00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 1 ـ 24 ( ص 65 ـ 129) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الأول)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

 

سُورَة البَقَـــرَة

مَدنيّة

وعَدَدُ آياتِهَا مَائتان وست وثمانُون آية

(65)

 سورة البقرة

محتوى سورة البقرة:

هذه السّورة أطول سور القرآن، ومن المؤكد أنّها لم تنزل مرّة واحدة. بل في مناسبات عديدة، حسب متطلبات المجتمع الإسلامي في المدينة. وتتميز بشمولها لمبادىء العقيدة ولكثير من الأحكام العملية (العبادية، والإجتماعية، والسياسية، والإقتصادية). ففي هذه السّورة.

1 ـ موضوعات حول التوحيد ومعرفة الخالق، عن طريق استنطاق أسرار الكون.

2 ـ جولات في عالم المعاد والبعث والنشور مقرونة بأمثلة حسيّة، مثل قصّة إبراهيم(عليه السلام) وإحياء الطير، وقصّة عُزير(عليه السلام).

3 ـ آيات ترتبط بإعجاز القرآن وأهمية كتاب الله العزيز.

4 ـ سرد مطوّل حول وضع اليهود والمنافقين ومواقفهم المعادية للقرآن والإِسلام وشدّة ضررهم في هذا المجال.

5 ـ إستعراض لتاريخ الأنيباء، وخاصة إبراهيم وموسى(عليهما السلام).

6 ـ بيان لأحكام إسلامية مختلفة مثل: الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج، والقبلة، والزواج والطلاق، والتجارة والدَّين، والربا، والإنفاق، والقصاص، وتحريم بعض الأطعمة والأشربة، والقمار، وذكر نبذة من أحكام الوصية وأمثالها.

(66)

وأما تسميتها بالبقرة، فمأخوذة من قصّة بقرة بني إسرائيل، التي سيأتي شرحها في الآيات (67 ـ 73) إن شاء الله.

* * *

فضيلة هذه السّورة:

وردت في فضيلة هذه السّورة نصوص عديدة في المصادر الاسلامية، منها: روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّهُ سُئِلَ أَيُّ سُوَرِ الْقُرآنِ أفْضَلُ؟ قالَ: «الْبَقَرَةُ» قيلَ: أَيُّ آيَةِ الْبَقَرَةِ أفْضَلُ؟ قالَ: «آيَةُ الْكُرْسِيِّ»(1).

أفضلية هذه السور تعود على ما يبدو إلى جامعيتها، وأفضلية آية الكرسي تعود إلى محتواها التوحيدي، وسيأتي ذكر ذلك في تفسيرها بإذن الله. وهذا لا يتنافى مع أفضلية سور اُخرى من جهات اُخرى. وروى علي بن الحسين(عليهما السلام) عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّهُ قالَ:

قَالَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ قَرَأَ أرْبَعَ آيات مِنْ أوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَآيَتَيْنِ بَعْدَها، وَثَلاثَ آيات مِنْ آخِرِها، لَمْ يَرَ في نَفْسِهِ وَمالِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ وَلا يَقْرُبُهُ الشَّيْطانُ، وَلا يَنْسى الْقُرْآن»(2).

من اللازم هنا أنْ نعيد التأكيد على هذه الحقيقة، وهي إنّ ما ذكر من ثواب وفضيلة وجزاء لتلاوة بعض السور والآيات الخاصة، لا يعني ـ إطلاقاً ـ قراءتها بشكل أوراد، ولا الإِكتفاء بترديد ألفاظها، بل التلاوة للفهم، والفهم من أجل التفكير، والتفكير لغرض العمل. ومن الملاحظ أنّ كل فضيلة ذكرت لآية أو سورة إنما تتناسب كثيراً مع محتوى السّورة والآية.

ففي فضيلة سورة النور ذكر أنّ من يواظب على قراءتها يصونه الله وأولاده

___________________________

1 و 2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 26. ومجمع البيان، ج 1، ص 32.

(67)

من (الزنا) وذلك لأن محتوى هذه السّورة يتضمن تعاليم في حقل مكافحة الإنحرافات الجنسية، مثل حث العزاب على الزواج، والأمر بالحجاب وغضّ الأبصار عما يثير الشهوة، والتحذير من إشاعة الفاحشة والقذف، وكذلك الأمر بإجراء الحد الشرعي على الزاني والزانية.

ومن الطبيعي أن محتوى هذه السّورة ـ إن دخل حيّز التنفيذ ـ يصون المجتمع والأُسرة من الزنا. وهكذا الآيات المذكورة من سورة البقرة، ستكون لها تلك الفضائل حتماً إن قرأها الإِنسان بامعان وتشبّعت نفسه بمحتواها، خاصة وأنّها جميعاً تدور حول محور التوحيد والإيمان بالغيب ومعرفة الله، والحذر من وساوس الشيطان.

صحيح أنّ قراءة القرآن عمل مثاب عليه في أي حال من الأحوال، لكن الثواب الأساس يترتب على التلاوة المقرونة بالتفكير والعمل.

* * *

(68)

الآيات

الـم (1) ذَ لِكَ الكِتَـبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ (2)

التّفسير

تحقيق في الحروف المقطعة في القرآن

تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، وهذه الحروف ـ كما هو واضح من اسمها ـ لا تشكل كلمة مفهومة.

هذه الحروف من أسرار القرآن، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة، وأضاف لها العلماء المعاصرون تفاسير جديدة من خلال تحقيقاتهم.

جدير بالذّكر أن التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية والمشركين عابوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن. ولم يتخذوا منها وسيلة للطعن والإستهزاء. وهذا يشير إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين تماماً بأسرار وجود الحروف المقطعة.

اخترنا من التفاسير الكثيرة لهذه الحروف، عدداً من التفاسير باعتبار مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال. وسنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة، وسورة آل عمران، وسورة الأعراف، إن شاء الله.

(69)

ونبدأ الآن بأهمها:

هذه الحروف إشارة إلى أن هذا الكتاب السماوي، بعظمته وأهميّته التي حيرت فصحاء العرب وغير العرب، وتحدت الجن والإنس في عصر الرسالة وكل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.

ومع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة، فإن ما فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح، ويملأ النفس بالرضا والإعجاب، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.

في القرآن من الفصاحة والبلاغة ما لا يخفى على أحد، وليس هذا مجرّد ادّعاء، فخالق الكون تحدّى بهذا الكتاب جميع (الجن والإنس)، ليأتوا بمثله (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيراً)(1)، ولكنهم عجزوا جميعاً عن ذلك، وتلك دلالة على أن هذا الكتاب لم يصدر عن فكر بشر.

وكما إن الله تعالى خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقدة محيّرة، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة، والأحياء المتنوعة، والنباتات والزهور المختلفة، وكما إننا ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك الله سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات ومعان سامية، في قوالب لفظية جميلة، وعبارات موزونة، وأسلوب خاص مدهش معجز، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.

الأدب في العصر الجاهلي:

من المهم أن نذكر هنا أن العصر الجاهلي كان عصراً ذهبياً للأدب العربي.

___________________________

1 ـ الإسراء، 88.

(70)

فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أن العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. وما وصلنا من شعر ونثر من تلك الفترة، يشير إلى قدرة أُولئك على التعبير الجميل الدقيق، ويحتل ذروة الفصاحة في الأدب العربي.

وكان للأدب سوق رائجة تدلّ على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم، و(سوق عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الإهتمام بوضوح.

والسوق المذكور كان يشهد ـ إضافة إلى المعاملات الإقتصادية والقضايا الإجتماعية ـ حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر، ويتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، و (المعلقات السبع) أو (العشر) نموذج لذلك، وكانت القصيدة الفائزة تعدّ فخراً كبيراً للشاعر ولقبيلته.

في مثل هذا العصر من الإنتعاش الأدبي، يتحدى القرآن النّاس أن يأتوا بمثله، ولكنهم عجزوا (سنذكر مزيداً من إعجاز القرآن في مجال التحدي لدى تفسير الآية 23 من هذه السّورة).

شاهد ناطق:

الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة، حديث عن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) حيث يقول: «كَذَّبَ قُرَيْشُ وَالْيَهُودُ بِالْقُرْآنِ وَقَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، تَقَوَّلَهُ، فَقَالَ الله: (آلم، ذَلِكَ الْكِتَابُ ...): أيّ يَا محمّد، هذا الْكِتَابُ الَّذِي اَنْزَلْتُهُ إلَيْكَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعةُ الَّتي مُنْهَا اَلِفٌ وَلامٌ وَميمٌ، وَهُوَ بِلُغَتِكُمْ وَحُرُوفِ هِجَائِكُمْ فَأتوا بِمِثْلِهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ...»(1).

وَثم شاهد آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في قوله: «ثُمَّ قَالَ اِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى اَنْزَلَ هذَا الْقُرْآنَ بِهذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي يَتَدَاوَلُهَا جَمِيعُ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَالَ: (قُلْ لَئِنِ

___________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 54.

(71)

اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ...)(1).

وهناك ملاحظة تؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير معنى الحروف المقطعة، وهي أن هذه الحروف في السور الأربع والعشرين التي ذكرناها، يتلوها مباشرة ذكر لعظمة القرآن، وهذا يدل على الإرتباط بين الحروف المقطعة وعظمة القرآن. وعلى سبيل المثال نذكر الآيات التالية:

1 ـ (الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيم خَبِير)(2).

2 ـ (طَس، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَاب مُبين)(3).

3 ـ (الم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)(4).

4 ـ (آلمصَ، كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ)(5).

* * *

بعد البسملة وذكر الآية الاُولى من سورة البقرة يقول تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ). قد يشير هذا التعبير إلى أن الله تعالى وعد نبيّه أن ينزّل عليه كتاباً يهتدي به من طلب الحق، ولا يشك فيه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو بصير، وها هو سبحانه قد وفى بوعده الآن.

وقوله: (لاَ رَيْبَ فِيهِ) ليس ادعاءً، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة، هي إنّ القرآن يشهد بذاته على حقّانيته. وبعبارة اُخرى فإن مظاهر الصدق والعظمة والإنسجام والإستحكام وعمق المعاني وحلاوة الألفاظ والعبارات وفصاحتها من الوضوح بدرجة تبعد عنه كلّ شك.

من المشهود أن مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن، بل إن

___________________________

1 ـ توحيد الصدوق، ص 162، ط سنة 1375 هـ .ق. .

2 ـ هود، 1 ـ 2.

3 ـ النمل، 1 ـ 2.

4 ـ لقمان، 1 ـ 2.

5 ـ الأعراف، 1 ـ 2.

(72)

حقائق القرآن، ازدادت وضوحاً بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات. وكلما ازداد العلم تكاملا ازدادت آيات القرآن جلاء وسطوعاً.

وسنوضح هذه الحقيقة أكثر بإذن الله في مواضع اُخرى من هذا التّفسير.

* * *

1 ـ لماذا الأشارة إلى البعيد؟

نعلم أن كلمة (ذلك) إشارة إلى البعيد في لغة العرب. وقرب القرآن من أيدي النّاس يقتضي أن تكون الإشارة للقريب.

السبب في استعمال اسم الإشارة للبعيد يعود إلى بيان سموّ القرآن ورفعته، حتى كأنه ـ في عظمته ـ يحتل نقطة الذروة في هذا الوجود. ومثل هذا الإستعمال شائع في سائر اللغات أيضاً حين يراد الإشارة إلى شخص ذي منزلة كبيرة مثلا.

في بعض مواضع القرآن وردت أيضاً كلمة (تلك)، وهي اسم إشارة للبعيد أيضاً، مثل: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)(1). والسبب فيه ما ذكرنا.

2 ـ معنى الكتاب:

«الكِتَابُ» يعني المكتوب والمخطوط، ولا شك أن المراد منه في الآية كتاب الله الكريم.

وهنا يثار سؤال حول سبب استعمال كلمة الكتاب للقرآن وهو آنئذ لم يكتب كلّه.

وفي الجواب نقول: استعمال هذه الكلمة لا يستلزم أن يكون القرآن كله

___________________________

1 ـ لقمان، 2.

(73)

مكتوباً. لإن اسم القرآن يطلق على كل هذا الكتاب، وعلى أجزائه أيضاً.

أضف إلى ذلك أن «الكتاب» يطلق أحياناً بمعنى أوسع، ليشمل كل ما يليق أن يكتب فيما بعد، وإن لم يكن كذلك حين إطلاق اسم الكتاب عليه. ففي آية اُخرى نقرأ: (كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(1). ومن المؤكد أن القرآن لم يكن بشكل كتاب مدوّن بين النّاس قبل نزوله.

وثمة احتمال آخر وهو إن التعبير بالكتاب يشير إلى كتابة القرآن في «اللوح المحفوظ»(2).

3 ـ ما هي الهداية؟

كلمة (الهداية) لها عدة معاني في القرآن الكريم، وكلها تعود أساساً إلى معنيين:

1 ـ الهداية التكوينية: وهي قيادة رب العالمين لموجودات الكون، وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود. وواضح أن هذه الهداية تشمل كل موجودات الكون.

يقول القرآن على لسان موسى(عليه السلام): (رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(3).

2 ـ الهداية التشريعية: وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية، وعن طريقها يرتفع الانسان في مدارج الكمال، وشواهدها في القرآن كثيرة منها قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)(4).

___________________________

1 ـ ص 29.

2 ـ راجع المجلد السابع من هذا التّفسير، ذيل الآية 39 من سورة الرعد.

3 ـ طه، 50.

4 ـ الأنبياء، 73.

(74)

4 ـ لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟

واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلماذا خصت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟

السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، مالم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة).

وبعبارة اُخرى: الأفراد الفاقدون للإِيمان على قسمين:

قسم يبحث عن الحق، ويحمل مقداراً من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق أنّى وجده.

وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء، لا يبحث عن الحق، بل يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده.

ومن المسلم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر، أما القسم الثاني فلا حظّ لهم في ذلك.

وبعبارة ثالثة: كما إنّ «فاعليّة الفاعل» شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية التشريعية، كذلك «قابلية القابل» شرط فيهما أيضاً.

الأرض السبخَةُ لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات، فقابلية الأرض شرط في استثمار ماء المطر.

وساحة الوجود الإنساني لا تتقبّل بذر الهداية ما لم يتمّ تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد. ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنه: (هُدىً لِلْمُتَقِينَ).

* * *

(75)

الآيات

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنـَهُمْ يُنفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاَْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)

التّفسير

آثار التقوى في روح الانسان وبدنه:

في بداية هذه السّورة قسم القرآن النّاس حسب ارتباطهم بخط الإسلام على ثلاثة أقسام:

1 ـ المتقون: وهم الذين تقبّلوا الإسلام في جميع أبعاده.

2 ـ الكافرون: ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين، ويعترفون بكفرهم، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.

3 ـ المنافقون: ولهم وجهان، فهم مسلمون ظاهراً أمام المسلمين، وكفّار أمام أعداء الدين. وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعاً وإن تظاهروا بالإسلام.

المجموعة الثالثة تضر بالإسلام ـ دون شك ـ أكثر من المجموعة الثانية، ولذلك فإن القرآن يقابلهم بشدّة أكثر كما سنرى.

(76)

هذه المسألة لا تختص بالإسلام طبعاً، كل المذاهب في العالم لها مؤمنون معتقدون، أو معارضون صريحون، أو منافقون محافظون. كما أنها لا تختص بزمان معين، بل هي سارية في كل العصور.

الآيات المذكورة تدور حول المجموعة الاُولى، وتطرح خصائصهم في خمسة عناوين هي:

1 ـ الإيمان بالغيب:

«الغيب والشهود» نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن وخفي. وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسّنا. التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمـَنُ الرَّحِيمُ)(1).

الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاُولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة. ومن هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين.

المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، واجتازوا جدرانه، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصرّ معارضوهم على جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصوراً في موقعه من العالم المادي. وهذه الرؤية المادية تقمّصت في عصرنا صفات العلمية والتقدمية والتطورية!

لو قارنّا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أن: «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أن عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، وخالق عالم الوجود

___________________________

1 ـ الحشر، 22.

(77)

غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزليّ وأبديّ. وأنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. ويعتقدون أنّ الإنسان ـ بما يحمله من روح إنسانية ـ يسمو بكثير على سائر الحيوانات. وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، ونافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.

بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه. وأن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، وتندمج أجزاؤه مرّة اُخرى بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، وليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات(1)!

ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة! وما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة إجتماعية وسلوك ونظام!

الرؤية الاُولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين. والثانية، لا تقدّم لصاحبها أي مبرّر على ممارسة الأمور اللهم إلاّ ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطّهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الإستعمار والإستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب. ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوى.

يدور البحث في كتب التّفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلى ذات الباري تعالى، أم أنه يشمل ـ أيضاً ـ الوحي والقيامة وعالم الملائكة وكل ما هو وراء الحس؟ ونحن نعتقد أن الآية أرادت المعنى الشامل لكلمة الغيب، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس ـ كما ذكرنا ـ أول نقطة افتراق المؤمنين عن

___________________________

1 ـ نقلا عن: «محمّد والقرآن».

(78)

الكافرين، إضافة إلى ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنى خاص.

بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت(عليهم السلام) تفسّر الغيب في الآية، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام الله عليه) و الذي نعتقد بحياته وخفائه عن الأنظار، وهذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنى الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالباً مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة، وسنرى في صفحات هذا التّفسير أمثلة كثيرة لذلك. والروايات المذكورة بشأن تفسير معنى الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنى الإيمان بالغيب، ليشمل حتى الإيمان بالمهدي المنتظر(عليه السلام) ويمكننا القول أنّ الغيب له معنى واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.

2 ـ الإرتباط بالله:

الصفة الاُخرى للمتقين هي أنهم (يُقيمُونَ الْصَّلاةَ).

«الصّلاة» باعتبارها رمز الإرتباط بالله، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ماوراء الطبيعة على ارتباط دائم بالخالق العظيم. فهم لا يحنون رؤوسهم إلا أمام الله، ولا يستسلمون إلاّ لرب السماوات والأرض، ولذلك لا معنى في قاموس حياتهم لعبادة الاوثان، أو التسليم أمام الجبابرة والطواغيت.

مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الاُخرى، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.

الإنسان الذي يقف خمس مرات يوميّاً أمام الله، يتضرع إليه ويناجيه، ينطبع فكره وعمله وقوله بطابع إلهي، ومثل هذا الإنسان لا ينهج طريقاً فيه سخط الله (على أن يكون تضرعه لله صادراً عن أعماق قلبه ومنطلقاً من تمام وجوده)(1).

___________________________

1 ـ بشأن أهمية الصلاة وآثارها التربوية الكبرى، راجع تفسير الآية 114 من سورة هود (في المجلد السابع من هذا التّفسير).

(79)

3 ـ الإرتباط بالنّاس:

المتقون ـ إضافة إلى ارتباطهم الدائم بالخالق ـ لهم إرتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم (ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

يلاحظ أن القرآن لا يقول: ومن أموالهم ينفقون، بل يقول: (ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ)، وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية.

فالمتقون لا ينفقون أموالهم فسحب، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الإجتماعية، وبعبارة اُخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقّع الجزاء منه.

الملاحظة الاُخرى: إن الإنفاق قانون عام في عالم الخليقة، وخاصة في التركيب العضوي لكل موجود حي. قلب الإنسان لا يعمل لنفسه فقط، بل ينفق ما عنده لجميع خلايا البدن. الدماغ والرئة وسائر أجهزة البدن تنفق دائماً من ثمار عملها، والحياة الجماعية ـ أساساً ـ لا مفهوم لها دو نما إنفاق(1).

الإرتباط بالنّاس في الحقيقة حصيلة الإرتباط بالله. فالإنسان المرتبط بالله يؤمن أن كل ما لديه من نِعَم إنّما هي مواهب إلهيّة مودعة لديه لفترة زمنيّة معينة. ومن هنا فلا يزعجه الإنفاق بل يسره ويفرحه، لأنه بالإنفاق قسّم مال الله بين عباد الله، وبقيت له نتائج هذا العمل وبركاته المادية والمعنوية. وهذا التفكير يطهّر روح الإنسان من البخل والحسد، ويحوّل الحياة من ساحة لتنازع البقاء إلى مسرح للتعاون حيث يشعر كل فرد بأنه مسؤول أن يضع ما لديه من مواهب تحت تصرف كل المحتاجين، مثل الشمس تفيض بأشعتها على الموجودات دون أن

___________________________

1 ـ راجع بشأن الإنفاق وأهميته وآثاره، المجلد الثاني من هذا التّفسير، ذيل الآيات 261 ـ 274 من سورة البقرة.

(80)

تتوقع من أحد جزاء.

في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) بشأن تفسير الآية (وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) يقول: «إنَّ مَعْنَاهُ وِمِمّا عَلَّمْنَاهُمْ يَبُثُّونَ»(1).

بديهي أنّ الرّواية لا تريد أن تجعل الإنفاق مختصاً بالعلم، بل إن الإمام الصادق يريد ـ بذكر هذا اللون من الإنفاق ـ أن يوسّع مفهوم الإنفاق كي لا يكون مقتصراً على الجانب المالي كما يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة.

ومن هنا يتضح ضمنياً أن الإنفاق المذكور في الآية، لا يقتصر على الزكوات الواجبة والمستحبة، بل يتسع معناه ليشمل كل مساعدة بلا مقابل.

4 ـ الإيمان بالأنبياء(عليهم السلام):

الخاصية الرابعة للمتّقين الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإِلهية; (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ). وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أن المتقين يؤمنون بتوافق دعوة الأنبياء في المباديء والأُسس بأنهم جميعاً هداة البشرية نحو صراط مستقيم واحد، أحدهم يكمل الشوط الذي قطعه سلفه في قيادة البشرية نحو كمالها المرسوم. ويؤمنون بأن الأديان الإلهية ليست وسيلة للتفرقة والنفاق، بل على العكس وسيلة للإرتباط وعامل للشّدّ بين أبناء البشر.

الاشخاص الذين يحملون مثل هذه الرّؤية ومثل هذا الإدراك يسعون تطهير أرواحهم من التعصّب، ويؤمنون بما جاء به جميع الأنبياء لهداية البشر وتكاملهم، ويحترمون كل دعاة وهداة طريق التوحيد.

الإيمان برسالات الأنبياء السابقين لا يمنع طبعاً من انتهاج رسالة خاتم

___________________________

1 ـ مجمع البيان، ونور الثقلين، في تفسير الآية المذكورة.

(81)

الأنبياء في الفكر والعمل، لأن هذه الرّسالة هي آخر حلقة من السلسلة التكاملية للأديان، وعدم انتهاجها يعني التخلف عن المسيرة التكاملية للبشرية.

5 ـ الإيمان بيوم القيامة

آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

إنهم يوقنون بأن الإنسان لم يخلق هملا وعبثاً. فالخليقة عينت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقاً بموته إذ لو كان الموت نهاية المسير لكانت حياة الإنسان عبثاً لا طائل تحته.

المتّقون يقرّون بأن عدالة الله المطلقة تنتظر الجميع، ولا شيء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.

هذا اللون من التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء والسكينة، ويجعله يتحمل أعباء المسؤولية ومشاقها بصدر رحب، ويقف أمام الحوادث كالطود الأشمّ، ويرفض الخضوع للظلم. وهذا التفكير يملأ الإنسان ثقة بأن الأعمال ـ صالحها وطالحها ـ لها جزاء وعقاب، وبأنه ينتقل بعد الموت إلى عالم أرحب خال من كل ألوان الظلم، يتمتع فيه برحمة الله الواسعة وألطافه الغزيرة.

الإيمان بالآخرة يعني شقّ حاجز عالم المادة والدخول إلى عالم أسمى. ويعني أن عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمى ومدرسة إعدادية له، وأنّ الحياة في هذا العالم ليست هدفاً نهائيّاً، بل تمهيد وإعداد للعالم الآخر.

الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينية، فهي ليست هدفاً لخلقة الإنسان، بل مرحلة تكاملية من أجل حياة اُخرى. وما لم يولد هذا الجنين سالماً خالياً من العيوب، لا يستطيع أن يعيش سعيداً في الحياة التالية.

الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان. يهبه الشجاعة والشهامة، لأن أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم هو وسام «الشهادة» على طريق

(82)

هدف مقدس إلهي، والشهادة أحبّ شيء للإنسان المؤمن، وبداية لسعادته الأبديّة.

الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذّنوب. بعبارة اُخرى: يتناسب ارتكابنا للذنوب مع إيماننا بالله واليوم الآخر تناسباً عكسياً، فكلما قوي الإيمان قلت الذنوب، يقول الله سبحانه لنبيّه داود: (وَلاَ تَتَّبعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ)(1).

نسيان يوم الحساب أساس كل طغيان وظلم وذنب، وبالتالي أساس استحقاق العذاب الشديد.

آخر آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون بالصفات الخمس المذكورة، تقول: (أُوْلئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم، وعبارة (مِنْ رَبِّهِمْ)إشارة إلى هذه الحقيقة.

واستعمال حرف (على) في عبارة (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) يوحي بأن الهداية الإلهية مثل سفينة يركبها هؤلاء المتقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح، (لأن حرف (على) يوحي غالباً معنى الإستعلاء.

واستعمال كلمة «هدى» في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم الله بها.

وتعبير (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يفيد الإنحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إنّ الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين(2)!

___________________________

1 ـ ص، 26.

2 ـ صاحب «المنار» يصر على أن تكرار كلمة «أولئك» في الآية يفيد الإشارة إلى مجموعتين:

الاُولى ـ أولئك الذين يتصفون بالإيمان بالغيب، وبإقامة الصلاة، وبالإنفاق. والثانية ـ هم المؤمنون بالوحي السماوي وبالاخرة. نحن نستبعد كثيراً هذا التّفسير، لأن الصفات الخمس المذكورة مترابطة لا يمكن التفكيك بينها، وكلها تصف مجموعة واحدة.

(83)

بحثان

1 ـ مواصلة طريق الإيمان والعمل:

الآيات المذكورة استعملت الفعل المضارع الذي يشير عادة إلى الإِستمرار (يَؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ـ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ـ يُنْفِقُونَ ـ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). وهذا يعني أن المتقين والمؤمنين الحقيقيين هم الذين يواصلون مسيرتهم الحياتية بثبات واستمرار، دون تعثر أو تلكّؤ أو توقف.

هؤلاء ينطلقون منذ البدء بروح البحث عن الحق، وهذا يؤدي بهم إلى تلبية دعوة القرآن، والقرآن بعد ذلك يوجد فيهم الخصائص الخمس المذكورة.

2 ـ ما هي حقيقة التقوى؟

التقوى من الوقاية، أي الحفظ والصيانة(1)، وهي بعبارة اُخرى جهاز الكبح الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.

لهذا السبب وصف أمير المؤمنين علي(عليه السلام) التقوى بأنها الحصن الذي يقي الإنسان أخطار الإنزلاق إذ قال: «اِعْلَمُوا عِبَادَ الله اَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْن عَزِيز»(2).

وفي النصوص الدينية والأدبية تشبيهات كثيرة تجسّم حالة التقوى، فعن الامام علي(عليه السلام) قال: «أَلا وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وأُعْطُوا أزِمَّتَها، فَاَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ»(3).

___________________________

1 ـ يقول الراغب في مفرداته: الوقاية حفظ الشيء ممّا يؤذيه ويضرّه، والتقوى جعل النفس في وقاية ممّا يخاف، لذلك يسمى الخوف تارة تقوى بينما الخوف سبب للتقوى. وفي عرف الشرع، التقوى حفظ النفس عمّا يُؤثم. و «كمال التقوى» اجتناب المشتبهات.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 157.

3 ـ نهج البلاغه، الخطبة 16.

(84)

وعبد الله بن المعتز شبّه التقوى بحالة رجل يسير على طريق شائكة، ويسعى إلى أن يضع قدمه على الأرض بتأنّ وحذر، كي لا تخزه الأشواك، أو تتعلق بثيابه، يقول:

خَل الذُّنُوبَ صَغيرَهَا وَكَبيرَهَا فَهُوَ التُّقى

وَاصْنَعْ كَمَاش فَوْقَ أرْ ضِ الشَّوْك يَحْذَرُ مَا يَرى

لا تَحْقِرَنَّ صَغيرَة اِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصى!(1)

هذا التشبيه يفيد أيضاً أن التقوى لا تعني العزلة والإنزواء عن المجتمع، بل تعني دخول المجتمع، وخوض غماره، مع الحذر من التلوّث بأدرانه إن كان المجتمع ملوثاً.

بشكل عام، فانّ حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان بالله واليوم الآخر. ومعيار فضيلة الإنسان وافتخاره، ومقياس شخصيته في الإسلام، حتى أضحت الآية الكريمة: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ اَتْقَاكُمْ)(2) شعاراً إسلامياً خالداً.

يقول الامام عليّ(عليه السلام): «اِنَّ تَقْوى اللهِ مِفْتَاحٌ سَدَادٌ، وَذَخيرَةُ مَعَاد، وَعِتْقٌ من كُلِّ مَلَكَة، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلكَة»(3).

جدير بالذكر أن التقوى ذات شعب وفروع، منها التقوى المالية والإقتصادية، والتقوى الجنسية والإجتماعية، والتقوى السياسية ... .

* * *

___________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 1، ص 62.

2 ـ الحجرات، 14.

3 ـ نهج البلاغة، الخطبة 230.

(85)

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى  أَبْصَـرِهِمْ غِشَـوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)

التّفسير

المجموعة الثّانية: الكفّار المعاندون

هذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماماً للمتقين، والآيتان المذكورتان بيّنتا باختصار صفات هؤلاء.

الآية الاُولى تقول: إن الإنذار لا يجدي نفعاً مع هؤلاء، فهم متعنتون في كفرهم (إنّ الّذينَ كَفُروا سَواءٌ عَلَيهِم ءَأنذرتَهم أمْ لَم تُنذِرهُم لا يُؤمِنون) بعكس الطائفة الاُولى المستعدّة لقبول الحق لدى أول ومضة.

هذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الإنصياع للحق حتى لو اتضح لديها. من هنا كان القرآن غير مؤثر في هؤلاء. وهكذا الوعد والوعيد، لأنهم يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والإستسلام له.

الآية الثّانية تشير إلى سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول: (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)، ولذلك استحقوا أن يكون (لَهُمْ

(86)

عَذَابٌ عَظِيمٌ).

أجهزة استقبال الحقائق معطوبة عند هؤلاء، العين التي يرى المتقون فيها آيات الله، والاُذن التي يسمعون بها نداء الحق، والقلب الذي يدركون به الحقائق، كلها قد تعطّلت وتوقفت عن العمل لدى الكافرين. هؤلاء لهم عيون وآذان وعقول، لكنهم يفتقدون قدرة «الرؤية» و«الإدراك» و«السمع». لأن انغماسهم في الإنحراف وعنادهم ولجاجهم كلها عناصر تشكل حجاباً أمام أجهزة المعرفة.

الإنسان قابل للهداية طبعاً ـ إن لم يصل إلى هذه المرحلة ـ مهما بلغ به الضلال، أمّا حينما يبلغ في درجة يفقد معها حسّ التشخيص «فلات حين نجاة» لأنه افتقد أدوات الوعي والفهم، ومن الطبيعي أن يكون في إنتظاره عذاب عظيم.

* * *

1 ـ سلب قدرة التشخيص ومسألة الجبر.

أول سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ ...)فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجباراً، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه. أليس هذا بجبر؟ وإذا كان جبراً فلماذا العقاب؟

القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤلات ويقول: إن هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنتهم أمام الحق، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر. يقول تعالى: (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)(1) و يقول:

___________________________

1 ـ النساء، 155.

(87)

 (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَار)(1) ويقول أيضاً: (اَفَرَاَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَاَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً)(2).

كل هذه الآيات تقرر أنّ السبب في سلب قدرة التشخيص، وتوقف أجهزة الإدراك عن العمل يعود إلى الكفر والتكبر والتجبر واتباع الهوى واللجاج والعناد أمام الحق، هذه الحالة التي تصيب الإنسان، هي في الحقيقة ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه.

من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري، أن الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به، يتخذ في المرحلة الاُولى ماهية الـ«حالة» ثمّ يتحول إلى «عادة» وبعدها يصبح «ملكة» و جزءً من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحياناً درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبداً. لكن الإنسان إختار طريق الإنحراف هذا عن علم ووعي، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله، دون أن يكون في المسألة جبر. تماماً مثل شخص فقأ عينيه وسدَّ أُذنيه عمداً، كي لا يسمع ولا يرى.

ولو رأينا أن الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى الله، فذلك لأن الله هو الذي منح الإنحراف مثل هذه الخاصية. (تأمّل بدقّة).

عكس هذه الظاهرة مشهود أيضاً في قوانين الطبيعة، أي إن الفرد السائر على طريق الطهر والتقوى والاستقامة تمتد يد الله عزوجل إليه لتقوّي حاسّة تشخيصه وإدراكه ورؤيته، هذه الحقيقة توضحها الآية الكريمة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا اِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً)(3).

في حياتنا اليومية صور عديدة لأفراد ارتكبوا عملا محرّماً، فتألموا في

___________________________

1 ـ المؤمن، 35.

2 ـ الجاثية، 23.

3 ـ الأنفال، 29.

(88)

البداية لما فعلوه واعترفوا بذنبهم، لكنهم استأنسوا تدريجياً بفعلهم، وزالت من نفوسهم حساسيتهم السابقة تجاه الذنب، ووصل أمرهم إلى حدٍّ يجدون اللذة والإنشراح في الإنحراف، وقد يضفون عليه صفة الواجب الإنساني أو الواجب الديني!!

وفي تأريخنا الإسلامي ظهر مجرمون سفّاكون مولعون بإزهاق الأرواح والتنكيل بالمسلمين كما ذكر في حالات «الحجاج بن يوسف الثقفي» أنه كان يضع لأعماله الإجرامية تبريرات دينية، ويقول مثلا: إن الله سلّطنا على هؤلاء النّاس المذنبين لنظلمهم، فهم مستحقون لذلك!!

وكذلك قيل: إنّ جنود المغول خطب في أحد مدن ايران الحدودية وقال: ألستم تعتقدون أن عذاب الله يصيب المذنبين؟ فنحن عذاب الله عليكم، فلا ينبغي لكم المقاومة.

2 ـ لماذا يصرّ الأنبياء على هداية هؤلاء إذا كانوا لا يهتدون؟

وهذا سؤال آخر يُطرح في إطار الآيات المذكورة. والجواب عليه يتضح لوعرفنا أن العقاب الإلهي يرتبط بمواقف الإنسان العملية وسلوكه الفعلي، لا بما يُكنّه في قلبه من زيغ وضلال فقط. من هنا كان لابدّ من توجيه الدعوة حتى إلى هؤلاء الذين لا يهتدون، بعد ذلك يستحق الفرد العقاب تبعاً لموقفه من الدعوة. بعبارة اُخرى لابدّ من «إتمام الحجّة» قبل العقاب.

بعبارة موجزة: الثّواب والعقاب يتوقفان حتماً على العمل بعد إنجازه، لا على المحتوى الفكري والروحي للفرد.

أضف إلى ما سبق: أن الأنبياء بُعثوا للناس جميعاً، وهؤلاء الذين (طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) قليلون في المجتمع، أما الأكثرية فهم التائهون الذين يتقبّلون الهداية ضمن برنامج تعليمي تربوي صحيح.

(89)

3 ـ الختم على القلوب:

في الآيات المذكورة وآيات اُخرى عبّر القرآن عن عملية سلب حسّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل «ختم»، وأحياناً بالفعل «طبع» و«ران».

في اللغة «خَتَمَ» الإناء بمعنى سدّه بالطين أو غيره، وأصلها من وضع الختم على الكتب والأبواب كي لا تُفتح، والختم اليوم مستعمل في الإستيثاق من الشّيء والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية الهامة.

وهناك شواهد من التأريخ تدلّ على أن الملوك وأرباب السلطة كانوا سابقاً يختمون صرر الذهب بخاتمهم الخاص ويبعثون بها إلى المنظورين للاطمئنان على سلامة الصرر وعدم التلاعب في محتوياتها.

والشائع في هذا الزمان الختم على الطرود البريدية أيضاً، وقد استعمل القرآن كلمة «الختم» هنا للتعبير عن حال الاشخاص المعاندين الذين تراكمت الذنوب والآثام على قلوبهم حتى منعت كلمة الحق من النفوذ اليها وأمست كالختم لا سبيل إلى فتحه.

و«طبع» بمعنى ختم أيضاً.

أما «ران» فمن «الرين» وهو صدأ يعلو الشيء الجليّ، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرّذيلة: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(1).

المهم أن الإنسان ينبغي أن يكون حذراً لدى صدور الذنب منه، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في

___________________________

1 ـ المطففين، 14.

(90)

القلب.

في حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): «مَا مِنْ عَبْد مُؤْمِن إلاّ وَفي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجُ فِي تِلْكَ النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا تَابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوَادُ، فَإِنْ تَمَادى في الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ حَتّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ، فَإِذَا غُطّيَ الْبَيَاضُ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلَى خَيْر أبَدَاً، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(1).

4 ـ المقصود من «القلب» في القرآن:

لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟!

الجواب على ذلك: أن القلب في القرآن له معان متعددة منها:

1 ـ بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)(2).

2 ـ بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه: (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)(3).

3 ـ بمعنى مركز العواطف كقوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ)(4)وقوله: (فَبَِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(5).

لمزيد من التوضيح نقول:

في وجود الإنسان مركزان قويّان هما:

___________________________

1 ـ اُصول الكافي، ج 2، باب الذنوب، ح 20، ص 209.

2 ـ ق، 37.

3 ـ الأحزاب، 10.

4 ـ الأنفال، 12.

5 ـ آل عمران، 159.

(91)

1 ـ مركز الإدراك، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب. لذلك نشعر أننا نستقبل المسائل الفكرية بدماغنا حيث يتمّ تحليلها وتفسيرها. (وإن كان الدماغ والأعصاب في الواقع وسيلة وآلة للروح).

2 ـ مركز العواطف، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر. والمسائل العاطفية تؤثر أول ما تؤثر على هذا المركز حيث تنقدح الشرارة الاُولى.

حينما نواجه مصيبة فإننا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري، وحينما يغمرنا الفرح فاننا نحسّ بالسرور والإنشراح في هذا المركز (لا حظ بدقّة).

صحيح أن المركز الأصلي للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية، لكن المظاهر وردود الفعل الجسمية لها مختلفة. ردود فعل الفهم والإدراك تظهر أولا في جهاز الدماغ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهمّ تظهر في القلب بشكل واضح، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.

ممّا تقدم نفهم سبب ارتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص)، وارتباط المسائل العقلية بالقلب (أي العقل أو الدماغ).

أضف إلى ما تقدم أنّ عضو القلب له دور مهم في حياة الإنسان وبقائه، وتوقفه لحظة يؤدي إلى الموت، فماذا يمنع أن تنسب النشاطات الفكرية والعاطفية إليه؟!

5 ـ لماذا جاءت «قُلُوبُهُمْ» و«أَبْصَارُهُمْ» بصيغة الجمع، و«سَمْعُهُمْ» بصيغة المفرد؟

يتكرر في القرآن استعمال القلب والبصر بصيغة الجمع: قلوب وأبصار، بينما يستعمل السمع دائماً بصيغة المفرد، فما السرّ في ذلك؟

(92)

قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى أن القرآن استعمل السمع والبصر بصيغة المفرد أيضاً كقوله تعالى: (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)(1).

الشّيخ الطّوسي(رحمه الله) في تفسير «التبيان» ذكر نقلا عن لغوي معروف، أن سبب ذلك قد يعود إلى أحد أمرين:

أوّلا: إن كلمة «السمع» قد تستعمل باعتبارها اسم جمع، ولا حاجة عندئذ إلى جمعها.

ثانياً: إن كلمة «السمع» لها معنى المصدر، والمصدر يدل على الكثير والقليل، فلا حاجة إلى جمعه.

ويمكننا أن نضيف إلى ما سبق تعليلا ذوقياً وعلمياً هو أن الإدراكات القلبية والمشاهدات العينية تزيد بكثير على «المسموعات»، ولذا جاءت القلوب والأبصار بصيغة الجمع، والفيزياء الحديثة تقول لنا إن الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين. (تأمل بدقة).

* * *

___________________________

1 ـ الجاثية، 23.

(93)

الآيات

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوِمِ الاَْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8) يُخَـدِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ  أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ(10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلاَ  إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ(12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ أَلاَ  إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهآءُ وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ(13) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَـطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ(14) اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيـنِهِمْ يَعْمَهُونَ(15) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَـلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجـرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ(16)

التّفسير

المجموعة الثّالثة: المنافقون

هذه الآيات تبين ـ باختصار وعمق ـ الخصائص الروحية للمنافقين

(94)

وأعمالهم.

الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة.

هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغّلت في أعماق المسلمين، وشكّلت خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين. كان تشخيصهم صعباً لأنهم متظاهرون بالإسلام، غير أن القرآن بيّن بدقة مواصفاتهم وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم.

الآيات المذكورة قبلها بيّنت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَاهُمْ بِمُؤْمِنينَ).

هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعاً من الشطارة والدهاء (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بينما لا يشعر هؤلاء أنهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبدّدون بإنحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلاّ الخسران والعذاب الإلهي. (وَمَا يَخْدَعُونَ إلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).

في الآية التالية يبيّن القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض. الإنسان السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأن الظاهر والباطن، والروح والجسم، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمناً فالإيمان يتجلى في كل وجوده، وإذا كان منحرفاً فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.

وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية. إنه نوع من التضاد والإنفصال في الشخصية الإنسانية: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

وبما أنّ سنّة الله في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر سبل التقدّم لكل من يجهد في وضع قدمه على طريق. وبعبارة اُخرى: إن تكريس أعمال الإنسان وأفكاره في خط معين، تدفعه نحو الإنغماس والثبات في ذلك الخط فقد أضاف القرآن قوله: (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً).

(95)

وبما أن الكذب رأس مال المنافقين، يبرّرون به ما في حياته من متناقضات، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: (وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).

ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر أوّلا أنهم يتشدّقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: (وَإِذَا قَيِلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ، قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلاّ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ).

ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان، لو تمادى في الغيّ والضلال، يفقد قدرة التشخيص، بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزءً من طبيعته. والمنافقون أيضاً بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.

علامتهم الاُخرى: إعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم ذووا عقل وتدبير، وأن المؤمنين سفهاء وبسطاء: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ، قَالُوا: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ؟!!).

وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الإنصياع للحق وإتباع الدعوة الإلهية سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقّلا ودراية!! غير أن الحقيقة عكس مايرون: (أَلاّ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ).

أليس من السفاهة أن لا يضع الإنسان لحياته خطاً معيناً، ويبقى يتلوّن بألوان مختلفة؟! أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان وحدة شخصيته، ويتجه نحو إزدواجية الشخصية وتعدّد الشخصيات في ذاته، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟!

العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلوّنهم بألوان معينة تبعاً لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين:

(96)

 (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: آمَنَّا، وَإِذَا خَلَوا إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إنّا مَعَكُمْ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ)!.

يؤكدون لشياطينهم أنهم معهم، وأن ولاءهم للمؤمنين ظاهري، هدفه الإستهزاء.

وبلهجة قويّة حاسمة يردّ القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: (اللهُ يَسْتَهْزِيءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(1).

الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة: (اُولئكَ الّذِينَ اشتَرَوا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ).

* * *

1 ـ ظهور النّفاق وأسبابه:

حينما تندلع الثورة في منطقة معينة فإنّ مصالح الفئة الظالمة الناهبة المستبدة تتعرض للخطر حتماً، خاصة إذا كانت الثورة مثل ثورة الإسلام تقوم على أساس الحقّ والعدالة. هذه الفئة تسعى للإطاحة بالثورة عن طريق السخريّة والإستهزاء أوّلا، ثُمّ بالإستفادة من القوة المسلحة والضغوط الإقتصادية، والتضليل الإجتماعي.

وحين تبدو في الأُفق علامات انتصار الثورة تعمد فئة من المعارضين إلى تغيير موقفها، فتستسلم ظاهرياً، وتتحول في الواقع إلى مجموعة معارضة سريّة.

هؤلاء يسمّون «منافقين» لإنطوائهم على شخصيتين مختلفتين (المنافق

___________________________

1 ـ يعمهون، من «العَمَه» أي التردّد في الأمر، وأيضاً بمعنى عمي القلب والبصيرة بسبب التحيّر (راجع: مفردات الراغب، وتفسير المنار، وقاموس اللغة).

(97)

مشتقة من النفق: وهو الطريق النافذ في الأرض المحفور فيها للإستتار أو الفرار)، وهم أخطر أعداء الثورة، لأن مواقفهم غير واضحة، والاُمّة الثائرة لا تستطيع أن تعرفهم وتطردهم من صفوفها، لذلك يتغلغلون في صفوف النّاس المخلصين الطيبين، ويتسلمون أحياناً المناصب الحساسة في المجتمع.

ثورة الإسلام في عصرها الأوّل واجهت مثل هذه المجموعة. فبعد الهجرة المباركة وضعت أول لبنة للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وازداد الكيان الإسلامي الوليد قوة بعد إنتصار المسلمين في غزوة «بدر». وهذه الإنتصارات عرضت للخطر مصالح زعماء المدينة، وخاصة اليهود منهم، لأن اليهود كانوا يتمتعون في المدينة بمكانة ثقافية واقتصادية مرموقة. وهؤلاء أنفسهم كانوا يبشّرون قبل البعثة النّبوية المباركة بظهور النّبي.

كما كان في المدينة أفراد مرشحون للزعامة والملكية، لكن الهجرة النّبوية بدّدت آمال هؤلاء المتضررون من الدعوة رأوا أن الجماهير تندفع نحو الإسلام، وتنقاد إلى النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى عمّت الدعوة ذويهم وأقاربهم.

وبعد مدّة من الدين الجديد، لم يروا بدّاً من الإستسلام والتظاهر بالإِسلام، تجنباً لمزيد من الأخطار الإقتصادية والإجتماعية وحذراً من الإبادة، خاصة وأن قوّة العربي تتمثل في قبيلته، والقبائل أسلمت للدين الجديد لكن هؤلاء راحوا يخططون خفية للإطاحة بالإسلام.

بعبارة موجزة، إن ظاهرة «النفاق» في المجتمع، تعود إلى عاملين: أحدهما، إنتصار الثورة وسيطرة الرسالة الثورية على المجتمع، والآخر: انهزام المعارضين نفسياً، وفقدانهم للشجاعة الكافية لمواجهة المدّ الجديد، واضطرارهم إلى الإستسلام الظاهري أمام الدعوة.

* * *

(98)

2 ـ ضرورة معرفة المنافقين في كل مجتمع:

ظاهرة النفاق والمنافقين لا تختص ـ دون شك ـ بعصر الرسالة الأول، بل هي ظاهرة عامة تظهر بشكل وآخر في كل المجتمعات. من هنا لابدّ للجماعة المسلمة أن تعرف أوصافهم كما جاء في القرآن، كي تحبط مؤامراتهم وتقف بوجههم. في الآيات السابقة وفي سورة المنافقين وهكذا في النصوص الإسلامية وردت للمنافقين أوصاف مختلفة منها:

1 ـ كثرة الضجيج والإدعاءات الفارغة، أو بعبارة اُخرى: كثرة القول وقلّة العمل المفيد المتزن.

2 ـ التلوّن والتذبذب، فمن المؤمنين يقولون «آمنا» ومع المعارضين يقولون «إنّا معكم».

3 ـ الإنفصال عن الاُمّة، وتشكيل الجمعيات السرية وفق خطط مبيّتة.

4 ـ المكر والخداع والكذب والتملق والنكول والخيانة.

5 ـ التعالي على النّاس، وتحقيرهم، واعتبارهم بلهاء سفهاء، إلى جانب الإعتداد بالنفس.

على أي حال، إزدواجية الشخصية، والتضاد بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والإجتماعي.

وما أجمل تعبير القرآن في حقّ هؤلاء إذ يقول: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، وأيّ مرض أسوأ من إزدواجية الظاهر والباطن، ومن التعالي على النّاس؟!!

هذا المرض مثل سائر الأمراض الخفية التي تصيب القلب لايمكن اخفاؤه تماماً، بل تظهر علائمه بوضوح على جميع أعضاء الإنسان.

في مجلدات هذا التّفسير شرح أوفى لحالة النفاق والمنافقين لدى البحث في الآيات 141 ـ 143 من سورة النساء (المجلد الثالث).

(99)

وفي الآيات 49 ـ 57 من سورة التّوبة (المجلد السادس).

وفي الآيات 62 ـ 85 من سورة التوبة أيضاً (المجلد السادس).

* * *

3 ـ سعة معنى النفاق:

النفاق في مفهومه الخاص ـ كما ذكرنا ـ صفة أُولئك الذين يظهرون الإِسلام، ويبطنون الكفر. لكن النفاق له معنىً عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن، وكل افتراق بين القول والعمل. من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه «خيوط النفاق».

ففي الحديث النّبوي: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: مَنْ إِذَا ائْتُمُنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ»(1).

الحديث لايدور هنا طبعاً عن المنافق بالمعنى الخاص، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة، وخاصة بشكل رياء، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): «أَلرِّيَاءُ شَجَرَةٌ لاَ تُثْمِرُ إِلاَّ الشِّرْكَ الْخَفِيَّ، وَأَصْلُهَا النِّفَاقُ»(2).

وفي نهج البلاغة نصّ رائع في وصف المنافقين عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)يقول فيه:(3) «أُوصِيكُمْ عِبَادَ الله بِتَقْوَى الله، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ المُضِلُّونَ، وَالزّالُّونَ الْمُزِلُّونَ(4)، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَانَاً، وَيَفْتَنُّونَ إفْتِنَاناً(5)، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَاد،

___________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 605.

2 ـ سفينة البحار، ج 1، مادة (رئى).

3 ـ ننقل نص الخطبة مع هوامشها كما جاءت في نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، ص 381 (م).

4 ـ الزالون من زلّ أخطأ. والمزلون مِن أزله إذَا أوقعه في الخطأ.

5 ـ يفتنون أي يأخذون في فنون من القول لا يذهبون مذهباً واحداً. ويعمدونكم أي يقيمونكم بكل عماد. والعماد: ما يقام عليه البناء. أي إذا ملتم عن أهوائهم أقاموكم عليها بأعمدة من الخديعة حتى توافقوهم. والمرصاد محل الإِرتقاب. ويرصدونكم: يقعدون لكم بكل طريق ليحوّلوكم عن الإِستقامة.

(100)

وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَاد، قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ(1) وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ. يَمْشُونَ اَلْخَفَاءَ(2)، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءُ، وَفِعْلُهُمْ الدّاءُ الْعَيَاءُ(3)، حَسَدَةُ الرَّخَاءِ(4)، وَمُؤَكِّدُو الْبَلاَءِ، وَمُقْنِطُو الرَّجَاءِ، لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيق صَرِيعٌ(5) وَإِلى كُلِّ قَلْب شَفِيعٌ، وَإِلَى كلِّ شَجْو دُمُوع(6) يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ(7) وَيَتَراقَبُونَ الْجَزَاءً: إِنْ سَأَلُوا اَلْحَفُوا(8)، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا ...».

* * *

4 ـ مؤامرة المنافقين:

المنافقون يشكّلون أخطر تجمع معارض، لا على الإسلام فحسب، بل على كلّ رسالة ثورية تقدمية، حيث ينفذون بين صفوف المسلمين، ويستغلّون كل فرصة للتآمر.

يتحدّث القرآن عن تآمر هؤلاء في صدر الإسلام ويذكر نماذج من أعمالهم.

___________________________

1 ـ دويّة أي مريضة من الدّوىَ بالقصر وهو المرض. والصفاح ـ جمع صفحة: والمراد منها صفاح وجوههم، ونقاوتها: صفاؤها من علامات العدواة وقلوبهم ملتهبة بنارها.

2 ـ يمشون مشي التستّر. ويدبون: أي يمشون على هيئة دبيب الضراء، أي يسرون سريان المرض في الجسم أو سريان النقص في الأموال والأنفس والثمرات.

3 ـ الداء العياء ـ بالفتح: الّذي أعيىْ الأطباء ولا يمكن منه الشفاء.

4 ـ حسدة: جمع حاسد، أي يحسدون على السعة، وإذا نزل بلاء بأحد أكدوه وزادوه. وإذا رجى أحد شيئاً أوقعوه في القنوط واليأس.

5 ـ الصريع: المطروح على الأرض، أي إنّهم كثيراً ما خدعوا أشخاصاً حتى أوقعوهم في الهلكة.

6 ـ الشجو: الحزن، أي يبكون تصنّعاً متى أرادوا.

7 ـ يتقارضون: كل واحد منهم يثني على الآخر ليثني الآخر عليه، كأنّ كلا منهم يسلف الآخر دَيناً ليؤديه إليه، وكل يعمل للآخر عملا يرتقب جزاءه عليه.

8 ـ ألحفوا: بالغوا في السؤال وألحوا. وإن عذلوا أي لاموا، كشفوا أي فضحوا من يلومونه.

(101)

يذكر مثلا استهانة هؤلاء بشخصية المؤمنين، وبما يقدمه المؤمنون على قدر طاقتهم من صدقات فيقول: (اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعيِنَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَيَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ)(1).

ويتخذون أحياناً في اجتماعاتهم السريّة قرارات بشأن قطع مساعدتهم المالية لأصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، كي يتفرقوا عن الرسالة والرّسول: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتى يَنْفَضُّوا، وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ)(2).

كما يتخذون القرارات بإخراج المؤمنين من المدينة بعد انتهاء الحرب والعودة إلى المدينة: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)(3).

وكانوا يتخلفون عن الجهاد بمبررات مختلفة من قبيل الانشغال بالحصاد مثلا، ويتركون الرّسول في ساعات الشدّة. وهم مع ذلك خائفين من انفضاح أمرهم وانكشاف سرّهم.

بسبب هذه المواقف العدائية التآمرية ركز القرآن على التنديد بالمنافقين في مواضع عديدة، واحتوت سورة المنافقين عرضاً مفصّلا لوضعهم. كما تضمنت سورة التوبة والحشر وسور اُخرى حملات شديدة على المنافقين، وتحدثت ثلاث عشرة آية من سورة البقرة عن صفاتهم وعواقب مكرهم.

* * *

5 ـ خداع الضمير:

المنافقون يشكلون مشكلة كبرى للمسلمين، ذلك لأن المسلمين مكلفون ـ

___________________________

1 ـ التوبة، 79.

2 ـ المنافقون، 7.

3 ـ المنافقون، 8.

(102)

من جهة ـ باحتضان كلّ من يظهر الإسلام وبالإمتناع عن تفتيش عقائد الأفراد، ومسؤولون ـ من جهة اُخرى ـ عن الحذر من مؤامرات المنافقين وتحركاتهم المشبوهة التي يستهدفون منها الوقوف بوجه الرسالة، وإن اتخذت هذه التحركات صفة إسلامية ظاهرية.

المنافقون يظنون أنهم بعملهم هذا يستطيعون أن يخدعوا المسلمين ويمرروا عليهم مؤامراتهم، بينما هؤلاء يخدعون أنفسهم.

التعبير القرآني (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يوضّح مفهوماً دقيقاً، فكلمة يخادعون تعني الخداع المشترك من الطرفين، وتبين أن هؤلاء المنافقين كانوا يعتقدون ـ لعمى بصيرتهم ـ أنّ النّبي خدّاع توسّل بالدين والنبوّة وجمع حوله السذّج من النّاس ليكون له حكم وسلطان، ومن هنا راح المنافقون يتوسلون بخدعة لمقابلة خدعة النّبي! فالتعبير القرآني المذكور يوضّح إذن لجوء المنافقين إلى الخدعة، ويبين كذلك نظرة هؤلاء الخاطئة إلى النّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم تردّ الآية الكريمة على هؤلاء وتقول: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)، فالفعل «يخدعون» يوضِّح أنّ الخداع من جانب المنافقين فقط، وتؤكد الآية أيضاً أنهم يخدعون أنفسهم دون أن يشعروا، لأنهم يبددون بأفعالهم هذه طاقاتهم العظيمة على طريق الإنحراف، ويحرمون أنفسهم من السعادة التي رسم الله طريقها لهم، ويغادرون الدنيا وهم صفر اليدين من كل خير، مثقلون بأنواع الذنوب والآثام.

لا يمكن لأحد أن يخدع الله طبعاً لأنه سبحانه عالم بالجهر وما يخفى، وتعبير «يخادعون الله» إمّا أن يكون المقصود به يخادعون الرّسول والمؤمنين، لأن من يخدع الرّسول والمؤمنين فكأنه خدع الله (في القرآن مواضع كثيرة عظم فيها الله رسوله والمؤمنين إذ قرن اسمهم باسمه).وإمّاأن يكون نقص العقلوسوءالفهم قد بلغ بالمنافقين حداً تصوروا معه أنهم قادرون على أن يخفوا على الله شيئاً من

(103)

أعمالهم (شبيه ذلك ماورد في آيات اُخرى من كتاب الله العزيز).

على أيّ حال، الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان، وأن الإنسان المنحرف الملوث كثيراً ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير، ويصبح بالتدريج مقتنعاً بأن قبائحه ليست عملا إنحرافياً، بل هي أعمال إصلاحية (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، وبذلك يخدعون أنفسهم، ويستمرون في غيّهم.

ذكر أنّ أحد القادة الأمريكيين وجّه إليه سؤال حول سبب إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي (هيروشيما وناكازاكي) اليابانيتين ممّا أدّى إلى مقتل مأئتي ألف إنسان بريء أو أصابتهم بالعاهات، فقال: نحن فعلنا ذلك من أجل السلام! ولو لم نفعل ذلك لطالت الحرب أكثر، ولذهب ضحيتها عدد أكبر من القتلى!!

المنافقون في كل عصر وفي عصرنا هذا يتشبثون بمثل هذه الأقاويل لخداع النّاس وخداع أنفسهم، فهذا الزعيم الأمريكي يضع أمامه طريقين فقط هما: إستمرار الحرب أو القصف الذري للمدن الآمنة، متناسياً طريقاً ثالثاً واضحاً وهو الكف عن الإعتداء على الشعوب وترك النّاس أحراراً مع ثرواتهم! وممّا تقدم يتضح أن النفاق وسيلة لخداع الضمير وشلّ مفعوله، وما أخطر عملية شلّ الضمير الإنساني، الذي يعتبر الواعظ الداخلي والرقيب اليقظ الأمين والمندوب الإلهي في نفس الإنسان!!.

* * *

6 ـ التجارة الخاسرة:

شبّه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا بالتجارة. ونحن في الحياة الدنيا تجار نأتي إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه لنا الله سبحانه، وعناصره العقل والفطرة والعواطف والطاقات الجسميّة المختلفة

(104)

ومواهب عالم الطبيعة، ثم قيادة الأنبياء، جمع يربحون ويفوزون ويسعدون، وجمع لا يجنون ربحاً، بل أكثر من ذلك يفقدون رأس مالهم، ويفلسون بكل ما لهذه الكلمة من معنى. المجاهدون في سبيل الله من أفراد الجمع الأول، ويقول عنهم الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم؟ تؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ بَأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(1).

والمنافقون من أبرز نماذج الجمع الثاني، فبعد أن يذكر القرآن أعمالهم التخريبية المتلبسة بظاهر الإصلاح والتعقّل يقول عنهم: (أولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَة بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَاكَانُوا مُهْتَدِينَ).

كان بمقدور هؤلاء أن ينتخبوا أفضل طريق لحياتهم، لأنهم كانوا يعيشون إلى جانب ينبوع الوحي الصافي، وفي جوّ مفعم بالصدق والإخلاص والإيمان. لكنهم فوّتوا على أنفسهم هذه الفرصة الفريدة العظيمة، وأضاعوا ما وهبهم الله من هداية فطرية في ذواتهم، ومن هداية تشريعية في إطار نور الوحي، واشتروا الضلالة وسلكوا طريقاً خالوا أنهم يستطيعون به أن يقضوا على الدعوة ويصلوا إلى مآربهم الخبيثة.

وكان في هذه المقايضة الخاطئة خسارتان:

الاُولى: ضياع ثرواتهم المادية والمعنوية. والثانية: فشلهم في تحقيق أهدافهم المشؤومة. فالإسلام سرعان ما ضرب بجرانه في أرجاء الأرض فاضحاً خطط المنافقين.

* * *

___________________________

1 ـ الصف، 10 و 11.

(105)

 

الآيات

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَـت لاَّ يُبْصِرُونَ(17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ(18) أَوْ كَصَيّب مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَـتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَـبِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَـفِرِينَ(19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـرَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـرِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىء قَدِيرٌ(20)

التّفسير

مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين:

بعد أن بين القرآن صفات المنافقين وخصائصهم، يقدّم مثالين متحركين لتجسيم وضعهم:

1 ـ (مَثَلُهُمْ) المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَدَ نَاراً) في ليلة مظلمة، كي يهتدي بها إلى طريق ويبلغ مقصده. (فَلَمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ

(106)

وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَات لاَ يُبْصِرُونَ).

لقد ظنّ هؤلاء أنهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة.

ولكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّيّة، أو بسبب نفاد الوقود، وظلّوا حائرين لا يهتدون سبيلا.

ثم تضيف الآية الكريمة أن هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق: (صُمٌ بُكمٌ عُميٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ).

والمثال المذكور يصوّر بدقّة عمل المنافقين على ساحة الحياة الإنسانية. فهذه الحياة مملوءة بطرق الإنحراف والضلال، وليس فيها سوى طريق مستقيم واحد للهداية، وهذا الطريق مليء بالمزالق والأعاصير. ولا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق الملتوية إلى الصراط المستقيم، كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق ويقاوم أمام الأعاصير، إلاّ بنور العقل والإيمان، وبمصباح الوحي الوهّاج.

وهل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان، أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل؟!

هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق، ظنوا أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين. وأن ينضمّوا إلى الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة. كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء وحنكة. وأرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء وهذه الحنكة، كضوء يشقّ لهم طريق الحياة ويوصلهم إلى مآربهم. لكن الله سبحانه ذهب بنورهم وفضحهم، إذ قال لرسوله: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا: نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، والله يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ

(107)

لَكَاذِبُونَ)(1).

والقرآن الكريم يفضح المنافقين لدى الكافرين أيضاً، ويبيّن كذبهم ونكولهم إذ يقول: (اَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ، وَلئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاَْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ)(2).

جدير بالذكر أن القرآن استعمل عبارة (إِسْتَوْقَدَ نَاراً) أي إنهم استفادوا للإِنارة من «النار» ذات الدخان والرّماد والحريق، بينما يستنير المؤمنون بنور الإيمان الخالص وبضوئه الساطع.

باطن المنافقين ينطوي على النار، وإن تظاهروا بنور الإيمان، وإذا كان ثمة نور فهو ضعيف في قوته وقصير في مدته.

هذا النور الضعيف المؤقّت، إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية، أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث أُسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء، فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة، بل إلى «ظُلمات» في التعبير القرآني.

وهؤلاء سيفقدون في النهاية قدرة الرؤية الصحيحة، والإستماع الصحيح، والنطق الصحيح، وهذه نتيجة طبيعية ـ كما ذكرنا سابقاً ـ للإستمرار على الإنحراف والإصرار على الغيّ، حيث يؤدي إلى إضعاف آليات الادراك لدى الانسان فيرى الحقائق مقلوبة، فالخير في نظره شرّ، والملك شيطان، وهكذا.

على أي حال هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق، وهي إن عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلا، قد يستطيع المنافقون لمدة قصيرة أن يتمتعوا

___________________________

1 ـ المنافقون، 1 و 2.

2 ـ الحشر، 11 و 12.

(108)

بمصونية الإسلام والإيمان، وبصداقة الكفار سراً. لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفى، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين، ويظلون منفورين مطرودين حائرين، مثل إنسان يتخبّط في ظلام دامس.

لابدّ من الإشارة إلى ما ورد في تفسير الآية الكريمة: (هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً)(1).

عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام) قال: «أَضَاءَتِ الأَرْضُ بِنُورِ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، فَضَرَبَ اللهُ مَثَلَ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) الشَّمْسَ وَمَثَلَ الْوَصِيِّ الْقَمَرَ»(2).

وهذا يعني أن نور الإيمان والوحي يغمر العالم كلّه. ولا يمتلك منه المنافقون شيئاً، حتّى لو كان في النفاق نور، فإنّ مدياته قصيرة ودائرته صغيرة لايضيء إلاّ ما حوله.

في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان. وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافر طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام. هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي: (أوْ كَصَيِّب مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْت، والله مُحِيطٌ بِالْكَافِرينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضآءَ لهم مَشوا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا).

هؤلاء يحسّون كلّ لحظة بخطر، لأنهم يطوون صحراء لا جبال فيها ولا

___________________________

1 ـ يونس، 5.

2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 36.

(109)

أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق، ونحن نعلم أن خطر الصاعقة يتجه إلى كل ارتفاع على الأرض. لكن الأرض التي يسير عليها هؤلاء خالية من أي ارتفاع سوى مرتفع أجسامهم، ومن هنا فخطر الصاعقة يهددهم كل آن بتحويلهم إلى رماد!

(أهمية هذا المثال تتضح لدى أهل الحجاز ـ حيث الصحارى المنبسطة ـ أكثر من وضوحها لدى أهالي المناطق الجبلية).

نعم، هؤلاء حيارى مضطربون، لا يجدون طريقاً يسلكونه، ولا دليلا يهتدون به، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم (وَلَوْشَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ).

المنافقون مثل هؤلاء المسافرين، يعيشون بين المؤمنين المتزايدين المتدفقين كالسيل الهادر وكالمطر الغزير، لكنهم لم يتخذوا لهم ملجأ آمناً يقيهم من شر صاعقة العقاب الإلهي.

نهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام يشكل صواعق وحمماً تنزل على رؤوس المنافقين. وتسنح أحياناً لهؤلاء المنافقين فرصة للهداية واليقظة، لكن هذه الفرصة لا تلبث طويلا، إذ تمرّ كما يمرّ نور البرق، ويعود الظلام يطبق عليهم، ويعودون إلى ضلالهم وحيرتهم.

إنتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم. وآيات القرآن التي تفضح أسرارهم صعقتهم، وفي كل لحظة يحتملون أن تنزل آية تكشف عن مكائدهم ونواياهم. وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِئُهُم بِمَا في قُلُوبِهِمْ، قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ)(1).

والمنافقون خائفون أيضاً أن يأذن الله بمحاربتهم، وأن يحثّ القوة الإسلامية

___________________________

1 ـ التوبة، 64.

(110)

المتصاعدة على مجابهتهم، لأنهم كانوا يواجهون مثل هذه التهديدات القرآنية، كقوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فَي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ إلاَّ قَلِيلا. مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِلِّوا تَقْتِيلا)(1).

مثل هذه الآيات كانت تنزل كالرعد والبرق على المنافقين، وتتركهم في خوف وذعر وحيرة في المدينة، وتضعهم أمام خطر الإبادة أو الإخراج من المدينة كلّ حين.

هذه الآيات ـ وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي ـ تمتد لتشمل كلّ المنافقين في التاريخ، لإن خطّ النفاق يقف دوماً بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح. ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفه واضطرابهم، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماماً مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.

أما بشأن الفرق بين المثالين فثمة تفسيران:

الأوّل: إنّ قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ...) يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أما قوله: (كَصَيّب مِنَ السَّمَاءِ ...) فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق، ولم يؤمنوا بالله قط.

الثّاني: أن المثال الأول يتحدث عن حالة الأفراد، ولذلك يقول: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ) والثاني يجسّد وضع الأجواء المخيفة المرعبة الخطرة التي تحدق بهؤلاء المنافقين، ومن هنا جاء التشبيه بالجوّ المظلم الممطر المليء بالخوف والذعر والإضطراب.

* * *

___________________________

1 ـ الأحزاب، 60 ـ 61.

(111)

الآيات

يَـأَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ فِرَ شاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَر تِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)

التّفسير

فيما سبق من آيات كتاب الله سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي: مجموعة المتقين، ومجموعة الكافرين، ومجموعة المنافقين، فالمتقون هم المشمولون بالهداية الإِلهية، والمنافقون هم الذين طبع الله على قلوبهم، والمنافقون هم المرضى الذين زادهم الله مرضاً، وفقدوا قدرة التشخيص نتيجة أعمالهم.

أمّا الآيات المذكورة فدعت النّاس إلى انتخاب طريق المجموعة الاُولى، وإلى عبادة الله الواحد الأحد.

وفي الآية الكريمة: (يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عدة ملاحظات نشير إليها فيما يلي:

1 ـ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً، وهو نداء عام شامل يشير إلى أن القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة

(112)

خاصة، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله، وللثورة على كل ألوان الشرك والإنحراف عن طريق التوحيد.

2 ـ يركّز القرآن، في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله، على نعمة خلق البشر. وهي نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته وكذلك رحمته العامة والخاصّة. لأن الموجود البشري سيّد الموجودات، ومظهر علم الله وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة.

أُولئك الذين يستنكفون عن عبادة الله والخضوع له، غافلون غالباً عن العظمة المنطوية في خلقهم وخلق الذين من قبلهم، وعن اليد المدبّرة المقدّرة التي أوجدت هذا الخلق، وأودعت فيه النعم الدقيقة المدروسة المتجلية في جسم الإنسان وروحه.

فالتذكير بهذه النعم دليل لمعرفة الله، ومحرك للشكر على هذه النعم.

3 ـ نتيجة هذه العبادة هي التقوى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فعباداتنا لا تزيد الله عظمة وجلالا، كما أن إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئاً. هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى، والتقوى هي الإحساس بالمسؤولية والمحرّك الذاتي للفرد، وهي معيار قيمة الإنسان وميزان تقييم شخصيته.

4 ـ عبارة: (أَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) لعلها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم. والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أن الله الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو إنحراف عن الخط الصحيح.

* * *

نِعَم الأرض والسماء:

الآية التالية استعرضت قسماً آخر من النعم الإلهية التي تستحق الشكر،

(113)

ذكرت أوّلا خلق الأرض: (اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً).

فهذه الكرة السائرة بسرعة مذهلة في الفضاء، قد سُخرت للإنسان كي يمتطيها ويستقر عليها دون أن تؤثر عليه حركتها.

وتتجلى عظمة نعمة الأرض أكثر حين نلاحظ خاصّية الجاذبية التي تؤمّن لنا إمكانية الإستقرار وإنشاء الأبنية والمزارع، وسائر مستلزمات الحياة على هذه الأرض. فلو انعدمت هذه الخاصية لحظة واحدة لتناثر كل ما على هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات في الفضاء!

تعبير «فِراش» يصوّر بشكل رائع مفهوم الإستقرار والإستراحة، كما يصوّر إضافة إلى ذلك مفهوم الإعتدال والتناسب في الحرارة. هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) مفسراً هذه الآية إذ يقول:

«جَعَلَهَا مُلاَئِمَةً لِطِبَاعِكُمْ، مُوافِقَةً لاَِجْسادِكُمْ وَلَمْ يَجْعَلْهَا شَديدَةَ الْحماء وَالْحَرارَةِ فَتُحِرقَكُمْ، وَلاَ شَدِيدَةَ البُرودةِ فَتُجْمِدَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ طيب الرّيح فَتَصدَعَ هَامَاتِكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ النَّتْنِ فَتُعْطِبَكُمْ، وَلاَشَديدَةَ اللِّيْن كَالْمَاءِ فَتُغْرِقَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ الصَّلاَّبَةِ فَتَمْتنِعَ عَلَيْكُمْ في دُورِكُمْ وَأَبْنِيَتِكُمْ وَقُبُورِ مَوْتَاكُمْ ... فَلِذَلِكَ جَعَلَ الأَرْضَ فِرَاشاً لَكُمْ»!(1).

ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً).

كلمة «سَماء» وردت في القرآن بمعان مختلفة، وكلها تشير إلى العلو، واقتران كلمة «سَماء» مع «بِنَاء» يوحي بوجود سقف يعلو البشر على ظهر هذه الأرض. بل إنّ القرآن صرّح بكلمة «سَقْف» في بيان حال السماء إذ قال: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفَاً مَحْفُوظاً)(2).

لعل هذا التعبير القرآني يثير استغراب أُولئك الذين يفهمون موقع الأرض في الفضاء، فيتساءلون عن هذا السقف ... عن مكانه وكيفيته. ولعل هذا التعبير يعيد ـ

___________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 41.

2 ـ الأنبياء، 32.

(114)

بادئ الرأي ـ إلى الأذهان فرضية بطليموس التي تصور الكون على أنه طبقات من الأفلاك متراكمة بعضها فوق بعض مثل طبقات قشورالبصل!! من هنا لابدّ من توضيح لمفهوم السماء والبناء والسقف في التعبيرات القرآنية.

ذكرنا أن سماء كل شيء أعلاه، وأحد معاني السماء «جَوّ الأرض»، وهو المقصود في الآية الكريمة. وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات.

لو أمعنّا النظر في الدور الحياتي الأساس الذي تؤديه هذه الطبقة الهوائية لفهمنا مدى استحكام هذا السقف وأهميته لصيانة البشر.

هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفّاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب، وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية، على الرغم من أنه لا يمنع وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الارض.

لو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة، ولَمَا كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب، وهذه الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدّة مئات من الكيومترات(1) تعمل على إبادة كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية، وقليل جداً من هذه الصخور تستطيع أن تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكّر صفو حياتهم.

من الشواهد الدالة على أن أحد معاني السماء هو «جو الأرض» حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)يتحدث فيه إلى «المفضّل» عن السماء فيقول:

___________________________

1 ـ تذكر كثير من الكتب أن سمك الجوّ المحيط بالأرض يبلغ مائة كيلومتر، ويبدو أن المقصود بهذا السمك هو الطبقة الجوية الكثيفة، لأن العلم الحديث أثبت أن الهواء موجود بشكل رقيق متباعد الجزئيات على بعد مئات الكيلومترات.

(115)

«فَكّرْ في لَوْنِ السَّمَاءِ وَمَا فِيهِ منْ صَوَابِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ هَذَا اللَّوْنَ أَشَدُّ الألْوَانِ مُوافِقَةً لِلْبَصَرِ وَتَقْوِيَةً ...»(1).

ومن الواضح أن زرقة السماء ليست إلاّ لون الهواء الكثيف المحيط بالأرض. ولهذا فإن المقصود بالسماء في هذا الحديث هو جوّ الأرض نفسه.

وأُضيفت كلمة الجوّ إلى السماء في قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَات في جَوِّ السَّمَاءِ)(2).

وحول معاني السماء الاُخرى ستنحدّث بشكل أوفى في ذيل الآية 29 من هذه السّورة.

بعد ذلك تطرقت الآية الى نعمة المطر: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) ... ماءً يحيي الأرض ويخرج منها الثمرات.

عبارة (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) تؤكد مرّة اُخرى أن المقصود من «السماء» هنا هو جوّ الأرض، لأننا نعلم أن المطر ينزل من الغيوم، والغيوم بخار متناثر في جوّ الأرض.

الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) يتحدث عن نزول المطر في تفسير هذه الآية فيقول: «يُنْزِلُهُ مِنْ أَعْلَى لِيَبْلُغَ قُلَلَ جِبَالِكُمْ وَتِلالِكُمْ وَهِضَابَكُمْ وَأَوْهَادَكُمْ، ثُمَّ فَرَّقَهُ رِذَاذاً وَوَابِلا وَهَطْلا لِتَنْشِفَهُ أَرَضُوكُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطَرَ نَازِلا عَلَيْكُمْ قَطْعةً وَاحِدَةً فَيُفْسِدَ أَرَضِيكُمْ وَأَشْجَارَكُمْ وَزُرعَكُمْ وَثِمَارَكُمْ»(3).

ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقاً لبني البشر (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَراتِ رِزْقَاً لَكُمْ).

وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة رب العالمين لعباده، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه، من ماء عديم اللون،

___________________________

1 ـ بحار الأنوار، ط الجديد، ج 3، ص 111.

2 ـ النحل، 79.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 41.

(116)

ليكون قوتاً للإنسان والحيوان، لذلك عطف عليها قوله تعالى: (فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

فهذه الأنداد المفتعلة وما تعبدون من دون اللّه، لم يخلقوكم ولا خلقوا آباءكم، ولا خلقوا ما ترونه حولكم من مظاهر كونية ونعم موفورة.

و«الأنداد» جمع «نِد» على وزن ضدّ، وهو الشبيه والشريك، وواضح أن هذا الشبه قائم في أذهان المشركين وليس أمراً واقعياً.

وبعبارة أدق: ندّ الشيء ونديده ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ مشاركة في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، أي المماثلة في جوهر الذات.

* * *

بحوث

الشّرك في أشكال مختلفة:

لابدّ من التأكيد على أن الشّرك بالله لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون الله كما يفعل الوثنيون، أو القول بأن الله ثالث ثلاثة كما تقول النصارى. بل إن للشرك معنىً أوسع وصوراً متنوعة أكثر ضموراً وخفاءً. وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير الله في الحياة هو نوع من الشرك. وهذا ما يعبّر عنه ابن عباس إذ يقول:

(الأنداد) هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء، وهو أن يقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي! ... ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص البارحة! ... وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت ... هذا كله به شرك(1).

ونقرأ في حديث شريف أن رجلا قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما شاء الله وشئت.

___________________________

1 ـ في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 1، ص 53.

(117)

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «أجعلتني لله ندّاً»؟!

مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجة ـ مع الأسف ـ بين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد، كقولهم: اعتمادي على الله وعليك!!

في الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (وَمَايُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(1) قال: «قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلاَ فُلاَنٌ لَهَلَكْتُ، وَلَوْلاَ فُلاَنٌ لأَصَبْتُ كَذَا وَكَذا، وَلَوْلاَ فُلاَنٌ لَضَاعَ عِيَالِي»(2).

وسيأتي توضيح أكثر في هذا المجال في ذيل الآية 106 من سورة يوسف.

* * *

___________________________

1 ـ يوسف، 106.

2 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 697.

(118)

الآيتان

وَإِنْ كُنْتُمْ فِى رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة مِّنْ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ(23)فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَـفِرينَ(24)

التّفسير

القرآن معجزة خالدة:

ظاهرة الكفر والنفاق، التي دارت حولها موضوعات الآيات السابقة، تنشأ أحياناً عن عدم فهم محتوى النّبوة ومعجزة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم). والآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة، وتركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك وترديد في رسالة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم). تقول الآية:

(وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىْ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ)(1).

___________________________

1 ـ ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في (مثله) يعود على النّبي كما يعود الضمير في (عبدنا) عليه أيضاً. ويصبح المعنى حينئذ: لو كنتم في شك من الوحي فأتوا بشخص أمّي مثل محمّد يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن. لكن هذا الإحتمال بعيد، إذ ورد في موضوع آخر: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِثْلِهِ) الطور، 34، وفي موضع آخر أيضاً (فأْتُوا بِسُورَة مِثْلِهِ) يونس، 38، وهذه دلالة على أن الضمير في (مثله) يعود على القرآن.

(119)

وبهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله، كي يكون عجزهم دليلا واضحاً على أصالة هذا الوحي السماوي وعلى الجانب الإلهي للرسالة والدعوة.

ولأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعبارة (مِنْ دُونِ الله) إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإلى قدرة الله وحده على ذلك.

وعبارة (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ) تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي، ومفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.

طبيعة التحدي تقتضي أن يكون صارخاً إلى أبعد حدّ ممكن، وأن يكون محفّزاً للعدو مهما أمكن، وبعبارة اُخرى أن يثير الحميّة فيه، كي يجنّد كل طاقاته لعملية المجابهة، حتى إذا فشل وأيقن بعجزه علم أنه أمام ظاهرة إلهية لا بشرية.

من هنا فسياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة ويقول: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وهذه النار ليست حديث مستقبل، بل هي واقع قائم: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ).

جمع من المفسرين قالوا: إن المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية، واستشهدوا لذلك بالآية الكريمة: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)(1).

جمع آخر قالوا: (الحجارة) إشارة إلى صخور معدنية كبريتية تفوق حرارتها

___________________________

1 ـ الأنبياء، 98.

(120)

حرارة الصخور الاُخرى.

وهناك من المفسرين من يعتقد أن المقصود من هذا التعبير، إلفات النظر إلى شدة حرارة جهنم، أي إن حرارة جهنّم وحريقها يبلغ درجة تشتعل فيها الصخور والأجساد كما يشتعل الوقود.

ويبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أن نار جهنم تستعر من داخل النّاس والحجارة. ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أن العلم الحديث أثبت أن كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة (أو بعبارة اُخرى على طاقة قابلة للتبديل إلى نار)، ولا يلزم أن نتصور نار جهنم شبيهة بالنار المشهودة في هذا العالم.

في موضع آخر يقول تعالى: (نَارُاللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)(1). خلافاً لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.

* * *

1 ـ لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟

نعلم أن منصب النّبوة أعظم منصب منحه الله لخاصة أوليائه. فكل المناصب عادة تمنح صاحبها القدرة للحكم على أبدان الأفراد، إلاّ منصب النّبوة، فالنّبي يحكم على الأجسام والقلوب في مجتمعه. من هنا كان مقام النّبوة لا يبلغه مقام في سموّه، ومن هنا أيضاً كان أدعياء النبوّات الكاذبة أحطّ النّاس وأشدّهم إنحرافاً.

والنّاس هنا أمام أمرين: إمّا أن يؤمنوا بدعوات النّبوة جميعاً، أو يرفضوها

___________________________

1 ـ الهمزة، 6 و 7.

(121)

جميعاً، لو قبلوها جملة لتحولت ساحة الأديان إلى فوضى وهرج و مرج. ولو رفضوها جملة لكان عاقبة ذلك الضلال والضياع.

فالدليل على مبدأ البعثة ذاته يفرض إذن أن يكون الأنبياء الصادقين مجهزين بالدليل على نبوتهم كي يتميز الصادقون من الكاذبين. أي أن يكونوا مجهزين بالمعجزة الدالة على صدق ادعائهم.

و«المعجزة» ـ كما هو واضح من لفظها ـ عمل خارق يأتي به النّبي ويعجز عن الإتيان به الآخرون.

على النّبي صاحب المعجزة أن يتحدى النّاس بمعجزته، وأن يعلن لهم أن معجزته دليل على صدق دعواه.

* *

2 ـ القرآن معجزة نبي الإِسلام الخالدة:

القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، ولم يستطع أحد حتى اليوم أن يأتي بمثله، وهو معجزة سماوية كبرى.

هذا الكتاب الكريم يعتبر ـ بين معاجز النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أقوى سند حيّ على نبوة الرّسول الخاتم، لأنه معجزة «ناطقة» و«خالدة» و«عالمية» و«معنوية».

أمّا أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنها كانت بحاجة إلى وجود النّبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها، ومعاجز النّبي الخاتم ـ عدا القرآن ـ هي من هذا اللون. أما القرآن فمعجزة ناطقة. لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصراً من ساحة التحدي. وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة. إنه دين ومعجزة، إنه قانون، ووثيقة تثبت الهية القانون.

أما الخلود والعالمية: فإنّ القرآن حطم سدود «الزمان والمكان» وتعالى عليهما، لأن معاجز الأنبياء السابقين ـ وحتى معاجز النّبي الخاتم غير القرآن ـ

(122)

مسجلة على شريط معين من الزمان، وواقعة في مساحة معينة من المكان، وأمام جمع معدود من النّاس، مثل معاجز عيسى(عليه السلام) كحديثه في المهد وإحيائه الموتى. وواضح أن الأحداث المقيّدة بزمان ومكان معينين تمسي صورتها باهتة كلما ابتعدنا عن ظروفها الزمانية والمكانية. وهذا من خصائص الأمور الزمنية.

لكن القرآن لا يرتبط بالزمان والمكان، فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، بل إن مرور الزمن زاد البشرية قدرة في العلم والإمكانات لتستفيد منه أكثر من ذي قبل، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فانه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية، وبديهي أن الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.

أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، ونرى أنها كانت غالباً «جسمية» مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، وتحدث الطفل في المهد ... وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أما القرآن، فيسخر القلوب والنفوس، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار. إنه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.

* * *

3 ـ هل تحدى القرآن؟

القرآن تحدى البشرية في مواضع عديدة من سوره، منها:

1 ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بمِثْلِ هَذَا الّقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً)(1).

2 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ

___________________________

1 ـ الاسراء، 88.

(123)

بِعِلْمِ اللهِ)(1).

3 ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ فَأْتُوا بِسُورَة مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(2).

4 ـ الآية الثالثة والعشرون من سورة البقرة التي يدور حولها بحثنا.

القرآن تحدى بصراحة وقوة في هذه الآيات جميع البشرية، وفي هذه الصراحة والقوّة دلالة حيّة على حقّانيته. ولم يكتف في تحدّيه بدعوة النّاس إلى أن يأتوا بمثله، بل حفّزهم وشجعهم على ذلك، وعبارات التحفيز نجدها في قوله تعالى:

(إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ... فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات ... قُلْ فَأْتُوا بِسُورَة مِثْلِهِ ... وَادْعُوا مَن اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دون اللهِ ... قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ ... لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ... فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ... فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ...).

هذا التحفيز والحثّ والإثارة لم يصدر ضمن إطار معركة أدبية أو عقائدية، بل في إطار معركة «سياسية» «إقتصادية» «إجتماعية»، ضمن إطار معركة حياة أو موت، يرتبط بمصيرها وجود هذا الكيان الجديد. وعجز المعارضين أمام هذا التحدّي الحياتي الصارخ، يبيّن بشكل أوضح أبعاد المعجزة القرآنية.

جدير بالذّكر أن تحدي القرآن لا ينحصر بزمان أو مكان، بل إن هذا التحدّي قائم حتى يومنا هذا.

* * *

4 ـ هل جيء بمثله؟

الجواب على هذا السؤال يتضح لو ألقينا نظرة على الظروف والملابسات

___________________________

1 ـ هود، 13 و 14.

2 ـ يونس، 38.

(124)

التي عاصرت نزول القرآن، وعلى تاريخ ما ذكر من محاولات لكتابة مايشبه القرآن.

غير خفيّ أن الرسالة في عصر النّزول وما بعده، واجهت خصوماً ألدّاء من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين. وهؤلاء توسّلوا بكل ما لديهم من قوة وحيلة للوقوف بوجه الدعوة. (حتى إن بعض المنافقين مثل (ابوعامر) الراهب ومن وافقه من المنافقين اتّصلوا بأمبراطور الرّوم للتآمر على الإسلام، وبلغ الأمر بهؤلاء المتآمرين أن شيّدوا «مسجد ضرار» في المدينة، وحدثت على أثر ذلك وقائع عجيبة أشار اليها القرآن في سورة التوبة).

من الطبيعي أن هؤلاء الأعداء الألدّاء من المنافقين وغيرهم كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويتحينون كل فرصة للإضرار بالمسلمين. ولو كان هؤلاء قد حصلوا على كتاب يجيب على تحدي القرآن، لتهافتوا عليه ونشروه وطبّلوا له وزمّروا، أو لسعوا في حفظه على الأقل.

ولذلك نرى أن التاريخ احتفظ بأسماء أولئك الذين يحتمل احتمالا ضعيفاً أنهم عارضوا القرآن، مثل:

«عبد الله بن المقفع»، فقد قيل أنه عارض القرآن بكتابه «الدرّة اليتيمة» بينما لا نعثر في هذا الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم على إشارة إلى هذه المعارضة، ولا نعرف لماذا وجهت التهمة إلى ابن المقفع بهذا الكتاب؟

والمتنبي، أحمد بن الحسين الكوفي الشاعر، ذكر في زمرة المعارضين وأصحاب النبوءات، بينما تؤكد دراسات حياة المتنبي وأدبه، أنه كان ينطلق في شعره غالباً من روح الخيبة في بلوغ المناصب الرفيعة، ومن الحرمان العائلي.

وأبو العلاء المعرّي، اتهم بهذا أيضاً، ونقلت عنه أشعار تنم عن رفضه لبعض مسائل الدين، لكنه لم يرفع صوته يوماً بمعارضة القرآن، بل نقلت عنه عبارات في عظمة كتاب الله العزيز سنشير إليها فيما بعد.

(125)

أما مسيلمة الكذاب من أهل اليمامة فقد عارض القرآن، وأتى بآيات!! أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، ومن ذلك.

1 ـ ما قاله معارضاً سورة «الذاريات»: «والمبذرات بذراً. والحاصدات حصداً. والذاريات قمحاً. والطاحنات طحناً. والعاجنات عجناً. والخابزات خبزاً. والثاردات ثرداً. واللاقمات لقماً. اهالة وسمناً »(1).

2 ـ من النماذج الاُخرى لآياته: «يا ضفدع نقّي فإنّك نعم ما تنقين، لا وارداً تنفرين، ولا ماء تكدرين»(2).

* * *

5 ـ شهادات حول القرآن

يجدر بنا أن ننقل جملا من أقوال المشاهير بشأن القرآن بمن فيهم أولئك الذين اتهموا بمعارضة القرآن.

1 ـ أبو العلاء المعري (المتهم بمعارضة القرآن) يقول:

«وأجمع ملحد ومهتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمّد كتاب بهر بالإعجاز، ولقى عدوه بالإرجاز، ما حذى على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ... ما هو من القصيد الموزون، ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة،وجاءكالشمس، لو فهمه الهضب لتصدع، وأن الآية منه أوبعض الآية لتعرض في أفصح كلم يقدرعليه المخلوقون،فتكون فيه كالشهاب المتلألىءفي جنح غسق، والظهرة البادية في جدوب »(3).

2 ـ الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو رجل عرف بين عرب الجاهلية

___________________________

1 ـ إعجاز القرآن، الرافعي.

2 ـ نقلا عن كتاب «إعجاز القرآن» للخطيب، ج 1، ص 483.

3 ـ رسالة الغفران، ص 263.

(126)

بكياسته وحسن تدبيره، ولذلك سمي «ريحانة قريش»، سمع آيات من سورة «غافر» فرجع إلى قوم من بني مخزوم فقال لهم:

«والله لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وان أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه»(1).

3 ـ العالم المؤرخ البريطاني «كارليل» يقول حول القرآن:

«لو ألقينا نظرة على هذا الكتاب المقدس لرأينا الحقائق الكبيرة، وخصائص أسرار الوجود، مطروحة بشكل ناضج في مضامينه، ممّا يبين بوضوح عظمة القرآن. وهذه الميزة الكبرى خاصة بالقرآن، ولا توجد في أي كتاب علميّ وسياسي وإقتصادي آخر. نعم، قراءة بعض الكتب تترك تأثيراً عميقاً في ذهن الإنسان، ولكن هذا التأثير لا يمكن مقارنته بتأثير القرآن. من هنا ينبغي أن نقول: المزايا الأساسية للقرآن، ترتبط بما فيه من حقائق وعواطف طاهرة، ومسائل كبيرة، ومضامين هامة لا يعتريها شك وترديد. وينطوي هذا الكتاب على كل الفضائل اللازمة لتحقيق تكامل البشرية وسعادتها»(2).

4 ـ جان ديفن بورت مؤلف كتاب: «الاعتذار إلى محمّد والقرآن». يقول:

«القرآن بعيد للغاية عن كل نقص، بحيث لا يحتاج إلى أدنى إصلاح أو تصحيح، وقد يقرؤه شخص من أوّله إلى آخره دون أن يحسّ بأي ملل»(3).

ويقول: «لا خلاف في أن القرآن نزل بأبلغ لسان وأفصحه، وبلهجة قريش أكثر العرب أصالة وأدباً ... ومليء بأبلغ التشبيهات وأروعها»(4).

5 ـ غورة الشاعر الألماني يقول:

___________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 10، سورة المدثر.

2 ـ من مقدمة كتاب «التنظيمات الحضارية في الإمبراطورية الإِسلامية».

3 ـ نفس المصدر، ص 111.

4 ـ نفس المصدر، ص 91.

(127)

«قد يحسّ قرّاء القرآن للوهلة الاُولى بثقل في العبارات القرآنية، لكنه ما أن يتدرج حتى يشعر بانجذاب نحو القرآن، ثم إذا توغّل فيه ينجذب ـ دون إختيار ـ إلى جماله الساحر»(1).

وفي موضع آخر يقول: «لسنين طويلة، أبعدنا القساوسة عن فهم حقائق القرآن المقدس وعن عظمة النّبي محمّد، ولكن كلما خطونا على طريق فهم العلم تنزاح من أمام أعيننا حُجُب الجهل والتعصب المقيت، وقريباً سيلفت هذا الكتاب الفريد أنظار العالم، ويصبح محور أفكار البشرية»!

ويقول كذلك: «كنا معرضين عن القرآن، ولكن هذا الكتاب ألفت أنظارنا، وحيّرنا، حتى جعلنا نخضع لما قدمه من مبادىء وقوانين علمية كبرى»!

6 ـ «ويل ديورانت» المؤرخ المعروف يقول: «القرآن أوجد في المسلمين عزّة نفس وعدالة وتقوى لا نرى لها نظيراً في أية بقعة من بقاع العالم».

7 ـ المفكر الفرنسي «جول لابوم» في كتاب «تفصيل الآيات» يقول: «العلم انتشر في العالم على يد المسلمين، والمسلمون أخذوا العلوم من (القرآن) وهو بحر العلم، وفرّعوا منه أنهاراً جرت مياهها في العالم ...».

8 ـ المستشرق البريطاني دينورت يقول:

«يجب أن نعترف أنّ العلوم الطبيعية والفلكية والفلسفة والرياضيّات التي شاعت في أوربا، هي بشكل عام من بركات التعاليم القرآنية، ونحن فيها مدينون للمسلمين، بل إن أوربا من هذه الناحية من بلاد الإِسلام»(2).

9 ـ الدكتورة لورا واكسيا واغليري أستاذة جامعة نابولي في كتاب «تقدم الإِسلام السريع» تقول:

«كتاب الإسلام السماوي نموذج الإعجاز ...(القرآن) كتاب لا يمكن تقليده،

___________________________

1 ـ عن كتاب «الإعتذار إلى محمّد والقرآن».

2 ـ المعجزة الخالدة.

(128)

وأسلوبه لا نظير له في الآداب، والتأثير الذي يتركه هذا الإسلوب في روح الإنسان ناشىء عن إمتيازاته وسموّه ... كيف يمكن لهذا الكتاب الإِعجازي أن يكون من صنع محمّد، وهو رجل أميّ؟! ... .

نحن نرى في هذا الكتاب كنوزاً من العلوم تفوق كفاءة أكثر النّاس ذكاء وأكبر الفلاسفة وأقوى رجال السياسة والقانون.

من هنا لا يمكن اعتبار القرآن عمل إنسان متعلّم عالم»(1).

* * *

___________________________

1 ـ تقدم الإسلام السريع «نقلا عن محمّد والقرآن ...».

(129)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21399836

  • التاريخ : 18/04/2024 - 17:44

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net