في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً﴾ قال: يمهد فيها الإنسان ﴿وَ اَلْجِبَالَ أَوْتَاداً﴾ أي أوتاد الأرض.
و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): و وتد بالصخور ميدان أرضه.
و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِبَاساً﴾ قال: يلبس على النهار.
أقول: و لعل المراد به أنه يخفي ما يظهره النهار و يستر ما يكشفه.
و فيه، ":في قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً﴾ قال: الشمس المضيئة ﴿وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ﴾ قال: من السحاب ﴿مَاءً ثَجَّاجاً﴾ قال: صبا على صب.
و عن تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): ﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ بالياء يمطرون.
ثم قال: أ ما سمعت قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً﴾.
أقول: المراد أن ﴿يَعْصِرُونَ﴾ بضم الياء بصيغة المجهول و المراد به أنهم يمطرون و استشهاده (عليه السلام) بقوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ﴾ دليل على أنه (عليه السلام) أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت.
و روى العياشي مثل الحديث عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) و روى القمي في تفسيره،: مثله عن أمير المؤمنين.
[سورة النبإ (٧٨): الآیات ١٧ الی ٤٠ ]
﴿إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً ١٧ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ١٨ وَ فُتِحَتِ اَلسَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً ١٩ وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ٢٠ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً ٢١ لِلطَّاغِينَ مَآباً ٢٢ لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ٢٣ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَ لاَ شَرَاباً ٢٤ إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً ٢٥ جَزَاءً وِفَاقاً ٢٦ إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً ٢٧ وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ٢٨ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ٢٩
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ٣٠ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ٣١ حَدَائِقَ وَ أَعْنَاباً ٣٢ وَ كَوَاعِبَ أَتْرَاباً ٣٣ وَ كَأْساً دِهَاقاً ٣٤ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ كِذَّاباً ٣٥ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً ٣٦ رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا اَلرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً ٣٧ يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً ٣٨ ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ٣٩ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ اَلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَ يَقُولُ اَلْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً ٤٠﴾
(بيان)
تصف الآيات يوم الفصل الذي أخبر به إجمالا بقوله: ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ ثم تصف ما يجري فيه على الطاغين و المتقين، و تختتم بكلمة في الإنذار و هي كالنتيجة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً﴾ قال في المجمع،: الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الأمور و هو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد و المقدار من القدر، انتهى.
شروع في وصف ما تضمنه النبأ العظيم الذي أخبر بوقوعه و هددهم به في قوله:
﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ ثم أقام الحجة عليه بقوله: ﴿أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً﴾ إلخ، و قد سماه يوم الفصل و نبه به على أنه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كل طائفة ما يستحقه بعمله فهو ميقات و حد مضروب لفصل القضاء بينهم و التعبير بلفظ ﴿كَانَ﴾ للدلالة على ثبوته و تعينه في العلم الإلهي على ما ينطق به الحجة السابقة الذكر، و لذا أكد الجملة بإن.
و المعنى: أن يوم فصل القضاء الذي نبأه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات و الأرض و حكم فيها النظام الجاري حدا مضروبا ينتهي إليه هذا العالم فإنه تعالى كان يعلم أن هذه النشأة التي أنشأها لا تتم إلا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ قد تقدم الكلام في معنى نفخ الصور كرارا، و الأفواج جمع فوج و هي الجماعة المارة المسرعة على ما ذكره الراغب.
و في قوله: ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاء لحق الوعيد الذي يتضمنه قوله: ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ و كان الآية ناظرة إلى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾: إسراء: ٧١.
قوله تعالى: ﴿وَ فُتِحَتِ اَلسَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾ فاتصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة.
و قيل: التقدير فكانت ذات أبواب، و قيل: صار فيها طرق و لم يكن كذلك من قبل، و لا يخلو الوجهان من تحكم فليتدبر.
قوله تعالى: ﴿وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً﴾ السراب هو الموهوم من الماء اللامع في المفاوز و يطلق على كل ما يتوهم ذا حقيقة و لا حقيقة له على طريق الاستعارة.
و لعل المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني.
بيان ذلك: أن تسيير الجبال و دكها ينتهي بالطبع إلى تفرق أجزائها و زوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة و آثارها إذ قال: ﴿وَ تَسِيرُ اَلْجِبَالُ سَيْراً﴾: الطور: ١٠ و قال: ﴿وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾: الحاقة: ١٤، و قال: ﴿وَ كَانَتِ اَلْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً﴾: المزمل ١٤، و قال: ﴿وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ﴾: القارعة: ٥، و قال: ﴿وَ بُسَّتِ اَلْجِبَالُ بَسًّا﴾: الواقعة: ٥، و قال: ﴿وَ إِذَا اَلْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾: المرسلات: ١٠.
فتسيير الجبال و دكها ينتهي بها إلى بسها و نسفها و صيرورتها كثيبا مهيلا و كالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى و أما صيرورتها سرابا بمعنى ما يتوهم ماء لامعا فلا نسبة بين التسيير و بين السراب بهذا المعنى.
نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها و بطلان كينونتها و حقيقتها بمعنى كونها جبلا فالجبال الراسيات التي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قوية لا تحركه العواصف تتبدل بالتسيير
سرابا باطلا لا حقيقة له، و نظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم و قطع دابرهم، ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾: سبأ: ١٩ و قوله: ﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾المؤمنون: ٤٤، و قوله في الأصنام ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ﴾: النجم: ٢٣.
فالآية بوجه كقوله تعالى ﴿وَ تَرَى اَلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ ﴾النمل: ٨٨ - بناء على كونه ناظرا إلى صفة زلزلة الساعة .
قوله تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ قال في المفردات،: الرصد الاستعداد للترقب إلى أن قال و المرصد موضع الرصد قال تعالى: ﴿وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ و المرصاد نحوه لكن يقال للمكان الذي اختص بالرصد قال تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ تنبيها على أن عليها مجاز الناس، و على هذا قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ انتهى.
قوله تعالى: ﴿لِلطَّاغِينَ مَآباً﴾ الطاغون الملتبسون بالطغيان و هو الخروج عن الحد، و المآب اسم مكان من الأوب بمعنى الرجوع، و العناية في عدها مآبا للطاغين أنهم هيئوها مأوى لأنفسهم و هم في الدنيا ثم إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا و رجعوا إليها.
قوله تعالى: ﴿لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ الأحقاب الأزمنة الكثيرة و الدهور الطويلة من غير تحديد.
و هو جمع اختلفوا في واحده فقيل: واحده حقب بالضم فالسكون أو بضمتين، و قد وقع في قوله تعالى: ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً﴾: الكهف: ٦٠، و قيل: حقب بالفتح فالسكون و واحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: و الحق أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة. انتهى.
و حد بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع و ثمانين سنة و زاد آخرون أن السنة منها ثلاثمائة و ستون يوما كل يوم يعدل ألف سنة، و عن بعضهم أن الحقب أربعون سنة و عن آخرين أنه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك و لا دليل من الكتاب يدل على شيء من هذه التحديدات و لم يثبت من اللغة شيء منها.
و ظاهر الآية أن المراد بالطاغين المعاندون من الكفار و يؤيده قوله ذيلا: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً﴾.
و قد فسروا ﴿أَحْقَاباً﴾ في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حال كون الطاغين لابثين في جهنم حقبا بعد حقب بلا تحديد و لا نهاية فلا تنافي الآية ما نص عليه القرآن من خلود الكفار في النار.
و قيل: إن قوله: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا﴾ إلخ صفة ﴿أَحْقَاباً﴾ و المعنى لابثين فيها أحقابا هي على هذه الصفة و هي أنهم لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا إلا حميما و غساقا، ثم يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية.
و هو حسن لو ساعد السياق.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَ لاَ شَرَاباً﴾ ظاهر المقابلة بين البرد و الشراب أن المراد بالبرد مطلق ما يتبرد به غير الشراب كالظل الذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذوق مطلق النيل و المس.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً﴾ الحميم الماء الحار شديد الحر، و الغساق صديد أهل النار.
قوله تعالى: ﴿جَزَاءً وِفَاقاً ﴾ إلى قوله ﴿كِتَاباً﴾ المصدر بمعنى اسم الفاعل و المعنى يجزون جزاء موافقا لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاء ذا وفاق أو إطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل.
و قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً﴾ أي تكذيبا عجيبا يصرون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، و ذلك أنهم لم يرجوا الحساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة و كذبوا بالآيات الدالة عليها فأنكروا التوحيد و النبوة و تعدوا في أعمالهم طور العبودية فنسوا الله تعالى فنسيهم و حرم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلا الشقاء و لا يجدون فيها إلا ما يكرهون، و لا يواجهون إلا ما يتعذبون به و هو قوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾.
و في الآية أعني قوله: ﴿جَزَاءً وِفَاقاً﴾ دلالة على المطابقة التامة بين الجزاء و العمل فالإنسان لا يريد بعمله إلا الجزاء الذي بإزائه و التلبس بالجزاء تلبس بالعمل بالحقيقة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: التحريم: ٧.
و قوله: ﴿وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً﴾ أي كل شيء و منه الأعمال ضبطناه و بيناه في
كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾: يس: ١٣.
أو المراد و كل شيء حفظناه حال كونه مكتوبا أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال، و جوز أن يكون الإحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الإحصاء فإن الإحصاء و الكتابة يتشاركان في معنى الضبط و المعنى كل شيء أحصيناه إحصاء أو كل شيء كتبناه كتابا.
و الآية على أي حال متمم للتعليل السابق، و المعنى الجزاء موافق لأعمالهم لأنهم كانوا على حال كذا و كذا و قد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاء وفاقا.
قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾ تفريع على ما تقدم من تفصيل عذابهم مسوق لإيئاسهم من أن يرجو نجاة من الشقوة و راحة ينالونها.
و الالتفات إلى خطابهم بقوله: ﴿فَذُوقُوا﴾ تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ و التقريع بلا واسطة.
و المراد بقوله: ﴿فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾ أن ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب و عذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئا مما تطلبون و تحبون.
و الآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله: ﴿لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ الخلود دون الانقطاع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ﴾ إلى قوله ﴿كِذَّاباً﴾ الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة على ما قاله الراغب ففيه معنى النجاة و التخلص من الشر و الحصول على الخير، و المفاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الفوز و الآية تحتمل الوجهين جميعا.
و قوله: ﴿حَدَائِقَ وَ أَعْنَاباً﴾ الحدائق جمع حديقة و هي البستان المحوط، و الأعناب جمع عنب و هو ثمر شجرة الكرم و ربما يطلق على نفس الشجرة.
و قوله: ﴿وَ كَوَاعِبَ﴾ جمع كاعب و هي الفتاة التي تكعب ثدياها و استدار مع ارتفاع يسير، و الترائب جمع ترب و هي المماثلة لغيرها من اللذات.
و قوله: ﴿وَ كَأْساً دِهَاقاً﴾ أي ممتلئة شرابا مصدر بمعنى اسم الفاعل.
و قوله: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ كِذَّاباً﴾ أي لا يسمعون في الجنة لغوا من القول لا يترتب عليه أثر مطلوب و لا تكذيبا من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حق له أثره المطلوب و صدق مطابق للواقع.
قوله تعالى: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً﴾ أي فعل بالمتقين ما فعل حال كونه جزاء من ربك عطية محسوبة فقوله: ﴿جَزَاءً﴾ حال و كذا ﴿عَطَاءً﴾ و ﴿حِسَاباً﴾ بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، و يحتمل أن يكون عطاء تمييزا أو مفعولا مطلقا.
قيل: إضافة الجزاء إلى الرب مضافا إلى ضميره (ص) تشريف له، و لم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزها منه تعالى فليس يغشاهم شر إلا من عند أنفسهم قال تعالى:
﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾: الأنفال: ٥١.
و وقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين و المتقين معا لتثبيت ما يلوح إليه يوم الفصل الواقع في أول الكلام.
قوله تعالى: ﴿رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا اَلرَّحْمَنِ﴾ بيان لقوله: ﴿رَبِّكَ﴾ أريد به أن ربوبيته تعالى عامة لكل شيء و أن الرب الذي يتخذه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ربا و يدعو إليه رب كل شيء لا كما كان يقول المشركون: إن لكل طائفة من الموجودات ربا و الله سبحانه رب الأرباب أو كما كان يقول بعضهم: أنه رب السماء.
و في توصيف الرب بالرحمن صيغة مبالغة من الرحمة إشارة إلى سعة رحمته و أنها سمة ربوبية لا يحرم منها شيء إلا أن يمتنع منها شيء بنفسه لقصوره و سوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنهم حرموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً﴾ وقوع صدر الآية في سياق قوله: ﴿رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا اَلرَّحْمَنِ﴾ و شأن الربوبية هو التدبير و شأن الرحمانية بسط الرحمة دليل على أن المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كان يقال: لم فعلت هذا؟ و لم لم تفعل كذا؟ كما يسأل الفاعل منا عن فعله فتكون الجملة ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً﴾ في معنى قوله تعالى: ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ﴾: الأنبياء: ٢٣ و قد تقدم الكلام في معنى الآية.
لكن وقوع قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا﴾ بعد قوله: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً﴾ الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافا إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين و المتقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي و يفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكن الملائكة و هم ممن لا يملكون منه خطابا منزهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى و قد قال فيهم: ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾: الأنبياء: ٢٧ و كذلك الروح الذي هو[1] كلمته و قوله، و قوله[2] حق، و هو تعالى[3] الحق المبين و الحق لا يعارض الحق و لا يناقضه.
و من هنا يظهر أن المراد بالخطاب الذي لا يملكونه هو الشفاعة و ما يجري مجراها من وسائل التخلص من الشر كالعدل و البيع و الخلة و الدعاء و السؤال قال تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خُلَّةٌ وَ لاَ شَفَاعَةٌ﴾: البقرة: ٢٥٤، و قال: ﴿وَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾: البقرة: ١٢٣، و قال: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾: هود: ١٠٥.
و بالجملة قوله: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً﴾ ضمير الفاعل في ﴿لاَ يَمْلِكُونَ﴾ لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة و الروح و الإنس و الجن كما هو المناسب للسياق الحاكي عن ظهور العظمة و الكبرياء دون خصوص الملائكة و الروح لعدم سبق الذكر و دون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، و المراد بالخطاب الشفاعة و ما يجري مجراها كما تقدم.
و قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا﴾ ظرف لقوله: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ﴾ و قيل:
لقوله: ﴿لاَ يَتَكَلَّمُونَ﴾ و هو بعيد مع صلاحية ظرفيته لما سبقه.
و المراد بالروح المخلوق الأمري الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾: إسراء: ٨٥.
و قيل: المراد به أشراف الملائكة، و قيل حفظة الملائكة و قيل: ملك موكل على الأرواح. و لا دليل على شيء من هذه الأقوال.
و قيل: المراد به جبريل، و قيل: أرواح الناس و قيامها مع الملائكة صفا إنما هو بين النفختين قبل أن تلج الأجساد، و قيل: القرآن و المراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به و شقاوة الكافرين.
و يدفعها أن هذه الثلاثة و إن أطلق على كل منها الروح في كلامه تعالى لكنه مع التقييد كقوله: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾: الحجر: ٢٩، و قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ﴾: الشعراء: ١٩٣، و قوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ﴾: النحل: ١٠٢، و قوله:
﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾: مريم: ١٧، و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ﴾الشورى: ٥٢ و الروح في الآية التي نحن فيها مطلق، على أن في القولين الأخيرين تحكما ظاهرا.
و ﴿صَفًّا﴾ حال من الروح و الملائكة و هو مصدر أريد به اسم الفاعل أي حال كونهم صافين، و ربما استفيد من مقابلة الروح للملائكة أن الروح وحده صف و الملائكة جميعا صف.
و قوله: ﴿لاَ يَتَكَلَّمُونَ﴾ بيان لقوله: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً﴾ و ضمير الفاعل لأهل الجمع من الروح و الملائكة و الإنس و الجن على ما يفيده السياق.
و قيل: الضمير للروح و الملائكة، و قيل: للناس و وقوع ﴿لاَ يَمْلِكُونَ﴾ بما مر من معناه و ﴿لاَ يَتَكَلَّمُونَ﴾ في سياق واحد لا يلائم شيئا من القولين.
و قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ﴾ بدل من ضمير الفاعل في ﴿لاَ يَتَكَلَّمُونَ﴾ أريد به بيان من له أن يتكلم منهم يومئذ بإذن الله فالجملة في معنى قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾: هود: ١٠٥ على ظاهر إطلاقه.
و قوله: ﴿وَ قَالَ صَوَاباً﴾ أي قال قولا صوابا لا يشوبه خطأ و هو الحق الذي لا يداخله باطل، و الجملة في الحقيقة قيد للإذن كأنه قيل: إلا من أذن له الرحمن و لا يأذن إلا لمن قال صوابا فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ﴾: الزخرف: ٨٦.
و قيل: ﴿إِلاَّ مَنْ أَذِنَ﴾ إلخ استثناء ممن يتكلم فيه و المراد بالصواب التوحيد و قول لا إله إلا الله و المعنى لا يتكلمون في حق أحد إلا في حق شخص أذن له الرحمن و قال
ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي أقر بالوحدانية و شهد أن لا إله إلا الله فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضىَ﴾: الأنبياء: ٢٨.
و يدفعه أن العناية الكلامية في المقام متعلقة بنفي أصل الخطاب و التكلم يومئذ من كل متكلم لا بنفي التكلم في كل أحد مع تسليم جواز أصل التكلم فالمستثنون هم المتكلمون المأذون لهم في أصل التكلم من دون تعرض لمن يتكلم فيه.
كلام فيما هو الروح في القرآن
تكررت كلمة الروح و المتبادر منه ما هو مبدأ الحياة في كلامه تعالى و لم يقصرها في الإنسان أو في الإنسان و الحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله:
﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾: مريم: ١٧، و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا﴾: الشورى: ٥٢ إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان و مصداق في غيره.
و الذي يصلح أن يكون معرفا لها في كلامه تعالى ما في قوله: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾: إسراء: ٨٥ حيث أطلقها إطلاقا و ذكر معرفا لها أنها من أمره و قد عرف أمره بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: يس: ٨٣ فبين أنه كلمة الإيجاد التي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى و قيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل و الأسباب الظاهرية.
و بهذه العناية عد المسيح (عليه السلام) كلمة له و روحا منه إذ قال: ﴿وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلىَ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ﴾: النساء: ١٧١ لما وهبه لمريم (عليه السلام) من غير الطرق العادية و يقرب منه في العناية قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾: آل عمران: ٥٩.
و هو تعالى و إن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة و التقيد كقوله: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾: الحجر ٢٩، و قوله: ﴿وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾: السجدة: ٩، و قوله:
﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾: مريم: ١٧، و قوله: ﴿وَ رُوحٌ مِنْهُ﴾: النساء: ١٧١ و قوله:
﴿وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ﴾: البقرة ٨٧ إلى غير ذلك إلا أنه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله: ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
﴾: القدر: ٤ و ظاهر الآية أنها موجود مستقل و خلق سماوي غير الملائكة، و نظير الآية بوجه قوله تعالى: ﴿تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾: المعارج: ٤.
و أما الروح المتعلقة بالإنسان فقد عبر عنها بمثل قوله: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ ﴿وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾ و أتي بكلمة ﴿مِنْ﴾ الدالة على المبدئية و سماه نفخا و عبر عن الروح التي خصها بالمؤمنين بمثل قوله: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾: المجادلة: ٢٢ فأتى بالباء الدالة على السببية و سماه تأييدا و تقوية، و عبر عن الروح التي خصها بالأنبياء بمثل قوله:
﴿وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ﴾: البقرة: ٨٧ فأضاف الروح إلى القدس و هو النزاهة و الطهارة و سماه أيضا تأييدا.
و بانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أن نسبة الروح المضافة التي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض و الظل إلى ذي الظل بإذن الله.
و كذلك الروح المتعلقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، و إنما لم يعبر في روح الملك بالنفخ و التأييد كالإنسان بل سماه روحا كما في قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾، و قوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ﴾: النحل: ١٠٢، و قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ﴾: الشعراء: ١٩٣ لأن الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب و البعد من ربهم، و ما يتراءى من الأجسام لهم تمثلات كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا﴾: مريم: ١٧ و قد تقدم الكلام في معنى التمثل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلفا من جسم ميت و روح حية فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾: الحجر: ٢٩.
و كما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك و الإنسان اختلاف التعبير بالنفخ و عدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها و هو الحياة شرفا و خسة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ و التأييد و عد الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة.
فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾.
و من الروح الروح المؤيد بها المؤمن قال: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾: المجادلة: ٢٢ و هي أشرف وجودا و أعلى مرتبة و أقوى أثرا من الروح
الإنسانية العامة كما يفيده قوله تعالى و هو في معنى هذه الآية: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾: الأنعام: ١٢٢ فقد عد المؤمن حيا ذا نور يمشي به و هو أثر الروح و الكافر ميتا و هو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه.
و من ذلك يظهر أن من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدل على ذلك الآيات المتضمنة لإحياء الأرض بعد موتها.
و من الروح الروح المؤيد بها الأنبياء قال: ﴿وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ﴾: البقرة ٨٧ و سياق الآيات يدل على كون هذه الروح أشرف و أعلى مرتبة من غيرها مما في الإنسان.
و أما قوله: ﴿يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاَقِ﴾: المؤمن:
١٥، و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا﴾: الشورى ٥٢ فيقبل الانطباق على روح الإيمان و على روح القدس و الله أعلم.
و قد تقدم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة.
(بيان)
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلْحَقُّ﴾ إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مر من الأوصاف و هو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة و ما بعده أعني قوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً﴾ إلخ فضل تفريع على البيان السابق.
و الإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره و المراد بكونه حقا ثبوته حتما مقضيا لا يتخلف عن الوقوع.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلىَ رَبِّهِ مَآباً﴾ أي مرجعا إلى ربه ينال به ثواب المتقين و ينجو به من عذاب الطاغين، و الجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدم من الإخبار بيوم الفصل و الاحتجاج عليه و وصفه، و المعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربه فليرجع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً﴾ إلخ المراد به عذاب الآخرة، و كونه قريبا لكونه حقا لا ريب في إتيانه و كل ما هو آت قريب.
على أن الأعمال التي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه.
و قوله: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ اَلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أي ينتظر المرء جزاء أعماله التي قدمتها يداه بالاكتساب، و قيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال
تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾: آل عمران: ٣٠.
و قوله: ﴿وَ يَقُولُ اَلْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً﴾ أي يتمنى من شدة اليوم أن لو كان ترابا فاقدا للشعور و الإرادة فلم يعمل و لم يجز.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، ":و قوله: ﴿وَ فُتِحَتِ اَلسَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾ قال: تفتح أبواب الجنان، و قوله: ﴿وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً﴾ قال: تصير الجبال مثل السراب الذي يلمع في المفازة.
و فيه،" :و قوله: ﴿لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ قال: الأحقاب السنين و الحقب سنة و السنة عددها ثلاثمائة و ستون يوما و اليوم كألف سنة مما تعدون.
و في المجمع، روى نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا و الحقب بضع و ستون سنة و السنة ثلاثمائة و ستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون فلا يتكلن أحد على أن يخرج من النار.
أقول: و أورد الرواية في الدر المنثور، و فيها ثمانون مكان ستون و لفظ آخرها، قال ابن عمر: فلا يتكلن أحد إلخ، و أورد أيضا رواية أخرى عنه (ص): أن الحقب أربعون سنة. و فيه، و روى العياشي بإسناده عن حمران قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: هذه في الذين يخرجون من النار:، و روي عن الأحول مثله.
و في تفسير القمي، :و قوله: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ قال: يفوزون، قوله ﴿وَ كَوَاعِبَ أَتْرَاباً﴾ قال: جوار و أتراب لأهل الجنة،
و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في قوله: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ قال: هي الكرامات ﴿وَ كَوَاعِبَ أَتْرَاباً﴾ أي الفتيات النواهد.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رءوس و أيد و أرجل ثم قرأ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا﴾ قال: هؤلاء جند و هؤلاء جند. أقول: و قد تقدمت الرواية في ذيل الآيات المشتملة على الروح عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن الروح خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل، و تقدمت الرواية أيضا عن علي (عليه السلام): أن الروح غير الملائكة و استدل (عليه السلام) عليه بقوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ الآية.
نعم في رواية القمي عن حمران أنه ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل و كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو مع الأئمة (عليه السلام)، و لعل المراد بالملك مطلق الموجود السماوي أو هو من وهم بعض الرواة في النقل بالمعنى و لا دليل على انحصار الموجودات الأمرية السماوية في الملائكة بل الدليل على خلافه كما يستفاد من قوله تعالى لإبليس حين أبى عن السجود لآدم و قد سجد له الملائكة كلهم أجمعون: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ﴾: ص: ٧٥ و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية.
و في أصول الكافي، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال قلت:
﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ﴾ الآية قال نحن و الله المأذون لهم يوم القيامة و القائلون صوابا. قلت: ما تقولون إذا تكلمتم؟ قال: نمجد ربنا و نصلي على نبينا و نشفع لشيعتنا و لا يردنا ربنا الحديث:.
أقول: و رواه في المجمع، عن العياشي مرفوعا عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام). و الرواية من قبيل ذكر بعض المصاديق فهناك شفعاء أخر من الملائكة و الأنبياء و المؤمنين مأذون لهم في التكلم، و هناك شهداء من الأمم مأذون لهم في التكلم على ما ينص عليه القرآن و الحديث.
(٩) سورة النازعات مكية و هي ست و أربعون آية (٤٦)
[سورة النازعات (٧٩): الآیات ١ الی ٤١]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً ١ وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً ٢ وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً ٣ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً ٤ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ٥ يَوْمَ تَرْجُفُ اَلرَّاجِفَةُ ٦ تَتْبَعُهَا اَلرَّادِفَةُ ٧ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ٨ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ٩ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ ١٠ أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً ١١ قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ١٢ فَإِنَّمَا
هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ١٣ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ١٤ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسى ١٥ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً ١٦ اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ١٧ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ١٨ وَ أَهْدِيَكَ إِلىَ رَبِّكَ فَتَخْشى ١٩ فَأَرَاهُ اَلْآيَةَ اَلْكُبْرىَ ٢٠ فَكَذَّبَ وَ عَصى ٢١ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ٢٢ فَحَشَرَ فَنَادى ٢٣ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى ٢٤ فَأَخَذَهُ اَللَّهُ نَكَالَ اَلْآخِرَةِ وَ اَلْأُولى ٢٥ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى ٢٦ أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّمَاءُ بَنَاهَا ٢٧ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ٢٨ وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَ أَخْرَجَ ضُحَاهَا ٢٩ وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ٣٠ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا ٣١ وَ اَلْجِبَالَ أَرْسَاهَا ٣٢ مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ ٣٣ فَإِذَا جَاءَتِ اَلطَّامَّةُ اَلْكُبْرىَ ٣٤ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ اَلْإِنْسَانُ مَا سَعىَ ٣٥ وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ٣٦ فَأَمَّا مَنْ طَغى ٣٧ وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ٣٨ فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوىَ ٣٩ وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى ٤٠ فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى ٤١﴾
(بيان)
في السورة أخبار مؤكد بوقوع البعث و القيامة، و احتجاج عليه من طريق التدبير
الربوبي المنتج أن الناس سينقسمون يومئذ طائفتين أصحاب الجنة و أصحاب الجحيم و تختتم السورة بالإشارة إلى سؤالهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن وقت قيام الساعة و الجواب عنه.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ اختلف المفسرون في تفسير هذه الآيات الخمس اختلافا عجيبا مع اتفاقهم على أنها إقسام، و قول أكثرهم بأن جواب القسم محذوف، و التقدير أقسم بكذا و كذا لتبعثن.
فقوله: ﴿وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً﴾ قيل: المراد بها ملائكة الموت تنزع الأرواح من الأجساد، و ﴿غَرْقاً﴾ مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا و تشديدا في النزع.
و قيل: المراد بها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم بشدة، و قيل:
هو الموت ينزع الأرواح من الأبدان نزعا بالغا.
و قيل: المراد بها النجوم تنزع من أفق لتغيب في أفق أي تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها، و قيل: المراد بها القسي تنزع بالسهم أي تمد بجذب وترها إغراقا في المد فالإقسام بقسي المجاهدين في سبيل الله أو بالمجاهدين أنفسهم، و قيل: المراد بها الوحش تنزع إلى الكلإ.
و قوله: ﴿وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً﴾ النشط الجذب و الخروج و الإخراج برفق و سهولة و حل العقدة، قيل: المراد بها الملائكة الذين يخرجون الأرواح من الأجساد، و قيل المراد بها خصوص الملائكة يخرجون أرواح المؤمنين من أجسادهم برفق و سهولة، كما أن المراد بالنازعات غرقا الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم.
و قيل: هم الملائكة الذين ينشطون أرواح الكفار من أجسادهم، و قيل: المراد بها أرواح المؤمنين أنفسهم، و قيل: هي النجوم تنشط و تذهب من أفق إلى أفق، و قيل:
هي السهام تنشط من قسيها في الغزوات، و قيل: هو الموت ينشط و يخرج الأرواح من الأجساد، و قيل: هي الوحش تنشط من قطر إلى قطر.
و قوله: ﴿وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً﴾ قيل: المراد بها الملائكة تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة و بروح الكافر إلى النار، و السبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح
إذا أسرع في جريه، و قيل: المراد بها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها من الأبدان سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح كالسابح بالشيء في الماء يرمي، و قيل: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، و قيل: هي النجوم تسبح في فلكها كما قال تعالى: ﴿وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
و قيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها و تسرع، و قيل: هي المنايا تسبح في نفوس الحيوان، و قيل: هي السفن تسبح في المياه، و قيل: السحاب، و قيل: دواب البحر.
و قوله: ﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً﴾ قيل المراد بها مطلق الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح، و قيل ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة و بروح الكافر إلى النار، و قيل الملائكة القابضون لروح المؤمن تسبق بها إلى الجنة، و قيل، ملائكة الوحي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، و قيل أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة التي يقبضونها شوقا إلى لقاء الله سبحانه، و قيل هي النجوم تسبق بعضها بعضا في السير، و قيل هي خيل الغزاة تسبق بعضها بعضا في الحرب، و قيل هي المنايا تسبق الآمال.
و قوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ قيل: المراد بها مطلق الملائكة المدبرين للأمور، كذا فسر الأكثرون حتى ادعى بعضهم اتفاق المفسرين عليه، و قيل المراد بها الملائكة الأربعة المدبرون لأمور الدنيا: جبرائيل و ميكائيل و عزرائيل و إسرافيل، فجبرائيل يدبر أمر الرياح و الجنود و الوحي، و ميكائيل يدبر أمر القطر و النبات، و عزرائيل موكل بقبض الأرواح، و إسرافيل يتنزل بالأمر عليهم و هو صاحب الصور، و قيل: إنها الأفلاك يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا.
و هناك قول بأن الإقسام في الآيات بمضاف محذوف و التقدير و رب النازعات نزعا إلخ.
و أنت خبير بأن سياق الآيات الخمس سياق واحد متصل متشابه الأجزاء لا يلائم كثيرا من هذه الأقوال القاضية باختلاف المعاني المقسم بها ككون المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفار، و بالناشطات الوحش، و بالسابحات السفن، و بالسابقات المنايا تسبق الآمال و بالمدبرات الأفلاك.
مضافا إلى أن كثيرا منها لا دليل عليها من جهة السياق إلا مجرد صلاحية اللفظ
بحسب اللغة للاستعمال فيه أعم من الحقيقة و المجاز.
على أن كثيرا منها لا تناسب سياق آيات السورة التي تذكر يوم البعث و تحتج على وقوعه على ما تقدم في سورة المرسلات من حديث المناسبة بين ما في كلامه تعالى من الإقسام و جوابه.
و الذي يمكن أن يقال و الله أعلم أن ما في هذه الآيات من الأوصاف المقسم بها يقبل الانطباق على صفات الملائكة في امتثالها للأوامر الصادرة عليهم من ساحة العزة المتعلقة بتدبير أمور هذا العالم المشهود ثم قيامهم بالتدبير بإذن الله.
و الآيات شديدة الشبه سياقا بآيات مفتتح سورة الصافات: ﴿وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً﴾ و آيات مفتتح سورة المرسلات: ﴿وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَ اَلنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً﴾ و هي تصف الملائكة في امتثالهم لأمر الله غير أنها تصف ملائكة الوحي، و الآيات في مفتتح هذه السورة تصف مطلق الملائكة في تدبيرهم أمر العالم بإذن الله.
ثم إن أظهر الصفات المذكورة في هذه الآيات الخمس في الانطباق على الملائكة قوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ و قد أطلق التدبير و لم يقيد بشيء دون شيء فالمراد به التدبير العالمي بإطلاقه، و قوله ﴿أَمْراً﴾ تمييز أو مفعول به للمدبرات و مطلق التدبير شأن مطلق الملائكة فالمراد بالمدبرات مطلق الملائكة.
و إذ كان قوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ مفتتحا بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق، و كذا قوله: ﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً﴾ مقرونا بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح دل ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث: ﴿وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ فمدلولها أنهم يدبرون الأمر بعد ما سبقوا إليه و يسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول فالمراد بالسابحات و السابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره.
فالآيات الثلاث في معنى قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ﴾: الرعد: ١١ على ما تقدم من توضيح معناه فالملائكة ينزلون على الأشياء و قد تجمعت عليها الأسباب و تنازعت فيها وجودا و عدما و بقاء و زوالا و في مختلف أحوالها
فما قضاه الله فيها من الأمر و أبرم قضاءه أسرع إليه الملك المأمور به بما عين له من المقام و سبق غيره و تمم السبب الذي يقتضيه فكان ما أراده الله فافهم ذلك.
و إذا كان المراد بالآيات الثلاث الإشارة إلى إسراع الملائكة في النزول على ما أمروا به من أمر و سبقهم إليه و تدبيره تعين حمل قوله: ﴿وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً﴾ على انتزاعهم و خروجهم من موقف الخطاب إلى ما أمروا به فنزعهم غرقا شروعهم في النزول نحو المطلوب بشدة و جد، و نشطهم خروجهم من موقفهم نحوه كما أن سبحهم إسراعهم إليه بعد الخروج و يتعقب ذلك سبقهم إليه و تدبير الأمر بإذن الله.
فالآيات الخمس أقسام بما يتلبس به الملائكة من الصفات عند ما يؤمرون بتدبير أمر من أمور هذا العالم المشهود من حين يأخذون في النزول إليه إلى تمام التدبير.
و فيها إشارة إلى نظام التدبير الملكوتي عند حدوث الحوادث كما أن الآيات التالية أعني قوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ﴾ إلخ إشارة إلى التدبير الربوبي الظاهر في هذا العالم.
و في التدبير الملكوتي حجة على البعث و الجزاء كما أن في التدبير الدنيوي المشهود حجة عليه على ما سيوافيك إن شاء الله بيانه.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الكريمة و يؤيده بعض التأييد ما سيأتي من الأخبار في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
كلام في أن الملائكة وسائط في التدبير
الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بدءا و عودا على ما يعطيه القرآن الكريم بمعنى أنهم أسباب للحوادث فوق الأسباب المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت و الانتقال إلى نشأة الآخرة و بعده.
أما في العود أعني حال ظهور آيات الموت و قبض الروح و إجراء السؤال و ثواب القبر و عذابه و إماتة الكل بنفخ الصور و إحيائهم بذلك و الحشر و إعطاء الكتاب و وضع الموازين و الحساب و السوق إلى الجنة و النار فوساطتهم فيها غني عن البيان، و الآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الأخبار المأثورة فيها عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
و أئمة أهل البيت (عليه السلام) فوق حد الإحصاء.
و كذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي و دفع الشياطين عن المداخلة فيه و تسديد النبي و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار.
و أما وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله: ﴿وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ بما تقدم من البيان.
و كذا قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ ﴾: فاطر: ١ الظاهر بإطلاقه - على ما تقدم من تفسيره في أنهم خلقوا و شأنهم أن يتوسطوا بينه تعالى و بين خلقه و يرسلوا لإنفاذ أمره الذي يستفاد من قوله تعالى في صفتهم: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾: الأنبياء: ٢٧، و قوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾: النحل: ٥٠ و في جعل الجناح لهم إشارة ذلك.
فلا شغل للملائكة إلا التوسط بينه تعالى و بين خلقه بإنفاذ أمره فيهم و ليس ذلك على سبيل الاتفاق بأن يجري الله سبحانه أمرا بأيديهم ثم يجري مثله لا بتوسيطهم فلا اختلاف و لا تخلف في سنته تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: هود: ٥٦، و قال ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً﴾: فاطر: ٤٣.
و من الوساطة كون بعضهم فوق بعض مقاما و أمر العالي منهم السافل بشيء من التدبير فإنه في الحقيقة توسط من المتبوع بينه تعالى و بين تابعه في إيصال أمر الله تعالى كتوسط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى حاكيا عن الملائكة: ﴿وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾: الصافات: ١٦٤، و قال: ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾: التكوير: ٢١، و قال: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ﴾: سبأ: ٢٣.
و لا ينافي هذا الذي ذكر من توسطهم بينه تعالى و بين الحوادث أعني كونهم أسبابا تستند إليها الحوادث استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية فإن السببية طولية لا عرضية أي إن السبب القريب سبب للحادث و السبب البعيد سبب للسبب.
كما لا ينافي توسطهم و استناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى و كونه هو السبب الوحيد لها جميعا على ما يقتضيه توحيد الربوبية فإن السببية طولية كما سمعت لا عرضية و لا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة و قد صدق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدق استنادها إلى الملائكة.
و ليس لشيء من الأسباب استقلال قباله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة: لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا.
فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتبة القريبة و البعيدة و انتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده و بالقلم فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد التي توسلت إلى الكتابة بالقلم، و إلى الإنسان الذي توسل إليها باليد و بالقلم، و السبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته استناد الكتابة بوجه إلى اليد و إلى القلم.
و لا منافاة أيضا بين ما تقدم أن شأن الملائكة هو التوسط في التدبير و بين ما يظهر من كلامه تعالى أن بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى و تسبيحه و السجود له كقوله: ﴿وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾: الأنبياء: ٢٠، و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ﴾: الأعراف: ٢٠٦.
و ذلك لجواز أن تكون عبادتهم و سجودهم و تسبيحهم عين عملهم في التدبير و امتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزة بالتوسط كما ربما يومئ إليه قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾: النحل: ٤٩.
(بيان)
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ اَلرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا اَلرَّادِفَةُ﴾ فسرت الراجفة بالصيحة العظيمة التي فيها تردد و اضطراب و الرادفة بالمتأخرة التابعة، و عليه تنطبق الآيتان على نفختي الصور التي يدل عليهما قوله تعالى: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىَ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾: الزمر: ٦٨.
و قيل: الراجفة بمعنى المحركة تحريكا شديدا فإن الرجف يستعمل لازما بمعنى التحرك الشديد، و متعديا بمعنى التحريك الشديد و المراد بها أيضا النفخة الأولى المحركة للأرض و الجبال، و بالرادفة النفخة الثانية المتأخرة عن الأولى.
و قيل: المراد بالراجفة الأرض و بالرادفة السماوات و الكواكب التي ترجف و تضطرب و تنشق، و تتلاشى و الوجهان لا يخلوان من بعد و لا سيما الأخير.
و الأنسب بالسياق على أي حال كون قوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ﴾ إلخ ظرفا لجواب القسم المحذوف للدلالة على فخامته و بلوغه الغاية في الشدة و هو لتبعثن، و قيل: إن ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على معنى قلوب يومئذ واجفة يوم ترجف الراجفة، و لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ تنكير ﴿قُلُوبٌ﴾ للتنويع و هو مبتدأ خبره ﴿وَاجِفَةٌ﴾ و الوجيف الاضطراب، و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف متعلق بواجفة و الجملة استئناف مبين لصفة اليوم.
و قوله: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ ضمير ﴿أَبْصَارُهَا﴾ للقلوب و نسبة الأبصار و إضافتها إلى القلوب لمكان أن المراد بالقلوب في أمثال هذه المواضع التي تضاف إليها الصفات الإدراكية كالعلم و الخوف و الرجاء و ما يشبهها هي النفوس، و قد تقدمت الإشارة إليها.
و نسبة الخشوع إلى الأبصار و هو من أحوال القلب إنما هي لظهور أثره الدال عليه في الأبصار أقوى من سائر الأعضاء.
قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ﴾ إخبار و حكاية لقولهم في الدنيا استبعادا منهم لوقوع البعث و الجزاء و إشارة إلى أن هؤلاء الذين لقلوبهم وجيف و لأبصارهم خشوع يوم القيامة هم الذين ينكرون البعث و هم في الدنيا و يقولون كذا و كذا.
و الحافرة على ما قيل أول الشيء و مبتداه، و الاستفهام للإنكار استبعادا، و المعنى يقول: هؤلاء أ إنا لمردودون بعد الموت إلى حالتنا الأولى و هي الحياة.
و قيل: الحافرة بمعنى المحفورة و هي أرض القبر، و المعنى أ نرد من قبورنا بعد موتنا أحياء، و هو كما ترى.
و قيل: الآية تخبر عن اعترافهم بالبعث يوم القيامة، و الكلام كلامهم بعد الإحياء و الاستفهام للاستغراب كأنهم لما بعثوا و شاهدوا ما شاهدوا يستغربون ما شاهدوا
فيستفهمون عن الرد إلى الحياة بعد الموت.
و هو معنى حسن لو لم يخالف ظاهر السياق.
قوله تعالى: ﴿أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً﴾ تكرار للاستفهام لتأكيد الاستبعاد فلو كانت الحياة بعد الموت مستبعدة فهي مع فرض نخر العظام و تفتت الأجزاء أشد استبعادا، و النخر بفتحتين البلى و التفتت يقال: نخر العظم ينخر نخرا فهو ناخر و نخر.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ الإشارة بتلك إلى معنى الرجعة المفهوم من قوله ﴿أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ﴾ و الكرة الرجعة و العطفة، و عد الكرة خاسرة إما مجاز و الخاسر بالحقيقة صاحبها، أو الخاسرة بمعنى ذات خسران، و المعنى قالوا:
تلك الرجعة و هي الرجعة إلى الحياة بعد الموت رجعة متلبسة بالخسران.
و هذا قول منهم أوردوه استهزاء على أن يكون قولهم: ﴿أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ﴾ إلخ مما قالوه في الدنيا و لذا غير السياق و قال ﴿قَالُوا تِلْكَ إِذاً﴾ إلخ بعد قوله ﴿يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ﴾ إلخ و أما على تقدير أن يكون مما سيقولونه عند البعث فهو قول منهم على سبيل التشؤم و التحسر.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ ضمير ﴿هِيَ﴾ للكرة و قيل: للرادفة و المراد بها النفخة الثانية، و الزجر طرد بصوت و صياح عبر عن النفخة الثانية بالزجرة لما فيها من نقلهم من نشأة الموت إلى نشاة الحياة و من بطن الأرض إلى ظهرها، و ﴿فَإِذَا﴾ فجائية، و الساهرة الأرض المستوية أو الأرض الخالية من النبات.
و الآيتان في محل الجواب عما يدل عليه قولهم ﴿أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ﴾ «إلخ» من استبعاد البعث و استصعابه و المعنى لا يصعب علينا أحياؤهم بعد الموت و كرتهم فإنما كرتهم أو الرادفة التي هي النفخة الثانية زجرة واحدة فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها.
فالآيتان في معنى قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ
﴾النحل: ٧٧.
قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ﴾ الآية إلى تمام اثنتي عشرة آية إشارة إلى إجمال قصة موسى و رسالته إلى فرعون و رده دعوته إلى أن أخذه الله نكال الآخرة و الأولى.
و فيها عظة و إنذار للمشركين المنكرين للبعث و قد توسلوا به إلى رد الدعوة الدينية إذ لا معنى لتشريع الدين لو لا المعاد، و فيها مع ذلك تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من تكذيب
قومه، و تهديد لهم كما يؤيده توجيه الخطاب في قوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ﴾.
و في القصة مع ذلك كله حجة على وقوع البعث و الجزاء فإن هلاك فرعون و جنوده تلك الهلكة الهائلة دليل على حقية رسالة موسى من جانب الله إلى الناس و لا تتم رسالته من جانبه تعالى إلا بربوبية منه تعالى للناس على خلاف ما يزعمه المشركون أن لا ربوبية له تعالى بالنسبة إلى الناس و أن هناك أربابا دونه و أنه سبحانه رب الأرباب لا غير.
ففي قوله ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ﴾ استفهام بداعي ترغيب السامع في استماع الحديث ليتسلى به هو و يكون للمنكرين إنذارا بما فيه من ذكر العذاب و إتماما للحجة كما تقدم.
و لا ينافي هذا النوع من الاستفهام تقدم علم السامع بالحديث لأن الغرض توجيه نظر السامع إلى الحديث دون السؤال و الاستعلام حقيقة فمن الممكن أن تكون الآيات أول ما يقصه الله من قصة موسى أو تكون مسبوقة بذكر قصته كما في سورة المزمل إجمالا و هي أقدم نزولا من سورة النازعات و في سورة الأعراف و طه و غيرهما تفصيلا.
قوله تعالى: ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً﴾ ظرف للحديث و هو أول ما أوحى الله إليه فقلده الرسالة، و طوى اسم للوادي المقدس.
قوله تعالى: ﴿اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ﴾ تفسير للنداء، و قيل: الكلام على تقدير القول أي قائلا اذهب «إلخ» أو بتقدير أن المفسرة أي أن اذهب «إلخ» و في الوجهين أن التقدير مستغنى عنه، و قوله: ﴿إِنَّهُ طَغىَ﴾ تعليل للأمر.
قوله تعالى: ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلىَ أَنْ تَزَكَّى﴾ متعلق ﴿إِلىَ﴾ محذوف و التقدير هل لك ميل إلى أن تتزكى أو ما في معناه، و المراد بالتزكي التطهر من قذارة الطغيان.
قوله تعالى: ﴿وَ أَهْدِيَكَ إِلىَ رَبِّكَ فَتَخْشىَ﴾ عطف على قوله: ﴿تَزَكَّى﴾ و المراد بهدايته إياه إلى ربه كما قيل تعريفه له و إرشاده إلى معرفته تعالى و تترتب عليه الخشية منه الرادعة عن الطغيان و تعدي طور العبودية قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ﴾: فاطر: ٢٨.
و المراد بالتزكي إن كان هو التطهر عن الطغيان بالتوبة و الرجوع إلى الله تعالى كانت الخشية مترتبة عليه و المراد بها الخشية الملازمة للإيمان الداعية إلى الطاعة و الرادعة عن المعصية، و إن كان هو التطهر بالطاعة و تجنب المعصية كان قوله: ﴿وَ أَهْدِيَكَ إِلىَ رَبِّكَ فَتَخْشىَ﴾ مفسرا لما قبله و العطف عطف تفسير.
قوله تعالى: ﴿فَأَرَاهُ اَلْآيَةَ اَلْكُبْرىَ﴾ الفاء فصيحة و في الكلام حذف و تقدير و الأصل فأتاه و دعاه فأراه «إلخ».
و المراد بالآية الكبرى على ما يظهر من تفصيل القصة آية العصا، و قيل: المراد بها مجموع معجزاته التي أراها فرعون و ملأه و هو بعيد.
قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبَ وَ عَصىَ﴾ أي كذب موسى فجحد رسالته و سماه ساحرا و عصاه فيما أمره به أو عصى الله.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعىَ﴾ الإدبار التولي و السعي هو الجد و الاجتهاد أي ثم تولى فرعون يجد و يجتهد في إبطال أمر موسى و معارضته.
قوله تعالى: ﴿فَحَشَرَ فَنَادىَ﴾ الحشر جمع الناس بإزعاج و المراد به جمعه الناس من أهل مملكته كما يدل عليه تفريع قوله: ﴿فَنَادىَ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ﴾ عليه فإن كان يدعي الربوبية لأهل مملكته جميعا لا لطائفة خاصة منهم.
و قيل: المراد بالحشر جمع السحرة لقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾: الشعراء: ٥٣، و قوله: ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتىَ﴾: طه: ٦٠ و فيه أنه لا دليل على كون المراد بالحشر في هذه الآية هو عين المراد بالحشر و الجمع في تينك الآيتين.
قوله تعالى: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ﴾ دعوى الربوبية و ظاهره أنه يدعي أنه أعلى في الربوبية من سائر الأرباب التي كان يقول بها قومه الوثنيون فيفضل نفسه على سائر آلهتهم.
و لعل مراده بهذا التفضيل مع كونه وثنيا يعبد الآلهة كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن ملئه يخاطبونه: ﴿أَ تَذَرُ مُوسىَ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ ﴾: الأعراف: ١٢٧ إنه أقرب الآلهة منهم تجري بيده أرزاقهم و تصلح بأمره شئون حياتهم و يحفظ بمشيته شرفهم و سؤددهم، و سائر الآلهة ليسوا على هذه الصفة.
و قيل: مراده بما قال تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم و محصله دعوى الملك و أنه فوق سائر أولياء أمور المملكة من حكام و عمال فيكون في معنى قوله فيما حكاه الله عنه إذ قال: ﴿وَ نَادىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ الآية:
الزخرف: ٥١.
و هو خلاف ظاهر الكلام و فيما قال قوله لملئه: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾: القصص: ٣٨، و قوله لموسى: ﴿لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ﴾: الشعراء: ٢٩.
قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ اَللَّهُ نَكَالَ اَلْآخِرَةِ وَ اَلْأُولىَ﴾ الأخذ كناية عن التعذيب، و النكال التعذيب الذي يردع من رآه أو سمعه عن تعاطي مثله، و عذاب الآخرة نكال حيث إن من شأنه أن يردع من سمعه عن تعاطي ما يؤدي إليه من المعصية كما أن عذاب الاستئصال في الدنيا نكال.
و المعنى: فأخذ الله فرعون أي عذبه و نكله نكال الآخرة و الأولى و أما عذاب الدنيا فإغراقه و إغراق جنوده، و أما عذاب الآخرة فعذابه بعد الموت، فالمراد بالأولى و الآخرة الدنيا و الآخرة.
و قيل: المراد بالآخرة كلمته الآخرة، ﴿أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ﴾ و بالأولى كلمته الأولى قالها قبل ذلك ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ فأخذه الله بهاتين الكلمتين و نكله نكالهما، و لا يخلو هذا المعنى من خفاء.
و قيل: المراد بالأولى تكذيبه و معصيته المذكوران في أول القصة و بالأخرى كلمة أنا ربكم الأعلى المذكورة في آخرها، و هو كسابقه.
و قيل: الأولى أول معاصيه و الأخرى آخرها و المعنى أخذه الله نكال مجموع معاصيه و لا يخلو أيضا من خفاء.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىَ﴾ الإشارة إلى حديث موسى، و الظاهر أن مفعول ﴿يَخْشىَ﴾ منسي معرض عنه، و المعنى أن في هذا الحديث حديث موسى لعبرة لمن كان له خشية و كان من غريزته أن يخشى الشقاء و العذاب و الإنسان من غريزته ذلك ففيه عبرة لمن كان إنسانا مستقيم الفطرة.
و قيل: المفعول محذوف و التقدير لمن يخشى الله و الوجه السابق أبلغ.
قوله تعالى: ﴿أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ إلى قوله ﴿وَ لِأَنْعَامِكُمْ﴾ خطاب توبيخي للمشركين المنكرين للبعث المستهزءين به على سبيل العتاب و يتضمن الجواب عن استبعادهم البعث بقولهم: ﴿أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً﴾ بأن
الله خلق ما هو أشد منكم خلقا فهو على خلقكم و إنشائكم النشأة الأخرى لقدير.
و يتضمن أيضا الإشارة إلى الحجة على وقوع البعث حيث يذكر التدبير العام العالمي و ارتباطه بالعالم الإنساني و لازمه ربوبيته تعالى، و لازم الربوبية صحة النبوة و جعل التكاليف، و لازم ذلك الجزاء الذي موطنه البعث و الحشر، و لذا فرع عليه حديث البعث بقوله: «فإذا جاءت الطامة الكبرى» إلخ.
فقوله: ﴿أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّمَاءُ﴾ استفهام توبيخي بداعي رفع استبعادهم البعث بعد الموت، و الإشارة إلى تفصيل خلق السماء بقوله: ﴿بَنَاهَا﴾ إلخ دليل أن المراد به تقرير كون السماء أشد خلقا.
و قوله: ﴿بَنَاهَا﴾ استئناف و بيان تفصيلي لخلق السماء.
و قوله: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ أي رفع سقفها و ما ارتفع منها، و تسويتها ترتيب أجزائها و تركيبها بوضع كل جزء في موضعه الذي تقتضيه الحكمة كما في قوله: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾: الحجر: ٢٩.
و قوله: ﴿وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَ أَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ أي أظلم ليلها و أبرز نهارها، و الأصل في معنى الضحى انبساط الشمس و امتداد النهار أريد به مطلق النهار بقرينة المقابلة و نسبة الليل و الضحى إلى السماء لأن السبب الأصلي لها سماوي و هو ظهور الأجرام المظلمة بشروق الأنوار السماوية كنور الشمس و غيره و خفاؤها بالاستتار و لا يختص الليل و النهار بالأرض التي نحن عليها بل يعمان سائر الأجرام المظلمة المستنيرة.
و قوله: ﴿وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ أي بسطها و مدها بعد ما بنى السماء و رفع سمكها و سواها و أغطش ليلها و أخرج ضحاها.
و قيل: المعنى و الأرض مع ذلك دحاها كما في قوله: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ و قد تقدم كلام فيما يظهر من كلامه تعالى في خلق السماء و الأرض في تفسير سورة الم السجدة و ذكر بعضهم أن الدحو بمعنى الدحرجة.
و قوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا﴾ قيل: المرعى يطلق على الرعي بالكسر فالسكون و هو الكلأ كما يجيء مصدرا ميميا، و اسم زمان و مكان، و المراد بإخراج مائها منها تفجير العيون و إجراء الأنهار عليها، و إخراج المرعى إنبات النبات عليها
مما يتغذى به الحيوان و الإنسان فالظاهر أن المراد بالمرعى مطلق النبات الذي يتغذى به الحيوان و الإنسان كما يشعر به قوله: ﴿مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ﴾ لا ما يختص بالحيوان كما هو الغالب في استعماله.
و قوله: ﴿وَ اَلْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ أي أثبتها على الأرض لئلا تميد بكم و ادخر فيها المياه و المعادن كما ينبئ عنه سائر كلامه تعالى.
و قوله: ﴿مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ﴾ أي خلق ما ذكر من السماء و الأرض و دبر ما دبر من أمرهما ليكون متاعا لكم و لأنعامكم التي سخرها لكم تتمتعون به في حياتكم فهذا الخلق و التدبير الذي فيه تمتيعكم يوجب عليكم معرفة ربكم و خوف مقامه و شكر نعمته فهناك يوم تجزون فيه بما عملتم في ذلك إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا كما أن هذا الخلق و التدبير أشد من خلقكم فليس لكم أن تستبعدوا خلقكم ثانيا و تستصعبوه عليه تعالى.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ اَلطَّامَّةُ اَلْكُبْرىَ﴾ في المجمع،: و الطامة العالية الغالبة يقال: هذا أطم من هذا أي أعلى منه، و طم الطائر الشجرة أي علاها و تسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها طامة. انتهى، فالمراد بالطامة الكبرى القيامة لأنها داهية تعلو و تغلب كل داهية هائلة، و هذا معنى اتصافها بالكبرى و قد أطلقت إطلاقا.
و تصدير الجملة بفاء التفريع للإشارة إلى أن مضمونها أعني مجيء القيامة من لوازم خلق السماء و الأرض و جعل التدبير الجاري فيهما المترتبة على ذلك كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ اَلْإِنْسَانُ مَا سَعىَ﴾ ظرف لمجيء الطامة الكبرى، و السعي هو العمل بجد.
قوله تعالى: ﴿وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِمَنْ يَرىَ﴾ التبريز الإظهار و مفعول ﴿يَرىَ﴾ منسي معرض عنه و المراد بمن يرى من له بصر يرى به، و المعنى و أظهرت الجحيم بكشف الغطاء عنها لكل ذي بصر فيشاهدونها مشاهدة عيان.
فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾: ق: ٢٢ غير أن آية ق أوسع معنى.
و الآية ظاهرة في أن الجحيم مخلوقة قبل يوم القيامة و إنما تظهر يومئذ ظهورا بكشف الغطاء عنها.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغىَ وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوىَ وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوىَ فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوىَ﴾ تفصيل حال الناس يومئذ في انقسامهم قسمين أقيم مقام الإجمال الذي هو جواب إذا المحذوف استغناء بالتفصيل عن الإجمال، و التقدير فإذا جاءت الطامة الكبرى انقسم الناس قسمين فأما من طغى إلخ.
و قد قسم تعالى الناس في الآيات الثلاث إلى أهل الجحيم و أهل الجنة و قدم صفة أهل الجحيم لأن وجه الكلام إلى المشركين و عزف أهل الجحيم بما وصفهم به في قوله: ﴿مَنْ طَغىَ وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا﴾ و قابل تعريفهم بتعريف أهل الجنة بقوله:
﴿مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوىَ﴾ و سبيل ما وصف به الطائفتين على أي حال سبيل بيان الضابط.
و إذ كانت الطائفتان متقابلتين بحسب حالهما كان ما بين لكل منهما من الوصف مقابلا لوصف الآخر فوصف أهل الجنة بالخوف من مقام ربهم و الخوف تأثر الضعيف المقهور من القوي القاهر و خشوعه و خضوعه له يقتضي كون طغيان أهل الجحيم و الطغيان التعدي عن الحد هو عدم تأثرهم من مقام ربهم بالاستكبار و خروجهم عن زي العبودية فلا يخشعون و لا يخضعون و لا يجرون على ما أراده منهم و لا يختارون ما اختاره لهم من السعادة الخالدة بل ما تهواه أنفسهم من زينة الحياة الدنيا.
فمن لوازم طغيانهم اختيارهم الحياة الدنيا و هو الذي وصفهم به بعد وصفهم بالطغيان إذ قال: ﴿وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا﴾.
و إذ كان من لوازم الطغيان رفض الآخرة و إيثار الحياة الدنيا و هو اتباع النفس فيما تريده و طاعتها فيما تهواه و مخالفته تعالى فيما يريده كان لما يقابل الطغيان من الوصف و هو الخوف ما يقابل الإيثار و اتباع هوى النفس و هو قريحة الردع عن الإخلاد إلى الأرض و نهى النفس عن اتباع الهوى و هو قوله في وصف أهل الجنة بعد وصفهم بالخوف: ﴿وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوىَ﴾.
و إنما أخذ في وصفه النهي عن الهوى دون ترك اتباعه عملا لأن الإنسان ضعيف ربما
ساقته الجهالة إلى المعصية من غير استكبار و الله واسع المغفرة قال تعالى ﴿وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا بِمَا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوَاحِشَ إِلاَّ اَللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ اَلْمَغْفِرَةِ﴾: النجم: ٣٢، و قال: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾: النساء: ٣١.
و يتحصل معنى الآيات الثلاث في إعطاء الضابط في صفة أهل الجحيم و أهل الجنة في أن أهل الجحيم أهل الكفر و الفسوق و أهل الجنة أهل الإيمان و التقوى، و هناك غير الطائفتين طوائف أخر من المستضعفين و الذين اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا و غيرهم أمرهم إلى الله سبحانه عسى أن يشملهم المغفرة بشفاعة و غيرها.
فقوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغىَ ﴾ إلى قوله ﴿هِيَ اَلْمَأْوىَ﴾ أي هي مأواه على أن تكون اللام عوضا عن الضمير أو الضمير محذوف و التقدير هي المأوى له.
و قوله: ﴿وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ إلخ المقام اسم مكان يراد به المكان الذي يقوم فيه جسم من الأجسام و هو الأصل في معناه ككونه اسم زمان و مصدرا ميميا لكن ربما يعتبر ما عليه الشيء من الصفات و الأحوال محلا و مستقرا للشيء بنوع من العناية فيطلق عليه المقام كالمنزلة كما في قوله تعالى في الشهادة: ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا﴾: المائدة: ١٠٧ و قول نوح (عليه السلام) لقومه على ما حكاه الله: ﴿إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَ تَذْكِيرِي بِآيَاتِ اَللَّهِ﴾: يونس: ٧١، و قول الملائكة على ما حكاه الله: ﴿وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ
﴾الصافات: ١٦٤.
فمقامه تعالى المنسوب إليه بما أنه رب هو صفة ربوبيته بما تستلزمه أو تتوقف عليه من صفاته الكريمة كالعلم و القدرة المطلقة و القهر و الغلبة و الرحمة و الغضب و ما يناسبها قال إيذانا به: ﴿وَ لاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىَ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىَ﴾: طه: ٨٢، و قال: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ اَلْأَلِيمُ﴾: الحجر: ٥٠.
فمقامه تعالى الذي يخوف منه عباده مرحلة ربوبيته التي هي المبدأ لرحمته و مغفرته لمن آمن و اتقى و لأليم عذابه و شديد عقابه لمن كذب و عصى.
و قيل: المراد بمقام ربه مقامه من ربه يوم القيامة حين يسأله عن أعماله و هو كما ترى.
و قيل: معنى خاف مقام ربه خاف ربه بطريق الإقحام كما قيل في قوله ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾.
(بحث روائي)
في الفقيه، و روى علي بن مهزيار قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قوله عز و جل ﴿وَ اَللَّيْلِ إِذَا يَغْشىَ وَ اَلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ و قوله عز و جل: ﴿وَ اَلنَّجْمِ إِذَا هَوىَ﴾ و ما أشبه هذا؟ فقال إن لله عز و جل أن يقسم من خلقه بما شاء و ليس لخلقه أن يقسموا إلا به.
أقول: و تقدم في هذا المعنى رواية الكافي، عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) في تفسير أول سورة النجم.
و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن المنصور و ابن المنذر عن علي في قوله: ﴿وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً﴾ قال: هي الملائكة تنزع أرواح الكفار ﴿وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً﴾ هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار و الجلد حتى تخرجها ﴿وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً﴾ هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء و الأرض ﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً﴾ هي الملائكة يسبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ قال هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة. أقول: ينبغي أن تحمل الرواية لو صحت على ذكر بعض المصاديق، و قوله: «تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار و الجلد حتى تخرجها» ضرب من التمثيل لشدة العذاب.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن ابن الكواء سأله عن ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ قال: الملائكة يدبرون ذكر الرحمن و أمره. و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ اَلرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا اَلرَّادِفَةُ﴾ قال:
تنشق الأرض بأهلها و الرادفة الصيحة.
و فيه، :في قوله: ﴿أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ﴾ قال: قالت قريش: أ نرجع بعد الموت؟ و فيه، :في قوله: ﴿تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ قال: قالوا هذه على حد الاستهزاء.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قوله: ﴿أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ﴾ يقول: في الخلق الجديد، و أما قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ و الساهرة الأرض كانوا في القبور فلما سمعوا الزجرة خرجوا من قبورهم فاستووا على الأرض.
و في أصول الكافي، بإسناده إلى داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل:
﴿وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾، قال: من علم أن الله يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى.
أقول: يؤيد الحديث ما تقدم من معنى الخوف من مقامه تعالى.
و فيه، بإسناده عن يحيى بن عقيل قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنما أخاف عليكم الاثنين: اتباع الهوى و طول الأمل أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق و أما طول الأمل فينسي الآخرة.
[سورة النازعات (٧٩): الآیات ٤٢ الی ٤٦ ]
﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ٤٢ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ٤٣ إِلىَ رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ٤٤ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ٤٥ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ٤٦﴾
(بيان)
تعرض لسؤالهم عن وقت قيام الساعة و رد له بأن علمه ليس لأحد إلا الله فقد خصه بنفسه.
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ الظاهر أن التعبير بيسألونك لإفادة الاستمرار فقد كان المشركون بعد ما سمعوا حديث القيامة يراجعون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يسألونه أن يعين لهم وقتها مصرين على ذلك و قد تكرر في القرآن الكريم الإشارة إلى ذلك.
و المرسى مصدر ميمي بمعنى الإثبات و الإقرار و قوله: ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ بيان للسؤال و المعنى يسألك هؤلاء المنكرون للساعة المستهزءون به عن الساعة متى إثباتها و إقرارها؟ أي متى تقوم القيامة؟ قوله تعالى: ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ استفهام إنكاري و ﴿فِيمَ أَنْتَ﴾ مبتدأ و خبر، و ﴿مِنْ﴾ لابتداء الغاية، و الذكرى كثرة الذكر و هو أبلغ من الذكر على ما ذكره الراغب.
و المعنى في أي شيء أنت من كثرة ذكر الساعة أي ما ذا يحصل لك من العلم بوقتها من ناحية كثرة ذكرها و بسبب ذلك أي لست تعلمها بكثرة ذكرها.
أو الذكرى بمعنى حضور حقيقة معنى الشيء في القلب، و المعنى - على الاستفهام الإنكاري - لست في شيء من العلم بحقيقتها و ما هي عليه حتى تحيط بوقتها و هو أنسب من المعنى السابق.
و قيل: المعنى ليس ذكراها مما يرتبط ببعثتك إنما بعثت لتنذر من يخشاها.
و قيل: ﴿فِيمَ﴾ إنكار لسؤالهم، و قوله: ﴿أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ استئناف و تعليل لإنكار سؤالهم، و المعنى فيم هذا السؤال إنما أنت من ذكرى الساعة لاتصال بعثتك بها و أنت خاتم الأنبياء، و هذا المقدار من العلم يكفيهم، و هو قوله (ص) فيما روي: «بعثت أنا و الساعة كهاتين إن كادت لتسبقني». و قيل: الآية من تمام سؤال المشركين خاطبوا به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى ما الذي عندك من العلم بها و بوقتها؟ أو ما الذي حصل لك و أنت تكثر ذكرها.
و أنت خبير بأن السياق لا يلائم شيئا من هذه المعاني تلك الملاءمة، على أنها أو أكثرها لا تخلو من تكلف.
قوله تعالى: ﴿إِلىَ رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ في مقام التعليل لقوله: ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ و المعنى لست تعلم وقتها لأن انتهاءها إلى ربك فلا يعلم حقيقتها و صفاتها و منها تعين الوقت إلا ربك فليس لهم أن يسألوا عن وقتها و ليس في وسعك أن تجيب عنها.
و ليس من البعيد و الله أعلم أن تكون الآية في مقام التعليل بمعنى آخر و هو أن الساعة تقوم بفناء الأشياء و سقوط الأسباب و ظهور أن لا ملك إلا لله الواحد القهار فلا ينتسب اليوم إلا إليه تعالى من غير أن يتوسط بالحقيقة بينه تعالى و بين اليوم أي سبب مفروض و منه الزمان فليس يقبل اليوم توقيتا بحسب الحقيقة.
و لذا لم يرد في كلامه تعالى من التحديد إلا تحديد اليوم بانقراض نشأة الدنيا كقوله:
﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ﴾: الزمر: ٦٨ و ما في معناه من الآيات الدالة على خراب الدنيا بتبدل الأرض و السماء و انتثار الكواكب و غير ذلك.
و إلا تحديده بنوع من التمثيل و التشبيه كقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾، و قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
﴾ الأحقاف: ٣٥، و قوله: ﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ ثم ذكر حق القول في ذلك فقال: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلىَ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ﴾: الروم: ٥٦.
و يلوح إلى ما مر ما في مواضع من كلامه أن الساعة لا تأتي إلا بغتة، قال تعالى:
﴿ثَقُلَتْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾: الأعراف: ١٨٧ إلى غير ذلك من الآيات.
و هذا وجه عميق يحتاج في تمامه إلى تدبر واف ليرتفع به ما يتراءى من مخالفته لظواهر عدة من آيات القيامة و عليك بالتدبر في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾: ق: ٢٢ و ما في معناه من الآيات و الله المستعان.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ أي إنما كلفناك بإنذار من يخشى الساعة دون الإخبار بوقت قيام الساعة حتى تجيبهم عن وقتها إذا سألوك عنه فالقصر في الآية قصر إفراد بقصر شأنه (ص) في الإنذار و تنفي عنه العلم بالوقت و تعيينه لمن يسأل عنه.
و المراد بالخشية على ما يناسب المقام الخوف منها إذا ذكر بها أي شأنية الخشية لا فعليتها قبل الإنذار.
قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ بيان لقرب الساعة بحسب التمثيل و التشبيه بأن قرب الساعة من حياتهم الدنيا بحيث مثلهم حين يرونها مثلهم لو لبثوا بعد حياتهم في الأرض عشية أو ضحى تلك العشية أي وقتا نسبته إلى نهار واحد نسبة العشية إلى ما قبلها منه أو نسبة الضحى إلى ما قبله منه.
و قد ظهر بما تقدم أن المراد باللبث لبث ما بين الحياة الدنيا و البعث أي لبثهم في القبور لأن الحساب يقع على مجموع الحياة الدنيا.
و قيل: المراد به اللبث بين حين سؤالهم عن وقتها و بين البعث و فيه أنهم إنما يشاهدون لبثهم على هذه الصفة عند البعث و البعث الذي هو الإحياء بعد الموت إنما نسبته إلى الموت الذي قبله دون مجموع الموت و بعض الحياة التي بين زمان السؤال عن الوقت و زمان الموت.
على أنه لا يلائم ظواهر سائر الآيات المتعرضة للبثهم قبل البعث كقوله تعالى ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ﴾: المؤمنون: ١١٢.
و قيل: المراد باللبث اللبث في الدنيا و هو سخيف.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، : ﴿وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوىَ فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوىَ﴾ قال: هو العبد إذا وقف على معصية الله و قدر عليها ثم تركها مخافة الله و نهي الله و نهى النفس عنها فمكافاته الجنة، قوله ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ قال:
متى تقوم؟ فقال الله: ﴿إِلىَ رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ أي علمها عند الله، قوله ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ قال: بعض يوم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس قال :
إن مشركي مكة سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: متى تقوم الساعة استهزاء منهم فنزلت ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ الآيات.
و فيه، أخرج البزار و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن عائشة قالت : ما زال رسول الله يسأل عن الساعة حتى أنزل عليه ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلىَ رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ فلم يسأل عنها.
أقول: و رواه أيضا عن عدة من أصحاب الكتب عن عروة مرسلا، و رواه أيضا عن عدة منهم عن شهاب بن طارق عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : مثله، و السياق لا يلائم كونه جوابا عن سؤال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و في بعض الروايات: كانت الأعراب إذا قدموا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان فيهم فيقول: إن يعش هذا قرنا قامت عليكم ساعتكم:
رواها في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن عائشة. و هي من التوقيت الذي يجل عنه ساحة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد أوحي إليه في كثير من السور القرآنية سيما المكية أن علم الساعة يختص به تعالى لا يعلمه إلا هو و أمر أن يجيب من سأله عن وقتها بنفي العلم به عن نفسه.
(٨٠) سورة عبس مكية و هي اثنان و أربعون آية (٤٢)
[سورة عبس (٨٠): الآیات ١ الی ١٦ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ عَبَسَ وَ تَوَلَّى ١ أَنْ جَاءَهُ اَلْأَعْمىَ ٢ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ٣ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ اَلذِّكْرىَ ٤ أَمَّا مَنِ اِسْتَغْنى ٥ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ٦ وَ مَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ٧ وَ أَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعى ٨ وَ هُوَ يَخْشىَ ٩ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ١٠ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ١١ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ١٢ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ١٣ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ١٤ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ١٥ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ١٦﴾
(بيان)
وردت الروايات من طرق أهل السنة أن الآيات نزلت في قصة ابن أم مكتوم الأعمى دخل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عنده قوم من صناديد قريش يناجيهم في أمر الإسلام فعبس النبي عنه فعاتبه الله تعالى بهذه الآيات و في بعض الأخبار من طرق الشيعة إشارة إلى ذلك.
و في بعض روايات الشيعة أن العابس المتولي رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فدخل عليه ابن أم مكتوم فعبس الرجل و قبض وجهه فنزلت الآيات: و سيوافيك تفصيل البحث عن ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و كيف كان الأمر فغرض السورة عتاب من يقدم الأغنياء و المترفين على الضعفاء و المساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا و يضع أهل الآخرة ثم ينجر الكلام إلى الإشارة إلى هوان أمر الإنسان في خلقه و تناهيه في الحاجة إلى تدبير أمره و كفره مع ذلك بنعم ربه و تدبيره العظيم لأمره و تتخلص إلى ذكر بعثه و جزائه إنذارا و السورة مكية بلا كلام.
قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَ تَوَلَّى﴾ أي بسر و قبض وجهه و أعرض.
قوله تعالى: ﴿أَنْ جَاءَهُ اَلْأَعْمىَ﴾ تعليل لما ذكر من العبوس بتقدير لام التعليل.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ اَلذِّكْرىَ﴾ حال من فاعل ﴿عَبَسَ وَ تَوَلَّى﴾ و المراد بالتزكي التطهر بعمل صالح بعد التذكر الذي هو الاتعاظ و الانتباه للاعتقاد الحق، و نفع الذكرى هو دعوتها إلى التزكي بالإيمان و العمل الصالح.
و محصل المعنى: بسر و أعرض عن الأعمى لما جاءه و الحال أنه ليس يدري لعل الأعمى الذي جاءه يتطهر بصالح العمل بعد الإيمان بسبب مجيئه و تعلمه و قد تذكر قبل أو يتذكر بسبب مجيئه و اتعاظه بما يتعلم فتنفعه الذكرى فيتطهر.
و في الآيات الأربع عتاب شديد و يزيد شدة بإتيان الآيتين الأوليين في سياق الغيبة لما فيه من الإعراض عن المشافهة و الدلالة على تشديد الإنكار و إتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ و إلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الإعراض و التقريع من غير واسطة.
و في التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقدا للبصر و كانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يرحم و يخص بمزيد الإقبال و التعطف لا أن ينقبض و يعرض عنه.
و قيل بناء على كون المراد بالمعاتب هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أن في التعبير عنه أولا بضمير الغيبة إجلالا له لإيهام أن من صدر عنه العبوس و التولي غيره (ص) لأنه لا يصدر مثله عن مثله، و ثانيا بضمير الخطاب إجلالا له أيضا لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش و الإقبال بعد الإعراض.
و فيه أنه لا يلائمه الخطاب في قوله بعد: ﴿أَمَّا مَنِ اِسْتَغْنىَ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ إلخ و العتاب و التوبيخ فيه أشد مما في قوله: ﴿عَبَسَ وَ تَوَلَّى﴾ إلخ و لا إيناس فيه قطعا.
قوله تعالى: ﴿أَمَّا مَنِ اِسْتَغْنىَ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ مَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾ الغنى و الاستغناء و التغني و التغاني بمعنى على ما ذكره الراغب فالمراد بمن استغنى من تلبس بالغنى و لازمه التقدم و الرئاسة و العظمة في أعين الناس و الاستكبار عن اتباع الحق قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَيَطْغىَ أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىَ﴾: العلق: ٧ و التصدي التعرض للشيء بالإقبال عليه و الاهتمام بأمره.
و في الآية إلى تمام ست آيات إشارة إلى تفصيل القول في ملاك ما ذكر من العبوس و التولي فعوتب عليه و محصله أنك تعتني و تقبل على من استغنى و استكبر عن اتباع الحق
و ما عليك ألا يزكى و تتلهى و تعرض عمن يجتهد في التزكي و هو يخشى.
و قوله: ﴿وَ مَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾ قيل: ﴿مَا﴾ نافية و المعنى و ليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض و التلهي عمن أسلم و الإقبال عليه.
و قيل: ﴿مَا﴾ للاستفهام الإنكاري و المعنى و أي شيء يلزمك أن لم يتطهر من الكفر و الفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ.
و قيل: المعنى و لا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر و الفجور و هذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعىَ وَ هُوَ يَخْشىَ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ السعي الإسراع في المشي فمعنى قوله: ﴿وَ أَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعىَ﴾ بحسب ما يفيده المقام: و أما من جاءك مسرعا ليتذكر و يتزكى بما يتعلم من معارف الدين.
و قوله: ﴿وَ هُوَ يَخْشىَ﴾ أي يخشى الله و الخشية آية التذكر بالقرآن قال تعالى: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ﴾: طه: ٣ و قال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشىَ﴾: الأعلى: ١٠.
و قوله: ﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ أي تتلهى و تتشاغل بغيره و تقديم ضمير أنت في قوله:
﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ و قوله: ﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ و كذا الضميرين ﴿لَهُ﴾ و ﴿عَنْهُ﴾ في الآيتين لتسجيل العتاب و تثبيته.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ ﴿كَلاَّ﴾ ردع عما عوتب عليه من العبوس و التولي و التصدي لمن استغنى و التلهي عمن يخشى.
و الضمير في ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ للآيات القرآنية أو للقرآن و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر و المعنى أن الآيات القرآنية أو القرآن تذكرة أي موعظة يتعظ بها من اتعظ أو مذكر يذكر حق الاعتقاد و العمل.
و قوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ جملة معترضة و الضمير للقرآن أو ما يذكر به القرآن من المعارف، و المعنى فمن شاء ذكر القرآن أو ذكر ما يذكر به القرآن و هو الانتقال إلى ما تهدي إليه الفطرة مما تحفظه في لوحها من حق الاعتقاد و العمل.
و في التعبير بهذا التعبير: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ تلويح إلى أن لا إكراه في الدعوة إلى التذكر فلا نفع فيها يعود إلى الداعي و إنما المنتفع بها المتذكر فليختر ما يختاره.
قوله تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ قال في المجمع،: الصحف جمع صحيفة، و العرب تسمي كل مكتوب فيه صحيفة كما تسميه كتابا رقا كان أو غيره انتهى.
و ﴿فِي صُحُفٍ﴾ خبر بعد خبر لأن و ظاهره أنه مكتوب في صحف متعددة بأيدي ملائكة الوحي، و هذا يضعف القول بأن المراد بالصحف اللوح المحفوظ و لم يرد في كلامه تعالى إطلاق الصحف و لا الكتب و لا الألواح بصيغة الجمع على اللوح المحفوظ، و نظيره في الضعف القول بأن المراد بالصحف كتب الأنبياء الماضين لعدم ملاءمته لظهور قوله:
﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ إلخ في أنه صفة لصحف.
و قوله: ﴿مُكَرَّمَةٍ﴾ أي معظمة، و قوله: ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ أي قدرا عند الله، و قوله:
﴿مُطَهَّرَةٍ﴾ أي من قذارة الباطل و لغو القول و الشك و التناقض قال تعالى: ﴿لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾: حم السجدة: ٤٢، و قال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾: الطارق: ١٤ و قال: ﴿ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾: البقرة: ٢، و قال: ﴿وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾: النساء: ٨٢.
قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ صفة بعد صفة لصحف، و السفرة هم السفراء جمع سفير بمعنى الرسول و ﴿كِرَامٍ﴾ صفة لهم باعتبار ذواتهم و ﴿بَرَرَةٍ﴾ صفة لهم باعتبار عملهم و هو الإحسان في الفعل.
و معنى الآيات أن القرآن تذكرة مكتوبة في صحف متعددة معظمة مرفوعة قدرا مطهرا من كل دنس و قذارة بأيدي سفراء من الملائكة كرام على ربهم بطهارة ذواتهم بررة عنده تعالى بحسن أعمالهم.
و يظهر من الآيات أن للوحي ملائكة يتصدون لحمل الصحف و إيحاء ما فيها من القرآن فهم أعوان جبريل و تحت أمره و نسبة إلقاء الوحي إليهم لا تنافي نسبته إلى جبريل في مثل قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىَ قَلْبِكَ﴾: الشعراء: ١٩٤ و قد قال تعالى في صفته:
﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾: التكوير: ٢١ فهو مطاع من الملائكة من يصدر عن أمره و يأتي بما يريده و الإيحاء الذي هو فعل أعوانه فعله كما أن فعله و فعلهم جميعا فعل الله و ذلك نظير كون التوفي الذي هو فعل أعوان ملك الموت فعله، و فعله و فعلهم جميعا فعل الله تعالى، و قد تقدمت الإشارة إلى هذا البحث مرارا.
و قيل: المراد بالسفرة الكتاب من الملائكة، و الذي تقدم من المعنى أجلى و قيل: المراد بهم القراء يكتبونها و يقرءونها و هو كما ترى.
(بحث روائي)
في المجمع، قيل :نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم و هو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي.
و ذلك أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يناجي عتبة بن ربيعة و أبا جهل بن هشام و العباس بن عبد المطلب و أبيا و أمية بن خلف يدعوهم إلى الله و يرجو إسلامهم فقال:
يا رسول الله أقرئني و علمني مما علمك الله - فجعل يناديه و يكرر النداء و لا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لقطعه كلامه و قال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد - إنما أتباعه العميان و العبيد فأعرض عنه -و أقبل على القوم الذين كان يكلمهم فنزلت الآيات.
و كان رسول الله بعد ذلك يكرمه، و إذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، و يقول له: هل لك من حاجة؟ و استخلفه على المدينة مرتين في غزوتين.
أقول: روى السيوطي في الدر المنثور القصة عن عائشة و أنس و ابن عباس على اختلاف يسير و ما أورده الطبرسي محصل الروايات.
و ليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بل خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه بل فيها ما يدل على أن المعنى بها غيره لأن العبوس ليس من صفات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء و يتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه الله.
و قد عظم الله خلقه (ص) إذ قال و هو قبل نزول هذه السورة : ﴿وَ إِنَّكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ و الآية واقعة في سورة «ن» التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول بعثته و يطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية و يذمه بمثل التصدي للأغنياء و إن كفروا و التلهي عن الفقراء و إن آمنوا و استرشدوا.
و قال تعالى أيضا: ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾: الشعراء: ٢١٥ فأمره بخفض الجناح للمؤمنين و السورة من السور المكية و الآية في سياق قوله: ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ النازل في أوائل الدعوة.
و كذا قوله: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: الحجر: ٨٨ و في سياق الآية قوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ﴾: الحجر: ٩٤ النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصور منه (ص) العبوس و الإعراض عن المؤمنين و قد أمر باحترام إيمانهم و خفض الجناح و أن لا يمد عينيه إلى دنيا أهل الدنيا.
على أن قبح ترجيح غنى الغني و ليس ملاكا لشيء من الفضل على كمال الفقير و صلاحه بالعبوس و الإعراض عن الفقير و الإقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الإنساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي.
و بهذا و ما تقدمه يظهر الجواب عما قيل: إن الله سبحانه لم ينهه (ص) عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده و أما قبل النهي فلا.
و ذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم ممنوع، و لو سلم فالعقل حاكم بقبحه و معه ينافي صدوره كريم الخلق و قد عظم الله خلقه (ص) قبل ذلك إذ قال:
﴿وَ إِنَّكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ و أطلق القول، و الخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها.
و عن الصادق (عليه السلام) على ما في المجمع،: أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك و أنكره عليه.
و في المجمع، و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال: مرحبا مرحبا و الله لا يعاتبني الله فيك أبدا، و كان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مما يفعل به.
أقول: الكلام فيه كالكلام فيما تقدمه، و معنى قوله: حتى أنه كان يكف «إلخ» أنه كان يكف عن الحضور عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكثرة صنيعه (ص) به انفعالا منه و خجلا.
[سورة عبس (٨٠): الآیات ١٧ الی ٤٢ ]
﴿قُتِلَ اَلْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ١٧ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ١٨ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ١٩ ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ ٢٠ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ٢١ ثُمَّ إِذَا﴾
﴿شَاءَ أَنْشَرَهُ ٢٢ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ٢٣ فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسَانُ إِلىَ طَعَامِهِ ٢٤ أَنَّا صَبَبْنَا اَلْمَاءَ صَبًّا ٢٥ ثُمَّ شَقَقْنَا اَلْأَرْضَ شَقًّا ٢٦ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ٢٧ وَ عِنَباً وَ قَضْباً ٢٨ وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً ٢٩ وَ حَدَائِقَ غُلْباً ٣٠ وَ فَاكِهَةً وَ أَبًّا ٣١ مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ ٣٢ فَإِذَا جَاءَتِ اَلصَّاخَّةُ ٣٣ يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ٣٤ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ ٣٥ وَ صَاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ ٣٦ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ٣٧ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ٣٨ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ٣٩ وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ٤٠ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ٤١ أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَفَرَةُ اَلْفَجَرَةُ ٤٢﴾
(بيان)
دعاء على الإنسان و تعجيب من مبالغته في الكفر بربوبية ربه و إشارة إلى أمره حدوثا و بقاء فإنه لا يملك لنفسه شيئا من خلق و تدبير بل الله سبحانه هو الذي خلقه من نطفة مهينة فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره فهو سبحانه ربه الخالق له المدبر لأمره مطلقا و هو في مدى وجوده لا يقضي ما أمره به ربه و لا يهتدي بهداه.
و لو نظر الإنسان إلى طعامه فقط و هو مظهر واحد من مظاهر تدبيره و غرفة من بحار رحمته رأى من وسيع التدبير و لطيف الصنع ما يبهر عقله و يدهش لبه و وراء ذلك نعم لا تعد - و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
فستره تدبير ربه و تركه شكر نعمته عجيب و إن الإنسان لظلوم كفار و سيرون تبعة شكرهم و كفرهم من السرور و الاستبشار أو الكآبة و سواد الوجه.
و الآيات كما ترى لا تأبى الاتصال بما قبلها سياقا واحدا و إن قال بعضهم إنها نزلت لسبب آخر كما سيجيء.
قوله تعالى: ﴿قُتِلَ اَلْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ دعاء على الإنسان لما أن في طبعه التوغل في اتباع الهوى و نسيان ربوبية ربه و الاستكبار عن اتباع أوامره.
و قوله ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ تعجيب من مبالغة في الكفر و ستر الحق الصريح و هو يرى أنه مدبر بتدبير الله لا يملك شيئا من تدبير أمره غيره تعالى.
فالمراد بالكفر مطلق ستر الحق و ينطبق على إنكار الربوبية و ترك العبادة و يؤيده ما في ذيل الآية من الإشارة إلى جهات من التدبير الربوبي المتناسبة مع الكفر بمعنى ستر الحق و ترك العبادة، و قد فسر بعضهم الكفر بترك الشكر و كفران النعمة و هو و إن كان معنى صحيحا في نفسه لكن الأنسب بالنظر إلى السياق هو المعنى المتقدم.
قال في الكشاف: ﴿قُتِلَ اَلْإِنْسَانُ﴾ دعاء عليه و هي من أشنع دعواتهم لأن القتل قصارى شدائد الدنيا و فظائعها و ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله و لا ترى أسلوبا أغلظ منه، و لا أخشن مسا، و لا أدل على سخط، و لا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه، و لا أجمع للأئمة على قصر متنه، انتهى.
و قيل جملة ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ استفهامية و المعنى ما هو الذي جعله كافرا، و الوجه المتقدم أبلغ.
قوله تعالى: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ معناه على ما يعطيه المقام من أي شيء خلق الله الإنسان حتى يحق له أن يطغى و يستكبر عن الإيمان و الطاعة، و حذف فاعل قوله:
﴿خَلَقَهُ﴾ و ما بعده من الأفعال للإشعار بظهوره فمن المعلوم بالفطرة و قد اعترف به المشركون أن لا خالق إلا الله تعالى.
و الاستفهام بداعي تأكيد ما في قوله: ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ من العجب و العجب إنما هو في الحوادث التي لا يظهر لها سبب فأفيد أولا: أن من العجب إفراط الإنسان في كفره ثم سئل ثانيا: هل في خلقته إذ خلقه الله ما يوجب له الإفراط في الكفر فأجيب بنفيه و أن لا حجة له يحتج بها و لا عذر يعتذر به فإنه مخلوق من ماء مهين لا يملك شيئا من خلقته و لا من تدبير أمره في حياته و مماته و نشره، و بالجملة الاستفهام توطئة للجواب الذي في قوله: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ تنكير ﴿نُطْفَةٍ﴾ للتحقير أي من نطفة مهينة حقيرة خلقة فلا يحق له و أصله هذا الأصل أن يطغى بكفره و يستكبر عن الطاعة.
و قوله ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ أي أعطاه القدر في ذاته و صفاته و أفعاله فليس له أن يتعدى الطور
الذي قدر له و يتجاوز الحد الذي عين له فقد أحاط به التدبير الربوبي من كل جانب ليس له أن يستقل بنيل ما لم يقدر له.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ ظاهر السياق المقصود به نفي العذر من الإنسان في كفره و استكباره أن المراد بالسبيل و قد أطلق السبيل إلى طاعة الله و امتثال أوامره و إن شئت فقل: السبيل إلى الخير و السعادة.
فتكون الآية في معنى دفع الدخل فإنه إذا قيل: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ أمكن أن يتوهم السامع أن الخلق و التقدير إذا كانا محيطين بالإنسان من كل جهة كانت أفعال الإنسان لذاته و صفاته مقدرة مكتوبة و متعلقة لمشية الربوبية التي لا تتخلف فتكون أفعال الإنسان ضرورية الثبوت واجبة التحقق و الإنسان مجبرا عليها فاقدا للاختيار فلا صنع للإنسان في كفره إذا كفر و لا في فسقه إذا فسق و لم يقض ما أمره الله به و إنما ذلك بتقديره تعالى و إرادته فلا ذم و لا لائمة على الإنسان و لا دعوة دينية تتعلق به لأن ذلك كله فرع للاختيار و لا اختيار.
فدفع الشبهة بقوله: ﴿ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ و محصله أن الخلق و التقدير لا ينافيان كون الإنسان مختارا فيما أمر به من الإيمان و الطاعة له طريق إلى السعادة التي خلق لها فكل ميسر لما خلق له و ذلك أن التقدير واقع على الأفعال الإنسانية من طريق اختياره، و الإرادة الربوبية متعلقة بأن يفعل الإنسان بإرادته و اختياره كذا و كذا فالفعل صادر عن الإنسان باختياره و هو بما أنه اختياري متعلق للتقدير.
فالإنسان مختار في فعله مسئول عنه و إن كان متعلقا للقدر، و قد تقدم البحث عن هذا المعنى كرارا في ذيل الآيات المناسبة له في هذا الكتاب.
و قيل: المراد بتيسير السبيل تسهيل خروج الإنسان من بطن أمه و المعنى ثم سهل للإنسان سبيل الخروج و هو جنين مخلوق من نطفة.
و قيل: المراد الهداية إلى الدين و تبين طريق الخير و الشر كما قال: ﴿وَ هَدَيْنَاهُ اَلنَّجْدَيْنِ ﴾البلد: ١٠ و الوجه المتقدم أوجه.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ الإماتة إيقاع الموت على الإنسان، و المراد بالإقبار دفنه في القبر و إخفاؤه في بطن الأرض و هذا بالبناء على الغالب الذي جرى عليه ديدن الناس و بهذه المناسبة نسب إليه تعالى لأنه تعالى هو الذي هداهم إلى ذلك و ألهمهم إياه
فللفعل نسبة إليه كما له نسبة إلى الناس.
و قيل: المراد بالإقبار جعله ذا قبر و معنى جعله ذا قبر أمره تعالى بدفنه تكرمة له لتتوارى جيفته فلا يتأذى بها الناس و لا يتنفروا.
و الوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات المسرود لتذكير تدبيره تعالى التكويني للإنسان دون التدبير التشريعي الذي عليه بناء هذا الوجه.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ في المجمع،: الإنشار الإحياء للتصرف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطي. انتهى، فالمراد به البعث إذا شاء الله، و فيه إشارة إلى كونه بغتة لا يعلمه غيره تعالى.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ الذي يعطيه السياق أن ﴿كَلاَّ﴾ ردع عن معنى سؤال يستدعيه السياق و يلوح إليه قوله: ﴿لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ كأنه لما أشير إلى أن الإنسان مخلوق مدبر له تعالى من أول وجوده إلى آخره من خلق و تقدير و تيسير للسبيل و إماتة و إقبار و إنشار و كل ذلك نعمة منه تعالى سئل فقيل: فما ذا صنع الإنسان و الحال هذه الحال و هل خضع للربوبية أو هل شكر النعمة فأجيب و قيل: كلا، ثم أوضح فقيل:
لما يقض ما أمره الله به بل كفر و عصى.
فقد ظهر مما تقدم أن ضمير ﴿يَقْضِ﴾ للإنسان و المراد بقضائه إتيانه بما أمر الله به، و قيل: الضمير لله تعالى و المعنى لما يقض الله لهذا الكافر أن يأتي بما أمره به من الإيمان و الطاعة بل إنما أمره بما أمر إتماما للحجة، و هو بعيد.
و ظهر أيضا أن ما في الآيات من الذم و اللائمة إنما هو للإنسان بما في طبعه من الإفراط في الكفر كما في قوله: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾: إبراهيم: ٣٤ فينطبق على من تلبس بالكفر و أفرط فيه بالعناد و منه يظهر عدم استقامة ما نقل عن بعضهم أن الآية على العموم في الكافر و المسلم لم يعبده أحد حق عبادته.
و ذلك أن الضمير للإنسان المذكور في صدر الآيات بما في طبعه من داعية الإفراط في الكفر و ينطبق على من تلبس به بالفعل.
قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسَانُ إِلىَ طَعَامِهِ﴾ متفرع على ما تقدم تفرع التفصيل على الإجمال ففيه توجيه نظر الإنسان إلى طعامه الذي يقتات به و يستمد منه لبقائه و هو واحد مما لا يحصى مما هيأه التدبير الربوبي لرفع حوائجه في الحياة حتى يتأمله فيشاهد سعة
التدبير الربوبي التي تدهش لبه و تحير عقله، و تعلق العناية الإلهية على دقتها و إحاطتها بصلاح حاله و استقامة أمره.
و المراد بالإنسان كما قيل غير الإنسان المتقدم المذكور في قوله: ﴿قُتِلَ اَلْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ فإن المراد به خصوص الإنسان المبالغ في الكفر بخلاف الإنسان المذكور في هذه الآية المأمور بالنظر فإنه عام شامل لكل إنسان، و لذلك أظهر و لم يضمر.
قوله تعالى: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا اَلْمَاءَ صَبًّا ﴾ إلى قوله ﴿وَ لِأَنْعَامِكُمْ﴾ القراءة الدائرة ﴿أَنَّا﴾ بفتح الهمزة و هو بيان تفصيلي لتدبيره تعالى طعام الإنسان نعم هو مرحلة ابتدائية من التفصيل و أما القول المستوفى لبيان خصوصيات النظام الذي هيأ له هذه الأمور و النظام الوسيع الجاري في كل من هذه الأمور و الروابط الكونية التي بين كل واحد منها و بين الإنسان فمما لا يسعه نطاق البيان عادة.
و بالجملة قوله: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا اَلْمَاءَ صَبًّا﴾ الصب إراقة الماء من العلو، و المراد بصب الماء إنزال الأمطار على الأرض لإنبات النبات، و لا يبعد أن يشمل إجراء العيون و الأنهار فإن ما في بطن الأرض من ذخائر الماء إنما يتكون من الأمطار.
و قوله: ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا اَلْأَرْضَ شَقًّا﴾ ظاهره شق الأرض بالنبات الخارج منها و لذا عطف على صب الماء بثم و عطف عليه إنبات الحب بالفاء.
و قوله: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾ ضمير ﴿فِيهَا﴾ للأرض، و المراد بالحب جنس الحب الذي يقتات به الإنسان كالحنطة و الشعير و نحوهما و كذا في العنب و القضب و غيرهما.
و قوله: ﴿وَ عِنَباً وَ قَضْباً﴾ العنب معروف، و يطلق على شجر الكرم و لعله المراد في الآية و نظيره الزيتون.
و القضب هو الغض الرطب من البقول الذي يأكله الإنسان يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى، و قيل: هو ما يقطع من النبات فتعلف به الدواب.
و قوله: ﴿وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً﴾ معروفان.
و قوله: ﴿وَ حَدَائِقَ غُلْباً﴾ الحدائق جمع حديقة و هي على ما فسر البستان المحوط و الغلب جمع غلباء يقال: شجرة غلباء أي عظيمة غليظة فالحدائق الغلب البساتين المشتملة على أشجار عظام غلاظ.
و قوله: ﴿وَ فَاكِهَةً وَ أَبًّا﴾ قيل: الفاكهة مطلق الثمار، و قيل: ما عدا العنب و الرمان. قيل: إن ذكر ما يدخل في الفاكهة أولا كالزيتون و النخل للاعتناء بشأنه و الأب الكلاء و المرعى.
و قوله: ﴿مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ﴾ مفعول له أي أنبتنا ما أنبتنا مما تطعمونه ليكون تمتيعا لكم و للأنعام التي خصصتموها بأنفسكم.
و الالتفات عن الغيبة إلى الخطاب في الآية لتأكيد الامتنان بالتدبير أو بإنعام النعمة.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ اَلصَّاخَّةُ﴾ إشارة إلى ما ينتهي إليه ما ذكر من التدبير العام الربوبي للإنسان بما أن فيه أمرا ربوبيا إلهيا بالعبودية يقضيه الإنسان أولا يقضيه و هو يوم القيامة الذي يوفى فيه الإنسان جزاء أعماله.
و الصاخة: الصيحة الشديدة التي تصم الأسماع من شدتها، و المراد بها نفخة الصور.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صَاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ﴾ إشارة إلى شدة اليوم فالذين عدوا من أقرباء الإنسان و أخصائه هم الذين كان يأوي إليهم و يأنس بهم و يتخذهم أعضادا و أنصارا يلوذ بهم في الدنيا لكنه يفر منهم يوم القيامة لما أن الشدة أحاطت به بحيث لا تدعه يشتغل بغيره و يعتني بما سواه كائنا من كان فالبلبلة إذا عظمت و اشتدت و أطلت على الإنسان جذبته إلى نفسها و صرفته عن كل شيء.
و الدليل على هذا المعنى قوله بعد: ﴿لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ أي يكفيه من أن يشتغل بغيره.
و قيل: في سبب فرار الإنسان من أقربائه و أخصائه يومئذ وجوه أخر لا دليل عليها أغمضنا عن إيرادها.
قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ بيان لانقسام الناس يومئذ إلى قسمين: أهل السعادة و أهل الشقاء، و إشارة إلى أنهم يعرفون بسيماهم في وجوههم و إسفار الوجه إشراقه و إضاءته فرحا و سرورا و استبشاره تهلله بمشاهدة ما فيه البشرى.
قوله تعالى: ﴿وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ هي الغبار و الكدورة و هي سيماء الهم و الغم.
قوله تعالى: ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ أي يعلوها و يغشاها سواد و ظلمة، و قد بين حال الطائفتين في الآيات الأربع ببيان حال وجوههما لأن الوجه مرآة القلب في سروره و مساءته.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَفَرَةُ اَلْفَجَرَةُ﴾ أي الجامعون بين الكفر اعتقادا و الفجور
و هو المعصية الشنيعة عملا أو الكافرون بنعمة الله الفاجرون، و هذا تعريف للطائفة الثانية و هم أهل الشقاء و لم يأت بمثله في الطائفة الأولى و هم أهل السعادة لأن الكلام مسوق للإنذار و الاعتناء بشأن أهل الشقاء.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: ﴿قُتِلَ اَلْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم إذا هوى فدعا عليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخذه الأسد بطريق الشام.
و في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل: ﴿قُتِلَ اَلْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ أي لعن الإنسان.
و في تفسير القمي، : ﴿ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ قال: يسر له طريق الخير.
أقول: المراد به جعله مختارا في فعله يسهل به سلوكه سبيل السعادة و وصوله إلى الكمال الذي خلق له. فالخبر منطبق على ما قدمناه من الوجه في تفسير الآية.
و فيه، :في قوله: ﴿وَ قَضْباً﴾ قال: القضب القت.
و فيه، :في قوله: ﴿وَ فَاكِهَةً وَ أَبًّا﴾ قال: الأب الحشيش للبهائم.
و في الدر المنثور، أخرج أبو عبيد في فضائله عن إبراهيم التيمي قال : سئل أبو بكر الصديق عن قوله ﴿وَ أَبًّا﴾ فقال: أي سماء تظلني و أي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن سعد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان و الخطيب و الحاكم و صححه عن أنس أن عمر قرأ على المنبر ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً ﴾ إلى قوله ﴿وَ أَبًّا﴾ قال: كل هذا قد عرفناه فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا تدري ما الأب؟ اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به و ما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه.
و فيه، أخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن يزيد أن رجلا سأل عمر عن قوله ﴿وَ أَبًّا﴾ فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة.
أقول: هو مبني على منعهم عن البحث عن معارف الكتاب حتى تفسير ألفاظه.
و في إرشاد المفيد، و روي: أن أبا بكر سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَ فَاكِهَةً وَ أَبًّا﴾ فلم يعرف معنى الأب من القرآن فقال: أي سماء تظلني أم أي أرض تقلني - أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ أما الفاكهة فنعرفها و أما الأب فالله أعلم.
فبلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) مقاله في ذلك فقال: سبحان الله أ ما علم أن الأب هو الكلاء و المرعى؟ و أن قوله تعالى: ﴿وَ فَاكِهَةً وَ أَبًّا﴾ اعتداد من الله بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به و خلقه لهم و لأنعامهم مما تحيى به أنفسهم و تقوم به أجسادهم.
و في المجمع، و روي عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قالت : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : يبعث الناس حفاة عراة غرلا[4] يلجمهم العرق و يبلغ شحمة الإذن قالت:
قلت: يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض إذا جاء؟ قال: شغل الناس عن ذلك و تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾. و في تفسير القمي، :قوله: ﴿لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ قال: شغل يشغله عن غيره.
(٨١) سورة التكوير مكية و هي تسع و عشرون آية (٢٩)
[سورة التكوير (٨١): الآیات ١ الی ١٤]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِذَا اَلشَّمْسُ كُوِّرَتْ ١ وَ إِذَا اَلنُّجُومُ اِنْكَدَرَتْ ٢ وَ إِذَا اَلْجِبَالُ سُيِّرَتْ ٣ وَ إِذَا اَلْعِشَارُ عُطِّلَتْ ٤ وَ إِذَا اَلْوُحُوشُ حُشِرَتْ ٥ وَ إِذَا اَلْبِحَارُ سُجِّرَتْ ٦ وَ إِذَا اَلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ ٧ وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ٨ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ٩ وَ إِذَا اَلصُّحُفُ نُشِرَتْ ١٠ وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ كُشِطَتْ ١١ وَ إِذَا اَلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ١٢ وَ إِذَا اَلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ١٣ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ١٤﴾
(بيان)
تذكر السورة يوم القيامة بذكر بعض أشراطها و ما يقع فيها و تصفه بأنه يوم ينكشف فيه للإنسان ما عمله من عمل ثم تصف القرآن بأنه مما ألقاه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رسول سماوي و هو ملك الوحي و ليس بإلقاء شيطاني و لا أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مجنون يمسه الشيطان.
و يشبه أن تكون السورة من السور العتائق النازلة في أوائل البعثة كما يشهد به ما فيها من تنزيهه (ص) مما رموه به من الجنون و قد اتهموه به في أوائل الدعوة و قد اشتملت على تنزيهه منه سورة «ن» و هي من العتائق.
و السورة مكية بلا كلام.
قوله تعالى: ﴿إِذَا اَلشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ التكوير اللف على طريق الإدارة كلف العمامة على الرأس، و لعل المراد بتكوير الشمس انظلام جرمها على نحو الإحاطة استعارة.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلنُّجُومُ اِنْكَدَرَتْ﴾ انكدار الطائر من الهواء انقضاضه نحو الأرض، و عليه فالمراد سقوط النجوم كما يفيده قوله: ﴿وَ إِذَا اَلْكَوَاكِبُ اِنْتَثَرَتْ ﴾الانفطار: ٢ و يمكن أن يكون من الانكدار بمعنى التغير و قبول الكدورة فيكون المراد به ذهاب ضوئها.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ بما يصيبها من زلزلة الساعة من التسيير فتندك و تكون هباء منبثا و تصير سرابا على ما ذكره سبحانه في مواضع من كلامه.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ قيل: العشار جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء و هي الناقة الحامل التي أتت عليها عشرة أشهر فتسمى عشراء حتى تضع حملها و ربما سميت عشراء بعد الوضع أيضا و هي من أنفس المال عند العرب.
و تعطيل العشار تركها مهملة لا راعي لها و لا حافظ يحفظها و كان في الجملة إشارة على نحو الكناية إلى أن نفائس الأموال التي يتنافس فيها الإنسان تبقى اليوم و لا صاحب لها يتملكها و يتصرف فيها لأنهم مشغولون بأنفسهم عن كل شيء كما قال: ﴿لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾: عبس: ٣٧.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ الوحوش جمع وحش و هو من الحيوان ما لا يتأنس بالإنسان كالسباع و غيرها.
و ظاهر الآية من حيث وقوعها في سياق الآيات الواصفة ليوم القيامة أن الوحوش محشورة كالإنسان، و يؤيده قوله تعالى: ﴿وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلىَ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾: الأنعام: ٣٨.
و أما تفصيل حالها بعد الحشر و ما يئول إليه أمرها فلم يرد في كلامه تعالى و لا فيما يعتمد عليه من الأخبار ما يكشف عن ذلك نعم ربما استفيد من قوله في آية الأنعام:
﴿أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ و قوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ بعض ما يتضح به الحال في الجملة لا يخفى على الناقد المتدبر، و ربما قيل: إن حشر الوحوش من أشراط الساعة لا مما يقع يوم القيامة و المراد به خروجها من غاباتها و أكنانها.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ فسر التسجير بإضرام النار و فسر بالملإ و المعنى على الأول و إذا البحار أضرمت نارا، و على الثاني و إذا البحار ملئت.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ أما نفوس السعداء فبنساء الجنة قال تعالى:
﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾: النساء: ٥٧، و قال: ﴿وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾: الدخان: ٥٤ و أما نفوس الأشقياء فبقرناء الشياطين قال تعالى: ﴿اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾: الصافات: ٢٢ و قال: ﴿وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾: الزخرف: ٣٦.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ الموءودة البنت التي تدفن حية و كانت العرب تئد البنات خوفا من لحوق العار بهم من أجلهن كما يشير إليه قوله تعالى:
﴿وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثىَ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارىَ مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلىَ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرَابِ﴾: النحل: ٥٩.
و المسئول بالحقيقة عن قتل الموءودة أبوها الوائد لها لينتصف منه و ينتقم لكن عد المسئول في الآية هي الموءودة نفسها فسئلت عن سبب قتلها لنوع من التعريض و التوبيخ لقاتلها و توطئة لأن تسأل الله الانتصاف لها من قاتلها حتى يسأل عن قتلها فيؤخذ لها منه، فالكلام نظير قوله تعالى في عيسى (عليه السلام): ﴿وَ إِذْ قَالَ اَللَّهُ يَا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ﴾: المائدة: ١١٦.
و قيل: إسناد المسئولية إلى الموءودة من المجاز العقلي و المراد كونها مسئولا عنها نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً﴾: إسراء: ٣٤.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ أي للحساب، و الصحف كتب الأعمال.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ في المجمع، الكشط القلع عن شدة التزاق فينطبق على طيها كما في قوله: ﴿وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾: الزمر: ٦٧، و قوله:
﴿وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً﴾: الفرقان: ٢٥ و غير ذلك من الآيات المفصحة عن هذا المعنى.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ التسعير تهييج النار حتى تتأجج.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ الإزلاف التقريب و المراد تقريبها من أهلها للدخول.
قوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ جواب إذا، و المراد بالنفس الجنس و المراد بما أحضرت عملها الذي عملته يقال: أحضرت الشيء أي وجدته حاضرا كما يقال:
أحمدته أي وجدته محمودا.
فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾: آل عمران: ٣٠.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، : ﴿إِذَا اَلشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ قال: تصير سوداء مظلمة ﴿وَ إِذَا اَلنُّجُومُ اِنْكَدَرَتْ﴾ قال: يذهب ضوؤها ﴿وَ إِذَا اَلْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ قال: تسير كما قال ﴿تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ﴾. قوله: ﴿وَ إِذَا اَلْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ قال الإبل تتعطل إذا مات الخلق فلا يكون من يحلبها، قوله: ﴿وَ إِذَا اَلْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: تتحول البحار التي حول الدنيا كلها نيرانا ﴿وَ إِذَا اَلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: من الحور العين.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿وَ إِذَا اَلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: أما أهل الجنة فزوجوا الخيرات الحسان، و أما أهل النار فمع كل إنسان منهم شيطان يعني قرنت نفوس الكافرين و المنافقين بالشياطين فهم قرناؤهم.
أقول: الظاهر أن قوله: يعني «إلخ» من كلام الراوي.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و الديلمي عن أبي مريم أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال في قوله:
﴿إِذَا اَلشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ قال: كورت في جهنم ﴿وَ إِذَا اَلنُّجُومُ اِنْكَدَرَتْ﴾ قال: انكدرت في جهنم، و كل من عبد من دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيسى بن مريم و أمه و لو
رضيا أن يعبدا لدخلاها.
و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ قال: صحف الأعمال قوله:
﴿وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ قال: أبطلت.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول : ﴿وَ إِذَا اَلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان الجنة و النار.
[سورة التكوير (٨١): الآیات ١٥ الی ٢٩ ]
﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ١٥ اَلْجَوَارِ اَلْكُنَّسِ ١٦ وَ اَللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ١٧ وَ اَلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ١٨ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ١٩ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ ٢٠ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ٢١ وَ مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ٢٢ وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ ٢٣ وَ مَا هُوَ عَلَى اَلْغَيْبِ بِضَنِينٍ ٢٤ وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ٢٥ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ٢٦ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ٢٧ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ٢٨ وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٢٩﴾
(بيان)
تنزيه للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الجنون و قد اتهموه به و لما يأتي به من القرآن من مداخلة الشيطان، و أنه كلامه تعالى يلقيه إليه ملك الوحي الذي لا يخون في رسالته، و أنه ذكر للعالمين هاد بإذن الله لمن اهتدى منهم.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ اَلْجَوَارِ اَلْكُنَّسِ﴾ الخنس جمع خانس كطلب جمع طالب، و الخنوس الانقباض و التأخر و الاستتار، و الجواري جمع جارية، و الجري السير السريع مستعار من جرى الماء، و الكنس جمع كانس و الكنوس دخول الوحش كالظبي
و الطير كناسة أي بيته الذي اتخذه لنفسه و استقراره فيه.
و تعقب قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ إلخ بقوله: ﴿وَ اَللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَ اَلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ يؤيد كون المراد بالخنس الجوار الكنس الكواكب كلها أو بعضها لكن صفات حركة بعضها أشد مناسبة و أوضح انطباقا على ما ذكر من الصفات المقسم بها: الخنوس و الجري و الكنوس و هي السيارات الخمس المتحيرة: زحل و المشتري و المريخ و الزهرة و عطارد فإن لها في حركاتها على ما تشاهد استقامة و رجعة و إقامة فهي تسير و تجري حركة متشابهة زمانا و هي الاستقامة و تنقبض و تتأخر و تخنس زمانا و هي الرجعة و تقف عن الحركة استقامة و رجعة زمانا كأنها الوحش تكنس في كناسها و هي الإقامة.
و قيل: المراد بها مطلق الكواكب و خنوسها استتارها في النهار تحت ضوء الشمس و جريها سيرها المشهود في الليل و كنوسها غروبها في مغربها و تواريها.
و قيل: المراد بها بقر الوحش أو الظبي و لا يبعد أن يكون ذكر بقر الوحش أو الظبي من باب المثال و المراد مطلق الوحوش.
و كيف كان فأقرب الأقوال أولها و الثاني بعيد و الثالث أبعد.
قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ عطف على الخنس، و ﴿إِذَا عَسْعَسَ﴾ قيد لليل، و العسعسة تطلق على إقبال الليل و على إدباره قال الراغب: ﴿وَ اَللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ أي أقبل و أدبر و ذلك في مبدإ الليل و منتهاه فالعسعسة و العساس رقة الظلام و ذلك في طرفي الليل. انتهى و الأنسب لاتصال الجملة بقوله: ﴿وَ اَلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ أن يراد بها إدبار الليل.
و قيل: المراد بها إقبال الليل: و هو بعيد لما عرفت.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ عطف على الخنس، و ﴿إِذَا تَنَفَّسَ﴾ قيد للصبح، و عد الصبح متنفسا بسبب انبساط ضوئه على الأفق و دفعه الظلمة التي غشيته نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح و قد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق بمن أحاطت به متاعب أعمال شاقة ثم وجد خلاء من الزمان فاستراح فيه و تنفس فعد إضاءته للأفق تنفسا منه كذا يستفاد من بعضهم.
و ذكر الزمخشري فيه وجها آخر فقال في الكشاف،: فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح و نسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز.
انتهى و الوجه المتقدم أقرب إلى الذهن.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ جواب القسم، و ضمير ﴿إِنَّهُ﴾ للقرآن أو لما تقدم من آيات السورة بما أنها قرآن بدليل قوله:
﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ﴾ إلخ و المراد بالرسول جبريل كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللَّهِ﴾: البقرة: ٩٧.
و في إضافة القول إليه بما أنه رسول دلالة على أن القول لله سبحانه، و نسبته إلى جبريل نسبة الرسالة إلى الرسول و قد وصفه الله بصفات ست مدحه بها.
فقوله: ﴿رَسُولٍ﴾ يدل على رسالته و إلقائه وحي القرآن إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قوله:
﴿كَرِيمٍ﴾ أي ذي كرامة و عزة عند الله بإعزازه، و قوله: ﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ أي ذي قدرة و شدة بالغة، و قوله: ﴿عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ أي صاحب مكانة عند الله و المكانة القرب و المنزلة، و قوله: ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ﴾ أي مطاع عند الله فهناك ملائكة يأمرهم فيطيعونه، و من هنا يظهر أن له أعوانا من الملائكة يأمرهم فيأتمرون بأمره، و قوله: ﴿أَمِينٍ﴾ أي لا يخون فيما أمر به يبلغ ما حمله من الوحي و الرسالة من غير أي تصرف فيه.
و قيل: المراد بالرسول الجاري عليه الصفات هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و هو كما ترى و لا تلائمه الآيات التالية.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ عطف على قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ﴾ إلخ ورد لرميهم له (ص) بالجنون.
و في التعبير عنه (ص) بقوله: ﴿صَاحِبُكُمْ﴾ تكذيب لهم في رميهم له بالجنون و تنزيه لساحته كما قيل ففيه إيماء إلى أنه صاحبكم لبث بينكم معاشرا لكم طول عمره و أنتم أعرف به قد وجدتموه على كمال من العقل و رزانة من الرأي و صدق من القول و من هذه صفته لا يرمى بالجنون.
و توصيف جبريل بما مر من صفات المدح دون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا دلالة فيه على أفضليته من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لأن الكلام مسوق لبيان أن القرآن كلام الله سبحانه منزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من عنده سبحانه من طريق الوحي لا من أوهام الجنون بإلقاء من شيطان و الذي يفيد في هذا الغرض بيان سلامة طريق الإنزال و تجليل المنزل اسم فاعل بذكر أوصافه الكريمة و المبالغة في تنزيهه عن الخطإ و الخيانة، و أما المنزل عليه فلا يتعلق به غرض إلا بمقدار الإشارة إلى دفع ما يرتاب فيه من صفته و قد أفيد بنفي الجنون الذي رموه به
و التعبير عنه بقوله: ﴿صَاحِبُكُمْ﴾ كما تقدم توضيحه، كذا قيل.
و في مطاوي كلامه تعالى من نعوت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الكريمة ما لا يرتاب معه في أفضليته (ص) على جميع الملائكة، و قد أسجد الله الملائكة كلهم أجمعين للإنسان الذي هو خليفته في الأرض.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ﴾ ضمير الفاعل في ﴿رَآهُ﴾ للصاحب و ضمير المفعول للرسول الكريم و هو جبريل.
و الأفق المبين الناحية الظاهرة، و الظاهر أنه الذي أشار إليه بقوله: ﴿وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلىَ﴾: النجم: ٧.
و المعنى و أقسم لقد راى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جبريل حال كون جبريل كائنا في الأفق المبين و هو الأفق الأعلى من سائر الآفاق بما يناسب عالم الملائكة.
و قيل: المعنى لقد راى (ص) جبريل على صورته الأصلية حيث تطلع الشمس و هو الأفق الأعلى من ناحية المشرق.
و فيه أن لا دليل من اللفظ يدل عليه و خاصة في تعلق الرؤية بصورته الأصلية و رؤيته في أي مثال تمثل به رؤيته، و كأنه مأخوذ مما ورد في بعض الروايات أنه رآه في أول البعثة و هو بين السماء و الأرض جالس على كرسي، و هو محمول على التمثل.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا هُوَ عَلَى اَلْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و المراد بالغيب الوحي النازل عليه، و الضنين صفة مشبهة من الضن بمعنى البخل يعني أنه (ص) لا يبخل بشيء مما يوحى إليه فلا يكتمه و لا يحبسه و لا يغيره بتبديل بعضه أو كله شيئا آخر بل يعلم الناس كما علمه الله و يبلغهم ما أمر بتبليغه.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ نفي لاستناد القرآن إلى إلقاء شيطان بما هو أعم من طريق الجنون فإن الشيطان بمعنى الشرير و الشيطان الرجيم كما أطلق في كلامه تعالى على إبليس و ذريته كذلك أطلق على أشرار سائر الجن قال تعالى: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾: _ ص: ٧٧، و قال: ﴿وَ حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾: الحجر: ١٧.
فالمعنى أن القرآن ليس بتسويل من إبليس و جنوده و لا بإلقاء من أشرار الجن كما يلقونه على المجانين.
قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ أوضح سبحانه في الآيات السبع المتقدمة ما هو الحق في
أمر القرآن دافعا عنه ارتيابهم فيه بما يرمون به الجائي به من الجنون و غيره على إيجاز متون الآيات فبين أولا أنه كلام الله و اتكاء هذه الحقيقة على آيات التحدي، و ثانيا أن نزوله برسالة ملك سماوي جليل القدر عظيم المنزلة و هو أمين الوحي جبريل لا حاجز بينه و بين الله و لا بينه و بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و لا صارف من نفسه أو غيره يصرفه عن أخذه و لا حفظه و لا تبليغه، و ثالثا أن الذي أنزل عليه و هو يتلوه لكم و هو صاحبكم الذي لا يخفى عليكم حاله ليس بمجنون كما يبهتونه به و قد راى الملك الحامل للوحي و أخذ عنه و ليس بكاتم لما يوحى إليه و لا بمغير، و رابعا أنه ليس بتسويل من إبليس و جنوده و لا بإلقاء من بعض أشرار الجن.
و نتيجة هذا البيان أن القرآن كتاب هدى يهتدي به من أراد الاستقامة على الحق و هو قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ إلخ.
فقوله: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ توطئة و تمهيد لذكر نتيجة البيان السابق، و هو استضلال لهم فيما يرونه في أمر القرآن الكريم أنه من طواري الجنون أو من تسويلات الشيطان الباطلة.
فالاستفهام في الآية توبيخي و المعنى إذا كان الأمر على هذا فأين تذهبون و تتركون الحق وراءكم؟ قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ أي تذكرة لجماعات الناس كائنين من كانوا يمكنهم بها أن يتبصروا للحق، و قد تقدم بعض الكلام في نظيرة الآية.
قوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ بدل من قوله: ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ مسوق لبيان أن فعلية الانتفاع بهذا الذكر مشروط بأن يشاءوا الاستقامة على الحق و هو التلبس بالثبات على العبودية و الطاعة.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ﴾ تقدم الكلام في معناه في نظائر الآية.
و الآية بحسب ما يفيده السياق في معنى دفع الدخل فإن من الممكن أن يتوهموا من قوله: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ أن لهم الاستقلال في مشية الاستقامة إن شاءوا استقاموا و إن لم يشاءوا لم يستقيموا، فلله إليهم حاجة في الاستقامة التي يريدها منهم.
فدفع ذلك بأن مشيتهم متوقفة على مشية الله سبحانه فلا يشاءون الاستقامة إلا أن يشاء الله أن يشاءوها، فأفعال الإنسان الإرادية مرادة لله تعالى من طريق إرادته و هو أن
يريد الله أن يفعل الإنسان فعلا كذا و كذا عن إرادته.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه من طرق عن علي في قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ قال: هي الكواكب تكنس بالليل و تخنس بالنهار فلا ترى.
و في تفسير القمي، :في قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ قال: أي و أقسم بالخنس و هو اسم النجوم. ﴿اَلْجَوَارِ اَلْكُنَّسِ﴾ قال: النجوم تكنس بالنهار فلا تبين.
و في المجمع،: ﴿بِالْخُنَّسِ﴾ و هي النجوم تخنس بالنهار و تبدو بالليل و ﴿اَلْجَوَارِ﴾ صفة لها لأنها تجري في أفلاكها ﴿اَلْكُنَّسِ﴾ من صفتها أيضا لأنها تكنس أي تتوارى في بروجها كما تتوارى الظباء في كناسها. و هي خمسة أنجم: زحل و المشتري و المريخ و الزهرة و عطارد عن علي ﴿وَ اَللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ أي إذا أدبر بظلامه عن علي.
و في تفسير القمي،" : ﴿وَ اَللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ قال: إذا أظلم و ﴿اَلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ قال:
إذا ارتفع.
و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لجبريل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك: ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فما كانت قوتك؟ و ما كانت أمانتك؟ قال: أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط و هي أربع مدائن، و في كل مدينة أربع مائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج و نباح الكلاب ثم هويت بهم فقتلتهم، و أما أمانتي فلم أومر بشيء فعدوته إلى غيره.
أقول: و الرواية لا تخلو من شيء و قد ضعفوا ابن عساكر و خاصة فيما تفرد به.
و في الخصال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من قال في كل يوم من شعبان سبعين مرة:
أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم و أتوب إليه، كتب في الأفق المبين. قال: قلت: و ما الأفق المبين؟ قال: قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد و فيه من القدحان عدد النجوم.
و في تفسير القمي، في حديث أسنده إلى أبي عبد الله (عليه السلام): قوله: ﴿وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ
رَجِيمٍ﴾ قال: يعني الكهنة الذين كانوا في قريش فنسب كلامهم إلى كلام الشياطين الذين كانوا معهم - يتكلمون على ألسنتهم فقال: ﴿وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ مثل أولئك.
(٨٢) سورة الانفطار مكية و هي تسع عشرة آية (١٩)
[سورة الانفطار (٨٢): الآیات ١ الی ١٩]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِذَا اَلسَّمَاءُ اِنْفَطَرَتْ ١ وَ إِذَا اَلْكَوَاكِبُ اِنْتَثَرَتْ ٢ وَ إِذَا اَلْبِحَارُ فُجِّرَتْ ٣ وَ إِذَا اَلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ٤ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ ٥ يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ ٦ اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ٧ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ٨ كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ٩ وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ١٠ كِرَاماً كَاتِبِينَ ١١ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ١٢ إِنَّ اَلْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ١٣ وَ إِنَّ اَلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ١٤ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ اَلدِّينِ ١٥ وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ١٦ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلدِّينِ ١٧ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلدِّينِ ١٨ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ١٩﴾
(بيان)
تحد السورة يوم القيامة ببعض أشراطه الملازمة له المتصلة به و تصفه بما يقع فيه و هو ذكر الإنسان ما قدم و ما أخر من أعماله الحسنة و السيئة على أنها محفوظة عليه بواسطة حفظة الملائكة الموكلين عليه و جزاؤه بعمله إن كان برا فبنعيم و إن كان فاجرا مكذبا بيوم الدين فبجحيم يصلاها مخلدا فيها.
ثم يستأنف وصف اليوم بأنه يوم لا يملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله، و هي من غرر الآيات، و السورة مكية بلا كلام.
قوله تعالى: ﴿إِذَا اَلسَّمَاءُ اِنْفَطَرَتْ﴾ الفطر الشق و الانفطار الانشقاق و الآية كقوله:
﴿وَ اِنْشَقَّتِ اَلسَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾: الحاقة: ١٦.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْكَوَاكِبُ اِنْتَثَرَتْ﴾ أي تفرقت بتركها مواضعها التي ركزت فيها شبهت الكواكب بلآلي منظومة قطع سلكها فانتثرت و تفرقت.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾ قال في المجمع،: التفجير خرق بعض مواضع الماء إلى بعض التكثير، و منه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج إلى كثير من الذنوب، و منه الفجر لانفجاره بالضياء، انتهى. و إليه يرجع تفسيرهم لتفجير البحار بفتح بعضها في بعض حتى يزول الحائل و يختلط العذب منها و المالح و يعود بحرا واحدا، و هذا المعنى يناسب تفسير قوله: ﴿وَ إِذَا اَلْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾: التكوير: ٦ بامتلاء البحار.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ قال في المجمع، بعثرت الحوض و بحثرته إذا جعلت أسفله أعلاه، و البعثرة و البحثرة إثارة الشيء بقلب باطنه إلى ظاهره، انتهى. فالمعنى و إذا قلب تراب القبور و أثير باطنها إلى ظاهرها لإخراج الموتى و بعثهم للجزاء.
قوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ﴾ المراد بالعلم علمها التفصيلي بأعمالها التي عملتها في الدنيا، و هذا غير ما يحصل لها من العلم بنشر كتاب أعمالها لظاهر قوله تعالى: ﴿بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقىَ مَعَاذِيرَهُ﴾: القيامة: ١٥ و قوله: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ اَلْإِنْسَانُ مَا سَعىَ﴾: النازعات: ٣٥، و قوله: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾: آل عمران: ٣٠.
و المراد بالنفس جنسها فتفيد الشمول، و المراد بما قدمت و ما أخرت هو ما قدمته مما عملته في حياتها، و بما أخرت ما سنته من سنة حسنة أو سيئة فعملت بها بعد موتها فتكتب صحيفة عملها قال تعالى: ﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ﴾: يس: ١٢.
و قيل: المراد بما قدمت و أخرت ما عملته في أول العمر و ما عملته في آخره فيكون كناية عن الاستقصاء.
و قيل في معنى التقديم و التأخير وجوه أخر لا يعبأ بها مذكورة في مطولات التفاسير من أراد الوقوف عليها فليراجعها.
و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ﴾: الأنفال: ٣٧، كلام لا يخلو من نفع هاهنا.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ ﴾ إلى قوله ﴿رَكَّبَكَ﴾ عتاب و توبيخ للإنسان، و المراد بهذا الإنسان المكذب ليوم الدين على ما يفيده السياق المشتمل على قوله: ﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ و في تكذيب يوم الدين كفر و إنكار لتشريع الدين و في إنكاره إنكار لربوبية الرب تعالى، و إنما وجه الخطاب إليه بما أنه إنسان ليكون حجة أو كالحجة لثبوت الخصال التي يذكرها من نعمه عليه المختصة من حيث المجموع بالإنسان.
و قد علق الغرور بصفتي ربوبيته و كرمه تعالى ليكون ذلك حجة في توجه العتاب و التوبيخ فإن تمرد المربوب و توغله في معصية ربه الذي يدبر أمره و يغشيه نعمه ظاهرة و باطنة كفران لا ترتاب الفطرة السليمة في قبحه و لا في استحقاق العقاب عليه و خاصة إذا كان الرب المنعم كريما لا يريد في نعمه و عطاياه نفعا ينتفع به و لا عضوا يقابله به المنعم عليه، و يسامح في إحسانه و يصفح عما يأتي به المربوب من الخطيئة و الإثم بجهالة فإن الكفران حينئذ أقبح و أقبح و توجه الذم و اللائمة أشد و أوضح.
فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ﴾ استفهام توبيخي يوبخ الإنسان بكفران خاص لا عذر له يعتذر به عنه و هو كفران نعمة رب كريم.
و ليس للإنسان أن يجيب فيقول: أي رب غرني كرمك فقد قضى الله سبحانه فيما قضى و بلغه بلسان أنبيائه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾إبراهيم: ٧، و قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغىَ وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوىَ﴾: النازعات:
٣٩، إلى غير ذلك من الآيات الناصة في أن لا مخلص للمعاندين من العذاب و أن الكرم لا يشملهم يوم القيامة قال: ﴿وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾: الأعراف: ١٥٦ و لو كفى الإنسان العاصي قوله: «غرني كرمك» لصرف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي، و لا عذر بعد البيان.
و من هنا يظهر أن لا محل لقول بعضهم: إن توصيف الرب بالكريم من قبيل تلقين الحجة و هو من الكرم أيضا.
كيف؟ و السياق سياق الوعيد و الكلام ينتهي إلى مثل قوله: ﴿وَ إِنَّ اَلْفُجَّارَ لَفِي
جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ اَلدِّينِ وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾.
و قوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ بيان لربوبيته المتلبسة بالكرم فإن من تدبيره خلق الإنسان بجمع أجزاء وجوده ثم تسويته بوضع كل عضو فيما يناسبه من الموضع على ما يقتضيه الحكمة ثم عدله بعدل بعض أعضائه و قواه ببعض بجعل التوازن و التعادل بينها فما يضعف عنه عضو يقوى عليه عضو فيتم به فعله كما أن الأكل مثلا بالالتقام و هو للفم، و يضعف الفم عن قطع اللقمة و نهشها و طحنها فيتم ذلك بمختلف الأسنان، و يحتاج ذلك إلى نقل اللقمة من جانب من الفم إلى آخر و قلبها من حال إلى حال فجعل ذلك للسان ثم الفم يحتاج في فعل الأكل إلى وضع الغذاء فيه فتوصل إلى ذلك باليد و تمم عملها بالكف و عملها بالأصابع على اختلاف منافعها و عملها بالأنامل، و تحتاج اليد في الأخذ و الوضع إلى الانتقال المكاني نحو الغذاء و عدل ذلك بالرجل.
و على هذا القياس في أعمال سائر الجوارح و القوى و هي ألوف و ألوف لا يحصيها العد، و الكل من تدبيره تعالى و هو المفيض لها من غير أن يريد بذلك انتفاعا لنفسه و من غير أن يمنعه من إفاضتها ما يقابله به الإنسان من نسيان الشكر و كفران النعمة فهو تعالى ربه الكريم.
و قوله: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ بيان لقوله: ﴿فَعَدَلَكَ﴾ و لذا لم يعطف على ما تقدمه و الصورة ما ينتقش به الأعيان و يتميز به الشيء من غيره و «ما» زائدة للتأكيد.
و المعنى: في أي صورة شاء أن يركبك و لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة ركبك من ذكر و أنثى و أبيض و أسود و طويل و قصير و وسيم و دميم و قوي و ضعيف إلى غير ذلك و كذا الأعضاء المشتركة بين أفراد الإنسان المميزة لها من غيرها كاليدين و الرجلين و العينين و الرأس و البدن و استواء القامة و نحوها فكل ذلك من عدل بعض الأجزاء ببعض في التركيب قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾: التين: ٤ و الجميع ينتهي إلى تدبير الرب الكريم لا صنع للإنسان في شيء من ذلك.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ ﴿كَلاَّ﴾ ردع عن اغترار الإنسان بكرم الله و جعل ذلك ذريعة إلى الكفر و المعصية أي لا تغتروا فلا ينفعكم الاغترار.
و قوله: ﴿بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ أي بالجزاء. إضراب عما يفهم من قوله: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ﴾ من غرور الإنسان بربه الكريم على اعتراف منه و لو بالقوة بالجزاء لقضاء
الفطرة السليمة به.
فإذ عاتب الإنسان و وبخه على غروره بربه الكريم و اجترائه على الكفران و المعصية من غير أن يخاف الجزاء أضرب عنه مخاطبا للإنسان و كل من يشاركه في كفره و معصيته فقال: بل أنت و من حاله حالك تكذبون بيوم الدين و الجزاء فتجحدونه ملحين عليه.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ إشارة إلى أن أعمال الإنسان حاضرة محفوظة يوم القيامة من طريق آخر غير حضورها للإنسان العامل لها من طريق الذكر و ذلك حفظها بكتابة كتاب الأعمال من الملائكة الموكلين بالإنسان فيحاسب عليها كما قال تعالى: ﴿وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفىَ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾: إسراء: ١٤.
فقوله: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ أي إن عليكم من قبلنا حافظين يحفظون أعمالكم بالكتابة كما يفيده السياق.
و قوله: ﴿كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ أي أولي كرامة و عزة عند الله تعالى و قد تكرر في القرآن الكريم وصف الملائكة بالكرامة و لا يبعد أن يكون المراد به بإعانة من السياق كونهم بحسب الخلقة مصونين عن الإثم و المعصية مفطورين على العصمة، و يؤيده قوله: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾: الأنبياء: ٢٦ حيث دل على أنهم لا يريدون إلا ما أراده الله و لا يفعلون إلا ما أمرهم به، و كذا قوله: ﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾: عبس ١٦.
و المراد بالكتابة في قوله: ﴿كَاتِبِينَ﴾ كتابة الأعمال بقرينة قوله: ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ و قد تقدم في تفسير قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: الجاثية: ٢٩ كلام في معنى كتابة الأعمال فليراجعه من شاء.
و قوله: ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ نفي لخطئهم في تشخيص الخير و الشر و تمييز الحسنة و السيئة كما أن الآية السابقة متضمنة لتنزيههم عن الإثم و المعصية فهم محيطون بالأفعال على ما هي عليه من الصفة و حافظون لها على ما هي عليه.
و لا تعيين في هذه الآيات لعدة هؤلاء الملائكة الموكلين على كتابة أعمال الإنسان نعم المستفاد من قوله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾: ق: ١٧ إن على كل إنسان منهم اثنين عن يمينه و شماله، و قد ورد في الروايات المأثورة أن الذي على اليمين كاتب الحسنات و الذي على الشمال كاتب السيئات.
و ورد أيضا في تفسير قوله: ﴿إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾: إسراء: ٧٨ أخبار مستفيضة من طرق الفريقين دالة على أن كتبة الأعمال بالنهار يصعدون بعد غروب الشمس و ينزل آخرون فيكتبون أعمال الليل حتى إذا طلع الفجر صعدوا و نزل ملائكة النهار و هكذا.
و في الآية أعني قوله: ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ دلالة على أن الكتبة عالمون بالنيات إذ لا طريق إلى العلم بخصوصيات الأفعال و عناوينها و كونها خيرا أو شرا أو حسنة أو سيئة إلا العلم بالنيات فعلمهم بالأفعال لا يتم إلا عن العلم بالنيات.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَ إِنَّ اَلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ استئناف مبين لنتيجة حفظ الأعمال بكتابة الكتبة و ظهورها يوم القيامة.
و الأبرار هم المحسنون عملا، و الفجار هم المنخرقون بالذنوب و الظاهر أن المراد بهم المتهتكون من الكفار إذ لا خلود لمؤمن في النار، و في تنكير «نعيم» و «جحيم» إشعار بالتفخيم و التهويل كما قيل .
قوله تعالى: ﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ اَلدِّينِ﴾ الضمير للجحيم أي يلزمون يعني الفجار الجحيم يوم الجزاء و لا يفارقونها.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾ عطف تفسيري على قوله: ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ إلخ يؤكد معنى ملازمتهم للجحيم و خلودهم في النار، و المراد بغيبتهم عنها خروجهم منها فالآية في معنى قوله: ﴿وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ﴾: البقرة: ١٦٧.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلدِّينِ﴾ تهويل و تفخيم لأمر يوم الدين، و المعنى لا تحيط علما بحقيقة يوم الدين و هذا التعبير كناية عن فخامة أمر الشيء و علوه من أن يناله وصف الواصف، و في إظهار اليوم - و المحل محل الضمير - تأكيد لأمر التفخيم.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلدِّينِ﴾ في تكرار الجملة تأكيد للتفخيم.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ الظرف منصوب بتقدير اذكر و نحوه، و في الآية بيان إجمالي لحقيقة يوم الدين بعد ما في قوله: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلدِّينِ﴾ من الحث على معرفته.
و ذلك أن رابطة التأثير و التأثر بين الأسباب الظاهرية و مسبباتها منقطعة زائلة يومئذ كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: ﴿وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ﴾: البقرة: ١٦٦، و قوله:
﴿وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾: البقرة: ١٦٥ فلا تملك نفس
لنفس شيئا فلا تقدر على دفع شر عنها و لا جلب خير لها، و لا ينافي ذلك آيات الشفاعة لأنها بإذن الله فهو المالك لها لا غير.
و قوله: ﴿وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ أي هو المالك للأمر ليس لغيره من الأمر شيء.
و المراد بالأمر كما قيل واحد الأوامر لقوله تعالى: ﴿لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ ﴾المؤمن: ١٦ و شأن الملك المطاع، الأمر بالمعنى المقابل للنهي، و الأمر بمعنى الشأن لا يلائم المقام تلك الملاءمة.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ قال: تنشق فتخرج الناس منها.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه عن حذيفة قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : من استن خيرا فاستن به فله أجره و مثل أجور من اتبعه غير منتقص من أجورهم و من استن شرا فاستن به فله وزره و مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم، و تلا حذيفة ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ﴾. و فيه، أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تلا هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ﴾ ثم قال: جهله.
و في تفسير القمي، : ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ قال: لو شاء ركبك على غير هذه الصورة:.
أقول: و رواه في المجمع، عن الصادق (عليه السلام) مرسلا. و فيه، : ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ قال: الملكان الموكلان بالإنسان.
و عن سعد السعود، و في رواية: إنهما يعني الملكين الموكلين يأتيان المؤمن عند حضور صلاة الفجر فإذا هبطا صعد الملكان الموكلان بالليل فإذا غربت الشمس نزل إليه الموكلان بكتابة الليل، و يصعد الملكان الكاتبان بالنهار بديوانه إلى الله عز و جل.
فلا يزال ذلك دأبهم إلى وقت حضور أجله فإذا حضر أجله قالا للرجل الصالح:
جزاك الله من صاحب عنا خيرا -فكم من عمل صالح أريتناه، و كم من قول حسن أسمعتناه، و كم من مجلس خير أحضرتناه فنحن اليوم على ما تحبه و شفعاء إلى ربك، و إن كان عاصيا قالا له: جزاك الله من صاحب عنا شرا فلقد كنت تؤذينا فكم من عمل سيء أريتناه، و كم من قول سيء أسمعتناه، و [كم] من مجلس سوء أحضرتناه و نحن اليوم لك
على ما تكره، و شهيدان عند ربك.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾: روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: الأمر يومئذ و اليوم كله لله. يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله.
أقول: مراده (عليه السلام) أن كون الأمر لله لا يختص بيوم القيامة بل الأمر لله دائما، و تخصيصه بيوم القيامة باعتبار ظهوره لا باعتبار أصله فالذي يختص به ظهور هذه الحقيقة ظهور عيان فيسقط اليوم أمر غيره تعالى و حكمه، و نظير الأمر سائر ما عد في كلامه تعالى من مختصات يوم القيامة، فالرواية من غرر الروايات.
(٨٣) سورة المطففين مكية أو مدنية و هي ست و ثلاثون آية (٣٦)
[سورة المطففين (٨٣): الآیات ١ الی ٢١ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ١ اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتَالُوا عَلَى اَلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ٢ وَ إِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ٣ أَ لاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ٤ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ٥ يَوْمَ يَقُومُ اَلنَّاسُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ٧ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ٨ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ٩ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ١٠ اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ اَلدِّينِ ١١ وَ مَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ١٢ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ١٣ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ١٤ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ١٥ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا اَلْجَحِيمِ ١٦ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ١٧ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ١٨ وَ مَا
أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ١٩ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ٢٠ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ ٢١﴾
(بيان)
تفتتح السورة بوعيد أهل التطفيف في الكيل و الوزن و تنذرهم بأنهم مبعوثون للجزاء في يوم عظيم و هو يوم القيامة ثم تتخلص لتفصيل ما يجري يومئذ على الفجار و الأبرار.
و الأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون أول السورة المشتمل على وعيد المطففين نازلا بالمدينة و أما ما يتلوه من الآيات إلى آخر السورة فيقبل الانطباق على السياقات المكية و المدينة.
قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ دعاء على المطففين و التطفيف نقص المكيال و الميزان، و قد نهى الله تعالى عنه و سماه إفسادا في الأرض كما فيما حكاه من قول شعيب: ﴿وَ يَا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾هود: ٨٤، و قد تقدم الكلام في تفسير الآية في معنى كونه إفسادا في الأرض.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتَالُوا عَلَى اَلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ الاكتيال من الناس الأخذ منهم بالكيل، و تعديته بعلى لإفادة معنى الضرر، و الكيل إعطاؤهم بالمكيال يقال: كاله طعامه و وزنه و كال له طعامه و وزن له و الأول لغة أهل الحجاز و عليه التنزيل و الثاني لغة غيرهم كما في المجمع، و الاستيفاء أخذ الحق تاما كاملا، و الإخسار الإيقاع في الخسارة.
و المعنى: الذين إذا أخذوا من الناس بالكيل يأخذون حقهم تاما كاملا، و إذا أعطوا الناس بالكيل أو الوزن ينقصون فيوقعونهم في الخسران.
فمضمون الآيتين جميعا ذم واحد و هو أنهم يراعون الحق لأنفسهم و لا يراعونه لغيرهم و بعبارة أخرى لا يراعون لغيرهم من الحق مثل ما يراعونه لأنفسهم و فيه إفساد الاجتماع الإنساني المبني على تعادل الحقوق المتقابلة و في إفساده كل الفساد.
و لم يذكر الاتزان مع الاكتيال كما ذكر الوزن مع الكيل إذ قال: ﴿وَ إِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ قيل: لأن المطففين كانوا باعة و هم كانوا في الأغلب يشترون الكثير من الحبوب و البقول و نحوهما من الأمتعة ثم يكسبون بها فيبيعونها يسيرا يسيرا تدريجا، و كان دأبهم في الكثير من هذه الأمتعة أن يؤخذ و يعطى بالكيل لا بالوزن فذكر الاكتيال وحده في الآية مبني على الغالب.
و قيل: لم يذكر الاتزان لأن الكيل و الوزن بهما البيع و الشراء فذكر أحدهما يدل على الآخر. و فيه أن ما ذكر في الاكتيال جار في الكيل أيضا و قد ذكر معه الوزن فالوجه لا يخلو من تحكم.
و قيل: الآيتان تحاكيان ما كان عليه دأب الذين نزلت فيهم السورة فقد كانوا يشترون بالاكتيال فقط و يبيعون بالكيل و الوزن جميعا، و هذا الوجه دعوى من غير دليل.
إلى غير ذلك مما ذكروه في توجيه الاقتصار على ذكر الاكتيال في الآية، و لا يخلو شيء منها من ضعف.
قوله تعالى: ﴿أَ لاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ الاستفهام للإنكار و التعجيب، و الظن بمعناه المعروف و الإشارة إلى المطففين بأولئك الموضوعة للإشارة البعيدة للدلالة على بعدهم من رحمة الله، و اليوم العظيم يوم القيامة الذي يجازون فيه بعملهم.
و الاكتفاء بظن البعث و حسبانه مع أن من الواجب الاعتقاد العلمي بالمعاد لأن مجرد حسبان الخطر و الضرر في عمل يوجب التجنب عنه و التحرز عن اقترافه و إن لم يكن هناك علم فالظن بالبعث ليوم عظيم يؤاخذ الله فيه الناس بما كسبوا من شأنه أن يردعهم عن اقتراف هذا الذنب العظيم الذي يستتبع العذاب الأليم.
و قيل: الظن في الآية بمعنى العلم.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلنَّاسُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ المراد به قيامهم من قبورهم كناية عن تلبسهم بالحياة بعد الممات لحكمه تعالى و قضائه بينهم.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ ردع كما قيل عما كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن البعث و الحساب.
و قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ إلخ الذي يعطيه التدبر في سياق الآيات الأربع بقياس بعضها إلى بعض و قياس المجموع إلى مجموع قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ إلى تمام أربع آيات أن المراد بسجين ما يقابل عليين و معناه علو على علو مضاعف ففيه شيء من معنى السفل و الانحباس فيه كما يشير إليه قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾: التين: ٥ فالأقرب أن يكون مبالغة من السجن بمعنى الحبس كسكير و شريب من السكر و الشرب فمعناه الذي يحبس من دخله على التخليد كما قيل.
و الكتاب بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء المحتوم و المراد بكتاب الفجار ما قدره الله لهم من الجزاء و أثبته بقضائه المحتوم.
فمحصل الآية أن الذي أثبته الله من جزائهم أو عده لهم لفي سجين الذي هو سجن يحبس من دخله حبسا طويلا أو خالدا.
و قوله: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ مسوق للتهويل.
و قوله: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ خبر لمبتدإ محذوف هو ضمير راجع إلى سجين و الجملة بيان لسجين و «كتاب» أيضا بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء و الإثبات، و «مرقوم» من الرقم، قال الراغب: الرقم الخط الغليظ، و قيل: هو تعجيم الكتاب، و قوله تعالى:
﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ حمل على الوجهين. انتهى، و المعنى الثاني أنسب للمقام فيكون إشارة إلى كون ما كتب لهم متبينا لا إبهام فيه أي إن القضاء حتم لا يتخلف.
و المحصل أن سجين مقضي عليهم مثبت لهم متبين متميز لا إبهام فيه.
و لا ضير في لزوم كون الكتاب ظرفا للكتاب على هذا المعنى لأن ذلك من ظرفية الكل للجزء و هي مما لا ضير فيه فيكون سجين كتابا جامعا فيه ما قضي على الفجار و غيرهم من مستحقي العذاب.
و قوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ نعي و دعاء على الفجار و فيه تفسيرهم بالمكذبين، و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف لقوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ بحسب المعنى أي ليهلك الفجار و هم المكذبون يومئذ تحقق ما كتب الله لهم و قضى عليهم من الجزاء و حل بهم ما أعد لهم من العذاب.
هذا ما يفيده التدبر في هذه الآيات الأربع، و هي ذات سياق واحد متصل متلائم الأجزاء.
و للقوم في تفسير مفردات الآيات الأربع و جملها أقوال متفرقة كقولهم: إن الكتاب في قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ﴾ بمعنى المكتوب و المراد به صحيفة أعمالهم، و قيل:
مصدر بمعنى الكتابة و في الكلام مضاف محذوف و التقدير كتابة عمل الفجار لفي سجين.
و قولهم: إن الفجار أعم من المكذبين فيشمل الكفار و الفسقة جميعا.
و قولهم: إن المراد بسجين الأرض السابعة السفلى يوضع فيها كتاب الفجار و قيل:
واد في جهنم، و قيل: جب فيها، و قيل: سجين اسم لكتابهم، و قيل: سجين الأول اسم الموضع الذي يوضع فيه كتابهم و الثاني اسم كتابهم، و قيل: هو اسم كتاب جامع
هو ديوان الشر دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين، و قيل: المراد به الخسار و الهوان فهو كقولهم: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، و قيل: هو السجيل بدل لامه نونا كما يقال جبرين في جبريل إلى غير ذلك مما قيل.
و قولهم: إن قوله: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ ليس بيانا و تفسيرا لسجين بل تفسير للكتاب المذكور في قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ﴾.
و قولهم: إن قوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ متصل بقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلنَّاسُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ و الآيات الثلاث الواقعة بين الآيتين اعتراض.
و أنت إن تأملت هذه الأقاويل وجدت كثيرا منها تحكما محضا لا دليل عليه.
على أنها تقطع ما في الآيات من السياق الواحد المتصل الذي يحاذي به ما في الآيات الأربع الآتية في صفة كتاب الأبرار من السياق الواحد المتصل فلا نطيل الكلام بالتعرض لواحد واحد منها و المناقشة فيها.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ اَلدِّينِ﴾ تفسير للمكذبين و ظاهر الآية و يؤيده الآيات التالية أن المراد بالتكذيب هو التكذيب القولي الصريح فيختص الذم بالكفار و لا يشمل الفسقة من أهل الإيمان فلا يشمل مطلق المطففين بل الكفار منهم.
اللهم إلا أن يراد بالتكذيب ما يعم التكذيب العملي كما ربما أيده قوله السابق:
﴿أَ لاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ فيشمل الفجار من المؤمنين كالكفار.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ المعتدي اسم فاعل من الاعتداء بمعنى التجاوز و المراد به المتجاوز عن حدود العبودية، و الأثيم كثير الآثام بحيث تراكم بعضها على بعض بانهماكه في الأهواء.
و من المعلوم أن المانع الوحيد الذي يردع عن المعصية هو الإيمان بالبعث و الجزاء، و المنهمك في الأهواء المتعلق قلبه بالاعتداء و الآثم تأبى نفسه التسليم لما يردع عنها و التزهد عن المعاصي و ينتهي إلى تكذيب البعث و الجزاء قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواىَ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ﴾: الروم: ١٠.
قوله تعالى: ﴿إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ﴾ المراد بالآيات آيات القرآن بقرينة قوله ﴿تُتْلىَ﴾ و الأساطير ما سطروه و كتبوه و المراد بها أباطيل الأمم الماضين و المعنى إذا تتلى عليه آيات القرآن مما يحذرهم المعصية و ينذرهم بالبعث و الجزاء قال: هي أباطيل.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ردع عما قاله المكذبون:
﴿أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ﴾ قال الراغب: الرين صدا يعلو الشيء الجليل[5] قال تعالى: ﴿بَلْ رَانَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي صار ذلك كصدء على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشر، انتهى. فكون ما كانوا يكسبون و هو الذنوب رينا على قلوبهم هو حيلولة الذنوب بينهم و بين أن يدركوا الحق على ما هو عليه.
و يظهر من الآية:
أولا: أن للأعمال السيئة نقوشا و صورا في النفس تنتقش و تتصور بها.
و ثانيا: أن هذه النقوش و الصور تمنع النفس أن تدرك الحق كما هو و تحول بينها و بينه.
و ثالثا: أن للنفس بحسب طبعها الأولي صفاء و جلاء تدرك به الحق كما هو و تميز بينه و بين الباطل و تفرق بين التقوى و الفجور قال تعالى: ﴿وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا﴾: الشمس: ٨.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ ردع عن كسب الذنوب الحائلة بين القلب و إدراك الحق، و المراد بكونهم محجوبين عن ربهم يوم القيامة حرمانهم من كرامة القرب و المنزلة و لعله مراد من قال: إن المراد كونهم محجوبين عن رحمة ربهم.
و أما ارتفاع الحجاب بمعنى سقوط الأسباب المتوسطة بينه تعالى و بين خلقه و المعرفة التامة به تعالى فهو حاصل لكل أحد قال تعالى: ﴿لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ ﴾المؤمن: ١٦ و قال: ﴿وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ﴾: النور: ٢٥.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا اَلْجَحِيمِ﴾ أي داخلون فيها ملازمون لها أو مقاسون حرها على ما فسره بعضهم و ﴿ثُمَّ﴾ في الآية و ما بعدها للتراخي بحسب رتبة الكلام.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُقَالُ هَذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ هو توبيخ و تقريع و القائل خزنة النار أو أهل الجنة.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ ردع في معنى الردع الذي في قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ﴾ و عليون كما تقدم علو على علو مضاعف، و ينطبق على الدرجات العالية و منازل القرب من الله تعالى كما أن السجين بخلافه.
و الكلام في معنى الآيات الثلاث نظير الكلام في الآيات الثلاث المتقدمة التي تحاذيها من قوله: ﴿إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾.
فالمعنى أن الذي كتب للأبرار و قضي جزاء لبرهم لفي عليين و ما أدراك ما عليون هو أمر مكتوب و مقضي قضاء حتما لازما متبين لا إبهام فيه.
و للقوم أقاويل في هذه الآيات نظير ما لهم في الآيات السابقة من الأقوال غير أن من أقوالهم في عليين أنه السماء السابعة تحت العرش فيه أرواح المؤمنين، و قيل سدرة المنتهى التي إليها تنتهي الأعمال، و قيل: لوح من زبرجدة تحت العرش معلق مكتوب فيه أعمالهم، و قيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة، و الكلام فيها كالكلام فيما تقدم من أقوالهم.
قوله تعالى: ﴿يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾ الأنسب لما تقدم من معنى الآيات السابقة أن يكون ﴿يَشْهَدُهُ﴾ من الشهود بمعنى المعاينة و المقربون قوم من أهل الجنة هم أعلى درجة من عامة الأبرار على ما سيأتي استفادته من قوله: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا اَلْمُقَرَّبُونَ﴾ فالمراد معاينتهم له بإراءة الله إياه لهم و قد قال الله تعالى في مثله من أمر الجحيم: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ﴾: التكاثر: ٦ و منه يظهر أن المقربين هم أهل اليقين.
و قيل: الشهادة هي الحضور و المقربون الملائكة، و المراد حضور الملائكة على صحيفة عملهم إذا صعدوا بها إلى الله سبحانه.
و قيل: المقربون هم الأبرار و الملائكة جميعا.
و القولان مبنيان على أن المراد بالكتاب صحيفة الأعمال و قد تقدم ضعفه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت يعني سورة المطففين على نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين قدم المدينة و هم يومئذ أسوأ الناس كيلا فأحسنوا الكيل.
و في أصول الكافي، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله عز و جل خلقنا من أعلى عليين و خلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه و خلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا ثم تلا هذه الآية ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾.
و خلق قلوب عدونا من سجين و خلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه و أبدانهم من دون
ذلك، قلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾.
أقول: و روي مثله في أصول الكافي، بطريق آخر عن الثمالي عنه (عليه السلام)، و رواه في علل الشرائع، بإسناد فيه رفع عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله، و الأحاديث كما ترى تؤيد ما قدمناه في معنى الآيات.
و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ قال: ما كتب الله لهم من العذاب لفي سجين.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : السجين الأرض السابعة و عليون السماء السابعة.
أقول: الرواية لو صحت مبنية على انتساب الجنة و النار إلى جهتي العلو و السفل بنوع من العناية و لذلك نظائر في الروايات كعد القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار و عد وادي برهوت مكانا لجهنم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال: التقى سلمان و عبد الله بن سلام فقال أحدهما لصاحبه: إن مت قبلي فالقني فأخبرني بما صنع ربك بك و إن أنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك فقال عبد الله: كيف يكون هذا؟ قال: نعم إن أرواح المؤمنين تكون في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت و نفس الكافر في سجين و الله أعلم.
و في أصول الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ما من عبد إلا و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء -فإن تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قول الله عز و جل: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾:.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . و فيه، بإسناده عن عبد الله بن محمد الحجال عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : تذاكروا و تلاقوا و تحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب إن القلوب لترين كما يرين السيف و جلاؤه الحديث.
و عن روضة الواعظين، قال الباقر (عليه السلام): ما شيء أفسد للقلب من الخطيئة إن القلب
ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه و أعلاه أسفله.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منه و إن ازداد زادت فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه
[سورة المطففين (٨٣): الآیات ٢٢ الی ٣٦]
﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾. ﴿إِنَّ اَلْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ٢٢ عَلَى اَلْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ٢٣ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ اَلنَّعِيمِ ٢٤ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ٢٥ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ اَلْمُتَنَافِسُونَ ٢٦ وَ مِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ٢٧ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا اَلْمُقَرَّبُونَ ٢٨ إِنَّ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ٢٩ وَ إِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ٣٠ وَ إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ اِنْقَلَبُوا فَكِهِينَ ٣١ وَ إِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ ٣٢ وَ مَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ٣٣ فَالْيَوْمَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ اَلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ٣٤ عَلَى اَلْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ٣٥ هَلْ ثُوِّبَ اَلْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ٣٦﴾
(بيان)
بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الأبرار و عظم منزلتهم عند الله تعالى و غزارة عيشهم في الجنة، و أنهم على كونهم يستهزئ بهم الكفار و يتغامزون بهم و يضحكون منهم سيضحكون منهم و ينظرون إلى ما ينالهم من العذاب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ النعيم النعمة الكثيرة و في تنكيره دلالة على فخامة قدره، و المعنى أن الأبرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.
[4] الغرل بالغين المعجمة جمع أغرل و هو الأقلف غير المختون.
|