التّجارة فعلمنا ما نقول ؟ فقال : نعم، إذا آويتما إلى منزل، فصليا العشاء الآخرة، فإذا وضع أحدكما جنبه على فراشه بعد الصلاة، فليسبّح تسبيح فاطمة، ثمّ ليقرأ آية الكرسي فإنه محفوظ من كلا شيء حتّى يصبح. وجاء في ذيل الحديث أن لصوصاً تبعوهما وسعوا في سرقة ما معهما إلاّ أنهم لم يفلحوا في ذلك(3).

ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الأهميّة والفضيلة لآية الكرسي إنّما هي للمحتوى العميق والمغزى المهم لها والّذي سوف نلحظه ضمن تفسيرها.

التّفسير

مجموعة من صفات الجمال والجلال :

تبدأ الآية بذكر الذّات المقدّسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى والصّفات العُليا لله عزّوجلّ فتقول : (الله لا إله إلاّ هو).

(الله) يعني الذّات الواحدة الجامعة لصفات الكمال، إنّه خالق عالم الوجود،

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 260.

2 ـ تفسير البرهان : ج 2 ص 245، بحار الأنوار : ج 89 ص 264، ج 7 (باب فضائل سورة يذكر فيها البقرة وآية الكرسي) ولأجل الإطلاع أكثر راجع بحار الأنوار : ج 89 ص 262 ـ 272.

3 ـ بحار الأنوار : ج 89 ص 266 باب فضائل سورة البقرة ح 11 (بتلخيص).

(244)

لذا ليس في عالم الوجود معبود جدير بالعبادة غيره.

وبعبارة (لا إله إلاَّ الله) يبيّن القرآن وحدانيه خالق الوجود التي هي أساس الإسلام، ولكن هذه الحقيقة ـ كما قلنا ـ موجودة في لفظة «الله».

لذلك فإنّ (لا إله إلاّ هو) تأكيد لتلك الحقيقة نفسها.

«الحي» من كانت فيه حياة، وهذه الصفة المشبّهة، كمثيلاتها تدلّ على الدوام والإستمرار. وحياة الله حياة حقيقية، لأنّ حياته عين ذاته، وليس عارضة عليه مأخوذة من غيره. في الآية 58 من سورة الفرقان يقول : (وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت).

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى تكون الحياة الكاملة حياة لا يعتريها الموت، وعليه فإنّ الحياة الحقيقية هي حياته الباقية من الأزل إلى الأبد، أمّا حياة الإنسان التي يخالطها الموت في هذه الدنيا فلا يمكن أن تكون حياة حقيقية، لذلك نقرأ في الآية 64 من سورة العنكبوت : (وما هذهِ الحياةُ الدنياإلاَّ لهوٌ ولَعِبٌ وَ أنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحَيوان).وعلى ذلك فإنّ الحياة الحقيقية هي التي تختصّ بالله.

ولكن ما مفهوم «اللهُ حيُّ» ؟

في التعبير السائد نقول للكائن أنّه حيٌّ إذا كان يتّصف بالنموّ والتغذية والتكاثر والجذب والدفع، وقد يتّصف بالحسّ والحركة. ولكن لابدّ من الإنتباه إلى أنّ بعضاً من السذّج قد يحسبون حياة الله شبيهة بهذه، مع علمنا بأنّه لا يتّصف بأيّة واحدة من هذه الصفات. هذا هو القياس الذي يوقع الإنسان في أخطاء في حقل معرفه الله، حين يقيس صفات الله بصفاته.

«الحياة» بمعناها الواسع الحقيقي هي العلم والقدرة، وعليه فإنّ من يملك العلم والقدرة اللامتناهيتين يملك الحياة الكاملة.

(245)

حياة الله هي مجموعة علمه وقدرته، وفي الواقع بالعلم والقدرة يمكن التمييز بين الحيّ وغير الحيّ. أمّا النموّ والحركة والتغذية والتكاثر فهي صفات كائنات ناقصة ومحدودة، فهي تكمل نقصها بالتغذية والتكاثر والحركة، أمّا الذي لا نقص فيه فلا يمكن أن يتّصف بمثل هذه الصفات.

«القيوم» صيغة مبالغة من القيام. لذلك فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته، وقيام كلّ الكائنات بوجوده، وبعباره أُخرى : جميع كائنات العالم تستند إليه.

بديهيّ أنّ القيام كما هو الشائع في الكلام اليومي هو الوقوف وبالهيئة المعروفة، ولكن بما أنّ هذا المعنى لا يتّفق مع الله المنزّه عن الصفات الجسمية، لذلك فالمقصود به هو القيام بالخلق والتدبير والتعهّد، فإنّه هو الذي خلق المخلوقات كلّها وتعهّد بتدبيرها وتربيتها وإدامتها، ولن يغفل عنها لحظة واحدة، فهو قائم دائماً وأبداً وباستمرار دون توقّف.

ويتّضح من هذا أنّ «قيّوم» هي في الواقع أساس كلَّ صفات الفعل ـ وهي الصفات التي تبيّن علاقة الله بالموجودات مثل الخالق، الرزاق، الهادي، المحيي، وأمثالها ـ .

فالقيام بالخلق وتدبير أُمور العالم يشمل كلّ هذه الأُمور، فهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي يهدي. وعليه فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمّع كلّها في «القيّوم».

ومن هنا يتّضح أن تحديد البعض لمفهوم هذه الجملة بالقيام بأمر الخلقة أو القيام بأمر الرّزق وأمثال ذلك، هو في الواقع إشارة إلى أحد مصاديق القيام، في حين أنّه مفهومه واسع ويشمل كلّ ذلك، لأنّ مفهومه كما قلنا يُعطي معنى القائم بالذّات وغيره متقوّم به ومحتاج له.

(246)

وفي الحقيقة أنّ (الحيّ) يشمل جميع الصّفات الإلهيّة كالعلم والقدرة والسّميع والبصير وأمثال ذلك، و (القيّوم) تتحدّث عن احتياج جميع المخلوقات إليه، ولذا قيل أنّ الإسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصّفتين.

ثمّ تضيف الآية (لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم).

(سنةٌ) من مادّة (وَسَنَ) وتعني كما يقول كثير من المفسّرين أنّها الإغفاءة والإسترخاء الّذي يكون في بداية النوم، وبعبارة اُخرى أنّه النّوم الخفيف، و (نوم) يعني الحالة الّتي تركد فيها بعض حواس الإنسان المهمّة، وفي الواقع أنّ (سنة) عبارة عن النوم العارض للعين، ولكن عندما يتوغّل كثيراً في الإنسان ويتعمّق ويعرض على العقل فيقال له (نوم) وجملة (لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم) هي في الواقع تأكيدٌ لصفة القيّوم التي يوصف بها الله، لأنّ القيام الكامل والمطلق بتدبير عالم الوجود يتطلّب عدم إغفال ذلك حتّى للحظة واحدة. أي إنّ الله لا يغفل طرفة عين عن حكمه المطلق على عالم الوجود وإدارته.

لذلك فكلّ صفة لا تتفق مع قيّومية الله تنتفي من ساحة قدس الله تلقائياً، بل انّ ذاته منزّهة حتّى عن أتفه عامل يمكن أن يؤدّي إلى أيّ تهاون في عمله، مثل «السِنَة».

أمّا سبب تقديم «السِنَة» على «النوم» في الآية مع أنّ القويّ يُذكر عادة قبل الضعيف، فيعود إلى التتالي الطبيعي في عملية النوم، إذ تنتاب المرء «السِنَة» أوّلاً ثمّ تزداد عمقاً حتّى تورده في النوم العميق.

وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي ودميومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة، فهو ليس كعبادة الذين يغفلون عن الآخرين بسبب النوم أو أيّ عامل آخر.

يلاحظ أنّ تعبير (لا تأخذه) تعبير رائع يؤدّي الغرض بدقّة، وهو يصوّر

(247)

استيلاء النوم على الإنسان تصويراً مجسّداً، وكأنّ النوم كائن قويّ ذو مخالب تمسك بالإنسان بقوّة وتأسره، إنّ ضعف أقوى الناس أمام سلطان النوم أمر لا اختلاف فيه.

مالكية الله المطلقة

(له ما في السماوات وما في الأرض).

لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها، لذلك فهذه الآية ـ بعد ذكر قيّومية الله ـ تشير إلى حقيقة كون العالم كلّه ملك خاصّ لله، وأنّ كلّ تصرّف يحدث فيه فبأمر منه.

وعليه، فإنّ الإنسان ليس المالك الحقيقي لما عنده ولما يقع تحت تصرّفه، بل أنّه يتصرّف فيه لمدّة محدودة ووفق شروط معيّنة قرّرها المالك الحقيقي، لذلك فعلى هؤلاء المالكين المؤقّتين أن يلتزموا تمام الإلتزام بالشروط التي وصفها المالك الحقيقي، وإلاَّ فإنّ مالكيّتهم المؤقّتة هذه تصبح باطلة وتصرّفهم غير جائز.

الشروط المطلوبة للتصرّف بملك الله هي التي وردت في الشرع وأبغت للناس.

من الواضح أنّ التقيّد بهذا يعتبر في الواقع عاملاً مهمّاً من عوامل التربية، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنما هو يتصرّف به لفترة قصيرة من الزمن، فسيمتنع ـ دون شكّ ـ عن الإعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص والطمع والإحتكار والبخل وأمثالها ممّا يتولّد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا، فيكون ذلك مدعاةً لتربيته تربية تجعله قانعاً بحقوقه المشروعة(1).

(من ذا الذي يشفعُ عنده إلاَّ بإذنه) وهذا في الواقع ردّ على ادّعاء المشركين

_____________________________

1 ـ شرحنا معنى الاحلام في سورة يوسف شرحاً وافياً.

(248)

الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند الله كما ورد في الآية 3 من سورة الزمر (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى)(1).

وهذه الآية من نوع الإستفهام الإستنكاري، أي ما من أحد يتقدّم بشفاعة إليه بإذنه. هذه الآية تكمل في الواقع معنى قيّومية الله ومالكيّته المطلقة لجميع ما في عالم الوجود. أي أننا إذا رأينا أحداً يشفع عند الله، فليس معنى ذلك أنّه يملك شيئاً وأنّ له تأثيراً مستقّلاً، بل أنّ مقامه في الشفاعة هبة من الله. ولمّا كانت شفاعته بإذن الله، فإنّ هذا بذاته دليل آخر على قيّومية الله ومالكيّته.

* * *

بحث

الشفاعة ليست محسوبية :

«الشفاعة»(2) هي العون الذي يقدّمه قويّ لضعيف لكي يساعده على اجتياز مراحل تكامله بسهولة ونجاح.

إلاَّ أنّ الكلمة تستعمل عادةً في التوسّط لغفران الذنوب. غير أنّ مفهوم الشفاعة أوسع من ذلك وتشمل جميع العوامل والدوافع والأسباب في عالم الوجود، على سبيل المثال التربة والماء والهواء وأشعة الشمس هي العوامل الأربعة التي تشفع لبذرة النبات وتعينها على الوصول إلى مرحله النضج لتصبح شجرة أو نبتة متكاملة. ولو نظرنا إلى الشفاعة في الآية الكريمة بهذا المعنى الواسع أدركنا أنّ وجود العوامل والأسباب المختلفة لا يحدّد مالكيّة الله المطلقة ولا يقلّل منها، لأنّ تأثير هذه العوامل كافّة لا يكون إلاَّ بإذن الله وأمره، وهذا أيضاً

_____________________________

1 ـ وردت «ما» في جملة (ما في السموات وما في الأرض)  للموجودات غير العاقلة، ومع أن الموجودات العاقلة أيضاً مملوكة لله سبحانه جاءت «ما» للتغليب لأن الغلبة الأكثرية للموجودات غير العاقلة.

2 ـ تحدّثنا عن الشفاعة في المجلد الأول الآية (48) من سورة البقرة بصورة مفصلة.

(249)

دليل على قيّوميته ومالكيّته.

بيدَ أنّ بعضهم يظنّ أنّ الشفاعة في المفاهيم الدينية تشبه التوصيات والمحسوبيات والمنسوبيات، وأنّ مفهومها العام هو السماح للإنسان أن يرتكب ما يشاء من المعاصي، ثمّ يتوسّل بالشفاعة لغفران ذنوبه كلّها بيسر وسهولة ! !

ولكن الأمر ليس كذلك، فلا المعترضون أدركوا شيئاً من منطق الدين في موضوع الشفاعة، ولا العاصون المتجرّئون على حدود الله فهموا ذلك. فالشفاعة التي يقوم بها بعض عباد الله المقرّبين يمكن اعتبارها ـ كما قلنا ـ شفاعة تكوينية تتحقّق بوساطة عوامل طبيعية، كما تتحقّق في بذرة النبات. وكما أنّ البذرة لاتنمو إن لم تكن فيها عوامل الحياة حتّى لو سطعت عليها الشمس وهبّت عليها الرياح وهطل عليها المطر الهتون سنوات طويلة، كذلك شفاعة أولياء الله لغير المؤهّلين، لن يكون لها أيّ أثر، أو قُل إنهم لايمكن أن يشفعوا لأمثال هؤلاء.

الشفاعة تستلزم نوعاً من العلاقة المعنوية بين الشفيع والمشفوع له. لذلك فإنّ على من يرجو الشفاعة أن يقيم في هذه الدنيا علائق روحية مع من يتوقّع شفاعته. وهذه العلائق ستكون ـ في الواقع ـ وسيلة من وسائل تربية المشفوع له بحيث إنّها تقرّبه من مدرسة أفكار الشفيع وأعماله، وهذا ما سيوصله إلى أن يكون مؤهّلاً لنيل تلك الشفاعة.

وبناءً على ذلك، فالشفاعة عامل تربوي، وليست نوعاً من المحسوبية والمنسوبية، ولا ذريعة للتنصّل عن المسؤولية.

ومن هذا يتّضح أنّ الشفاعة لا تغيّر إرادة الله بشأن العُصاة المذنبين، بل أنّ العاصي والمذنب ـ بارتباطه الروحي بشفيعه ـ يحظى بتربية تؤهّله لنيل عفو الله تعالى(1).

_____________________________

1 ـ في المجلّد الأول من هذا التفسير بحث وآف تحت عنوان «القرآن والشفاعة». راجع ص 163 منه.

(250)

 (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم).

بعد الإشارة إلى الشفاعة في الآية السابقة، وإلى أنّ هذه الشفاعة لا تكون إلاَّ بإذن الله، تأتي هذه الجملة لبيان سبب ذلك فتقول إنّ الله عالم بماضي الشفعاء ومستقبلهم، وبما خفي عليهم أيضاً. لذلك فهم غير قادرين على أن يبيّنوا عن المشفوع لهم أُموراً جديدة تحمل الله على إعادة النظر في أمرهم بسببها وتغيير حكمه فيهم.

وذلك لأنّ الشفيع ـ في الشفاعات العادية ـ يؤثّر في المتشفّع عنده بطريقين اثنين : فهو إمّا أن يعمد إلى ذكر صفات ومؤهّلات المشفوع له التي تدعو إلى إعادة النظر في أمره. أو أن يبيّن للمتشفّع عنده العلاقة التي تربط المشفوع بالشفيع ممّا يستدعي تغيير الحكم إكراماً للشفيع.

بديهيّ أنّ كلا هذين الاسلوبين يعتمدان على كون الشفيع يعلم أشياء عن المشفوع له لا يعلمها المتشفّع عنده. أمّا إذا كان المتشفّع عنده محيطاً إحاطة كاملة بكلّ شيء ممّا يتعلّق بكلّ شخص، فلا يكون لأحد أن يشفع لأحد عنده، وذلك لأنّ المتشفّع عنده أعلم بمن يستحقّ الشفاعة فيجيز للشفيع أن يشفع له.

كلّ ذلك في صورة أن يكون ضمير (ما بين أيديهم وما خلفهم) يعود على الشفعاء أو المشفوع لهم، ولكن يُحتمل أيضاً أن يعود الضمير لجميع الموجودات العاقلة في السّموات والأرض الواردة في جملة (له ما في السموات وما في الأرض) وتُعتبر تأكيداً لقدرة الله الكاملة على جميع المخلوقات وعجز الكائنات أيضاً وحاجتها إليه، لأنّ من ليس له علمٌ بماضيه ومستقبله وغير مطّلع على غيب السّموات والأرض فإنّ قدرته محدوده جدّاً، بخلاف من هو عالمٌ ومطّلعٌ على جميع الأشياء، وفي جميع الأزمنة والأعصار، في الماضي والحاضر فإنّ قدرته غير محدودة، ولهذا السبب فكلّ عمل حتّى الشفاعة يحتاج إلى إذنه.

(251)

وبهذا الترتيب يمكن الجمع بين كلا المعنيين.

أمّا المراد من جملة (ما بين أيديهم وما خلفهم) فإنّ للمفسّرين احتمالات متعدّدة، فبعضٌ ذهب إلى أنّ المرادمن (ما بين أيديهم) اُمور الدّنيا التي تكون أمام الإنسان وبين يديه، وجملة (وما خلفهم) يراد بها اُمور الآخرة التي تقع خلف الإنسان، وذهب بعضٌ آخر إلى عكس هذا التفسير.

وبعضٌ ثالث ذهب إلى أنّها إشارة إلى أجر الإنسان أو أعماله الخيّرة أو الشّريرة أو الاُمور التي يعلمها والّتي لا يعلمها.

ولكن بمراجعة آيات القرآن الكريم يُستفاد أنّ هذين التعبيرين استعُملا في بعض الموارد للمكان كالآية 17 من سورة الأعراف حيث تحدّثت عن قول الشيطان (لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم).

وتارةً تأتي بمعنى القبل والبعد الزماني كالآية 71 من سورة آل عمران حيث تقول (ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) فمن الواضح أنّ الآية هنا ناظرةٌ إلى الزّمان.

أمّا في الآية التي نحن بصددهافالتعبير قد يجمع بين المكان والزمان، أي أنّ الله يعلم ما كان في الماضي أو يكون في المستقبل وما هو أمام أنظارهم بحيث أنّهم يعلمونه، وما هو خلفهم ومحجوبٌ عنهم ولا يعلمون عنه شيئاً، وعلى هذا فأنّ الله محيط بكل أبعاد الزمان والمكان فكل عمل حتّى الشفاعة يجب أن تكون بإذنه.

وفي ثامن صفة مقدّسة تقول الآية (ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء)(1).

هذه الفقرة أيضاً توكيدٌ لما سبق من سعة علمه اللامحدود وأنّ علم الكائنات

_____________________________

1 ـ ذهب أكثر المفسّرين إلى ان كلمة «علم» هنا بمعنى المعلوم. وهذا ما يتناسب مع معنى الآية ومن هنا تنعيضية. مجمع البيان، تفسير الكبير، روح البيان، والقرطبي في ذيل الآية المبحوثة.

(252)

إنّما هو قبسٌ من علمه تعالى، فلذلك يكون علم الشفعاء محدوداً بأزاء علمه تعالى، فلا حظّ لهم من العلم إلاّ بمقدار ما يريد الله تعالى لهم.

ومن هذه الفقرة من الآية يستفاد أمرين :

الأول : أنّه لا أحد يعلم شيئاً بذاته، فجميع العلوم والمعارف البشريّة إنّما هي من الله تعالى، فهو الذي يزيح الستار عن حقائق الخلقة واسرار الطبيعة ويضع معلومات جديدة في متناول البشر فيوسّع من اُفق معرفتهم.

والآخر : هو أنّ الله تعالى قد يضع بعض العلوم الغيبيّة في متناول من يشاء من عباده فيطلعهم على ما يشاء من أسرار الغيب، وهذا ردٌ على من يعتقد أنّ علم الغيب غير متاح للبشر، وهو تفسيرٌ أيضاً للآيات التي تنفي علم الغيب عن البشر (وسيأتي ان شاء الله مزيد من الشرح لهذا الموضوع في مكانه عند تفسير الآيات الخاصّة بالغيب كالآية 26 من سورة الجن).

وجملة (لايحيطون) إشارة لطيفة إلى حقيقة العلم وأنّه نوعٌ من الأحاطة.

وفي تاسع وعاشر صفة إلهيّة تقول الآية : (وسع كرسيّه السّموات والأرض ولا يؤده حفظهما).

وفي الصفة الحادية عشر والثانيه عشر تقول الآية : (وهو العلي العظيم).

* * *

بحوث

الأوّل : المراد من العرش والكرسيّ

(الكرسي) من «كرس» بوزن إرث، ومعناه أصل الشيء وأساسه، كما يطلق على كلّ شيء متجمّع ومترابط، ولهذا يطلق على المقعد الواطىء المتعارف عليه للجلوس، ويقابله «العرش» الذي يعني السقف، أو الشيء ذا السقف، أو الكرسي ذا

(253)

القوائم المرتفعة. ولمّا كان الاُستاذ أو المعلّم يجلس أحياناً على كرسي أثناء التدريس، فقد انتقل اسم «الكرسي» ليدلّ على العلم، وقد يستعمل رمزاً للسلطة والسيطرة أو يكون كناية عن الحكومة والحكم.

في هذه الآية نقرأ عن كرسيّ الله أنّه يسع السماوات والأرض. وعليه فيمكن أن يكون للكرسيّ عدّة معان :

1 ـ منطقة نفوذ الحكم : أي أنّ حكم الله نافذ في السماوات والأرض وأنّ منطقه نفوذه تشمل كلّ مكان، أي أنّه يشمل عالم المادّة برمّته، بما فيه من أرض ونجوم ومجرّات وسُدُم.

وعلى هذا يكون «العرش» مرحلة أرفع وأعظم من عالمنا المادّي هذا، لأنّ العرش ـ كما قلنا ـ يعني السقف أو المسقّف أو مقعداً أعلى من الكرسي. وبهذا يشمل العرش عالم الأرواح والملائكة وما وراء الطبيعة، وهذا يكون بالطبع إذا وضع الكرسي في قبال العرش بحيث يعني الأوّل «عالم المادّة والطبيعة» ويعني الثاني «عالم ما وراء الطبيعة».

وللعرش معان أُخرى كما سيأتي في تفسير الآية 53 من سورة الأعراف، خاصّة إذا لم يذكر في قبال الكرسي، وعندئذ يمكن أن يكون بمعنى عالم الوجود كلّه.

2 ـ منطقة نفوذ العلم : أي أنّ علم الله يحيط جميع السماوات والأرض وأنّ ما من شيء يخرج عن منطقة نفوذ علمه، لأنّ الكرسي ـ كما قلنا ـ قد يكون كناية عن العلم. وهناك أحاديث كثيرة تعتمد هذا المعنى، من ذلك ما رواه حفص بن غياث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه سأله عن معنى (وسع كرسيّه السماوات والأرض) قال : هو العلم(1).

_____________________________

1 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 259 ح 1039.

(254)

3 ـ شيء أوسع من السماوات والأرض كلّها بحيث إنّه يحيط بها من كلّ جانب. وعلى هذا يكون معنى الآية : كرسيّ الله يضمّ جميع السماوات والأرض ويحيط بها.

وقد نقل هذا التفسير عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال : «الكرسيُّ محيطٌ بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى»(1).

بل يستفاد من بعض الروايات أنّ الكرسي أوسع بكثير من السماوات والأرض. فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله : «ما السماوات والأرض عند الكرسي إلاَّ كحلقة خاتم في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلاَّ كحلقة في فلاة»(2).

المعنيان الأول والثاني مفهومان ، أمّا المعنى الثالث فأمر لم يتوصّل العلم البشري بَعدُ لمعرفته وكشف الستار عنه، فالعالم الذي يضمّ في زاوية منه السماوات والأرض لم يثبت وجوده بالطرق العلمية حتّى الآن، كما أنّه ليس هناك أيّ دليل على عدم وجوده، فالعلماء يعترفون جميعاً بأن اتّساع السماء والأرض يزداد بمرور الأيّام وبتقدّم وسائل المعرفة العلمية، وما من أحد يستطيع أن يزعم أنّ سعة عالم الوجود هو ما يعرفه العلم اليوم، ولا يُستبعد أن تكون هناك عوالم أُخرى لا تعدّ ولاتُحصى خارجة عن نطاق وسائل الأبصار عندنا اليوم.

نضيف هنا أنّ التفاسير الثلاثة المذكورة لا يتعارض بعضها مع بعض، وأنّ عبارة (وسع كرسيّه السماوات والأرض) يمكن أن تشير إلى حكومة الله المطلقة ونفوذ قدرته في السماوات والأرض، كما تشير في الوقت نفسه إلى علمه النافذ، وكذلك إلى عالم أوسع بكثير من عالمنا هذا. وهذه الآية تكمل الآيات السابقة عن سعة علم الله.

_____________________________

1 ـ المصدر السابق : ص 260 ح 1042.

2 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 362.

(255)

بعبارة موجزة أنّ عرش حكومة الله وقدرته يهيمن على السماوات والأرض جميعاً،وأنّ كرسيّ علمه يحيط بكلّ هذه العوالم، وما من شيء يخرج عن نطاق حكمه ونفوذ علمه.

قوله : (ولا يؤوده حفظهما). «يؤوده» من «أود» ـ على وزن قول ـ بمعنى الثقل والمشقة، أي أنّ حفظ السماوات والأرض ليس فيه أيّ ثقل أو مشقّة على الله، فهو ليس مثل مخلوقاته التي يتعبها الحفاظ على الأشياء ويوهنها،ذلك لأنّ المخلوقات ضعيفة محدودة القدرة، وقدرته غير محدودة، ومن لا حدود لقدرته لا يكون للثقل والخفّة والصعب والسهل مفهوم عنده. فهذه مفاهيم تصدق عند من تكون قدراتهم محدودة.

ممّا تقدّم يتّضح أنّ الضمير في «يؤوده» يعود على الله، ويؤكّد هذا ما سبق من آيات والآية التالية، فضمائرها كلّها تعود على الله، وعليه فإنّ احتمال عود هذا الضمير إلى «الكرسي» ـ باعتبار أنّ حفظ السماوات والأرض ليس ثقيلاً على الكرسي ـ ضعيف جداً.

قوله : (وهو العليّ العظيم). توكيد لما سبق. أي أنّ الله الذي هو أرفع وأعلى من كلّ شبيه وشريك، ومنزّه عن كلّ نقص وعيب، وهو العظيم اللامحدود، لا يصعب عليه أي عمل ولا يتعبه حفظ عالم الوجود وتدبيره، ولا يغفل عنه أبداً،وعلمه محيط بكلّ شيء.

الثّاني : هل أنّ آية الكرسيّ هي هذه الآية فحسب ؟

وقد يرد سؤال وهو : هل أنّ آيه الكرسيّ هي التي تبدأ من قوله (الله لا إله إلاّ هو) وتنتهي بقوله (وهو العلي العظيم) أو أنّ الآيتين التاليتين لهذه الآية جزءٌ من آية الكرسيّ، فعلى هذا لو ورد الأمر بقراءة آية الكرسيّ في صلاة (ليلة الدفن) مثلاً

(256)

فلابدّ من قراءة الثلاث آيات هذه.

هناك قرائن تشير إلى أنّ آية الكرسيّ هي الآية المذكورة آنفاً :

1 ـ إنّ جميع الروايات التي اوردت فضيلة هذه الآية وعبّرت عنها بآية الكرسي تدلّ على أنّها ا ية واحدة لا أكثر.

2 ـ أنّ كلمة (الكرسيّ) وردت في الآية الاُولى فقط، فلذلك فأنّ تسميتها بآية الكرسيّ متعلّقٌ بهذه الآية.

3 ـ ورد في بعض الأحاديث تصريح بهذا المعنى، فالحديث الذي ذكره الشيخ ـ في أماليه ـ عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام) ضمن بيان فضيلة آية الكرسيّ أنّه بدأها من (الله لا إله إلاَّ هو) إلى قوله (وهو العليّ العظيم).

4 ـ ذكر صاحب مجمع البيان نقلاً عن مستدرك سفينة البحار أنّ (وآية الكرسيّ معروفة وهي إلى قوله وهو العليّ العظيم)(1).

5 ـ ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال : «من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها، وثلاث آيات من آخرها لم يرَ في نفسه وماله شيئاً يكرهه ولا يقربه شيطان، ولا ينسى القرآن»(2).

ومن هذا التعبير يستفاد أيضاً أنّ آية الكرسيّ آية واحدة.

6 ـ ورد في بعض الروايات أنّ آية الكرسيّ خمسون كلمة، وفي كلّ كلمة خمسون بركة(3)، وعندما يعدّ كلمات هذه الآية إلى قوله (وهو العلي العظيم)تكون خمسين كلمة.

_____________________________

1 ـ مستدرك سفينة البحار : ج 9 ص 97.

2 ـ بحار الأنوار : ج 89 ص 265.

3 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 361.

(257)

أجل يستفاد من بعض الروايات الأمر بقراءة هذه الثلاث آيات إلى قوله : (هم فيها خالدون) دون أن تكون معنونة بعنوان آية الكرسيّ.

وعلى كلّ حال أنّ المستفاد من القرائن أعلاه هو أنّ آية الكرسيّ آية واحدة لاأكثر.

الثّالث : الدليل على أهميّة آية الكرسيّ.

إنّ اهميّة آية الكرسيّ الكبيرة تكمن في تضمّنها لمجموعة من المعارف الإسلامية والصفات الإلهيّة أعم من صفات الذات والفعل خاصّة مسألة التوحيد في أبعادها المختلفة، وهذه الصفات البالغة إثنا عشر صفة وكلّ واحدة منها يمكن أن تكون ناظرة إلى أحد المسائل التربويّة للإنسان تستحق التأمّل والتدبّر، وكما يقول أبو الفتوح الرازي أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات تنفي أحد المذاهب الباطلة (وعلى هذا يمكن إصلاح وتقويم اثنا عشر فكرة باطلة وخاطئة بواسطة هذه الآية)(1).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي : ج 2 ص 327.

(258)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22216357

  • التاريخ : 3/02/2025 - 22:48

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net