القسم الثالث
يظل هذا القسم من السورة أكبر الأقسام حجماً حتى أنه ليكاد يُشكّل ثلثي السورة الكريمة، وهذا يعني (من زاوية البناء الهندسي للنص) أنّ ضخامة السلوك المنحرف الذي يطبع الإسرائيليين، يظل متجانساً مع ضخامة الحديث الذي عَرَض لسلوكهم، بيد أن المهمّ هو ضخامة العمارة الفنية التي صيغ بها هذا القسم من السورة، حيث انتظمتها مجموعة من الموضوعات التي استهدفها النصُ خلال عرضه للسلوك الإسرائيلي، وحيث جاءت صياغتها منسحبةً على أقسام متنوعة من السورة، بالنحو الذي نبدأ بتوضيحه الآن:
لقد بدأ هذا القسم بالآية التالية:
(يا بني إسرائيل: اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم، وأوفوا بعهدي، أوفِ بعهدكم، وإياي فارهبون) [البقرة: 40].
ثم خُتِم هذا القسم بالآية التالية:
(يا بني إسرائيل: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأني فضّلتكم على العالمين) [البقرة: 112].
واضحٌ، أنّ هذا القسم عندما يبدأ بعبارة (يا بني إسرائيل: اذكروا نعمتي...الخ) وعندما ينتهي بنفس العبارة التي تطالب بتذكّر النعمة، فحينئذٍ نستكشف أننا أمام عمارة ضخمة بالغة الإحكام، بحيث تدور موضوعاتها على محور واحد هو: تذكر النعمة، لكن، إذا كانت عبارة (يا بني إسرائيل: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) قد بدأ بها هذا القسم من السورة وخُتِم بها أيضاًَ، إلا أن ما بعدها قد دخله التغيير في العبارة، حيث عقّب النص في العبارة الأولى بقوله تعالى: (وأوفوا بعهدي، أوفِ بعهدكم، وإياي فارهبون)، بينما عقّب في العبارة الختامية بقوله تعالى: (وأنّي فضلتكم على العالمين) والسرّ
______________________________________________________
الصفحة 39
الفنّي وراء هذا الاختلاف في التعقيب، أنّ النص عندما طَالبَ في بداية القسم بالوفاء بالعهد وبالخوف من الله تعالى، إنما عَرضَ لنا مفردات سلوكهم التي تجسّد عدم الوفاء وعدم الخوف، وعندما قال في الخاتمة (وأني فضلتكم على العالمين)، إنما قال ذلك، بعد أن عَرضَ سلسلة النعَم والمعطيات التي أغدقها الله تعالى على الإسرائيليين، حيث كفروا بالنعم والمعطيات المذكورة، كما سنوضح ذلك في حينه.
إذن، جاء توافق عبارتي البداية والنهاية: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) وجاء تخالفهما في التعقيبين القائلين: (وأوفوا بعهدي...الخ) و(وأني فضّلتكم...الخ)، جاء كلٌ من التوافق والتخالف محكوماً بطبيعة ما يفرضه سياق الحديث، من صياغةٍ خاصة تنعكس على عمارة النص بالنحو الذي أشرنا إليه.
والآن، لنقف عند الموضوعات التي طرحها هذا القسم لملاحظتها وملاحظة موقعها الهندسي من عمارة النص.
* * *
الموضوعات التي يتناولها هذا القسم الخاص ببني إسرائيل، تحوم على سلوك هذه الطائفة التي وصفها النص بسمتي (الكفر) و(التكذيب) بآيات الله تعالى، تبعاً للخاتمة التي خُتِم بها القسم الثاني من السورة (والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، فبالرغم من أن هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن قصة آدم ـ عليه السلام ـ وهبوطه إلى الأرض، واستتباع ذلك: ميلاد التجربة البشرية التي تنشطر إلى مؤمن ومنحرف، (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا...الخ)، أقول: بالرغم من أن (الكفر) و(التكذيب) هنا جاء في سياق عام يتناول جميع البشرية، إلا أن النص حينما يتجه بعد هذه الآية الختامية إلى عرض سلوك
______________________________________________________
الصفحة 40
الإسرائيليين، حينئذ نستنتج فنيّاً بأن الإسرائيليين هم النموذج الواضح أو التجسيد الحيّ لسمتي (الكفر) و(التكذيب)، نفهم هذا من خلال معرفتنا أولاً بعمارة السورة الكريمة التي تخطّط للموضوعات الجديدة التي يطرحها القسم الثالث من السورة، حيث يركّز على صفتي (الكفر) و(التكذيب) اللذين يطبعان سلوك الإسرائيليين.
وهذا هو أحد أسرار البناء الفني في عمارة السورة الكريمة. وسنتبيّن ذلك بوضوح، حينما نتابع موضوعات هذا القسم، حيث يمكن تقسيمه إلى موقفين، يتناول أولهما: جملةً من التوصيات التي طالب الله تعالى الإسرائيليين بأن يلتزموا بها، ويتناول ثانيهما: قصص بني إسرائيل بعامة.
ونبدأ الحديث عن:
الموقف الأول
يتضمن هذا الموقف من السورة سبع آيات على النحو التالي:
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيّاي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدّقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإيّاي فاتقون. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون. وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين. أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون. واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلاّ على الخاشعين. الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، وأنهم إليه راجعون) [البقرة: 40 ـ 46].
إن هذا المقطع الذي يتضمن سبع آيات، يشكّل الشطر الأول من القسم الثالث من السورة، أما الشطر الثاني من القسم، فيتضمن (75) آية وهذا التقسيم إلى شطرين لا تقارب بينهما من حيث الحجم (حيث ينشطر إلى (7) و(75) آية)، إلا أنّ ذلك يخضع لأسرار فنية سنتبيّنها لاحقاً.
______________________________________________________
الصفحة 41
ولعل أحد هذه الأسرار يتمثّل في أنّ الآيات السبع التي تضمّنها الموقف الأول، تطرح موضوعاتٍ (مُجملة) و(رئيسة)، لتأخذ تفصيلاتها وتفريعاتها في (الموقف الثاني) الذي يستغرق غالبية هذا القسم من السورة.
لقد طَالبَ النصُ الإسرائيليين بالوفاء بالعهد، وبالخوف من الله تعالى، وبالإيمان برسالة الإسلام التي بشرت بها توراتهم، وحذّرهم من الكفر بها، وطَالبَهم بالاتّقاء من الله تعالى، وعدم لبس الحق بالباطل، وعدم كتمانه، كما طالبهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وحذّرهم من مطالبتهم الناس بالبرّ ونسيان أنفسهم من هذه المطالبة، ثم طالَبهم بالاستعانة بالصوم أو الصبر وبالصلاة...الخ.
إن الصلاة والزكاة والصوم، والوفاء بالعهد، والخوف من الله تعالى... الخ، تظل موضوعات عامة يستهدف النصُ إبرازها إلى القارئ حيث سبق إبراز بعضها في المقطع الأول من السورة عند عرضه لسمات (المتقين)، وقد كررها الآن، نظراًَ لأهميتها، حيث أوردها في سياق جديد، كما أن بعضها الآخر قد طرحه جديداً، ليستكمل بذلك تقديم الموضوعات بصورة تدريجية، أي: أن النص القرآني يتقدم في كلّ مقطع أو قسم جديد بطرح جملة من الموضوعات أو المبادئ العبادية.
الموقف الثاني
يتضمن هذا الموقف (75) آية تتحدث عن سلوك الإسرائيليين، حيث صدّرها بنفس العبارة التي استُهلّ بها الموقف الأول: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأني فضلتكم على العالمين) [البقرة: 47].
والجديد في هذا التصدير هو عبارة (وأني فضلتكم على العالمين)، حيث تعني هذه العبارة أن النص سوف يعرض لنا سلسلة من النِعَم والمعطيات التي أغدقها الله تعالى عليهم، والمهم هو أن نحدد الموقع الهندسي لهذا
____________________________________________________
الصفحة 42
الموقف وصلته بالموقف الأول، حيث يمكن توضيحه على النحو التالي:
1 ـ لقد تصدّر كل من الموقفين بعبارة حوارية واحدة هي: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)، حيث يعني هذا التكرار أنّ النص يستهدف لفت النظر إلى أن الله تعالى أغدق عليهم نعماً ومعطيات ضخمة.
2 ـ لقد طالبَ النصُ في العبارة الأولى بالوفاء بالعهد، بينما ذَكَر في العبارة الثانية بأنه تعالى فضّلهم على الآخرين، وهذا يعني أن كل موقفٍ سوف يطرح موضوعاتٍ تختلف بالضرورة عن الموضوعات التي يطرحها الموقف الآخر، لذلك، طرح الموقف الأول موضوعاتٍ تتصل بمبادئ مثل: الإيمان، الصلاة، الزكاة...الخ، انسجاماًَ مع العبارة التي تطالب بالوفاء بالعهد والخوف من الله تعالى، بينما طرح الموقف الثاني ـ كما سنرى ـ موضوعات تتصل بسرد النِعَم وتمرّدهم عليها، انسجاماً مع العبارة التي تقول بأن الله تعالى قد فضّلهم على الآخرين من خلال حجم النعم الضخمة التي أغدقها عليهم.
3 ـ سنرى في نهاية هذا القسم من السورة أن عبارة (يا بني إسرائيل: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) قد خُتِم بها الموقف الثاني، أي أن العبارة المذكورة قد استُهِلّ بها في هذا الموقف، كما خُتم بها هذا الموقف أيضاً، مما يكشف ذلك عن أحد أسرار البناء الهندسي للنص، متمثلاً في تكراره في بداية الموقف وخاتمته من جانب، حيث أن (التكرار) للشيء يفصح عن أهميته، كما أنه ـ من جانب آخر ـ ينطوي على سرّ فنّي غير ما ذكرناه، هو: ضخامة الحجم الذي بلغه هذا الموقف، حيث أن عدد آياته البالغة (75) آية، يتناسب مع حجم النعم والمعطيات التي سوف يسردها النص في هذا الموقف.
والآن بعد أن لحظنا جانباً من أسرار العمارة التي يقوم عليها هذا الجزء من السورة الكريمة، نبدأ بتفصيل الحديث عنها، حيث ينطوي هذا الجزء على
______________________________________________________
الصفحة 43
مقاطع متنوعة، يمكن عرضها على النحو التالي:
المقطع الأوّل
يتضمن المقطع الأول (13) آية هي: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون. وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة، ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون. وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلّكم تهتدون. وإذ قال موسى لقومه: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتاب عليكم أنه هو التوّاب الرحيم. وإذا قلتم يا موسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً، فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون. وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم، وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وإذ قلنا: ادخوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغداً وادخلوا الباب سُجّداً وقولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون. وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كلّ أناسٍ مشربهم، كلوا واشربوا من رزق الله، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. وإذ قلتم: يا موسى لن نصبر على طعام واحدٍ فادع لنا ربّك يُخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، وضُرِبت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا
______________________________________________________
الصفحة 44
يعتدون) [البقرة: 49 ـ 61].
إن هذا المقطع يتضمن عرضاً لبعض النِعَم التي ذكَّر بها النصُ الإسرائيليين، من نحو: إنقاذهم من الفراعنة، ومن الغرق، والعفو عنهم بعد حادثة العجل، وإحيائهم بعد صعقهم نتيجة مطالبتهم برؤية الله تعالى، وتظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى عليهم، وتفجير الاثنتي عشرة عيناً.
لكن، خلال هذا التذكير بالنِعَم، تذكيرٌ بالانتقام أيضاً، مثل إنزال الرجز عليهم من السماء، ومثل الضرب عليهم بالمسكنة والذّل، وذلك حينما تمردوا على تعليمات الله تعالى عند دخولهم باب المدينة (مدينة القدس)، وعندما طالبوا استبدال الطعام الأدنى بالذي هو خيرٌ لهم.
ومن الواضح أن التذكير بالانتقام مقابل التذكير بالنعم، ينطوي على وظيفة نفسية وفنية، حيث أن الجمع بين الترغيب والترهيب هو المعيار العام في إحداث التأثير على النفوس، مضافاً إلى أن المقاطع اللاحقة من السورة التي ترسم سلوك الإسرائيليين سوف تنعكس عليها هذه المستويات التي تجمع بين الثواب والعقاب، ومن ثم فإن لغة العقاب سوف تتبلور بصورة ملحوظة في هذه المقاطع اللاحقة، ما دمنا ندرك بأن التذكير بالنعم مقروناً بالانتقام، إنما يشكّل (تمهيداً) لما سوف يرسمه النص من السلوك السلبي الذي يطبع الشخصية الإسرائيلية وما يترتب عليه من العقاب كما سنرى عند متابعتنا للأجزاء اللاحقة من السورة، وهذا هو أحد أسرار العمارة الفنية للنص القرآني الكريم.
المقطع الثاني
يتضمن هذا المقطع خمس آيات على هذا النحو: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا
______________________________________________________
الصفحة 45
فوقكم الطور، خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * ثم تولّيتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين * ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت، فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتقين) [البقرة: 62 ـ 66].
هذا المقطع الجديد بالرغم من كونه امتداداً للمقطع السابق: من حيث انطواؤه على التذكير بالنعم والتذكير بالانتقام أيضاً، إلا أنه يتميز باستقلالية واضحة، نظراً للآية الأولى التي تشير إلى أن المؤمنين وقسماً من اليهود والنصارى والصابئة مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً لهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هو يحزنون. فهذه الآية تعدّ فاصلاً فنياً بين المقطع السابق وهذا المقطع الذي نتحدث عنه، مما يجعل الأمر له استقلاليته كما قلنا.
كما أن انطواءه على موضوعين مهمّين فحسب، هما: أخذ الميثاق من الإسرائيليين ثم مسخهم قردةً، يجعل له استقلاليته أيضاً، ثم تتويج هذين الموضعين بمفهوم (الاتقاء) ـ وهو أحد المحاور العامة التي يقوم عليه هيكل سورة البقرة ـ يجعل له استقلالية أيضاً. والمهم، أن نوضّح هذه الظواهر الثلاث: من حيث علاقتها العضوية بعمارة السورة الكريمة، فنقول:
أمّا الآية الكريمة التي قطعت سلسلة الحديث عن الإسرائيليين ثم عادت إلى الحديث عنهم ثانيةً، ففي تصوّرنا أنها تستهدف لفت النظر إلى أن هناك استثناءً من القاعدة، حيث أن قسماً من الإسرائيليين مستثنون من السلوك السلبي الذي يطبع طائفتهم، مضافاً إلى الطائفتين الأُخريين: النصارى والصابئة، بحيث يلحق هذا النفر المستثنى، بطائفة الإسلاميين. ومن الواضح، أن النص القرآني ـ كما سنرى ذلك لاحقاً ـ طالما يقطع سلسلة الحديث عن موضوع ما، ثم يعود إليه، مستهدفاً من ذلك لفت النظر إلى أهميته، إلا أن ذلك لا يتم إلا من خلال إيجاد وصلة فنيةً تربط بين الموضوع
______________________________________________________
الصفحة 46
الذي قُطعتْ سلسلته وبين الموضوع الطارئ، وهذا النمط من الصياغة الفنية نجده بوضوح في التجارب الأدبية المعاصرة، بخاصة في الأدب القصصي والمسرحي، حيث تستثمر هذه الطريقة الفنية لإدخال الموضوعات الثانوية التي يستهدف القاص أو المسرحي، إيصالها إلى المتلقّي.
وأما الموضوعان اللذان استقل بهما هذا المقطع، ونعني بهما: أخذ الميثاق من الإسرائيليين ثم مسخهم قردة، فإن أهميتهما التي جعلت منهما موضوعين مستقلّين، تتمثل:
أولاً: الإعلان عن أخذ الميثاق من الإسرائيليين بممارسة الطاعة، ثم مطالبتهم بالعمل بما أنزل عليهم من التوراة، وتذكّر ما فيه من أجل (الاتّقاء)، أولئك جميعاً تشكّل جوهر العمل العبادي الذي تطالب به السماء، بخاصة أنه خُتم بظاهرة (الاتّقاء) التي تشكل ـ كما قلناـ أحد المحاور الفكرية للسورة الكريمة.
ولذلك: عندما تأخذ مثل هذه المفهومات شكلاً استقلالياً، أي: صياغتها في مقطع مستقل، تكون لها مسوغاتها الفنية كما هو واضح.
ثانياً: إن مسخ الإسرائيليين إلى (قردة) بصفته أحد أشكال الانتقام منهم، يعدّ عقاباً متميزاً له خطورته بالقياس إلى أشكال العقاب الأخرى التي مرّ ذكرها في مقطع أسبق (مثل: ضربت عليهم الذلة، و...الخ) وقد خُتِم أيضاً بظاهرة (الاتقاء)، وهذا النمط المتميز من العقاب، يفسّر لنا استقلاليته في مقطع خاص: كما هو واضح أيضاً.
والآن، عندما تبيّن لنا جانب من أسرار البناء الفنّي لهذا المقطع، سواء في استقلاليته أو في ربطه بهيكل السورة الفكري (ظاهرة الاتّقاء)، يحسن بنا أن ننتقل إلى (مقطع) جديد من الموضوعات التي تتناول قصص الإسرائيليين، وهو:
______________________________________________________
الصفحة 47
المقطع الثالث
إن هذا المقطع يتضمن عنصراً قصصياً هو (قصة ذبح البقرة)، لكن قبل أن نتحدث عن هذا المقطع، ينبغي أن نعرض لعمارته الفنية: من حيث صلتها بالمقطع السابق، حيث لحظنا ـ في أقسام السورة الكريمة ـ أن النص القرآني عندما ينتقل من قسم أو موقف إلى آخر، فإنه (يمهّد) له بطريقة فنية تربط بين أقسام السورة، والتمهيد الذي نلحظه هنا، هو: إن مسخ الإسرائيليين إلى قردة يعني تعطيلاً لأهم جهاز بشري هو: جهاز الإدراك أو التفكير السليم لديهم، وهذا التعطيل لعملية التفكير السليم، سوف يجسّده النص القرآني في قصة جديدة (ذبح البقرة) حيث رافق هذا الذبح نمط خاص من السلوك الإسرائيلي، يلقي مزيداً من الضوء على سلسلة مواقفهم التي تتميز بالتمرد على أوامر السماء من جانب، ويكون هذا التمرد مصحوباً بعقلية عاطلة من أي تفكير سليم، من جانب آخر.
وهذا ما يمكننا ملاحظته بوضوح، عندما نبدأ الآن بدراسة القصة المشار إليها.
ولنقرأها أولاً:
(وإذ قال موسى لقومه:
إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
قالوا: أتتخذنا هزواً؟
قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
قالوا: ادع لنا ربك يبيّن لنا ما هي؟
قال: إنه يقول إنها بقرة، لا فارض، ولا بكر، عوان بين ذلك، فافعلوا ما تُؤمَرون.
قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟
______________________________________________________
الصفحة 48
قال: إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين.
قالوا: ادعُ لنا ربك يبين لنا ما هي؟ إن البقر تشابه علينا، وإنا إن شاء الله لمهتدون.
قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلّمة، لا شية فيها.
قالوا: الآن جئت بالحق،
فذبحوها، وما كادوا يفعلون. وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها، والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا: أضربوه ببعضها. كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوةً، وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقّق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافلٍ عما تعملون) [البقرة: 67 ـ 74].
تلخيص القصة
تقول النصوص المفسّرة: إنّ إسرائيلياً قتل أحد أقربائه، وطرحه على طريق أحد الأسباط، ثم جاء يطلب دمه. وعندما جهل المعنيّون بأمره هوية القاتل، سألوا موسى ـ عليه السلام ـ أن يكشف ذلك، فأمرهم بذبح بقرة. وقد خيّل إليهم أن موسى يهزأ بهم، ولكنه نفى ذلك بطبيعة الحال، وعندها سألوه عن سنّها ولونها وصنفها، فوصَفها لهم موسى بأنها متوسطة السن، شديدة الصفرة، تسرّ الناظر، ذات حيوية، لم يذلّلها العمل حرثاً وسقياً، بريئة من العيب. عند ذلك، نفذوا أمره بعد تردّد كبير. وكان الهدف من ذبح البقرة هو أن يُضرب القتيل ببعض الأجزاء الجسمية من البقرة، ليعود حيّاً بعد الموت فيخبر عن القاتل.
هذا هو ملخص القصة، ولكن ما يعنينا من ذلك، هو: بناؤها الفني
______________________________________________________
الصفحة 49
وصلتها بهيكل السورة الكريمة..
بناؤها الفني والعضوي
يُلاحظ أن القصة لم تسرد الحوادث والمواقف وفق تسلسلها الزمني، حيث أن الحوادث من حيث الزمن بدأت بعملية القتل كما هو واضح، ولكن النص جعلها في خاتمة القصة بقوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً... الخ)، واستهلّ القصة من (وسطها) أي وسط الحوادث ـ وهي: الأمر بذبح البقرة (وإذ قال موسى لقومه: إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة...الخ). ثم ارتدت القصة إلى الوراء فسردت بداية الحدث (وإذ قتلتم نفساً..) وهذا النمط من العرض القصصي الذي يبدأ من (وسط) الحوادث ثم يرتدّ إلى البداية ويجعلها (خاتمة) العرض، لابدّ أن ينطوي على أسرار فنية تفسّر لنا سبب (الاستهلال) بذبح البقرة، وسبب (الاختتام) بحادثة قتل النفس. والسرّ الفني في ذلك هو جملة أُمور، منها: أن البقر يرتبط بمحبّة اليهود لهذا الحيوان حيث عرفوا بعبادة العجل، ومنها: أن من أعراف اليهود أن يقدّموا قرباناً لممارساتهم، فجاء الاستهلال بذبح بقرة، يحمل مسوّغاته الفنية من حيث أنّ الأمر بذبحها يمسح عن أعماقهم ما تحمله من بقايا التقديس للعجل من جانب ويتوافق مع آرائهم في تقديس القربان من جانب آخر.
يترتّب على هذين المسوّغين، مسوّغ ثالث يرتبط بسلوك الإسرائيليين عامة حيث أن سورة البقرة تعني ـ كما لحظنا وكما سنلحظ لاحقاً ـ بإبراز السلوك السلبي لهم، وفي مقدّمة ذلك: تمرّدهم على أوامر السماء أو تردّدهم فيها مع أن الأمر بذبح البقرة هو (أمر من السماء)، حينئذٍ فإنه سيكشف عن مدى التمرّد أو التردد الذي يصحب سلوكهم حيال الأمر بالذبح، وبالفعل لحظنا مدى التردد الذي طبع سلوكهم حيال موسى، حيث رفضوا أولاً أن يستجيبوا لطلبه، قائلين (أتتخذنا هزواً؟) وهذا هو منتهى التشكيك بموسى:
______________________________________________________
الصفحة 50
مع أنهم هم الذين طلبوا منه أن يكشف هوية القاتل، أو لنقل: إنهم حاولوا التهرب من تنفيذ هذا الأمر، والتمرد على موسى من خلال اتهامه بالسخرية منهم، يضاف إلى ذلك، أن نمط طلباتهم تتّسم بالرقاعة والتهافت والسطحية، فمرة يطالبونه بأن يدعو الله تعالى أن يبيّن لهم سنّها، ومرة يطالبونه أن يبيّن لونها، وثالثة يطالبونه بأن يبيّن لهم صفتها، ومع ذلك أوشكوا ألاّ يستجيبوا لطلب موسى، حيث قال الله تعالى عنهم: (وما كادوا يفعلون)، أي أوشكوا ألاّ يذبحوا البقرة.
هذه المسوغات جميعاً تفسّر لنا سبب الاستهلال للقصة بحادثة ذبح البقرة وعدم عرضها وفقاً لتسلسلها الزماني.
وهذا أحد أسرار البقاء الفني للقصة، ثم علاقتها بهيكل السورة التي تُعنى بفضح السلوك الإسرائيلي.
أمّا السرّ الفنّي الكامن وراء اختتام القصة بحادثة القتل لأحد الإسرائيليين (مع أنها تشكل بداية الحدث من حيث التسلسل الزمني)، فيتمثل في التعقيب الذي ورد على حادثة القتل، حيث عقب النص على قوله تعالى: (فقلنا اضربوه ببعضها)، أي: اضربوا القتيل ببعض البقرة لكي يعود حياً ويخبر عن هوية القاتل، عقّب النص على ذلك الإحياء للقتيل، قائلاً: (كذلك: يحيي الله الموتى). إن هذه العبارة تحتل أهمية هندسية كبيرة بالنسبة إلى هيكل السورة الكريمة وهيكل القصة نفسها، فقد سبق أن لحظنا أن النص قد طرح في بدايات السورة، مفهوم (الإماتة والإحياء)، وهذا المفهوم يشكل (مع مفهوم آخر هو: الاتقاء) أهم المحاور الفكرية التي تدور عليها السورة الكريمة، وسنجد في قصص لاحقة مثل قصة تقطيع الطيور الأربعة وإحيائها، وقصة الذي أماته الله تعالى مائة عام ثم أحياه، وقصة الألوف الذين أماتهم الله تعالى وأحياهم، وغيرها من القصص، سنرى أنها جميعاً تحوم على فكرة (الإماتة والإحياء) في
______________________________________________________
الصفحة 51
الدنيا، تمهيداً للاقتناع بإحياء الموتى في اليوم الآخر. لذلك، عندما تُختم قصة ذبح البقرة بقضية أو بمفهوم (الإماتة والإحياء)، فإن هذا الاختتام يكشف عن جملة من أسرار البناء الهندسي للسورة الكريمة، حيث يمهّد ـ من جانب ـ لفكرة (الإماتة والإحياء) في الأقسام اللاحقة من السورة، ويربط ـ من جانبٍ آخر ـ بين أول السورة ووسطها وخاتمتها، حيث نستكشف من هذا الربط بين أقسام السورة، مدى تماسك بنائها الفني، ومدى الإحكام العضوي الذي يربط بين موضوعاتها المختلفة.
* * *
التعليق أو التعقيب القصصي
والآن، بعد أن أوضحنا مستويات البناء الهندسي لهذه القصة وعلاقتها بالبناء العام لسورة البقرة، يحسن بنا أن نتابع الأجزاء اللاحقة من السورة الكريمة.
لكن، قبل أن نتابع ذلك، ينبغي أن نقف عند تعقيب النص على القصة المذكورة وما سبقها من أحداث الإسرائيليين. حيث يجسّد هذا التعقيب ربطاً فنياً جديداً بين القصة والمقاطع السابقة واللاحقة التي تتحدث عن الإسرائيليين.
التعليق وعنصر الصورة
ويُلاحظ أن هذا التعقيب قد اعتمد أحد عناصر الفن وهو (الصورة) المتمثلة في واحدٍ من أضخم (التشبيهات) الفنية في القرآن الكريم، ونعني به التشبيه الذي يقرن بين قساوة الإسرائيليين وبين الحجارة، وذلك في قوله تعالى:
(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، وإنّ من
______________________________________________________
الصفحة 52
الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، وإنّ منها لما يشقّق فيخرج منه الماء، وإنّ منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون) [البقرة: 74].
لقد أوضحت هذه الصورة أنّ قلوب الإسرائيليين تشبه الحجارة في قسوتها، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك، فأشارت إلى أن قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة، ثم قدّمت دليلاً فنّياً على ذلك، فأوضحت أن الحجارة قد يتفجر منها الماء، وقد تشقّق فيخرج منها الماء، وقد تخشع من خشية الله تعالى، بينما قلب اليهودي لا تتفجر منه الرحمة، بل لا ينبع منه أدنى الرحمة، فضلاً عن أنه لا يخشع البتة من خشية الله تعالى.
هذا هو ملخص (الصورة التشبيهية) المذكورة. بيد أن ما يهمنا منها هو: تركيبتها الفنية من جانب، وصلة ذلك بهيكل السورة الكريمة من جانب آخر:
أمّا تركيبتها الفنّية فتتمثل في كون هذه الصورة تنتسب إلى ما نسمّيه بالصورة الاستمرارية أو الكلية، أي: الصورة الكبيرة التي تتألف من صور جزئية تشكّل بمجموعها صورة موحّدة، فهناك خمس صور جزئية هي:
1 ـ قساوة اليهودي ومشابهتها للحجارة.
2 ـ كون القساوة أشد من الحجارة.
3 ـ كون الحجارة تتفجر منها الأنهار.
4 ـ كون الحجارة يخرج منها الماء.
5 ـ كون الحجارة تخشع من خشية الله تعالى.
وأهمية هذه الصور الخمس تتمثل في كونها تعتمد ما هو (حسيّ) من تجارب الحياة حتى تتعمق قناعة القارئ بحجم القسوة اليهودية، حيث أن انتخاب الحجر وكونه مألوفاً في خبرات الناس، يظل أمراً حسيّاً يدركه الجميع، وتتمثل الأهمية أيضاً في كون هذه الصورة تعتمد عنصر (الاستدلال) حيث استدلّت الصور الأخيرة الثلاث على مدى قسوة اليهودي وكونه أشدّ من
______________________________________________________
الصفحة 53
الحجر، وتتمثل الأهمية الفنية ثالثاً في كون الصور قد اعتمدت على نمطين من التشبيه، وهما: التشبيه الأول الذي ساوى بين القسوة والحجارة، والتشبيه الآخر الذي نسمّيه بـ(التشبيه المتفاوت) أي التشبيه الذي لا يساوي بين طرفي التشبيه، بل يجعل (المشبّه) أعلى درجةً من (المشبه به) أي: يجعل (القساوة) أشد درجةً من (الحجارة).
ثم تتمثل الأهمية الفنية لهذه الصور رابعاً بكونها تتدرج بمشاعر القارئ حيث تبدأ الصور الأولى بتقريب القساوة عند اليهودي من خلال مقارنتها بالحجر، ثم تتصاعد بمشاعر القارئ وتتدرج بتصعيدها حينما تجعل قساوة اليهودي أشد من الحجارة لا أنها مساوية لها، وعندما تستدل على ذلك، تتصاعد بمشاعر القارئ تدريجاً أيضاً، فتوضح له من البدء أن الحجر قد تفجّر منه الأنهار كالصخور الجبلية التي تندفع منها سيول الماء، وهذا يعني أن الحجارة الجبلية ذات حجم كبير من العطاء لكونها تنفجر منها سيول الماء، ثم توضّح له أن قلب اليهودي الذي لا تتفجر منه الرحمة، لا يقتصر ذلك على هذا المقدار الذي يفتقده، بل أنه لا يملك حتى المقدار القليل من الرحمة، وهذا ما تكفّلت به الصورة التي قالت (وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء) أي: هناك من الأحجار ما تتشقق فيخرج منها مقدار من الماء وهو النبع الأرضي، حيث أن النبع في الأرض بالقياس إلى سيول الماء التي يفجّرها الجبل، يعدّ أقلّ مقداراً كما هو واضح، وبهذا يكون النص قد تدرّج بمشاعر القارئ، فنقله من كون الحجارة (تتفجّر) مياهاً إلى كونها (تنبع) بالمياه، بعد ذلك، نجد أن الصورة الأخيرة وهي (كون الحجارة تخشع من خشية الله تعالى) قد اضطلعت بمهمة فنية ضخمة حينما هيّأت ذهن القارئ إلى أن يربط بين قساوة القلب وبين جوهر السلوك العبادي عند الإنسان، ألا وهو: الخوف من الله تعالى، فأوضحت أن من الحجارة ما يخشع لله تعالى، تاركةً القارئ بأن يستوحي ويستخلص بأن قلب اليهودي لا يعرف الخشية من الله تعالى أبداً،
_____________________________________________________
الصفحة 54
وهذا هو منتهى القساوة التي تربط بين مَن لا يخشى الله تعالى وبين من تنعدم لديه الرحمة.
وبهذه الصورة الختامية الأخيرة (أي: القلوب غير الخاشعة من خشية الله تعالى) يكون النص قد ربط بين سلوك الإسرائيليين الذين تقدّم ذكرهم في الأجزاء السابقة من السورة الكريمة، حيث عرضت لنا مواقفهم التي تمردوا من خلالها على أوامر موسى عليه السلام، ومواقفهم التي رافقها التشكيك بتلكم الأوامر، فيما يكشف ذلك عن مدى التوائهم في السلوك الشاذ، مما ترتّب عليه أن يغيب الحس الإنساني لديهم إلى الدرجة التي أصبحت أعماقهم من خلالها عديمة الحس بحيث تصبح الحجارة أفضل إحساساً منها بمبادئ العطاء والخير.
إذن: جاءت هذه الصورة التشبيهية بمستوياتها المتقدمة رابطاً عضوياً بين هذا الجزء من السورة وبين الأجزاء السابقة منها.. تماماً بمثل ما جاء النص القصصي السابق، رابطاً عضوياً بين أجزاء السورة أيضاً، كل ما في الأمر أن كل عنصر فني يساهم في قسم من عمليات الربط بين أجزاء السورة، حيث جاء العنصر القصصي رابطاً بين مفهومات (الإحياء والإماتة) و(الاتقاء) التي تشكل أحد محاور السورة الكريمة، وجاء العنصر الصوري رابطاً بين الموضوعات المرتبطة بسلوك الإسرائيليين الذين خُصص قسمٌ كبيرٌ من السورة للحديث عنها، بالنحو الذي لحظناه.
لكن، ينبغي أن نلاحظ أن هذا الربط الفني بين عنصر القصة والصورة وبين الأجزاء السابقة، لا ينحصر في عملية الربط بين موقف حاضر وموقف سابق، بل تنعكس عملية الربط على المواقف اللاحقة من السورة أيضاً، وهذا ما نبدأ بمتابعته في:
______________________________________________________
الصفحة 55
المقطع الرابع
يتضمن هذا المقطع تسعاً وعشرين آية، تبدأ بقوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)، وتنتهي بهذه الآية الكريمة (ولو أنهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند الله خيرٌ لو كانوا يعلمون) [البقرة: 75 ـ 103]. حيث يمكننا تقسيمها إلى شطرين: شطر يتحدث عن أسلوب اليهود من خلال نظرتهم لكلام الله تعالى عن توراتهم، وشطر يتحدث عن أسلوبهم من خلال نظرتهم لكلام الله تعالى عن القرآن نفسه، حيث يتلاعبون في كلا الكتابين: التوراة والقرآن بالألفاظ، فيحرّفون كلامه تعالى في توراتهم، ويشككون بكلام الله تعالى في القرآن.
البناء الهندسي
يعنينا من هذا المقطع جانبان، أولهما: طريقة الانتقال من المقطع السابق الذي خُتِمَ بالحديث عن قساوة اليهود، إلى هذا المقطع الجديد الذي بُدِئ بالحديث عن واحدٍ من أشكال السلوك القاسي لديهم، وهو: تحريفهم لكلام الله تعالى؛ ثانيهما: ملاحظة البناء الهندسي لهذا المقطع، من حيث موضوعاته التي خضعت لتخطيط فني خاص.
1 ـ لقد تم الانتقال من المقطع السابق إلى المقطع الحالي، من خلال إيجاد رابطة عضوية بين موضوعات المقطع السابق التي انتهت إلى أنّ الإسرائيليين قد انعدم لديهم الحس الإنساني أو القيم الخيّرة إلى درجة أن الحجارة يمكن أن تنبض بما هو خير دون أن يملك اليهود مثل هذا النبض بالخير... أقول: لقد تم الانتقال من هذا الموضوع إلى المقطع الحالي الذي بدأ بمخاطبة المؤمنين، قائلاً: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم
______________________________________________________
الصفحة 56
يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)، فهذه الآية تستهدف الربط بين توقّعات الإسلاميين حيال اليهود وغيرهم بأن يعدّلوا من سلوكهم ويؤمنوا برسالة الإسلام، وبين سلوك اليهود الذي اضطلع المقطع السابق بتبيين مدى التوائه الذي لا سبيل إلى إصلاحه. والمهم هو: أن النص عندما يعرض سلوك اليهود وسواهم إنما يستهدف منه لفت نظر الإسلاميين إلى أمثلة هذا السلوك، والاتعاظ به، والإفادة من التجارب السابقة من أجل أداء المهمة العبادية، لذلك، فإن المسوّغ الفني لهذا الربط بين سلوك اليهود وبين مخاطبة المؤمنين، هو: إن الهدف الرئيس لعرض سلوك اليهود هو: لفت نظر المؤمنين إلى ذلك، وأخذ العظة منه كما قلنا، مما يترتب عليه، أن يبدأ مقطع جديد في السورة الكريمة، يُخصّص لموضوعات أخرى تتحدث عن سلوك اليهود أيضاً، ولكن في سلسلة جديدة من السلوك، مما تتطلب بناءاً فنياً خاصاً، يقوم على شطرين، تعامل اليهود مع التوراة، وتعاملهم مع القرآن.
2 ـ إنّ البناء الهندسي للمقطع الجديد، يبدأ ـ كما قلنا ـ بمخاطبة المؤمنين بأن يصرفوا النظر عن إمكانية إصلاح اليهود، ولكي يعزز فيهم عنصر القناعة بهذا الأمر، نجده يبد بعرض سلسلة من مواقف اليهود الجديدة... وأهمية هذا النمط الجديد من عرض السلوك الإسرائيلي، هو: أن النص ـ من جانب ـ يقسّم السلوك إلى شرائح متنوعة، بحيث يضطلع كل مقطع بعرض شريحة منه، حتى يطرد الملل الذي يمكن أن يحسّه المتلقي لو عُرِض عليه السلوك اليهودي دفعةً واحدة، كما أنه ـ من جانب آخر ـ يتقدم النص في كل شريحة جديدة بعرض نمط خاص من السلوك يختلف من النمط السابق عليه. فمثلاً، لقد كان تركيز المقطع السابق منصبّاً على سرد النِعَم التي أغدقها الله تعالى على اليهود، أما في المقطع الجديد الذي نتحدث عنه الآن، فإن التركيز ينصبّ على الكفران بالنعم، مع ملاحظة أنه في الحالين جميعاً ثمة تذكير بالنعم وكفران اليهود بها، إلا أن (التغليب) لأحدهما على الآخر، هو الذي
______________________________________________________
الصفحة 57
يسم هذا المقطع أو ذاك، لذلك نجد أن ظاهرة الكفران بالنعم يتضخم عنصرها في المقطع الجديد، حيث تترتب على ذلك فارقية أخرى بين المقطعين هي: إن المقطع الجديد يتكفل بعرض (الموقف) وليس (الأحداث) و(الوقائع)، لأن (المواقف) هي: تعبير عن الاستجابة الصادرة عنهم، متمثلةً ـ في الغالب ـ في سلوك فكري مثل تحريف كلام الله تعالى وسواه فيما سنعرض له لاحقاً، بينا لحظنا أن التذكير بالنعم في المقطع السابق قد اقترن بعرض (الحوادث) أو الوقائع المتمثلة في ظواهر مادية مثل: إنقاذهم من فرعون، وإغراقه، والتظليل بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى... الخ. والمهم بعد ذلك، أن نعرض لكيفية البناء الهندسي لهذه (المواقف) حيث يستهلها النص بظاهرة (تحريف كلام الله تعالى)، وهي: أشدّ المواقف انحرافاً والتواءاً: من حيث التصاقها بواقع الشخصية الإسرائيلية التي أوضح النص ـ في ختام المقطع السابق ـ مدى جدبها وخلوّها من الخير.
يقول المقطع الجديد: (... وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنّا، وإذا خلا بعضهم إلى بعضٍ، قالوا: أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليُحاجّوكم به عند ربكم، أفلا تعقلون * أوَلا يعلمون أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون * ومنهم أميّون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) [البقرة: 75 ـ 79].
هذه الجزئية من السلوك قد بدأها النص بالحديث عن التحريف لكلام الله تعالى، وختمها بالحديث عن التحريف أيضاً، بدأها بالقول (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه...). وختمها بالقول (فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله...)، بدأها بالإخبار عن كون
_____________________________________________________
الصفحة 58
اليهود يحرّفون كلام الله تعالى، وختمها بالحديث عن الجزاء الأخروي الذي ينتظر هؤلاء المحرّفين.
إذن: البناء الهندسي لهذه الجزئية قد أُحكِم من خلال البداية والنهاية اللتين تصبّان في فكرة (التحريف لكلام الله تعالى). وأما (الوسط)، فقد تناول أسلوبهم في إخفاء عملية التحريف، حيث ذكر النص أنّ علماء اليهود كانوا ينكرون على بعض رجالهم الذين لم يحرّفوا كلام الله تعالى بقدر ما كانوا ينقلون للناس صفة محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في التوراة، حيث أنكر علماؤهم على هذا البعض، قائلين: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به...؟)، أي: كيف تنقلون إليهم الحقائق التي يلزمونكم بها!!.
بعد ذلك، يتّجه النص ـ في جزئية جديدة من سلوك اليهود ـ إلى عرض تصوراتهم حيال اليوم الآخر، والحساب، حيث قالوا: (لن تمسّنا النار إلاّ أيّاماً معدودةً. قل: اتخذتم عند الله عهداً؟ فلن يخلف الله عهدَه، أم تقولون على الله ما لا تعلمون. بلى من كَسَب سيّئةً وأحاطت به خطيئته، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 80 ـ 81].
إن عرض هذه النظرة الإسرائيلية عن كونهم لن يعذّبوا إلاّ أياماً معدودةً، جاء متجانساً ـ من جانب ـ مع ذهنيتهم المتخلفة التي مرّت نماذجها على القارئ في مواقع سابقة من السورة، كما جاء ـ من جانب آخر ـ متجانساً مع فكرة (التحريف)، حيث أن تعذيبهم أياماً معدودة لا أساس له البتة، ولذلك سخر النص منهم حينما تساءل (اتخذتم عند الله عهداً، فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون).
إذن: جاءت هذه الجزئية، مرتبطة فنياً بالجزئية السابقة (التحريف) ـ كما أوضحنا ـ كما أنها سوف ترتبط فنياً بجزئية لاحقة تتحدث عن الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الإسرائيليين، فالنص بعد أن نفى أي (عهدٍ) من الله تعالى
______________________________________________________
الصفحة 59
بالنسبة إلى تعذيبهم أياماً معدودة، اتجه إلى التذكير بـ(العهد) الذي أخذه عليهم، فقال تعالى:
(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل: لا تعبدون إلاّ الله، وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين، وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم تولّيتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون * وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردّون إلى أشدّ العذاب، وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا يُخفّف عنهم العذاب ولا هم ينصرون * ولقد آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرُسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس، أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم، ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون) [البقرة: 83 ـ 87].
هذه الجزئية تناولت جملة من العهود أو المواثيق التي أخذها الله تعالى على الإسرائيليين، من نحو الإيمان بالله تعالى، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإحسان للوالدين ولذي القربى واليتامى والمساكين، والتعامل مع الناس بالحسنى، ثم تحدّث النصُ عن أحد المواثيق وجعله في حقلٍ مستقل هو: عدم سفك الدماء وما يرتبط به من التعامل العسكري حيث أشار النص إلى نقض الغالبية لهذه العهود، مختتماً هذا الحديث بكلام عن ظاهرة مجانسة للتحريف أيضاً، ألا وهو قوله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يُردُّون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون).
______________________________________________________
الصفحة 60
ما يعنينا من هذه الجزئية هو:
بناؤها الفني
هذه الجزئية تخضع لتخطيط هندسي بالغ الجمال والإحكام. وقد لحظنا كيف أن النص قد انتقل من حديثه الساخر عن عدم وجود عهد أو ميثاق يقضي بتعذيب اليهود أياماً معدودة، إلى الحديث عن وجود عهد وميثاق يقضي بتوحيدهم لله تعالى، وبالإحسان للوالدين...الخ، وبهذا تم الربط العضوي بين هذه الجزئية والجزئية السابقة.
وأما البناء الهندسي للجزئية ذاتها، فقد تحدثت عن ميثاقين، أحدهما يتصل بممارسات عبادية واجتماعية (الصلاة، الزكاة، التعامل بالحسنى مع الوالدين والأقرباء والفقراء ومطلق الناس)، والآخر يتصل بممارسات سياسية وعسكرية (عدم سفك الدم، عدم الإخراج من الديار..).
والمسوغ الفني لهذا الفصل بين الميثاقين، أو لنقل: تخصيص عدم سفك الدم وملحقاته في حقل مستقل، هو: إعطاء الأهمية لهذا الميثاق الأخير، بصفته يرتبط بحياة الإنسان أي (عدم سفك الدم).
ويُلاحظ أن النص خلال طرحه لهذه الظواهر العبادية والاجتماعية والسياسية، قد ضمّنها مفهومات تشكّل الخيط العضوي الذي يربط بين أجزاء السورة الكريمة، حيث جاءت الإشارة إلى أن الإسرائيليين لم يلتزموا بالمواثيق، وأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون بالبعض الآخر، وأنهم استكبروا وكذبوا بعض الرسل وقتلوا البعض الآخر، وأنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، وإن الجزاء الأخروي ينتظرهم. هذه المفهومات تشكل عنصراً مشتركاً تتردد أصداؤه في مواقع سابقة من النص القرآني الكريم، حيث لحظنا في جزئية سابقة قضايا الكفران بالنعم، وبتحريف كلام الله تعالى، وباشترائهم بهذا التحريف ثمناً قليلاً، وبترتب العذاب على مثل هذا السلوك... كل هذه
______________________________________________________
الصفحة 61
الظواهر قد وجدت مكاناً لها في هذه الجزئية التي تتحدث عنها، حيث يُفصح مثل العنصر المشترك بينها وبين الجزئية التي نتحدث عنها، عن مدى الإحكام الهندسي بين جزئيات النص القرآني الكريم.
ما تقدّم، يمثل الشطر الأول من المقطع القرآني الذي يتحدث عن سلوك اليهود، حيث تناول طريقة تعاملهم مع التوراة.
وأما الشطر الآخر من المقطع، فيتحدث عن أسلوب تعاملهم مع القرآن الكريم.
يقول النص: (وقالوا: قلوبنا غلف، بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزّل الله من فضله على من يشاء من عباده، فباؤا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين * وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا: نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم، قل فلِمَ تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبيّنات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور، خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا، قالوا: سمعنا وعصينا، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم، قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين * قل: إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنّهم أحرص الناس على حياةٍ، ومن الذين أشركوا، يودّ أحدهم لو يُعمّر ألف سنة، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يُعمّر، والله بصير بما يعملون * قل: من كان عدواً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين * مَن كان عدوّاً لله
______________________________________________________
الصفحة 62
وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين * ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلاّ الفاسقون * أوَكلما عاهدوا عهداً، نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون * ولما جاءهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم، نبذ فريقٌ من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون * واتّبعوا مما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا، يعلّمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحدٍ إلاّ بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم آمنوا واتّقوا، لمثوبة من عند الله خير، لو كانوا يعلمون) [البقرة: 88 ـ 103].
البناء الفني
هذا النص يتوازن معمارياً مع سابقه من حيث تضمّنه أوّلاً: موضوعاً خاصاً هو (موقف اليهود من نزول القرآن) مقابل الموضوع الخاص للجزئية السابقة وهي (موقف اليهود من التوراة)، ومن حيث تضمنه ثانياً: موضوعات ثانوية تجيء في سياق الحديث عن ظاهرة (الكفران بالنعم)، حيث قلنا: إنّ المقطع الرابع من السورة ينصّ على طرح هذه الظاهرة، بما يواكبها من موضوعات تتصل بنمط عقلية اليهود، وبإيثارهم لمتاع الدنيا، وبما يترتب عليه من الجزاء الأخروي...الخ، وهذا ما نبدأ بتفصيل الحديث عنه من خلال الحقول الثلاثة الآتية التي تنتظم عمارة النص، وهي: 1 ـ الموضوع الخاص 2ـ الموضوع العام 3 ـ الموضوعات الثانوية.
1 ـ أمّا ما يرتبط بالموضوع الخاص الذي طُرِح في هذه الجزئية، فيتمثل في ذهاب اليهود إلى أن قلوبهم (غلف) لا تعي ما يقوله القرآن الكريم.
______________________________________________________
الصفحة 63
2 ـ وأمّا ما يرتبط بالموضوع العام الذي طُرح في هذه الجزئية، فيتمثل في كفرانهم بالنعمة التي أغدقها الله تعالى عليهم، وهي (رفع الجبل)، حيث قالوا عند تذكيرهم بهذه النعمة وأخذ الميثاق: (سمعنا وعصينا).
3 ـ وأمّا ما يتصل بالموضوعات الثانوية التي طُرِحت في هذه الجزئية تتمثل في جملة من الموضوعات، منها: زعمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، ومنها: اتباعهم ما تتلو الشياطين على ملك سليمان...الخ. مضافاً إلى ذلك: الموضوعات الأخرى التي تشكل موضوعات مشتركة تتردد أصداؤها في أجزاء أخرى من النص، مثل: اشترائهم الحياة الدنيا بالآخرة، والتلويح بالعذاب الذي ينتظرهم...الخ.
والمهم هو: ملاحظة البناء الهندسي لهذه الموضوعات (الخاصة، العامة، الثانوية) فيما بينها، ثم ملاحظة ارتباطها العضوي بالأجزاء الأخرى من النص، فضلاً عن ملاحظة الأدوات الفنية التي وُظِّفت في البناء المذكور.
ولنتحدث وفق التسلسل الموضوعي لهذا البناء.
لقد بدأ النص بالحديث عن سلوك اليهود حيال القرآن الكريم (وهو الطابع الذي يسم هذا الشطر من المقطع القرآني مقابل الشطر الأول الذي تحدث عن سلوكهم حيال التوراة). لقد نقل النص حوارهم القائل (قلوبنا غلف) حيال القرآن الكريم، أي: أن قلوبهم بمثابة أغشية لا تنفذ إليها المعرفة، وهذه الصورة الفنية تنتسب إلى ما نسميه بـ(التمثيل) الذي هو: إحداث علاقة بين شيئين لا علاقة بينهما في الواقع، بحيث يكون أحدهما بمثابة تجسيد للآخر، فيكون (القلب) بمثابة (غشاء)، أي يتمثّل أو يتجسّد في كونه (غشاءً) لا يعي المعرفة. كما يمكن أن تكون هذه الصورة (رمزية) يشير (الغشاء) فيها إلى دلالة خاصة هي (انعدام المعرفة)، وفي الحالين، فإن هذه الصورة التمثيلية أو الرمزية تعدّ من الصور المثيرة، المدهشة، الغنية
______________________________________________________
الصفحة 64
بالدلالات، بصفة أن (الغشاء) هو العينة الحسيّة التي تمنع من دخول أيّ شيء إليها، حيث ترمز بذلك إلى انعدام الوعي نهائياً. طبيعياً، أن اليهود عندما صاغوا هذه الإجابة قصدوا منها السخرية والعناد، حيث بلغ بهم المرَضَ النفسي لدرجة أنهم غير مستعدين البتة للاستماع لأيّ كلام من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمهم هو: أن إبراز النص لهذا السلوك يستهدف لفت نظر القارئ إلى مدى انغلاق الذهن الإسرائيلي حيث يتجانس هذا الانغلاق مع سائر مواقفهم التي عرضها سابقاً ومع المواقف التي يعرضها لاحقاً، وهذا ما يجسّد أحد أشكال البناء العضوي للنص، حيث ساهمت الصورة الفنية في تقديم السمة المضطربة التي تطبع سلوك الإسرائيليين.
بعد ذلك، تقدّم النص بعرض شريحة من سلوكهم المنغلق ذهنياً، ألا وهو: كفرانهم بالقرآن الكريم مع أنهم كانوا يستفتحون به على أعدائهم. فإذا كانوا يستنصرون بالقرآن قبل نزوله، فكيف ينكرونه بعد نزوله؟ أليس هذا تجسيداً واضحاً للانغلاق الذهني؟. هنا، ربط النص عضوياً بين هذا النمط من السلوك وبين الواقعة المتمثلة في اشترائهم الدنيا بالآخرة (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله...) حيث لحظنا أن مفهوم (الاشتراء للدنيا بالآخرة) قد شكل عنصراً مشتركاً يتردد في كل جزئية من النص، فعندما تحدث النص في الشطر الأول الخاص بتحريف اليهود لكلام الله، علّق قائلاً (ليشتروا به ثمناً قليلاً)، وعندما عرض في ذلك القسم أيضاً قضية إيمانهم ببعض الكتاب وكفرانهم بالبعض الآخرة علق قائلاً (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة)، وها هو الآن يعلق ـ في الجزئية التي نتحدث عنها ـ قائلاً (بئسما اشتروا به أنفسهم...).
إذن، ينبغي ألا تفوتنا هذه السمة البنائية التي تربط بين مختلف جزئيات النص، مضافاً إلى سمات ربطية أخرى مثل التلويح بالجزاء الذي ينتظرهم،
______________________________________________________
الصفحة 65
حيث يتكرر هذا التلويح في جميع الجزئيات أيضاً، ومنها: تعليق النص على موقفهم السابق بقوله تعالى: (فباؤوا بغضب على غضبٍ، وللكافرين عذاب مهين)، ومنها أيضاً (أي: عملية الربط بين مختلف جزئيات النص): إعادة النص لمواقف اليهود التي سبق عرضها في أجزاء متقدّمة، منها: الإشارة التي قتلهم الأنبياء، ومنها: الإشارة التي رفع الجبل، حيث كرّرها في هذه الجزئية التي نتحدث عنها مع أنها ذُكِرت من المقاطع الأولى من النص، أي: المقاطع التي تناولت سرد النعم على الإسرائيليين. لذلك ينبغي أن نقف عند ظاهرة (التكرار)، لملاحظة وظيفته الفنية في بناء النص، وهي من أهم القضايا التي ترتبط بعملية البناء الهندسي للنص. فالمُلاحظ أن النص القرآن الكريم لا يكرر الموضوع إلا في إحدى الحالات:
1 ـ أن يتكرر في سياق جديد. 2 ـ أن يتكرّر من أجل كونه محطة توقّف تربط بين حدود كل مقطع جديد يُختم به الموضوع. 3 ـ أن يُفتح به 4 ـ أن يكون مجرد تأكيد لأهمية الموضوع.
وحين ننظر إلى قضيتي (قتل الإسرائيليين لأنبيائهم) و(رفع الجبل وأخذ الميثاق) نجد أنهما قد وردا في سياق جديد يختلف عن السياق الذي وردا فيه في المقاطع السابقة... فبالنسبة إلى (رفع الجبل) مثلاً جاء الآن في سياق (كفران اليهود بالنعم) حيث قالوا: (سمعنا وعصينا)، بينما جاء في المقطع الأول في سياق (الحديث عن النعم) فهناك قال النص (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور، خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) وهذا هو تذكير بالنعم، ولكنه عندما كرّر هذا التذكير في الجزئية التي نتحدث عنها، قال (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور، خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا، قالوا: سمعنا وعصينا...) فهنا، جاء ذكر الطور والميثاق في صعيد الكفران بالنعم (وهو عصيانهم)، وهناك جاء ذكر الطور والميثاق في
______________________________________________________
الصفحة 66
صعيد التذكير بسلسلة طويلة من النعم، منها: رفع الجبل حيث طالبهم بالاتقاء.
وبالرغم من أن النص أشار إلى كفرانهم بالنعم أيضاً (ثم توليتم...)، إلا أنه جاء هناك عرضياً، بينما جاء هنا بنحو ملحوظ، من خلال اعترافهم الوقح (قالوا سمعنا وعصينا).
إذن: جاء التكرار لهذه الظاهرة محكوماً ببناء هندسي بالغ الإحكام والجمالية. والأمر نفسه بالنسبة إلى ظاهرة قتلهم الأنبياء.
فقد جاءت الإشارة إلى قتلهم الأنبياء في المقطع الأول في سياق طلبهم استبدال الذي هو أدنى من الطعام بالذي هو خيرٌ، أما في الجزئية التي نتحدث عنها فقد جاءت الإشارة إلى قتلهم الأنبياء في سياق زعمهم الذاهب بأنهم يؤمنون بما جاء في التوراة ولا يؤمنون بما جاء في القرآن، حيث أجابهم النص قائلاً (فلِمَ تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) بالتوراة؟ وإذن: جاء التكرار هنا مختلفاً عن السياق الذي وردت فيه الإشارة إلى قتل الأنبياء.
بعد ذلك، عرض النص شريحة جديدة من سلوكهم المطبوع بسمة الانغلاق الذهني، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وهذا الزعم يتجانس فنياً مع زعمهم في جزئية سابقة بأنهم لن يعذّبوا إلاّ أياماً معدودة، حيث يكشف مثل هذا التجانس، عن الربط العضوي بين أجزاء النص: من حيث التقابل بين المواقف التي لا يعرضها النص دفعة واحدة بل يوزّعها فنياً على أجزاء متفرقة من النص، بالنحو الذي لحظناه.
ثم يتقدم النص بعرض شريحة أخرى من سلوكهم المطبوع بسمة الانغلاق الذهني أيضاً، متمثلة في ذهابهم إلى جبرئيل ـ عليه السلام ـ عدوّ لهم.
وأخيراً تتقدم بعرض شريحة جديدة أخرى من شرائح سلوكهم الذهني المنغلق، ألا وهو اتهامهم سليمان ـ عليه السلام ـ بالسحر وقيام ملكه على هذا السحر،
______________________________________________________
الصفحة 67
حيث تكفّل النص بالرد على هذا الاتهام، مستثمراً هذا الجانب ليقدّم موضوعاً ثانوياً يتصل بالسحر وفاعليته أو انعدامها مثل كونه عملاً شيطانياً يحاول الساحر من خلاله أن يفرّق بين الزوجين مؤكداً أنه عديم الفاعلية، حيث لا يصيب الإنسان شيء إلاّ بإذن الله تعالى.
ثم ختم النص بهذه الجزئية قائلاً عن اليهود الذين تقدّم الحديث عنهم: (ولو أنهم آمنوا واتّقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون)، حيث ربَطَ النصّ بين هذا الختام وبين الموضوعات السابقة عليه من جانب، وبينه وبين أحد محاور سورة البقرة التي تؤكد مفهوم (الاتقاء) من جانب آخر، محققاً بهذا الربط: تلاحم أجزاء السورة ـ في أكثر من محور ـ بالنحو الذي لحظناه.
وبهذا الختام، ينتهي المقطع الرابع من النص القرآني الذي خُصِّصَ للحديث عن الإسرائيليين، ليواجهنا بالمقطع الأخير الذي ينتهي به هذا القسم من السورة الكريمة.
* * *
المقطع الخامس
يتضمن هذا المقطع (20) آية، تبدأ بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين على نحو ما لحظناه في المقطع السابق الذي بدأ أيضاً بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين، إلا أن الفارق بين المقطعين هو: إن المقطع السابق ورد في سياق خاص هو: لفت نظرهم إلى سلوك الإسرائيليين من حيث صعوبة تعديل سلوكهم، أما المقطع الحالي الذي نتحدث عنه. فقد ورد في سياق جديد هو: تركيز الحديث عليهم بخاصة، حيث طالبهم بجملة من المبادئ الإسلامية التي ينبغي أن يلتزموا بها، وهذا ما تمت صياغته وفق بناء هندسي محكم يربط بين السلوك الإسرائيلي السلبي الذي عرضته الأجزاء المتقدمة من السورة وبين السلوك الإيجابي الذي ينبغي أن يلتزم المؤمنون به. ومعلوم، أن الربط بين
______________________________________________________
الصفحة 68
السلوكين في ختام هذا القسم المختص بسلوك الإسرائيليين، وجعل الختام خاصاً بمخاطبة المؤمنين يشكل تلاحماً عضوياً في بناء هذا القسم من السورة، فيما بدأ بالحديث المفصّل عن الإسرائيليين من خلال تذكيرهم بالنعم ثم من خلال كفرانهم بها، ثم تذكير المؤمنين بأن يقطعوا أملهم عن إصلاح الإسرائيليين، ثم مطالبة هؤلاء المؤمنين بالتزام المبادئ الإسلامية التي وقف اليهود منها سلبياً، أولئك جميعاً يجسّد الترابط العضوي بين الأجزاء التي تضمنها هذا القسم من السورة، حيث تمت عملية ربط محكمة بين عرض السلوك الإسرائيلي وبين السلوك الذي ينبغي أن يختطه المؤمنون.
ليس هذا فحسب، بل نجد أن إحكام البناء الهندسي للنص، قد تجسّد (من حيث الهيكل العام لهذا القسم من السورة) في صياغةٍ عضويةٍ بالغة الجمالية، حيث خُتِم هذا القسم بنفس الآية الكريمة التي بدئ بها القسم أيضاً، مع تغاير في النتيجة، فالبداية إلى استُهِلّ بها النص كانت على هذا النحو: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإيايّ فارهبون) [البقرة: 40]، والنهاية التي خُتِم بها النص جاءت على هذا النحو: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأني فضلتكم على العالمين * واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفسٍ شيئاً ولا يُقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم يُنصرون) [البقرة: 122 ـ 123]. فمخاطبة بني إسرائيل، وتذكيرهم بالنعم جاءت في البداية والنهاية في صيغة واحدة، إلا أنّ النهاية ضمت صياغة أخرى هي (وأني فضّلتكم على العالمين)، وهي نفس الصياغة التي وردت في (وسط القسم) الذي خُصِّصَ لسرد النعم وكفرانهم بها كما أُضيفت إليها صياغة أخرى هي (واتقوا يوماً...الخ).
وهذا النمط من التماثل والتغاير ينطوي على أسرار بنائية في غاية الإحكام والجمال، فأوّل القسم ووسطه وآخره، خضع لصياغة واحدة (الآيات
______________________________________________________
الصفحة 69
40، 47، 122) هي: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)، ووسط النص وآخره أضيفت إليهما صياغة جديدة هي (وأني فضلتكم على العالمين) (الآيتان 47، 122)، وأول النص أضيفت إليه صياغة خاصة هي: (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون) وآخر النص أُضيفت إليه صياغة جديدة هي (واتقوا...الخ) حيث إن (الاتقاء) هو الحصيلة النهائية التي يستهدفها النص من وراء عرضه لسلوك الإسرائيليين، فضلاً عن أنه (أي الاتقاء) يشكل حلقة وصل بين جميع أجزاء السورة حيث لحظنا أنه (مضافاً إلى محور آخر هو عملية الإحياء والإماتة) يشكلان محورين يقوم عليهما هيكل السورة في الأقسام السابقة، وفي انعكاساتهما المفصّلة في الأجزاء اللاحقة.
إذن، هذه الخطوط المتقابلة من جانب والمتغايرة من جانب، تجسّد مدى الإعجاز الفني الذي يحكم بناء النص، حيث سبق أن أوضحنا في بداية القسم ووسطه عن الأسرار الفنية لهذا البناء، كما ينبغي أن نشير الآن إلى صلة الوسط بالنهاية، حيث يمكن القول بأن تماثل البداية والنهاية في الصياغة، إنما جاء ـ كما نحتمل فنياً ـ بسبب كونهما يعرضان لسلسلة من النعم والكفران بها، فاقتضى ذلك أن يحصر هذا الموضوع بين عبارتين متماثلتين تشيران إلى دلالة النعم وتفضيلهم بها، أما التغاير الحاصل بين البداية من جانب وبينها وبين الوسط والنهاية من جانب آخر، ونعني بها العبارة المضافة: (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم، وإياي فارهبون)، فتتمثل ـ كما نحتمل فنياً أيضاً ـ في أن المطالبة بالوفاء، بالعهد، وبالرهبة من الله تعالى، من أن النص يستهدف لفت نظر القارئ إلى أن الإسرائيليين سوف لا يفون بالعهد ولا يرهبون الله تعالى، وهذا ما تكفل به الوسط والنهاية، حيث تم عرض النِعم وعرض المواقف التي جسّدت كفرانهم بتلكم النعم،... وحينئذٍ يتبين السرّ الفني لتماثل الوسط والنهاية في قضية التذكير بالنعم، ولتماثل البداية والوسط والنهاية في هذه القضية أيضاً، ثم في تغاير البداية بالنسبة للفقرة المضافة (وأوفوا
______________________________________________________
الصفحة 70
بعهدي...) الخ)، وفي تغاير النهاية بالنسبة إلى فقرة (واتقوا...) حيث أوضحنا الآن جانباً من الأسرار الفنية لهذا التماثل والتغاير، ممّا يدفعنا إلى التكرار ثانية بأن مثل هذا البناء الفني المدهش ينبغي أن يظل موضع اهتمام القارئ، ما دمنا ـ أساساً ـ نعني بعمارة النص القرآني الكريم.
لكن، ينبغي أيضاً أن نعرض لعمارة المقطع النهائي من حيث جزئيات بنائه ذاته، مضافاً إلى صلته بعمارة المقاطع التي سبقته فيما انتهينا من الحديث عنها الآن.
* * *
ولنقرأ المقطع أولاً: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا: راعنا، وقولوا: انظرنا، واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليم * ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم، والله يختص بحرمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم * ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير * أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السبيل * ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيءٍ قدير * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير * وقالوا: لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى مَن أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم
______________________________________________________
الصفحة 71
القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ومَن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذاب عظيم * ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله إن الله واسع عليم * وقالوا: اتخذ الله ولداً، سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون * وقال الذين لا يعلمون لولا يكلّمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم، قد بيّنا الآيات لقوم يوقنون * إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً، ولا تُسأَلُ عن أصحاب الجحيم * ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم، قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم، مالك من الله من وليّ ولا نصير * الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون * يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضلتكم على العالمين. واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) [البقرة: 104 ـ 123].
بدأ هذا المقطع بمطالبة المؤمنين بالتزام آداب خاصة في المخاطبة (لا تقولوا: راعنا، وقولوا انظرنا، واسمعوا)، حيث تمّ الربط بين موضوع السلوك الإسرائيلي الذي عرضته المقاطع السابقة وبين السلوك الذي ينبغي أن يختطه المؤمنون لأنفسهم، ومن جملة هذا السلوك هو: آداب المخاطبة، حيث كان المسلمون يخاطبون النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بعبارة (راعنا) التي تعني (استمع إلينا)، إلا أن اليهود ـ نظراً لسلسلة مواقفهم المنحرفة ـ قد حمّلوا هذه العبارة معاني قبيحة، فنهى الله المسلمين استخدامها. وما يعنينا من هذا الموضوع وما يلحقه من موضوعات جديدة هو ملاحظة أن المقطع قد خضع بناؤه لهيكل هندسي تُطرح فيه موضوعات جديدة من خلال سياق خاص هو سلوك الإسرائيليين، ومن جملة الموضوعات: إشراك الطوائف المنحرفة الأخرى
______________________________________________________
الصفحة 72
(مثل النصارى والمشركين)، في قائمة الانحراف، من نحو (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم...) ومن نحو (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم) ومن نحو (وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء) ومن نحو (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه...) فهنا نلحظ أن النص قد طرح جملة من مواقف النصارى والمشركين (مضافاً إلى اليهود) حيال القرآن والرسالة والمسلمين والمساجد والقبلة وكلها مواقف تتسم بالعدوان والذاتية وضحالة الذهن. فمن جملة مواقفهم العدوانية هو (الحسد)، ومن جملة مواقفهم الذاتية هي: تكفير كل طائفة منحرفة، طائفة أخرى. ومن جملة مواقفهم الكاشفة عن ضحالة الذهن، هي: موقفهم من القبل
______________________________________________________
الصفحة 72
(مثل النصارى والمشركين)، في قائمة الانحراف، من نحو (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم...) ومن نحو (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم) ومن نحو (وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء) ومن نحو (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه...) فهنا نلحظ أن النص قد طرح جملة من مواقف النصارى والمشركين (مضافاً إلى اليهود) حيال القرآن والرسالة والمسلمين والمساجد والقبلة وكلها مواقف تتسم بالعدوان والذاتية وضحالة الذهن. فمن جملة مواقفهم العدوانية هو (الحسد)، ومن جملة مواقفهم الذاتية هي: تكفير كل طائفة منحرفة، طائفة أخرى. ومن جملة مواقفهم الكاشفة عن ضحالة الذهن، هي: موقفهم من القبلة التي حُولت إلى الكعبة بعد أن كانت إلى المسجد الأقصى، وهكذا. خلال ذلك، طالب النص المؤمنين بممارسة المبادئ الإسلامية مثل: الصلاة، الزكاة، العفو، الصفح...الخ.
والمهم هو: أن طرح مثل هذه الموضوعات قد تمّ ـ كما كررنا ـ من خلال مبنى هندسي يربط بين موضوع وآخر من خلال التوكؤ على سلوك اليهود من جانب، ثم ربطه بسلوك المنحرفين (يهوداً ونصارى ومشركين) من جانب آخر، ففي معرض مطالبته المسلمين بألاّ يستخدموا عبارة (راعنا) التي تكشف عن عداء اليهود، نجد النص قد أشرك كلاً من النصارى والمشركين في ظاهرة عدائية للمسلمين هي (الحسد)، فقال مباشرة (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم...) ثم طرح قضية (الخير) الذي لا يريده المنحرفون للمسلمين، متمثلةً في نسخ وترك بعض الظواهر (كتحويل القبلة مثلاً) قائلاً (ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها). فإشارته إلى الخير، هنا، تمّت هندسياً من خلال آية سابقة تقول إن الكفار يحسدون المسلمين على (الخير) الذي نزل عليهم من الله، ثم تمت
______________________________________________________
الصفحة 73
هندسياً من خلال آيات لاحقة تتحدث عن هذا الخير (مثل تحويل القبلة) حيث تجيء الآيات اللاحقة لتجسّد مفهوم (الخير) الذي أشارت إليه الآية (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) والذي كان موضع حسد المنحرفين الذين جسدتهم آية (ما يود الذين كفروا...الخ)، وهكذا نجد كيف أن النص قد انتقل من آية لأخرى، حسب تخطيط هندسي يربط بين الموضوعات بالنحو الذي أوضحناه. والأمر كذلك، حينما نتابع سائر الأجزاء اللاحقة من المقطع، فقد علّق النص على (الخير) الذي أنزله الله تعالى على المسلمين قائلاً: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض...).
وبهذا يكون النص قد ربط بين قضية خاصة (هي الخير النازل على المسلمين) وبين قضية عامة تتصل بصفات الله تعالى وإبداعه، وبأن له ملك السماوات والأرض، حيث يستنتج القارئ بأنّ من ملكيته تعالى للسماوات والأرض هو: إنزال الخير على المسلمين... ثم ربط النص بين هذه المفهومات وبين جزئية جديدة من سلوك المنحرفين هي: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبل...؟)، فالصلة بين هذه الآية الجديدة وما سبقتها من الآيات تتمثل في التداعي الذهني الذي ينقل القارئ إلى جملة محاور فكرية، منها: أن مَن ينسخ آية أو يتركها ويأتي بخير منها، من خلال قدرته على كل شيء؛ وإن مَنْ ملكيته تَسع السماوات والأرض، بمقدوره أن يفعل ما يشاء (مثل سؤال المشركين محمداً ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن ينزل عليهم ظواهر إعجازية، كما سُئل موسى من قبل الإسرائيليين)، إلا أنه تعالى لا يفعل إلاّ ما هو (خير). ومن جملة المحاور الفكرية: ربط سلوك الشرك المعاصر لرسالة الإسلام، بالسلوك الإسرائيلي الذي يشكّل موضوع هذا القسم من سورة البقرة، وبهذا الربط بين الحاضر والماضي، بين وحدة السلوك المنحرف، نتبين مدى الإحكام الهندسي لهذا المقطع.
______________________________________________________
الصفحة 74
ولو تابعنا ما يتبقى من المقطع للحظناه محكوماً بنفس الربط العضوي بين جزئياته المختلفة، حيث انتقل النص بعد ذلك إلى تكرار الموضوع المرتبط بحسد المنحرفين للمؤمنين (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق، فاعفوا واصفحوا...) إلا أن هذا التكرار ورد في سياق جديد كما ورد في صياغة جديدة، أما صياغته الجديدة فتتمثل أولاً في كونه قد حصر موضوع الحسد في طائفة الكتابيين بينما تجاوزه في السابق إلى المشركين أيضاً، وفي كونه قد نصّ على عبارة الحسد، هنا، بينا لم يذكرها سابقاً بل أشار إلى أن المنحرفين لا يودون أن ينزل الخير على المسلمين، وأما السياق الجديد الذي ورد فيه فهو: مطالبة المؤمنين بالعفو والصفح عن هؤلاء الكتابيين حتى يأتي الله تعالى بأمره... وأدنى تأمل لهذه الصياغات والسياقات الجديدة يكشف لنا عن أسرار فنية متنوعة، فقد أوضح ما أجمله سابقاً بالنسبة إلى المنحرفين الذين لم يودّوا أن ينزل الخير على المسلمين، أوضحه بأن الدافع إلى ذلك هو (الحسد)، فيكون بذلك قد طرح ظاهرة نفسية تتصل بأحد الدوافع المفضية إلى انحراف الإنسان عن مبادئ الله تعالى وهو (الحسد)، طرحها من خلال عنصر التكرار، كما طرح ظواهر نفسية إيجابية مثل (العفو والصفح) من خلال السياق الجديد للتكرار، وطرح بعد ذلك ـ في آية جديدة ـ ظواهر عبادية هي الصلاة والزكاة (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة...)، وهكذا نجد أن ظواهر عبادية ونفسية قد طُرِحت خلال هذا النمط من الصياغة التي تربط بين مختلف الموضوعات بالنحو الذي لحظناه.
وما دام النص قد طرح في هذا المقطع سلوك اليهود (ثم أضاف إليهم النصارى والمشركين) واستثمار هذا الطرح في مطالبة المؤمنين بممارسة السلوك الخيّر، حينئذٍ واصل طرح مفردات جديدة من سلوك المنحرفين يهوداً ونصارى ومشركين، فعرض لذهنية كل من اليهود والنصارى القائلين بأنه لا
______________________________________________________
الصفحة 75
يدخل الجنة إلاّ من كان هود أو نصارى، ثم هكذا استثمر هذا الطرح ليلفت نظر المؤمنين إلى أنه (بلى مَن أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، ومن الواضح أنّ صلة هذه الآية الأخيرة (من أسلم...) بالآية السابقة (وقالوا لن يدخل الجنة إلا مَن كان هوداً أو نصارى...) أن النص أوضح بأن من أسلم لله تعالى هو المرشح للدخول إلى الجنة وليس اليهود أو النصارى. ولكي يدلّل النص على سخف التصور اليهودي والنصراني، عرض لنا تعليل هاتين الطائفتين لموقفهما الذاهب إلى أن الجنة لأحدهما فحسب، فقال على لسانهما (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء...) ثم ألحق بهما كل الطوائف المطبوعة بسمة الجهل: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم...).
هنا ينبغي أن نقف عند الفقرة الأخيرة لنلحظ موقعها الهندسي المحكم في هذا المقطع، ونعني بها: الطائفة التي لا علم لها (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) فهؤلاء الذين لا يعلمون، يجسّدون كلّ طائفة منحرفة عن الإسلام، ولذلك خصص لها أكثر من مكانٍ في هذا المقطع، فأشار إلى (المشركين) أولاً، وركزّ على أحد أنماط سلوكهم المتمثل في منعهم المسلمين من أن يذكروا الله تعالى في المساجد، وهنا استثمر النص قضية المساجد ومَنع الذكر فيها، فَطَرح موضوعاً جديداً هو (ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله...) أي: أن ذكر الله تعالى لا ينحصر في مكان محدد بل أينما يتجه الإنسان فثم وجه الله تعالى.
ويقول بعض المفسرين بأنّ الآية المذكورة (ولله المشرق والمغرب...) ترتبط بقضية أخرى هي أن اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة فتكون رداً على اليهود، وبالرغم من احتمال هذا التفسير، إلا أن السياق
______________________________________________________
الصفحة 76
العضوي للمقطع الذي نتحدث عنه (وهذه هي إحدى مهمات البناء العماري للنص) يفرض ما ذكرناه وهو قضية ذكر الله تعالى. وهذا لا يمنع من أن تكون الآية ذات بُعدٍ إيحائي معبّر بحيث تحتمل كل الوجوه التي ذكرناها وذكرها المفسرون، وهذا من نحو الذهاب إلى أنها نازلة في صلاة التطوّع أو في حالة الالتباس في معرفة القبلة... الخ، فضلاً عن أنها تتصل بذكر الله مطلقاً، اتساقاً مع الآية السابقة عليها، والآيات اللاحقة بها أيضاً، حيث ذكر النص بعدها، جانباً آخر من سلوك المشركين (وقالوا: اتخذ الله ولداً...).
فإذا ضممنا هذه الآية التي تتحدث عن المشركين إلى الآية الأولى التي تحدثت عنهم أيضاً، حينئذٍ نستخلص بأن الآية التي توسطتهما لابدّ أن ترتبط عضوياً بهما مضافاً إلى إمكان ترشحها بدلالات أخرى تتصل بصلاة التطوع ونحوها، أي بسلوك المشركين الذين مهدّ لهم النص في آية (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، حيث يقدّم النص شريحة جديدة من سلوك (الذين لا يعلمون) عبر الآية القائلة (وقال الذين لا يعلمون: لولا يكلّمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم).
هنا ينبغي أن نقف عند بُعدٍ جديد من أسرار البناء الفني لهذا المقطع. فقد سبق أن قلنا: إنّ لفقرة (قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) موقعاً عضوياً ينعكس على الأجزاء اللاحقة من المقطع، وها هو الجزء الجديد من المقطع يعرض شريحة جديدة عن سلوك (الذين لا يعلمون) وهو: اقتراحهم السخيف بأن يكلّمهم الله تعالى أو يقدم لهم ظاهرة إعجازية، وكما ربط النص بين قول اليهود بأن النصارى ليسوا على شيء وقول النصارى بأن اليهود ليسوا على شيء، وبين سواهما من الطوائف الذين قالوا مثل قولهم ووصفهم بأنهم لا يعلمون، كذلك ربط النص هنا بين هؤلاء الذين لا يعلمون (وهم ممن اقترح الرؤية والظواهر الإعجازية) وبين مَن سبقهم، أي: أن النص قد اختط بناء
______________________________________________________
الصفحة 77
هندسياً متقابلاً بين أهل الكتاب وبين الذين لا يعلمون، فشبه الكتابيين في المرة الأولى بمن لا يعلم، ثم شبه مَن لا يعلم بالكتابيين، وبهذا التقابل بينهما حقق النص إعجازاً فنيّاً مدهشاً، كما هو واضح.
أخيراً، ختم المقطع حديثه عن المنحرفين في جميع طوائفهم بالتركيز على أهل الكتاب، ثم بالإسرائيليين خاصة فأشار إلى أن هاتين الطائفتين لا أمل في إصلاحهما (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم...) إلاّ فئة فهم (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته)، ثم أردف حديثه عن الكتابيين بالحديث عن اليهود، وخَتَم به المقطع قائلاً (يا بني إسرائيل: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم...) الخ، حيث أوضحنها ـ في مقدمة حديثنا عن المقطع ـ الصلة العضوية المحكمة بين هذا الختام وبين كل من بداية ووسط هذا القسم الخاص عن الإسرائيليين، فيما لا حاجة إلى تكرار الحديث عنه.
|