00989338131045
 
 
 
 
 
 

 القسم الثاني 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الاول   ||   تأليف : الدكتور محمود البستاني

القسم الثاني

يتضمن القسم الثاني من سورة البقرة عشر آيات تتحدث عن قضية (المولد البشري)، أي: خلق آدم ـ عليه السلام ـ وموقف إبليس منه، وهبوطه إلى الأرض، واستتباعه ميلاد البشرية وخلافتها في الأرض.

لقد كان القسم الأول من السورة (نثراً) تتخلله عناصر قصصية مثل (الحوار) وعناصر فنية أخرى مثل (الصورة) وسواها. أمّا القسم الثاني من السورة، فقد تمحض لـ(النثر القصصي)، أي: صيغ فنياً، وفقَ أحد الأشكال الأدبية وهو (القصة)، وهذا التخصيص لها، يكشف عن كون الموضوعات المطروحة في هذا القسم لها أهميتها وتميّزها، بحيث تستتبع (تمييزاً) فنياً للتعبير عنها، متجسداً في الشكل القصصي المتميز عن النثر غير القصصي، لكن ما يهمّنا الآن هو تحديد صلته بالقسم الأول عن السورة، ثم ملاحظة أدواته الفنية، لذلك ينبغي أن نقف عند نصوصه وتلخيصها أولاً: قال تعالى له:

(وإذا قال ربك للملائكة:

 

إني جاعل في الأرض خليفة.

 

قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك؟

قال: إني أعلم ما (لا تعلمون) و(علم) آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فقال: انبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين؟!

 

______________________________________________________

الصفحة 33

 

قالوا: سبحانك لا (علم) لنا إلاّ ما (علّمتنا)، إنك أنت العليم الحكيم.

قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم.

قال: ألم أقل لكم إني (أعلم) غيب السماوات والأرض، و(أعلم) ما تبدون وما كنتم تكتمون.

وإذا قلنا للملائكة:

اسجدوا لآدم.

فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر، وكان من الكافرين.

وقلنا: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة، وكُلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.

فأزلّهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه.

وقلنا: اهبطوا، بعضكم لبعض عدوّ، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.

فتلقى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه، إنه هو التوّاب الرحيم.

قلنا: اهبطوا منها جميعاً، فإما يأتينكم مني هدىً: فمن تبع هداي، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 30 ـ 39].

لنلاحظ أولاً: كيف تمّ الانتقال من القسم الأول من السورة، إلى هذا القسم. لقد خُتِمَ القسم الأول بعبارة (وهو بكل شيء عليم)، وهذا يعني أن ظاهرة (العلم) ستأخذ مساحة خاصة من النص، وفعلاً: نجد أن (العلم) هو البطانة الفكرية التي يقوم عليها هيكل القصة التي تتحدث عن المولد البشري.

إنّ (المولد البشري) تجربة جديدة في حياة (الملائكة) التي أُسندت إليها إدارة الكون، لذلك تظل سمة (عدم العلم) هي الطابع الذي يغلّف سلوكهم،

______________________________________________________

الصفحة 34

وهذا ما دفعهم إلى التساؤل الآتي (قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء...الخ)، وعندما أجابهم الله تعالى (إني أعلم ما لا تعلمون)، ثم قدّم لهم اختباراً هو: أن يخبرونه بالأسماء التي علَّمها آدم، عندها أقرّوا بعدم العلم قائلين: (لا علم لنا إلا ما علّمتنا) وهذا ما يرتبط بالملائكة.

أمّا ما يرتبط بآدم، فإن (العلم) يظل هو الطابع الذي أودعه الله تعالى في شخصيته بحيث (علّمه) الأسماء كلها إلى الدرجة التي تفوّق بها على الملائكة أنفسهم.

وأمّا التجربة البشرية، فإن (علم الله تعالى)، هو المسوّغ الوحيد الذي يكمن وراء حدوثها، وهذا ما أكدته القصة حينما قال تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) وحينما قال: (علّم آدم الأسماء كلها) وحينما قال: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).

إذن، ظاهرة (العلم)، هي التي شكّلت عَصَب القصة بما تتضمنه من مواقف وأحداث وأبطال تستمد حركتها جميعاً من (العلم) الذي يقف وراء ذلك.

ما نستهدفه مما تقدّم هو أن نشير إلى أن ظاهرة (العلم) التي ختم النص بها القسم الأول من السورة (وهو بكل شيءٍ عليم)، قد شكلت (رابطاً) فنياً بين القسم الأول من السورة وبين القسم الثاني الذي تحدث عن تجربة الميلاد البشري من خلال ظاهرة (العلم)، بالنحو الذي أوضحناه، مما يكشف ذلك عن واحدٍ من أسرار البناء الهندسي الذي تقوم عليه السورة الكريمة، إلا أنّ هذا المستوى من البناء يظل جزءً من التخطيط الهندسي لها، ممّا ينبغي ملاحظة خطوطه الأخرى، ومنها: عمارة القصة الكريمة ذاتها.

لقد بدأت القصة بالحديث عن (خلافة الإنسان في الأرض) (وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة)، ومن المعروف (في تقنية

______________________________________________________

الصفحة 35

القصة) أنّ عرض الأحداث أو المواقف في القصة إما أن يأخذ تسلسله الزمني أو يتم تقطيعه ـ أي (الزمن) ـ حسب ما تتطلّبه الفكرة التي يستهدف صاحبُ القصة إبرازها، حيث تستهلّ القصة بعرض الحدث أو الموقف الذي يحمل أهمية خاصة سواء أكان الاستهلال من بداية الحدث أو وسطه أو نهايته، لذلك نجد ـ في القصة التي نتحدث عنها ـ أنّ النص قد استهلها وفق تسلسلها الزمني وهو: (وجود خليفة في الأرض) على العكس من القصص الأخرى التي وردت في سور القرآن الكريم حيث أن غالبيتها تبدأ من (وسط) الأحداث والمواقف وهو: حادثة السجود لآدم وموقف إبليس من ذلك... بينا نجد في هذه القصة أن الموقف بدأ عَرْضُه بحسب التسلسل الزمني (أن يُجعَل خليفة في الأرض، ثم موقف الملائكة منه، ثم السجود له...الخ)، وهذه (البداية) القصصية لها مسوّغها المتمثل في إبراز (علم الله تعالى) حيث أن الانتقال من القسم الأول من السورة إلى قسمها الثاني تطلّب وجود رابطة بينهما هي (العلم) ـ كما أوضحنا ـ لذلك بدأت القصة بإبراز (وجود الخليفة)، حيث أن هذه التجربة البشرية تنطوي على حكمة لا (يعلمها) إلاّ الله تعالى. ولذلك أيضاً نجد أنّ القسم الأول من القصة لم يتناول إلا ظاهرة (العلم) وعدمه: بدءً من موقف الملائكة (وهو عدم العلم) مروراً بتعليم آدم ـ عليه السلام ـ وانتهاءً بتعقيبه تعالى على أنه (يعلم) ما لا يعلمه الآخرون.

وهذا ما يرتبط بالقسم الأول من عمارة القصة...

أما قسمها الثاني، فقد تناول قضية السجود وموقف إبليس منه، ثم موقف آدم وزوجته، ثم هبوطهما إلى الأرض، ثم تجربة (الخلافة) ذاتها، حيث خُتِمت القصة بقوله تعالى: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ومن الواضح أن هذه (الخاتمة القصصية) قد ارتبطت عضوياً بـ(بداية) القصة،

__________________________________________________

الصفحة 36

بصفة أنّ البداية أشارت إلى (خلافة الإنسان)، وهي خلافة قد تنجح الشخصية الآدمية في الاضطلاع بتحمل مسؤوليتها وقد تخفق في ذلك، لذلك فإن (نهاية الاختبار أو الامتحان) هو الذي يميّز هذه الشخصية عن تلك، وهذه (النهاية) تنسجم مع (نهاية) القصة، أي: نهاية وجود الخليفة مع نهاية القصة.

إذن، أمكننا الآن أن ندرك جانباً من أسرار العمارة القصصية من حيث (بدايتها ونهايتها) مما يكشف ذلك عن جانب آخر من الأسرار الفنية الكامنة وراء الهيكل الذي تقوم القصة عليه، أما ما يتصل بـ(أبطال القصة) وموقعهم من العمارة القصصية، فيلاحظ أن القصة بدأت بـ(تنكير) البطل المجسّد لتجربة الميلاد البشري وهو (الخليفة) (إني جاعل في الأرض خليفة) ثم أعلنت عن اسمه وعرّفته من خلال العبارة الآتية: (وعلم آدم الأسماء كلها)، حيث جاء (تنكيره) متناسباً مع (الخليفة في الأرض) بصفة أن (الخليفة) لا ينحصر في شخص بل يشمل البشر جميعاً، ولذلك جاء بصفة (الإبهام أو التنكير)، لكن بما أن (الأصل) الذي ينتسب إليه البشر ينبغي أن (يتحدد ويعرّف)، لذلك جاء تعريفه بالاسم (آدم) يحمل مسوّغه الفني، فضلاً عن كونه (بطلاً) رئيساً للقصة يتحرك في فصُولها جميعاً، بدءً من خلقه ثم تعليمه الأسماء، ثم مطالبة الملائكة بأن يذكروا الأسماء التي علّمها آدم عليه السلام، ثم مطالبتهم بالسجود له، ثم رفض إبليس بالسجود له، ثم الأمر بالسكنى في الجنة، ثم الأمر بعدم الاقتراب من الشجرة، ثم إزلال الشيطان للبطل، ثم هبوطه إلى الأرض... كل ذلك جاء مسوغاً لجعل البطل (معروفاً بالاسم) بعد أن (أبهمه) النص في بداية القصة.

أما شخصية (حواء) فقد أبهمها النص أيضاً، وعَرَضها في القسم الثالث من القصة وهو القسم الخاص بالسكنى في الجنة، حيث دخلت (بطلاً جديداً) في القصة فرضته طبيعة التجربة البشرية التي قدر لها أن تمارس الخطأ وأن

______________________________________________________

الصفحة 37

يترتب عليه تمرير الاختبار الإلهي أو الخلافة في الأرض، فكان لابدّ من البطل الآخر الذي تتم من خلاله عملية (التناسل)، لاستمرارية التجربة البشرية التي تقوم أساساً على اتحاد كائنين: ذكر وأثنى، وأما إبليس، فكان لابدّ من (تعريفه) قبالة آدم عليه السلام، بصفته الطرف الآخر من الصراع الذي يحكم النفس البشرية: الخير والشر أو الهدى والضلال (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذوبا بآياتنا أولئك أصحاب النار...الخ).

وأما الأبطال الملائكيّون فقد (أبهمهم) النص، نظراً لأن المهمة التي أنيطت بهم والمواقف التي صدروا عنها هي مهمة ومواقف جماعية غير محددة في شخص، لذلك جاء (تنكيرهم) متناسباً مع طبيعة مهمتهم وموقفهم، كما هو واضح.

إذن، جاء رسم الأبطال (رئيسيّين وثانويين، فرديين وجماعيين، مبهمين ومحددين) متجانساً مع بناء الأحداث والمواقف التي يقوم عليها هيكل القصة.

* * *

والآن، إذا قُدر لنا أن نتبين طبيعة البناء الهندسي الذي قامت عليه القصة وصلتها بالقسم الأول، حينئذٍ يتعين علينا أن نتحدث عن القسم الثالث من السورة وتحديد الصلة العضوية بينه وبين القسم الثاني منها، أي: القصة.

وأدنى تأمّل لنهاية القصة، يكشف لنا عن أن النص قد خَتَمها بقوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). وها هو النص في القسم الثالث يعرض لنا شريحة كبيرة من سلوك (الذين كفروا وكذبوا) بآيات الله تعالى متمثلةً في (المجتمع الإسرائيلي) حيث كان القسم الأول من السورة يعرض لطائفة (المنافقين)، وحيث يتمحض القسم الثالث منها للحديث عن الإسرائيليين، وهذا ما نعرض له في:

______________________________________________________

الصفحة 38

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215622

  • التاريخ : 3/02/2025 - 21:49

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net