00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 83 الى ص 164 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء العشرون)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بحث روائي‏)

 في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و عبد الرزاق و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن الضريس و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و ابن الأنباري في المصاحف عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: يا أيها المدثر قلت: يقولون: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت. قال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا و نظرت عن شمالي فلم أر شيئا، و نظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء و الأرض فجثت منه رعبا فرجعت فقلت: دثروني دثروني فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله ﴿وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ. أقول: الحديث معارض بالأحاديث الآخر الدالة على كون سورة اقرأ أول ما نزل من القرآن و يؤيدها سياق سورة اقرأ، على أن قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» يشعر بنزول الوحي عليه قبلا.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة : قلنا: يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله ﴿وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ فأمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن نفتتح الصلاة بالتكبير. أقول: و في الرواية شي‏ء فأبو هريرة ممن آمن بعد الهجرة بكثير و السورة مما نزل في أول البعثة فأين كان أبو هريرة أو الصحابة يومئذ؟.

 و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: تشمير الثياب طهور لها قال الله تبارك و تعالى: ﴿وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ يعني فشمر.

 أقول: و في المعنى عدة أخبار مروية في الكافي، و المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله.

و أبي الحسن (عليه السلام).

 و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و ابن مردويه عن جابر قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ﴿وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ برفع الراء، و قال: هي الأوثان.

 

 

 أقول: و قوله: «هي الأوثان» من كلام جابر أو غيره من رجال السند.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ: و في رواية أبي الجارود يقول:

لا تعط تلتمس أكثر منها.

[سورة المدثر (٧٤): الآیات ٨ الی ٣١ ]

﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي اَلنَّاقُورِ ٨ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ٩ عَلَى اَلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ١٠ ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ١١ وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً ١٢ وَ بَنِينَ شُهُوداً ١٣ وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ١٤ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ١٥ كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً ١٦ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ١٧ إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ ١٨ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ١٩ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ٢٠ ثُمَّ نَظَرَ ٢١ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ٢٢ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اِسْتَكْبَرَ ٢٣ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ٢٤ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ اَلْبَشَرِ ٢٥ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ٢٦ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ٢٧ لاَ تُبْقِي وَ لاَ تَذَرُ ٢٨ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ٢٩ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ٣٠ وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ وَ يَزْدَادَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَ لاَ يَرْتَابَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ مَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرى‏ لِلْبَشَرِ ٣١

 

 

(بيان‏)

في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنه سحر و المستهزءين لبعض ما فيه من الحقائق.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي اَلنَّاقُورِ النقر القرع و الناقور ما ينقر فيه للتصويت، و النقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى و إحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة و الجملة شرطية جزاؤها قوله «فذلك» إلخ.

قوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى اَلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ الإشارة بقوله ﴿فَذَلِكَ إلى زمان نقر الناقور و لا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب و الجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفا ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفا لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفا للشهر و الشهر يجعل ظرفا لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعددا مختلفا باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثم يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفا لنفسه باعتبار صفة أخرى.

و المعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع بناء على كون قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ قيدا لقوله: ﴿فَذَلِكَ أو لقوله: ﴿يَوْمٌ.

و قال في الكشاف،: فإن قلت: بم انتصب إذا و كيف صح أن يقع يومئذ ظرفا ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دل عليه الجزاء لأن المعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، و الذي أجاز وقوع يومئذ ظرفا ليوم عسير أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي و يقع حين ينقر في الناقور. انتهى.

و قال: و يجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل بدلا من ذلك، و يوم عسير خبر كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. انتهى.

و قوله: ﴿غَيْرُ يَسِيرٍ وصف آخر ليوم مؤكد لعسره و يفيد أنه عسير من كل وجه من وجه دون وجه.

قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً كلمة تهديد و قد استفاض النقل أن الآية

 

 

 و ما يتلوها إلى تمام عشرين آية نزلت في الوليد بن المغيرة، و ستأتي قصته في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله: ﴿وَحِيداً حال من فاعل ﴿خَلَقْتُ و محصل المعنى: دعني و من خلقته حال كوني وحيدا لا يشاركني في خلقه أحد ثم دبرت أمره أحسن التدبير، و لا تحل بيني و بينه فأنا أكفيه.

و من المحتمل أن يكون حالا من مفعول ﴿ذَرْنِي. و قيل: حال من مفعول خلقت المحذوف و هو ضمير عائد إلى الموصول، و محصل المعنى دعني و من خلقته حال كونه وحيدا لا مال له و لا بنون، و احتمل أيضا أن يكون ﴿وَحِيداً منصوبا بتقدير «أذم» و أحسن الوجوه أولها.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً أي مبسوطا كثيرا أو ممدودا بمدد النماء.

قوله تعالى: ﴿وَ بَنِينَ شُهُوداً أي حضورا يشاهدهم و يتأيد بهم، و هو عطف على قوله: ﴿مَالاً.

قوله تعالى: ﴿وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً التمهيد التهيئة و يتجوز به عن بسطة المال و الجاه و انتظام الأمور.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً أي ثم يطمع أن أزيد فيما جعلت له من المال و البنين و مهدت له من التمهيد.

و قوله: ﴿كَلاَّ ردع له، و قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ إلخ تعليل المردع، و العنيد المعاند المباهي بما عنده، قيل، ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله و ولده حتى هلك.

قوله تعالى: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً الإرهاق‏ الغشيان بالعنف، و الصعود عقبة الجبل التي يشق مصعدها شبه ما سيناله من سوء الجزاء و مر العذاب بغشيانه عقبة وعر صعبة الصعود.

قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ التفكير معروف، و التقدير عن تفكير نظم معان و أوصاف في الذهن بالتقديم و التأخير و الوضع و الرفع لاستنتاج غرض مطلوب، و قد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئا يبطل به

 

 

 دعوته و يرضي به قومه المعاندين ففكر فيه أ يقول: شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو أسطورة فقدر أن يقول: سحر من كلام البشر لأنه يفرق بين المرء و أهله و ولده و مواليه.

و قوله: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ دعا عليه على ما يعطيه السياق نظير قوله: ﴿قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ: التوبة ٣٠.

و قوله: ﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرار للدعاء تأكيدا.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اِسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ اَلْبَشَرِ تمثيل لحاله بعد التكفير و التقدير و هو من ألطف التمثيل و أبلغه.

فقوله: ﴿ثُمَّ نَظَرَ أي ثم نظر بعد التفكير و التقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه على ما يعطيه سياق التمثيل .

و قوله: ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ العبوس‏ تقطيب الوجه، قال في المجمع،: و عبس يعبس عبوسا إذا قبض وجهه و العبوس و التكليح و التقطيب نظائر و ضدها الطلاقة و البشاشة، و قال: و البسور بدء التكره في الوجه انتهى، فالمعنى ثم قبض وجهه و أبدا التكره في وجهه بعد ما نظر.

و قوله: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اِسْتَكْبَرَ الإدبار عن شي‏ء الإعراض عنه، و الاستكبار الامتناع كبرا و عتوا، و الأمران أعني الإدبار و الاستكبار من الأحوال الروحية، و إنما رتبا في التمثيل على النظر و العبوس و البسور و هي أحوال صورية محسوسة لظهورهما بقوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ إلخ، و لذا عطف قوله: ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ بالفاء دون ﴿ثُمَّ.

و قوله: ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي أظهر إدباره و استكباره بقوله مفرعا عليه: ﴿إِنْ هَذَا أي القرآن ﴿إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يروي و يتعلم من السحرة.

و قوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ اَلْبَشَرِ أي ليس بكلام الله كما يدعيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قيل: إن هذه الآية كالتأكيد للآية السابقة و إن اختلفتا معنى لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا من كلام الله، و باعتبار الاتحاد في المقصود لم تعطف الجملة على الجملة.

قوله تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَ لاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ أي سأدخله سقر و سقر من أسماء جهنم في القرآن أو دركة من دركاتها، و جملة

 

 

﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بيان أو بدل من قوله: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً.

و قوله: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ تفخيم لأمرها و تهويل.

و قوله: ﴿لاَ تُبْقِي وَ لاَ تَذَرُ قضية إطلاق النفي أن يكون المراد أنها لا تبقي شيئا ممن نالته إلا أحرقته، و لا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته بخلاف نار الدنيا التي ربما تركت بعض ما ألقي فيها و لم تحرقه، و إذا نالت إنسانا مثلا نالت جسمه و صفاته الجسمية و لم تنل شيئا من روحه و صفاته الروحية، و أما سقر فلا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته قال تعالى: ﴿تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى: المعارج ١٧، و إذا نالته لم تبق منه شيئا من روح أو جسم إلا أحرقته قال تعالى: ﴿نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ: الهمزة ٧.

و يمكن أن يراد أنها لا تبقيهم أحياء و لا تتركهم يموتون فيكون في معنى قوله تعالى:

﴿اَلَّذِي يَصْلَى اَلنَّارَ اَلْكُبْرى‏َ ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَ لاَ يَحْيى‏َ: الأعلى: ١٣.

و قيل: المعنى لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، و إذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد فيعذب ثانيا.

و قيل: المراد أنها لا تبقي لهم لحما و لا تذر عظما، و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ اللواحة من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد و قيل:

إلى الحمرة، و البشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد.

قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ يتولون أمر عذاب المجرمين و قد أبهم و لم يصرح أنهم من الملائكة أو غيرهم غير أن المستفاد من آيات القيامة و تصرح به الآية التالية أنهم من الملائكة.

و قد استظهر بعضهم أن مميز قوله: ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ ملكا ثم قال: أ لا ترى العرب و هم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس :أنها لما نزلت ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أ سمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر و أنتم الدهم أ يعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة الجمحي و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين انتهى، و أنت ترى أن لا دليل في كلامه على ما يدعيه. على أنه سمي الواحد من الخزنة رجلا و لا يطلق الرجل على الملك البتة و لا سيما عند المشركين الذين قال تعالى فيهم:

 

 

﴿وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً: الزخرف: ١٩.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً إلى آخر الآية. سياق الآية يشهد على أنهم تكلموا فيما ذكر في الآية من عدد خزان النار فنزلت هذه الآية، و يتأيد بذلك ما ورد من سبب النزول و سيوافيك في البحث الروائي التالي.

فقوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً المراد بأصحاب النار خزنتها الموكلون عليها المتولون لتعذيب المجرمين فيها كما يفيده قوله: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ و يشهد بذلك قوله بعد: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً إلخ.

و محصل المعنى: أنا جعلناهم ملائكة يقدرون على ما أمروا به كما قال:

﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ: التحريم ٦.

فليسوا من البشر حتى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم و يطيقوهم.

و قوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا الفتنة المحنة و الاختبار. ذكروا أن المراد بالجعل الجعل بحسب الإخبار دون الجعل بحسب التكوين فالمعنى و ما أخبرنا عن عدتهم أنها تسعة عشر إلا ليكون فتنة للذين كفروا، و يؤيده ذيل الكلام:

﴿لِيَسْتَيْقِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ إلخ.

و قوله: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ الاستيقان‏ وجدان اليقين في النفس أي ليوقن أهل الكتاب بأن القرآن النازل عليك حق حيث يجدون ما أخبرنا به من عدة أصحاب النار موافقا لما ذكر فيما عندهم من الكتاب.

و قوله: ﴿وَ يَزْدَادَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً أي بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

و قوله: ﴿وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً اللام في ﴿لِيَقُولَ للعاقبة بخلاف اللام في ﴿لِيَسْتَيْقِنَ فللتعليل بالغاية، و الفرق أن قولهم:

﴿مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً تحقير و تهكم و هو كفر لا يعد غاية لفعله سبحانه إلا بالعرض بخلاف الاستيقان الذي هو من الإيمان، و لعل اختلاف المعنيين هو الموجب لإعادة اللام في قوله: ﴿وَ لِيَقُولَ.

و قد فسروا ﴿اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بالشك و الجحود بالمنافقين و فسروا الكافرين

 

 

 بالمتظاهرين بالكفر من المشركين و غيرهم.

و قولهم: ﴿مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً أرادوا به التحقير و التهكم يشيرون بهذا إلى قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ و المثل الوصف، و المعنى ما الذي يعنيه من وصف الخزنة بأنهم تسعة عشر؟ فهذه العدة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجن و الإنس.

ذنابة لما تقدم من الكلام في النفاق‏

ذكر بعضهم أن قوله تعالى: ﴿وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الآية بناء على أن السورة بتمامها مكية، و أن النفاق إنما حدث بالمدينة إخبار عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة انتهى.

أما كون السورة بتمامها مكية فهو المتعين من طريق النقل و قد ادعي عليه إجماع المفسرين، و ما نقل عن مقاتل أن قوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً الآية مدني لم يثبت من طريق النقل، و على فرض الثبوت هو قول نظري مبني على حدوث النفاق بالمدينة و الآية تخبر عنه.

و أما حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصر عليه بعضهم محتجا عليه بأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوة و نفوذ الأمر و سعة الطول بحيث يهابهم الناس أو يرجى منهم خير حتى يتقوهم و يظهروا لهم الإيمان و يلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر و هذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة.

و الحجة غير تامة كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق فإن علل النفاق ليست تنحصر في المخافة و الاتقاء أو الاستدرار من خير معجل فمن علله الطمع و لو في نفع مؤجل و منها العصبية و الحمية و منها استقرار العادة و منها غير ذلك.

و لا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبل الهجرة و قد نقل عن بعضهم أنه آمن ثم رجع أو آمن عن ريب ثم صلح.

على أنه تعالى يقول: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي

 

 

 صُدُورِ اَلْعَالَمِينَ وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ: العنكبوت: ١١.

و الآيتان في سورة مكية و هي سورة العنكبوت، و هما ناطقتان بوجود النفاق فيها و مع الغض عن كون السورة مكية فاشتمال الآية على حديث الإيذاء في الله و الفتنة أصدق شاهد على نزول الآيتين بمكة فلم يكن بالمدينة إيذاء في الله و فتنة، و اشتمال الآية على قوله: ﴿وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ إلخ لا يدل على النزول بالمدينة فللنصر مصاديق أخرى غير الفتح المعجل.

و احتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقعت بمكة بعد الهجرة غير ضائر فإن هؤلاء المفتونين بمكة بعد الهجرة إنما كانوا من الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل الهجرة و إن أوذوا بعدها.

و على مثل ذلك ينبغي أن يحمل قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ: الحج: ١١ إن كان المراد بالفتنة العذاب و إن كانت السورة مدنية.

(بيان)

و قوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الإشارة بذلك إلى مضمون قوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً إلخ.

و قوله: ﴿وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ علق تعالى العلم المنفي بالجنود و هي الجموع الغليظة التي خلقهم وسائط لإجراء أوامره لا بخصوص عدتهم فأفاد بإطلاقه أن العلم بحقيقتهم و خصوصيات خلقتهم و عدتهم و ما يعملونه من عمل و دقائق الحكمة في جميع ذلك يختص به تعالى لا يشاركه فيه أحد، فليس لأحد أن يستقل عدتهم أو يستكثر أو يطعن في شي‏ء مما يرجع إلى صفاتهم و هو جاهل بها.

و قوله: ﴿وَ مَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرى‏َ لِلْبَشَرِ الضمير راجع إلى ما تقدم من قوله: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ و تأنيثه لتأنيث الخبر، و المعنى أن البشر لا سبيل لهم إلى العلم بجنود ربك و إنما أخبرنا عن خزنة النار أن عدتهم تسعة عشر ليكون ذكرى لهم يتعظون بها.

و قيل: الضمير للجنود، و قيل: لسقر، و قيل للسورة، و قيل: لنار الدنيا و هو

 

 

 أسخف الأقوال.

و في الآية دلالة على أن الخطابات القرآنية لعامة البشر.

(بحث روائي‏)

 في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي اَلنَّاقُورِ إلى قوله ﴿وَحِيداً فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة و كان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب، و كان من المستهزءين برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقعد في الحجر و يقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد؟ أ شعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد أنشدني من شعرك قال:

ما هو شعر و لكنه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه و رسله فقال: اتل علي منه شيئا! فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حم السجدة فلما بلغ قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ قال: فاقشعر الوليد و قامت كل شعرة في رأسه و لحيته، و مر إلى بيته و لم يرجع إلى قريش من ذلك.

فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبا إلى دين محمد أ ما تراه لم يرجع إلينا فغدا أبو جهل إلى الوليد فقال: يا عم نكست رءوسنا و فضحتنا و أشمت بنا عدونا و صبوت إلى دين محمد، فقال: ما صبوت إلى دينه و لكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود فقال له أبو جهل: أ خطب هو؟ قال: لا إن الخطب كلام متصل و هذا كلام منثور و لا يشبه بعضه بعضا. قال: أ فشعر هو؟ قال: لا أما إني لقد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر. قال: فما هو؟ قال:

دعني أفكر فيه.

فلما كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس فأنزل على رسوله ص في ذلك: ﴿ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.

و إنما سمي وحيدا لأنه قال لقريش: أنا أتوحد لكسوة البيت سنة و عليكم في جماعتكم

 

 

 سنة، و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكة، و كان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها - و تلك القنطار في ذلك الزمان، و يقال: إن القنطار جلد ثور مملوء ذهبا. و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجعلوا لك مالا ليعطوه لك فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا.

قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر أو إنك كاره له، قال: و ما ذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه و لا بقصيده و لا بأشعار الجن و الله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، و و الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة و إن عليه لطلاوة، و إنه لمثمر أعلاه، و مغدق أسفله، و إنه ليعلو و لا يعلى، و إنه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: ﴿ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.

و في المجمع، روى العياشي بإسناده عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي عبد الله و أبي جعفر (عليه السلام) أن الوحيد ولد الزنا. قال زرارة: ذكر لأبي جعفر (عليه السلام) عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته: أنا ابن الوحيد فقال: ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له، و ما هو؟ قال، من لا يعرف له أب.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و الترمذي و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيان و الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال ، الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي و هو كذلك فيه أبدا.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى، ﴿ثُمَّ عَبَسَ قال، عبس وجهه ﴿وَ بَسَرَ قال، ألقى شدقه‏[1].

[سورة المدثر (٧٤): الآیات ٣٢ الی ٤٨]

﴿كَلاَّ وَ اَلْقَمَرِ ٣٢ وَ اَللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ٣٣ وَ اَلصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ٣٤ إِنَّهَا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ ٣٥ نَذِيراً لِلْبَشَرِ ٣٦ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ٣٧ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ٣٨ إِلاَّ أَصْحَابَ اَلْيَمِينِ ٣٩ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ٤٠ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ ٤١ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ٤٢ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ ٤٣ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ ٤٤ وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخَائِضِينَ ٤٥ وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ ٤٦ حَتَّى أَتَانَا اَلْيَقِينُ ٤٧ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ اَلشَّافِعِينَ ٤٨

(بيان‏)

في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عما رموه به، و تسجيل أنه إحدى الآيات الإلهية الكبرى فيه إنذار البشر كافة و في اتباعه فك نفوسهم عن رهانة أعمالهم التي تسوقهم إلى سقر.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ ردع و إنكار لما تقدم قال في الكشاف: إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا. انتهى. فعلى الأول إنكار لما تقدم و على الثاني ردع لما سيأتي، و هناك وجه آخر سيوافيك.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْقَمَرِ وَ اَللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَ اَلصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ قسم بعد قسم، و إدبار الليل مقابل إقباله، و إسفار الصبح انجلاؤه و انكشافه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ ذكروا أن الضمير لسقر، و الكبر جمع كبري،

 

 

 و المراد بكون سقر إحدى الكبر أنها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال: هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم، و الجملة جواب للقسم.

و المعنى أقسم بكذا و كذا أن سقر لإحدى الدواهي الكبرأكبرها إنذارا للبشر.

و لا يبعد أن يكون ﴿كَلاَّ ردعا لقوله في القرآن: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ اَلْبَشَرِ و يكون ضمير ﴿إِنَّهَا للقرآن بما أنه آيات أو من باب مطابقة اسم إن لخبرها.

و المعنى: ليس كما قال أقسم بكذا و كذا أن القرآن آياته لإحدى الآيات الإلهية الكبرى إنذارا للبشر.

و قيل: الجملة ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ تعليل للردع، و القسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كلا.

قوله تعالى: ﴿نَذِيراً لِلْبَشَرِ مصدر بمعنى الإنذار منصوب للتمييز، و قيل: حال مما يفهم من سياق قوله: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ أي كبرت و عظمت حالكونها إنذارا أي منذرة.

و قيل فيه وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: أنه صفة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الآية متصلة بأول السورة و التقدير قم نذيرا للبشر فأنذر، و قول بعضهم: صفة له تعالى.

قوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ تعميم للإنذار و ﴿لِمَنْ شَاءَ بدل من البشر، و ﴿أَنْ يَتَقَدَّمَ إلخ مفعول ﴿شَاءَ و المراد بالتقدم و التأخر: الاتباع للحق و مصداقه الإيمان و الطاعة، و عدم الاتباع و مصداقه الكفر و المعصية.

و المعنى: نذيرا لمن اتبع منكم الحق و لمن لم يتبع أي لجميعكم من غير استثناء.

و قيل: ﴿أَنْ يَتَقَدَّمَ في موضع الرفع على الابتداء و ﴿لِمَنْ شَاءَ خبره كقولك لمن توضأ أن يصلي، و المعنى مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر، و هو كقوله. ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ و المراد بالتقدم و التأخر السبق إلى الخير و التخلف عنه انتهى.

قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ الباء بمعنى مع أو للسببية أو للمقابلة و ﴿رَهِينَةٌ

 

 

بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشري قال في الكشاف،: رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله: ﴿كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ لتأنيث النفس لأنه لو قصدت لقيل: رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر و المؤنث، و إنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن. انتهى.

و كان العناية في عد كل نفس رهينة أن لله عليها حق العبودية بالإيمان و العمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتى توفي دينه و تؤدي حقه تعالى فإن آمنت و صلحت فكت و أطلقت، و إن كفرت و أجرمت و ماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائما، و هذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير و شر كما تقدم في قوله تعالى:

﴿كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ: الطور ٢١.

و الآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله: ﴿نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ فإن كون النفس الإنسانية رهينة بما كسبت يوجب على كل نفس أن تتقي النار التي ستحبس فيها إن أجرمت و لم تتبع الحق.

قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَصْحَابَ اَلْيَمِينِ هم الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب و هم أصحاب العقائد الحقة و الأعمال الصالحة من متوسطي المؤمنين، و قد تكرر ذكرهم و تسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى، و على هذا فالاستثناء متصل.

و المتحصل من مجموع المستثنى منه و المستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت و هي نفوس المجرمين، و نفوس مفكوكة من الرهن مطلقة و هي نفوس أصحاب اليمين، و أما السابقون المقربون و هم الذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه و عدهم ثالثة الطائفتين و غيرهما كما في قوله تعالى: ﴿وَ كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً إلى أن قال ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ: الواقعة: ١١، فهؤلاء قد استقروا في مستقر العبودية لا يملكون نفسا و لا عمل نفس فنفوسهم لله و كذلك أعمالهم فلا يحضرون و لا يحاسبون قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ: الصافات: ١٢٨، فهم خارجون عن المقسم رأسا.

و عن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة، و عن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين و عن بعضهم أنهم الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، و عن بعضهم أنهم الذين سبقت

 

 

 لهم من الله الحسنى، و هي وجوه ضعيفة غير خفية الضعف.

قوله تعالى: ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴿فِي جَنَّاتٍ خبر لمبتدإ محذوف و تنوين جنات للتعظيم، و التقدير هم في جنات لا يدرك وصفها، و يمكن أن يكون حالا من أصحاب اليمين.

و قوله: ﴿يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ أي يتساءل جمعهم عن جمع المجرمين.

و قوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ ضمير الجمع للمجرمين، و المراد بالصلاة التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه فلا يضره اختلاف الصلاة كما و كيفا باختلاف الشرائع السماوية الحقة.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ المراد بإطعام المسكين الإنفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم و يرتفع به حاجتهم، و إطعام المسكين إشارة إلى حق الناس عملا كما أن الصلاة إشارة إلى حق الله كذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخَائِضِينَ المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولا أو فعلا و الغور فيه.

قوله تعالى: ﴿وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ و هو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلا أو بعضا، و لما كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحت نسبة الجميع إلى الجميع و إن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض.

قوله تعالى: ﴿حَتَّى أَتَانَا اَلْيَقِينُ قيد للتكذيب، و فسروا اليقين بالموت لكونه مما لا شك فيه فالمعنى و كنا في الدنيا نكذب بيوم الجزاء حتى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنا نكذب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقية يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخية حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ اَلشَّافِعِينَ تقدم في بحث الشفاعة أن في الآية دلالة

 

 

 على أن هناك شافعين يشفعون فيشفعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

[سورة المدثر (٧٤): الآیات ٤٩ الی ٥٦ ]

﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ٤٩ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ٥٠ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ٥١ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتىَ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ٥٢ كَلاَّ بَلْ لاَ يَخَافُونَ اَلْآخِرَةَ ٥٣ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ٥٤ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ٥٥ وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوى‏ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ ٥٦

(بيان)

في معنى الاستنتاج مما تقدم من الوعيد و الوعد أورد في صورة التعجب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفرهم عن الحق الصريح كأنه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحق و يتذكروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كل امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثم يعرض عليهم التذكرة عرضا فهم على خيرة من القبول و الرد فإن شاءوا قبلوا و إن شاءوا ردوا، لكن عليهم أن يعلموا أنهم غير مستقلين في مشيتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتة.

قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ تفريع على ما تقدم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و ﴿لَهُمْ متعلق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و ﴿مُعْرِضِينَ حال من ضمير ﴿لَهُمْ و ﴿عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ متعلق بمعرضين.

 

 

 و المعنى: فإذا كان كذلك فأي شي‏ء كان عرض للمشركين الذين يكذبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدقوا و يؤمنوا لكنهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشية و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسر بكل من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنهم حمر وحشية نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏َ صُحُفاً مُنَشَّرَةً المراد بالصحف المنشرة الكتاب السماوي المشتمل على الدعوة الحقة.

و في الكلام إضراب عما ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرد النفرة بل يريد كل امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنهم إنما يقبلون دعوته و لا يردونها لو دعا كل واحد منهم بإنزال كتاب سماوي إليه مستقلا و أما الدعوة من طريق الرسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقة مؤيدة بالآيات البينة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏َ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ: الأنعام ١٢٤، و في معنى قول الأمم لرسلهم: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا على ما قررنا من حجتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إن الآية في معنى قولهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي حكاه الله في قوله: ﴿وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ: إسراء ٩٣.

و يدفعه أن مدلول الآية أن ينزل على كل واحد منهم صحف منشرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتى

 

 

 يؤمنوا و إلا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعا معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدم.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ لاَ يَخَافُونَ اَلْآخِرَةَ ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماوي على كل واحد منهم فإن دعوة الرسالة مؤيدة بآيات بينة و حجج قاطعة لا تدع ريبا لمرتاب فالحجة تامة قائمة على الرسول و غيره على حد سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كل واحد من الناس المدعوين صحفا منشرة.

على أن الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحية النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏َ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ بقوله: ﴿اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.

و قوله: ﴿بَلْ لاَ يَخَافُونَ اَلْآخِرَةَ إضراب عن قوله: ﴿يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ إلخ، و المراد أن اقتراحهم نزول كتاب على كل امرئ منهم قول ظاهري منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقي لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجة بظهور الآيات البينات.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماوي لكل امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتابا كذلك أن القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعد للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ أي فمن شاء اتعظ به فإنما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوى‏َ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ دفع لما يمكن أن يتوهموه من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ أن الأمر إليهم و أنهم مستقلون في إرادتهم و ما يترتب عليها من أفعالهم فإن لم يشاءوا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصل من الدفع أن حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكرهم إن تذكروا و إن كان فعلا اختياريا صادرا عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشية الإلهية متعلقة به بما هو اختياري بمعنى أن الله تعالى يريد بإرادة تكوينية أن يفعل الإنسان

 

 

 الفعل الفلاني بإرادته و اختياره فالفعل اختياري ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلق الإرادة الإلهية ضروري التحقق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقق.

و قوله: ﴿هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوى‏َ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ أي أهل لأن يتقى منه لأن له الولاية المطلقة على كل شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتقاه لأنه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله: ﴿هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوى‏َ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ صالحة لتعليل ما تقدم من الدعوة في قوله: ﴿إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ و هو ظاهر، و لتعليل قوله: ﴿وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ فإن كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتم إلا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمردهم و استكبارهم.

بحث روائي‏

 في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً و ذلك أنهم قالوا: يا محمد قد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفارته.

فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال: يسألك قومك سنة بني إسرائيل في الذنوب فإن شاءوا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كره ذلك لقومه.

أقول: و القصة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصة.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال : قالوا: إن كان محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً.

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً قال: إلى فلان بن فلان من رب العالمين يصبح عند رأس كل رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

 

 

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتىَ صُحُفاً مُنَشَّرَةً﴾ قال: قد قال قائلون من الناس لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) إن سرك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصة يأمرنا باتباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأن الآية في معنى قوله تعالى:

﴿وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ الآية و قد تقدم ما فيه.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوىَ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ قال: هو أهل أن يتقى و أهل أن يغفر.

 و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل:

﴿هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوىَ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ قال: قال الله عز و جل: أنا أهل أن أتقى و لا يشرك بي عبدي شيئا و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنة.

و قال: إن الله تبارك و تعالى أقسم بعزته و جلاله أن لا يعذب أهل توحيده بالنار.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار قال : سمعت أبا هريرة و ابن عمر و ابن عباس يقولون: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قول الله: ﴿هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوى‏ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ قال: يقول الله: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي شريك فإذا اتقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنه (ص).

***

(٧٥) سورة القيامة مكية و هي أربعون آية (٤٠)

[سورة القيامة (٧٥): الآیات ١ الی ١٥]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ ١ وَ لاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اَللَّوَّامَةِ ٢ أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ٣ بَلى‏ قَادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ٤ بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ٥ يَسْئَلُ

 

 

أَيَّانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ ٦ فَإِذَا بَرِقَ اَلْبَصَرُ ٧ وَ خَسَفَ اَلْقَمَرُ ٨ وَ جُمِعَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ ٩ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ اَلْمَفَرُّ ١٠ كَلاَّ لاَ وَزَرَ ١١ إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمُسْتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُا اَلْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ١٣ بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ١٤ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعَاذِيرَهُ ١٥

(بيان)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أولا ثم تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان أخرى، و ينبئ أن المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون ﴿لاَ أُقْسِمُ كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اَللَّوَّامَةِ إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: إنه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد أقسم بيوم القيامة و لا أقسم بالنفس اللوامة.

و المراد بالنفس اللوامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانية أعم من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنها تلوم الإنسان يوم القيامة أما الكافرة فإنها تلومه على كفره و فجوره، و أما المؤمنة فإنها تلومه على قلة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الذي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر و معصية قال تعالى: ﴿وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ: يونس ٥٤.

و لكل من الأقوال وجه.

 

 

 و جواب القسم محذوف يدل عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثن، و إنما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى: ﴿ثَقُلَتْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً: الأعراف ١٨٧ و قال: ﴿إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزى‏َ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعى‏َ: طه ١٥ و قال: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ: النبأ: ١.

قوله تعالى: ﴿أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ الحسبان‏ الظن، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿بَلى‏َ قَادِرِينَ عَلى‏َ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ أي بلى نجمعها و ﴿قَادِرِينَ حال من فاعل مدخول بلى المقدر، و البنان‏ أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنا قادرون على أن نصور بنانه على صورها التي هي عليها بحسب خلقنا الأول.

و تخصيص البنان بالذكر لعله للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيات التركيب و العدد تترتب عليها فوائد جمة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الرد و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافا إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سر بعد سر.

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئا واحدا من غير تفريق كخف البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئا واحدا فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدم أرجح.

قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ قال الراغب: الفجر شق الشي‏ء شقا واسعا. قال: و الفجور شق ستر الديانة يقال: فجر فجورا فهو فاجر و جمعه فجار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيا، و ضمير ﴿أَمَامَهُ للإنسان.

و قوله: ﴿لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ تعليل ساد مسد معلله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و ﴿بَلْ إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

 

 

 و المعنى: أنه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه أخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرات.

قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ الظاهر أنه بيان لقوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ فيفيد التعليل و أن السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و أنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البينة و قيام الحجج القاطعة أن يتخذ حذره و يتجهز بالإيمان و التقوى و يتهيأ للقاء اليوم قريبا كان أو بعيدا فكل ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيان يوم القيامة؟ فليس إلا سؤال مكذب مستهزئ.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَرِقَ اَلْبَصَرُ وَ خَسَفَ اَلْقَمَرُ وَ جُمِعَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ ذكر جملة من أشراط الساعة، و بريق‏ البصر تحيره في إبصاره و دهشته، و خسوف‏ القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ﴿يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ اَلْمَفَرُّ أي أين موضع الفرار، و قوله: ﴿أَيْنَ اَلْمَفَرُّ مع ظهور السلطنة الإلهية له و علمه بأن لا مفر و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفر إذا وقع في شدة أو هددته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذبا قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ: الأنعام: ٢٣، و قال: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ المجادلة: ١٨.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ ردع عن طلبهم المفر، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ﴿إِلى‏َ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمُسْتَقَرُّ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و تقديم ﴿إِلى‏َ رَبِّكَ و هو متعلق بقوله: ﴿اَلْمُسْتَقَرُّ يفيد الحصر فلا مستقر إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

 

 

 و ذلك أن الإنسان سائر إليه تعالى كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى‏َ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ: الانشقاق: ٦ و قال: ﴿إِنَّ إِلى‏َ رَبِّكَ اَلرُّجْعى‏َ: العلق: ٨ و قال: ﴿وَ أَنَّ إِلى‏َ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى‏َ: النجم: ٤٢، فهو ملاقي ربه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أما الحجاب الذي يشير إليه قوله: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ: المطففين: ١٥ فسياق الآيتين يعطي أن المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقره إليه رجوع أمر ما يستقر فيه من سعادة أو شقاوة و جنة أو نار إلى مشيته تعالى فمن شاء جعله في الجنة و هم المتقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ: المائدة: ٤٠.

و يمكن أن يراد به أن استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: القصص: ٨٨.

قوله تعالى: ﴿يُنَبَّؤُا اَلْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ المراد بما قدم و أخر ما عمله من حسنة أو سيئة في أول عمره و آخره أو ما قدمه على موته من حسنة أو سيئة و ما أخر من سنة حسنة سنها أو سنة سيئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيئات.

و قيل: المراد بما قدم ما عمله من حسنة أو سيئة فيثاب على الأول و يعاقب على الثاني، و بما أخر ما تركه من حسنة أو سيئة فيعاقب على الأول و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدم من المعاصي و ما أخر من الطاعات، و قيل، ما قدم من طاعة الله و أخر من حقه فضيعه، و قيل: ما قدم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ﴿بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلى‏َ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏َ مَعَاذِيرَهُ إضراب عن قوله، ﴿يُنَبَّؤُا اَلْإِنْسَانُ إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطني و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجة كما في قوله تعالى، ﴿مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصَائِرَ: إسراء، ١٠٢ و الإنسان نفسه حجة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلم يداه و رجلاه، قال تعالى:

 

 

﴿إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً: إسراء ٣٦، و قال ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ: حم السجدة، ٢٠. و قال، ﴿وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ: يس: ٦٥.

و قوله: ﴿وَ لَوْ أَلْقى‏َ مَعَاذِيرَهُ المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

(بحث روائي‏)

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اَللَّوَّامَةِ قال: نفس آدم التي عصت فلامها الله عز و جل.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، ":في قوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ قال: يقدم الذنب و يؤخر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه،" :في قوله: ﴿فَإِذَا بَرِقَ اَلْبَصَرُ قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، ":في قوله تعالى: ﴿بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعَاذِيرَهُ قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

 و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال : إني لأتعشى مع أبي عبد الله (عليه السلام) و تلا هذه الآية ﴿بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعَاذِيرَهُ، ثم قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول: من أسر سريرة ألبسه الله رداها إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

و في المجمع، و روى العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يستر سيئا؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه

 

 

ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول: ﴿بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية:.

أقول: و رواه في أصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العباس عنه (عليه السلام). و فيه، عن العياشي عن زرارة قال، سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ قال، ﴿بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ هو أعلم بما يطيق:.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضا.

[سورة القيامة (٧٥): الآیات ١٦ الی ٤٠ ]

﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ١٧ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ١٩ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ ٢٠ وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ ٢١ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ٢٢ إِلى‏ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ٢٣ وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ٢٤ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ٢٥ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ اَلتَّرَاقِيَ ٢٦ وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ ٢٧ وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ ٢٨ وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ ٢٩ إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ ٣٠ فَلاَ صَدَّقَ وَ لاَ صَلَّى ٣١ وَ لَكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ٣٣ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ٣٤ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ٣٥ أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ٣٦ أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏ ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ٣٨ فَجَعَلَ مِنْهُ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثى‏ ٣٩ أَ لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى‏ ٤٠

 

 

(بيان‏)

تتمة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و أخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أن هذا المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثم الإشارة إلى أن الإنسان لا يترك سدى فالذي خلقه أولا قادر على أن يحييه ثانيا و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إلى قوله ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ الذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفها من الآيات المتقدمة و المتأخرة الواصفة ليوم القيامة أنها معترضة متضمن أدبا إلهيا كلف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتأدب به حينما يتلقى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرك به لسانه و ينصت حتى يتم الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏َ إِلَيْكَ وَحْيُهُ: طه: ١١٤.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلم منا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرد للإنصات فيقطع المتكلم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثم يمضي في حديثه.

فقوله: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ الخطاب فيه للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الضميران للقرآن الذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلا فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مر في معنى قوله: ﴿وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ: طه: ١١٤.

و قوله: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ القرآن هاهنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضم بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

 

 

 و قيل: المعنى إن علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحيا فاتبع قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتباع قرآنه اتباعه ذهنا بالإنصات و التوجه التام إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتباع قراءته بالتكرار حتى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثم للتأخير الرتبي لأن البيان مترتب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثم إن علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغير و الزوال حتى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يحرك لسانه عند الوحي بما ألقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و أمر بالإنصات حتى يتم الوحي فضمير ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظرا إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله، ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فذلك كله أظهر فيما تقدم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الذي اختاره أنه لم يرد القرآن، و إنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدل على أنه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخا: لا تعجل و تثبت لتعلم الحجة عليك

 

 

 فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره ثم إن علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أن المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة مما قبلها و ما بعدها عليه على أن مشاكلة قوله: ﴿وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏َ إِلَيْكَ وَحْيُهُ في سياقه لهذه الآيات تؤيد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أن الآيات الأربع متصلة بما تقدم من حديث يوم القيامة، و خطاب ﴿لاَ تُحَرِّكْ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ضمير ﴿بِهِ ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوه بالسؤال عن وقت القيامة أصلا و لو كنت غير مكذب و لا مستهزئ ﴿لِتَعْجَلَ بِهِ أي بالعلم به ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي إذا قرأنا ما يتعلق به فاتبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخصا و هو كما ترى.

و قد تقدم في تفسير قوله: ﴿وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ إن هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيد ما ورد في الروايات أن للقرآن نزولا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دفعة غير نزوله تدريجا.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأن خطاب ﴿لاَ تُحَرِّكْ اعتراضي غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله: ﴿كَلاَّ ردع عن قوله السابق: ﴿يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ و قوله:

﴿بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا - ﴿وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ.

قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‏َ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظرا إلى ما يقابله من قوله: ﴿وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة و البشاشة قال تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ

 

 

 اَلنَّعِيمِ: المطففين: ٢٤، و قال: ﴿وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً: الدهر: ١١.

و قوله: ﴿إِلى‏َ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ خبر بعد خبر لوجوه، و ﴿إِلى‏َ رَبِّهَا متعلق بناظرة قدم عليها لإفادة الحصر أو الأهمية.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة (عليه السلام) و قد أوردنا شطرا منها في ذيل تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ: الأعراف:

 ١٤٣، و قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏َ: النجم: ١١.

فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفا من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلا و الرحمة الإلهية شاملة لهم ﴿وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ: النمل: ٨٩ و لا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة و لا يتنعمون بشي‏ء من نعيمها إلا و هم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عما أورد على القول بأن تقديم ﴿إِلى‏َ رَبِّهَا على ﴿نَاظِرَةٌ يفيد الحصر و الاختصاص، إن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة.

و الجواب أ لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه إنما هو بما أنه آية، و الآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم.

و أما ما أجيب به عنه أن تقديم ﴿إِلى‏َ رَبِّهَا لرعاية الفواصل و لو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظرا، و لو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنة إلى ربهم دائما من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ﴿وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ فسر البسور بشدة

 

 

 العبوس و الظن بالعلم و ﴿فَاقِرَةٌ صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم أنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظن خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أنه سامع و الظن بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ اَلتَّرَاقِيَ ردع عن حبهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربكم و فاعل ﴿بَلَغَتِ محذوف يدل عليه السياق كما في قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ الواقعة: ٨٣ و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي‏ العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟ قوله تعالى: ﴿وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه الأحوال أنه مفارقته للعاجلة التي كان يحبها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ﴿وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ ظاهره أن المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدة هول المطلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إن المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد أخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كل من المعاني.

قوله تعالى: ﴿إِلى‏َ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ المساق‏ مصدر ميمي بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنه الرجوع إليه، و عبر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسير من يوم موته و هو قوله، ﴿إِلى‏َ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ حتى يرد على ربه يوم القيامة و هو قوله: ﴿إِلى‏َ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمُسْتَقَرُّ

 

 

و لو كان تقديم ﴿إِلى‏َ رَبِّكَ لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم ﴿إِلى‏َ رَبِّكَ لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربك و هو الجنة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدم.

قوله تعالى: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَ لاَ صَلَّى وَ لَكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏َ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله: ﴿أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ إلخ، و المراد بالتصديق المنفي تصديق الدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفية التوجه العبادي إليه تعالى بالصلاة التي هي عمود الدين.

و التمطي على ما في المجمع، تمدد البدن من الكسل و أصله أن يلوي مطاه أي ظهره، و المراد بتمطيه في ذهابه التبختر و الاختيال استعارة.

و المعنى: فلم يصدق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد و لم يصل لربه أي لم يتبعها فيما فيها من الفروع و ركنها الصلاة و لكن كذب بها و تولى عنها ثم ذهب إلى أهله يتبختر و يختال مستكبرا.

قوله تعالى: ﴿أَوْلى‏َ لَكَ فَأَوْلى‏َ ثُمَّ أَوْلى‏َ لَكَ فَأَوْلى‏َ لا ريب أنه كلمة تهديد كررت لتأكيد التهديد، و لا يبعد و الله أعلم أن يكون قوله: ﴿أَوْلى‏َ لَكَ خبرا لمبتدإ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان و هو أنه لم يصدق و لم يصل و لكن كذب و تولى ثم ذهب إلى أهله متبخترا مختالا، و إثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة و العقاب.

فيكون الكلام و هي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان و التقوى و كتب عليه أنه من أصحاب النار، و الآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتَالُ رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَأَوْلى‏َ لَهُمْ: سورة محمد ٢٠.

و المعنى: ما أنت عليه من الحال أولى و أرجح لك فأولى ثم أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك و يأخذك ما أعد لك من العذاب.

و قيل: أولى لك اسم فعل مبني و معناه وليك شر بعد شر.

و قيل: أولى فعل ماض دعائي من الولي بمعنى القرب و فاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك و اللام مزيدة و المعنى أولاك الهلاك.

 

 

 و قيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى و اللام مزيدة، و المعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة و المعنى أدناك الله مما تكرهه.

و قيل: معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف و كثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره.

و قيل: المعنى أهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر و هلاك.

و قيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، و خبر لمبتدإ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها و أهل لها فأولى.

و هي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلف و الوجه الأخير قريب مما قدمنا و ليس به.

قوله تعالى: ﴿أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله: ﴿أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ.

و الاستفهام للتوبيخ، و السدي‏ المهمل، و المعنى أ يظن الإنسان أن يترك مهملا لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت و لازمه أن لا يكلف و لا يجزى.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏َ اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، و إمناء المني صبه في الرحم.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى أي ثم كان الإنسان أو المني قطعة من دم منعقد فقدره فصوره بالتعديل و التكميل.

قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثى‏َ أي فجعل من الإنسان الصنفين:

الذكر و الأنثى.

قوله تعالى: ﴿أَ لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلى‏َ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى‏َ احتجاج على البعث الذي ينكرونه استبعادا له بعموم القدرة و ثبوتها على الخلق الابتدائي و الإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، و قد تقدم الكلام في تقريب هذه الحجة في تفسير الآيات المتعرضة لها مرارا.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف و الطبراني و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يعالج

 

 

 من التنزيل شدة، و كان يحرك به لسانه و شفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ قال: إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ يقول: إذا أنزلناه عليك ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فاستمع له و أنصت ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ بينه بلسانك، و في لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق و في لفظ استمع فإذا ذهب قرأ كما وعده الله. و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا أنزل عليه القرآن تعجل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ.

و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يعلم ختم سورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. أقول: و روي ما في معنى صدر الحديث في المجمع، عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الروايات، و قد تقدم أن في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.

و في تفسير القمي، :قوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ قال: الدنيا الحاضرة ﴿وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ قال: تدعون ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ أي مشرقة ﴿إِلى‏ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله و نعمته.

 و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى الرضا (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها:.

أقول: و رواه في التوحيد، و الاحتجاج، و المجمع، عن علي (عليه السلام)، و قد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأن الانتظار لا يتعدى بإلى بل هو متعد بنفسه، و رد عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر:

و إذا نظرت إليك من ملك *** و البحر دونك جدتني نعما

و قول الآخر:

إني إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغني الموسر

 و عد في الكشاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالا كنائيا و هو معنى حسن.

 

 

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و الآجري في الشريعة و الدارقطني في الرؤية و الحاكم و ابن مردويه و اللالكائي في السنة و البيهقي عن ابن عمر قال *: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن أدنى أهل الجنة منزلا لمن ينظر إلى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشية.

ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ قال: البياض و الصفاء ﴿إِلى‏ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قال: ينظر كل يوم في وجهه. أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الذي أوردناه في تفسير الآية، و مع الغض عنه تقبل الحمل على رحمته و فضله و كرمه تعالى و سائر صفاته الفعلية فإن وجه الشي‏ء ما يستقبل به الشي‏ء غيره و ما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمة فالنظر إلى رحمة الله و فضله و كرمه و صفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قول الله.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية و لا حد محدود و لا صفة معلومة. أقول: و الرواية تؤيد ما قدمنا في تفسير الآية أن المراد به النظر القلبي و رؤية القلب دون العين الحسية، و هي تفسر ما ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة مما ظاهره التشبيه و أن الرؤية بالعين الحسية التي لا تفارق المحدودية.

و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ اَلتَّرَاقِيَ قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة ﴿وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ قال: يقال له: من يرقيك ﴿وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ علم أنه الفراق

و في الكافي، بإسناده إلى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عز و جل ﴿وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ قال: فإن ذلك ابن آدم إذا حل به الموت قال: هل من طبيب ﴿وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ أيقن بمفارقة الأحبة ﴿وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ قال:

التفت الدنيا بالآخرة ﴿إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ قال: المسير إلى رب العالمين. و في تفسير القمي،" : ﴿وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ قال: التفت الدنيا بالآخرة ﴿إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ قال: يساقون إلى الله.

 

 

 و في العيون، بإسناده عن عبد العظيم الحسني قال، سألت محمد بن علي الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل، ﴿أَوْلىَ لَكَ فَأَوْلىَ ثُمَّ أَوْلىَ لَكَ فَأَوْلىَ قال: يقول الله عز و جل بعدا لك من خير الدنيا و بعدا لك من خير الآخرة.

 أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدمناه من معنى الآيتين، و كذا إلى بعض ما قيل فيه.

 و في المجمع، و جاءت الرواية: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فقال أبو جهل: بأي شي‏ء تهددني لا تستطيع أنت و ربك أن تفعلا بي شيئا، و إني لأعز أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .

أقول: و روي ما في معناه في الدر المنثور، عن عدة عن قتادة قال *: ذكر لنا و ساق الحديث.

و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً قال: لا يحاسب و لا يعذب و لا يسأل عن شي‏ء.

و في العلل، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال : قال رجل لجعفر بن محمد (عليه السلام)، يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يا ابن أخ خلقنا للبقاء، و كيف يفنى جنة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن قل: إنما نتحول من دار إلى دار.

 و في المجمع، و جاء في الحديث عن البراء عن عازب قال : لما نزلت هذه الآية ﴿أَ لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى‏ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : سبحانك اللهم و بلى: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

 أقول: و روي في الدر المنثور، عن أبي هريرة و غيره: أنه (ص) إذا قرأ الآية قال :

سبحانك اللهم و بلى‏، و كذا- في العيون، عن الرضا (عليه السلام): أنه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللهم بلى.

 

 

(٧٦) سورة الدهر مدنية و هي إحدى و ثلاثون آية (٣١)

[سورة الإنسان (٧٦): الآیات ١ الی ٢٢ ]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ١ إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ٢ إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ٣ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَ أَغْلاَلاً وَ سَعِيراً ٤ إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ٥ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ٦ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ٧ وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ٨ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً ٩ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ١٠ فَوَقَاهُمُ اَللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اَلْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ١١ وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ١٢ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى اَلْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَ لاَ زَمْهَرِيراً ١٣ وَ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ١٤ وَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ١٥ قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ١٦ وَ يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً ١٧ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ١٨ وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ١٩ وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ٢٠

 

 

عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ٢١ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ٢٢

(بيان‏)

تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئا مذكورا ثم هدايته السبيل إما شاكرا و إما كفورا و أن الله اعتد للكافرين أنواع العذاب و للأبرار ألوان النعم و قد فصل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية و هو الدليل على أنه المقصود بالبيان .

ثم تذكر مخاطبا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن القرآن تنزيل منه تعالى عليه و تذكرة فليصبر لحكم ربه و لا يتبع الناس في أهوائهم و ليذكر اسم ربه بكرة و عشيا و ليسجد له من الليل و ليسبحه ليلا طويلا.

و السورة مدنية بتمامها أو صدرها و هي اثنتان و عشرون آية من أولها مدني، و ذيلها و هي تسع آيات من آخرها مكي و قد أطبقت روايات أهل البيت (عليه السلام) على كونها مدنية، و استفاضت بذلك روايات أهل السنة.

و قيل بكونها مكية بتمامها، و سيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى. ﴿هَلْ أَتى‏َ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة و تحققه أي قد أتى على الإنسان «إلخ» و لعل هذا مراد من قال من قدماء المفسرين: إن ﴿هَلْ في الآية بمعنى قد، لا على أن ذلك أحد معاني «هل» كما ذكره بعضهم.

و المراد بالإنسان الجنس. و أما قول بعضهم: إن المراد به آدم (عليه السلام) فلا يلائمه قوله في الآية التالية: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ.

و الحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، و الدهر الزمان الممتد من دون تحديد ببداية أو نهاية.

و قوله: ﴿شَيْئاً مَذْكُوراً أي شيئا يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلا الأرض و السماء و البر و البحر و غير ذلك و لا يذكر الإنسان لأنه لم يوجد بعد حتى وجد

 

 

 فقيل: الإنسان فكونه مذكورا كناية عن كونه موجودا بالفعل فالنفي في قوله: ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً متوجه إلى كونه شيئا مذكورا لا إلى أصل كونه شيئا فقد كان شيئا و لم يكن شيئا مذكورا و يؤيده قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ إلخ فقد كان موجودا بمادته و لم يتكون بعد إنسانا بالفعل و الآية و ما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبين بها أن الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه و خالق يخلقه، و قد خلقه ربه و جهزه التدبير الربوبي بأدوات الشعور من السمع و البصر يهتدي بها إلى السبيل الحق الذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم و إن شكر فإلى نعيم مقيم.

و المعنى هل أتى قد أتى على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتد غير المحدود و الحال أنه لم يكن موجودا بالفعل مذكورا في عداد المذكورات.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الذي يتكون منه مثله، و أمشاج‏ جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث.

و الابتلاء نقل الشي‏ء من حال إلى حال و من طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنه يخلق النطفة فيجعلها علقة و العلقة مضغة إلى آخر الأطوار التي تتعاقبها حتى ينشئه خلقا آخر.

و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً على الابتلاء و لو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعا بصيرا لا بالعكس، و الجواب عنه بأن في الكلام تقديما و تأخيرا و التقدير إنا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، لا يصغي إليه.

و قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً سياق الآيات و خاصة قوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إلخ يفيد أن ذكر جعله سميعا بصيرا للتوسل به في التدبير الربوبي إلى غايته و هي أن يرى آيات الله الدالة على المبدإ و المعاد و يسمع كلمة الحق التي تأتيه من جانب ربه بإرسال الرسل و إنزال الكتب فيدعوه البصر و السمع إلى سلوك سبيل الحق و السير في مسير الحياة بالإيمان و العمل الصالح فإن لزم السبيل الذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد و إلا فإلى عذاب مخلد.

 

 

 و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه تسجيل أنه تعالى هو خالقه و مدبر أمره.

و المعنى: إنا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة و الحال أنا ننقله من حال إلى حال و من طور إلى طور فجعلناه سميعا بصيرا ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهية، و يبصر الآيات الإلهية الدالة على وحدانيته تعالى و النبوة و المعاد.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب و المراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة و هو المؤدي إلى الغاية المطلوبة و هو سبيل الحق.

و الشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها و قد تقدم في تفسير قوله تعالى:

﴿وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ: آل عمران: ١٤٤ إن حقيقة كون العبد شاكرا لله كونه مخلصا لربه، و الكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم.

و قوله: ﴿إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً حالان من ضمير ﴿هَدَيْنَاهُ لا من ﴿اَلسَّبِيلَ كما قاله بعضهم، و ﴿إِمَّا يفيد التقسيم و التنويع أي إنا هديناه السبيل حال كونه منقسما إلى الشاكر و الكفور أي أنه مهدي سواء كان كذا أو كذلك.

و التعبير بقوله: ﴿إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً هو الدليل أولا: على أن المراد بالسبيل السنة و الطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا و الآخرة و تسوقه إلى كرامة القرب و الزلفى من ربه و محصله الدين الحق و هو عند الله الإسلام.

و به يظهر أن تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد.

و ثانيا: أن السبيل المهدي إليه سبيل اختياري و أن الشكر و الكفر اللذين يترتبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقر الاختيار للإنسان أن يتلبس بأيهما شاء من غير إكراه و إجبار كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ: عبس: ٢٠، و ما في آخر السورة من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‏َ رَبِّهِ سَبِيلاً وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ إنما يفيد تعلق مشيته تعالى بمشية العبد لا بفعل العبد الذي تعلقت به مشية العبد حتى يفيد نفي تأثير مشية العبد المتعلقة بفعله، و قد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مرارا.

 

 

 و الهداية التي هي نوع إيذان و إعلام منه تعالى للإنسان هداية فطرية هي تنبيه بسبب نوع خلقته و ما جهز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حق الاعتقاد و صالح العمل قال تعالى: ﴿وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا: الشمس: ٨ و أوسع مدلولا منه قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ: الروم: ٣٠.

و هداية قولية من طريق الدعوة يبعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع الإلهية، و لم يزل التدبير الربوبي تدعم الحياة الإنسانية بالدعوة الدينية القائم بها أنبياؤه و رسله، و يؤيد بذلك دعوة الفطرة كما قال: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى‏َ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ إلى أن قال ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ: النساء: ١٦٥.

و من الفرق بين الهدايتين أن الهداية الفطرية عامة بالغة لا يستثني منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانية و هي في الأفراد بالسوية غير أنها ربما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل و أسباب تشغل الإنسان و تصرفه عن التوجه إلى ما يدعو إليه عقله و يهديه إليه فطرته أو ملكات و أحوال رديئة سيئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد و اللجاج و ما يشبه ذلك قال تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى‏َ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏َ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏َ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللَّهِ: الجاثية: ٢٣، و الهداية المنفية في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله: ﴿وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى‏َ عِلْمٍ.

و أما الهداية القولية و هي التي تتضمنها الدعوة الدينية فإن من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحق على الباطل و أما بلوغها لكل واحد واحد منهم فإن العلل و الأسباب التي يتوسل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف و الأزمنة و البيئات من الاختلاف و كيف يمكن لإنسان أن يدعو كل إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذر ذلك جدا.

و إلى المعنى الأول أشار تعالى بقوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ: فاطر: ٢٤، و إلى الثاني بقوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ: يس: ٦.

فمن بلغته الدعوة و انكشف له الحق فقد تمت عليه الحجة و من لم تبلغه الدعوة بلوغا ينكشف به له الحق فقد أدركه الفضل الإلهي بعده مستضعفا أمره إلى الله إن يشأ يغفر

 

 

 له و إن يشأ يعذبه قال تعالى: ﴿إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً: النساء: ٩٨.

ثم من الدليل على أن الدعوة الإلهية و هي الهداية إلى السبيل حق يجب على الإنسان أن يتبعها فطرة الإنسان و خلقته المجهزة بما يهدي إليها من الاعتقاد و العمل، و وقوع الدعوة خارجا من طريق النبوة و الرسالة فإن سعادة كل موجود و كماله في الآثار و الأعمال التي تناسب ذاته و تلائمها بما جهزت به من القوى و الأدوات فسعادة الإنسان و كماله في اتباع الدين الإلهي الذي هو سنة الحياة الفطرية و قد حكم به العقل و جاءت به الأنبياء و الرسل عليهم السلام.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَ أَغْلاَلاً وَ سَعِيراً الاعتاد التهيئة، و سلاسل‏ جمع سلسلة و هي القيد الذي يقاد به المجرم، و أغلال‏ جمع غل بالضم قيل هي القيد الذي يجمع اليدين على العنق، و قال الراغب: فالغل مختص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه. انتهى. و السعير النار المشتعلة، و المعنى ظاهر.

و الآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله: ﴿إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً و قدم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً الكأس‏ إناء الشراب إذا كان فيه شراب، و المزاج‏ ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، و الكافور معروف يضرب به المثل في البرودة و طيب الرائحة، و قيل: هو اسم عين في الجنة.

و الأبرار جمع بر بفتح الباء صفة مشبهة من البر و هو الإحسان و يتحصل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعا يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنه خير لا لأن فيه نفعا يرجع إلى نفسه و إن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مر مخالفة نفسه فيما يريده و يعمل العمل لأنه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأن فيه خيرا لغيره كإطعام الطعام للمستحقين من عباد الله.

و إذ لا خير في عمل و لا صلاح إلا بالإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر كما قال تعالى:

﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللَّهُ أَعْمَالَهُمْ: الأحزاب: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات.

فالأبرار مؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر، و إذ كان إيمانهم إيمان رشد و بصيرة فهم يرون أنفسهم عبيدا مملوكين لربهم، له خلقهم و أمرهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا

 

 

عليهم أن لا يريدوا إلا ما أراده ربهم و لا يفعلوا إلا ما يرتضيه فقدموا إرادته على إرادة أنفسهم و عملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه و تحبه و كلفة الطاعة، و عملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبودية في مرحلة العمل لله سبحانه.

و هذه الصفات هي التي عرف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله: ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ و قوله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ و قوله: ﴿وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا و هي المستفادة من قوله في صفتهم: ﴿لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الخ: البقرة: ١٧٧ و قد مر بعض الكلام في معنى البر في تفسير الآية و سيأتي بعضه في قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ: المطففين: ١٨.

و الآية أعني قوله: ﴿إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ إلخ المبين لحال الكافرين في الآخرة، تبين حال الأبرار في الآخرة في الجنة، و أنهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور باردا طيب الرائحة.

قوله تعالى. ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴿عَيْناً منصوب بنزع الخافض و التقدير من عين أو بالاختصاص و التقدير أخص عينا، و الشرب على ما قيل يتعدى بنفسه و بالباء فشرب بها و شربها واحد، و التعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحليهم بحلية العبودية و قيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح.

و تفجير العين‏ شق الأرض لإجرائها، و ينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأن نعم الجنة لا تحتاج في تحققها و التنعم بها إلى أزيد من مشية أهلها قال تعالى:

﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا: ق: ٣٥.

و الآيتان - كما تقدمت الإشارة إليه تصفان تنعم الأبرار بشراب الجنة في الآخرة، و بذلك فسرت الآيتان.

و لا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر و إطعام الطعام لوجه الله، و أن أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجرونها بأعمالهم الصالحة و ستظهر لهم بحقيقتها في جنة الخلد و إن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ: يس: ٨.

 

 

 و يؤيد ذلك ظاهر قوله ﴿يَشْرَبُونَ و ﴿يَشْرَبُ بِهَا و لم يقل: سيشربون و سيشرب بها، و وقوع قوله: يشربون و يوفون و يخافون و يطعمون متعاقبة في سياق واحد، و ذكر التفجير في قوله: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً الظاهر في استخراج العين و إجرائها بالتوسل بالأسباب.

و لهم في مفردات الآيتين و إعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها.

قوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا و انتشر في الأقطار غاية الانتشار و هو أبلغ من طار كما قيل: يقال:

استطار الحريق و استطار الفجر إذا اتسعا غايته، و المراد باستطارة شر اليوم و هو يوم القيامة بلوغ شدائده و أهواله و ما فيه من العذاب غايته.

و المراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، و قول القائل: إن المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتباع الشارع في جميع ما شرعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلى‏َ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ضمير ﴿عَلى‏َ حُبِّهِ للطعام على ما هو الظاهر، و المراد بحبه توقان النفس إليه لشدة الحاجة، و يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا اَلْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ: آل عمران: ٩٢.

و قيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبا لله لا طمعا في الثواب، و يدفعه أن قوله تعالى حكاية منهم: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ يغني عنه.

و يليه في الضعف ما قيل: إن الضمير للإطعام المفهوم من قوله: ﴿وَ يُطْعِمُونَ وجه الضعف أنه إن أريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حب الإطعام في نفسه فضل حتى يمدحوا به، و إن أريد به كون الإطعام بطيب النفس و عدم التكلف فهو خلاف الظاهر، و رجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر.

و المراد بالمسكين و اليتيم معلوم، و المراد بالأسير ما هو الظاهر منه و هو المأخوذ من أهل دار الحرب.

و قول بعضهم: إن المراد به أسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب

 

 

 بأيدي الكفار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كل ذلك تكلف من غير دليل يدل عليه.

و الذي يجب أن يتنبه له أن سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوما من المؤمنين تسميهم الأبرار و تكشف عن بعض أعمالهم و هو الإيفاء بالنذر و إطعام مسكين و يتيم و أسير و تمدحهم و تعدهم الوعد الجميل.

فما تشير إليه من القصة سبب النزول، و ليس سياقها سياق فرض موضوع و ذكر آثارها الجميلة، ثم الوعد الجميل عليها، ثم إن عد الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنية فإن الأسر إنما كان بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ظهور الإسلام على الكفر و الشرك لا قبلها.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً وجه الشي‏ء هو ما يستقبل به غيره، و وجهه تعالى صفاته الفعلية الكريمة التي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق و التدبير و الرزق و بالجملة الرحمة العامة التي بها قيام كل شي‏ء، و معنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله و طلب مرضاته بالاقتصار على ذلك و الإعراض عما عند غيره من الجزاء المطلوب، و لذا ذيلوا قولهم:

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ بقولهم ﴿لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً.

و وراء ذلك صفاته الذاتية الكريمة التي هي المبدأ لصفاته الفعلية و لما يترتب عليها من الخير في العالم، و مرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبا لله لأنه الجميل على الإطلاق، و إن شئت فقل: عبادته تعالى لأنه أهل للعبادة.

و ابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله: ﴿وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ: الكهف:

 ٢٨، و قوله: ﴿وَ مَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ اَللَّهِ: البقرة: ٢٧٢، و في هذا المعنى قوله:

﴿وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ: البينة: ٥، و قوله: ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ: المؤمن: ٦٥، و قوله: ﴿أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ: الزمر: ٣.

و قوله: ﴿لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا، و يعم الفعل و القول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملا لا لسانا.

 

 

 و الشكر و الشكور ذكر النعمة و إظهارها قلبا أو لسانا أو عملا، و المراد به في الآية و قد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لسانا.

و الآية أعني قوله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين و اليتيم و الأسير إما بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول و كيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المن و الأذى، و إما بلسان الحال و هو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً عد اليوم و هو يوم القيامة عبوسا من الاستعارة، و المراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدته، و القمطرير الصعب الشديد على ما قيل.

و الآية في مقام التعليل لقولهم المحكي: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ إلخ ينبهون بقولهم هذا أن قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصا للعبودية لمخافتهم ذاك اليوم الشديد، و لم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتى نسبوه نحوا من النسبة إلى ربهم فقالوا: ﴿نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً إلخ لأنهم لما لم يريدوا إلا وجه ربهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره و إنما يخافون و يرجون ربهم فلا يخافون يوم القيامة إلا لأنه من ربهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها.

و أما قوله قبلا: ﴿وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإن الواصف فيه هو الله سبحانه و قد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلا حيث قال:

﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ إلخ.

و بالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبودية لازمة للإنسان لا تفارقه و إن بلغ ما بلغ قال تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ: الغاشية: ٢٦.

قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اَللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اَلْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً الوقاية الحفظ و المنع من الأذى و لقي‏ بكذا يلقيه أي استقبله به و النضرة البهجة و حسن اللون و السرور مقابل المساءة و الحزن.

و المعنى: فحفظهم الله و منع عنهم شر ذلك اليوم و استقبلهم بالنضرة و السرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ: القيامة: ٢٢.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة و على الطاعة و عن المعصية فإنهم ابتغوا في الدنيا وجه ربهم و قدموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم و أراده من المحن و مصائب الدنيا في حقهم، و صبروا على امتثال ما أمرهم به و صبروا على ترك ما نهاهم عنه و إن كان مخالفا لأهواء أنفسهم فبدل الله ما لقوه من المشقة و الكلفة نعمة و راحة.

قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى اَلْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَ لاَ زَمْهَرِيراً الأرائك‏ جمع أريكة و هو ما يتكأ عليه، و الزمهرير البرد الشديد، و المعنى حال كونهم متكئين في الجنة على الأرائك لا يرون فيها شمسا حتى يتأذوا بحرها و لا زمهريرا حتى يتأذوا ببرده.

قوله تعالى: ﴿وَ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً الظلال‏ جمع ظل، و دنو الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكان الدنو مضمن معنى الانبساط و قطوف‏ جمع قطف بالكسر فالسكون و هو الثمرة المقطوفة المجتناة، و تذليل القطوف لهم جعلها مسخرة لهم يقطفونها كيف شاءوا من غير مانع أو كلفة.

قوله تعالى: ﴿وَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء و هو الوعاء، و أكواب‏ جمع كوب و هو إناء الشراب الذي لا عروة له و لا خرطوم و المراد طواف الولدان المخلدين عليهم بالآنية و أكواب الشراب كما سيأتي في قوله: ﴿وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ الآية.

قوله تعالى: ﴿قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً بدل من قوارير في الآية السابقة، و كون القوارير من فضة مبني على التشبيه البليغ أي إنها في صفاء الفضة و إن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل. و احتمل أن يكون بحذف مضاف و التقدير من صفاء الفضة.

و ضمير الفاعل في ﴿قَدَّرُوهَا للأبرار و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب كونها على ما شاءوا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد و لا تنقص كما قال تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا : ق: ٣٥ و قد قال تعالى قبل: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾.

و يحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً قيل: إنهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك و زنجبيل الجنة أطيب و ألذ.

قوله تعالى: ﴿عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً أي من عين أو التقدير أعني أو أخص عينا.

قال الراغب: و قوله: ﴿سَلْسَبِيلاً أي سهلا لذيذا سلسا حديد الجرية.

قوله تعالى: ﴿وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء و صباحة المنظر، و قيل: أي مقرطون بخلدة و هي ضرب من القرط.

و المراد بحسبانهم لؤلؤا منثورا أنهم في صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و انعكاس أشعة بعضهم على بعض و انبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ﴿ثَمَّ ظرف مكان ممحض في الظرفية، و لذا قيل: إن معنى ﴿رَأَيْتَ الأول: رميت ببصرك، و المعنى و إذا رميت ببصرك ثم يعني الجنة رأيت نعيما لا يوصف و ملكا كبيرا لا يقدر قدره.

و قيل: ﴿ثَمَّ صلة محذوفة الموصول و التقدير و إذا رأيت ما ثم من النعيم و الملك، و هو كقوله: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾: الأنعام: ٩٤ و الكوفيون من النحاة يجوزون حذف الموصول و إبقاء الصلة و إن منعه البصريون منهم.

قوله تعالى: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ إلخ الظاهر أن ﴿عَالِيَهُمْ حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و ﴿ثِيَابُ فاعله، و السندس كما قيل ما رق نسجه من الحرير، و الخضر صفة ثياب و الإستبرق‏ ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، و هو معرب كالسندس.

و قوله: ﴿وَ حُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ التحلية التزيين، و أساور جمع سوار و هو معروف، و قال الراغب: هو معرب دستواره.

و قوله: ﴿وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً أي بالغا في التطهير لا تدع قذارة إلا أزالها و من القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه و الاحتجاب عن التوجه إليه فهم غير محجوبين عن ربهم و لذا كان لهم أن يحمدوا ربهم كما قال: ﴿وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ يونس: ١٠ و قد تقدم في تفسير سورة الحمد إن الحمد وصف لا يصلح له إلا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ: الصافات: ١٦٠.

 

 

 و قد أسقط تعالى في قوله: ﴿وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ الوسائط كلها و نسب سقيهم إلى نفسه، و هذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنة، و لعله من المزيد المذكور في قوله: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ: ق: ٣٥.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً حكاية ما يخاطبون به من عنده تعالى عند توفيته أجرهم أو بحذف القول و التقدير و يقال لهم: إن هذا كان لكم جزاء «إلخ».

و قوله: ﴿وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إنشاء شكر لمساعيهم المرضية و أعمالهم المقبولة، و يا لها من كلمة طيبة تطيب بها نفوسهم.

و اعلم أنه تعالى لم يذكر فيما ذكر من نعيم الجنة في هذه الآيات نساء الجنة من الحور العين و هي من أهم ما يذكره عند وصف نعم الجنة في سائر كلامه و يمكن أن يستظهر منه أنه كانت بين هؤلاء الأبرار الذين نزلت فيهم الآيات من هي من النساء.

و قال في روح المعاني،: و من اللطائف على القول بنزول السورة فيهم يعني في أهل البيت إنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين و إنما صرح عز و جل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول و قرة عين الرسول، انتهى.

(بحث روائي)

في إتقان السيوطي، عن البيهقي في دلائل النبوة بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن قالا ":أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك و ن و المزمل إلى أن قالا و ما نزل بالمدينة ويل للمطففين، و البقرة، و آل عمران، و الأنفال، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إذا زلزلت، و الحديد، و محمد، و الرعد، و الرحمن، و هل أتى على الإنسان. الحديث.

و فيه، عن ابن الضريس في فضائل القرآن بإسناده عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال : كان إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء.

و كان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل إلى أن قال

 

 

ثم أنزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ثم الرحمن ثم الإنسان. الحديث.

و فيه، عن البيهقي في الدلائل بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال : إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك، و ذكر مثل حديث عكرمة و الحسين و فيه ذكر ثلاث من السور المكية التي سقطت من روايتهما و هي الفاتحة و الأعراف و كهيعص.

و في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس و ابن مردويه و البيهقي عن ابن عباس قال:

نزلت سورة الإنسان بالمدينة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ الآية قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .

أقول: الآية تشارك سائر آيات صدر السورة مما تقدم عليها أو تأخر عنها في سياق واحد متصل فنزولها فيهما (عليه السلام) لا ينفك نزولها جميعا بالمدينة.

 و في الكشاف،: و عن ابن عباس: أن الحسن و الحسين مرضا فعادهما رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك (ولديك ظ) فنذر علي و فاطمة و فضة جارية لهما إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا و ما معهم شي‏ء.

فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا و اختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل و قال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه و باتوا لم يذوقوا إلا الماء و أصبحوا صياما.

فلما أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، و وقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.

فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها[2] ببطنها و غارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل و قال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة:

 

 

 

أقول: الرواية مروية بغير واحد من الطرق عن عطاء عن ابن عباس و نقلها البحراني في غاية المرام، عن أبي المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل أمير المؤمنين بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و عنه بإسناد آخر عن الضحاك عن ابن عباس و عن الحمويني في كتاب فرائد السمطين بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و عن الثعلبي بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس، و رواه في المجمع، عن الواحدي في تفسيره. و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب أنه قال سألت النبي عن ثواب القرآن: فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء.

فأول ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب ثم اقرأ باسم ربك، ثم ن إلى أن قال و أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم سورة محمد ثم الرعد ثم سورة الرحمن ثم هل أتى. الحديث.

و فيه، عن أبي حمزة الثمالي في تفسيره قال : حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن :أنها مدنية نزلت في علي و فاطمة السورة كلها.

 و في تفسير القمي، عن أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان عند فاطمة (عليه السلام) شعير فجعلوه عصيدة [3]فلما أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه ثلثا فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال: الأسير رحمكم الله فأعطاه علي (عليه السلام) الثلث و ما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم و هي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز و جل.

 أقول: القصة كما ترى ملخصة في الرواية و روى ذلك البحراني في غاية المرام، عن المفيد في الاختصاص، مسندا و عن ابن بابويه في الأمالي، بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و بإسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام)، و عن محمد بن العباس بن ماهيار في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيري عن عبد الله بن عباس، و في المناقب، أنه مروي عن الأصبغ بن نباتة.

 

 

 

و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام): في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب:

نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه و في ولده ﴿إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً إلى آخر السورة غيري؟ قالوا: لا. و في كتاب الخصال، في احتجاج علي على أبي بكر قال: أنشدك بالله أنا صاحب الآية ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أم أنت؟ قال: بل أنت. و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : سل و استفهم فقال:

يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان و الصور و النبوة أ فرأيت إن آمنت بما آمنت به و عملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنة؟ قال: نعم و الذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام. ثم قال: من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله و من قال: سبحان الله و بحمده كتبت له مائة ألف حسنة و أربعة و عشرون ألف حسنة - و نزلت عليه السورة ﴿هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ إلى قوله: ﴿مُلْكاً كَبِيراً.

فقال الحبشي: و إن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال: نعم فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال عمر: فلقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يدليه في حفرته بيده. و فيه، أخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال : حدثني الثقة: أن رجلا أسود كان يسأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن التسبيح و التهليل فقال له عمر بن الخطاب: مه أكثرت على رسول الله فقال: مه يا عمر و أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿هَلْ أَتى‏ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : مات شوقا إلى الجنة. و فيه، أخرج ابن وهب عن ابن زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ هذه السورة ﴿هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ و قد أنزلت عليه و عنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة. أقول: و هذه الروايات الثلاث على تقدير صحتها لا تدل على أزيد من كون نزول السورة مقارنا لقصة الرجل و أما كونها سببا للنزول فلا، و هذا المعنى في الرواية الأخيرة أظهر و بالجملة لا تنافي الروايات الثلاث نزول السورة في أهل البيت (عليه السلام).

 

 

 على أن رواية ابن عمر للقصة الظاهرة في حضوره القصة و قد هاجر إلى المدينة و هو ابن إحدى عشرة سنة من شواهد وقوع القصة بالمدينة.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة الإنسان بمكة.

أقول: هو تلخيص حديث طويل أورده النحاس في كتاب الناسخ و المنسوخ، و قد نقله في الإتقان و هو معارض لما تقدم نقله مستفيضا عن ابن عباس من نزول السورة بالمدينة و أنها نزلت في أهل البيت (عليه السلام).

على أن سياق آياتها و خاصة قوله ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ و ﴿يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ إلخ سياق قصة واقعة و ذكر الأسير فيمن أطعموهم نعم الشاهد على نزول الآيات بالمدينة إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

قال بعضهم ما ملخصه: أن الروايات مختلفة في مكية هذه السورة و مدنيتها و الأرجح أنها مكية بل الظاهر من سياقها أنها من عتائق السور القرآنية النازلة بمكة في أوائل البعثة يؤيد ذلك ما ورد فيها من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ كما يؤيده ما ورد فيها من أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر لحكم ربه و أن لا يطيع منهم آثما أو كفورا و يثبت على ما نزل عليه من الحق و لا يداهن المشركين من الأوامر التي كانت تنزل بمكة عند اشتداد الأذى على الدعوة و أصحابها بمكة كما في سورة القلم و المزمل و المدثر فلا عبرة باحتمال مدنية السورة.

و هو فاسد أما ما ذكره من اشتمال السورة على صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ فليس ذلك مما يختص بالسور المكية حتى يقضى بها على كون السورة مكية فهذه سورة الرحمن و سورة الحج مدنيتان على ما تقدمت في الروايات المشتملة على ترتيب نزول السور القرآنية و قد اشتملتا من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ على ما يربو و يزيد على هذه السورة بكثير.

و أما ما ذكره من اشتمال السورة على أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و أن لا يطيع منهم آثما أو كفورا و لا يداهنهم و يثبت على ما نزل عليه من الحق ففيه أن هذه الأوامر واقعة في الفصل الثاني من آيات السورة و هو قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً إلى آخر السورة و من المحتمل جدا أن يكون هذا الفصل من الآيات و هو ذو سياق تام مستقل

 

 

 نازلا بمكة، و يؤيده ما في كثير من الروايات المتقدمة أن الذي نزل في أهل البيت بالمدينة هو الفصل الأول من الآيات، و على هذا أول السورة مدني و آخرها مكي.

و لو سلم نزولها دفعة واحدة فأمره (ص) بالصبر لا اختصاص له بالسور المكية فقد ورد في قوله: ﴿وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً: الكهف: ٢٨ و الآية على ما روي مدنية و الآية كما ترى متحدة المعنى مع قوله: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إلخ و هي في سياق شبيه جدا بسياق هذه الآيات فراجع و تأمل.

ثم الذي كان يلقاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أذى المنافقين و الذين في قلوبهم مرض و الجفاة من ضعفاء الإيمان لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكة يشهد بذلك أخبار سيرته.

و لا دليل أيضا على انحصار الإثم و الكفور في مشركي مكة فهناك غيرهم من الكفار و قد أثبت القرآن الإثم لجمع من المسلمين في موارد كقوله: ﴿لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ: النور: ١١، و قوله: ﴿وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً: النساء: ١١٢.

 و في المجمع، و روى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله: ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً قال: كان شيئا و لم يكن مذكورا.

أقول: و روي فيه، أيضا عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله. و فيه، أيضا عن العياشي بإسناده عن سعيد الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : كان مذكورا في العلم و لم يكن مذكورا في الخلق.

 أقول: يعني أنه كان له ثبوت في علم الله ثم خلق بالفعل فصار مذكورا فيمن خلق.

 و في الكافي، بإسناده عن مالك الجهني عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: كان مقدرا غير مذكور. أقول: هو في معنى الحديث السابق.

و في تفسير القمي، :في الآية قال: لم يكن في العلم و لا في الذكر، و في حديث آخر: كان في العلم و لم يكن في الذكر.

 

 

 أقول: معنى الحديث الأول أنه لم يكن في علم الناس و لا فيمن يذكرونه فيما بينهم، و معنى الثاني أنه كان في علم الله و لم يكن مذكورا عند الناس.

 و في تفسير القمي، أيضا في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى ﴿أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ قال: ماء الرجل و المرأة اختلطا جميعا.

 و في الكافي، بإسناده عن حمران بن أعين قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز و جل، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً قال: إما آخذ فهو شاكر و إما تارك فهو كافر.

أقول: و رواه القمي في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله. و في التوحيد، بإسناده إلى حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يقرب منه و لفظه: عرفناه إما آخذا و إما تاركا.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا و إما كفورا و الله تعالى أعلم. و في أمالي الصدوق، بإسناده عن الصادق عن أبيه (عليه السلام) في حديث: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً قال: هي عين في دار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يفجر إلى دور الأنبياء و المؤمنين ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ يعني عليا و فاطمة و الحسن و الحسين (عليه السلام) و جاريتهم ﴿وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً يقول عابسا كلوحا ﴿وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ يقول: على شهوتهم للطعام و إيثارهم له ﴿مِسْكِيناً من مساكين المسلمين ﴿وَ يَتِيماً من يتامى المسلمين ﴿وَ أَسِيراً من أسارى المشركين.

و يقولون إذا أطعموهم: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً قال: و الله ما قالوا هذا لهم و لكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم يقولون: لا نريد جزاء تكافئوننا به و لا شكورا تثنون علينا به، و لكنا إنما أطعمناكم لوجه الله و طلب ثوابه.

 و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن مردويه عن الحسن قال: كان الأسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية ﴿وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً.

 

 

أقول: مدلول الرواية نزول الآية بالمدينة، و نظيرها ما رواه فيه عن عبد بن حميد عن قتادة، و ما رواه عن ابن المنذر عن ابن جريح، و ما رواه عن عبد الرزاق و ابن المنذر عن ابن عباس.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: ﴿يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً قال: يقبض ما بين الأبصار. و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) في صفة الجنة قال: و الثمار دانية منهم و هو قوله عز و جل: ﴿وَ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً من قربها منهم يتناول المؤمن - من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه و هو متكئ و إن الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله: يا ولي الله كلمني قبل أن تأكل هذه قبلي. و في تفسير القمي، ":في قوله: ﴿وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ قال: مسورون.

 و في المعاني، بإسناده عن عباس بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) و كنت عنده ذات يوم: أخبرني عن قول الله عز و جل: ﴿وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ما هذا الملك الذي كبر الله عز و جل حتى سماه كبيرا؟ قال: إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة أرسل رسولا إلى ولي من أوليائه فيجد الحجبة على بابه فتقول له: قف حتى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربه إلا بإذن فهو قوله عز و جل: ﴿وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً.

 و في المجمع،: ﴿وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً لا يزول و لا يفنى: عن الصادق (عليه السلام).

 و فيه،: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ و روي عن الصادق (عليه السلام) في معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها.

 كلام في هوية الإنسان على ما يفيده القرآن

لا ريب أن في هذا الهيكل المحسوس الذي نسميه إنسانا مبدأ للحياة ينتسب إليه الشعور و الإرادة، و قد عبر تعالى عنه في الكلام في خلق الإنسان آدم بالروح و في سائر المواضع من كلامه بالنفس قال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ

 

 

 سَاجِدِينَ: الحجر: ٢٩ ص: ٧٢، و قال: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ: الم السجدة: ٩.

و الذي يسبق من الآيتين إلى النظر البادئ أن الروح و البدن حقيقتان اثنتان متفارقتان نظير العجين المركب من الماء و الدقيق و الإنسان مجموع الحقيقتين فإذا قارنت الروح الجسد كان إنسانا حيا و إذا فارقت فهو الموت.

لكن يفسرها قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ: الم السجدة: ١١ حيث يفيد أن الروح التي يتوفاها و يأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها بلفظة «كم» و هو الإنسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع فالمراد بنفخ الروح في الجسد جعل الجسد بعينه إنسانا لا ضم واحد إلى واحد آخر يغايره في ذاته و آثار ذاته فالإنسان حقيقة واحدة حين تعلق روحه ببدنه و بعد مفارقة روحه البدن.

و يفيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ: المؤمنون: ١٤ فالذي أنشأه الله خلقا آخر هو النطفة التي تكونت علقة ثم مضغة ثم عظاما بعينها.

و في معناها قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتى‏ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فتقييد الشي‏ء المنفي بالمذكور يعطي أنه كان شيئا لكن لم يكن مذكورا فقد كان أرضا أو نطفة مثلا لكن لم يكن مذكورا أنه الإنسان الفلاني ثم صار هو هو.

فمفاد كلامه تعالى أن الإنسان واحد حقيقي هو المبدأ الوحيد لجميع آثار البدن الطبيعية و الآثار الروحية كما أنه مجرد في نفسه عن المادة كما يفيده أمثال قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ و قوله: ﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا: الزمر: ٤٢ و قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ و قد تقدم بيانه.

[سورة الإنسان (٧٦): الآیات ٢٣ الی ٣١ ]

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ٢٣ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ٢٤ وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً ٢٥

 

 

﴿وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ٢٦ إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ٢٧ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَ شَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَ إِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ٢٨ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلاً ٢٩ وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ٣٠ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ٣١

(بيان‏)

لما وصف جزاء الأبرار و ما قدر لهم من النعيم المقيم و الملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمره بالصبر لحكم ربه و أن لا يطيع هؤلاء الآثمين و الكفار المحبين للعاجلة المتعلقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين و سائر الكفار و المنافقين و أهل الأهواء، و أن يذكر اسم ربه و يسجد له و يسبحه مستمرا عليه ثم عمم الحكم لأمته بقوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلىَ رَبِّهِ سَبِيلاً.

فهذا وجه اتصال الآيات بما قبلها و سياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكية و على تقدير مكيتها فصدر السورة مدني و ذيلها مكي.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً تصدير الكلام بأن و تكرار ضمير المتكلم مع الغير و الإتيان بالمفعول المطلق كل ذلك للتأكيد، و لتسجيل أن الذي نزل من القرآن نجوما متفرقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطاني و لا هو نفساني.

قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإن لازم كون الله سبحانه هو الذي نزل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منا فما فيه من الحكم حكم ربك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربك.

 

 

 و قوله ﴿وَ لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا، و الظاهر أن المراد بالإثم المتلبس بالمعصية و بالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفار و الفساق جميعا.

و سبق النهي عن طاعة الإثم و الكفور بالأمر بالصبر لحكم ربه يفيد كون النهي مفسرا للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثما إذا دعاك إلى إثمه و لا كفورا إذا دعاك إلى كفره لأن إثم الآثم منهم و كفر الكافر مخالفان لحكم ربك و أما تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية فإنما يفيد علية الإثم و الكفر للنهي عن الطاعة مطلقا لا عليتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه و الكافر إلى خصوص كفره.

قوله تعالى: ﴿وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً أي داوم على ذكر ربك و هو الصلاة في كل بكرة و أصيل و هما الغدو و العشي.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً من للتبعيض و المراد بالسجود له الصلاة، و يقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة و أصيلا و السجود له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح و العصر و المغرب و العشاء و هذا يؤيد نزول الآيات بمكة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإسراء: ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى‏َ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ: إسراء: ٧٨.

فالآيتان كقوله تعالى: ﴿وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ: هود: ١١٤، و قوله ﴿وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ: طه: ١٣٠.

نعم قيل: على أن الأصيل‏ يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله ﴿وَ أَصِيلاً وقتي صلاتي الظهر و العصر جميعا، و لا يخلو من وجه.

و قوله: ﴿وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً أي في ليل طويل و وصف الليل بالطويل توضيحي لا احترازي، و المراد بالتسبيح صلاة الليل، و احتمل أن يكون طويلا صفة لمفعول مطلق محذوف، و التقدير سبحه في الليل تسبيحا طويلا.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً تعليل لما تقدم من الأمر و النهي و الإشارة بهؤلاء إلى جمع الإثم و الكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في

 

 

 سياق النهي، و المراد بالعاجلة الحياة الدنيا، و عد اليوم ثقيلا من الاستعارة، و المراد بثقله شدته كأنه محمول ثقيل يشق حمله، و اليوم يوم القيامة.

و كون اليوم وراءهم تقرره أمامهم لأن وراء تفيد معنى الإحاطة، أو جعلهم إياه خلفهم و وراء ظهورهم بناء على إفادة ﴿يَذَرُونَ معنى الإعراض.

و المعنى: فاصبر لحكم ربك و أقم الصلاة و لا تطع الآثمين و الكفار منهم لأن هؤلاء الآثمين و الكفار يحبون الحياة الدنيا فلا يعملون إلا لها و يتركون أمامهم يوما شديدا أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوما شديدا سيلقونه.

قوله تعالى: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَ شَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَ إِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً الشد خلاف الفك، و الأسر في الأصل الشد و الربط و يطلق على ما يشد و يربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات و الأعصاب و العضلات أو الأسر بمعنى المأسور و المعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتى صار الواحد منهم بذلك إنسانا واحدا.

و قوله: ﴿وَ إِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً أي إذا شئنا بدلناهم أمثالهم فذهبنا بهم و جئنا بأمثالهم مكانهم و هو أماته قرن و إحياء آخرين، و قيل المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة و هو بعيد من السياق.

و الآية في معنى دفع الدخل كان متوهما يتوهم أنهم بحبهم للدنيا و إعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى و يفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا و يطيعوا فأجيب بأنهم مخلوقون لله خلقهم و شد أسرهم و إذا شاء أذهبهم و جاء بآخرين فكيف يعجزونه و خلقهم و أمرهم و حياتهم و موتهم بيده.؟ قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‏َ رَبِّهِ سَبِيلاً تقدم تفسيره في سورة المزمل و الإشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً الاستثناء من النفي يفيد أن مشية العبد متوقفة في وجودها على مشيته تعالى فلمشيته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلقها بمشية العبد، و ليست متعلقة بفعل العبد مستقلا و بلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد و كون الفعل جبريا و لا أن العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أو لم يشأ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد، و أما

 

 

 اختيار العبد فليس مستندا إلى اختيار آخر، و قد تكرر توضيح هذا البحث في مواضع مما تقدم.

و الآية مسوقة لدفع توهم أنهم مستقلون في مشيتهم منقطعون من مشية ربهم، و لعل تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله ﴿وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ كما أن الوجه في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: ﴿يَشَاءَ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ هو الإشارة إلى علة الحكم فإن مسمى هذا الاسم الجليل يبتدئ منه كل شي‏ء و ينتهي إليه كل شي‏ء فلا تكون مشية إلا بمشيته و لا تؤثر مشية إلا بإذنه.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً توطئة لبيان مضمون الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً مفعول ﴿يَشَاءُ محذوف يدل عليه الكلام، و التقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته، و لا يشاء إلا دخول من آمن و اتقى، و أما غيرهم و هم أهل الإثم و الكفر فبين حالهم بقوله: ﴿وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.

و الآية تبين سنته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة و الشقاء، و قد علل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله ﴿إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً فأفاد به أن سنته تعالى ليست سنة جزافية مبنية على الجهالة بل هو يعامل كلا من الطائفتين بما هو أهل له و سينبئهم حقيقة ما كانوا يعملون.

(بحث روائي)

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله:

﴿وَ لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قال: حدثنا أنها نزلت في عدو الله أبي جهل.

أقول: و هو أشبه بالتطبيق.

و في المجمع،: في قوله تعالى ﴿وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً: روي عن الرضا (عليه السلام): أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية و قال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل.

 و في الخرائج و الجرائح، عن القائم (عليه السلام): في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدني:

و جئت تسأل عن مقالة المفوضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشية الله عز و جل فإذا شاء شئنا، و الله يقول ﴿وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ.

 

 

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول إذا خطب: كل ما هو آت قريب، لا بعد لما يأتي، و لا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمرا و يريد الله أمرا، ما شاء الله كان و لو كره الناس، لا مباعد لما قرب الله، و لا مقرب لما باعد الله، لا يكون شي‏ء إلا بإذن الله. أقول: و في بعض الروايات من طرق أهل البيت (عليه السلام) تطبيق الحكم في قوله:

﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ و الرحمة في قوله: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ على الولاية و هو من الجري أو البطن و ليس من التفسير في شي‏ء.

(٧٧) سورة المرسلات مكية و هي خمسون آية (٥٠)

[سورة المرسلات (٧٧): الآیات ١ الی ١٥]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً ١ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ٢ وَ اَلنَّاشِرَاتِ نَشْراً ٣ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً ٤ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ٥ عُذْراً أَوْ نُذْراً ٦ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ٧ فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ ٨ وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ فُرِجَتْ ٩ وَ إِذَا اَلْجِبَالُ نُسِفَتْ ١٠ وَ إِذَا اَلرُّسُلُ أُقِّتَتْ ١١ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ١٢ لِيَوْمِ اَلْفَصْلِ ١٣ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ ١٤ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ١٥

(بيان‏)

تذكر السورة يوم الفصل و هو يوم القيامة و تؤكد الإخبار بوقوعه و تشفعه بالوعيد الشديد للمكذبين به و الإنذار و التبشير لغيرهم و يربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرر فيها قوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عشر مرات.

 

 

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً الآية و ما يتلوها إلى تمام ست آيات إقسام منه تعالى بأمور يعبر عنها بالمرسلات فالعاصفات و الناشرات فالفارقات فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا، و الأوليان أعني المرسلات عرفا و العاصفات عصفا لا تخلوان لو خليتا و نفسهما مع الغض عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكن الأخيرة أعني الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماما للحجة أو إنذارا و بقية الصفات لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى.

و حمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات و العاصفات - على ما عرفت - يحتاج إلى تكلف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية و خاصة في الصفة الأخيرة.

و كذا حمل المرسلات و العاصفات على إرادة الرياح و حمل الثلاث الباقية أو الأخيرتين أو الأخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهرا بين الرياح و بين ملائكة الوحي حتى يقارن بينها في الأقسام و ينظم الجميع في سلك واحد، و ما وجهوه من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق.

فالوجه هو الغض عن هذه الأقاويل و هي كثيرة جدا لا تكاد تنضبط، و حمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافات ﴿وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً و في معناها قوله تعالى: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏َ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏َ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ: الجن: ٢٨.

فقوله: ﴿وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً إقسام منه تعالى بها و العرف‏ بالضم فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس و يشبه به الأمور إذا تتابعت يقال: جاءوا كعرف الفرس، و يستعار فيقال: جاء القطا عرفا أي متتابعة و جاءوا إليه عرفا واحدا أي متتابعين، و العرف أيضا المعروف من الأمر و النهي و ﴿عُرْفاً حال بالمعنى الأول مفعول له بالمعنى الثاني، و الإرسال خلاف الإمساك، و تأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح التي

 

 

تنزل بها الملائكة قال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ النحل: ٢ و قال ﴿يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ: المؤمن: ١٥.

و المعنى أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي.

و قيل: المراد بالمرسلات عرفا الرياح المتتابعة المرسلة و قد تقدمت الإشارة إلى ضعفه، و مثله في الضعف القول بأن المراد بها الأنبياء (عليه السلام) فلا يلائمه ما يتلوها.

قوله تعالى: ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً عطف على المرسلات و المراد بالعصف‏ سرعة السير استعارة من عصف الرياح أي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه، و المعنى أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلنَّاشِرَاتِ نَشْراً﴾ إقسام آخر، و نشر الصحيفة و الكتاب و الثوب و نحوها: بسطه، و المراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ : عبس: ١٦ و المعنى و أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبي ليتلقاه.

و قيل: المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته و قيل: الرياح الناشرة للسحاب، و قيل: الملائكة الناشرين لصحائف الأعمال، و قيل: الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول و قيل: غير ذلك.

قوله تعالى ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً المراد به الفرق بين الحق و الباطل و بين الحلال و الحرام، و الفرق المذكور صفة متفرعة على النشر المذكور.

قوله تعالى: ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً المراد بالذكر القرآن يقرءونه على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المقرو عليهم.

و الصفات الثلاث أعني النشر و الفرق و إلقاء الذكر مترتبة فإن الفرق بين الحق و الباطل و الحلال و الحرام يتحقق بنشر الصحف و إلقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقق و بالتلاوة يتم تحققه فالنشر يترتب عليه مرتبة من وجود الفرق و يترتب عليها تمام وجوده بالإلقاء.

 

 

 و قوله: ﴿عُذْراً أَوْ نُذْراً هما من المفعول له و ﴿أَوْ للتنويع قيل: هما مصدران بمعنى الإعذار و الإنذار، و الإعذار الإتيان بما يصير به معذورا و المعنى أنهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر و تخويفا لغيرهم.

و قيل: ليكون عذرا يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة، و يئول إلى إتمام الحجة، فمحصل المعنى عليه أنهم يلقون الذكر ليكون إتماما للحجة على المكذبين و تخويفا لغيرهم، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ جواب القسم، و ما موصولة و الخطاب لعامة البشر، و المراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب و الثواب و الواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار، و المعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث و العقاب و الثواب سيتحقق لا محالة.

كلام في إقسامه تعالى في القرآن‏

من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست أنها مع ما تتضمن الإقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب و هو وقوع الجزاء الموعود فإن التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات و نشرها الصحف و فرقها و إلقاءها الذكر للنبي تدبير لا يتم إلا مع وجود التكليف الإلهي و التكليف لا يتم إلا مع تحتم وجود يوم معد للجزاء يجازى فيه العاصي و المطيع من المكلفين.

فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجة على وقوعه كأنه قيل: أقسم بهذه الحجة أن مدلولها واقع.

و إذا تأملت الموارد التي أورد فيها القسم في كلامه تعالى و أمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجة دالة على حقية الجواب كقوله تعالى في الرزق: ﴿فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ: الذاريات: ٢٣ فإن ربوبية السماء و الأرض هي المبدأ لرزق المرزوقين، و قوله:

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ: الحجر: ٧٢ فإن حياة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالة على سكرهم و عمههم، و قوله: ﴿وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحَاهَا إلى أن قال ﴿وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَ قَدْ خَابَ مَنْ

 

 

 دَسَّاهَا: الشمس: ١٠ فإن هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميزة لفجورها و تقواها هو الدليل على فلاح من زكاها و خيبة من دساها.

و على هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى و إن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله: ﴿وَ اَلتِّينِ وَ اَلزَّيْتُونِ وَ طُورِ سِينِينَ: التين: ٢ و عليك بالتدبر فيها.

(بيان‏)

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ إلى قوله ﴿أُقِّتَتْ بيان لليوم الموعود الذي أخبر بوقوعه في قوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ و جواب إذا محذوف يدل عليه قوله:

﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ إلى قوله -﴿لِلْمُكَذِّبِينَ.

و قد عرف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنساني و انقطاع النظام الدنيوي كانطماس النجوم و انشقاق الأرض و اندكاك الجبال و تحول النظام إلى نظام آخر يغايره، و قد تكرر ذلك في كثير من السور القرآنية و خاصة السور القصار كسورة النبإ و النازعات و التكوير و الانفطار و الانشقاق و الفجر و الزلزال و القارعة، و غيرها، و قد عدت الأمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة.

و من المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب و السنة أن نظام الحياة في جميع شئونها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبدية فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاءون أو محض الشقاء و ليس لهم فيها إلا ما يكرهون و الدار الدنيا دار فناء و زوال لا يحكم فيها إلا الأسباب و العوامل الخارجية الظاهرية مخلوط فيها الموت بالحياة، و الفقدان بالوجدان، و الشقاء بالسعادة، و التعب بالراحة، و المساءة بالسرور، و الآخرة دار جزاء و لا عمل و الدنيا دار عمل و لا جزاء، و بالجملة النشأة غير النشأة.

فتعريفه تعالى نشأة البعث و الجزاء بأشراطها التي فيها انطواء بساط الدنيا بخراب بنيان أرضها و انتساف جبالها و انشقاق سمائها و انطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة أخرى قال تعالى: ﴿وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولى‏َ فَلَوْ لاَ تَذَكَّرُونَ: الواقعة: ٦٢.

 

 

 فقوله: ﴿فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ أي محي أثرها من النور و غيره، و الطمس‏ إزالة الأثر بالمحو قال تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلنُّجُومُ اِنْكَدَرَتْ: التكوير: ٢.

و قوله: ﴿وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ فُرِجَتْ أي انشقت، و الفرج و الفرجة الشق بين الشيئين قال تعالى: ﴿إِذَا اَلسَّمَاءُ اِنْشَقَّتْ: الانشقاق: ١.

و قوله: ﴿وَ إِذَا اَلْجِبَالُ نُسِفَتْ أي قلعت و أزيلت من قولهم: نسفت‏ الريح الشي‏ء أي اقتلعته و أزالته قال تعالى: ﴿وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً: طه: ١٠٥.

و قوله: ﴿وَ إِذَا اَلرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم أو بلغت الوقت الذي تنتظره لأداء شهادتها على الأمم من التأقيت بمعنى التوقيت، قال تعالى: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ: الأعراف: ٦، و قال: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ: المائدة: ١٠٩.

قوله تعالى: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ - إلى قوله: - ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ الأجل‏ المدة المضروبة للشي‏ء، و التأجيل‏ جعل الأجل للشي‏ء، و يستعمل في لازمه و هو التأخير كقولهم: دين مؤجل أي له مدة بخلاف الحال و هذا المعنى هو الأنسب للآية، و الضمير في ﴿أُجِّلَتْ للأمور المذكورة قبلا من طمس النجوم و فرج السماء و نسف الجبال و تأقيت الرسل، و المعنى لأي يوم أخرت يوم أخرت هذه الأمور.

و احتمل أن يكون ﴿أُجِّلَتْ بمعنى ضرب الأجل للشي‏ء و أن يكون الضمير المقدر فيه راجعا إلى الرسل، أو إلى ما يشعر به الكلام من الأمور المتعلقة بالرسل مما أخبروا به من أحوال الآخرة و أهوالها و تعذيب الكافرين و تنعيم المؤمنين فيها، و لا يخلو كل ذلك من خفاء.

و قد سيقت الآية و التي بعدها أعني قوله: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ اَلْفَصْلِ في صورة الاستفهام و جوابه للتعظيم و التهويل و التعجيب و أصل المعنى أخرت هذه الأمور ليوم الفصل.

و هذا النوع من الجمل الاستفهامية في معنى تقدير القول، و المعنى أن من عظمة هذا اليوم و هوله و كونه عجبا أنه يسأل فيقال: لأي يوم أخرت هذه الأمور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب: ليوم الفصل.

و قوله: ﴿لِيَوْمِ اَلْفَصْلِ هو يوم الجزاء الذي فيه فصل القضاء قال تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ: الحج: ١٧.

 

 

 و قوله: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ تعظيم لليوم و تفخيم لأمره.

و قوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الويل‏ الهلاك، و المراد بالمكذبين المكذبون بيوم الفصل الذي فيه ما يوعدون فإن الآيات مسوقة لبيان وقوعه و قد أقسم على أنه واقع.

و في الآية دعاء على المكذبين، و قد استغنى به عن ذكر جواب إذا في قوله: ﴿فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ إلخ و التقدير فإذا كان كذا و كذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا و كذا كان يوم الفصل و هلك المكذبون به.

(بحث روائي‏)

 في الخصال، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: أسرع الشيب إليك يا رسول الله قال (ص): شيبتني هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون.

 و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و النسائي و ابن مردويه عن ابن مسعود قال : بينما نحن مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة و المرسلات عرفا فإنه يتلوها و إني لألقاها من فيه و إن فاه لرطب بها إذ وثبت عليه حية فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : اقتلوها فابتدرناها فذهبت فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وقيت شركم كما وقيتم شرها. أقول: و رواها أيضا بطريقين آخرين.

و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً قال: آيات تتبع بعضها بعضا.

 و في المجمع،: في الآية و قيل: إنها الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله و نهيه:. في رواية الهروي عن ابن مسعود، و عن أبي حمزة الثمالي عن أصحاب علي عنه (عليه السلام).

 و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ قال: يذهب نورها و تسقط.

 و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ فطمسها ذهاب ضوئها ﴿وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ فُرِجَتْ قال: تفرج و تنشق ﴿وَ إِذَا اَلرُّسُلُ أُقِّتَتْ قال: بعثت في أوقات مختلفة.

و في المجمع، قال الصادق (عليه السلام): ﴿أُقِّتَتْ أي بعثت في أوقات مختلفة.

 و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ قال: أخرت.

 

 

[سورة المرسلات (٧٧): الآیات ١٦ الی ٥٠ ]

﴿أَ لَمْ نُهْلِكِ اَلْأَوَّلِينَ ١٦ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اَلْآخِرِينَ ١٧ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ١٨ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ١٩ أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ٢٠ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ٢١ إِلى‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ ٢٢ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ اَلْقَادِرُونَ ٢٣ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٢٤ أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفَاتاً ٢٥ أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً ٢٦ وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَ أَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ٢٧ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٢٨ اِنْطَلِقُوا إِلى‏ مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٢٩ اِنْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ ٣٠ لاَ ظَلِيلٍ وَ لاَ يُغْنِي مِنَ اَللَّهَبِ ٣١ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ٣٢ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ٣٣ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٣٤ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ ٣٥ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ٣٦ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٣٧ هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَ اَلْأَوَّلِينَ ٣٨ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ٣٩ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٠ إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَ عُيُونٍ ٤١ وَ فَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ٤٢ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ٤٤ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٥ كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ٤٦ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٧

 

 

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ ٤٨ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٩ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ٥٠

(بيان)

حجج دالة على توحد الربوبية تقضي بوجود يوم الفصل الذي فيه جزاء المكذبين به، و إشارة إلى ما فيه من الجزاء المعد لهم الذي كانوا يكذبون به، و إلى ما فيه من النعمة و الكرامة للمتقين، و تختتم بتوبيخهم و ذمهم على استكبارهم عن عبادته تعالى و الإيمان بكلامه.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ نُهْلِكِ اَلْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اَلْآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ الاستفهام للإنكار، و المراد بالأولين أمثال قوم نوح و عاد و ثمود من الأمم القديمة عهدا، و بالآخرين الملحقون بهم من الأمم الغابرة، و الإتباع جعل الشي‏ء أثر الشي‏ء.

و قوله: ﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ برفع نتبع على الاستيناف و ليس بمعطوف على ﴿نُهْلِكِ و إلا لجزم.

و المعنى قد أهلكنا المكذبين من الأمم الأولين ثم إنا نهلك الأمم الآخرين على أثرهم.

و قوله: ﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ في موضع التعليل لما تقدمه و لذا أورد بالفصل من غير عطف كان قائلا قال: لما ذا أهلكوا؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين. و الآيات كما ترى إنذار و إرجاع للبيان إلى الأصل المضروب في السورة أعني قوله: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ و هي بعينها حجة على توحد الربوبية فإن إهلاك المجرمين من الإنسان تصرف في العالم الإنساني و تدبير، و إذ ليس المهلك إلا الله و قد اعترف به المشركون فهو الرب لا رب سواه و لا إله غيره.

على أنها تدل على وجود يوم الفصل لأن إهلاك قوم لإجرامهم لا يتم إلا بعد توجه تكليف إليهم يعصونه و لا معنى للتكليف إلا مع مجازاة المطيع بالثواب و العاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع و يعاقب فيه العاصي و ليس هو الثواب و العقاب الدنيويين لأنهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كل بما عمل، و هو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.

 

 

 قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ إلى قوله ﴿فَنِعْمَ اَلْقَادِرُونَ الاستفهام للإنكار و الماء المهين‏ الحقير قليل الغناء و المراد به النطفة، و المراد بالقرار المكين الرحم و بقوله: ﴿قَدَرٍ مَعْلُومٍ مدة الحمل.

و قوله: ﴿فَقَدَرْنَا من القدر بمعنى التقدير، و الفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث و ما يستقبلكم من الأوصاف و الأحوال من طول العمر و قصره و هيئة و جمال و صحة و مرض و رزق إلى غير ذلك.

و احتمل أن يكون ﴿فَقَدَرْنَا من القدرة مقابل العجز و المراد فقدرنا على جميع ذلك، و ما تقدم أوجه.

و المعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدة معلومة هي مدة الحمل فقدرنا جميع ما يتعلق بوجودكم من الحوادث و الصفات و الأحوال فنعم المقدرون نحن.

و يجري في كون مضمون هذه الآيات حجة على توحد الربوبية نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة، و كذا في كونه حجة على تحقق يوم الفصل فإن الربوبية تستوجب خضوع المربوبين لساحتها و هو الدين المتضمن للتكليف، و لا يتم التكليف إلا بجعل جزاء على الطاعة و العصيان، و اليوم الذي يجازى فيه بالأعمال هو يوم الفصل.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً إلى قوله ﴿فُرَاتاً الكفت و الكفات‏ بمعنى الضم و الجمع أي أ لم نجعل الأرض كفاتا يجمع العباد أحياء و أمواتا، و قيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، و المعنى أ لم نجعل الأرض أوعية تجمع الأحياء و الأموات.

و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ الرواسي‏ الثابتات من الجبال، و الشامخات‏ العاليات، و كان في ذكر الرواسي توطئة لقوله: ﴿وَ أَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً لأن الأنهار و العيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، و الفرات الماء العذب.

و يجري في حجية الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة.

قوله تعالى: ﴿اِنْطَلِقُوا إِلىَ مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ حكاية لما يقال لهم يوم الفصل و القائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ﴾ و المراد بما كانوا

 

 

 به يكذبون: جهنم، و الانطلاق‏ الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث، و المعنى يقال لهم: انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار التي كنتم تكذبون به.

قوله تعالى: ﴿اِنْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ ذكروا أن المراد بهذا الظل ظل دخان نار جهنم قال تعالى: ﴿وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ: الواقعة: ٤٣.

و ذكروا أن في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فإن الدخان العظيم يتفرق تفرق الذوائب.

قوله تعالى: ﴿لاَ ظَلِيلٍ وَ لاَ يُغْنِي مِنَ اَللَّهَبِ الظل الظليل هو المانع من الحر و الأذى بستره على المستظل فكون الظل غير ظليل كونه لا يمنع ذلك، و اللهب ما يعلو على النار من أحمر و أصفر و أخضر.

قوله تعالى: ﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ضمير أنها للنار المعلومة من السياق، و الشرر ما يتطاير من النار، و القصر معروف، و الجمالة جمع جمل و هو البعير.

و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ الإشارة إلى يوم الفصل، و المراد بالإذن الإذن في النطق أو في الاعتذار.

و قوله: ﴿فَيَعْتَذِرُونَ معطوف على ﴿يُؤْذَنُ منتظم معه في سلك النفي، و المعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس و لا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون، و لا ينافي نفي النطق هاهنا إثباته في آيات أخر لأن اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون و يختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون.

و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ: هود: ١٠٥ فليراجع.

قوله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَ اَلْأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ سمي يوم الفصل لما أن الله تعالى يفصل و يميز فيه بين أهل الحق و أهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: السجدة: ٢٥، و قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: يونس: ٩٣.

و الخطاب في قوله: ﴿جَمَعْنَاكُمْ وَ اَلْأَوَّلِينَ لمكذبي هذه الأمة بما أنهم من الآخرين و لذا قوبلوا بالأولين قال تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنَّاسُ: هود: ١٠٣ و قال ﴿وَ حَشَرْنَاهُمْ

 

 

 فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً: الكهف: ٦٧.

و قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا، و هذا خطاب تعجيزي منبئ عن انسلاب القوة و القدرة عنهم يومئذ بالكلية بظهور أن لا قوة إلا لله عز اسمه قال تعالى: ﴿وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ: البقرة: ١٦٦.

و الآية أعني قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أوسع مدلولا من قوله: ﴿يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ: الرحمن: ٣٣ لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية التي نحن فيها و في قوله: ﴿فَكِيدُونِ التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده و النكتة فيه أن متعلق هذا الأمر التعجيزي إنما هو الكيد لمن له القوة و القدرة فحسب و هو الله وحده و لو قيل: فكيدونا فأت الإشعار بالتوحد.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَ عُيُونٍ وَ فَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ إلى قوله ﴿اَلْمُحْسِنِينَ الظلال و العيون ظلال الجنة و عيونها التي يتنعمون بالاستظلال بها و شربها، و الفواكه‏ جمع فاكهة و هي الثمرة.

و قوله: ﴿كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مفاده الإذن و الإباحة، و كان الأكل و الشرب كناية عن مطلق التنعم بنعم الجنة و التصرف فيها و إن لم يكن بالأكل و الشرب، و هو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرف فيه.

و قوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ تسجيل لسعادتهم.

قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ الخطاب من قبيل قولهم: افعل ما شئت فإنه لا ينفعك، و هذا النوع من الأمر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده، و منه قوله: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا طه: ٧٢، و قوله: ﴿اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: حم السجدة: ٤٠.

فقوله: ﴿كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الأكل و التمتع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا و ليتمتعوا قليلا فليس يدفع عنهم شيئا.

 

 

 و إنما ذكر الأكل و التمتع لأن منكري المعاد لا يرون من السعادة إلا سعادة الحياة الدنيا و لا يرون لها من السعادة إلا الفوز بالأكل و التمتع كالحيوان العجم قال تعالى:

﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ اَلْأَنْعَامُ وَ اَلنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ: سورة محمد: ١٢.

و قوله: ﴿إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الأمر أي لا ينفعكم الأكل و التمتع قليلا لأنكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل و جزاء المكذبين به النار لا محالة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ المراد بالركوع الصلاة كما قيل و لعل ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع.

و قيل: المراد بالركوع المأمور به الخشوع و الخضوع و التواضع له تعالى باستجابة دعوته و قبول كلامه و اتباع دينه، و عبادته.

و قيل: المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى ﴿وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ: القلم: ٤٢ و الوجهان لا يخلوان من بعد.

و وجه اتصال الآية بما قبلها أن الكلام كان مسوقا لتهديد المكذبين بيوم الفصل و بيان تبعة تكذيبهم به و تمم ذلك في هذه الآية بأنهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء، و ليكون كالتوطئة لقوله الآتي:

﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.

و نسب إلى الزمخشري أن الآية متصلة بقوله في الآية السابقة: ﴿لِلْمُكَذِّبِينَ كأنه قيل: ويل يومئذ للذين كذبوا و الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ إلخ وجهه الإعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم و أنفسهم يفعلون ما يشاءون بقوله: ﴿كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا.

قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن و هو آية معجزة إلهية، و قد بين لهم أن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له و أن أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان و ساطع البرهان فبأي كلام بعد القرآن يؤمنون.

و هذا إيئاس من إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر و كالتنبيه على أن رفع اليد عن دعوتهم إلى الإيمان بإلقاء قوله: ﴿كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا إليهم في محله فليسوا بمؤمنين و لا فائدة في دعوتهم غير أن فيها إتماما للحجة.

 

 

(بحث روائي)

في تفسير القمي،: و قوله: ﴿أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ قال: منتن ﴿فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ قال: في الرحم - و أما قوله: ﴿إِلى‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ يقول: منتهى الأجل.

أقول: و في أصول الكافي، في رواية عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام): تطبيق قوله: ﴿أَ لَمْ نُهْلِكِ اَلْأَوَّلِينَ على مكذبي الرسل في طاعة الأوصياء، و قوله: ﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اَلْآخِرِينَ على من أجرم إلى آل محمد (عليه السلام). على اضطراب في متن الخبر، و هو من الجري دون التفسير.

و فيه: و قوله ﴿أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً قال الكفات‏ المساكن

 و قال: نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجوعه من صفين إلى المقابر فقال: هذه كفات الأموات أي مساكنهم ثم نظر إلى بيوت الكوفة فقال: هذه كفات الأحياء. ثم تلا قوله: ﴿أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً.

 أقول: و روي في المعاني، بإسناده عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه نظر إلى المقابر. و ذكر مثل الحديث السابق. و فيه،: و قوله ﴿وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ قال: جبال مرتفعة.

و فيه،: و قوله ﴿اِنْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ قال فيه ثلاث شعب من النار و قوله: ﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قال: شر النار مثل القصور و الجبال.

و فيه،: و قوله ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَ عُيُونٍ قال: في ظلال من نور أنور من الشمس.

 و في المجمع، ":في قوله: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصلاة فقالوا: لا ننحني. و الرواية لا نحني فإن ذلك سبة علينا. فقال (ص): لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود.

أقول: و في انطباق القصة و قد وقعت بعد الهجرة على الآية خفاء.

و في تفسير القمي،" :في الآية السابقة قال: و إذا قيل لهم «تولوا الإمام لم يتولوه».

أقول: و هو من الجري دون التفسير.

 

 

(٧٨) سورة النبإ مكية و هي أربعون آية (٤٠)

[سورة النبإ (٧٨): الآیات ١ الی ١٦]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ١ عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ ٢ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ٣ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ٤ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ٥ أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً ٦ وَ اَلْجِبَالَ أَوْتَاداً ٧ وَ خَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً ٨ وَ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ٩ وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِبَاساً ١٠ وَ جَعَلْنَا اَلنَّهَارَ مَعَاشاً ١١ وَ بَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ١٢ وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً ١٣ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً ١٤ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَبَاتاً ١٥ وَ جَنَّاتٍ أَلْفَافاً ١٦

(بيان)

تتضمن السورة الإخبار بمجي‏ء يوم الفصل و صفته و الاحتجاج على أنه حق لا ريب فيه، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبئه ثم ذكر في سياق الجواب و لحن التهديد أنهم سيعلمون ثم احتج على ثبوته بالإشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدال بأوضح الدلالة على أن وراء هذه النشأة المتغيرة الدائرة نشأة ثابتة باقية، و أن عقيب هذه الدار التي فيها عمل و لا جزاء دارا فيها جزاء و لا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام.

ثم تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس و حضورهم و انقلاب الطاغين إلى عذاب أليم و المتقين إلى نعيم مقيم و يختم الكلام بكلمة في الإنذار، و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿عَمَّ أصله عما و ما استفهامية تحذف الألف منها

 

 

 اطرادا إذا دخل عليها حرف الجر نحو لم و مم و على م و إلى م، و التساؤل‏ سؤال القوم بعضهم بعضا عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر و إن كان المسئول غيرهم، فهم كان يسأل بعضهم بعضا عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أمر و حيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الإنذار و الوعيد تأيد به أن المتسائلين هم كفار مكة من المشركين النافين للنبوة و المعاد دون المؤمنين و دون الكفار و المؤمنين جميعا.

فالتساؤل من المشركين و الإخبار عنه في صورة الاستفهام للإشعار بهوانه و حقارته لظهور الجواب عنه ظهورا ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه.

قوله تعالى: ﴿عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ جواب عن الاستفهام السابق أي يتساءلون عن النبإ العظيم، و لا يخفى ما في توصيف النبإ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه و تفخيم أمره.

و المراد بالنبإ العظيم نبأ البعث و القيامة الذي يهتم به القرآن العظيم في سورة المكية و لا سيما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كل الاهتمام.

و يؤيد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفة يوم الفصل و ما تقدم عليها من الحجة على أنه حق واقع.

و قيل: المراد به نبأ القرآن العظيم، و يدفعه كون السياق بحسب مصبه أجنبيا عنه و إن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما.

و قيل: النبأ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع و صفاته و الملائكة و الرسل و البعث و الجنة و النار و غيرها، و كان القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الإشارة إلى حقية جميع ذلك مما تتضمنه الدعوة الحقة الإسلامية.

و يدفعه أن الإشارة إلى ذلك كله من لوازم صفة البعث المتضمنة لجزاء الاعتقاد الحق و العمل الصالح و الكفر و الاجرام، و قد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعا و بالقصد الثاني.

على أن المراد بهؤلاء المتسائلين كما تقدم المشركون و هم يثبتون الصانع و الملائكة و ينفون ما وراء ذلك مما ذكر.

و قوله: ﴿اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ إنما اختلفوا في نحو إنكاره و هم متفقون في نفيه

 

 

 فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى‏َ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ: سبأ: ٧، و منهم من كان يستبعده فينكره و هو قولهم: ﴿أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرَاباً وَ عِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ: المؤمنون: ٣٦، و منهم من كان يشك فيه فينكره قال تعالى:

﴿بَلِ اِدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا: النمل ٦٦، و منهم من كان يوقن به لكنه لا يؤمن عنادا فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد و النبوة و سائر فروع الدين بعد تمام الحجة عنادا قال تعالى: ﴿بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ: الملك: ٢١.

و المحصل من سياق الآيات الثلاث و ما يتلوها أنهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث و الجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضا عن شأن هذا النبإ العجيب الذي لم يكن مما قرع أسماعهم حتى اليوم، و ربما راجعوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين و سألوهم عن صفة اليوم و أنه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين و ربما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن و احتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب و خاصة اليهود و يستمدونهم في فهمه.

و قد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصة تساؤلهم في صورة السؤال و الجواب فقال: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ و هو سؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال: ﴿عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ و هو جواب السؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال: ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ إلخ، و هو جواب عن تساؤلهم.

و للمفسرين في مفردات الآيات الثلاث و تقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق و الذي أوردناه هو الذي يعطيه السياق.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ردع عن تساؤلهم عنه بانين ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لأنه سينكشف لهم الأمر بوقوع هذا النبإ فيعلمونه، و في هذا التعبير تهديد كما في قوله: ﴿وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ الشعراء: ٢٢٧.

و قوله: ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ تأكيد للردع و التهديد السابقين و لحن التهديد هو القرينة على أن المتسائلين هم المشركون النافون للبعث و الجزاء دون المؤمنين و دون المشركين و المؤمنين جميعا.

 

 

 قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث و الجزاء و تحقق هذا النبإ العظيم و لازم ثبوته صحة ما في قوله:

﴿سَيَعْلَمُونَ من الإخبار بأنهم سيشاهدونه فيعلمون.

تقرير الحجة: أن العالم المشهود بأرضه و سمائه و ليله و نهاره و البشر المتناسلين و النظام الجاري فيها و التدبير المتقن الدقيق لأمورها من المحال أن يكون لعبا باطلا لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروري أن يستعقب هذا النظام المتحول المتغير الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق، و أن يظهر فيه أثر الصلاح الذي تدعو إليه الفطرة الإنسانية و الفساد الذي ترتدع عنه، و لم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتقين و شقاء المفسدين، و من المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزية أو ردعا غريزيا بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج و لا حظ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الإنسان و يجزي فيه على عمله إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.

فالآيات في معنى قوله تعالى ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ: ص: ٢٨.

و بهذا البيان يثبت أن هناك يوما يلقاه الإنسان و يجزي فيه بما عمل إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشك فيه بعضهم و يستبعده طائفة، و يحيله قوم، و لا يؤمن به مع العلم به عنادا آخرون، فاليوم ضروري الوقوع و الجزاء لا ريب فيه.

و يظهر من بعضهم أن الآيات مسوقة لإثبات القدرة و أن العود يماثل البدء و القادر على الإبداء قادر على الإعادة، و هذه الحجة و إن كانت تامة و قد وقعت في كلامه تعالى لكنها حجة على الإمكان دون الوقوع و السياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الإمكان فالأنسب في تقريرها ما تقدم.

و كيف كان فقوله: ﴿أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً الاستفهام للإنكار، و المهاد الوطاء و القرار الذي يتصرف فيه، و يطلق على البساط الذي يجلس عليه و المعنى قد جعلنا الأرض قرارا لكم تستقرون عليها و تتصرفون فيها.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ اَلْجِبَالَ أَوْتَاداً الأوتاد جمع وتد و هو المسمار إلا أنه أغلظ منه كما في المجمع، و لعل عد الجبال أوتادا مبني على أن عمدة جبال الأرض من عمل البركانات بشق الأرض فتخرج منه مواد أرضية مذابة تنتصب على فم الشقة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان الذي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب و الميدان.

و عن بعضهم: أن المراد بجعل الجبال أوتادا انتظام معاش أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع و لولاها لمادت الأرض بهم أي لما تهيأت لانتفاعهم. و فيه أنه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة.

قوله تعالى: ﴿وَ خَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً أي زوجا زوجا من ذكر و أنثى لتجري بينكم سنة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله.

و قيل: المراد به الإشكال أي كل منكم شكل للآخر. و قيل: المراد به الأصناف أي أصنافا مختلفة كالأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر إلى غير ذلك، و قيل: المراد به خلق كل منهم من منيين مني الرجل و مني المرأة و هذه وجوه ضعيفة.

قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الإلزام و التبكيت.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً السبات‏ الراحة و الدعة فإن في المنام سكوتا و راحة للقوى الحيوانية البدنية مما اعتراها في اليقظة من التعب و الكلال بواسطة تصرفات النفس فيها.

و قيل: السبات بمعنى القطع و في النوم قطع التصرفات النفسانية في البدن، و هو قريب من سابقه.

و قيل: المراد بالسبات الموت، و قد عد سبحانه النوم من الموت حيث قال: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ: الأنعام: ٦٠ و هو بعيد، و أما الآية فإنه تعالى عد النوم توفيا و لم يعده موتا بل القرآن يصرح بخلافه قال تعالى: ﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا: الزمر: ٤٢.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِبَاساً أي ساترا يستر الأشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن و هذا سبب إلهي يدعو إلى ترك التقلب و الحركة و الميل إلى السكن و الدعة و الرجوع إلى الأهل و المنزل.

 

 

 و عن بعضهم أن المراد بكون الليل لباسا كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه و هو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا اَلنَّهَارَ مَعَاشاً العيش‏ هو الحياة على ما ذكره الراغب غير أن العيش يختص بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى و عيش الملائكة و يقال حياته تعالى و حياة الملائكة، و المعاش‏ مصدر ميمي و اسم زمان و اسم مكان، و هو في الآية بأحد المعنيين الأخيرين، و المعنى و جعلنا النهار زمانا لحياتكم أو موضعا لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربكم، و قيل: المراد به المعنى المصدري بحذف مضاف، و التقدير و جعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش.

قوله تعالى: ﴿وَ بَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً أي سبع سماوات شديدة في بنائها.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً الوهاج‏ شديد النور و الحرارة و المراد بالسراج الوهاج: الشمس.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً المعصرات‏ السحب الماطرة و قيل:

الرياح التي تعصر السحب لتمطر و الثجاج‏ الكثير الصب للماء، و الأولى على هذا المعنى أن تكون ﴿مِنَ بمعنى الباء.

قوله تعالى: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَبَاتاً أي حبا و نباتا يقتات بهما الإنسان و سائر الحيوان.

قوله تعالى: ﴿وَ جَنَّاتٍ أَلْفَافاً معطوف على قوله: ﴿حَبًّا و جنات ألفاف أي ملتفة أشجارها بعضها ببعض.

قيل: إن الألفاف جمع لا واحد له من لفظه.

(بحث روائي‏)

 في بعض الأخبار: أن النبأ العظيم علي (عليه السلام) و هو من البطن. عن الخصال، عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيبتني هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون.

 

 

[1]  زاوية الفم.

[2]  بطنها بظهرها ظ.

[3]  العصيدة: شعير يلت بالسمن و يطبخ.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22535035

  • التاريخ : 14/04/2025 - 10:36

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net