و في الآيات على ما تقدم من معناها تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بشرى للمؤمنين بالنجاة و إيعاد للكفار بالعذاب.
قوله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىَ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيَاطِينُ ﴾ إلى قوله ﴿كَاذِبُونَ﴾، تعريف لمن تتنزل عليه الشياطين بما يخصه من الصفة ليعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليس منهم و لا أن القرآن من إلقاء الشياطين، و الخطاب متوجه إلى المشركين.
فقوله: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىَ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيَاطِينُ﴾ في معنى هل أعرفكم الذين تتنزل عليهم شياطين الجن بالأخبار؟ و قوله: ﴿تَنَزَّلُ عَلىَ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ قال في مجمع البيان:، الأفاك الكذاب و أصل الإفك القلب و الأفاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب، و الأثيم الفاعل للقبيح يقال: أثم يأثم إثما إذا ارتكب القبيح و تأثم إذا ترك الإثم انتهى.
و ذلك أن الشياطين لا شأن لهم إلا إظهار الباطل في صورة الحق و تزيين القبيح في زي الحسن فلا يتنزلون إلا على أفاك أثيم.
و قوله: ﴿يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ الظاهر أن ضميري الجمع في ﴿يُلْقُونَ﴾ و ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ معا للشياطين، و السمع مصدر بمعنى المسموع و المراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء و لو ناقصا فإنهم ممنوعون من الاستماع مرميون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلا ناقصا غير تام و لا كامل و لذا يتسرب إليه الكذب كثيرا.
و قوله: ﴿وَ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلا و هذا هو الكثرة بحسب الأفراد و يمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث التنزل أي أكثر المتنزلين منهم كاذبون أي أكثر أخبارهم كاذبة.
و محصل حجة الآيات الثلاث أن الشياطين لابتناء جبلتهم على الشر لا يتنزلون إلا على كل كذاب فاجر و أكثرهم كاذبون في أخبارهم، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليس بأفاك أثيم و لا ما يوحى إليه من الكلام كذبا مختلقا فليس ممن تتنزل عليه الشياطين و لا الذي يتنزل عليه شيطانا، و لا القرآن النازل عليه من إلقاء الشياطين.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغَاوُونَ﴾ إلى قوله - لاَ يَفْعَلُونَ﴾ جواب عن رمي المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه شاعر، نبه عليه بعد الجواب عن قولهم إن له شيطانا يوحي إليه القرآن.
و هذان أعني قولهم إن من الجن من يأتيه، و قولهم إنه شاعر، مما كانوا يكررونه في ألسنتهم بمكة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقة، و هذا مما يؤيد نزول هذه الآيات بمكة خلافا لما قيل إنها نزلت بالمدينة.
على أن الآيات مشتملة على ختام السورة أعني قوله: ﴿وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ و لا معنى لبقاء سورة هي من أقدم السور المكية سنين على نعت النقص ثم تمامها بالمدينة، و لا دلالة في الاستثناء على أن المستثنين هم شعراء المؤمنين بعد الهجرة.
و كيف كان فالغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع فالرشيد هو الذي لا يهتم إلا بما هو حق واقع و الغوي هو السالك سبيل الباطل و المخطئ طريق الحق، و الغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخييل و تصوير غير الواقع في صورة الواقع و لذلك لا يهتم به إلا الغوي المشعوف بالتزيينات الخيالية و التصويرات الوهمية الملهية عن الحق الصارفة عن الرشد، و لا يتبع الشعراء الذين يبتني صناعتهم على الغي و الغواية إلا الغاوون و ذلك قوله تعالى: ﴿وَ اَلشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغَاوُونَ﴾.
و قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ يقال:
هام يهيم هيمانا إذا ذهب على وجهه و المراد بهيمانهم في كل واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حد فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحق المحمود و ربما هجوا الجميل كما يهجى القبيح الدميم و ربما دعوا إلى الباطل و صرفوا عن الحق و في ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الإنسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحق، و كذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة.
و ملخص حجة الآيات الثلاث أنه (ص) ليس بشاعر لأن الشعراء يتبعهم الغاوون لابتناء صناعتهم على الغواية و خلاف الرشد لكن الذين يتبعونه إنما يتبعونه ابتغاء للرشد و إصابة الواقع و طلبا للحق لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحق و الرشد دون الباطل و الغي.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ ذَكَرُوا اَللَّهَ كَثِيراً﴾ إلخ، استثناء من الشعراء المذمومين، و المستثنون هم شعراء المؤمنين فإن الإيمان و صالحات الأعمال تردع الإنسان بالطبع عن ترك الحق و اتباع الباطل ثم الذكر الكثير لله سبحانه
يجعل الإنسان على ذكر منه تعالى مقبلا إلى الحق الذي يرتضيه مدبرا عن الباطل الذي لا يحب الاشتغال به فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لأولئك.
و بهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالإيمان و عمل الصالحات ثم عطف قوله:
﴿وَ ذَكَرُوا اَللَّهَ كَثِيراً﴾ على ذلك.
و قوله: ﴿وَ اِنْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ الانتصار الانتقام، قيل: المراد به رد الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو طعنوا فيها في الدين و قدحوا في الإسلام و المسلمين، و هو حسن يؤيده المقام.
و قوله: ﴿وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ المنقلب اسم مكان أو مصدر ميمي، و المعنى: ﴿وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ و هم المشركون على ما يعطيه السياق إلى أي مرجع و منصرف يرجعون و ينصرفون و هو النار أو ينقلبون أي انقلاب.
و فيه تهديد للمشركين و رجوع مختتم السورة إلى مفتتحها و قد وقع في أولها قوله:
﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ﴾.
(بحث روائي)
في الكافي، بإسناده عن الحجال عمن ذكره عن أحدهما (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ قال: يبين الألسن و لا تبينه الألسن.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلىَ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ﴾ إلخ، قال الصادق (عليه السلام): لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب و قد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم.
و في الكافي، بإسناده عن علي بن عيسى القماط عن عمه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أرى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده و يضلون الناس عن الصراط القهقرى فأصبح كئيبا حزينا.
قال: فهبط جبرئيل فقال: يا رسول الله ما لي أراك كئيبا حزينا؟ قال:
يا جبرئيل إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: و الذي بعثك بالحق نبيا إني ما اطلعت عليه فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها. قال: ﴿أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنىَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ و أنزل عليه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ جعل الله ليلة القدر لنبيه (ص) خيرا من ألف شهر ملك بني أمية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: رئي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كأنه متحير فسألوه عن ذلك فقال: و لم و رأيت عدوي يلون أمر أمتي من بعدي فنزلت ﴿أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ فطابت نفسه.
أقول: و قوله: و لم و رأيت إلخ، فيه حذف و التقدير و لم لا أكون كذلك و قد رأيت «إلخ».
و فيه، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان و في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قريشا و عم و خص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا و لا نفعا.
يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا و لا نفعا. ألا إن لكم رحما و سأبلها ببلالها. و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن مردويه عن ابن عباس قال :لما نزلت ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ جعل يدعوهم قبائل قبائل.
و فيه، أخرج سعيد بن منصور و البخاري و ابن مردويه و ابن جرير و ابن المنذر
و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ و رهطك منهم المخلصين» خرج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى صعد على الصفا فنادى يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب و قريش فقال (ص): أ رأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أ كنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أ لهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ﴾. و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن أبي أمامة قال: لما نزلت ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب و جمع نساءه و أهله فأجلسهم في البيت ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار و اسعوا في فكاك رقابكم و افتكوها بأنفسكم من الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا.
ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكر و يا حفصة بنت عمر و يا أم سلمة و يا فاطمة بنت محمد و يا أم الزبير عمة رسول الله اشتروا[1] أنفسكم من الله و اسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا و لا أغني، الحديث.
أقول: و في معنى هذه الروايات بعض روايات أخر و في بعضها أنه (ص) خص بني عبد مناف بالإنذار فيشمل بني أمية و بني هاشم جميعا.
و الروايات الثلاث الأول لا تنطبق عليها الآية فإنها تعمم الإنذار قريشا عامة و الآية تصرح بالعشيرة الأقربين و هم إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم و أبعد ما يكون من الآية الرواية الثانية حيث تقول: جعل يدعوهم قبائل قبائل.
على أن ما تقدم من معنى الآية و هو نفي أن تكون قرابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تغنيهم من تقوى الله و في الروايات إشارة إلى ذلك حيث تقول: لا أغني عنكم من الله
شيئا لا يناسب عمومه لغير الخاصة من قرابته (ص).
و أما الرواية الرابعة فقوله تعالى: ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ آية مكية في سورة مكية و لم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة و أين كانت يوم نزولها عائشة و حفصة و أم سلمة و لم يتزوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بهن إلا في المدينة) فالمعتمد من الروايات ما يدل على أنه (ص) خص بالإنذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب، و من عجيب الكلام قول الآلوسي بعد نقل الروايات: و إذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار.
و في المجمع، عن تفسير الثعلبي بإسناده عن براء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني عبد المطلب و هم يومئذ أربعون رجلا الرجل منهم يأكل المسنة و يشرب العس فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا بسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا. ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعا ثم قال لهم: اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل فسكت (ص) يومئذ و لم يتكلم.
ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام و الشراب ثم أنذرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله عز و جل فأسلموا و أطيعوني تهتدوا.
ثم قال: من يواخيني و يوازرني و يكون وليي و وصيي بعدي و خليفتي في أهلي و يقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم و يقول علي أنا فقال في المرة الثالثة: أنت فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك.
قال الطبرسي،: و روي عن أبي رافع هذه القصة و أنه جمعهم في الشعب فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا و سقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا. ثم قال:
إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي و رهطي، و إن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا و وزيرا و وارثا و وصيا و خليفة في أهله فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي و وارثي و وزيري و وصيي و يكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ فقال علي: أنا فقال: ادن مني ففتح فاه و مج في فيه من ريقه و تفل بين كتفيه و ثدييه فقال أبو لهب: بئس ما
حبوت به ابن عمك أن أجابك فملأت فاه و وجهه بزاقا فقال (ص) ملأته حكمة و علما.
أقول: و روى السيوطي في الدر المنثور، ما في معنى حديث البراء عن ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبي نعيم و البيهقي في الدلائل من طرق عن علي رضي الله عنه و فيه: ثم تكلم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني و الله ما أعلم أحدا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا؟ فقلت و أنا أحدثهم سنا: إنه أنا، فقام القوم يضحكون.
و في علل الشرائع، بإسناده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لما نزلت ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ أي رهطك المخلصين دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني عبد المطلب و هم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون رجلا و ينقصون رجلا فقال: أيكم يكون أخي و وارثي و وزيري و وصيي و خليفتي فيكم بعدي، فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا كلهم يأبى ذلك حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول الله.
فقال: يا بني عبد المطلب هذا وارثي و وزيري و خليفتي فيكم بعدي فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض و يقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع و تطيع لهذا الغلام.
أقول: و من الممكن أن يستفاد من قوله (عليه السلام): أي رهطك المخلصين أن ما نسب إلى قراءة أهل البيت ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ رهطك منهم المخلصين» و نسب أيضا إلى قرآن أبي بن كعب كان من قبيل التفسير.
و في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسَّاجِدِينَ﴾ قيل: معناه و تقلبك في الساجدين الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبيا :عن ابن عباس في رواية عطاء و عكرمة و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم.:
أقول: و رواه غيره من رواة الشيعة، و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبي نعيم و غيرهم عن ابن عباس و غيرهم.
و في المجمع، روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لا
ترفعوا قبلي و لا تضعوا قبلي فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ثم تلا هذه الآية.
أقول: يريد (ص) وضع الجبهة على الأرض و رفعها في السجدة و رواه في الدر المنثور، عن ابن عباس و غيره.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا.:
أقول: و هو مروي من طرق الشيعة أيضا عن الصادق (عليه السلام) عنه (ص). و في تفسير القمي، قال: يعظون الناس و لا يتعظون و ينهون عن المنكر و لا ينتهون و يأمرون بالمعروف و لا يعملون و هم الذين قال الله فيهم: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ أي في كل مذهب يذهبون ﴿وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ و هم الذين غصبوا آل محمد حقهم.
و في اعتقادات الصدوق،: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ اَلشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغَاوُونَ﴾ قال: هم القصاص.
أقول: هم من المصاديق و المعنى الجامع ما تقدم في ذيل الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن من الشعر حكما و إن من البيان سحرا.
أقول: و روى الجملة الأولى أيضا عنه عن بريدة و ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أيضا عن ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (ص) و لفظه: إن من الشعر حكمة، و الممدوح من الشعر ما فيه نصرة الحق و لا تشمله الآية.
و في المجمع، عن الزهري قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك: أن كعب بن مالك قال: يا رسول الله ما ذا تقول في الشعراء؟ قال: إن المؤمن مجاهد بسيفه و لسانه و الذي نفسي بيده لكأنما تنضخونهم بالنبل.
قال الطبرسي،: و قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لحسان بن ثابت: اهجهم أو هاجهم و روح
القدس معك: رواه البخاري و مسلم في الصحيحين.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي الحسن سالم البراد قال :لما نزلت ﴿وَ اَلشُّعَرَاءُ﴾ الآية جاء عبد الله بن رواحة و كعب بن مالك و حسان بن ثابت و هم يبكون فقالوا يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية و هو يعلم أنا شعراء أهلكنا؟ فأنزل الله ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ فدعاهم رسول الله فتلاها عليهم. أقول: هذه الرواية و ما في معناها هي التي دعا بعضهم إلى القول بكون الآيات الخمس من آخر السورة مدنيات و قد عرفت الكلام في ذلك عند تفسير الآيات.
و في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا. ثم قال: لا أعني سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و إن كان منه و لكن ذكر الله عند ما أحل و حرم فإن كان طاعة عمل بها و إن كان معصية تركها.
أقول: فيه تأييد لما تقدم في تفسير الآية.
(٢٧) سورة النمل مكية و هي ثلاث و تسعون آية (٩٣)
[سورة النمل (٢٧): الآیات ١ الی ٦]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿طس تِلْكَ آيَاتُ اَلْقُرْآنِ وَ كِتَابٍ مُبِينٍ ١ هُدىً وَ بُشْرىَ لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ٣ إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ٤ أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذَابِ وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ ٥ وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ٦﴾
(بيان)
غرض السورة على ما تدل عليه آيات صدرها و الآيات الخمس الخاتمة لها التبشير و الإنذار و قد استشهد لذلك بطرف من قصص موسى و داود و سليمان و صالح و لوط (عليه السلام) ثم عقبها ببيان نبذة من أصول المعارف كوحدانيته تعالى في الربوبية و المعاد و غير ذلك.
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَلْقُرْآنِ وَ كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ الإشارة بتلك كما مر في أول سورة الشعراء إلى آيات السورة مما ستنزل بعد و ما نزلت قبل، و التعبير باللفظ الخاص بالبعيد للدلالة على رفعة قدرها و بعد منالها.
و القرآن اسم للكتاب باعتبار كونه مقروا، و المبين من الإبانة بمعنى الإظهار، و تنكير ﴿اَلْقُرْآنِ﴾ للتفخيم أي تلك الآيات الرفيعة القدر التي ننزلها آيات الكتاب و آيات كتاب مقرو عظيم الشأن مبين لمقاصده من غير إبهام و لا تعقيد.
قال في مجمع البيان:، وصفه بالصفتين يعني الكتاب و القرآن ليفيد أنه مما يظهر بالقراءة و يظهر بالكتابة و هو بمنزلة الناطق بما فيه من الأمرين جميعا، و وصفه بأنه مبين تشبيه له بالناطق بكذا. انتهى.
قوله تعالى: ﴿هُدىً وَ بُشْرىَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدران أعني ﴿هُدىً وَ بُشْرىَ﴾ بمعنى اسم الفاعل أو المراد بهما المعنى المصدري للمبالغة.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ﴾ إلخ، المراد إتيان الأعمال الصالحة و إنما اقتصر على الصلاة و الزكاة لكون كل منها ركنا في بابه فالصلاة فيما يرجع إلى الله تعالى و الزكاة فيما يرجع إلى الناس و بنظر آخر الصلاة في الأعمال البدنية و الزكاة في الأعمال المالية.
و قوله: ﴿وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ وصف آخر للمؤمنين معطوف على ما قبله جيء به للإشارة إلى أن هذه الأعمال الصالحة إنما تقع موقعها و تصيب غرضها مع الإيقان بالآخرة فإن العمل يحبط مع تكذيب الآخرة، قال تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾: الأعراف: ١٤٧.
و تكرار الضمير في قوله: ﴿وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ﴾ إلخ للدلالة على أن هذا الإيقان من شأنهم و هم أهله المترقب منهم ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ العمه التحير في الأمر و معنى تزيين العمل جعله بحيث ينجذب إليه الإنسان و الذين لا يؤمنون بالآخرة لما أنكروها و هي غاية مسيرهم بقوا في الدنيا و هي سبيل لا غاية فتعلقوا بأعمالهم فيها و كانوا متحيرين في الطريق لا غاية لهم يقصدونها.
قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذَابِ﴾ إلخ إيعاد بمطلق العذاب من دنيوي و أخروي بدليل ما في قوله: ﴿وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ﴾ و لعل وجه كونهم أخسر الناس أن سائر العصاة لهم صحائف أعمال مثبتة فيها سيئاتهم و حسناتهم يجازون بها و أما هؤلاء فسيئاتهم محفوظة عليهم يجازون بها و حسناتهم حابطة.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ التلقية قريبة المعنى من التلقين، و تنكير ﴿حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ للتعظيم، و التصريح بكون هذا القرآن من عنده
تعالى ليكون ذلك حجة على الرسالة و تأييدا لما تقدم من المعارف و لصحة ما سيذكره من قصص الأنبياء (عليه السلام).
و تخصيص الاسمين الكريمين للدلالة على نزوله من ينبوع الحكمة فلا ينقضه ناقض و لا يوهنه موهن، و منبع العلم فلا يكذب في خبره و لا يخطئ في قضائه.
[سورة النمل (٢٧): الآیات ٧ الی ١٤]
﴿إِذْ قَالَ مُوسىَ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ٧ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنَّارِ وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٨ يَا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اَللَّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٩ وَ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ ١٠ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ١١ وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ١٢ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ١٣ وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ ١٤﴾
(بيان)
أول القصص الخمس التي أشير إليها في السورة استشهادا لما في صدرها من التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد و تغلب في الثلاث الأول منها و هي قصص موسى و داود
و سليمان جهة الوعد على الوعيد و في الأخيرتين بالعكس.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ مُوسىَ لِأَهْلِهِ﴾ إلخ المراد بأهله امرأته و هي بنت شعيب على ما ذكره الله تعالى في سورة القصص قال في المجمع،: إن خطابها بقوله: ﴿آتِيكُمْ﴾ بصيغة الجمع لإقامتها مقام الجماعة في الأنس بها في الأمكنة الموحشة. انتهى و من المحتمل أنه كان معها غيرها من خادم أو مكار أو غيرهما.
و في المجمع،: الإيناس الإبصار، و قيل: آنست أي أحسست بالشيء من جهة يؤنس بها و ما آنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه. انتهى و الشهاب على ما في المجمع:، نور كالعمود من النار و كل نور يمتد كالعمود يسمى شهابا و المراد الشعلة من النار، و في المفردات:، الشهاب الشعلة الساطعة من النار الموقدة و من العارض في الجو و في المفردات، أيضا: القبس المتناول من الشعلة، و الاصطلاء بالنار الاستدفاء بها.
و سياق الآية يشهد و يؤيده ما وقع من القصة في سور أخرى أنه كان حينذاك يسير بأهله و قد ضل الطريق و أصابه و أهله البرد في ليلة داجية فأبصر نارا من بعيد فأراد أن يذهب إليها فإن وجد عندها إنسانا استخبره أو يأخذ قبسا يأتي به إلى أهله فيوقدوا نارا يصطلون بها. فقال لأهله امكثوا إني أحسست و أبصرت نارا فالزموا مكانكم سآتيكم منها أي من عندها بخبر نهتدي به أو آتيكم بشعلة متناولة من النار لعلكم توقدون بها نارا تصطلون و تستدفئون بها.
و يظهر من السياق أيضا أن النار إنما ظهرت له (عليه السلام) و لم يشاهدها غيره و إلا عبر عنها بالإشارة دون التنكير.
و لعل اختلاف الإتيان بالخبر و الإتيان بالنار نوعا هو الموجب لتكرار لفظ الإتيان حيث قال: ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنَّارِ وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ أي فلما أتى النار و حضر عندها نودي أن بورك «إلخ».
و المراد بالمباركة إعطاء الخير الكثير يقال: باركه و بارك عليه و بارك فيه أي ألبسه الخير الكثير و حباه به، و قد وقع في سورة طه في هذا الموضع من القصة قوله:
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً وَ أَنَا
اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحى﴾: طه: ١٣. و يستأنس منه أن المراد بمن حول النار موسى أو هو ممن حول النار، و مباركته اختياره بعد تقديسه.
و أما المراد بمن في النار فقد قيل: إن معناه من ظهر سلطانه و قدرته في النار فإن التكليم كان من الشجرة على ما في سورة القصص و قد أحاطت بها النار، و على هذا فالمعنى: تبارك من تجلى لك بكلامه من النار و بارك فيك، و يكون قوله:
﴿وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ تنزيها له سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا يحيط به المكان أو يجاوره الحدثان لا لتعجيب موسى كما قيل.
و قيل: المراد بمن في النار الملائكة الحاضرون فيها كما أن المراد بمن حولها موسى (عليه السلام).
و قيل: المراد به موسى (عليه السلام) و بمن حولها الملائكة.
و قيل: في الكلام تقدير و الأصل بورك من في المكان الذي فيه النار و هو البقعة المباركة التي كانت فيها الشجرة كما في سورة القصص و من فيها هو موسى و حولها هي الأرض المقدسة التي هي الشامات، و من حولها هم الأنبياء القاطنون فيها من آل إبراهيم و بني إسرائيل.
و قيل: المراد بمن في النار نور الله تعالى و بمن حولها موسى.
و قيل: المراد بمن في النار الشجرة فإنها كانت محاطة بالنار بمن حولها الملائكة المسبحون.
و أكثر هذه الوجوه لا يخلو من تحكم ظاهر.
قوله تعالى: ﴿يَا مُوسىَ إِنَّهُ أَنَا اَللَّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ﴾ تعرف منه تعالى لموسى (عليه السلام) ليعلم أن الذي يشافهه بالكلام ربه تعالى فهذه الآية في هذه السورة تحاذي قوله من سورة طه ﴿نُودِيَ يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ﴾ إلخ، فارجع إلى سورة طه و تدبر في الآيات.
قوله تعالى: ﴿وَ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ﴾ إلخ، الاهتزاز التحرك الشديد، و الجان الحية الصغيرة السريعة الحركة، و الإدبار خلاف الإقبال، و التعقيب الكر بعد الفر من عقب المقاتل إذا كر بعد فراره.
و في الآية حذف و إيجاز تفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله: ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ و التقدير و ألق عصاك فلما ألقاها إذا هي ثعبان مبين يهتز كأنه جان و لما رآها تهتز إلخ.
و لا منافاة بين صيرورة العصا ثعبانا مبينا كما وقع في قصته (عليه السلام) من سورتي الأعراف و الشعراء و الثعبان الحية العظيمة الجثة و بين تشبيهها في هذه السورة بالجان فإن التشبيه إنما وقع في الاهتزاز و سرعة الحركة و الاضطراب حيث شاهد العصا و قد تبدلت ثعبانا عظيم الجثة هائل المنظر يهتز و يتحرك بسرعة اهتزاز الجان و تحركه بسرعة و ليس تشبيها لنفس العصا أو الثعبان بنفس الجان.
و قيل: إن آية العصا كانت مختلفة الظهور فقد ظهرت العصا لأول مرة في صورة الجان كما وقع في سورة طه: ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى﴾: آية: ٢٠ من السورة ثم ظهرت لما ألقاها عند فرعون في صورة ثعبان مبين كما في سورتي الأعراف و الشعراء.
و فيه أن هذا الوجه و إن كان لا يخلو بالنظر إلى سياق الآيات عن وجاهة لكنه لا يندفع به إشكال تشبيه الشيء بنفسه أو عدم تبدلها حية فالمعول في دفع الإشكال على ما تقدم.
قوله تعالى: ﴿يَا مُوسىَ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ حكاية نفس الخطاب الصادر هناك و هو في معنى قال الله يا موسى لا تخف «إلخ».
و قوله: ﴿لاَ تَخَفْ﴾ نهي مطلق يؤمنه عن كل ما يسوء مما يخاف منه ما دام في حضرة القرب و المشافهة سواء كان المخوف منه عصا أو غيرها و لذا علل النهي بقوله:
﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ فإن تقييد النفي بقوله: ﴿لَدَيَّ﴾ يفيد أن مقام القرب و الحضور يلازم الأمن و لا يجامع مكروها يخاف منه، و يؤيده تبديل هذه الجملة في القصة من سورة القصص من قوله: ﴿إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ﴾ فيتحصل المعنى: لا تخف من شيء إنك مرسل و المرسلون و هم لدي في مقام القرب في مقام الأمن و لا خوف مع الأمن.
و أما فرار موسى (عليه السلام) من العصا و قد تصورت بتلك الصورة الهائلة و هي تهتز كأنها جان فقد كان جريا منه على ما جبل الله الطبيعة الإنسانية عليه إذا فاجأه من المخاطر ما لا سبيل له إلى دفعه عن نفسه إلا الفرار و قد كان أعزل لا سلاح معه إلا
عصاه و هي التي يخافها على نفسه و لم يرد عليه من جانبه تعالى أمر سابق أن يلزم مكانه أو نهي عن الفرار مما يخافه على نفسه إلا قوله تعالى: ﴿وَ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ و قد امتثله، و ليس الفرار من المخاطر العظيمة التي لا دافع لها إلا الفرار، من الجبن المذموم حتى يذم عليه.
و أما إن الأنبياء و المرسلين لا يخافون شيئا و هم عند ربهم على ما يدل عليه قوله: ﴿إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ فهم لا يملكون هذه الكرامة من عند أنفسهم بل إنما ذلك بتعليم من الله و تأديب و إذ كان موقف ليلة الطور أول موقف من موسى قربه الله إليه فيه و خصه بالتكليم و حباه بالرسالة و الكرامة فقوله: ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ﴾ و قوله: ﴿لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ تعليم و تأديب إلهي له (عليه السلام).
فتبين بذلك أن قوله: ﴿لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ تأديب و تربية إلهية لموسى (عليه السلام) و ليس من التوبيخ و التأنيب في شيء.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الذي ينبغي أن يقال و الله أعلم أن الآية السابقة لما أخبرت عن أن المرسلين آمنون لا يخافون فهم منه أن غيرهم من أهل الظلم غير آمنين لهم أن يخافوا استدرك في هذه الآية حال أهل التوبة من جملة أهل الظلم فبين أنهم لتوبتهم و تبديلهم ظلمهم - و هو السوء حسنا بعد سوء مغفور لهم مرحومون فلا يخافون أيضا.
فالاستثناء من المرسلين و هو استثناء منقطع و المراد بالظلم مطلق المعصية و بالحسن بعد السوء التوبة بعد المعصية أو العمل الصالح بعد السيئ، و المعنى: لكن من ظلم باقتراف المعصية ثم بدل ذلك حسنا بعد سوء و توبة بعد معصية أو عملا صالحا بعد سيئ فإني غفور رحيم أغفر ظلمه و أرحمه فلا يخافن بعد ذلك شيئا.
قوله تعالى: ﴿وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ إلخ، فسر السوء بالبرص و قد تقدم، و قوله: ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ﴾ يمكن أن يستظهر من السياق أولا أن ﴿فِي تِسْعِ﴾ حال من الآيتين جميعا، و المعنى: آتيتك هاتين الآيتين العصا و اليد حال كونهما في تسع آيات.
و ثانيا: أن الآيتين من جملة الآيات التسع، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى:
﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسىَ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾: إسراء: ١٠١، كلام في تفصيل الآيات التسع، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ المبصرة بمعنى الواضحة الجلية، و في قولهم: ﴿هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ إزراء و إهانة بالآيات حيث أهملوا الدلالة على خصوصيات الآيات حتى العدد فلم يعبئوا بها إلا بمقدار أنها أمر ما.
قوله تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا﴾ إلخ، قال الراغب:
الجحد نفي ما في القلب إثباته و إثبات ما في القلب نفيه. انتهى. و الاستيقان و الإيقان بمعنى.
[سورة النمل (٢٧): الآیات ١٥ الی ٤٤]
﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ عِلْماً وَ قَالاَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي فَضَّلَنَا عَلىَ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٥ وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَ قَالَ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ ١٦ وَ حُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ١٧ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلى وَادِ اَلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ١٨ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى وَالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ اَلصَّالِحِينَ ١٩ وَ تَفَقَّدَ اَلطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى اَلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ اَلْغَائِبِينَ ٢٠ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً﴾
﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ٢١ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ٢٢ إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَ لَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ٢٣ وَجَدْتُهَا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ٢٤ أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ اَلَّذِي يُخْرِجُ اَلْخَبْءَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ ٢٥ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ ٢٦ قَالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٢٧ اِذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَا ذَا يَرْجِعُونَ ٢٨ قَالَتْ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ٢٩ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ٣٠ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ ٣١ قَالَتْ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ٣٢ قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ اَلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَا ذَا تَأْمُرِينَ ٣٣ قَالَتْ إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ٣٤ وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ ٣٥ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اَللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ٣٦﴾
﴿اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَ هُمْ صَاغِرُونَ ٣٧ قَالَ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ٣٨ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ٣٩ قَالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ٤٠ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ اَلَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ ٤١ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَ هَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ ٤٢ وَ صَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ٤٣ قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي اَلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٤٤﴾
(بيان)
نبذة من قصص داود و سليمان (عليه السلام) و فيها شيء من عجائب أخبار سليمان بما آتاه الله من الملك.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ عِلْماً﴾ إلخ، في تنكير العلم إشارة إلى تفخيم أمره، و مما أشير فيه إلى علم داود من كلامه تعالى قوله: ﴿وَ آتَيْنَاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطَابِ﴾: (ص): ٢٠. و مما أشير فيه إلى علم سليمان قوله: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً﴾: الأنبياء: ٧٩، و ذيل الآية يشملهما جميعا.
و قوله: ﴿وَ قَالاَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي فَضَّلَنَا عَلىَ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ المراد بالتفضيل إما التفضيل بالعلم على ما ربما يؤيده سياق الآية، و إما التفضيل بمطلق ما خصهما الله به من المواهب كتسخير الجبال و الطير لداود و تليين الحديد له و إيتائه الملك، و تسخير الجن و الوحش و الطير و كذا الريح لسليمان و تعليمه منطق الطير و إيتائه الملك على ما يستدعيه إطلاق التفضيل.
و الآية أعني قوله: ﴿وَ قَالاَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إلخ، على أي حال بمنزلة حكاية اعترافهما على التفضيل الإلهي فيكون كالشاهد على المدعى الذي تشير إليه بشارة صدر السورة أن الله سبحانه سيخص المؤمنين بما تقر به عيونهم و مثلها ما سيأتي من اعترافات سليمان في مواضع من كلامه.
قوله تعالى: ﴿وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾ إلخ، أي ورثه ماله و ملكه، و أما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة و العلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، و العلم و إن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري الاكتسابي و العلم الذي يختص به الأنبياء و الرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر فغير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يرث العلم من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يرث علمه من نبي آخر و لا من غير نبي.
و قوله: ﴿وَ قَالَ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ﴾ ظاهر السياق أنه (عليه السلام) يباهي عن نفسه و أبيه و هو منه (عليه السلام) تحديث بنعمة الله كما قال تعالى: ﴿وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾: الضحى: ١١، و أما إصرار بعض المفسرين على أن الضمير في قوله:
﴿عُلِّمْنَا﴾ و ﴿أُوتِينَا﴾ لنفسه لا له و لأبيه على ما هو عادة الملوك و العظماء في الإخبار عن أنفسهم فإنهم يخبرون عنهم و عن خدمهم و أعوانهم رعاية لسياسة الملك فالسياق السابق لا يساعد عليه كل المساعدة.
و المراد بالناس ظاهر معناه و هو عامة المجتمعين من غير تميز لبعضهم من بعض و قول بعضهم إن المراد بهم عظماء أهل مملكته أو علماؤهم غير سديد.
و المنطق و النطق على ما نتعارفه هو الصوت أو الأصوات المؤلفة الدالة بالوضع على معان مقصودة للناطق المسماة كلاما و لا يكاد يقال على ما ذكره الراغب إلا للإنسان لكن القرآن الكريم يستعمله في معنى أوسع من ذلك و هو دلالة الشيء على معنى مقصود لنفسه، قال تعالى: ﴿وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾: حم السجدة: ٢١، و هو إما من باب تحليل المعنى كما يستعمله القرآن في أغلب المعاني و المفاهيم المقصورة في الاستعمالات على المصاديق الجسمانية المادية كالرؤية و النظر و السمع و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و غيرها، و إما لأن للفظ معنى أعم و اختصاصه بالإنسان من باب الانصراف لكثرة الاستعمال.
و كيف كان فمنطق الطير هو ما تدل به الطير بعضها على مقاصدها، و الذي نجده عند التأمل في أحوالها الحيوية هو أن لكل صنف أو نوع منها أصواتا ساذجة خاصة في حالاتها الخاصة الاجتماعية حسب تنوع اجتماعاتها كحال الهياج للسفاد و حال المغالبة و الغلبة و حال الوحشة و الفزع و حال التضرع أو الاستغاثة إلى غير ذلك و نظير الطير في ذلك سائر الحيوان.
لكن لا ينبغي الارتياب في أن المراد بمنطق الطير في الآية معنى أدق و أوسع من ذلك.
أما أولا: فلشهادة سياق الآية على أنه (ص) يتحدث عن أمر اختصاصي ليس في وسع عامة الناس أن ينالوه و إنما ناله بعناية خاصة إلهية، و هذا المقدار المذكور من منطق الطير مما يسع لكل أحد أن يطلع عليه و يعرفه.
و أما ثانيا: فلأن ما حكاه الله تعالى في الآيات التالية من محاورة سليمان و الهدهد يتضمن معارف عالية متنوعة لا يسع لما نجده عند الهدهد من الأصوات المعدودة أن تدل عليها بتميز لبعضها من بعض ففي كلام الهدهد ذكر الله سبحانه و وحدانيته و قدرته و علمه و ربوبيته و عرشه العظيم و ذكر الشيطان و تزيينه الأعمال و الهدى و الضلال و غير ذلك، و فيه ذكر الملك و العرش و المرأة و قومها و سجدتهم للشمس، و في كلام
سليمان أمره بالذهاب بالكتاب و إلقائه إليهم ثم النظر فيما يرجعون، و هذه كما لا يخفى على الباحث في أمر المعاني المتعمق فيها معارف جمة لها أصول عريقة يتوقف الوقوف عليها على ألوف و ألوف من المعلومات، و أنى تفي على إفادة تفصيلها أصوات ساذجة معدودة.
على أنه لا دليل على أن كل ما يأتي بها الحيوان في نطقه من الأصوات أو خصوصيات الصوت يفي حسنا بإدراكه أو تمييزه، و يؤيده ما نقل من قول النملة في الآيات التالية و هو من منطق الحيوان قطعا و لا صوت للنملة يناله سمعنا و يؤيده أيضا ما يراه علماء الطبيعة اليوم أن الذي يناله سمع الإنسان من الصوت عدد خاص من الارتعاش المادي و هو ما بين ستة عشر ألفا إلى اثنين و ثلاثين ألفا في الثانية، و أن الخارج من ذلك في جانبي القلة و الكثرة لا يقوى عليه سمع الإنسان و ربما ناله سائر الحيوان أو بعضها.
و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان من عجيب الفهم و لطيف الإدراك عند أنواع من الحيوان كالفرس و الكلب و القرد و الدب و الزنبور و النملة و غيرها على أمور لا يكاد يعثر على نظائرها عند أكثر أفراد الإنسان.
و قد تبين بما مر أن ظاهر السياق أن للطير منطقا علمه الله سليمان، و ظهر به فساد قول من قال إن نطق الطير كان معجزة لسليمان و أما هي في نفسها فليس لها نطق هذا.
و قوله: ﴿وَ أُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي أعطينا من كل شيء و ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ و إن كان شاملا لجميع ما يفرض موجودا لأن مفهوم شيء من أعم المفاهيم و قد دخل عليه كلمة الاستغراق - لكن لما كان المقام مقام التحديث بالنعمة و لا كل نعمة بل النعم التي يمكن أن يؤتاها الإنسان فيتنعم بها تقيد به معنى كل شيء و كان معنى الجملة:
و أعطانا الله من كل نعمة يمكن أن يعطاها الإنسان فيتنعم بها مقدارا معتدا به كالعلم و النبوة و الملك و الحكم و سائر النعم المعنوية و المادية.
و قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ﴾ شكر و تأكيد للتحديث بالنعمة من غير عجب و لا كبر و اختيال لإسناده الجميع إلى الله بقوله: ﴿عُلِّمْنَا﴾ و ﴿أُوتِينَا﴾،
و احتمل بعضهم أن تكون الجملة من كلام الله سبحانه لا من كلام سليمان و السياق يأباه.
قوله تعالى: ﴿وَ حُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ الحشر هو جمع الناس و إخراجهم لأمر بإزعاج و الوزع المنع و قيل الحبس، و المعنى كما قيل: و جمع لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يمنعون من التفرق و اختلاط كل جمع بآخر برد أولهم إلى آخرهم و حبس كل في مكانه.
و يستفاد من الآية أنه كان له جنود من الجن و الطير يسيرون معه كجنوده من الإنس.
و كلمة الحشر و وصف المحشورين بأنهم جنود، و سياق الآيات التالية كل ذلك دليل على أن جنوده كانوا طوائف خاصة من الجن و الإنس و الطير سواء كانت ﴿مِنَ﴾ في الآية للتبعيض أو للبيان.
و قد أغرب في التفسير الكبير، فزعم أن الآية تدل على أن جميع الجن و الإنس و الطير كانوا جنوده و قد ملك الأرض كلها و أن الله تعالى جعل الطير في زمانه عقلاء مكلفين ثم عادت بعد زمانه على ما كانت عليه قبله و قال بمثله في النملة التي تكلمت، قال في تفسير الآية: و المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده، و لا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، و لا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف، فلذلك قلنا: إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل و ليس كذلك حال الطيور في أيامنا و إن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل و غيره. انتهى.
و وجوه التحكم فيه غنية عن البيان.
و تقديم الجن في الذكر على الإنس و الطير لكون تسخيرهم و دخولهم تحت الطاعة عجيبا، و ذكر الإنس بعده دون الطير مع كون تسخيرها أيضا عجيبا رعاية لأمر المقابلة بين الجن و الإنس.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلىَ وَادِ اَلنَّمْلِ﴾ الآية، ﴿حَتَّى﴾ غاية لما يفهم من الآية السابقة، و ضمير الجمع لسليمان و جنوده، و تعدية الإتيان بعلى قيل: لكون
الإتيان من فوق، و وادي النمل واد بالشام على ما قيل، و قيل في أرض الطائف، و قيل: في أقصى اليمن، و الحطم الكسر.
و المعنى: فلما سار سليمان و جنوده حتى أتوا على وادي النمل قالت نملة مخاطبة لسائر النمل: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يكسرنكم سليمان و جنوده أي لا يطأنكم بأقدامهم و هم لا يشعرون. و فيه دليل على أنهم كانوا يسيرون على الأرض.
قوله تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا﴾ إلى آخر الآية، قيل: التبسم دون الضحك، و على هذا فالمراد بالضحك هو الإشراف عليه مجازا.
و لا منافاة بين قوله (عليه السلام): ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ﴾ و بين فهمه كلام النملة إذ لم ينف فهمه كلام سائر الحيوان أو كلام بعضها كالنملة.
و قد تسلم جمع منهم دلالة قوله: ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ﴾ على نفي ما عداه فتكلفوا في توجيه فهمه (عليه السلام) قول النملة تارة بأنه كانت قضية في واقعة، و أخرى بتقدير أنها كانت نملة ذات جناحين و هي من الطير، و ثالثة بأن كلامها كان من معجزات سليمان (عليه السلام) و رابعة بأنه (عليه السلام) لم يسمع منها صوتا قط و إنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى هذا.
و ما تقدم من معنى منطق الحيوان يزاح به هذه الأوهام. على أن سياق الآيات وحده كاف في دفعها.
و قوله: ﴿وَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىَ وَالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾ الإيزاع الإلهام. تبسم (عليه السلام) مبتهجا مسرورا بما أنعم الله عليه حتى أوقفه هذا الموقف و هي النبوة و العلم بمنطق الحيوان و الملك و الجنود من الجن و الإنس و الطير فسأل الله أن يلهمه شكر نعمته و أن يعمل بما فيه رضاه سبحانه.
و قد جعل الشكر للنعمة التي أنعم الله تعالى بها على نفسه مختصة به، و للنعمة التي أنعم بها على والديه فإن الإنعام على والديه إنعام عليه بوجه لكونه منهما و قد أنعم الله تعالى على أبيه داود بالنبوة و الملك و الحكمة و فصل الخطاب و غيرها و أنعم على أمه حيث زوجها من داود النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رزقها سليمان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و جعلها من أهل بيت النبوة.
و في كلامه هذا دليل على أن والدته من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم[2] و هم إحدى الطوائف الأربع المذكورين في قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ﴾: النساء: ٦٩.
و قوله: ﴿وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾ عطف على قوله: ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾ و مسألته هذه: «أوزعني أن أعمل» إلخ، أمر أرفع قدرا و أعلى منزلة من سؤال التوفيق للعمل الصالح فإن التوفيق يعمل في الأسباب الخارجية بترتيبها بحيث توافق سعادة الإنسان و الإيزاع الذي سأله دعوة باطنية في الإنسان إلى السعادة، و على هذا فليس من البعيد أن يكون المراد به الوحي الذي أكرم الله به إبراهيم و آله فيما يخبر عنه بقوله:
﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ﴾ الآية: الأنبياء: ٧٣، و هو التأييد بروح القدس على ما مر في تفسير الآية.
و قوله: ﴿وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ اَلصَّالِحِينَ﴾ أي اجعلني منهم، و هذا الصلاح لما لم يتقيد بالعمل كان هو صلاح الذات و هو صلاح النفس في جوهرها الذي يستعد به لقبول أي كرامة إلهية.
و من المعلوم أن صلاح الذات أرفع قدرا من صلاح العمل ففي قوله: ﴿وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ اَلصَّالِحِينَ﴾ تدرج في المسألة من الأدنى إلى الأعلى و قد كان صلاح العمل منسوبا إلى صنعه و اختياره بوجه دون صلاح الذات و لذا سأل صلاح الذات من ربه و لم يسأل نفس صلاح العمل بل أن يوزعه أن يعمل.
و في تبديله سؤال صلاح الذات من سؤال أن يدخله في عباده الصالحين إيذان بسؤاله ما خصهم الله به من المواهب و أغزرها العبودية و قد وصفه الله بها في قوله:
﴿نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾: ص: ٣٠.
قوله تعالى: ﴿وَ تَفَقَّدَ اَلطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى اَلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ اَلْغَائِبِينَ﴾ قال الراغب: التفقد التعهد لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشيء و التعهد تعرف العهد
المتقدم قال تعالى: ﴿وَ تَفَقَّدَ اَلطَّيْرَ﴾ انتهى.
استفهم أولا متعجبا من حال نفسه إذ لا يرى الهدهد بين الطير كأنه لم يكن من المظنون في حقه أن يغيب عن موكبه و يستنكف عن امتثال أمره ثم أضرب عن ذلك بالاستفهام عن غيبته.
و المعنى: ما بالي لا أرى الهدهد بين الطيور الملازمة لموكبي بل أ كان من الغائبين.
قوله تعالى: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ اللامات للقسم و السلطان المبين البرهان الواضح، يقضي (عليه السلام) على الهدهد أحد ثلاث خصال: العذاب الشديد و الذبح و فيهما شقاؤه، و الإتيان بحجة واضحة و فيه خلاصه و نجاته.
قوله تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ ضمير ﴿فَمَكَثَ﴾ لسليمان و يحتمل أن يكون للهدهد و يؤيد الأول سابق السياق و الثاني لاحقه، و المراد بالإحاطة العلم الكامل، و قوله: ﴿وَ جِئْتُكَ﴾ إلخ، بمنزلة عطف التفسير لقوله: ﴿أَحَطْتُ﴾ إلخ، و سبأ بلدة باليمن كانت عاصمته يومئذ و النبأ الخبر الذي له أهمية، و اليقين ما لا شك فيه.
و المعنى: فمكث سليمان أو فمكث الهدهد زمانا غير بعيد ثم حضر فسأله سليمان عن غيبته و عاتبه - فقال أحطت من العلم بما لم تحط به و جئتك من سبإ بخبر مهم لا شك فيه.
و منه يظهر أن في الآية حذفا و إيجازا، و قد قيل: إن في قول الهدهد: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ كسرا لسورة سليمان (عليه السلام) فيما شدد عليه.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَ لَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ الضمير في ﴿تَمْلِكُهُمْ﴾ لأهل سبإ و ما يتبعها و قوله: ﴿وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وصف لسعة ملكها و عظمته و هو القرينة على أن المراد بكل شيء في الآية كل شيء هو من لوازم الملك العظيم من حزم و عزم و سطوة و مملكة عريضة و كنوز و جنود مجندة و رعية مطيعة، و خص بالذكر من بينها عرشها العظيم.
قوله تعالى: ﴿وَجَدْتُهَا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ﴾ إلخ، أي إنهم
من عبدة الشمس من الوثنيين.
و قوله: ﴿وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ بمنزلة عطف التفسير لما سبقه و هو مع ذلك توطئة لقوله بعد: ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ﴾ لأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي هي سجدتهم و سائر تقرباتهم هو الذي صرفهم و منعهم عن سبيل الله و هي عبادته وحده.
و في إطلاق السبيل من غير إضافتها إليه تعالى إشارة إلى أنها السبيل المتعينة للسبيلية بنفسها للإنسان بالنظر إلى فطرته بل لكل شيء بالنظر إلى الخلقة العامة.
و قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ﴾ تفريع على صدهم عن السبيل إذ لا سبيل مع الصد عن السبيل فلا اهتداء، فافهمه.
قوله تعالى: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ اَلَّذِي يُخْرِجُ اَلْخَبْءَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ﴾ القراءة الدائرة ﴿أَلاَّ﴾ بتشديد اللام مؤلف من «أن و لا» و هو عطف بيان من ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾، و المعنى: زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله، و قيل: بتقدير لام التعليل، و المعنى: زين لهم الشيطان ضلالتهم لئلا يسجدوا لله.
و الخبء على ما في مجمع البيان، المخبوء و هو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه و هو مصدر وصف به يقال: خبأته أخبئه خبأ و ما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة. انتهى.
ففي قوله: ﴿يُخْرِجُ اَلْخَبْءَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ استعارة كأن الأشياء مخبوءة مستورة تحت أطباق العدم فيخرجها الله تعالى إلى الوجود واحدا بعد آخر فيكون تسمية الإيجاد بعد العدم إخراجا للخبء قريبا من تسميته بالفطر و توصيفه تعالى بأنه فاطر السماوات و الأرض و الفطر هو الشق كأنه يشق العدم فيخرج الأشياء.
و يمكن حمل الجملة على الحقيقة من غير استعارة لكنه مفتقر إلى بيان موضعه غير هذا الموضع. و قيل: المراد بالخبء الغيب و إخراجه العلم به و هو كما ترى.
و قوله: ﴿وَ يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ﴾ بالتاء على الخطاب أي يعلم سركم و علانيتكم، و قرأ الأكثرون بالياء على الغيبة و هو أرجح.
و ملخص الحجة: أنهم إنما يسجدون للشمس دون الله تعظيما لها على ما أودع الله سبحانه في طباعها من الآثار الحسنة و التدبير العام للعالم الأرضي و غيره، و الله الذي
أخرج جميع الأشياء من العدم إلى الوجود و من الغيب إلى الشهادة فترتب على ذلك نظام التدبير من أصله و من جملتها الشمس و تدبيرها أولى بالتعظيم و أحق أن يسجد له، مع أنه لا معنى لعبادة ما لا شعور له بها و لا شعور للشمس بسجدتهم و الله سبحانه يعلم ما يخفون و ما يعلنون فالله سبحانه هو المتعين للسجدة و التعظيم لا غير.
و بهذا البيان تبين وجه اتصال قوله تلوا ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ﴾ من تمام كلام الهدهد و هو بمنزلة التصريح بنتيجة البيان الضمني السابق و إظهار الحق قبال باطلهم و لذا أتى أولا بالتهليل الدال على توحيد العبادة ثم ضم إليه قوله: ﴿رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ﴾ الدال على انتهاء تدبير الأمر إليه فإن العرش الملكي هو المقام الذي تجتمع عنده أزمة الأمور و تصدر منه الأحكام الجارية في الملك.
و في قوله: ﴿رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ﴾ مناسبة محاذاة أخرى مع قوله في وصف ملكة سبإ: ﴿وَ لَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ و لعل قول الهدهد هذا هو الذي دعا أو هو من جملة ما دعا سليمان (عليه السلام) أن يأمر أن يأتوا بعرشها إليه ليخضع لعظمة ربه كل عظمة.
قوله تعالى: ﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ﴾ الضمير لسليمان (عليه السلام). أحال القضاء في أمر الهدهد إلى المستقبل فلم يصدقه في قوله لعدم بينة عليه بعد و لم يكذبه لعدم الدليل على كذبه بل وعده أن يجرب و يتأمل.
قوله تعالى: ﴿اِذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَا ذَا يَرْجِعُونَ﴾ حكاية قول سليمان خطابا للهدهد كأنه قيل: فكتب سليمان كتابا ثم قال للهدهد:
اذهب بكتابي هذا إليهم أي إلى ملكة سبإ و ملئها فألقه إليهم ثم تول عنهم أي تنح عنهم وقع في مكان تراهم فانظر ما ذا يرجعون أي ما ذا يرد بعضهم من الجواب على بعض إذا تكلموا فيه.
و قوله: ﴿فَأَلْقِهْ﴾ بسكون الهاء وصلا و وقفا في جميع القراءات و هي هاء السكت، و مما قيل في الآية: إن قوله ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ﴾ إلخ، من قبيل التقديم و التأخير و الأصل فانظر ما ذا يرجعون ثم تول عنهم: و هو كما ترى.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَ إِنَّهُ
بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ﴾ في الكلام حذف و إيجاز و التقدير فأخذ الهدهد الكتاب و حمله إلى ملكة سبإ حتى إذا أتاها ألقاه إليها فأخذته و لما قرأته قالت لملئها و أشراف قومها يا أيها الملؤا «إلخ».
فقوله: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ حكاية ذكرها لملئها أمر الكتاب و كيفية وصوله إليها و مضمونه، و قد عظمته إذ وصفته بالكرم.
و قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ﴾ ظاهره أنه تعليل لكون الكتاب كريما أي و السبب فيه أنه من سليمان و لم يكد يخفى عليها جبروت سليمان و ما أوتيه من الملك العظيم و الشوكة العجيبة كما اعترفت بذلك في قولها على ما حكاه الله بعد: ﴿وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ﴾.
﴿وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ﴾: أي الكتاب باسمه تعالى فهو كريم لذلك و الوثنيون جميعا قائلون بالله سبحانه يرونه رب الأرباب و إن لم يعبدوه، و عبدة الشمس منهم و هم من شعب الصابئين يعظمونه و يعظمون صفاته و إن كانوا يفسرون الصفات بنفي النقائص و الأعدام فيفسرون العلم و القدرة و الحياة و الرحمة مثلا بانتفاء الجهل و العجز و الموت و القسوة فكون الكتاب باسم الله الرحمن الرحيم يستدعي كونه كريما، كما أن كونه من سليمان العظيم يستدعي كونه كريما، و على هذا فالكتاب أي مضمونه هو قوله: ﴿أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ و أن مفسرة.
و من العجيب ما عن جمع من المفسرين أن قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ استئناف وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ممن الكتاب و ما ذا فيه فقالت: إنه من سليمان إلخ، و على هذا يكون قوله: ﴿وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللَّهِ﴾ بيانا للكتاب أي لمتنه و أن الكتاب هو ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾.
و يتوجه عليهم أولا: وقوع لفظة «أن» زائدة لا فائدة لها و لذا قال بعضهم: إنها مصدرية و «لا» نافية لا ناهية و هو وجه سخيف كما سيأتي.
و ثانيا: بيان الوجه في كون الكتاب كريما فقيل: وجه كرامته أنه كان مختوما ففي الحديث: إكرام الكتاب ختمه حتى ادعى بعضهم أن معنى كرامة الكتاب ختمه، يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، و قيل: إنها سمته كريما لجودة
خطه و حسن بيانه، و قيل: لوصوله إليها على منهاج غير عادي، و قيل: لظنها بسبب إلقاء الطير أنه كتاب سماوي إلى غير ذلك من الوجوه.
و أنت خبير بأنها تحكمات غير مقنعة، و الظاهر أن الذي أوقعهم فيما وقعوا حملهم قوله: ﴿وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللَّهِ ﴾ إلى قوله ﴿مُسْلِمِينَ﴾ على حكاية متن الكتاب و ذلك ينافي حمل قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللَّهِ﴾ إلخ، على تعليل كرامة الكتاب و يدفعه أن ظاهر أن المفسرة في قوله: ﴿أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ إلخ، أنه نقل لمعنى الكتاب و مضمونه لا حكاية متنه فمحصل الآيتين أن الكتاب كان مبدوا ببسم الله الرحمن الرحيم و أن مضمونه النهي عن العلو عليه و الأمر بأن يأتوه مسلمين فلا محذور أصلا.
قوله تعالى: ﴿أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ أن مفسرة تفسر مضمون كتاب سليمان كما تقدمت الإشارة إليه.
و قول بعضهم: إنها مصدرية و «لا» نافية أي عدم علوكم علي، سخيف لاستلزامه أولا: تقدير مبتدإ أو خبر محذوف من غير موجب، و ثانيا: عطف الإنشاء و هو قوله: ﴿وَ أْتُونِي﴾ على الإخبار.
و المراد بعلوهم عليه، استكبارهم عليه، و بقوله: ﴿وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ إسلامهم بمعنى الانقياد على ما يؤيده قوله: ﴿أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ دون الإسلام بالمعنى المصطلح و هو الإيمان بالله سبحانه و إن كان إتيانهم منقادين له يستلزم إيمانهم بالله على ما يستفاد من سياق قول الهدهد و سياق الآيات الآتية، و لو كان المراد بالإيمان المعنى المصطلح كان المناسب له أن يقال: أن لا تعلوا على الله.
و كون سليمان (عليه السلام) نبيا شأنه الدعوة إلى الإسلام لا ينافي ذلك فإنه كان ملكا رسولا و كانت دعوته إلى الانقياد المطلق تستلزم ذلك كما تقدم و قد انتهت إلى إسلامها لله كما حكى الله تعالى عنها ﴿وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ الإفتاء إظهار الفتوى و هي الرأي، و قطع الأمر القضاء به و العزم عليه و الشهادة الحضور و هذا استشارة منها لهم تقول: أشيروا علي في هذا الأمر الذي واجهته و هو الذي يشير إليه كتاب سليمان و إنما أستشيركم فيه لأني لم أكن حتى اليوم
أستبد برأيي في الأمور بل أقضي و أعزم عن إشارة و حضور منكم.
فالآية تشير إلى فصل ثان من كلامها مع ملئها بعد الفصل الأول الذي أخبرتهم فيه بكتاب سليمان (عليه السلام) و كيفية وصوله و ما فيه.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ اَلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَا ذَا تَأْمُرِينَ﴾ القوة ما يتقوى به على المطلوب و هي هاهنا الجند الذي يتقوى به على دفع العدو و قتاله، و البأس الشدة في العمل و المراد به النجدة و الشجاعة.
و الآية تتضمن جواب الملإ لها يسمعونها أولا ما يطيب له نفسها و يسكن به قلقها ثم يرجعون إليها الأمر يقولون طيبي نفسا و لا تحزني فإن لنا من القوة و الشدة ما لا نهاب به عدوا و إن كان هو سليمان ثم الأمر إليك مري بما شئت فنحن مطيعوك.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ إفساد القرى تخريبها و إحراقها و هدم أبنيتها، و إذلال أعزة أهلها هو بالقتل و الأسر و السبي و الإجلاء و التحكم.
كان رأيها على ما يستفاد من هاتين الآيتين --- زيادة التبصر في أمر سليمان (عليه السلام) بأن ترسل إليه من يختبر حاله و يشاهد مظاهر نبوته و ملكه فيخبر الملكة بما رأى حتى تصمم هي العزم على أحد الأمرين: الحرب أو السلم و كان الظاهر من كلام الملإ «حيث بدءوا في الكلام معها بقولهم نحن أولو قوة و أولو بأس شديد، أنهم يميلون إلى القتال لذلك أخذت أولا تذم الحرب ثم نصت على ما هو رأيها فقالت: ﴿إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ إلخ، أي إن الحرب لا تنتهي إلا إلى غلبة أحد المتحاربين و فيها فساد القرى و ذلة أعزتها فليس من الحزم الإقدام عليها مع قوة العدو و شوكته مهما كانت إلى السلم و الصلح سبيل إلا لضرورة و رأيي الذي أراه أن أرسل إليهم بهدية ثم أنظر بما ذا يرجع المرسلون من الخبر و عند ذلك أقطع بأحد الأمرين الحرب أو السلم.
فقوله: ﴿إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا﴾ إلخ، توطئة لقوله بعد: ﴿وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ﴾ إلخ.
و قوله: ﴿وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ أبلغ و آكد من قولنا مثلا: استذلوا أعزتها لأنه مع الدلالة على تحقق الذلة يدل على تلبسهم بصفة الذلة.
و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ مسوق للدلالة على الاستمرار بعد دلالة قوله:
﴿أَفْسَدُوهَا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ على أصل الوقوع، و قيل: إن الجملة من كلام الله سبحانه لا من تمام كلام ملكة سبإ و ليس بسديد إذ لا اقتضاء في المقام لمثل هذا التصديق.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ أي مرسلة إلى سليمان و هذا نوع من التجبر و الاعتزاز الملوكي تصون لسانها عن اسمه و تنسب الأمر إليه و إلى من معه جميعا و أيضا تشير به إلى أنه يفعل ما يفعل بأيدي أعضاده و جنوده و إمداد رعيته.
و قوله: ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ أي حتى أعمل عند ذلك بما تقتضيه الحال و هذا كما تقدم هو رأي ملكة سبإ و يعلم من قوله: ﴿اَلْمُرْسَلُونَ﴾ أن الحامل للهدية كان جمعا من قومها كما يستفاد من قول سليمان بعد: ﴿اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ أنه كان للقوم المرسلين رئيس يرأسهم.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اَللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ ضمير جاء للمال الذي أهدي إليه أو للرسول الذي جاء بالهدية.
و الاستفهام في قوله: ﴿أَ تُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ للتوبيخ و الخطاب للرسول و المرسل بتغليب الحاضر على الغائب، و توبيخ القوم من غير تعيين الملكة من بينهم نظير قولها فيما تقدم: ﴿وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ كما أشرنا إليه.
و جوز أن يكون الخطاب للمرسلين و كانوا جماعة و هو خطأ فإن الإمداد لم يكن من المرسلين بل ممن أرسلهم فلا معنى لتوجيه التوبيخ إليهم خاصة، و تنكير المال للتحقير، و المراد بما آتاني الله الملك و النبوة.
و المعنى: أ تمدونني بمال حقير لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله فما آتاني الله من النبوة و الملك و الثروة خير مما آتاكم.
و قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ إضراب عن التوبيخ بإمداده بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم أي إن إمدادكم إياي بمال لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله قبيح و فرحكم بهديتكم لاستعظامكم لها و إعجابكم بها أقبح.
و قيل: المراد بهديتكم الهدية التي تهدى إليكم، و المعنى: بل أنتم تفرحون بما ـ
يهدى إليكم من الهدية لحبكم زيادة المال و أما أنا فلا أعتد بمال الدنيا هذا. و بعده ظاهر.
قوله تعالى: ﴿اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَ هُمْ صَاغِرُونَ﴾ الخطاب لرئيس المرسلين، و ضمائر الجمع راجعة إلى ملكة سبإ و قومها، و القبل الطاقة، و ضمير ﴿بِهَا﴾ لسبإ، و قوله: ﴿وَ هُمْ صَاغِرُونَ﴾ تأكيد لما قبله، و اللام في ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ﴾ و ﴿لَنُخْرِجَنَّهُمْ﴾ للقسم.
لما كان ظاهر تبديلهم امتثال أمره و هو قوله: ﴿وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ من إرسال الهدية هو الاستنكاف عن الإسلام قدر بحسب المقام أنهم غير مسلمين له فهددهم بإرسال جنود لا قبل لهم بها و لذلك فرع إتيانهم بالجنود على رجوع الرسول من غير أن يشترطه بعدم إتيانهم مسلمين فقال: ﴿اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ﴾ إلخ، و لم يقل: ارجع فإن لم يأتوني مسلمين فلنأتينهم إلخ، و إن كان مرجع المعنى إليه فإن إرسال الجنود و إخراجهم من سبإ على حال الذلة كان مشروطا به على أي حال.
و السياق يشهد أنه (عليه السلام) رد إليهم هديتهم و لم يقبلها منهم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ كلام تكلم به بعد رد الهدية و إرجاع الرسل، و فيه إخباره أنهم سيأتونه مسلمين و إنما أراد الإتيان بعرشها قبل حضورها و قومها عنده ليكون دلالة ظاهرة على بلوغ قدرته الموهوبة من ربه و معجزة باهرة لنبوته حتى يسلموا لله كما يسلمون له و يستفاد ذلك من الآيات التالية.
قوله تعالى: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ العفريت على ما قيل المارد الخبيث، و قوله: ﴿آتِيكَ بِهِ﴾ اسم فاعل أو فعل مضارع من الإتيان، و الأول أنسب للسياق لدلالته على التلبس بالفعل و كونه أنسب لعطف قوله: ﴿وَ إِنِّي عَلَيْهِ﴾ إلخ، و هو جملة اسمية عليه. كذا قيل.
و قوله: ﴿وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ الضمير للإتيان أي أنا للإتيان بعرشها لقوي لا يثقل علي حمله و لا يجهدني نقله أمين لا أخونك في هذا الأمر.
قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ﴾ مقابلته لمن قبله دليل
على أنه كان من الإنس، و قد وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أنه كان آصف بن برخيا وزير سليمان و وصيه، و قيل: هو الخضر، و قيل: رجل كان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب و قيل: جبرئيل، و قيل: هو سليمان نفسه، و هي وجوه لا دليل على شيء منها.
و أيا ما كان و أي من كان ففصل الكلام مما قبله من غير أن يعطف عليه للاعتناء بشأن هذا العالم الذي أتى بعرشها إليه في أقل من طرفة العين، و قد اعتنى بشأن علمه أيضا إذ نكر فقيل: ﴿عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتَابِ﴾ أي علم لا يحتمل اللفظ وصفه.
و المراد بالكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إما جنس الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ، و العلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علما يسهل له الوصول إلى هذه البغية و قد ذكر المفسرون أنه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب، و ربما ذكر بعضهم أن ذلك الاسم هو الحي القيوم، و قيل: ذو الجلال و الإكرام، و قيل: الله الرحمن، و قيل: هو بالعبرانية آهيا شراهيا، و قيل: إنه دعا بقوله:
يا إلهنا و إله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. إلى غير ذلك مما قيل.
و قد تقدم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن من المحال أن يكون الاسم الأعظم الذي له التصرف في كل شيء من قبيل الألفاظ و لا المفاهيم التي تدل عليها و تكشف عنها الألفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجية التي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعا من الانطباق و هي الاسم حقيقة و اللفظ الدال عليها اسم الاسم.
و لم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب، و أنه قال: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾، و من المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، و بذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله و الارتباط به ما إذا سأل ربه شيئا بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة و إن شئت فقل: إذا شاءه الله سبحانه.
و يتبين مما تقدم أيضا أن هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب و التعلم.
و قوله: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ الطرف
على ما قيل
اللحظ و النظر و ارتداد الطرف وصول المنظور إليه إلى النفس و علم الإنسان به، فالمراد أنا آتيك به في أقل من الفاصلة الزمانية بين النظر إلى الشيء و العلم به.
و قيل: الطرف تحريك الأجفان و فتحها للنظر، و ارتداده هو انضمامها و لكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد فقيل: ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ و لم يقل: قبل أن يرد. هذا.
و قد أخطأ فالطرف كالتنفس من أفعال الإنسان الاختيارية غير أن الذي يبعث إليه هو الطبيعة كما في التنفس و لذلك لا يحتاج في صدوره إلى ترو سابق كما يحتاج إليه في أمثال الأكل و الشرب، فالفعل الاختياري ما يرتبط إلى إرادة الإنسان و هو أعم مما يسبقه التروي، و الذي أوقع هذا القائل فيما وقع ظنه التساوي بين الفعل الصادر عن اختيار و الصادر عن ترو، و لعل النكتة في إيثار الارتداد على الرد هي أن الفعل لعدم توقفه على التروي كأنه يقع بنفسه لا عن مشية من اللاحظ.
و الخطاب في قوله: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ لسليمان (عليه السلام) فهو الذي يريد الإتيان به إليه و هو الذي يراد الإتيان به إليه.
و قيل: الخطاب للعفريت القائل: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ و المراد بالذي عنده علم من الكتاب عند هذا القائل هو سليمان، و إنما قاله له إظهارا لفضل النبوة و أن الذي أقدره الله عليه بتعليمه علما من الكتاب أعظم مما يتبجح به العفريت من القدرة، فالمعنى: قال سليمان للعفريت لما قال ما قال: أنا آتيك بالعرش قبل ارتداد طرفك.
و قد أصر في التفسير الكبير، على هذا القول و أورد لتأييده وجوها و هي وجوه رديئة و أصل القول لا يلائم السياق كما أومأنا إليه.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾ إلى آخر الآية، أي لما رأى سليمان العرش مستقرا عنده قال هذا، أي حضور العرش و استقراره عندي في أقل من طرفة العين من فضل ربي من غير استحقاق مني ليبلوني أي يمتحنني أ أشكر نعمته أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه أي يعود نفعه إليه لا إلى ربي و من كفر فلم يشكر فإن ربي غني كريم - و في ذيل الكلام تأكيد لما في صدره من حديث الفضل .
و قيل: المشار إليه بقوله ﴿هَذَا﴾ هو التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات.
و فيه أن ظاهر قوله: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ﴾ إلخ، إن هذا الثناء مرتبط بحال الرؤية و الذي في حال الرؤية هو حضور العرش عنده دون التمكن من الإحضار الذي كان متحققا منذ زمان.
و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فأذن له سليمان في الإتيان به كذلك فأتى به كما قال: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ﴾ و في حذف ما حذف دلالة بالغة على سرعة العمل كأنه لم يكن بين دعواه الإتيان به كذلك و بين رؤيته مستقرا عنده فصل أصلا.
قوله تعالى: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ اَلَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ﴾ قال في المفردات:، تنكير الشيء من حيث المعنى جعله بحيث لا يعرف، قال تعالى: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾ و تعريفه جعله بحيث يعرف. انتهى.
و السياق يدل على أن سليمان (عليه السلام) إنما قاله حينما قصدته ملكة سبإ و ملؤها لما دخلوا عليه، و إنما أراد بذلك اختبار عقلها كما أنه أراد بأصل الإتيان به إظهار آية باهرة من آيات نبوته لها، و لذا أمر بتنكير العرش ثم رتب عليه قوله: ﴿نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي﴾ إلخ، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَ هَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ أي فلما جاءت الملكة سليمان (عليه السلام) قيل له من جانب سليمان:
﴿أَ هَكَذَا عَرْشُكِ﴾ و هو كلمة اختبار.
و لم يقل: أ هذا عرشك بل زيد في التنكير فقيل: ﴿أَ هَكَذَا عَرْشُكِ﴾؟ فاستفهم عن مشابهة عرشها لهذا العرش المشار إليه في هيئته و صفاته، و في نفس هذه الجملة نوع من التنكير.
و قوله: ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ المراد به أنه هو و إنما عبرت بلفظ التشبيه تحرزا من الطيش و المبادرة إلى التصديق من غير تثبت، و يكنى عن الاعتقادات الابتدائية التي لم يتثبت عليها غالبا بالتشبيه.
و قوله: ﴿وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ ضمير ﴿قَبْلِهَا﴾ لهذه الآية أي الإتيان بالعرش أو لهذه الحالة أي رؤيتها له بعد ما جاءت، و ظاهر السياق أنها تتمة
كلام الملكة فهي لما رأت العرش و سألت عن أمره أحست أن ذلك منهم تلويح إلى ما آتى الله سليمان من القدرة الخارقة للعادة فأجابت بقولها: ﴿وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا﴾ إلخ، أي لا حاجة إلى هذا التلويح و التذكير فقد علمنا بقدرته قبل هذه الآية أو هذه الحالة و كنا مسلمين لسليمان طائعين له.
و قيل: قوله: ﴿وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ﴾ إلخ، من كلام سليمان، و قيل: من كلام قوم سليمان، و قيل من كلام الملكة، لكن المعنى و أوتينا العلم بإتيان العرش قبل هذه الحال - و هي جميعا وجوه رديئة .
قوله تعالى: ﴿وَ صَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ الصد: المنع و الصرف، و متعلق الصد الإسلام لله و هو الذي ستشهد به حين تؤمر بدخول الصرح فتقول: ﴿أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾، و أما قولها في الآية السابقة: ﴿وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ فهو إسلامها و انقيادها لسليمان (عليه السلام).
هذا ما يعطيه سياق الآيات و للقوم وجوه أخر في معنى الآية أضربنا عنها.
و قوله: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ في مقام التعليل للصد، و المعنى: و منعها عن الإسلام لله ما كانت تعبد من دون الله و هي الشمس على ما تقدم في نبإ الهدهد و السبب فيه أنها كانت من قوم كافرين فاتبعتهم في كفرهم.
قوله تعالى: ﴿قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي اَلصَّرْحَ﴾ إلى آخر الآية، الصرح هو القصر و كل بناء مشرف و الصرح الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف، و اللجة المعظم من الماء و الممرد اسم مفعول من التمريد و هو التمليس، و القوارير الزجاج.
و قوله: ﴿قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي اَلصَّرْحَ﴾ كأن القائل بعض خدم سليمان مع حضور من سليمان ممن كان يهديها إلى الدخول عليه على ما هو الدأب في وفود الملوك و العظماء على أمثالهم.
و قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ أي لما رأت الصرح ظنت أنه لجة لما كان عليه الزجاج من الصفاء كالماء و كشفت عن ساقيها بجمع ثيابها لئلا تبتل بالماء أذيالها.
و قوله: ﴿قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ﴾ القائل هو سليمان نبهها أنه ليس بلجة
بل صرح مملس من زجاج فلما رأت ما رأت من عظمة ملك سليمان و قد كانت رأت سابقا ما رأت من أمر الهدهد و رد الهدية و الإتيان بعرشها لم تشك أن ذلك من آيات نبوته من غير أن يؤتى بحزم أو تدبير و قالت عند ذلك: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ إلخ.
و قوله: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ استغاثت أولا بربها بالاعتراف بالظلم إذ لم تعبد الله من بدء أو من حين رأت هذه الآيات ثم شهدت بالإسلام لله مع سليمان.
و في قوله: ﴿وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ﴾ التفات بالنسبة إليه تعالى من الخطاب إلى الغيبة و وجهه الانتقال من إجمال الإيمان بالله إذ قالت: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ إلى التوحيد الصريح فإنها تشهد أن إسلامها لله مع سليمان فهو على نهج إسلام سليمان و هو التوحيد ثم تؤكد التصريح بتوصيفه تعالى برب العالمين فلا رب غيره تعالى لشيء من العالمين و هو توحيد الربوبية المستلزم لتوحيد العبادة الذي لا يقول به مشرك.
(كلام في قصة سليمان (عليه السلام))
١ ما ورد من قصصه في القرآن:
لم يرد من قصصه (عليه السلام) في القرآن الكريم إلا نبذة يسيرة غير أن التدبر فيها يهدي إلى عامة قصصه و مظاهر شخصيته الشريفة.
منها: وراثته لأبيه داود قال تعالى: ﴿وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ﴾: ص: ٣٠، و قال ﴿وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾: النمل: ١٦.
و منها: إيتاؤه الملك العظيم و تسخير الجن و الطير و الريح له و تعليمه منطق الطير و قد تكرر ذكر هذه النعم في كلامه تعالى كما في سورة البقرة الآية ١٠٢ و الأنبياء الآية ٨١، و النمل الآية ١٦-١٨، و سبإ الآية ١٢-١٣ و _ ص الآية ٣٥-٣٩.
و منها: الإشارة إلى قصة إلقاء جسد على كرسيه كما في سورة _ ص الآية ٣٣.
و منها: الإشارة إلى عرض الصافنات الجياد عليه كما في سورة _ ص الآية ٣١-٣٣.
و منها: الإشارة إلى تفهيمه الحكم في الغنم التي نفشت في الحرث كما في سورة الأنبياء الآية ٧٨-٧٩.
و منها: الإشارة إلى حديث النملة كما في سورة النمل الآية ١٨-١٩. ـ
و منها: قصة الهدهد و ما يتبعها من قصته (عليه السلام) مع ملكة سبإ سورة النمل الآية ٢٠-٤٤.
و منها: الإشارة إلى كيفية موته (عليه السلام) كما في سورة سبإ الآية ١٤.
و قد أوردنا ما يخص بكل من هذه القصص من الكلام في ذيل الآيات المشيرة إليها الموضوعة في هذا الكتاب.
٢ الثناء عليه في القرآن:
ورد اسمه (عليه السلام) في بضعة عشر موضعا من كلامه تعالى و قد أكثر الثناء عليه فسماه عبدا أوابا قال تعالى: ﴿نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾: ص:
٣٠، و وصفه بالعلم و الحكم قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً﴾: الأنبياء: ٧٩ و قال ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ عِلْماً﴾: النمل: ١٥ و قال: ﴿وَ قَالَ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ﴾: النمل: ١٦، و عده من النبيين المهديين قال تعالى:
﴿وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هَارُونَ وَ سُلَيْمَانَ﴾: النساء: ١٦٣، و قال: ﴿وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ﴾: الأنعام: ٨٤.
٣ ذكره (عليه السلام) في العهد العتيق:
وقعت قصته في كتاب الملوك الأول و قد أطيل فيه في حشمته و جلالة أمره و سعة ملكه و وفور ثروته و بلوغ حكمته غير أنه لم يذكر فيه شيء من قصصه المشار إليها في القرآن إلا ما ذكر أن ملكة سبإ لما سمعت خبر سليمان و بناءه و بيت الرب بأورشليم و ما أوتيه من الحكمة أتت إليه و معها هدايا كثيرة فلاقته و سألته عن مسائل تمتحنه بها فأجاب عنها ثم رجعت[3].
و قد أساء العهد العتيق القول فيه (عليه السلام) فذكر[4] أنه (عليه السلام) انحرف في آخر عمره عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام فسجد لأوثان كانت تعبدها بعض أزواجه.
و ذكر أن والدته كانت زوج أوريا الحتي فعشقها داود (عليه السلام) ففجر بها فحبلت منه فاحتال في قتل زوجها أوريا حتى قتل في بعض الحروب فضمها إلى أزواجه فحبلت منه ثانيا و ولدت له سليمان.
و القرآن الكريم ينزه ساحته (عليه السلام) عن أول الرميتين بما ينزه به ساحة جميع الأنبياء بالنص على هدايتهم و عصمتهم و قال فيه خاصة: ﴿وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ بقرة: ١٠٢.
و عن الثانية بما يحكيه من دعائه (عليه السلام) لما سمع قول النملة: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىَ وَالِدَيَّ﴾: النمل: ١٩، فقد بينا في تفسيره أن فيه دلالة على أن والدته كانت من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين.
[hE]٤ الروايات الواردة في قصصه (عليه السلام):[hE]
الأخبار المروية في قصصه و خاصة في قصة الهدهد و ما يتبعها من أخباره مع ملكة سبإ يتضمن أكثرها أمورا غريبة قلما يوجد نظائرها في الأساطير الخرافية يأباها العقل السليم و يكذبها التاريخ القطعي و أكثرها مبالغة ما روي عن أمثال كعب و وهب.
و قد بلغوا من المبالغة أن ما رووا أنه (عليه السلام) ملك جميع الأرض، و كان ملكه سبعمائة سنة، و أن جميع الإنس و الجن و الوحش و الطير كانوا جنوده، و أنه كان يوضع في مجلسه حول عرشه ستمائة ألف كرسي يجلس عليها ألوف من النبيين و مئات الألوف من أمراء الإنس و الجن.
و أن ملكة سبإ كانت أمها من الجن، و كانت قدمها كحافر الحمارة و كانت تستر قدميها عن أعين النظار حتى كشفت عن ساقيها حينما أرادت دخول الصرح فبان أمرها، و قد بلغ من شوكتها أنه كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل و لها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها و لها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد اثنا عشر ألف مقاتل إلى غير ذلك من أعاجيب الأخبار التي لا يسعنا إلا أن نعدها من الإسرائيليات و نصفح عنها[5]
(بحث روائي)
في الاحتجاج، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليه السلام): أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة (عليه السلام) فدك و بلغها ذلك جاءت إليه و قالت له: يا ابن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: ﴿وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾. الحديث.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله عز و جل:
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ قال: يحبس أولهم على آخرهم.
و في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: و الناظرة في بعض اللغة هي المنتظرة أ لم تسمع إلى قوله: ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ﴾
و في البصائر، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاث و سبعين حرفا و إنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، و عندنا نحن من الاسم اثنان و سبعون حرفا، و حرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.:
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه في الكافي، عن جابر عن أبي جعفر و عن النوفلي عن أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام). و قوله: «إن الاسم الأعظم كذا حرفا و كان عند آصف حرف تكلم به» لا ينافي ما قدمنا أن هذا الاسم ليس من قبيل الألفاظ فإن نفس هذا السياق يدل على أن المراد بالحرف غير الحرف اللفظي و التعبير به من جهة أن المعهود عند الناس من الاسم الاسم اللفظي المؤلف من الحروف الملفوظة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ ذكر في ذلك وجوه إلى أن قال و الخامس أن الأرض طويت له: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و ما رواه من الطي لا يغاير ما تقدمت روايته من الخسف.
و الذي نقله من الوجوه الأخر خمسة أحدها: أن الملائكة حملته إليه. الثاني:
أن الريح حملته. الثالث: أن الله خلق فيه حركات متوالية. الرابع: أنه انخرق مكانه حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان. الخامس: أن الله أعدمه في موضعه و أعاده في مجلس سليمان.
و هناك وجه آخر ذكره بعضهم و هو أن الوجود بتجدد الأمثال بإيجاده و قد أفاض الله الوجود لعرشها في سبإ ثم في الآن التالي عند سليمان. و هذه الوجوه بين ممتنع كالخامس و بين ما لا دليل عليه كالباقي.
و فيه، و روى العياشي في تفسيره، بالإسناد قال: التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى و يحيى بن أكثم فسأله. قال: فدخلت على أخي علي بن محمد (عليه السلام) إذ دار بيني و بينه من المواعظ حتى انتهيت إلى طاعته فقلت له: جعلت فداك إن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها فضحك ثم قال: هل أفتيته فيها قلت: لا. قال: و لم؟ قلت:
لم أعرفها قال: ما هي؟ قلت: قال: أخبرني عن سليمان أ كان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟ ثم ذكرت المسائل الأخر: قال: اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم سألت عن قول الله تعالى في كتابه:
﴿قَالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتَابِ﴾ فهو آصف بن برخيا و لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه أحب أن تعرف أمته من الجن و الإنس أنه الحجة من بعده و ذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته و دلالته كما فهم سليمان في حياة داود ليعرف إمامته و نبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق.:
أقول: و أورد الرواية في روح المعاني، عن المجمع ثم قال: و هو كما ترى انتهى و لا ترى لاعتراضه هذا وجها غير أنه رأى حديث الإمامة فيها فلم يعجبه.
و في نور الثقلين، عن الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو إلى أن قال و خرجت ملكة سبإ فأسلمت مع سليمان (عليه السلام).
[سورة النمل (٢٧): الآیات ٤٥ الی ٥٣]
﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ فَإِذَا هُمْ﴾
﴿فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ٤٥ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ لَوْ لاَ تَسْتَغْفِرُونَ اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٤٦ قَالُوا اِطَّيَّرْنَا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ٤٧ وَ كَانَ فِي اَلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ يُصْلِحُونَ ٤٨ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ ٤٩ وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنَا مَكْراً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٥٠ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ٥١ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٥٢ وَ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ ٥٣﴾
(بيان)
إجمال من قصة صالح النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) (عليه السلام) و قومه، و جانب الإنذار في الآيات يغلب على جانب التبشير كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً﴾ إلى قوله ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ الاختصام و التخاصم التنازع و توصيف التثنية بالجمع أعني قوله: ﴿فَرِيقَانِ﴾ بقوله:
﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ لكون المراد بالفريقين مجموع الأمة و ﴿فَإِذَا﴾ فجائية.
و المعنى: و أقسم لقد أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم و نسيبهم صالحا و كان المرجو أن يجتمعوا على الإيمان لكن فاجأهم أن تفرقوا فريقين مؤمن و كافر يختصمون و يتنازعون في الحق كل يقول: الحق معي، و لعل المراد باختصامهم ما حكاه الله عنهم في موضع آخر بقوله: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ
أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾: الأعراف: ٧٦.
و من هنا يظهر أن أحد الفريقين جمع من المستضعفين آمنوا به و الآخر المستكبرون و باقي المستضعفين ممن اتبعوا كبارهم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ﴾ إلخ الاستعجال بالسيئة قبل الحسنة المبادرة إلى سؤال العذاب قبل الرحمة التي سببها الإيمان و الاستغفار.
و به يظهر أن صالحا (عليه السلام) إنما وبخهم بقوله هذا بعد ما عقروا الناقة و قالوا له:
﴿يَا صَالِحُ اِئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ﴾ فيكون قوله: ﴿لَوْ لاَ تَسْتَغْفِرُونَ اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ تحضيضا إلى الإيمان و التوبة لعل الله يرحمهم فيرفع عنهم ما وعدهم من العذاب وعدا غير مكذوب.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا اِطَّيَّرْنَا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ﴾ إلخ التطير هو التشؤم، و كانوا يتشأمون كثيرا بالطير و لذا سموا التشؤم تطيرا و نصيب الإنسان من الشر طائرا كما قيل.
فقولهم خطابا لصالح: ﴿اِطَّيَّرْنَا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ﴾ أي تشأمنا بك و بمن معك ممن آمن بك و لزمك لما أن قيامك بالدعوة و إيمانهم بك قارن ما ابتلينا به من المحن و البلايا فلسنا نؤمن بك.
و قوله خطابا للقوم: ﴿طَائِرُكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ﴾ أي نصيبكم من الشر و هو الذي تستوجبه أعمالكم من العذاب عند الله سبحانه.
و لذا أضرب عن قوله: ﴿طَائِرُكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ﴾ بقوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ أي تختبرون بالخير و الشر ليمتاز مؤمنكم من كافركم و مطيعكم من عاصيكم.
و معنى الآية: قال القوم: تطيرنا بك يا صالح و بمن معك فلن نؤمن و لن نستغفر قال صالح: طائركم الذي فيه نصيبكم من الشر عند الله و هو كتاب أعمالكم و لست أنا و من معي ذوي أثر فيكم حتى نسوق إليكم هذه الابتلاءات بل أنتم قوم تختبرون و تمتحنون بهذه الأمور ليمتاز مؤمنكم من كافركم و مطيعكم من عاصيكم.
و ربما قيل: إن الطائر هو السبب الذي منه يصيب الإنسان ما يصيبه من الخير
و الشر، فإنهم كما كانوا يتشأمون بالطير كانوا أيضا يتيمنون به و الطائر عندهم الأمر الذي يستقبل الإنسان بالخير و الشر كما في قوله تعالى: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً﴾: إسراء: ١٣، و إذ كان ما يستقبل الإنسان من خير أو شر هو بقضاء من الله سبحانه مكتوب في كتاب فالطائر هو الكتاب المحفوظ فيه ما قدر للإنسان.
و فيه أن ظاهر ذيل آية الإسراء أن المراد بالطائر هو كتاب الأعمال دون كتاب القضاء كما يدل عليه قوله: ﴿اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفىَ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾.
و قيل: معنى ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ أي تعذبون، و ما ذكرناه أولا أنسب.
قوله تعالى: ﴿وَ كَانَ فِي اَلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ إلخ قال الراغب: الرهط العصابة دون العشرة و قيل إلى الأربعين انتهى، و قيل: الفرق بين الرهط و النفر أن الرهط من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة و النفر من الثلاثة إلى التسعة انتهى.
قيل: المراد بالرهط الأشخاص و لذا وقع تمييزا للتسعة لكونه في معنى الجمع فقد كان المتقاسمون تسعة رجال.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ التقاسم المشاركة في القسم، و التبييت القصد بالسوء ليلا، و أهل الرجل من يجمعه و إياهم بيت أو نسب أو دين، و لعل المراد بأهله زوجه و ولده بقرينة قوله بعد: ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا﴾، و قوله: ﴿وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ معطوف على قوله: ﴿مَا شَهِدْنَا﴾ فيكون من مقول القول.
و المعنى: قال الرهط المفسدون و قد تقاسموا بالله: لنقتلنه و أهله بالليل ثم نقول لوليه إذا عقبنا و طلب الثأر ما شهدنا هلاك أهله و إنا لصادقون في هذا القول، و نفي مشاهدة مهلك أهله نفي لمشاهدة مهلك نفسه بالملازمة أو الأولوية، على ما قيل.
و ربما قيل: إن قوله: ﴿وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ حال من فاعل نقول أي نقول لوليه كذا و الحال أنا صادقون في هذا القول لأنا شهدنا مهلكه و أهله جميعا لا مهلك أهله فقط.
و لا يخفى ما فيه من التكلف و قد وجه بوجوه أخر أشد تكلفا منه و لا ملزم لأصل الحالية.
قوله تعالى: ﴿وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنَا مَكْراً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أما مكرهم فهو التواطئ على تبييته و أهله و التقاسم بشهادة السياق السابق و أما مكره تعالى فهو تقديره هلاكهم جميعا بشهادة السياق اللاحق.
قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ التدمير الإهلاك، و ضمائر الجمع للرهط، و كون عاقبة مكرهم هو إهلاكهم و قومهم من جهة أن مكرهم استدعى المكر الإلهي على سبيل المجازاة، و استوجب ذلك إهلاكهم و قومهم.
قوله تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ إلخ، الخاوية الخالية من الخواء بمعنى الخلاء، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ﴾ فيه تبشير للمؤمنين بالإنجاء، و قد أردفه بقوله: ﴿وَ كَانُوا يَتَّقُونَ﴾ إذ التقوى كالمجن للإيمان و قد قال تعالى:
﴿وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾: الأعراف: ١٢٨، و قال: ﴿وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوىَ﴾: طه: ١٣٢.
[سورة النمل (٢٧): الآیات ٥٤ الی ٥٨]
﴿وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ٥٤ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ٥٥ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ٥٦ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٥٧ وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ ٥٨﴾
(بيان)
إجمال قصة لوط (عليه السلام) و هي كسابقتها في غلبة جانب الإنذار على جانب التبشير.
قوله تعالى: ﴿وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ معطوف على موضع ﴿أَرْسَلْنَا﴾ في القصة السابقة بفعل مضمر و التقدير و لقد أرسلنا لوطا. كذا قيل، و يمكن أن يكون معطوفا على أصل القصة بتقدير اذكر و الفاحشة هي الخصلة البالغة في الشناعة و المراد بها اللواط.
و قوله: ﴿وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ أي و أنتم في حال يرى بعضكم بعضا و ينظر بعضكم إلى بعض حين الفحشاء فهو على حد قوله في موضع آخر﴿وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ ﴾: العنكبوت: ٢٩، و قيل: المراد إبصار القلب و محصله العلم بالشناعة و هو بعيد.
قوله تعالى: ﴿أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ الاستفهام للإنكار، و دخول أداتي التأكيد - إن و اللام - على الجملة الاستفهامية للدلالة على أن مضمون الجملة من الاستبعاد بحيث لا يصدقه أحد و الجملة على أي حال في محل التفسير للفحشاء.
و قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ أي مستمرون على الجهل لا فائدة في توبيخكم و الإنكار عليكم فلستم بمرتدعين، و وضع ﴿تَجْهَلُونَ﴾ بصيغة الخطاب موضع «يجهلون» من وضع المسبب موضع السبب كأنه قيل: «بل أنتم قوم يجهلون فأنتم تجهلون».
قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي يتنزهون عن هذا العمل و هو وارد مورد الاستهزاء.
قوله تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ اَلْغَابِرِينَ﴾ المراد بأهله أهل بيته لقوله تعالى: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ﴾: الذاريات: ٣٦، و قوله:
﴿قَدَّرْنَاهَا مِنَ اَلْغَابِرِينَ﴾ أي جعلناها من الباقين في العذاب.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ﴾ المراد بالمطر الحجارة من سجيل لقوله تعالى: ﴿وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾: الحجر: ٧٤، فقوله:
﴿مَطَراً﴾ يدل بتنكيره على النوعية أي أنزلنا عليهم مطرا له نبأ عظيم.
[سورة النمل (٢٧): الآیات ٥٩ الی ٨١]
﴿قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلاَمٌ عَلىَ عِبَادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىَ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ٥٩ أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ٦٠ أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ قَرَاراً وَ جَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَ جَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ اَلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٦١ أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ اَلْأَرْضِ أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ٦٢ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ تَعَالَى اَللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٦٣ أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٦٤ قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ٦٥ بَلِ اِدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ٦٦ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً وَ آبَاؤُنَا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ ٦٧ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ٦٨ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾
﴿اَلْمُجْرِمِينَ ٦٩ وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ٧٠ وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٧١ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ٧٢ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ٧٣ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ ٧٤ وَ مَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٧٥ إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٧٦ وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ٧٧ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ ٧٨ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ ٧٩ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتى وَ لاَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ٨٠ وَ مَا أَنْتَ بِهَادِي اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ٨١﴾
(بيان)
انتقال من القصص التي قصها سبحانه و هي نماذج من سنته الجارية في النوع الإنساني من حيث هدايته و إراءته لهم طريق سعادتهم في الحياة و إكرامه من اهتدى منهم إلى الصراط المستقيم بالاصطفاء و عظيم الآلاء و أخذه من أشرك به و أعرض عن ذكره و مكر به بعذاب الاستئصال و أليم النكال.
إلى حمده و السلام على عباده المصطفين و تقرير أنه هو المستحق للعبودية دون غيره مما يشركون ثم سرد الحديث في التوحيد و إثبات المعاد و ما يناسب ذلك من
متفرقات المعارف الحقة فسياق آيات السورة شبيه بما في سورة مريم من السياق على ما مر.
قوله تعالى: ﴿قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلاَمٌ عَلىَ عِبَادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىَ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ لما قص من قصص الأنبياء و أممهم ما قص و فيها بيان سنته الجارية في الأمم الماضين و ما فعل بالمؤمنين منهم من الاصطفاء و مزيد الإحسان كما في الأنبياء منهم و ما فعل بالكافرين من العذاب و التدمير و لم يفعل إلا الخير الجميل و لا جرت سنته إلا على الحكمة البالغة - انتقل منها إلى أمر نبيه بأن يحمده و يثني عليه و أن يسلم على المصطفين من عباده و قرر أنه تعالى هو المتعين للعبادة.
فهو انتقال من القصص إلى التحميد و التسليم و التوحيد و ليس باستنتاج و إن كان في حكمه و إلا قيل: فقل الحمد لله «إلخ» أو فالله خير «إلخ».
فقوله: ﴿قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أمر بتحميده و فيه إرجاع كل حمد إليه تعالى لما تقرر بالآيات السابقة أن مرجع كل خلق و تدبير إليه و هو المفيض كل خير بحكمته و الفاعل لكل جميل بقدرته.
و قوله: ﴿وَ سَلاَمٌ عَلىَ عِبَادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىَ﴾ معطوف على ما قبله من مقول القول و في التسليم لأولئك العباد المصطفين نفي كل ما في نفس المسلم من جهات التمانع و التضاد لما عندهم من الهداية الإلهية و آثارها الجميلة على ما يقتضيه معنى السلام ففي الأمر بالسلام أمر ضمني بالتهيؤ لقبول ما عندهم من الهدى و آثاره فهو بوجه في معنى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ﴾: الأنعام: ٩٠، فافهمه.
و قوله: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ من تمام الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الاستفهام للتقرير و محصل المراد أنه إذا كان الثناء كله لله و هو المصطفى لعباده المصطفين فهو خير من آلهتهم الذين يعبدونهم و لا خلق و لا تدبير لهم يحمدون عليه و لا خير بأيديهم يفيضونه على عبادهم.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً﴾ إلى آخر الآية، الحدائق جمع حديقة و هي البستان المحدود المحوط بالحيطان و ذات بهجة صفة حدائق، قال في مجمع البيان:، ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه و لم يقل: ذوات بهجة لأنه أراد تأنيث الجماعة و لو أراد تأنيث الأعيان لقال:
ذوات. انتهى.
و «أم» في الآية منقطعة تفيد معنى الإضراب، و «من» مبتدأ خبره محذوف و كذا الشق الآخر من الترديد و الاستفهام للتقرير و حملهم على الإقرار بالحق و التقدير على ما يدل عليه السياق بل أمن خلق السماوات و الأرض «إلخ» خير أم ما يشركون.
و الأمر على هذا القياس في الآيات الأربع التالية.
و معنى الآية: بل أمن خلق السماوات و الأرض و أنزل لكم أي لنفعكم من السماء و هي جهة العلو ماء و هو المطر فأنبتنا به أي بذلك الماء بساتين ذات بهجة و نضارة ما كان لكم أي لا تملكون و ليس في قدرتكم أن تنبتوا شجرها أ إله آخر مع الله سبحانه - و هو إنكار و توبيخ.
و في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب بالنسبة إلى المشركين و النكتة فيه تشديد التوبيخ بتبديل الغيبة حضورا فإن مقام الآيات السابقة على هذه الآية مقام التكلم ممن يخاطب أحد خواصه بحضرة من عبيده المتمردين المعرضين عن عبوديته يبث إليه الشكوى و هو يسمعهم حتى إذا تمت الحجة و قامت البينة كما في قوله: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ هاج به الوجد و الأسف فتوجه إليهم بعد الإعراض فأخذ في حملهم على الإقرار بالحق بذكر آية بعد آية و إنكار شركهم و توبيخهم عليه بعدولهم عنه إلى غيره و عدم علم أكثرهم و قلة تذكرهم مع تعاليه عن شركهم و عدم برهان منهم على ما يدعون.
و قوله: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ أي عن الحق إلى الباطل و عن الله سبحانه إلى غيره و قيل: أي يعدلون بالله غيره و يساوون بينهما.
و في الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إلى المشركين و رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الإضراب فيه لبيان أن لا جدوى للسير في حملهم على الحق فإنهم عادلون عنه.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ قَرَاراً﴾ إلى آخر الآية، القرار مصدر بمعنى اسم الفاعل أي القار المستقر، و الخلال جمع خلل بفتحتين و هو الفرجة بين الشيئين، و الرواسي جمع راسية و هي الثابتة و المراد بها الجبال الثابتات، و الحاجز هو المانع
المتخلل بين الشيئين.
و المعنى: بل أمن جعل الأرض مستقرة لا تميد بكم، و جعل في فرجها التي في جوفها أنهارا و جعل لها جبالا ثابتة و جعل بين البحرين مانعا من اختلاطهما و امتزاجهما هو خير أم ما يشركون؟ و الكلام في قوله: ﴿أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ كالكلام في نظيره من الآية السابقة.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ اَلْأَرْضِ أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ المراد بإجابة المضطر إذا دعاه استجابة دعاء الداعين و قضاء حوائجهم و إنما أخذ وصف الاضطرار ليتحقق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء و المسألة إذ ما لم يقع الإنسان في مضيقة الاضطرار و كان في مندوحة من المطلوب لم يتمحض منه الطلب و هو ظاهر.
ثم قيده بقوله: ﴿إِذَا دَعَاهُ﴾ للدلالة على أن المدعو يجب أن يكون هو الله سبحانه و إنما يكون ذلك عند ما ينقطع الداعي عن عامة الأسباب الظاهرية و يتعلق قلبه بربه وحده و أما من تعلق قلبه بالأسباب الظاهرية فقط أو بالمجموع من ربه و منها فليس يدعو ربه و إنما يدعو غيره.
فإذا صدق في الدعاء و كان مدعوه ربه وحده فإنه تعالى يجيبه و يكشف السوء الذي اضطره إلى المسألة كما قال تعالى: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾: المؤمن: ٦٠، فلم يشترط للاستجابة إلا أن يكون هناك دعاء حقيقة و أن يكون ذلك الدعاء متعلقا به وحده، و قال أيضا: ﴿وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾: البقرة: ١٨٦، و قد فصلنا القول في معنى الدعاء في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل الآية.
و بما مر من البيان يظهر فساد قول بعضهم إن اللام في ﴿اَلْمُضْطَرَّ﴾ للجنس دون الاستغراق فكم من مضطر يدعو فلا يجاب فالمراد إجابة دعاء المضطر في الجملة لا بالجملة.
وجه الفساد أن مثل قوله: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ و قوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ يأبى تخلف الدعاء عن الاستجابة، و قوله: كم من مضطر يدعو
فلا يجاب، غير مسلم إذا كان دعاء حقيقة لله سبحانه وحده كما تقدم بيانه.
على أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الإنسان يتوجه عند الاضطرار كركوب السفينة نحو ربه فيدعوه بالإخلاص فيستجاب له كقوله تعالى: ﴿وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ اَلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً﴾ الآية،: يونس: ١٢، و قوله: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ﴾ إلى قوله ﴿وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ﴾: يونس: ٢٢، و كيف يتصور تعلق النفس بتوجهها الغريزي الفطري بأمر لا اطمئنان لها به فما قضاء الفطرة في ذلك إلا كقضائها عند إدراك حاجتها الوجودية إلى من يوجدها و يدبر أمرها أن هناك أمرا يرفع حاجتها و هو الله سبحانه.
فإن قلت: نحن كثيرا ما نتوسل في حوائجنا من الأسباب الظاهرية بما لا نقطع بفعلية تأثيره في رفع حاجتنا و إنما نتعلق به رجاء أن ينفعنا إن نفع.
قلت: هذا توسل فكري مبدؤه الطمع و الرجاء و هو غير التوسل الغريزي الفطري نعم في ضمنه نوع من التوجه الغريزي الفطري و هو التسبب بمطلق السبب و مطلق السبب لا يتخلف، فافهم.
و ظهر أيضا فساد قول من قال: المراد بالمضطر إذا دعاه المذنب إذا استغفره فإن الله يغفر له و هو إجابته.
و فيه أن إشكال الاستغراق بحاله فما كل استغفار يستتبع المغفرة و لا كل مستغفر يغفر له. على أنه لا دليل على تقييد إطلاق المضطر بالمذنب العاصي.
و ذكر بعضهم: أن الاستغراق بحاله لكن ينبغي تقييد الإجابة بالمشية كما وقع ذلك في قوله تعالى: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾: الأنعام: ٤١.
و فيه أن الآية واقعة في سياق لا تصلح معه لتقييد الإجابة في آية المضطر و هو قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسَّاعَةُ أَ غَيْرَ اَللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾ فالساعة من القضاء المحتوم لا يتعلق بكشفها طلب حقيقي، و أما العذاب الإلهي فإن طلب كشفه بتوبة و إيمان حقيقي فإن الله يكشفه كما كشف عن قوم يونس و إن لم يكن كذلك بل احتيالا للنجاة منه فلا لعدم كونه طلبا حقيقيا بل مكرا في صورة الطلب كما حكاه الله عن فرعون لما
أدركه الغرق ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ﴾: يونس: ٩١، و حكى عن أقوام آخرين أخذهم بالعذاب: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَاَلَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ﴾: الأنبياء: ١٥.
و بالجملة فمورد قوله: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾ لما كان مما يمكن أن يكون الطلب فيه حقيقيا أو غير حقيقي كان من اللازم تقييد الكشف و الإجابة فيه بالمشية فيكشف الله عنهم إن شاء و ذلك في مورد حقيقة الطلب و الإيمان و لا يكشف إن لم يشأ و هذا غير مورد آية المضطر و سائر آيات إجابة الدعوة الذي يتضمن حقيقة الدعاء من الله سبحانه وحده.
و قوله: ﴿وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ اَلْأَرْضِ﴾ الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضية التي جعلها الله للإنسان يتصرف بها في الأرض و ما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾: البقرة: ٣٠.
و ذلك أن تصرفاته التي يتصرف بها في الأرض و ما فيها بخلافته أمور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار و يسأل الله كشفه لا محالة شيء من الأشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها و تغلق عليه باب الحياة و البقاء و ما يتعلق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته.
و يتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء و المسألة في قوله: ﴿إِذَا دَعَاهُ﴾ على الأعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: ﴿وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾: إبراهيم: ٣٤، و قوله: ﴿يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾: الرحمن: ٢٩، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الإنسان و رزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه و كشف السوء الذي اضطره عنه.
و قيل: المعنى و يجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض تسكنون مساكنهم و تتصرفون فيها بعدهم هذا. و ما قدمناه من المعنى أنسب منه للسياق.
و قيل: المعنى: و يجعلكم خلفاء من الكفار بنزول بلادهم و طاعة الله تعالى بعد شركهم و عنادهم. و فيه أن الخطاب في الآية كسائر الآيات الخمس التي قبلها للكفار لا للمؤمنين كما عليه بناء الوجه.
و قوله: ﴿قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ خطاب توبيخي للكفار و قرئ «يذكرون» بالياء للغيبة و هو أرجح لموافقته ما في ذيل سائر الآيات الخمس كقوله: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ و غيرهما، فإن الخطاب فيها جميعا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بطريق الالتفات كما مر بيانه.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ إلخ، و المراد بظلمات البر و البحر ظلمات الليالي في البر و البحر ففيه مجاز عقلي، و المراد بإرسال الرياح بشرا إرسالها مبشرات بالمطر قبيل نزوله و الرحمة المطر، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ إلخ، بدء الخلق إيجاده ابتداء لأول مرة و إعادته إرجاعه إليه بالبعث و تبكيت المشركين بالبدء و الإعادة مع إنكارهم البعث كما سيذكره بقوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ، بناء على ثبوت المعاد بالأدلة القاطعة في كلامه فأخذ كالمسلم ثم استدرك إنكارهم له أو شكهم فيه في الآيات التالية.
و قيل: المراد ببدء الخلق ثم إعادته إيجاد الواحد من نوعه ثم إهلاكه و إيجاد نظيره بعده و بالجملة إيجاد المثل بعد المثل فلا يرد أن المشركين منكرون للمعاد فكيف يحتج به عليهم. هذا و هو بعيد من ظاهر الآية.
و ما تتضمنه الآية من لطائف الحقائق القرآنية يفيد أن لا بطلان في الوجود مطلقا بل ما أوجده الله تعالى بالبدء سيرجع إليه بالإعادة و ما نشاهده من الهلاك فيها فقدان منا له بعد وجدانه.
و أما ما أجمع عليه المتكلمون من امتناع إعادة المعدوم في بعض الموجودات كالأعراض و اختلفوا في جواز إعادة بعض آخر كالجواهر، لا ارتباط له بمسألة البعث على ما تقرره الآية، فإن البعث ليس من باب إعادة المعدوم حتى يمتنع بامتناع إعادته
لو امتنعت بل البعث عود الخلق و رجوعه و هو خلق من غير بطلان إلى ربه المبدئ له.
و قوله: ﴿وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ إشارة إلى ما وقع من تدبيره لأمرهم بين البدء و العود و هو رزقهم بأسباب سماوية كالأمطار و أسبابها و الأرضية كعامة ما يتغذى به الإنسان من الأرضيات.
و قوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ لما ذكر سبحانه فصولا مشتملة على عامة الخلق و التدبير مع الإشارة إلى ارتباط التدبير بعضه ببعض و ارتباط الجميع إلى الخلق و عاد الخلق و التدبير بذلك أمرا واحدا منتسبا إليه قائما به تعالى و أثبت بذلك أنه تعالى هو رب كل شيء وحده لا شريك له و كان لازم ذلك إبطال ألوهية الآلهة التي يدعونها من دون الله.
و ذلك أن الألوهية و هي استحقاق العبادة تتبع الربوبية التي هي تدبير عن ملك فالعبادة على ما يتداولونها إما لتكون شكرا للنعمة أو اتقاء للنقمة و على أي حال ترتبط بالتدبير الذي هو من شئون الربوبية .
و كان إبطال ألوهية الآلهة من دون الله هو الغرض من الفصول الموردة في هذه الآيات كما يدل على ذلك قوله بعد إيراد كل واحد من الفصول: ﴿أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ﴾.
أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه من ألوهية آلهتهم ليظهر بانقطاعهم أنهم مجازفون في دعواهم إذ لو استدلوا على ألوهيتها بشيء كان من الواجب أن ينسبوا إليها شيئا من تدبير العالم و الحال أن جميع الخلق و التدبير له تعالى وحده.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ لما أمره (ص) بعد إبطال ألوهية آلهتهم بانتساب الخلق و التدبير إليه تعالى وحده أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه أمره ثانيا أن يواجههم ببرهان آخر على بطلان ألوهية آلهتهم و هو عدم علمهم بالغيب و عدم شعورهم بالساعة و أنهم أيان يبعثون مع أنه لا يعلم أحد ممن في السماوات و الأرض و منهم آلهتهم الذين هم الملائكة
و الجن و قديسو البشر الغيب و ما يشعرون أيان يبعثون، و لو كانوا آلهة لهم تدبير أمر الخلق و من التدبير الجزاء يوم البعث لعلموا بالساعة.
و قد ظهر بهذا البيان أن قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ برهان مستقل على بطلان ألوهية آلهتهم و اختصاص الألوهية به تعالى وحده و أن قوله: ﴿وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ من عطف أوضح أفراد الغيب عليه و أهمها علما بالنسبة إلى أمر التدبير.
و ظهر أيضا أن ضميري الجمع في ﴿وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ لمن في السماوات لعدم تمام البيان بدونه.
فقول بعضهم: إن الضمير للمشركين و إن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه و بين الضمائر الآتية الراجعة إليهم قطعا.
فيه أنه ينافي ما سيقت له الآية الكريمة من البيان كما قدمنا الإشارة إليه و التفكيك بين الضمائر مع وجود القرينة لا بأس به.
قوله تعالى: ﴿بَلِ اِدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ ادارك في الأصل تدارك و التدارك تتابع أجزاء الشيء بعضها بعد بعض حتى تنقطع و لا يبقى منها شيء، و معنى تدارك علمهم في الآخرة أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في غيرها حتى نفد علمهم فلم يبق منه شيء يدركون به أمر الآخرة على حد قوله تعالى:
﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ﴾: النجم: ٣٠ و ﴿عَمُونَ﴾ جمع عمي.
لما انتهى احتجاجه تعالى إلى ذكر عدم شعور أحد غيره تعالى بوقت البعث و تبكيت المشركين بذلك رجع إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذكره أنهم في معزل عن الخطاب بذلك إذ لا خبر لهم عن شيء عن أمور الآخرة فضلا عن وقت قيام الساعة و ذلك أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في جهات الحياة الدنيا فهم في جهل مطلق بالنسبة إلى أمور الآخرة بل هم في شك من الآخرة يرتابون في أمرها كما يظهر من احتجاجاتهم على نفيها المبنية على الاستبعاد بل هم منها عمون و الله أعمى قلوبهم عن التصديق بها و الاعتقاد بوجودها.
و قد ظهر بهذا البيان أن تكرر كلمة الإضراب لبيان مراتب الحرمان من العلم بالآخرة و أنهم في أعلاها، فقوله: ﴿بَلِ اِدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ﴾ أي لا علم لهم بها كأنها لم تقرع سمعهم، و قوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا﴾ أي أنه قرع سمعهم خبرها و ورد قلوبهم لكنهم ارتابوا و لم يصدقوا بها، و قوله: ﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ أي إنهم لم ينقطعوا عن الاعتقاد بها من عند أنفسهم و باختيار منهم بل الله سبحانه أعمى أبصار قلوبهم فصاروا عمين فهيهات أن يدركوا من أمرها شيئا.
و قيل: المراد بتدارك علمهم تكامله و بلوغه حد اليقين لتكامل الحجج الدالة على حقية البعث و الجملة مسوقة للتهكم، و فيه أنه لا يلائم ما يتبعه من الإضراب بالشك و العمى.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً وَ آبَاؤُنَا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ إلى قوله ﴿اَلْأَوَّلِينَ﴾ حكاية حجة منهم لنفي البعث مبنية على الاستبعاد أي كيف يمكن أن نخرج من الأرض بشرا تامين كما نحن اليوم و قد متنا و كنا ترابا نحن و آباؤنا كذلك؟.
و قوله: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ﴾ حجة أخرى منهم مبنية على الاستبعاد أي لقد وعدنا هذا و هو البعث بعد الموت نحن و آباؤنا وعدوه قبل أن يعدنا هذا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الذين وعدوا قبلا هم الأنبياء الماضون فهو وعد قديم لم نزل نوعد به و لو كان خبرا صادقا و وعدا حقا لوقع إلى هذا اليوم و إذ لم يقع فهو من الخرافات التي اختلقها الأولون و كانوا مولعين باختلاق الأوهام و الخرافات و الإصغاء إليها.
قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ﴾ إنذار و تخويف لهم على إنكارهم وعد الأنبياء بالبعث بأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة المجرمين المكذبين للأنبياء المنذرين لهم بالبعث فإن في النظر إلى عاقبة أمرهم على ما تدل عليه مساكنهم الخربة و ديارهم الخالية كفاية للمعتبرين من أولي الأبصار، و في التعبير عن المكذبين بالمجرمين لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم.
كذا قيل.
و يمكن أن تقرر الآية حجة تدل على المعاد و تقريبها أن انتهاء عاقبة أمر المجرمين
إلى عذاب الاستئصال دليل على أن الاجرام و الظلم من شأنه أن يؤاخذ عليه و أن العمل إحسانا كان أو إجراما محفوظ على عامله سيحاسب عليه و إذ لم تقع عامة هذا الحساب و الجزاء و خاصة على الأعمال الصالحة في الدنيا فذلك لا محالة في نشأة أخرى و هي الدار الآخرة.
فتكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾: ص: ٢٨، و يؤيد هذا التقرير قوله:
﴿عَاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ﴾ و لو كان المراد تهديد مكذبي الرسل و تخويفهم كان الأنسب أن يقال: عاقبة المكذبين، كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ أي لا يحزنك إصرارهم على الكفر و الجحود و لا يضق صدرك من مكرهم لإبطال دعوتك و صدهم الناس عن سبيل الله فإنهم بعين الله و ليسوا بمعجزيه و سيجزيهم بأعمالهم.
فالآية مسوقة لتطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قوله: ﴿وَ لاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ﴾ إلخ، معطوف على ما قبله عطف التفسير.
قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ الظاهر أن المراد بالوعد الوعد بعذاب المجازاة أعم من الدنيا و الآخرة، و السياق يؤيد ذلك و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿قُلْ عَسىَ أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ قالوا:
إن اللام في ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ مزيدة للتأكيد، كالباء في قوله: ﴿وَ لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ﴾: البقرة: ١٩٨، و المعنى تبعكم و لحق بكم، و قيل: إن ردف مضمن معنى فعل يعدي باللام.
و المراد ببعض الذي يستعجلونه هو عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة فإنهم كانوا يستعجلون إنجاز ما وعدهم الله من الحكم الفصل، و هو ملازم لعذابهم، و عذابهم في الدنيا بعض العذاب الذي يستعجلونه باستنجاز الوعد، و لعل مراد الآية به عذاب يوم بدر كما قيل.
قالوا: إن «عسى و لعل» من الله تعالى واجب لأن حقيقة الترجي مبنية على
الجهل و لا يجوز عليه تعالى ذلك فمعنى قوله: ﴿عَسىَ أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ﴾ سيردفكم و يأتيكم العذاب محققا.
و فيه أن معنى الترجي و التمني و نحوهما كما جاز أن يقوم بنفس المتكلم يجوز أن يقوم بالمقام أو بالسامع أو غيرهما و هو في كلامه تعالى قائم بغير المتكلم من المقام و غيره و ما في الآية من الجواب لما أرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان الرجاء المدلول عليه بكلمة عسى قائما بنفسه الشريفة و المعنى: قل أرجو أن يكون ردف لكم العذاب.
و في تفسير أبي السعود:، و عسى و لعل و سوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها، و إنما يطلقونها إظهارا للوقار، و إشعارا بأن الرمز من أمثالهم كالتصريح ممن عداهم و على ذلك مجرى وعد الله تعالى و وعيده انتهى و هو وجه وجيه.
و معنى الآية: قل لهؤلاء السائلين عن وقت الوعد: أرجو أن يكون تبعكم بعض الوعد الذي تستعجلونه و هو عذاب الدنيا الذي يقربكم من عذاب الآخرة و يؤديكم إليه، و في التعبير بقوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ إيماء إلى قربه.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ معنى الآية في نفسها ظاهر و وقوعها في سياق التهديد و التخويف يفيد أن تأخيره تعالى العذاب عنهم مع استحقاقهم ذلك إنما هو فضل منه عليهم يجب عليهم شكره عليه لكنهم لا يشكرونه و يسألون تعجيله.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ﴾ أي إن تأخير العذاب ليس عن جهل منه تعالى بحالهم و ما يستحقونه بالكفر و الجحود فإنه يعلم ما تستره و تخفيه صدورهم و ما يظهرونه.
ثم أكد ذلك بأن كل غائبة و هي ما من شأنه أن يغيب و يخفى في أي جهة من جهات العالم كان مكتوب محفوظ عنده تعالى و هو قوله: ﴿وَ مَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى قوله ﴿اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ﴾ تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تمهيد لما سيذكره من حقية دعوته و تقوية لإيمان المؤمنين به، و بهذا الوجه يتصل بقوله قبلا: ﴿وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ إلخ المشعر بحقية دعوته.
فقوله: ﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ يشير إلى ما يقصه القرآن من قصص الأنبياء و يبين الحق فيما اختلفوا فيه من أمرهم و منه أمر المسيح (عليه السلام) و يبين الحق فيما اختلفوا فيه من المعارف و الأحكام.
و قوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يشير إلى أنه يهدي المؤمنين بما قصه على بني إسرائيل إلى الحق و أنه رحمة لهم تطمئن به قلوبهم و يثبت الإيمان بذلك في نفوسهم.
و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ﴾ إشارة إلى أن القضاء بينهم إلى الله فهو ربه العزيز الذي لا يغلب في أمره العليم لا يجهل و لا يخطئ في حكمه فهو القاضي بينهم بحكمه فلترض نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بربه العزيز العليم قاضيا حكما و لترجع الأمر إليه كما ينبغي أن تفعل مثل ذلك في حق المشركين و لا تحزن عليهم و لا تكون في ضيق مما يمكرون.
قوله تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ﴾ تفريع على مجموع ما أمر به قبال كفر المشركين و اختلاف بني إسرائيل أي إن أمرهم جميعا إلى الله لا إليك فاتخذه وكيلا فهو كافيك و لا تخافن شيئا إنك في أمن من الحق.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىَ ﴾ إلى قوله ﴿فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ تعليل للأمر بالتوكل أي إنما أمرناك بالتوكل على الله في أمر إيمانهم و كفرهم لأنهم موتى و ليس في وسعك أن تسمع الموتى دعوتك و إنهم صم لا يسمعون و عمي ضالون لا تقدر على إسماع الصم إذا ولوا مدبرين و لعله قيد عدم إسماع الصم بقوله: ﴿إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ لأنهم لو لم يكونوا مدبرين لأمكن تفهيمهم بنوع من الإشارة و لا على هداية العمي عن ضلالتهم، و إنما الذي تقدر عليه هو أن تسمع من يؤمن بآياتنا الدالة علينا و تهديهم فإنهم لإذعانهم بتلك الحجج الحقة مسلمون لنا مصدقون بما تدل عليه.
و قد تبين بهذا البيان أولا أن المراد بالإسماع الهداية.
و ثانيا: أن المراد بالآيات الحجج الدالة على التوحيد و ما يتبعه من المعارف الحقة.
و ثالثا: أن من تعقل الحجج الحقة من آيات الآفاق و الأنفس بسلامة من العقل ثم استسلم لها بالإيمان و الانقياد ليس هو من الموتى و لا ممن ختم الله على سمعه و بصره.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ سَلاَمٌ عَلىَ عِبَادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىَ﴾ قال: هم آل محمد (عليه السلام).:
أقول: و رواه أيضا في جمع الجوامع، عنهم (عليه السلام) مرسلا مضمرا، و قد عرفت فيما تقدم من البيان في ذيل الآية أن الذي يعطيه السياق أن المراد بهم بحسب مورد الآية الأنبياء المنعمون بنعمة الاصطفاء و قد قص الله قصص جمع منهم فقوله (عليه السلام) لو صحت الرواية هم آل محمد (عليه السلام) من قبيل الجري و الانطباق.
و نظيرها ما رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الكتب عن ابن عباس، :في الآية قال: هم أصحاب محمد فهو لو صحت الرواية إجراء منه و تطبيق.
و منه يظهر ما فيما رواه أيضا عن عبد بن حميد و ابن جرير عن سفيان الثوري:
في الآية قال: نزلت في أصحاب محمد خاصة، فلا نزول و لا اختصاص.
و في تفسير القمي، أيضا ":في قوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ قال: عن الحق.
و فيه،: في قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ الآية،: حدثني أبي عن الحسن بن علي بن فضال عن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت في القائم من آل محمد (عليه السلام) هو و الله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين و دعا إلى الله عز و جل فأجابه و يكشف السوء و يجعله خليفة في الأرض.
أقول: و الرواية أيضا من الجري و الآية عامة.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه لأن الله تعالى يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ اَلْأَرْضِ﴾ فالخلافة من الله عز و جل فإن كان خيرا فهو يذهب به و إن كان شرا فهو يؤخذ به، عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به. أقول: الرواية لا تخلو من شيء فقد تقدم أن المراد بالخلافة في الآية على ما يشهد به السياق الخلافة الأرضية المقدرة لكل إنسان و هو السلطة على ما في الأرض بأنواع التصرف دون الخلافة بمعنى الحكومة على الأمة بإدارة رحى مجتمعهم.
و مع الغض عن ذلك فمتن الرواية لا يخلو عن تدافع فإن كان المراد بكون الخلافة من الله تعالى أن سلطانه على الناس بتقدير من الله و بعبارة أخرى انتسابها التكويني إلى الله سبحانه كما ورد في ملك نمرود من قوله تعالى: ﴿أَنْ آتَاهُ اَللَّهُ اَلْمُلْكَ﴾: البقرة:
٢٥٨، و قوله حكاية عن فرعون: ﴿أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾: الزخرف: ٥١، فمن البين أن الخلافة بهذا المعنى لا تستتبع وجوب الطاعة و حرمة المخالفة و إلا كان نقضا لأصل الدعوة الدينية و إيجابا لطاعة أمثال نمرود و فرعون و كم لها من نظير، و إن كان المراد به الجعل الوضعي الديني و بعبارة أخرى انتسابها التشريعي إلى الله تعالى ثم وجبت طاعته فيما يأمر به و إن كان معصية كان ذلك نقضا صريحا للأحكام، و إن كان الواجب طاعته في غير معصية الله
لقوله (ص): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» جازت مفارقة الجماعة في الجملة و هو يناقض صدر الرواية.
و نظير الإشكال يجري في قوله ذيلا: «عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به» فلو كان المراد مما أمر الله به طاعته مقام الخلافة و إن كان في معصية كان نقضا صريحا لتشريع الأحكام و إن كان المراد به طاعة الله و إن استلزم معصية مقام الخلافة كان ناقضا لصدر الرواية.
و قد اتضح اليوم بالأبحاث الاجتماعية أن إمضاء حكومة من لا يحترم القوانين المقدسة الجارية لا يرضى به مجتمع عاقل رشيد فمن الواجب تنزيه ساحة مشرع الدين عن ذلك، و القول بأن مصلحة حفظ وحدة الكلمة و اتفاق الأمة أهم من حفظ بعض الأحكام بالمفارقة معناه جواز هدم حقيقة الدين لحفظ اسمه.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج الطيالسي و سعيد بن منصور و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن مسروق قال" :كنت متكئا عند عائشة فقالت عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: و ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال: و كنت متكئا فجلست و قلت: يا أم المؤمنين أنظريني و لا تعجلي علي أ لم يقل الله: ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ﴾ ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىَ﴾؟
فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: جبرئيل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض. قالت: أ لم تسمع الله عز و جل يقول: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصَارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ﴾؟ أ و لم تسمع الله يقول: ﴿وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً ﴾ إلى قوله ﴿عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾.
و من زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية و الله جل ذكره يقول: «﴿يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ﴾.
قالت: و من زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية و الله تعالى يقول: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللَّهُ﴾. أقول: و في متن الرواية شيء أما آيات الرؤية فإنما تنفي رؤية الحس دون رؤية القلب و هي من الرؤية وراء الإيمان الذي هو الاعتقاد و قد أشبعنا الكلام فيها في الموارد المناسبة له.
و أما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ﴾ الآية فقد أوضحنا في تفسير الآية أنها خاصة غير عامة و لو فرضت عامة فإنما تدل على أن كل ما أنزل إليه مما فيه رسالة وجب عليه تبليغه و من الجائز أن ينزل إليه ما يختص علمه به (ص) فيكتمه عن غيره.
و أما قوله: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ فلا يدل إلا على اختصاص علم الغيب بالذات به تعالى كسائر آيات اختصاص الغيب به، و لا ينفي علم الغير به بتعليم منه تعالى كما يشير إليه قوله: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ﴾: الجن: ٢٧، و قد حكى الله سبحانه نحوا من هذا الإخبار عن المسيح (عليه السلام) إذ قال: ﴿وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ﴾: آل عمران: ٤٩، و من المعلوم أن القائل إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يخبر الناس بما يكون في غد لا ينفي كون ذلك بتعليم من الله له.
و قد تواترت الأخبار على تفرقها و تنوعها من طرق الفريقين على إخباره (ص) بكثير من الحوادث المستقبلة.
[سورة النمل (٢٧): الآیات ٨٢ الی ٩٣]
﴿وَ إِذَا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ ٨٢ وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ٨٣ حَتَّى إِذَا جَاؤُ قَالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٨٤ وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ ٨٥ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٨٦ وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ٨٧ وَ تَرَى اَلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ صُنْعَ اَللَّهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ٨٨ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ٨٩ وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٩٠ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَهَا وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ٩١ وَ أَنْ أَتْلُوَا اَلْقُرْآنَ فَمَنِ اِهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ ٩٢ وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٩٣﴾
(بيان)
هي من تمام الفصل السابق من الآيات تشير إلى البعث و بعض ما يلحق به من الأمور الواقعة فيه و بعض أشراطه و تختم السورة بما يرجع إلى مفتتحها من الإنذار و التبشير.
قوله تعالى ﴿وَ إِذَا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ﴾ مقتضى السياق بما أن الآية متصلة بما قبلها من الآيات الباحثة عن أمر المشركين المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو خصوص أهل مكة من قريش و قد كانوا أشد الناس عداوة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعوته أن ضمائر ﴿عَلَيْهِمْ﴾ و ﴿لَهُمْ﴾ و ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ للمشركين المحدث عنهم لكن لا لخصوصهم بل بما أنهم ناس معنيون بالدعوة فالمراد بالحقيقة عامة الناس من هذه الأمة من حيث وحدتهم فيلحق بأولهم من الحكم ما يلحق بآخرهم و هذا النوع من العناية كثير الورود في كلامه تعالى.
و المراد بوقوع القول عليهم تحقق مصداق القول فيهم و تعينهم لصدقه عليهم كما في الآية التالية: ﴿وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا﴾ أي حق عليهم العذاب، فالجملة في معنى ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ﴾ و قد كثر وروده في كلامه تعالى، و الفرق بين التعبيرين أن العناية في ﴿وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ بتعينهم مصداقا للقول و في ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ﴾ باستقرار القول و ثبوته فيهم بحيث لا يزول.
و أما ما هو هذا القول الواقع عليهم فالذي يصلح من كلامه تعالى لأن يفسر به قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ﴾: حم السجدة:
٥٣، فإن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية و الأرضية التي هي بمرآهم و مسمعهم دائما قطعا بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها و تضطر للإيمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشيء من آيات السماء و الأرض التي هي تجاه أعينهم و تحت مشاهدتهم.
و بهذا يظهر أن قوله: ﴿أَنَّ اَلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ﴾ تعليل لوقوع القول عليهم و التقدير لأن الناس، و قوله: ﴿كَانُوا﴾ لإفادة استقرار عدم الإيقان فيهم و المراد بالآيات الآيات المشهودة من السماء و الأرض غير الآيات الخارقة، و قرئ ﴿أَنَّ﴾ بكسر
الهمزة و هي أرجح من قراءة الفتح فيؤيد ما ذكرناه و تكون الجملة بلفظها تعليلا من دون تقدير اللام.
و قوله: ﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾ بيان لآية خارقة من الآيات الموعودة في قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ﴾ و في كونه وصفا لأمر خارق للعادة دلالة على أن المراد بالإخراج من الأرض إما الإحياء و البعث بعد الموت و إما أمر يقرب منه، و أما كونها دابة تكلمهم فالدابة ما يدب في الأرض من ذوات الحياة إنسانا كان أو حيوانا غيره فإن كان إنسانا كان تكليمه الناس على العادة و إن كان حيوانا أعجم كان تكليمه كخروجه من الأرض خرقا للعادة.
و لا نجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية و أن هذه الدابة التي سيخرجها لهم من الأرض فتكلمهم ما هي؟ و ما صفتها؟ و كيف تخرج؟ و ما ذا تتكلم به؟ بل سياق الآية نعم الدليل على أن القصد إلى الإبهام فهو كلام مرموز فيه.
و محصل المعنى: أنه إذا آل أمر الناس و سوف يئول إلى أن كانوا لا يوقنون بآياتنا المشهودة لهم و بطل استعدادهم للإيمان بنا بالتعقل و الاعتبار آن وقت أن نريهم ما وعدنا إراءته لهم من الآيات الخارقة للعادة المبينة لهم الحق بحيث يضطرون إلى الاعتراف بالحق فأخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم.
هذا ما يعطيه السياق و يهدي إليه التدبر في الآية من معناها، و قد أغرب المفسرون حيث أمعنوا في الاختلاف في معاني مفردات الآية و جملها و المحصل منها و في حقيقة هذه الدابة و صفتها و معنى تكليمها و كيفية خروجها و زمان خروجها و عدد خروجها و المكان الذي تخرج منه في أقوال كثيرة لا معول فيها إلا على التحكم، و لذا أضربنا عن نقلها و البحث عنها، و من أراد الوقوف عليها فعليه بالمطولات.
قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ الفوج كما ذكره الراغب - الجماعة المارة المسرعة، و الإيزاع إيقاف القوم و حبسهم بحيث يرد أولهم على آخرهم.
و قوله: ﴿وَ يَوْمَ نَحْشُرُ﴾ منصوب على الظرفية لمقدر و التقدير و اذكر يوم نحشر و المراد بالحشر هو الجمع بعد الموت لأن المحشورين فوج من كل أمة و لا اجتماع لجميع
الأمم في زمان واحد و هم أحياء، و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ للتبعيض، و في قوله: ﴿مِمَّنْ يُكَذِّبُ﴾ للتبيين أو للتبعيض.
و المراد بالآيات في قوله: ﴿يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا﴾ مطلق الآيات الدالة على المبدإ و المعاد و منها الأنبياء و الأئمة و الكتب السماوية دون الساعة و ما يقع فيها و عند قيامها و دون الآيات القرآنية فقط لأن الحشر ليس مقصورا على الأمة الإسلامية بل أفواج من أمم شتى.
و من العجيب إصرار بعضهم على أن الكلام نص في أن المراد بالآيات هاهنا و في الآية التالية هي الآيات القرآنية قال: لأنها هي المنطوية على دلائل الصدق التي لم يحيطوا بها مع وجوب أن يتأملوا و يتدبروا فيها لا مثل الساعة و ما فيها انتهى.
و فساده ظاهر لأن عدم كون أمثال الساعة و ما فيها مرادة لا يستلزم إرادة الآيات القرآنية مع ظهور أن المحشورين أفواج من جميع الأمم و ليس القرآن إلا كتابا لفوج واحد منهم.
و ظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة لأنه حشر للبعض من كل أمة لا لجميعهم و قد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة: ﴿وَ حَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾: الكهف: ٤٧.
و قيل: المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق فهو حشر بعد حشر.
و فيه أنه لو كان المراد الحشر إلى العذاب لزم ذكر هذه الغاية دفعا للإبهام كما في قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اَللَّهِ إِلَى اَلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُهَا﴾: حم السجدة: ٢٠ مع أنه لم يذكر في ما بعد هذه الآية إلا العتاب و الحكم الفصل دون العذاب و الآية كما ترى مطلقة لم يشر فيها إلى شيء يلوح إلى هذا الحشر الخاص المذكور و يزيدها إطلاقا قوله بعدها: ﴿حَتَّى إِذَا جَاؤُ﴾ فلم يقل: حتى إذا جاءوا العذاب أو النار أو غيرها.
و يؤيد ذلك أيضا وقوع الآية و الآيتين بعدها بعد نبإ دابة الأرض و هي من أشراط الساعة و قبل قوله: ﴿وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ﴾ إلى آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، و لا معنى لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذكر شروعه و وقوع عامة ما يقع فيه فإن الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كل أمة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور و إتيانهم إليه داخرين.
و قد تنبه لهذا الإشكال بعض من حمل الآية على الحشر يوم القيامة فقال: لعل تقديم ذكر هذه الواقعة على نفخ الصور و وقوع الواقعة للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا و ذاك من الأحوال طامة كبري و داهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها و لو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة.
و أنت خبير بأنه وجه مختلق غير مقنع، و لو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الإبهام المذكور أولى بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه.
فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة و إن لم تكن نصا لا يقبل التأويل.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاؤُ قَالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ المراد بالمجيء بإعانة من السياق هو الحضور في موطن الخطاب المدلول عليه بقوله: ﴿قَالَ أَ كَذَّبْتُمْ﴾ إلخ و المراد بالآيات كما تقدم في الآية السابقة مطلق الآيات الدالة على الحق، و قوله: ﴿وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً﴾ جملة حالية أي كذبتم بها حال كونكم لا علم لكم بها لإعراضكم عنها فكيف كذبتم بما لا تعلمون أي رميتموها بالكذب و عدم الدلالة من غير علم، و قوله: ﴿أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي غير التكذيب.
و المعنى: حتى إذا حضروا في موطن الخطاب قال الله سبحانه لهم: أ كذبتم بآياتي حال كونكم لم تحيطوا بها علما أم أي شيء كنتم تعملون غير التكذيب، و في ذلك عتابهم بأنهم لم يشتغلوا بشيء غير تكذيبهم بآيات الله من غير أن يشغلهم عنه شاغل معذر.
قوله تعالى: ﴿وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ﴾ الباء في ﴿بِمَا ظَلَمُوا﴾ للسببية و (ما) مصدرية أي وقع القول عليهم بسبب كونهم ظالمين، و قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ﴾ تفريع على وقوع القول عليهم.
و بذلك يتأيد أن المراد بالقول الذي يقع عليهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ﴾: الأنعام: ١٤٤، و المعنى: و لكونهم ظالمين في تكذيبهم بالآيات لم يهتدوا إلى ما يعتذرون به فانقطعوا عن الكلام فهم لا ينطقون.
و ربما فسر وقوع القول عليهم بوجوب العذاب عليهم و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالقول الواقع عليهم قضاؤه تعالى بالعذاب في حق الظالمين في مثل قوله:
﴿أَلاَ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾: الشورى: ٤٥، و المعنى: و لكونهم ظالمين قضي فيهم بالعذاب فلم يكن عندهم ما ينطقون به، و الوجه السابق أوجه.
و أما تفسير وقوع القول بحلول العذاب و دخول النار فبعيد من السياق لعدم ملاءمته التفريع في قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لما وصف في الآيات السابقة أن كثيرا من الناس في صمم و عمي من استماع كلمة الحق و النظر في آيات الله و الاعتبار بهما، ثم ذكر دابة الأرض و أنه سيخرجها آية خارقة للعادة تكلمهم، ثم ذكر أنه سيحشر فوجا من كل أمة من المكذبين فيعاتبهم فتتم عليهم الحجة بقولهم بغير علم بالآيات لإعراضهم عنها وبخهم في هذه الآية و لامهم على تكذيبها بالآيات مع الجهل أنهم كانوا يرون الليل الذي يسكنون فيه بالطبع و أن هناك نهارا مبصرا يظهر لهم بها آيات السماء و الأرض فلم لم يتبصروا؟.
و قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي في جعل الليل سكنا يسكنون فيه و النهار مبصرا يبصرون فيه آيات السماء و الأرض آيات لقوم فيهم خاصة الإذعان و التصديق للحق اللائح لهم.
و المراد بالآيات العلامات و الجهات الدالة فيهما على التوحيد و ما يتبعه من حقائق المعارف، و من جملة ذلك دلالتهما على أن الإنسان عليه أن يسكن فيما من شأنه أن يسكن فيه، و هو الليل الذي يضرب بحجاب ظلمته على الأبصار، و يتحرك فيما من شأنه أن يتحرك فيه و هو النهار المبصر الذي يظهر به الأشياء التي تتضمن منافع الحياة للأبصار.
فعلى الإنسان أن يسكت عما حجبته عنه ظلمة الجهل و لا يقول بغير علم و لا يكذب بما لا يحيط به علما و أن يقول و يؤمن بما تجليه له بينات الآيات التي هي كالنهر المبصرة.
قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ النفخ في الصور كناية عن إعلام الجماعة الكثيرين كالعسكر بما يجب عليهم أن يعملوا به جمعا كالحضور و الارتحال و غير ذلك، و الفزع كما قال الراغب انقباض و نفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف و هو من جنس الجزع، و الدخور الذلة و الصغار.
قيل: المراد بهذا النفخ النفخة الثانية للصور التي بها تنفخ الحياة في الأجساد فيبعثون لفصل القضاء، و يؤيده قوله في ذيل الآية: ﴿وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ و المراد به حضورهم عند الله سبحانه، و يؤيده أيضا استثناؤه ﴿مَنْ شَاءَ اَللَّهُ﴾ من حكم الفزع ثم قوله فيمن جاء بالحسنة: ﴿وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ حيث يدل على أن الفزع المذكور هو الفزع في النفخة الثانية.
و قيل: المراد به النفخة الأولى التي يموت بها الأحياء بدليل قوله: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىَ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾: الزمر: ٦٨، فإن الصعقة من الفزع و قد رتب على النفخة الأولى و على هذا يكون المراد بقوله: ﴿وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ رجوعهم إلى الله سبحانه بالموت.
و لا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذ مطلق النفخ أعم مما يميت أو يحيي فإن النفخ كيفما كان من مختصات الساعة، و يكون ما ذكر من فزع بعضهم و أمن بعضهم من الفزع و سير الجبال من خواص النفخة الأولى و ما ذكر من إتيانهم داخرين من خواص النفخة الثانية و يندفع بذلك ما يورد على كل واحد من الوجهين السابقين.
و قد استثنى سبحانه جمعا من عباده من حكم الفزع العام الشامل لمن في السماوات و الأرض، و سيجيء كلام في معنى هذا الاستثناء في الكلام على قوله الآتي: ﴿وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾.
و الظاهر أن المراد بقوله: ﴿وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ رجوع جميع من في السماوات و الأرض حتى المستثنين من حكم الفزع و حضورهم عنده تعالى، و أما قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ﴾: الصافات: ١٢٧، فالظاهر أن المراد نفي إحضارهم في الجمع للحساب و السؤال لا نفي بعثهم و رجوعهم إلى الله و حضورهم عنده فآيات القيامة ناصة على عموم البعث لجميع الخلائق بحيث لا يشذ منهم شاذ.
و نسبة الدخور و الذلة إلى أوليائه تعالى لا تنافي ما لهم من العزة عند الله فإن عزة العبد عند الله ذلته عنده و غناه بالله فقره إليه نعم ذلة أعدائه بما يرون لأنفسهم من العزة الكاذبة ذلة هوان.
قوله تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ صُنْعَ اَللَّهِ اَلَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ الآية بما أنها واقعة في سياق آيات القيامة محفوفة بها تصف بعض ما يقع يومئذ من الآيات و هو سير الجبال و قد قال تعالى في هذا المعنى أيضا: ﴿وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً﴾: النبأ: ٢٠، إلى غير ذلك.
فقوله: ﴿وَ تَرَى اَلْجِبَالَ﴾ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد به تمثيل الواقعة، كما في قوله: ﴿وَ تَرَى اَلنَّاسَ سُكَارىَ﴾: الحج: ٢، أي هذا حالها المشهودة في هذا اليوم تشاهدها لو كنت مشاهدا، و قوله: ﴿تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ أي تظنها الآن و لم تقم القيامة بعد جامدة غير متحركة، و الجملة معترضة أو حالية.
و قوله: ﴿وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ﴾ حال من الجبال و عاملها ﴿تَرَى﴾ أي تراها إذا نفخ في الصور حال كونها تسير سير السحاب في السماء.
و قوله: ﴿صُنْعَ اَللَّهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ مفعول مطلق لمقدر أي صنعه صنعا و في الجملة تلويح إلى أن هذا الصنع و الفعل منه تعالى تخريب للدنيا و هدم للعالم، لكنه في الحقيقة تكميل لها و إتقان لنظامها لما يترتب عليه من إنهاء كل شيء إلى غايته و إيصاله إلى وجهته التي هو موليها من سعادة أو شقاوة لأن ذلك صنع الله الذي أتقن كل شيء فهو سبحانه لا يسلب الإتقان عما أتقنه و لا يسلط الفساد على ما أصلحه ففي تخريب الدنيا تعمير الآخرة.
و قوله: ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ قيل: إنه تعليل لكون ما ذكر من النفخ في الصور و ما بعده صنعا محكما له تعالى فإن علمه بظواهر أفعال المكلفين و بواطنها مما يستدعي إظهارها و بيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن و السوء و ترتيب آثارها من الثواب و العقاب عليها بعد البعث و الحشر و تسيير الجبال.
و أنت ترى ما فيه من التكلف و أن السياق بعد ذلك كله لا يقبله.
و قيل: إن قوله: ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ استئناف في حكم الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم و فصل بقوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ إلى آخر الآيتين.
و هاهنا وجه آخر مستفاد من الإمعان في سياق الآيات السابقة فإن الله سبحانه أمر فيها نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتوكل عليه و يرجع أمر المشركين و بني إسرائيل إليه فإنه إنما
يستطيع هداية المؤمنين بآياته المستسلمين للحق و أما المشركون في جحودهم و بنو إسرائيل في اختلافهم فإنهم موتى لا يسمعون و صم عمي لا يسمعون و لا يهتدون إلى الحق بالنظر في آيات السماء و الأرض و الاعتبار بها باختيار منهم.
ثم ذكر ما سيواجههم به و حالهم هذه الحال لا يؤثر فيهم الآيات - و أنه سيخرج لهم دابة من الأرض تكلمهم و هي آية خارقة تضطرهم إلى قبول الحق و أنه يحشر من كل أمة فوجا من المكذبين فيتم عليهم الحجة، و بالآخرة هو خبير بأفعالهم سيجزي من جاء بحسنة أو سيئة بعمله يوم ينفخ في الصور ففزعوا و أتوه داخرين.
و بالتأمل في هذا السياق يظهر أن الأنسب كون ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ﴾ ظرفا لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) و قراءة (يفعلون) بياء الغيبة أرجح من القراءة المتداولة على الخطاب.
و المعنى: و إنه تعالى خبير بما يفعله أهل السماوات و الأرض يوم ينفخ في الصور و يأتونه داخرين يجزي من جاء بالحسنة بخير منها و من جاء بالسيئة بكب وجوههم في النار كل مجزي بعمله، و على هذا تكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿أَ فَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي اَلْقُبُورِ وَ حُصِّلَ مَا فِي اَلصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾: العاديات: ١١، و قوله:
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفىَ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾: المؤمن: ١٦، و يكون قوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ إلخ، تفصيلا لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) من حيث لازم الخبرة و هو الجزاء بما فعل و عمل كما أشار إليه ذيلا بقوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ﴾ إلخ، لتشديد التقريع و التأنيب.
و في الآية أعني قوله: ﴿وَ تَرَى اَلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ﴾ إلخ، قولان آخران:
أحدهما: حملها على الحركة الجوهرية و أن الأشياء كالجبال تتحرك بجوهرها إلى غاية وجودها و هي حشرها و رجوعها إلى الله سبحانه.
و هذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما في قوله: ﴿تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾ من التلويح إلى أنها اليوم متحركة و لما تقم القيامة، و أما جعل يوم القيامة ظرفا لحسبان الجمود و للمرور كالسحاب جميعا فمما لا يلتفت إليه.
و ثانيهما: حملها على حركة الأرض الانتقالية و هو بالنظر إلى الآية في نفسها معنى
جيد إلا أنه أولا: يوجب انقطاع الآية عما قبلها و ما بعدها من آيات القيامة و ثانيا:
ينقطع بذلك اتصال قوله: (إنه خبير بما يفعلون) بما قبله.
قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ هذه الآية و ما بعدها كما تقدمت الإشارة إليه تفصيل لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) من حيث أثره الذي هو الجزاء و المراد بقوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ أن له جزاء هو خير مما جاء به من الحسنة و ذلك لأن العمل أيا ما كان مقدمة للجزاء مقصود لأجله و الغرض و الغاية على أي حال أفضل من المقدمة.
و قوله: ﴿وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ ظاهر السياق أن هذا الفزع هو الفزع بعد نفخ الصور الثاني دون الأول فيكون في معنى قوله: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾: الأنبياء: ١٠٣.
قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يقال: كبه على وجهه فانكب أي ألقاه على وجهه فوقع عليه فنسبة الكب إلى وجوههم من المجاز العقلي و الأصل فكبوا على وجوههم.
و قوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الاستفهام للإنكار، و المعنى ليس جزاؤكم هذا إلا نفس العمل الذي عملتموه ظهر لكم فلزمكم فلا ظلم في الجزاء و لا جور في الحكم.
و الآيتان في مقام بيان ما في طبع الحسنة و السيئة من الجزاء ففيهما حكم من جاء بالحسنة فقط و من أحاطت به الخطيئة و استغرقته السيئة و أما من حمل حسنة و سيئة فيعلم بذلك حكمه إجمالا و أما التفصيل ففي غير هذا الموضع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَهَا وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ الآيات الثلاث من هنا إلى آخر السورة ختام السورة يبين فيها أن هذه الدعوة الحقة تبشير و إنذار فيه إتمام للحجة من غير أن يرجع إليه (ص) من أمرهم شيء و إنما الأمر إلى الله و سيريهم آياته فيعرفونها ليس بغافل عن أعمالهم.
و في قوله: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ﴾ إلخ، تكلم عن لسان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو في معنى: قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، و المشار إليها بهذه الإشارة مكة المشرفة، و في الكلام تشريفها من وجهين: إضافة الرب إليها، و توصيفها بالحرمة حيث قال:
رب هذه البلدة الذي حرمها. و فيه تعريض لهم حيث كفروا بهذه النعمة نعمة حرمة بلدتهم و لم يشكروا الله بعبادته بل عدلوا إلى عبادة الأصنام.
و قوله: ﴿وَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ إشارة إلى سعة ملكه تعالى دفعا لما يمكن أن يتوهم أنه إنما يملك مكة التي هو ربها فيكون حاله حال سائر الأصنام يملك الواحد منها على عقيدتهم جزء من أجزاء العالم كالسماء و الأرض و بلدة كذا و قوم كذا و أسرة كذا، فيكون تعالى معبودا كأحد الآلهة واقعا في صفهم و في عرضهم.
و قوله: ﴿وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ﴾ أي من الذين أسلموا له فيما أراد و لا يريد إلا ما يهدي إليه الخلقة و يهتف به الفطرة و هو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم.
قوله تعالى: ﴿وَ أَنْ أَتْلُوَا اَلْقُرْآنَ فَمَنِ اِهْتَدىَ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ﴾ معطوف على قوله: ﴿أَنْ أَعْبُدَ﴾ أي أمرت أن أقرأ القرآن و المراد تلاوته عليهم بدليل تفريع قوله: ﴿فَمَنِ اِهْتَدىَ﴾ إلخ، عليه.
و قوله: ﴿فَمَنِ اِهْتَدىَ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ أي فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه و لا يعود نفعه إلي.
و قوله: ﴿وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ﴾ أي و من لم يهتد به بالإعراض عن ذكر ربه و هو الضلال فعليه ضلاله و وبال كفره لا علي لأني لست إلا منذرا مأمورا بذلك و لست عليه وكيلا و الله هو الوكيل عليه.
فالعدول عن مثل قولنا: و من ضل فإنما أنا من المنذرين و هو الذي كان يقتضيه الظاهر إلى قوله: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ﴾ لتذكيره (ص) بما تقدم من العهد إليه أنه ليس إلا منذرا و ليس إليه من أمرهم شيء فعليه أن يتوكل على ربه و يرجع أمرهم إليه كما قال: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىَ﴾ إلخ، فكأنه قيل: و من ضل فقل له قد سمعت أن ربي لم يجعل علي إلا الإنذار فلست بمسئول عن ضلال من ضل.
قوله تعالى: ﴿وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ معطوف على قوله: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ﴾ و فيه انعطاف إلى ما ذكره بعد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالتوكل عليه في أمرهم من أنه سيجعل للمشركين عاقبة سوء
و يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه و يريهم من آياته ما يضطرون إلى تصديقه ثم يجزيهم بأعمالهم.
و محصل المعنى: و قل الثناء الجميل لله تعالى فيما يجريه في ملكه حيث دعا الناس إلى ما فيه خيرهم و سعادتهم و هدى الذين آمنوا بآياته و أسلموا له و أما المكذبون فأمات قلوبهم و أصم آذانهم و أعمى أبصارهم فضلوا و كذبوا بآياته.
و قوله: ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾ إشارة إلى ما تقدم من قوله: ﴿وَ إِذَا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ﴾ و ما بعده، و ظهور قوله: ﴿آيَاتِهِ﴾ في العموم دليل على شموله لجميع الآيات التي تضطرهم إلى قبول الحق مما يظهر لهم قبل قيام الساعة و بعده.
و قوله: ﴿وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن أعمالكم معاشر العباد بعين ربك فلا يفوته شيء مما تقتضيه الحكمة قبال أعمالكم من الدعوة و الهداية و الإضلال و إراءة الآيات ثم جزاء المحسنين منكم و المسيئين يوم القيامة.
و قرئ (عما يعملون) بياء الغيبة و لعلها أرجح و مفادها تهديد المكذبين و في قوله: ﴿رَبُّكَ﴾ بإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تقوية لجانبه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ الآية: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو نائم في المسجد قد جمع رملا و وضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال: قم يا دابة الأرض فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أ يسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال: لا و الله ما هو إلا له خاصة و هو الدابة الذي ذكره الله في كتابه فقال: ﴿وَ إِذَا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ﴾.
ثم قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة و معك ميسم تسم به أعداءك.
فقال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): إن العامة يقولون: إن هذه الآية إنما (تكلمهم) فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كلمهم الله في نار جهنم إنما هو تكلمهم من الكلام.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الشيعة.
و في المجمع، و روى محمد بن كعب القرطي قال: سئل علي عن الدابة فقال: أما و الله ما لها ذنب و إن لها للحية.
أقول: و هناك روايات كثيرة تصف خلقتها تتضمن عجائب و هي مع ذلك متعارضة من أرادها فليراجع جوامع الحديث كالدر المنثور أو مطولات التفاسير كروح المعاني.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما يقول الناس في هذه الآية ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾؟ قلت: يقولون إنه في القيامة. قال: ليس كما يقولون إنها في الرجعة أ يحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا و يدع الباقين؟ إنما آية القيامة ﴿وَ حَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾.
أقول: و أخبار الرجعة من طرق الشيعة كثيرة جدا.
و في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ﴾: و اختلف في معنى الصور إلى أن قال و قيل: هو قرن ينفخ فيه شبه البوق و قد ورد ذلك في الحديث.
و فيه، :في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ﴾ قيل: يعني الشهداء فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم و روي ذلك في خبر مرفوع.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اَللَّهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ قال: فعل الله الذي أحكم كل شيء.
و فيه، :في قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنَّارِ﴾ قال: الحسنة و الله ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) و السيئة و الله عداوته.
أقول: و هو من الجري و ليس بتفسير و هناك روايات كثيرة في هذا المضمون ربما أمكن حملها على ما سيأتي.
و في الخصال، عن يونس بن ظبيان قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء
و هو الطمع، و آخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد و هي الرهبة، و لكني أعبده حبا له فتلك عبادة الكرام و هو الأمن لقوله تعالى: ﴿وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾، و لقوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ فمن أحب الله أحبه الله و من أحبه الله كان من الآمنين.
أقول: لازم ما فيه من الاستدلال تفسير الحسنة في الآية بالولاية التي هي عبادته تعالى من طريق المحبة الموجبة لفناء إرادة العبد في إرادته و توليه تعالى بنفسه أمر عبده و تصرفه فيه و هذا أحد معنيي ولاية علي (عليه السلام) فهو (عليه السلام) صاحب الولاية و أول فاتح لهذا الباب من الأمة و به يمكن أن يفسر أكثر الروايات الواردة في أن المراد بالحسنة في الآية ولاية علي (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه و الديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قول الله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ يعني بها شهادة أن لا إله إلا الله، و من جاء بالسيئة يعني بها الشرك يقال: هذه تنجي و هذه تردي. أقول: و هذا المعنى مروي عنه (ص) بألفاظ مختلفة من طرق شتى و ينبغي تقييد تفسير الحسنة بلا إله إلا الله بسائر الأحكام الشرعية التي هي من لوازم التوحيد و إلا لغا تشريعها و هو ظاهر.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَهَا﴾ قال: مكة.
و فيه، عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب فقال: ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات و الأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها و لا يعضد شجرها و لا يختلى خلالها و لا تحل لقطتها إلا لمنشد.
فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه للقبر و البيوت فقال رسول الله إلا الإذخر:
أقول: و هو مروي من طرق أهل السنة أيضا. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ما كان في القرآن ﴿وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بالتاء، و ما كان (و ما ربك بغافل عما يعملون) بالياء. تم و الحمد لله.
فهرس بعض المواضيع المبحوث عنها في هذا الجزء
[2] و فيه تبرئة ساحتها عما في التوراة أنها كانت امرأة أوريا فجر بها داود ثم كاد في قتل أوريا فقتل في بعض الحروب فأدخلها في أزواجه فولدت له سليمان.
[3] الإصحاح العاشر من الملوك الأول.
[4] الإصحاح الحادي عشر و الثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني.
[5] و على من يريد الوقوف عليها أن يراجع جوامع الأخبار كالدر المنثور و العرائس و البحار و مطولات التفاسير.
|