00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 247 الى ص 328 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الخامس عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

و في روضة الواعظين، قال (ص): ما جلس قوم يذكرون الله إلا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدل الله سيئاتكم حسنات و غفر لكم جميعا. و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل:

﴿لاَ يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ قال: الغناء:.

أقول: و في المجمع، أنه مروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه القمي مسندا و مرسلا. و في العيون، بإسناده إلى محمد بن أبي عباد و كان مشتهرا بالسماع و يشرب النبيذ قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن السماع فقال: لأهل الحجاز رأي فيه و هو في حيز الباطل و اللهو أ ما سمعت الله عز و جل يقول: ﴿وَ إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً.

 و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَ عُمْيَاناً قال: مستبصرين ليسوا بشكاك.

 و في جوامع الجامع، عن الصادق (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ اِجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً قال:

إيانا عنى.

 أقول: و هناك عدة روايات في هذا المعنى و أخرى تتضمن قراءتهم (عليه السلام):

«و اجعل لنا من المتقين إماما».

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر: في قوله:

﴿أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا قال: على الفقر في الدنيا.

 و في المجمع، روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء؟ قال: كثرة الدعاء أفضل و قرأ هذه الآية.

 أقول: و في انطباق الآية على ما في الرواية إبهام.

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله عز و جل:

﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاَ دُعَاؤُكُمْ يقول: ما يفعل ربي بكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما.

 

 

(٢٦) سورة الشعراء مكية و هي مائتان و سبع و عشرون آية (٢٢٧)

[سورة الشعراء (٢٦): الآیات ١ الی ٩]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿طسم ١ تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ ٢ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٣ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ٤ وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ٥ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٦ أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ٧ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ٨ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ٩

(بيان)

غرض السورة تسلية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبال ما كذبه قومه و كذبوا بكتابه النازل عليه من ربه على ما يلوح إليه صدر السورة: تلك آيات الكتاب المبين و قد رموه تارة بأنه مجنون و أخرى بأنه شاعر، و فيها تهديدهم مشفعا ذلك بإيراد قصص جمع من الأنبياء و هم موسى و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيب (عليه السلام) و ما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلى به نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا يحزن بتكذيب أكثر قومه و ليعتبر المكذبون.

 

 

 و السورة من عتائق السور المكية و أوائلها نزولا و قد اشتملت على قوله تعالى:

﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ. و ربما أمكن أن يستفاد من وقوع هذه الآية في هذه السورة و وقوع قوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ في سورة الحجر و قياس مضمونيهما كل مع الأخرى أن هذه السورة أقدم نزولا من سورة الحجر و ظاهر سياق آيات السورة أنها جميعا مكية و استثنى بعضهم الآيات الخمس التي في آخرها، و بعض آخر قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ و سيجي‏ء الكلام فيهما.

قوله تعالى: ﴿طسم تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ الإشارة بتلك إلى آيات الكتاب مما سينزل بنزول السورة و ما نزل قبل، و تخصيصها بالإشارة البعيدة للدلالة على علو قدرها و رفعة مكانتها، و المبين‏ من أبان بمعنى ظهر و انجلى.

و المعنى: تلك الآيات العالية قدرا الرفيعة مكانا آيات الكتاب الظاهر الجلي كونه من عند الله سبحانه بما فيه من سمة الإعجاز و إن كذب به هؤلاء المشركون المعاندون و رموه تارة بأنه من إلقاء شياطين الجن و أخرى بأنه من الشعر.

قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ البخوع‏ هو إهلاك النفس عن وجد، و قوله: ﴿أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ تعليل للبخوع، و المعنى: يرجى منك أن تهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم بآيات هذا الكتاب النازل عليك.

و الكلام مسوق سوق الإنكار و الغرض منه تسلية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قوله تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ متعلق المشية محذوف لدلالة الجزاء عليه، و قوله: ﴿فَظَلَّتْ إلخ، ظل فعل ناقص اسمه ﴿أَعْنَاقُهُمْ و خبره ﴿خَاضِعِينَ و نسب الخضوع إلى أعناقهم و هو وصفهم أنفسهم لأن الخضوع أول ما يظهر في عنق الإنسان حيث يطأطئ رأسه تخضعا فهو من المجاز العقلي.

و المعنى: إن نشأ أن ننزل عليهم آية تخضعهم و تلجئهم إلى القبول و تضطرهم إلى الإيمان ننزل عليهم آية كذلك فظلوا خاضعين لها خضوعا بينا بانحناء أعناقهم.

و قيل: المراد بالأعناق الجماعات و قيل: الرؤساء و المقدمون منهم، و قيل:

 

 

 هو على تقدير مضاف و التقدير فضلت أصحاب أعناقهم خاضعين لها. و هو أسخف الوجوه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله و تمكن الإعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلما تجدد عليهم ذكر من الرحمن و دعوا إليه دفعه بالإعراض.

فالغرض بيان استمرارهم على الإعراض عن كل ذكر أتاهم لا أنهم يعرضون عن محدث الذكر و يقبلون إلى قديمه و في ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أن الذكر الذي يأتيهم إنما ينشأ عن صفة الرحمة العامة التي بها صلاح دنياهم و أخراهم.

و قد تقدم في تفسير أول سورة الأنبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع.

قوله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تفريع على ما تقدم من استمرار إعراضهم، و قوله: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ إلخ تفريع على التفريع و الأنباء جمع نبإ و هو الخبر الخطير، و المعنى لما استمر منهم الإعراض عن كل ذكر يأتيهم تحقق منهم و ثبت عليهم أنهم كذبوا، و إذ تحقق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون من آيات الله، و تلك الأنباء العقوبات العاجلة و الآجلة التي ستحيق بهم.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ الاستفهام للإنكار التوبيخي و الجملة معطوف على مقدر يدل عليه المقام و التقدير أصروا و استمروا على الإعراض و كذبوا بالآيات و لم ينظروا إلى هذه الأزواج الكريمة من النباتات التي أنبتناها في الأرض.

فالرؤية في قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا مضمنة معنى النظر و لذا عديت بإلى، و الظاهر أن المراد بالزوج الكريم. و هو الحسن على ما قيل: النوع من النبات و قد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجا، و قيل: المراد بالزوج الكريم الذي أنبته الله يعم الحيوان و خاصة الإنسان بدليل قوله: ﴿وَ اَللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبَاتاً.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ الإشارة بذلك إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كل زوج كريم حيث إن فيه إيجادا لكل زوج منه و تتميم نقائص كل من الزوجين بالآخر و سوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما

 

 

 و فيه هداية كل إلى سعادته الأخيرة و من كانت هذه سنته فكيف يهمل أمر الإنسان و لا يهديه إلى سعادته و لا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه و آخرته. هذا ما تدل عليه آية النبات.

و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي لم يكن المترقب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الإعراض و بطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ: يونس: ٧٤ و تعليل الكفر و الفسوق برسوخ الملكات الرذيلة و استحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصى.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم: إن المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لأنه مضافا إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، مما لا دليل على أنه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه لسبق الدلالة على أن ملكة الإعراض راسخة لم تزل في نفوسهم.

و عن سيبويه أن ﴿كَانَ في قوله: ﴿وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ صلة زائدة و المعنى: و ما أكثرهم مؤمنين. و فيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن المقام بما تقدم من المعنى أوفق.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ فهو تعالى لكونه عزيزا غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذبين لآياته المستهزءين بها و يجازيهم بالعقوبات العاجلة و الآجلة، و لكونه رحيما ينزل عليهم الذكر ليهديهم و يغفر للمؤمنين به و يمهل الكافرين.

(بحث عقلي متعلق بالعلم) في ارتباط الأشياء بعلمه تعالى

قال في روح المعاني، في قوله تعالى ﴿وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قيل: أي و ما كان في علم الله تعالى ذلك، و اعترض بناء على أنه يفهم من السياق العلية بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.

 

 

و رد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم و امتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنه علم بهذه الماهية، و أما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن يتحقق و يوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر و عدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزلي و وقوعه تابع له. انتهى.

و هذه حجة كثيرة الورود في كلام المجبرة و خاصة الإمام الرازي في تفسيره الكبير يستدلون بها على إثبات الجبر و نفي الاختيار و محصلها أن الحوادث و منها أفعال الإنسان معلومة لله سبحانه في الأزل فهي ضرورية الوقوع و إلا كان علمه جهلا تعالى عن ذلك فالإنسان مجبر عليها غير مختار. و اعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس و أجيب بما ذكره من أن علمه في الأزل تابع لماهية المعلوم لكن المعلوم تابع في وجوده للعلم.

و الحجة مضافا إلى فساد مقدماتها بناء و مبني مغالطة بينة ففيها أولا أن فرض ثبوت ما للماهية في الأزل و وجودها فيها لا يزال يقضي بتقدم الماهية على الوجود و أنى للماهية هذه الأصالة و التقدم؟.

و ثانيا: أن مبني الحجة و كذا الاعتراض و الجواب على كون علمه تعالى بالأشياء علما حصوليا نظير علومنا الحصولية المتعلقة بالمفاهيم و قد أقيم البرهان في محله على بطلانه و أن الأشياء معلومة له تعالى علما حضوريا و علمه علمان: علم حضوري بالأشياء قبل الإيجاد و هو عين الذات و علم حضوري بها بعد الإيجاد و هو عين وجود الأشياء.

و تفصيل الكلام في محله.

و ثالثا: أن العلم الأزلي بمعلومه فيما لا يزال إنما يكون علما بحقيقة معنى العلم إذا تعلق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده و مشخصاته و خصوصياته الوجودية، و من خصوصيات وجود الفعل أنه حركات خاصة إرادية اختيارية صادرة عن فاعله الخاص مخالفة لسائر الحركات الاضطرارية القائمة بوجوده.

و إذا كان كذلك كانت الضرورة اللاحقة للفعل من جهة تعلق العلم به صفة

 

 

 للفعل الخاص الاختياري بما هو فعل خاص اختياري لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله و اختياره و إلا تخلف المعلوم عن العلم لا أن يتعلق العلم بالفعل الاختياري ثم يدفع صفة الاختيار عن متعلقه و يقيم مقامها صفة الضرورة و الإجبار.

فقد وضع في الحجة الفعل المطلق مكان الفعل الخاص فعد ضروريا مع أن الضروري تحقق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق و الفعل المقيد بالاختيار.

و من هنا يتبين عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلق العلم الأزلي به فإن تعلق العلم الأزلي بفعل إنما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الذي هو عليه فإن كان اختياريا وجب تحققه اختياريا و إن كان غير اختياري وجب تحققه كذلك.

على أنه لو كان معنى قوله: ﴿وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ امتناع إيمانهم لتعلق العلم الأزلي بعدمه لاتخذوه حجة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عدوه عذرا لأنفسهم في استنكافهم عن الإيمان كما اعترف به بعض المجبرة.

(بحث روائي)

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ:حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تخضع رقابهم يعني بني أمية و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر. أقول: و هذا المعنى رواه الكليني في روضة الكافي، و الصدوق في كمال الدين، و المفيد في الإرشاد، و الشيخ في الغيبة،، و الظاهر أنه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه.

[سورة الشعراء (٢٦): الآیات ١٠ الی ٦٨]﴿وَ إِذْ نَادىَ رَبُّكَ مُوسىَ أَنِ اِئْتِ اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ١٠ قَوْمَ

 

 

﴿فِرْعَوْنَ أَ لاَ يَتَّقُونَ ١١ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ١٢ وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلىَ هَارُونَ ١٣ وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ١٤ قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ١٥ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٦ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ١٧ قَالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ١٨ وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ ١٩ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضَّالِّينَ ٢٠ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ٢١ وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ٢٢ قَالَ فِرْعَوْنُ وَ مَا رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٢٣ قَالَ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ٢٤ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لاَ تَسْتَمِعُونَ ٢٥ قَالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ ٢٦ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ٢٧ قَالَ رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ٢٨ قَالَ لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ ٢٩ قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ‏ءٍ مُبِينٍ ٣٠ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٣١ فَأَلْقى‏ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ٣٢ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ

 

 

﴿لِلنَّاظِرِينَ ٣٣ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ٣٤ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ ٣٥ قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ اِبْعَثْ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ٣٦ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ٣٧ فَجُمِعَ اَلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ٣٨ وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ٣٩ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ اَلسَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ اَلْغَالِبِينَ ٤٠ فَلَمَّا جَاءَ اَلسَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ اَلْغَالِبِينَ ٤١ قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ ٤٢ قَالَ لَهُمْ مُوسى‏ أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ٤٣ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْغَالِبُونَ ٤٤ فَأَلْقى‏ مُوسى‏ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ٤٥ فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ٤٦ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٤٧ رَبِّ مُوسى‏ وَ هَارُونَ ٤٨ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ٤٩ قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلى‏ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ٥٠ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٥١ وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏ مُوسى‏ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ٥٢ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ٥٣ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ٥٤ وَ إِنَّهُمْ لَنَا

 

 

﴿لَغَائِظُونَ ٥٥ وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ٥٦ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ٥٧ وَ كُنُوزٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ ٥٨ كَذَلِكَ وَ أَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ٥٩ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ٦٠ فَلَمَّا تَرَاءَا اَلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسى‏ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ٦١ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ٦٢ فَأَوْحَيْنَا إِلى‏ مُوسى‏ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصَاكَ اَلْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ ٦٣ وَ أَزْلَفْنَا ثَمَّ اَلْآخَرِينَ ٦٤ وَ أَنْجَيْنَا مُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ٦٥ ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ ٦٦ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ٦٧ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ٦٨  

(بيان)

شروع في ذكر قصص عدة من أقوام الأنبياء الماضين موسى و هارون و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيب (عليه السلام) ليظهر أن قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سائرون مسيرهم و سيردون موردهم، لا يؤمن أكثرهم فيؤاخذهم الله تعالى بعقوبة العاجل و الآجل، و الدليل على ذلك ختم كل واحدة من القصص بقوله: ﴿وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ كما ختم به الكلام الحاكي لإعراض قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في أول السورة، و ليس ذلك إلا لتطبيق القصة على القصة.

كل ذلك ليتسلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا يضيق صدره و يعلم أنه ليس بدعا من الرسل و لا المتوقع من قومه غير ما عامل به الأمم الماضون رسلهم، و فيه تهديد ضمني لقومه

 

 

و يؤيده تصدير قصة إبراهيم (عليه السلام) بقوله: ﴿وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ نَادىَ رَبُّكَ مُوسىَ إلى قوله ﴿أَ لاَ يَتَّقُونَ أي و اذكر وقتا نادى فيه ربك موسى و بعثه بالرسالة إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل على ما فصله في سورة طه و غيرها.

و قوله: ﴿أَنِ اِئْتِ اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ نوع تفسير للنداء، و توصيفهم أولا بالظالمين ثم بيانه ثانيا بقوم فرعون للإشارة إلى حكمة الإرسال و هي ظلمهم بالشرك و تعذيب بني إسرائيل كما في سورة طه من قوله: ﴿اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ إلى أن قال ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ: طه: ٤٧.

و قوله: ﴿أَ لاَ يَتَّقُونَ بصيغة الغيبة، و هو توبيخ غيابي منه تعالى لهم و إيراده في مقام عقد الرسالة لموسى (عليه السلام) في معنى قولنا: قل لهم إن ربي يوبخكم على ترك التقوى و يقول: أ لا تتقون.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ إلى قوله ﴿فَأَرْسِلْ إِلىَ هَارُونَ، قال في مجمع البيان:، الخوف‏ انزعاج النفس بتوقع الضر و نقيضه الأمن‏ و هو سكون النفس إلى خلوص النفع، انتهى. و أكثر ما يطلق الخوف على إحساس الشر بحيث يؤدي إلى الاتقاء عملا و إن لم تضطرب النفس، و الخشية على تأثر النفس من توقع الشر بحيث يورث الاضطراب و القلق، و لذا نفى الله الخشية من غيره عن أنبيائه و ربما أثبت الخوف فقال: ﴿وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ: الأحزاب: ٣٩ و قال: ﴿وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً: الأنفال: ٥٨.

و قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي ينسبني قوم فرعون إلى الكذب، و قوله:

﴿وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي الفعلان مرفوعان و هما معطوفان على قوله:

﴿أَخَافُ فالذي اعتل به أمور ثلاثة: خوف التكذيب و ضيق الصدر و عدم انطلاق اللسان، و في قراءة يعقوب و غيره يضيق و ينطلق بالنصب عطفا على ﴿يُكَذِّبُونِ و هو أوفق بطبع المعنى، و عليه فالعلة واحدة و هي خوف التكذيب الذي يترتب عليه ضيق الصدر و عدم انطلاق اللسان. و يطابق ما سيجي‏ء من آية القصص من ذكر علة واحدة هي خوف التكذيب.

 

 

 و قوله: ﴿فَأَرْسِلْ إِلىَ هَارُونَ أي أرسل ملك الوحي إلى هارون ليكون معينا لي على تبليغ الرسالة يقال لمن نزلت به نائبة أو أشكل عليه أمر: أرسل إلى فلان أي استمد منه و اتخذه عونا لك.

فالجملة أعني قوله: ﴿فَأَرْسِلْ إِلىَ هَارُونَ متفرعة على قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ إلخ، و ذكر خوف التكذيب مع ما معه من ضيق الصدر و عدم انطلاق اللسان توطئة و تقدمة لذكرها و سؤال موهبة الرسالة لهارون.

و إنما اعتل بما اعتل به و سأل الرسالة لأخيه ليكون شريكا له في أمره، معينا مصدقا له في التبليغ لا فرارا عن تحمل أعباء الرسالة، و استعفاء منها، قال في روح المعاني: و من الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع ﴿فَأَرْسِلْ بين الأوائل و بين الرابعة أعني قوله: ﴿وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ إلخ، فآذن بتعلقه بها و لو كان تعللا لأخر، انتهى.

و هو حسن و أوضح منه قوله تعالى في سورة القصص في القصة: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ: القصص: ٣٤.

قوله تعالى: ﴿وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قال الراغب في المفردات:، الذنب‏ في الأصل الأخذ بذنب الشي‏ء يقال: ذنبته أصبت ذنبه، و يستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا لما يحصل من عاقبته. انتهى.

و في الآية إشارة إلى قصة قتله (عليه السلام)، و كونه ذنبا لهم عليه إنما هو بالبناء على اعتقادهم أو الاعتبار بمعناه اللغوي المذكور آنفا، و أما كونه ذنبا بمعنى معصية الله تعالى فلا دليل عليه و سيوافيك فيه كلام عند تفسير سورة القصص إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ كلا للردع و هو متعلق بما ذكره من خوف القتل، ففيه تأمين له و تطييب لنفسه أنهم لا يصلون إليه، و أما سؤاله الإرسال إلى هارون فلم يذكر ما أجيب به عنه، غير أن قوله: ﴿فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا دليل على إجابة مسئوله.

و قوله: ﴿فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا متفرع على الردع فيفيد أن اذهبا إليه بآياتنا و لا تخافا،

 

 

و قد علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ و المراد بضمير الجمع موسى و هارون و القوم الذين أرسلا إليهم و لا يعبأ بقول من قال: إن المراد به موسى و هارون بناء على كون أقل الجمع اثنين فإنه مع فساده في أصله لا تساعد عليه ضمائر التثنية قبله و بعده كما قيل.

و الاستماع هو الإصغاء إلى الكلام و الحديث و هو كناية عن الحضور و كمال العناية بما يجري بينهما و بين فرعون و قومه عند تبليغ الرسالة كما قال في القصة من سورة طه:

﴿لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ: طه: ٤٦.

و محصل المعنى: كلا لا يقدرون على قتلك فاذهبا إليهم بآياتنا و لا تخافا إنا حاضرون عندكم شاهدون عليكم معتنون بما يجري بينكم.

قوله تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بيان لقوله في الآية السابقة: ﴿فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا.

و قوله: ﴿فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ تفريع على إتيان فرعون، و التعبير بالرسول بلفظ المفرد إما باعتبار كل واحد منهما أو باعتبار كون رسالتها واحدة و هي قولهما: ﴿أَنْ أَرْسِلْ إلخ، أو باعتبار أن الرسول مصدر في الأصل فالأصل أن يستوي فيه الواحد و الجمع، و التقدير إنا ذوا رسول رب العالمين أي ذوا رسالته كما قيل.

و قوله: ﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ تفسير للرسالة المفهومة من السياق و المراد بإرسالهم إطلاقهم لكن لما كان المطلوب أن يعودوا إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم و هي أرض آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام) سمي إطلاقهم ليعودوا إليها إرسالا منه لهم إليها.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ الاستفهام للإنكار التوبيخي، و ﴿نُرَبِّكَ من التربية، و الوليد الصبي.

لما أقبل فرعون على موسى و هارون و سمع كلامهما عرف موسى و خصه بالخطاب قائلا أ لم نربك إلخ و مراده الاعتراض عليه أولا من جهة دعواه الرسالة يقول: أنت الذي ربيناك و أنت وليد و لبثت فينا من عمرك سنين عديدة نعرفك باسمك و نعتك و لم ننس شيئا من أحوالك فمن أين لك هذه الرسالة و أنت من نعرفك و لا نجهل أصلك؟

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ الفعلة بفتح الفاء بناء مرة من الفعل، و توصيف الفعلة بقوله: ﴿اَلَّتِي فَعَلْتَ للدلالة على عظم خطره و كثرة شناعته و فظاعته نظير ما في قوله: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ اَلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ: طه: ٧٨، و مراده بهذه الفعلة قتله (عليه السلام) القبطي.

و قوله: ﴿وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ ظاهر السياق على ما سيأتي الإشارة إليه أن مراده بالكفر كفران النعمة و أن قتله القبطي و إفساده في أرضه كفران لنعمته عليه بالخصوص بما له عنده من الصنيعة حيث كف عن قتله كسائر المواليد من بني إسرائيل و رباه في بيته بل لأنه من بني إسرائيل و هو يراهم عبيدا لنفسه و يرى نفسه ربا منعما عليهم فقتل الواحد منهم رجلا من قومه و إفساده في الأرض خروج من طور العبودية و كفر بنعمته.

فمحصل اعتراضه المشار إليه في الآيتين أنك الذي ربيناك صبيا صغيرا و لبثت فينا من عمرك سنين، و أفسدت في الأرض بقتل النفس فكفرت بنعمتي و أنت من عبيدي الإسرائيليين فمن أين جاءتك هذه الرسالة؟ و كيف تكون رسولا و أنت هذا الذي نعرفك؟.

و بذلك يظهر عدم استقامة تفسير بعضهم الكفر بالكفر المقابل للإيمان، و أن المعنى و أنت من الكافرين بألوهيتي أو أنت من الكافرين بالله على زعمك حيث خالطتنا سنين و أنت في ملتنا، و كذا قول بعضهم: إن المراد و أنت من الكافرين بنعمتي عليك خاصة.

قوله تعالى: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ضمير ﴿فَعَلْتُهَا راجع إلى الفعلة و الظاهر أن ﴿إِذاً مقطوع عن الجواب و الجزاء و يفيد معنى حينئذ كما قيل، و عبده‏ تعبيدا و أعبده إعبادا إذا اتخذه عبدا لنفسه.

و الآيات الثلاث جواب موسى (عليه السلام) عما اعترض به فرعون، و التطبيق بين جوابه (عليه السلام) و ما اعترض به فرعون يعطي أنه (عليه السلام) حلل كلام فرعون إلى القدح في دعواه الرسالة من ثلاثة أوجه: أحدها استغراب رسالته و استبعادها و هو الذي يعلم حاله

 

 

 و قد أشار إليه بقوله: ﴿أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ و الثاني استقباح فعلته و رميه بالإفساد و الجرم بقوله: ﴿وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ و الثالث المن عليه بأنه من عبيده و يستفاد ذلك من قوله: ﴿وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ و قد اقتضى طبع ما يذكره في الجواب أن يغير الترتيب في الجواب فيجيب أولا عن اعتراضه الثاني ثم عن الأول ثم عن الثالث.

فقوله: ﴿فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضَّالِّينَ جواب عن اعتراضه بقتل القبطي و قد استعظمه حيث لم يصرح باسمه بل كنى عنه بالفعلة التي فعلت صونا للأسماع أن تقرع باسمه فتتألم.

و التدبر في متن الجواب و مقابلته الاعتراض يعطي أن قوله: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً من تمام الجواب عن القتل فيتقابل الحكم و الضلال و يتضح حينئذ أن المراد بالضلال الجهل المقابل للحكم و الحكم‏ إصابة النظر في حقيقة الأمر و إتقان الرأي في تطبيق العمل عليه فيرجع معناه إلى القضاء الحق في حسن الفعل و قبحه و تطبيق العمل عليه، و هذا هو الذي كان يؤتاه الأنبياء، قال تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ.

فالمراد أني فعلتها حينئذ و الحال أني في ضلال من الجهل بجهة المصلحة فيه و الحق الذي يجب أن يتبع هناك فأقدمت على الدفاع عمن استنصرني و لم أعلم أنه يؤدي إلى قتل الرجل و يؤدي ذلك إلى عاقبة وخيمة تحوجني إلى خروجي من مصر و فراري إلى مدين و التغرب عن الوطن سنين.

و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالضلال الجهل بمعنى الإقدام على الفعل من غير مبالاة بالعواقب كما في قوله:

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 و كذا قول بعض آخر: إن المراد بالضلال المحبة كما فسر به قول بني يعقوب لأبيهم: ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ أي في محبتك القديمة ليوسف، فالمعنى: فعلتها حينئذ و أنا من المحبين لله لا ألوي عن محبته إلى شي‏ء.

أما الوجه الأول ففيه أنه اعتراف بالجرم و المعصية، و آيات سورة القصص ناصة

 

 

 على أن الله سبحانه آتاه حكما و علما قبل واقعة القتل و هذا لا يجامع الضلال بهذا المعنى من الجهل.

و أما الوجه الثاني ففيه مضافا إلى عدم مساعدة السياق: أن من الممتنع من أدب القرآن أن يسمي محبة الله سبحانه ضلالا.

و أما قول القائل: إن المراد بالضلال الجهل بمعنى عدم التعمد و أنه إنما فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه (عليه السلام) إنما تعمد وكز القبطي للتأديب فأدى إلى ما أدى.

و كذا قول القائل: إن المراد بالضلال الجهل بالشرائع كما فسر به بعضهم قوله:

﴿وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىَ.

و كذا قول القائل: إن المراد بالضلال النسيان كما فسر به قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اَلْأُخْرىَ: البقرة: ٢٨٢. و أن المعنى فعلتها ناسيا حرمتها أو ناسيا أن الوكز مما يفضي إلى القتل عادة.

فوجوه يمكن أن يوجه كل منها بما يرجع به إلى ما قدمناه.

و قوله: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً متفرع على قصة القتل، و السبب في خوفه و فراره ما أخبر الله به في سورة القصص بقوله: ﴿وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعىَ قَالَ يَا مُوسىَ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ: القصص: ٢١.

و أما الحكم فالمراد به كما استظهرناه إصابة النظر في حقيقة الأمر و إتقان الرأي في العمل به.

فإن قلت: صريح الآية أن موهبة الحكم كانت بعد واقعة القتل و مفاد آيات سورة القصص أنه (عليه السلام) أعطي الحكم قبلها، قال تعالى: ﴿وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوىَ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ الخ: القصص: ١٥، ثم ساق القصة و ذكر القتل و الفرار.

قلت: إنما ورد لفظ الحكم هاهنا و في سورة القصص منكرا و هو مشعر بمغايرة كل منهما الآخر و قد ورد في خصوص التوراة أنها متضمنة للحكم، قال تعالى:

 

 

﴿وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اَللَّهِ: المائدة: ٤٣، و قد نزلت التوراة بعد غرق فرعون و إنجاء بني إسرائيل.

فمن الممكن أن يقال: إن موسى (عليه السلام) أعطي مراتب من الحكم بعضها فوق بعض قبل قتل القبطي و بعد الفرار قبل العود إلى مصر و بعد غرق فرعون، و قد خصه الله في كل مرة بمرتبة من الحكم حتى تمت له الحكمة بنزول التوراة، و هذا بحسب التمثيل نظير ما يرزق بعض الناس أوان صباه سلامة في فطرته قلما يميل معها طبعه إلى الشر و الفساد ثم إذا نشأ يعطى اعتدالا في التعقل و جودة في التدبير فينبعث إلى اكتساب الفضائل فيرزق ملكة التقوى و الصفات الثلاث في الحقيقة سنخ واحد ينمو و يزيد حالا بعد حال.

و يظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم الحكم بالنبوة لعدم دليل عليه من جهة اللفظ و لا المقام.

على أن الله سبحانه ذكر الحكم و النبوة في مواضع من كلامه و فرق بينهما كقوله:

﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللَّهُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ: آل عمران: ٧٩، و قوله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ: الأنعام: ٨٩، و قوله: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ: الجاثية: ١٦ إلى غير ذلك.

و قوله: ﴿وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ جواب عن الاعتراض الأول و هو استغراب رسالته و استبعادها و هم يعرفونه، و قد شاهدوا أحواله حينما كانوا يربونه فيهم وليدا و لبث فيهم من عمره سنين، و تقريره أن استغرابهم و استبعادهم رسالته استنادا إلى سابق معرفتهم بحاله إنما يستقيم لو كانت الرسالة أمرا اكتسابيا يمكن أن يحدس به أو يتوقع حصوله بحصول مقدماته الاختيارية، و ليس الأمر كذلك بل هي أمر وهبي لا تأثير للأسباب العادية فيها و قد جعله الله من المرسلين كما وهب له الحكم بغير اكتساب هذا ما يعطيه التدبر في السياق.

و أما ما ذكروه من أن قوله: ﴿أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً إلخ، مسوق للمن على موسى (عليه السلام) دون الاستغراب و الاستبعاد كما ذكرناه، فالآية في نفسها و إن لم تأب الحمل على ذلك لكن سياق مجموع الجواب لا يساعد عليه، و ذلك أن فيه إفساد السياق

 

 

من حيث يتعين أن يجعل قوله: ﴿وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ إلخ، جوابا عن المن و هو لا ينطبق عليه، و يجعل قوله: ﴿فَعَلْتُهَا إِذاً إلخ جوابا عن الاعتراض بالقتل، و يبقى قوله: ﴿وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فضلا لا حاجة إليه فافهم ذلك.

و قوله: ﴿وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جواب عن منه عليه و تقريعه بأنه من عبيده و قد كفر نعمته و تقرير الجواب أن هذا الذي تعده نعمة و تقرعني بكفرانها سلطة ظلم و تغلب إذ عبدت بني إسرائيل و التعبيد ظلما و تغلبا ليس من النعمة في شي‏ء.

فالجملة استفهامية مسوقة للإنكار و ﴿أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بيان لما أشير إليه بقوله: ﴿تِلْكَ و المحصل أن الذي تشير إليه بقولك: ﴿وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ من أن لك علي نعمة كفرتها إذ كنت ولي نعمتي و سائر بني إسرائيل أو إذ كنت ولي نعمتنا معشر بني إسرائيل ليس بحق إذ كونك وليا منعما ليس إلا استنادا إلى التعبيد، و التعبيد ظلم و الولاية المستندة إليه أيضا ظلم و حاشا أن يكون الظالم وليا منعما له على من عبده نعمة و إلا كان التعبيد نعمة و ليس نعمة، ففي قوله: ﴿أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وضع السبب موضع المسبب.

و القوم حللوا كلام فرعون: ﴿أَ لَمْ نُرَبِّكَ إلخ، إلى اعتراضين كما أشرنا إليه المن عليه بتربيته وليدا و كفرانه النعمة و إفساده في الأرض بقتل القبطي فأشكل عليهم الأمر من جهتين كما أشرنا إليه.

إحداهما صيرورة قوله: ﴿وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فضلا لا حاجة إليه في سوق الجواب.

و الثانية: عدم صلاحية قوله: ﴿وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جوابا عن منه على موسى (عليه السلام) بتربيته في بيته وليدا.

و قد ذكروا في توجيهه وجوها:

منها: أنه مسوق للاعتراف بأن تربيته لموسى كانت نعمة عليه و إنكار أن يكون ترك استعباده نعمة و همزة الإنكار مقدرة فكأنه يقول: أ و تلك نعمة تمنها علي أن

 

 

 عبدت بني إسرائيل و لم تعبدني هذا، و أنت ترى أن فيه تقديرا لما لا دليل عليه من جهة اللفظ و لا إشارة.

و منها: أنه إنكار لأصل النعمة عليه لمكان تعبيده بني إسرائيل كأنه يقول: إن تربيتك لي ليست نعمة يمن بها علي لأنك عبدت قومي فأحبطت به عملك فقوله: ﴿أَنْ عَبَّدْتَ إلخ في مقام التعليل للإنكار هذا، و هذا الوجه و إن كان أقرب إلى الذهن من سابقه لكن هذا الجواب غير تام معنى فإن تعبيده لبني إسرائيل لا يغير حقيقة ما له من الصنيعة عند موسى في تربيته وليدا.

و منها: أن المعنى أن هذه النعمة التي تمن بها علي من التربية إنما سببه ظلمك بني إسرائيل بتعبيدهم فاضطرت أمي لذلك أن ألقتني في اليم فأخذتني فربيتني فإذ كانت هذه التربية مسببة عن ظلمك بالتعبيد فليست بنعمة هذا و الشأن في استفادة هذا المعنى من لفظ الآية.

و منها: أن الذي رباني أمي و غيرها من بني إسرائيل حيث استعبدتهم فأمرتهم فربوني فليست هذه التربية نعمة منك تمنها علي لانتهائها إلى التعبيد ظلما هذا، و هذا الوجه أبعد من سابقه من لفظ الآية.

و منها: أن ذلك اعتراف منه (عليه السلام) بنعمة فرعون عليه و المعنى و تلك التربية نعمة منك تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل و تركت تعبيدي هذا و أنت خبير بأن لا دليل على ما قدره من قوله: و تركت تعبيدي.

قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَ مَا رَبُّ اَلْعَالَمِينَ إلى قوله ﴿مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ لما كلم فرعون موسى (عليه السلام) في معنى رسالته قادحا فيها فتلقى الجواب بما كان فيه إفحامه أخذ يكلمه في خصوص مرسلة و قد أخبره أن الذي أرسله هو رب العالمين فراجعه فيه و استوضحه بقوله: ﴿وَ مَا رَبُّ اَلْعَالَمِينَ؟ إلى تمام سبع آيات.

و اتضاح المراد منها يتوقف على تذكر أصول مذاهب الوثنية في أمر الربوبية و قد تقدمت الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة من هذا الكتاب كرارا.

فهؤلاء يرون أن وجود الأشياء ينتهي إلى موجد واجب الوجود هو واحد لا شريك له في وجوب وجوده هو أجل من أن يحده حد في وجوده و أعظم من أن يحيط

 

 

 به فهم أو يناله إدراك، و لذلك لا يجوز عبادته لأن العبادة نوع توجه إلى المعبود و التوجه إدراك.

و لذلك بعينه عدلوا عن عبادته و التقرب إليه إلى التقرب إلى أشياء من خلقه ذوي وجودات شريفة نورية أو نارية، هي مقربة إليه فانية فيه من الملائكة و الجن و القديسين من البشر المتخلصين من ألواث المادة الفانين في اللاهوت الباقين بها و منهم الملوك العظام أو بعضهم عند قدماء الوثنية و كان من جملتهم فرعون و موسى و بالجملة كانوا يعبدونهم بعبادة أصنامهم ليقربوهم إلى الله زلفى و يشفعوا لهم بمعنى أن يفيضوا إليهم من الخير الذي يفيض عنهم كما في الملائكة أو لا يصيبوهم بالشر الذي يترشح عنهم كما في الجن فإن كلا من هؤلاء المعبودين يرجع إليه تدبير أمر من أمور العالم الكلية كالحب و البغض و السلم و الحرب و الرفاهية و غيرها أو صقع من أصقاعه كالسماء و الأرض و الإنسان و نحوها.

فهناك أرباب و آلهة يتصرف كل منهم في العالم الذي يرجع إليه تدبيره كإله عالم الأرض و إله عالم السماء و هؤلاء هم الملائكة و الجن و قديسو البشر، و إله عالم الآلهة و هو الله سبحانه فهو إله الآلهة و رب الأرباب.

إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن لا معنى صحيحا لقولنا: رب العالمين عند الوثنيين نظرا إلى أصولهم إذ لو أريد به بعض هذه الموجودات الشريفة الممكنة بأعيانهم فهو رب عالم من عوالم الخلقة و هو العالم الذي يباشر التصرف فيه كعالم السماء و عالم الأرض مثلا و لو أريد به الله سبحانه فهو رب عالم الأرباب و إله عالم الآلهة فقط دون جميع العالمين و لو أريد غير الطائفتين من الرب الواجب الوجود و الأرباب الممكنة الوجود فلا مصداق له معقولا.

فقوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَ مَا رَبُّ اَلْعَالَمِينَ سؤال منه عن حقيقة رب العالمين بيانه أن فرعون كان وثنيا يعبد الأصنام و هو مع ذلك يدعي الألوهية، أما عبادته الأصنام فلقوله تعالى: ﴿وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ: الأعراف: ١٢٧، و أما دعواه الألوهية فللآية المذكورة و لقوله تعالى: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ: النازعات: ٢٤.

و لا منافاة عند الوثنية بين كون الشي‏ء إلها ربا و بين كونه مربوبا لرب آخر لأن

 

 

 الربوبية هو الاستقلال في تدبير شي‏ء من العالم و هو لا ينافي الإمكان و المربوبية لشي‏ء آخر و كل رب عندهم مربوب لآخر إلا الله سبحانه فهو رب الأرباب لا رب فوقه و إله الآلهة لا إله له.

و كان الملك عند الوثنية ظهورا من اللاهوت في بعض النفوس البشرية بالسلطة و نفوذ الحكم فكان يعبد الملوك كما يعبد أرباب الأصنام و كذلك رؤساء البيوت في بيوتهم، و كان فرعون وثنيا يعبد الآلهة و هو ملك القبط يعبده قومه كسائر الآلهة.

فلما سمع من موسى و هارون قولهما: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ تعجب منه إذ لم يعقل له معنى محصلا إذ لو أريد به الواجب و هو الله سبحانه فهو عنده رب عالم الأرباب دون جميع العالمين و لو أريد به بعض الممكنات الشريفة من الآلهة كبعض الملائكة و غيرهم فهو أيضا عنده رب عالم من عوالم الخلقة دون جميع العالمين فما معنى رب العالمين.

و لذلك قال: ﴿وَ مَا رَبُّ اَلْعَالَمِينَ فسأل عن حقيقة الموصوف بهذه الصفة بما هو موصوف بهذه الصفة و لم يسأل عن حقيقة الله سبحانه فإنه لوثنيته كان معتقدا بوجوده مذعنا له و هو يرى كسائر الوثنيين أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقته كيف؟ و هو أساس مذهبهم الذي يبنون عليه عبادة سائر الآلهة و الأرباب كما سمعت.

و قوله: ﴿قَالَ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ جواب موسى (عليه السلام) عن سؤاله: ﴿وَ مَا رَبُّ اَلْعَالَمِينَ و هو خبر لمبتدإ محذوف، و محصل المعنى على ما يعطيه المطابقة بين السؤال و الجواب: هو رب السماوات و الأرض و ما بينهما التي تدل بوجود التدبير فيها و كونه تدبيرا واحدا متصلا مرتبطا على أن لها مدبرا ربا واحدا على ما يراه الموقنون السالكون سبيل اليقين من البرهان و الوجدان.

و بتعبير آخر مرادي بالعالمين السماوات و الأرض و ما بينهما التي تدل بالتدبير الواحد الذي فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا، و مرادي برب العالمين ذلك الرب الواحد الذي تدل عليه و هذه دلالة يقينية يجدها أهل اليقين الذين يتعاطون البرهان و الوجدان.

فإن قلت: لم يطلب فرعون من موسى (عليه السلام) إلا أن يعرفه ما هذا الذي يسميه

 

 

 رب العالمين؟ و ما حقيقته؟ لكونه غير معقول عنده فلم يسأل إلا التصور فما معنى قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ و اليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلا.

على أنه (عليه السلام) لم يأت في جواب فرعون بشي‏ء غير أنه وضع لفظ السماوات و الأرض و ما بينهما موضع لفظ العالمين فكان تفسيرا للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيد و عمرو و بكر فلم يفد بالأخرة إلا التصور الأول و لا تأثير لليقين في ذلك.

قلت: كون فرعون يسأله أن يصور له ﴿رَبُّ اَلْعَالَمِينَ تصويرا مسلم لا شك فيه لكن موسى بدل القول بوضع ﴿اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا مكان العالمين و هو يدل على ارتباط بعض الأجزاء ببعض و الاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها و النظام الجاري عليها ثم قيده بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ليدل على أن أهل اليقين يصدقون من ذلك بوجود مدبر واحد لجميع العالمين.

فكأنه قيل له: ما تريد برب العالمين؟ فقال: أريد به ما يريده أهل اليقين إذ يستدلون بارتباط التدبير و اتصاله في عوالم السماوات و الأرض و ما بينهما على أن لجميع هذه العوالم مدبرا واحدا و ربا لا شريك له في ربوبيته لها و إذ كانوا يصدقون بوجود رب واحد للعالمين فهم يتصورونه بوجه تصورا إذ لا معنى للتصديق بلا تصور.

و بعبارة موجزة: رب العالمين هو الذي يوقن الموقنون بربوبيته لجميع السماوات و الأرض و ما بينهما إذا نظروا إليها و شاهدوا وحدة التدبير الذي فيها.

و الاحتجاج بتحقق التصديق على تحقق التصور قبله أقوى ما يمكن أن يحتج به على أنه تعالى مدرك بوجه و متصور تصورا صحيحا و إن استحال أن يدرك بكنهه و لا يحيطون به علما.

و قد ظهر بذلك كله أولا: أن الجواب إنما هو بإحالته في مسئوله إلى ما يتصوره منه الموقنون إذ يصدقون بوجوده.

و ثانيا: أن الذي أشير إليه من الحجة في الآية هو البرهان على توحيد الربوبية المأخوذ من وحدة التدبير إذ هو الذي يمسه الحاجة قبال الوثنية المدعين للشركاء في الربوبية.

و بذلك يظهر فساد ما ذكروا أن العلم بحقيقة الذات لما كان ممتنعا عدل موسى ـ

 

 

(عليه السلام) عن تعريف الحقيقة بالحد إلى تعريفه تعالى بصفاته فقال: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا و أشار بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ إلى دلالتها بحدوثها على أن محدثها ذات واحدة واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها شي‏ء غيرها.

وجه الفساد ما عرفت أن الوثنية قائلون باستحالة العلم بحقيقة الذات و كنهها، و أن الموجد ذات واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها غيره، و أن الآلهة من دون الله موجودات ممكنة الوجود كل منها مدبر لجهة من جهات العالم و هي جميعا مخلوقة لله فما قرروه في معنى الآية لا يجدي في مقام المخاصمة معهم شيئا.

و قوله: ﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لاَ تَسْتَمِعُونَ أي أ لا تصغون إلى ما يقول موسى؟ و الاستفهام للتعجيب يريد أن يصغوا إليه فيتعجبوا من قوله حيث يدعي رسالة رب العالمين، و إذا سئل ما رب العالمين؟ أعاد الكلمة ثانيا و لم يزد على ما بدأ به شيئا.

و هذا تمويه منه عليهم يريد به الستر على الحق الذي لاح من كلام موسى (عليه السلام) فإنه إنما قال إن جميع العالمين تدل بوحدة التدبير الذي يشاهده أهل اليقين فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا هو الذي تسألني عنه، و هو يفسر كلامه أنه يقول: أنا رسول رب العالمين، فإذا سألته ما رب العالمين؟ يجيبني بأنه رب العالمين.

و بما تقدم بأن عدم سداد قولهم في تفسير هذا التعجيب أن مراده أني سألته عن الذات فأجاب بالصفة و ذلك أن السؤال إنما هو عن الذات من حيث صفته على ما تقدم بيانه، و لم يفسر موسى الذات بالوصف بل غير قوله: ﴿رَبُّ اَلْعَالَمِينَ إلى قوله: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فوضع ثانيا قوله: ﴿اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ مكان قوله أولا:

﴿اَلْعَالَمِينَ كأنه يومئ إلى أن فرعون لم يفهم معنى العالمين.

و قوله: ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ جواب موسى (عليه السلام) ثانيا فإنه لما رأى تمويه فرعون على من حوله و قد كان أجاب عن سؤاله ﴿وَ مَا رَبُّ اَلْعَالَمِينَ بتفسير العالمين من العالم الكبير كالسماوات و الأرض و ما بينهما عدل ثانيا إلى ما يكون أصرح في المقصود فذكر ربوبيته تعالى لعالمي الإنسانية فإن العالم‏ الجماعة من الناس أو الأشياء فعالمو الإنسان هو الجماعات من الحاضرين و الماضين و لذلك قال: ﴿رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ.

 

 

فإن فرعون ما كان يدافع في الحقيقة إلا عن نفسه لما كان يدعي الألوهية فكان يحتال في أن يبطل تعلق ربوبية الرب به في ضمن تعلقه بالعالمين لاستلزام ذلك بطلان ربوبية الأرباب و هو من جملتهم و إن كان يرى أنه أعلاهم و أهمهم كما حكى الله تعالى عنه: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ: النازعات: ٢٤. ﴿وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي: القصص: ٣٨.

فكأنه كان يقول إن أردت برب العالمين الله تعالى فهو رب الأرباب لا غير و إن أردت غيره من الآلهة فكل منهم رب عالم خاص فما معنى رب العالمين؟ فأجاب موسى بما حاصله أن ليس في الوجود إلا رب واحد فيكون رب العالمين فهو ربكم و قد أرسلني إليكم.

و كان محصل تمويه فرعون أن موسى لم يجبه بشي‏ء إذ كرر اللفظ فأجابه موسى ثانيا بالتصريح على أن رب العالمين هو رب عالمي الإنسانية من الحاضرين و الماضين و بذلك تنقطع حيلته.

و قوله: ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قول فرعون ثانيا و قد سمى موسى رسولا تهكما و استهزاء و أضافه إلى من حوله ترفعا من أن يكون رسولا إليه، و قد رماه بالجنون مستندا إلى قوله (عليه السلام): ﴿رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ إلخ.

كأنه يقول: إنه لمجنون لما في كلامه من الاختلال الكاشف عن الاختلال في تعقله يدعي رسالة رب العالمين؟ فأسأله ما رب العالمين فيكرر اللفظ تقريبا أولا ثم يفسره بأنه ربكم و رب آبائكم الأولين.

و قوله: ﴿قَالَ رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ظاهر السياق أن المراد بالمشرق جهة شروق الشمس و سائر الأجرام النيرة السماوية و طلوعها و بالمغرب الجهة التي تغرب فيها بحسب الحس، و بما بينهما ما بين الجهتين فيشمل العالم المشهود و يساوي السماوات و الأرض و ما بينهما.

فيكون إعادة لمعنى الجواب الأول بتقرير آخر و هو مشتمل على ما اشتمل عليه من نكتة اتصال التدبير و اتحاده فإن للشروق ارتباطا بالغروب و المشرق و المغرب يتحققان طرفين لوسط بينهما، كما أن للسماء أرضا و لهما أمر بينهما و هذا النوع من الاتحاد

 

 

 لا يقبل إلا تدبيرا متصلا واحدا، و كما أن كل أمة حاضرة لها ارتباط وجودي بالأمم الماضية ارتباط الأخلاف بالأسلاف فالنوع واحد و التدبير واحد فالمدبر واحد.

و قد بدل قوله في الجواب الأول: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ من قوله هاهنا: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ تعريضا له حيث قال لمن حوله: ﴿أَ لاَ تَسْتَمِعُونَ استهزاء به و إهانة له، ثم رماه ثانيا بالجنون و اختلال الكلام فأشار (عليه السلام) بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إلى أنهم هم المحرومون من نعمة التعقل و التفقه و لو كانوا يعقلون لفهموا أن جوابه الأول ليس بتكرار غير مفيد و لكفاهم حجة على توحيد الرب و أن القائم بتدبير جميع العالمين من السماوات و الأرض و ما بينهما مدبر واحد لا مدبر سواه و لا رب غيره.

و قد تبين بما ذكر أن الآية أعني قوله: ﴿رَبُّ اَلْمَشْرِقِ إلخ، تقرير آخر لقوله في الجواب الأول: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا و أنه برهان على وحدة المدبر من طريق وحدة التدبير و في ذلك تعريف لرب العالمين بأنه المدبر الواحد الذي يدل عليه التدبير الواحد في جميع العالمين، نعم البيان الذي يشير إليه هذه الآية أوضح لاشتماله على معنى الشروق و الغروب و كونهما من التدبير ظاهر.

و قد ذكروا أن الحجج المودعة في الآيات حجج على وحدانية ذات الواجب بالذات و نفي الشريك في وجوب الوجود و قد تقدم عدم استقامته البتة.

و قوله: ﴿قَالَ لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ تهديد منه لموسى (عليه السلام) لو دام على ما يقول به من ربوبية رب العالمين مدعيا أنه رسول منه و هذا دأب الجاهل المعاند إذا انقطع عن الحجة أخذ في التهديد و تشبث بالوعيد.

و اتخاذ إله غيره كناية عن القول بربوبية رب العالمين الذي يدعو إليه موسى و إنما لم يذكره صونا للسانه عن التفوه باسمه، و لم يعبأ بسائر الآلهة التي كانوا يعبدونها استكبارا و علوا، و كأن السجن كان جزاء المعرضين عنه المنكرين لألوهيته . و الظاهر أن اللام في ﴿اَلْمَسْجُونِينَ للعهد، و المعنى: لو دمت على ما تقول لأجعلنك في زمرة الذين في سجني على ما تعلم من سوء حالهم و شدة عذابهم، و لهذا لم يعدل عن هذا التعبير إلى مثل قولنا: لأسجننك مع اختصاره.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ‏ءٍ مُبِينٍ القائل هو موسى (عليه السلام) و المراد

 

 

 بشي‏ء مبين شي‏ء يبين و يظهر صحة دعواه و هو آية الرسالة التي تدل على صحة دعوى الرسالة من مدعيه فإن الآية المعجزة إنما تدل على صدق الرسول في دعواه الرسالة و أما المعارف الإلهية التي يدعو إليها كالتوحيد و المعاد و ما يتعلق بهما فالسبيل إلى إثباته الحجة البرهانية و على ذلك كانت تجري سيرة الأنبياء في دعوتهم و قد تقدم كلام فيه في الجزء الأول من الكتاب.

و المعنى: قال موسى: أ تجعلني من المسجونين و لو أتيتك بشي‏ء يوضح صدقي فيما ادعيت من الرسالة.

قوله تعالى: ﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ القائل فرعون و قد فرع أمره بإتيانه على استفهام موسى المشعر بأنه يدعي أن عنده شيئا مبينا و لذا قيد الأمر بالإتيان بقوله: ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ أي إن كنت صادقا في أن عندك شيئا كذلك.

قوله تعالى: ﴿فَأَلْقىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ هاتان الآيتان اللتان أوتيهما موسى ليلة الطور، و الثعبان‏: الحية العظيمة و كونه مبينا ظهور واقعيته بحيث لا يرتاب فيه، و المراد بنزع يده نزعه من جيبه بعد وضعها فيه كما في سورتي: النمل الآية ١٢ و القصص الآية ٣٢.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ القائل فرعون و قد قال لموسى: ﴿فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ رجاء أن يأتي بأمر فيه موضع معارضة و مناقشة فلما أتى بما لا مغمض فيه لم يجد بدا دون أن يبهته بأنه ساحر عليم.

و لذا أتبع رميه بالسحر بقوله: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ إغراء لهم عليه و حثا لهم على أن يتفقوا معه على دفعه بأي وسيلة ممكنة.

و قوله: ﴿فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ لعل المراد بالأمر الإشارة عليه لما أن المشير يشير على من يستشيره بلفظ الأمر فالمعنى إذا كان الشأن هذا فما ذا تشيرون علي أن أعامله به حتى أعمل به و ذلك أنه كان يرى نفسه ربهم الأعلى و يراهم عبيده و لا يناسب ذلك حمل الأمر على معناه المتعارف.

 

 

و يؤيد هذا المعنى أنه تعالى حكى في موضع آخر هذا الكلام عن الملإ أنفسهم إذ قال ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ: الأعراف: ١١٠. و ظاهر أن المراد بأمرهم إشارتهم على فرعون أن افعل بهما كذا.

و قيل: إن سلطان المعجزة بهره و أدهشه فضل عن عجبه و تكبره و غشيته المسكنة فلم يدر ما ذا يقول؟ و لا كيف يتكلم؟ قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ اِبْعَثْ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ القائلون هم الملأ حوله و هم أشراف قومه، و قوله: ﴿أَرْجِهْ بسكون الهاء على القراءة الدائرة و هو أمر من الإرجاء بمعنى التأخير أي أخر موسى و أخاه و أمهلهما و لا تعجل إليهما بسياسة أو سجن و نحوه حتى تعارض سحرهما بسحر مثله.

و قرئ ﴿أَرْجِهْ بكسر الهاء و «أرجئه» بالهمزة و ضم الهاء و هما أفصح من القراءة الدائرة، و المعنى واحد على أي حال.

و قوله: ﴿وَ اِبْعَثْ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ المدائن‏ جمع مدينة و هي البلدة و الحاشر من الحشر و هو إخراج إلى مكان بإزعاج أي ابعث في البلاد عدة من شرطائك و جنودك يحشرون كل سحار عليم فيها و يأتوك بهم لتعارضهما بسحرهم.

و التعبير بالسحارون الساحر للإشارة إلى أن هناك من هو أعلم منه بفنون السحر و أكثر عملا.

قوله تعالى: ﴿فَجُمِعَ اَلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ هو يوم الزينة الذي اتفق موسى و فرعون على جعله ميقاتا للمعارضة كما في سورة طه ففي الكلام إيجاز و تلخيص.

قوله تعالى: ﴿وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ اَلسَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ اَلْغَالِبِينَ الاستفهام لحث الناس و ترغيبهم على الاجتماع.

قال في الكشاف، ما حاصله أن المراد باتباع السحرة اتباعهم في دينهم و كانوا متظاهرين بعبادة فرعون كما يظهر من سياق الآيات التالية و ليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى لا اتباع السحرة، و إنما ساقوا كلامهم مساق الكناية ليحملوا به السحرة على الاهتمام و الجد في المغالبة.

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ اَلسَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ اَلْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ الاستفهام في معنى الطلب، و قد قالوا: ﴿إِنْ كُنَّا و لم يقولوا، إذا كنا نحن الغالبين ليفيد القطع بالغلبة كما يفيده قولهم بعد:

﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْغَالِبُونَ بل ألقوه في صورة الشك ليكون أدعى لفرعون إلى جعل الأجر.

و قد أثر ذلك أثره حيث جعل لهم أجرا و زاد عليه الوعد بجعلهم من المقربين.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسىَ أَلْقُوا إلى قوله ﴿تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ الحبال‏ جمع حبل، و العصي‏ جمع عصا، و اللقف‏ الابتلاع بسرعة، و ما يأفكون من الإفك‏ بمعنى صرف الشي‏ء عن وجهه سمي السحر إفكا لأن فيه صرف الشي‏ء عن صورته الواقعية إلى صورة خيالية، و معنى الآيات ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسىَ وَ هَارُونَ يريد أن السحرة لما رأوا ما رأوا من الآيات الباهرة بهرهم و أدهشهم ذلك فلم يتمالكوا أنفسهم دون أن خروا على الأرض ساجدين لله سبحانه فاستعير الإلقاء لخرورهم على الأرض للدلالة على عدم تمالك أنفسهم كأنهم قد طرحوا على الأرض طرحا.

و قوله: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ فيه إيمان بالله سبحانه إيمان توحيد لما تقدم أن الاعتراف بكونه تعالى رب العالمين لا يتم إلا مع التوحيد و نفي الآلهة من دونه.

و قوله: ﴿رَبِّ مُوسىَ وَ هَارُونَ فيه إشارة إلى الإيمان بالرسالة مضافا إلى التوحيد.

قوله تعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ إلى آخر الآية، القائل فرعون، و المراد بقوله: ﴿آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ آمنتم من دون إذن مني كما في قوله تعالى: ﴿لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي و ليس مفاده أن الإذن كان ممكنا أو متوقعا منه كما قيل.

و قوله: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ بهتان آخر يبهت به موسى (عليه السلام) ليصرف به قلوب قومه و خاصة ملإهم عنه.

 

 

 و قوله: ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد لهم في سياق الإبهام للدلالة على أنه في غنى عن ذكره و أما هم فسوف يعلمونه.

و قوله: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس و التصليب‏ جعل المجرم على الصليب، و قد تقدم نظير الآية في سورتي الأعراف و طه.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلىَ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ الضير هو الضرر، و قوله:

﴿إِنَّا إِلى‏َ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ تعليل لقولهم: لا ضير أي إنا لا نستضر بهذا العذاب الذي توعدنا به لأنا نصبر و نرجع بذلك إلى ربنا و ما أكرمه من رجوع.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ اَلْمُؤْمِنِينَ تعليل لما يستفاد من كلامهم السابق أنهم لا يخافون الموت و القتل بل يشتاقون إلى لقاء ربهم يقولون: لا نخاف من عذابك شيئا لأنا نرجع به إلى ربنا و لا نخاف الرجوع لأنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا بسبب كوننا أول المؤمنين بموسى و هارون رسولي ربنا.

و فتح الباب في كل خير له أثر من الخير لا يرتاب فيه العقل السليم فلو أن الله سبحانه أكرم مؤمنا لإيمانه بالمغفرة و الرحمة لم تطفر مغفرته و رحمته أول الفاتحين لهذا الباب و الواردين هذا المورد.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ مُوسىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ شروع في سرد الشطر الثاني من القصة و هو وصف عذاب آل فرعون بسبب ردهم دعوة موسى و هارون (عليه السلام) و، قد كان الشطر الأول رسالة موسى و هارون إليهم و دعوتهم إلى التوحيد، و الإسراء و السري‏ السير بالليل، و المراد بعبادي بنو إسرائيل و في هذا التعبير نوع إكرام لهم.

و قوله: ﴿إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تعليل للأمر أي سر بهم ليلا ليتبعكم آل فرعون و فيه دلالة على أن لله في اتباعهم أمرا و أن فيه فرج بني إسرائيل و قد صرح بذلك في قوله: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ الدخان: ٢٤.

قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إلى قوله ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا

 

 

 اَلْآخَرِينَ قصة غرق آل فرعون و إنجاء بني إسرائيل في أربع عشرة آية و قد أوجز في الكلام بحذف بعض فصول القصة لظهوره من سياقها كخروج موسى و بني إسرائيل ليلا من مصر لدلالة قوله: ﴿أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي عليه و على هذا القياس.

فقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ أي فأسرى موسى بعبادي فلما علم فرعون بذلك أرسل ﴿فِي اَلْمَدَائِنِ التي تحت سلطانه رجالا ﴿حَاشِرِينَ يحشرون الناس و يجمعون الجموع قائلين للناس ﴿إِنَّ هَؤُلاَءِ بني إسرائيل ﴿لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ و الشرذمة من كل شي‏ء بقيته القليلة فتوصيفها بالقلة تأكيد ﴿وَ إِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ يأتون من الأعمال ما يغيظوننا به ﴿وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ مجموع متفق فيما نعزم عليه ﴿حَاذِرُونَ نحذر العدو أن يغتالنا أو يمكر بنا و إن كان ضعيفا قليلا، و المطلوب بقولهم هذا و هو لا محالة بلاغ من فرعون لحث الناس عليهم.

﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ كُنُوزٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ فيه قصورهم المشيدة و بيوتهم الرفيعة، و لما كان خروجهم عن مكر إلهي بسبب داعية الاستعلاء و الاستكبار التي فيهم نسب إلى نفسه أنه أخرجهم ﴿كَذَلِكَ أي الأمر كذلك ﴿وَ أَوْرَثْنَاهَا أي تلك الجنات و العيون و الكنوز و المقام الكريم ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ حيث أهلكنا فرعون و جنوده و أبقينا بني إسرائيل بعدهم فكانوا هم الوارثين.

﴿فَأَتْبَعُوهُمْ أي لحقوا ببني إسرائيل ﴿مُشْرِقِينَ أي داخلين في وقت شروق الشمس و طلوعها ﴿فَلَمَّا تَرَاءَا اَلْجَمْعَانِ أي دنا بعضهم من بعض فرأى كل من الجمعين جمع فرعون و جمع موسى الآخر، ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسىَ من بني إسرائيل خائفين فزعين ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ سيدركنا جنود فرعون.

﴿قَالَ موسى ﴿كَلاَّ لن يدركونا ﴿إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ و المراد بهذه المعية معية الحفظ و النصرة و هي التي وعدها له ربه أول ما بعثه و أخاه إلى فرعون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا و أما معية الإيجاد و التدبير فالله سبحانه مع موسى و فرعون على نسبة سواء، و قوله: ﴿سَيَهْدِينِ أي سيدلني على طريق لا يدركني فرعون معها.

﴿فَأَوْحَيْنَا إِلىَ مُوسىَ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصَاكَ اَلْبَحْرَ فَانْفَلَقَ و الانفلاق‏ انشقاق الشي‏ء و بينونة بعضه من بعض ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ أي قطعة منفصلة من الماء ﴿كَالطَّوْدِ و هو

 

 

 القطعة من الجبل ﴿اَلْعَظِيمِ فدخلها موسى و من معه من بني إسرائيل.

﴿وَ أَزْلَفْنَا ثَمَّ أي و قربنا هناك ﴿اَلْآخَرِينَ و هم فرعون و جنوده ﴿وَ أَنْجَيْنَا مُوسىَ وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على حاله و هيئته حتى قطعوه و خرجوا منه، ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ بإطباق البحر عليهم و هم في فلقه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ظاهر السياق و يؤيده سياق القصص الآتية أن المشار إليه مجموع ما ذكر في قصة موسى من بعثه و دعوته فرعون و قومه و إنجاء بني إسرائيل و غرق فرعون و جنوده، ففي ذلك كله آية تدل على توحيده تعالى بالربوبية و صدق الرسالة لمن تدبر فيها.

و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي و ما كان أكثر هؤلاء الذين ذكرنا قصتهم مؤمنين مع ظهور ما دل عليه من الآية و على هذا فقوله بعد كل من القصص الموردة في السورة: ﴿وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بمنزلة أخذ النتيجة و تطبيق الشاهد على المستشهد له كأنه يقال بعد إيراد كل واحدة من القصص: هذه قصتهم المتضمنة لآيته تعالى و ما كان أكثرهم مؤمنين كما لم يؤمن أكثر قومك فلا تحزن عليهم فهذا دأب كل من الأمم التي بعثنا إليهم رسولا فدعاهم إلى توحيد الربوبية.

و قيل: إن الضمير في ﴿أَكْثَرُهُمْ راجع إلى قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى: أن في هذه القصة آية و ما كان أكثر قومك مؤمنين بها و لا يخلو من بعد.

و قوله: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ تقدم تفسيره في أول السورة.

[سورة الشعراء (٢٦): الآیات ٦٩ الی ١٠٤]

﴿وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ٦٩ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ٧٠ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ٧١ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ٧٢ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ٧٣

 

 

﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ٧٤ قَالَ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ٧٥ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمُ اَلْأَقْدَمُونَ ٧٦ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ اَلْعَالَمِينَ ٧٧ اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ٧٨ وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ ٧٩ وَ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ٨٠ وَ اَلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ٨١ وَ اَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ اَلدِّينِ ٨٢ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ٨٣ وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ ٨٤ وَ اِجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ اَلنَّعِيمِ ٨٥ وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلضَّالِّينَ ٨٦ وَ لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ٨٧ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ ٨٨ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٨٩ وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ٩٠ وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ٩١ وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ٩٢ مِنْ دُونِ اَللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ٩٣ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَ اَلْغَاوُونَ ٩٤ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ٩٥ قَالُوا وَ هُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ٩٦ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٩٧ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٩٨ وَ مَا أَضَلَّنَا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ ٩٩ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ١٠٠ وَ لاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ١٠١ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٠٢ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٠٣ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ١٠٤

 

 

(بيان)

تشير الآيات بعد الفراغ عن قصة موسى إلى نبإ إبراهيم (عليه السلام) و هو خبره الخطير إذ انتهض لتوحيد الله سبحانه بفطرته الزاكية الطاهرة من بين قومه المطبقين على عبادة الأصنام فتبرأ منهم و دافع عن الحق ثم كان من أمره ما قد كان ففي ذلك آية و لم يؤمن به أكثر قومه كما سيشير إلى ذلك في آخر الآيات.

قوله تعالى: ﴿وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ غير السياق عما كان عليه أول القصة ﴿وَ إِذْ نَادىَ رَبُّكَ مُوسىَ إلخ، لمكان قوله: ﴿عَلَيْهِمْ فإن المطلوب تلاوته على مشركي العرب و عمدتهم قريش و إبراهيم هذا أبوهم و قد قام لنشر التوحيد و إقامة الدين الحق و لم يكن بينهم يومئذ من يقول: لا إله إلا الله، فنصر الله و نصره حتى ثبتت كلمة التوحيد في الأرض المقدسة و في الحجاز.

فلم يكن ذلك كله إلا عن دعوة من الفطرة و بعث من الله سبحانه ففي ذلك آية لله فليعتبروا به و ليتبرءوا من دين الوثنية كما تبرأ منه و من أبيه و قومه المنتحلين به أبوهم إبراهيم (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ مخاصمته و مناظرته (عليه السلام) مع أبيه غير مخاصمته مع قومه و احتجاجه عليهم كما حكاه الله تعالى في سورة الأنعام و غيرها لكن البناء هاهنا على الإيجاز و الاختصار و لذا جمع بين المحاجتين و سبكهما محاجة واحدة أورد فيها ما هو القدر المشترك بينهما.

و قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ سؤال عن الحقيقة بوضع نفسه موضع من لا يعرف شيئا من حقيقتها و سائر شئونها و هذا من طرق المناظرة سبيل من يريد أن يبين الخصم حقيقة مدعاه و سائر شئونه حتى يأخذه بما سمع من اعترافه.

على أن هذه المحاجة كانت من إبراهيم أول ما خرج من كهفه و دخل في مجتمع أبيه و قومه و لم يكن شهد شيئا من ذلك قبل اليوم فحاجهم عن فطرة ساذجة طاهرة كما تقدم تفصيل القول فيه في تفسير سورة الأنعام.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ظل‏ بمعنى دام، و العكوف‏

 

 

 على الشي‏ء ملازمته و الإقامة عنده، و اللام في ﴿لَهَا للتعليل أي ندوم عاكفين عليها لأجلها و هو تفريع على عبادة الأصنام.

و الصنم‏ جثة مأخوذة من فلز أو خشب أو غير ذلك على هيئة خاصة يمثل بها ما في المعبود من الصفات، و هؤلاء كانوا يعبدون الملائكة و الجن و هم يرون أنها روحانيات خارجة عن عالم الأجسام منزهة عن خواص المادة و آثارها، و لما كان من الصعب عليهم التوجه العبادي إلى هذه الروحانيات باستحضارها للإدراك توسلوا إلى ذلك باتخاذ صور و تماثيل جسمانية تمثل بأشكالها و هيئاتها ما هناك من المعنويات.

و كذلك الحال في عبادة عباد الكواكب لها فإن المعبود الأصلي هناك روحانيات الكواكب ثم اتخذ أجرام الكواكب أصناما لروحانياتها ثم لما اختلفت أحوال الكواكب بالحضور و الغيبة و الطلوع و الغروب اتخذوا لها أصناما تمثل ما للكواكب من القوى الفعالة فيما دونها من عالم العناصر كالقوة الفاعلة للطرب و السرور و النشاط في الزهرة فيصورونها في صورة فتاة، و لسفك الدماء في المريخ، و للعلم و المعرفة في عطارد و على هذا القياس الأمر في أصنام القديسين من الإنسان.

فالأصنام إنما اتخذت ليكون الواحد منها مرآة لرب الصنم من ملك أو جن أو إنسان غير أنهم يعبدون الصنم نفسه بتوجيه العبادة إليه و التقرب منه و لو تعدوا عن الصنم إلى ربه عبدوه دون الله سبحانه.

و هذا هو الذي يكذب قول القائل منهم: إن الصنم إنما هي قبلة لم تتخذ إلا جهة للتوجه العبادي لا مقصودة بالذات كالكعبة عند المسلمين و ذلك أن القبلة هي ما يستقبل في العبادة و لا يستقبل بالعبادة و هم يستقبلون الصنم في العبادة و بالعبادة، و بعبارة أخرى التوجه إلى القبلة و العبادة لرب القبلة و هو الله عز اسمه و أما الصنم فالتوجه إليه و العبادة له لا لربه و لو فرض أن العبادة لربه و هو شي‏ء من الروحانيات كانت له لا لله فالله سبحانه غير معبود في ذلك على أي حال.

و بالجملة فجوابهم عن سؤال إبراهيم: ﴿مَا تَعْبُدُونَ بقولهم: ﴿نَعْبُدُ أَصْنَاماً إبانة أن هذه الأجسام المعبودة ممثلات مقصودة لغيرها لا لنفسها، و قد أخذ إبراهيم قولهم: ﴿نَعْبُدُ و خاصمهم به فإن استقلال الأصنام بالمعبودية لا يجامع كونها أصناما

 

 

 ممثلة للغير فإذ كانت مقصودة بالعبادة فمن الواجب أن يشتمل على ما هو الغرض المقصود منها من جلب نفع أو دفع ضر بالتوجه العبادي و الدعاء و المسألة و الأصنام بمعزل من أن تعلم بمسألة أو تجيب مضطرا بإيصال نفع أو صرف ضر و لذلك سألهم إبراهيم بقوله: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إلخ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ اعترض (عليه السلام) عليهم في عبادتهم الأصنام من جهتين:

إحداهما: أن العبادة تمثيل لذلة العابد و حاجته إلى المعبود فلا يخلو من دعاء من العابد للمعبود، و الدعاء يتوقف على علم المعبود بذلك و سمعه ما يدعوه به، و الأصنام أجسام جمادية لا سمع لها فلا معنى لعبادتها.

و الثانية: أن الناس إنما يعبدون الإله إما طمعا في خيره و نفعه و إما اتقاء من شره و ضره و الأصنام جمادات لا قدرة لها على إيصال نفع أو دفع ضرر.

فكل من الآيتين يتضمن جهة من جهتي الاعتراض، و قد أوردهما في صورة الاستفهام ليضطرهم على الاعتراف.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ كان مقتضى المقام أن يجيبوا عن سؤاله (عليه السلام) بالنفي لكنه لما كان ينتج خلاف ما هم عليه من الانتحال بالوثنية أضربوا عنه إلى التشبث بذيل التقليد فذكروا أنهم لا مستند لهم في عبادتها إلا تقليد الآباء محضا.

و قوله: ﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ أي ففعلنا كما كانوا يفعلون و عبدناهم كما كانوا يعبدون، و لم يعدل عن قوله: ﴿كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ إلى مثل قولنا: يعبدونها ليكون أصرح في التقليد كأنهم لا يفهمون من هذه العبادات إلا أنها أفعال كأفعال آبائهم من غير أن يفقهوا منها شيئا أزيد من أشكالها و صورها.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمُ اَلْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ اَلْعَالَمِينَ لما انتهت محاجته مع أبيه و قومه إلى أن لا حجة لهم في عبادتهم الأصنام إلا تقليد آبائهم محضا تبرأ (عليه السلام) من آلهتهم و من أنفسهم و آبائهم بقوله ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ إلخ.

فقوله: ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمُ اَلْأَقْدَمُونَ تفريع على ما ظهر مما

 

 

 تقدم من عدم الدليل على عبادة الأصنام إلا التقليد بل بطلانها من أصلها أي فإذا كانت باطلة لا حجة لكم عليها إلا تقليد آبائكم فهذه الأصنام التي رأيتموها أي هذه بأعيانها التي تعبدونها أنتم و آباؤكم الأقدمون فإنها عدو لي لأن عبادتها ضارة لديني مهلكة لنفسي فليست إلا عدوا لي.

و ذكر آبائهم الأقدمين للدلالة على أنه لا يأخذ بالتقليد كما أخذوا و أن لا وقع عنده (عليه السلام) لتقدم العهد، و لا أثر للسبق الزماني في إبطال حق أو إحقاق باطل، و إرجاع ضمير أولي العقل إلى الأصنام لمكان نسبة العبادة إليها و هي تستلزم الشعور و العقل، و هو كثير الوقوع في القرآن.

و قوله: ﴿إِلاَّ رَبَّ اَلْعَالَمِينَ استثناء منقطع من قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي لكن رب العالمين ليس كذلك.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى قوله ﴿يَوْمَ اَلدِّينِ لما استثنى رب العالمين جل اسمه وصفه بأوصاف تتم بها الحجة على أنه تعالى ليس عدوا له بل رب رحيم ذو عناية بحاله منعم عليه بكل خير دافع عنه كل شر فقال: ﴿اَلَّذِي خَلَقَنِي «إلخ» و أما قول القائل: إن قوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَنِي إلخ استيناف من الكلام لا يعبأ به.

فقوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ بدأ بالخلق لأن المطلوب بيان استناد تدبير أمره إليه تعالى بطريق إعطاء الحكم بالدليل، و البرهان على قيام التدبير به تعالى قيام الخلق و الإيجاد به لوضوح أن الخلق و التدبير لا ينفكان في هذه الموجودات الجسمانية التدريجية الوجود التي تستكمل الوجود على التدريج فليس من المعقول أن يقوم الخلق بشي‏ء و التدبير بشي‏ء و إذ كان الخلق و الإيجاد لله سبحانه فالتدبير له أيضا.

و لهذا عطف الهداية على الخلق بفاء التفريع فدل على أنه تعالى هو الهادي لأنه هو الخالق.

و ظاهر قوله: ﴿فَهُوَ يَهْدِينِ و هو مطلق أن المراد به مطلق الهداية إلى المنافع دنيوية كانت أو أخروية و التعبير بلفظ المضارع لإفادة الاستمرار فالمعنى أنه الذي خلقني و لا يزال يهديني إلى ما فيه سعادة حياتي منذ خلقني و لن يزال كذلك.

فيكون الآية في معنى ما حكاه الله عن موسى إذ قال لفرعون: ﴿رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى‏َ

 

 

 كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏َ: طه: ٥٠، أي هداه إلى منافعه و هي الهداية العامة.

و هذا هو الذي أشير إليه في أول السورة بقوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً و قد مر تقرير الحجة فيه.

و على هذا فما سيأتي في قوله: ﴿وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي إلخ من الصفات المعدودة من قبيل ذكر الخاص بعد العام فإنها جميعا من مصاديق الهداية العامة بعضها هداية إلى منافع دنيوية و بعضها هداية إلى ما يرجع إلى الآخرة.

و لو كان المراد بالهداية الهداية الخاصة الدينية فالصفات المعدودة على رسلها و ذكر الهداية بعد الخلقة، و تقديمها على سائر النعم و المواهب لكونها أفضل النعم بعد الوجود.

و قوله: ﴿وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ وَ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ هو كالكناية عن جملة النعم المادية التي يرزقه الله إياها لتتميم النواقص و رفع الحوائج الدنيوية، و قد خص بالذكر منها ما هو أهمها و هو الإطعام و السقي و الشفاء إذا مرض.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿وَ إِذَا مَرِضْتُ توطئة و تمهيد لذكر الشفاء فالكلام في معنى يطعمني و يسقيني و يشفين، و لذا نسب المرض إلى نفسه لئلا يختل المراد بذكر ما هو سلب النعمة بين النعم، و أما قول القائل: إنه إنما نسب المرض إلى نفسه مع كونه من الله للتأدب فليس بذاك.

و إنما أعاد الموصول فقال: ﴿اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي إلخ، و لم يعطف الصفات على ما في قوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ للدلالة على أن كلا من الصفات المذكورة في هذه الجمل المترتبة كان في إثبات كونه تعالى هو الرب المدبر لأمره و القائم على نفسه المجيب لدعوته.

و قوله: ﴿وَ اَلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ يريد الموت المقضي لكل نفس المدلول عليه بقوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ: الأنبياء: ٣٥، و ليس بانعدام و فناء بل انتقال من دار إلى دار من جملة التدبير العام الجاري، و المراد بالإحياء إفاضة الحياة بعد الموت.

و قوله: ﴿وَ اَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ اَلدِّينِ أي يوم الجزاء و هو يوم القيامة، و لم يقطع بالمغفرة كما قطع في الأمور المذكورة قبلها لأن المغفرة ليست ـ

 

 

بالاستحقاق بل هي فضل من الله فليس يستحق أحد على الله سبحانه شيئا لكنه سبحانه قضى على نفسه الهداية و الرزق و الإماتة و الإحياء لكل ذي نفس و لم يقض المغفرة لكل ذي خطيئة فقال: ﴿فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ: الذاريات: ٢٣، و قال:

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ: الأنبياء: ٣٥، و قال: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا: يونس: ٤، و قال في المغفرة: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ: النساء: ٤٨.

و نسبة الخطيئة إلى نفسه و هو (عليه السلام) نبي معصوم من المعصية دليل على أن المراد بالخطيئة غير المعصية بمعنى مخالفة الأمر المولوي فإن للخطيئة و الذنب مراتب تتقدر حسب حال العبد في عبوديته كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين و قد قال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ.

فالخطيئة من مثل إبراهيم (عليه السلام) اشتغاله عن ذكر الله محضا بما تقتضيه ضروريات الحياة كالنوم و الأكل و الشرب و نحوها و إن كانت بنظر آخر طاعة منه (عليه السلام) كيف؟ و قد نص تعالى على كونه (عليه السلام) مخلصا لله لا يشاركه تعالى فيه شي‏ء إذ قال: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ: ص: ٤٦، و قد قدمنا كلاما له تعلق بهذا المقام في آخر الجزء السادس و في قصص إبراهيم في الجزء السابع من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ لما ذكر (عليه السلام) نعم ربه المستمرة المتوالية المتراكمة عليه منذ خلق إلى ما لا نهاية له من أمد البقاء و صور بذلك شمول اللطف و الحنان الإلهي أخذته جاذبة الرحمة الملتئمة بالفقر العبودي فدعته إلى إظهار الحاجة و بث المسألة فالتفت من الغيبة إلى الخطاب فسأل ما سأل.

فقوله: ﴿رَبِّ أضاف الرب إلى نفسه بعد ما كان يصفه بما أنه رب العالمين إثارة للرحمة الإلهية و تهييجا للعناية الربانية لاستجابة دعائه و مسألته.

و قوله: ﴿هَبْ لِي حُكْماً يريد بالحكم ما تقدم في قول موسى (عليه السلام): ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً: الآية ٢١ من السورة و هو كما تقدم إصابة النظر و الرأي في المعارف الاعتقادية و العملية الكلية و تطبيق العمل عليها كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ: الأنبياء: ٢٥، و هو

 

 

 وحي المعارف الاعتقادية و العملية التي يجمعها التوحيد و التقوى، و قوله تعالى:

﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ: الأنبياء:

 ٧٣، و هو وحي التسديد و الهداية إلى الصلاح في مقام العمل، و تنكير الحكم لتفخيم أمره.

و قوله: ﴿وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ الصلاح‏ على ما ذكره الراغب يقابل الفساد الذي هو تغير الشي‏ء عن مقتضى طبعه الأصلي فصلاحه كونه على مقتضى الطبع الأصلي فيترتب عليه من الخير و النفع ما من شأنه أن يترتب عليه من غير أن يفسد فيحرم من آثاره الحسنة.

و إذ كان ﴿بِالصَّالِحِينَ غير مقيد بالعمل و نحوه فالمراد به الصالحون ذاتا لا عملا فحسب و إن كان صلاح الذات لا ينفك عنه صلاح العمل، قال تعالى: ﴿اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ: الأعراف: ٥٨.

فصلاح الذات كونها تامة الاستعداد لقبول الرحمة الإلهية و إفاضة كل خير و سعادة من شأنها أن تتلبس به من غير أن يقارنها ما يفسدها من اعتقاد باطل أو عمل سيئ و بذلك يتبين أن الصلاح الذاتي من لوازم موهبة الحكم بالمعنى الذي تقدم و إن كان الحكم أخص موردا من الصلاح و هو ظاهر.

فمسألته الإلحاق بالصالحين من لوازم مسألة موهبة الحكم و فروعها المترتبة عليها فيعود معنى قوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ إلى مثل قولنا: رب هب لي حكما و تمم أثره في و هو الصلاح الذاتي.

و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ: البقرة: ١٣٠ في الجزء الأول من الكتاب كلام له تعلق بهذا المقام.

قوله تعالى: ﴿وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ إضافة اللسان إلى الصدق لامية تفيد اختصاصه بالصدق بحيث لا يتكلم إلا به، و ظاهر جعل هذا اللسان له أن يكون مختصا به كلسانه لا يتكلم إلا بما في ضميره مما يتكلم هو به فيئول المعنى إلى مسألة أن يبعث الله في الآخرين من يقوم بدعوته و يدعو الناس إلى ملته و هي دين التوحيد.

فتكون الآية في معنى قوله في سورة الصافات بعد ذكر إبراهيم (عليه السلام): ﴿وَ تَرَكْنَا

 

 

 عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ: الصافات: ١٠٨، و قد ذكر هذه الجملة بعد ذكر عدة من الأنبياء غيره كنوح و موسى و هارون و إلياس، و كذا قال تعالى في سورة مريم بعد ذكر زكريا و يحيى و عيسى و إبراهيم و موسى و هارون: ﴿وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا: مريم: ٥٠ فالمراد على أي حال إبقاء دعوتهم بعدهم ببعث رسل أمثالهم.

و قيل: المراد به بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ‏ و قد روي عنه أنه قال: أنا دعوة أبي إبراهيم‏، و يؤيده تسمية دينه في مواضع من القرآن ملة إبراهيم، و يرجع معنى الآية حينئذ إلى معنى قوله حكاية عن إبراهيم و إسماعيل حين بناء الكعبة: ﴿رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ إلى أن قال ﴿رَبَّنَا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ: البقرة: ١٢٩.

و قيل: المراد به أن يجعل الله له ذكرا جميلا و ثناء حسنا بعده إلى يوم القيامة و قد استجاب الله دعاءه فأهل الأديان يثنون عليه و يذكرونه بالجميل.

و في صدق لسان الصدق على الذكر الجميل خفاء، و كذا كون هذا الدعاء و المحكي في سورة البقرة دعاء واحدا لا يخلو من خفاء.

قوله تعالى: ﴿وَ اِجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ اَلنَّعِيمِ تقدم معنى وراثة الجنة في تفسير قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ: المؤمنون: ١٠.

قوله تعالى: ﴿وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلضَّالِّينَ استغفار لأبيه حسب ما وعده في قوله: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي: مريم: ٤٧، و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ: التوبة: ١١٤، أنه دعا لأبيه بهذا الدعاء و هو حي بعد، و على هذا فمعنى قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلضَّالِّينَ أنه كان قبل الدعاء بزمان من أهل الضلال.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ الخزي‏ عدم النصر ممن يؤمل منه النصر، و الضمير في ﴿يُبْعَثُونَ للناس و لا يضره عدم سبق الذكر لكونه معلوما من خارج.

و يعلم من سؤاله عدم الإخزاء يوم القيامة أن الإنسان في حاجة إلى النصر الإلهي

 

 

 يومئذ فهذه البنية الضعيفة لا تقوم دون الأهوال التي تواجهها يوم القيامة إلا بنصر و تأييد منه تعالى.

و قوله: ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ الظرف بدل من قوله: ﴿يَوْمَ يُبْعَثُونَ و به يندفع قول من قال: إن قول إبراهيم قد انقطع في ﴿يُبْعَثُونَ و الآية إلى تمام خمس عشرة آية من كلام الله تعالى.

و الآية تنفي نفع المال و البنين يوم القيامة و ذلك أن رابطة المال و البنين التي هي المناط في التناصر و التعاضد في الدنيا هي رابطة وهمية اجتماعية لا تؤثر أثرا في الخارج من ظرف الاجتماع المدني و يوم القيامة يوم انكشاف الحقائق و تقطع الأسباب فلا ينفع فيه مال بماليته و لا بنون بنسبة بنوتهم و قرابتهم، قال تعالى: ﴿وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادى‏َ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ: الأنعام: ٩٤، و قال: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ: المؤمنون: ١٠١.

فالمراد بنفي نفع المال و البنين يوم القيامة نفي سببيتهما الوضعية الاعتبارية في المجتمع الإنساني في الدنيا فإن المال نعم السبب و الوسيلة في المجتمع للظفر بالمقاصد الحيوية، و كذا البنون نعمت الوسيلة للقوة و العزة و الغلبة و الشوكة، فالمال و البنون عمدة ما يركن إليهما و يتعلق بهما الإنسان في الحياة الدنيا فنفي نفعهما يوم القيامة كالكناية عن نفي نفع كل سبب وضعي اعتباري في المجتمع الإنساني يتوسل به إلى جلب المنافع المادية كالعلم و الصنعة و الجمال و غيرها.

و بعبارة أخرى نفي نفعهما في معنى الإخبار عن بطلان الاجتماع المدني بما يعمل فيه من الأسباب الوضعية الاعتبارية كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ.

و قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال الراغب: السلم و السلامة التعري من الآفات الظاهرة و الباطنة. انتهى. و السياق يعطي أنه (عليه السلام) في مقام ذكر معنى جامع يتميز به اليوم من غيره و قد سأل ربه أولا أن ينصره و لا يخزيه يوم لا ينفعه ما كان ينفعه في الدنيا من المال و البنين، و مقتضى هذه التوطئة أن يكون المطلوب بقوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ بيان ما هو النافع يومئذ و قد ذكر فيه الإتيان بالقلب السليم.

 

 

 فالاستثناء منقطع، و المعنى: لكن من أتى الله بقلب سليم فإنه ينتفع به، و المحصل أن مدار السعادة يومئذ على سلامة القلب سواء كان صاحبه ذا مال و بنين في الدنيا أو لم يكن.

و قيل: الاستثناء متصل و المستثنى منه مفعول ينفع المحذوف و التقدير يوم لا ينفع مال و لا بنون أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم.

و قيل: الاستثناء متصل و الكلام بتقدير مضاف، و التقدير لا ينفع مال و لا بنون إلا مال و بنو من أتى «إلخ».

و قيل: المال و البنون في معنى الغنى و الاستثناء منه بحذف مضاف من نوعه و التقدير يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، و سلامة القلب من الغنى فالاستثناء متصل ادعاء لا حقيقة.

و قيل: الاستثناء منقطع و هناك مضاف محذوف، و التقدير لا ينفع مال و لا بنون إلا حال من أتى «إلخ».

و الأقوال الثلاثة الأول توجب اختصاص تميز اليوم بمن له مال و بنون فقط فإن الكلام عليها في معنى قولنا: يوم لا ينفع المال و البنون أصحابهما إلا ذا القلب السليم منهم و أما من لا مال له و لا ولد فمسكوت عنه و السياق لا يساعده، و أما القول الرابع فمبني على تقدير لا حاجة إليه.

و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى: ﴿اَلْمَالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْبَاقِيَاتُ اَلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً: الكهف: ٤٦، غير أنها تسند النفع إلى القلب السليم و هو النفس السالمة من وصمة الظلم و هو الشرك و المعصية كما قال تعالى في وصف اليوم: ﴿وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً: طه: ١١١.

قال بعضهم: و في الآيتين تأييد لكون استغفاره (عليه السلام) لأبيه طلبا لهدايته إلى الإيمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافرا مع علمه بعدم نفعه لأنه من باب الشفاعة انتهى.

و هذا على تقدير أخذ الاستثناء متصلا كما ذهب إليه هذا القائل مبني على كون

 

 

إبراهيم (عليه السلام) ابن آزر لصلبه و قد تقدم في قصته (عليه السلام) من سورة الأنعام فساد القول به و أن الآيات ناصة على خلافه.

و أما إذا أخذ الاستثناء منقطعا فقوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ بضميمة قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‏َ: الأنبياء: ٢٨. دليل على كون الاستغفار قبل موته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ﴿وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ الإزلاف‏ التقريب و التبريز الإظهار، و في المقابلة بين المتقين و الغاوين و اختيار هذين الوصفين لهاتين الطائفتين إشارة إلى ما قضى به الله سبحانه يوم رجم إبليس عند إبائه أن يسجد لآدم كما ذكر في سورة الحجر ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ إلى أن قال ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ: الحجر: ٤٥.

قوله تعالى: ﴿وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ أي هل يدفعون الشقاء و العذاب عنكم أو عن أنفسهم، و المحصل أنه يتبين لهم أنهم ضلوا في عبادتهم غير الله.

قوله تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَ اَلْغَاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ يقال: كبه‏ فانكب أي ألقاه على وجهه و كبكبه‏ أي ألقاه على وجهه مرة بعد أخرى فهو يفيد تكرار الكب كدب و دبدب و ذب و ذبذب و زل و زلزل و دك و دكدك.

و ضمير الجمع في قوله: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ للأصنام كما يدل عليه قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ: الأنبياء: ٩٨، و هؤلاء إحدى الطوائف الثلاث التي تذكر الآية أنها تكبكب في جهنم يوم القيامة، و الطائفة الثانية الغاوون المقضي عليهم ذلك كما في آية الحجر المنقولة آنفا، و الطائفة الثالثة جنود إبليس و هم قرناء الشياطين الذين يذكر القرآن أنهم لا يفارقون أهل الغواية حتى يدخلوا النار، قال تعالى: ﴿وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ إلى أن قال ﴿وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ: الزخرف: ٣٩.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا وَ هُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ إلى قوله ﴿إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ الظاهر أن القائلين هم الغاوون، و الاختصام واقع بينهم يخاصمون أنفسهم و الشياطين على ما

 

 

 ذكره الله سبحانه في مواضع من كلامه.

و قوله: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ اعتراف منهم بالضلال، و الخطاب في قوله: ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ للآلهة من الأصنام و هم معهم في النار، أو لهم و للشياطين أو لهما و للمتبوعين و الرؤساء من الغاوين و خير الوجوه أولها.

و قوله: ﴿وَ مَا أَضَلَّنَا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ الظاهر أن كلا من القائلين يريد بالمجرمين غيره من إمام ضلال اقتدى به في الدنيا و داع دعاه إلى الشرك فاتبعه و آباء مشركين قلدهم فيه و خليل تشبه به، و المجرمون على ما يستفاد من آيات القيامة هم الذين ثبت فيهم الاجرام و قضي عليهم بدخول النار قال تعالى: ﴿وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ: يس: ٥٦.

قوله تعالى: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَ لاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ الحميم‏ على ما ذكره الراغب القريب المشفق.

و هذا الكلام تحسر منهم على حرمانهم من شفاعة الشافعين و إغاثة الأصدقاء و في التعبير بقوله: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ إشارة إلى وجود شافعين هناك يشفعون بعض المذنبين، و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: فما لنا من شافع إذ لا نكتة تقتضي الجمع، و قد روي أنهم يقولون ذلك لما يرون الملائكة و الأنبياء و المؤمنين يشفعون.

قوله تعالى: ﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ تمن منهم أن يرجعوا إلى الدنيا فيكونوا من المؤمنين حتى ينالوا ما ناله المؤمنون من السعادة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً إلى آخر الآيتين أي في قصة إبراهيم (عليه السلام) و لزومه عن فطرته الساذجة دين التوحيد و توجيه وجهه نحو رب العالمين و تبريه من الأصنام و احتجاجه على الوثنيين و عبدة الأصنام آية لمن تدبر فيها على أن في سائر قصصه من محنه و ابتلاءاته التي لم تذكر هاهنا كإلقائه في النار و نزول الضيف من الملائكة عليه و قصة إسكانه إسماعيل و أمه بوادي مكة و بناء الكعبة و ذبح إسماعيل آيات لأولي الألباب.

و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي و ما كان أكثر قوم إبراهيم مؤمنين و الباقي ظاهر مما تقدم.

 

 

 (بحث روائي)

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ قال:

هو أمير المؤمنين (عليه السلام).

أقول: يحتمل التفسير و الجري.

 و في الكافي، بإسناده عن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): و لسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس خير من المال يأكله و يورثه. الحديث.

 و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿وَ اِغْفِرْ لِأَبِي: أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله: ﴿وَ لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ قال: ذكر لنا أن نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ليجيئن رجل يوم القيامة من المؤمنين آخذا بيد أب له مشرك حتى يقطعه النار و يرجو أن يدخله الجنة فيناديه مناد أنه لا يدخل الجنة مشرك فيقول:

ربي أبي و وعدت أن لا تخزيني.

قال: فما يزال متشبثا به حتى يحوله الله في صورة سيئة و ريح منتنة في صورة ضبعان فإذا رآه كذلك تبرأ منه و قال: لست بأبي. قال: فكنا نرى أنه يعني إبراهيم و ما سمى به يومئذ. و فيه، أخرج البخاري و النسائي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة و على وجه آزر قترة و غبرة يقول له إبراهيم: أ لم أقل لك:

لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك.

فيقول إبراهيم: رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. أقول: الخبران من أخبار بنوة إبراهيم لآزر لصلبه و قد مر في قصص إبراهيم من سورة الأنعام أنها مخالفة للكتاب و كلامه تعالى نص في خلافه.

 و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة قال: سألته عن قول الله عز و جل:

﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال: السليم الذي يلقى ربه و ليس فيه أحد سواه.

 

 

 

قال: و كل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط و إنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم إلى الآخرة. و في المجمع، و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: هو القلب الذي سلم من حب الدنيا. و يؤيده قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : حب الدنيا رأس كل خطيئة. و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث ﴿وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ جنود إبليس ذريته من الشياطين.

قال: و قولهم: ﴿وَ مَا أَضَلَّنَا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عز و جل فيهم إذ جمعهم إلى النار: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ و قوله: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا اِدَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً برى‏ء بعضهم من بعض و لعن بعضهم بعضا يريد بعضهم أن يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا جميعا من عظيم ما نزل بهم و ليس بأوان بلوى و لا اختبار و لا قبول معذرة و لا حين نجاة. و في الكافي، أيضا بسندين عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَ اَلْغَاوُونَ هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره.

أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره، و البرقي في المحاسن، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و الظاهر أن الرواية كانت واردة في ذيل قوله تعالى: ﴿وَ اَلشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغَاوُونَ لما بعده من قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ و قد وقع الخطأ في إيرادها في ذيل قوله: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا إلخ، و هو ظاهر للمتأمل.

 و في المجمع، و في الخبر المأثور عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي؟ و صديقه في الجحيم. فيقول الله: أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَ لاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ و روي بالإسناد عن حمران بن أعين عن أبي عبد لله (عليه السلام) قال: و الله لنشفعن لشيعتنا ثلاث مرات حتى يقول الناس: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَ لاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ إلى قوله ﴿ فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ و في رواية أخرى حتى يقول عدونا.

 

 

و في تفسير القمي، ": ﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ قال: من المهتدين قال: لأن الإيمان قد لزمهم بالإقرار.

أقول: مراده أنهم يؤمنون يومئذ إيمان إيقان لكنهم يرون أن الإيمان يومئذ لا ينفعهم بل الإيمان النافع هو الإيمان في الدنيا فيتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليكون ما عنده من الإيمان من إيمان المهتدين و هم المؤمنون حقا المهتدون بإيمانهم يوم القيامة و هذا معنى لطيف، و إليه يشير قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ تَرىَ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ: سجدة: ١٣ فلم يقولوا فارجعنا نؤمن و نعمل صالحا بل قالوا فارجعنا نعمل صالحا فافهم ذلك.

[سورة الشعراء (٢٦): الآیات ١٠٥ الی ١٢٢]

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ اَلْمُرْسَلِينَ ١٠٥ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ ١٠٦ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٠٧ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ١٠٨ وَ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى‏ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٠٩ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ١١٠ قَالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ ١١١ قَالَ وَ مَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١١٢ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلى‏ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ١١٣ وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ ١١٤ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ١١٥ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ ١١٦ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ١١٧ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١١٨ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ ١١٩ ثُمَّ

 

 

﴿أَغْرَقْنَا بَعْدُ اَلْبَاقِينَ ١٢٠ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٢١ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ١٢٢

(بيان)

تشير الآيات بعد الفراغ عن قصتي موسى و إبراهيم (عليه السلام) و هما من أولي العزم إلى قصة نوح (عليه السلام) و هو أول أولي العزم سادة الأنبياء، و إجمال ما جرى بينه و بين قومه فلم يؤمن به أكثرهم فأغرقهم الله و أنجى نوحا و من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ اَلْمُرْسَلِينَ قال في المفردات:، القوم‏ جماعة الرجال في الأصل دون النساء، و لذلك قال: «﴿لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الآية، قال الشاعر: أ قوم آل حصن أم نساء،. و في عامة القرآن أريدوا به و النساء جميعا. انتهى.

و لفظ القوم قيل: مذكر و تأنيث الفعل المسند إليه بتأويل الجماعة و قيل:

مؤنث و قال في المصباح: يذكر و يؤنث.

و عد القوم مكذبين للمرسلين مع أنهم لم يكذبوا إلا واحدا منهم و هو نوح (عليه السلام) إنما هو من جهة أن دعوتهم واحدة و كلمتهم متفقة على التوحيد فيكون المكذب للواحد منهم مكذبا للجميع و لذا عد الله سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض كفرا بالجميع قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا: النساء: ١٥١.

و قيل: هو من قبيل قولهم فلان يركب الدواب و يلبس البرود و ليس له إلا دابة واحدة و بردة واحدة فيكون الجمع كناية عن الجنس، و الأول أوجه و نظير الوجهين جار في قوله الآتي: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ اَلْمُرْسَلِينَ ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ و غيرهما.

قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ المراد بالأخ النسيب كقولهم:

أخو تميم و أخو كليب و الاستفهام للتوبيخ.

 

 

قوله تعالى: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي رسول من الله سبحانه أمين على ما حملته من الرسالة لا أبلغكم إلا ما أمرني ربي و أراده منكم، و لذا فرع عليه قوله:

﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ فأمرهم بطاعته لأن طاعته طاعة الله.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى‏َ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ مسوق لنفي الطمع الدنيوي بنفي سؤال الأجر فيثبت بذلك أنه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه لا يخونهم و لا يغشهم فعليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم، و لذا فرع عليه ثانيا قوله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ.

و العدول في قوله: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى‏َ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ عن اسم الجلالة إلى ﴿رَبِّ اَلْعَالَمِينَ للدلالة على صريح التوحيد فإنهم كانوا يرون أنه تعالى إله عالم الآلهة و كانوا يرون لكل عالم إلها آخر يعبدونه من دون الله فإثباته تعالى ربا للعالمين جميعا تصريح بتوحيد العبادة و نفي الآلهة من دون الله مطلقا.

قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ قد تقدم وجه تكرار الآية فهو يفيد أن كلا من الأمانة و عدم سؤال الأجر سبب مستقل في إيجاب طاعته عليهم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ الأرذلون‏ جمع أرذل على الصحة و هو اسم تفضيل من الرذالة و الرذالة الخسة و الدناءة، و مرادهم بكون متبعيه أراذل أنهم ذوو أعمال رذيلة و مشاغل خسيسة و لذا أجاب ع عنه بمثل قوله:

﴿وَ مَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

و الظاهر أنهم كانوا يرون الشرف و الكرامة في الأموال و الجموع من البنين و الأتباع كما يستفاد من دعاء نوح (عليه السلام) إذ يقول: ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً: نوح: ٢١. فمرادهم بالأرذلين من يعدهم الأشراف و المترفون سفلة يتجنبون معاشرتهم من العبيد و الفقراء و أرباب الحرف الدنية.

قوله تعالى: ﴿قَالَ وَ مَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الضمير لنوح (عليه السلام)، و ﴿مَا استفهامية و قيل: نافية و عليه فالخبر محذوف لدلالة السياق عليه، و المراد على أي حال نفي علمه بأعمالهم قبل إيمانهم به لمكان قوله: ﴿كَانُوا يَعْمَلُونَ.

قوله تعالى: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلى‏َ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ المراد بقوله: ﴿رَبِّي رب

 

 

 العالمين فإنه الذي كان يختص نوح بالدعوة إليه من بينهم، و قوله: ﴿لَوْ تَشْعُرُونَ مقطوع عن العمل أي لو كان لكم شعور، و قيل: المعنى لو تشعرون بشي‏ء لعلمتم ذلك و هو كما ترى.

و المعنى: بالنظر إلى الحصر الذي في صدر الآية أنه لا علم لي بسابق أعمالهم و ليس علي حسابهم حتى أتجسس و أبحث عن أعمالهم و إنما حسابهم على ربي ﴿لَوْ تَشْعُرُونَ فيجازيهم حسب أعمالهم.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ الآية الثانية بمنزلة التعليل للأولى و المجموع متمم للبيان السابق و المعنى: لا شأن لي إلا الإنذار و الدعوة فلست أطرد من أقبل علي و آمن بي و لست أتفحص عن سابق أعمالهم لأحاسبهم عليها فحسابهم على ربي و هو رب العالمين لا علي.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ المراد بالانتهاء ترك الدعوة، و الرجم‏ هو الرمي بالحجارة، و قيل: المراد به الشتم و هو بعيد، و هذا مما قالوه في آخر العهد من دعوتهم يهددونه (عليه السلام) بقول جازم كما يشهد به ما في الكلام من وجوه التأكيد.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً إلخ، هذا استفتاح منه (عليه السلام) و قد قدم له قوله: ﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ على سبيل التوطئة أي تحقق منهم التكذيب المطلق الذي لا مطمع في تصديقهم بعده كما يستفاد من دعائه عليهم إذ يقول: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً: نوح: ٢٧.

و قوله: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً كناية عن القضاء بينه و بين قومه كما قال تعالى: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ: يونس: ٤٧.

و أصله من الاستعارة بالكناية كأنه و أتباعه و الكفار من قومه اختلطوا و اجتمعوا من غير تميز فسأل ربه أن يفتح بينهم بإيجاد فسحة بينه و بين قومه يبتعد بذلك أحد القبيلين من الآخر و ذلك كناية عن نزول العذاب و ليس يهلك إلا القوم الفاسقين و الدليل عليه قوله بعد: ﴿وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ.

 

 

و قيل: الفتح‏ بمعنى الحكم و القضاء من الفتاحة بمعنى الحكومة.

قوله تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ أي المملوء منهم و من كل زوجين اثنين كما ذكره في سورة هود.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ اَلْبَاقِينَ أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً إلى قوله ﴿اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ تقدم الكلام في معنى الآيتين.

(بحث روائي)

 في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسندا عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: فمكث نوح ألف سنة إلا خمسين عاما لم يشاركه في نبوته أحد و لكنه قدم على قوم مكذبين للأنبياء الذين كانوا بينه و بين آدم و ذلك قوله عز و جل: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ اَلْمُرْسَلِينَ يعني من كان بينه و بين آدم إلى أن انتهى إلى قوله: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ و قال فيه، أيضا: فكان بينه و بين آدم عشرة آباء كلهم أنبياء، و في تفسير القمي:

في قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ قال: الفقراء.

 و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ المجهز الذي قد فرغ منه و لم يبق إلا دفعه.

[سورة الشعراء (٢٦): الآیات ١٢٣ الی ١٤٠]

﴿كَذَّبَتْ عَادٌ اَلْمُرْسَلِينَ ١٢٣ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ ١٢٤ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٢٥ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ١٢٦ وَ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى‏ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٢٧

 

 

﴿أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ١٢٨ وَ تَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ١٢٩ وَ إِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ١٣٠ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ١٣١ وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ١٣٢ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَ بَنِينَ ١٣٣ وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ١٣٤ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٣٥ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْوَاعِظِينَ ١٣٦ إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ ١٣٧ وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ١٣٨ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٣٩ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ١٤٠

(بيان)

تشير الآيات إلى قصة هود (عليه السلام) و قومه و هو قوم عاد.

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ اَلْمُرْسَلِينَ قوم عاد من العرب العاربة الأولى كانوا يسكنون الأحقاف من جزيرة العرب لهم مدنية راقية و أراض خصبة و ديار معمورة فكذبوا الرسل و كفروا بأنعم الله و أطغوا فأهلكهم الله بالريح العقيم و خرب ديارهم و عفا آثارهم.

و عاد فيما يقال اسم أبيهم فتسميتهم بعاد من قبيل تسمية القوم باسم أبيهم كما يقال تميم و بكر و تغلب و يراد بنو تميم و بنو بكر و بنو تغلب.

و قد تقدم في نظير الآية من قصة نوح وجه عد القوم مكذبين للمرسلين و لم يكذبوا ظاهرا إلا واحدا منهم.

قوله تعالى: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ إلى قوله ﴿رَبِّ اَلْعَالَمِينَ تقدم الكلام فيها في نظائرها من قصة نوح (عليه السلام).

 

 

 و ذكر بعض المفسرين أن تصدير هذه القصص الخمس بذكر أمانة الرسل و عدم سؤالهم أجرا على رسالتهم و أمرهم الناس بالتقوى و الطاعة للتنبيه على أن مبني البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق و الطاعة فيما يقرب المدعو من الثواب و يبعده من العقاب و أن الأنبياء (عليه السلام) مجتمعون على ذلك و إن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة و الأعصار، و أنهم منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية انتهى.

و نظيره الكلام في ختم جميع القصص السبع الموردة في السورة بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ففيه دلالة على أن أكثر الأمم و الأقوام معرضون عن آيات الله، و أن الله سبحانه عزيز يجازيهم على تكذيبهم رحيم ينجي المؤمنين برحمته، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على غرض السورة.

قوله تعالى: ﴿أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ الريع‏ هو المرتفع من الأرض و الآية العلامة و العبث‏ الفعل الذي لا غاية له، و كأنهم كانوا يبنون على قلل الجبال و كل مرتفع من الأرض أبنية كالأعلام يتنزهون فيها و يفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك بل لهوا و اتباعا للهوى فوبخهم عليه.

و قد ذكر للآية معان أخر لا دليل عليها من جهة اللفظ و لا ملاءمة للسياق أضربنا عنها.

قوله تعالى: ﴿وَ تَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، المصانع‏ على ما قيل:

الحصون المنيعة و القصور المشيدة و الأبنية العالية واحدها مصنع.

و قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ في مقام التعليل لما قبله أي تتخذون هذه المصانع بسبب أنكم ترجون الخلود و لو لا رجاء الخلود ما عملتم مثل هذه الأعمال التي من طبعها أن تدوم دهرا طويلا لا يفي به أطول الأعمار الإنسانية، و قيل في معنى الآية و مفرداتها وجوه أخرى أغمضنا عنها.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ قال في المجمع:، البطش‏ العسف قتلا بالسيف و ضربا بالسوط، و الجبار العالي على غيره بعظيم سلطانه. و هو في صفة الله سبحانه مدح و في صفة غيره ذم لأن معناه في العبد أنه يتكلف الجبرية. انتهى.

 

 

فالمعنى: و إذا أظهرتم شدة في العمل و بأسا بالغتم في ذلك كما يبالغ الجبابرة في الشدة.

و محصل الآيات الثلاث أنكم مسرفون في جانبي الشهوة و الغضب متعدون حد الاعتدال خارجون عن طور العبودية.

قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ تفريع على إسرافهم في جانبي الشهوة و الغضب و خروجهم عن طور العبودية فليتقوا الله و ليطيعوه فيما يأمرهم به من ترك الإتراف و الاستكبار.

قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ إلى قوله ﴿وَ عُيُونٍ قال الراغب: أصل المد الجر، قال: و أمددت الجيش بمدود و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المد في المكروه، قال تعالى: ﴿وَ أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ ﴿وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا انتهى ملخصا.

و قوله: ﴿وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ إلخ، في معنى تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية أي اتقوا الله الذي يمدكم بنعمه لأنه يمدكم بها فيجب عليكم أن تشكروه بوضع نعمه في موضعها من غير إتراف و استكبار فإن كفران النعمة يستعقب السخط و العذاب قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ: إبراهيم: ٧.

و قد ذكر النعم إجمالا بقوله أولا: ﴿أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ثم فصلها بقوله ثانيا:

﴿أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَ بَنِينَ وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ.

و في قوله: ﴿أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ نكتة أخرى هي أنكم تعلمون أن هذه النعم من إمداده تعالى و صنعه لا يشاركه في إيجادها و الإمداد بها غيره فهو الذي يجب لكم أن تتقوه بالشكر و العبادة دون الأوثان و الأصنام فالكلام متضمن للحجة.

قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تعليل للأمر بالتقوى أي إني آمركم بالتقوى شكرا لأني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم أن تكفروا و لم تشكروا، و الظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم القيامة و إن جوز بعضهم أن يكون المراد به يوم عذاب الاستئصال.

 

 

 قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْوَاعِظِينَ نفي لأثر كلامه و إياس له من إيمانهم بالكلية.

قيل: الكلام لا يخلو من مبالغة فقد كان مقتضى الترديد أن يقال: أ وعظت أم لم تعظ ففي العدول عنه إلى قوله: ﴿أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْوَاعِظِينَ النافي لأصل كونه واعظا ما لا يخفى من المبالغة.

قوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ الخلق بضم الخاء و اللام أو سكونها قال الراغب: الخلق و الخلق أي بفتح الخاء و ضمها في الأصل واحد كالشرب و الشرب و الصرم و الصرم لكن خص الخلق بفتح الخاء بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خص الخلق بضم الخاء بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَعَلى‏َ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ و قرئ ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ انتهى.

و الإشارة بهذا إلى ما جاء به هود و قد سموه وعظا و المعنى: ليس ما تلبست به من الدعوة إلى التوحيد و الموعظة إلا عادة البشر الأولين الماضين من أهل الأساطير و الخرافات، و هذا كقولهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ.

و يمكن أن تكون الإشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك و عبادة الآلهة من دون الله اقتداء بآبائهم الأولين كقولهم: «﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ.

و احتمل بعضهم أن يكون المراد ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين نحيا كما حيوا و نموت كما ماتوا و لا بعث و لا حساب و لا عذاب. و هو بعيد من السياق.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إنكار للمعاد بناء على كون المراد باليوم العظيم في كلام هود (عليه السلام) يوم القيامة.

قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً إلى قوله ﴿اَلرَّحِيمُ معناه ظاهر مما تقدم.

(بحث روائي)

 في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد

 

 

 بن علي الباقر (عليه السلام) في حديث: و قال نوح إن الله تبارك و تعالى باعث نبيا يقال له هود و إنه يدعو قومه إلى الله عز و جل فيكذبونه و إن الله عز و جل يهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به و ليتبعه فإن الله تبارك و تعالى ينجيه من عذاب الريح.

و أمر نوح ابنه سام أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة و يكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود و زمانه الذي يخرج فيه.

فلما بعث الله تبارك و تعالى هودا نظروا فيما عندهم من العلم و الإيمان و ميراث العلم و الاسم الأكبر و آثار علم النبوة فوجدوا هودا نبيا و قد بشرهم أبوهم نوح به فآمنوا به و صدقوه و اتبعوه فنجوا من عذاب الريح، و هو قول الله عز و جل: ﴿وَ إِلىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً و قوله: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿آيَةً تَعْبَثُونَ أي ما لا تحتاجون إليه لسكناكم و إنما تريدون العبث بذلك و اللعب و اللهو كأنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثا منهم عن ابن عباس في رواية عطاء، و يؤيده‏ الخبر المأثور عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج فرأى قبة فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا لرجل من الأنصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب به و الإعراض عنه.

فشكا ذلك إلى أصحابه و قال: و الله إني لأنكر نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما أدري ما حدث في و ما صنعت؟ قالوا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فرأى قبتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه فرجع إلى قبته فسواها بالأرض فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت هاهنا؟ قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها.

فقال: إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه.

 و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ قال: تقتلون بالغضب من غير استحقاق.

 

 

[سورة الشعراء (٢٦): الآیات ١٤١ الی ١٥٩]

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ ١٤١ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ ١٤٢ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٤٣ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ١٤٤ وَ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى‏َ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٤٥ أَ تُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ ١٤٦ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ١٤٧ وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ١٤٨ وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ ١٤٩ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ١٥٠ وَ لاَ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ ١٥١ اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ يُصْلِحُونَ ١٥٢ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ ١٥٣ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ١٥٤ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ١٥٥ وَ لاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥٦ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ١٥٧ فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٥٨ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ١٥٩

(بيان)

تشير الآيات إلى إجمال قصة صالح (عليه السلام) و قومه و هو من أنبياء العرب و يذكر في القرآن بعد هود (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ إلى قوله ﴿عَلىَ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ قد اتضح معناها مما تقدم.

 

 

 قوله تعالى: ﴿أَ تُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ الظاهر أن الاستفهام للإنكار و «ما» موصولة و المراد بها النعم التي يفصلها بعد قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ إلخ، و ﴿هَاهُنَا إشارة إلى المكان الحاضر القريب و هو أرض ثمود و ﴿آمِنِينَ حال من نائب فاعل ﴿تُتْرَكُونَ.

و المعنى: لا تتركون في هذه النعم التي أحاطت بكم في أرضكم هذه و أنتم مطلقو العنان لا تسألون عما تفعلون آمنون من أي مؤاخذة إلهية.

قوله تعالى: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ بيان تفصيلي لقوله: ﴿فِي مَا هَاهُنَا، و قد خص النخل بالذكر مع دخوله في الجنات لاهتمامهم به، و الطلع‏ في النخل كالنور في سائر الأشجار و الهضيم على ما قيل المتداخل المنضم بعضه إلى بعض.

قوله تعالى: ﴿وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ قال الراغب: الفره بالفتح فالكسر صفة مشبهة الأشر، و قوله تعالى: ﴿وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ أي حاذقين و قيل: معناه أشرين. انتهى ملخصا، و على ما اختاره تكون الآية من بيان النعمة، و على المعنى الآخر تكون مسوقة لإنكار أشرهم و بطرهم.

و الآية على أي حال في حيز الاستفهام.

قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ تفريع على ما تقدم من الإنكار الذي في معنى المنفي.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ يُصْلِحُونَ الظاهر أن المراد بالأمر ما يقابل النهي بقرينة النهي عن طاعته و إن جوز بعضهم كون الأمر بمعنى الشأن و عليه يكون المراد بطاعة أمرهم تقليد العامة و اتباعهم لهم في أعمالهم و سلوكهم السبل التي يستحبون لهم سلوكها.

و المراد بالمسرفين على أي حال أشراف القوم و عظماؤهم المتبوعون و الخطاب للعامة التابعين لهم و أما السادة الأشراف فقد كانوا مأيوسا من إيمانهم و اتباعهم للحق.

 

 

 و يمكن أن يكون الخطاب للجميع من جهة أن الأشراف منهم أيضا كانوا يقلدون آباءهم و يطيعون أمرهم كما قالوا لصالح (عليه السلام): ﴿أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا: هود: ٦٢، فقد كانوا جميعا يطيعون أمر المسرفين فنهوا عنه.

و قد فسر المسرفين و هم المتعدون عن الحق الخارجون عن حد الاعتدال بتوصيفهم بقوله: ﴿اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ يُصْلِحُونَ إشارة إلى علة الحكم الحقيقية فالمعنى اتقوا الله و لا تطيعوا أمر المسرفين لأنهم مفسدون في الأرض غير مصلحين و الإفساد لا يؤمن معه العذاب الإلهي و هو عزيز ذو انتقام.

و ذلك أن الكون على ما بين أجزائه من التضاد و التزاحم مؤلف تأليفا خاصا يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج و الآثار كالأمر في كفتي الميزان فإنهما على اضطرابها و اختلافها الشديد بالارتفاع و الانخفاض متوافقتان في تعيين وزن المتاع الموزون و هو الغاية و العالم الإنساني الذي هو جزء من الكون كذلك ثم الفرد من الإنسان بما له من القوى و الأدوات المختلفة المتضادة مفطور على تعديل أفعاله و أعماله بحيث تنال كل قوة من قواه حظها المقدر لها و قد جهز بعقل يميز بين الخير و الشر و يعطي كل ذي حق حقه.

فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة و هو بما بين أجزائه من الارتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصا يسير فيها بأعمال خاصة من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط فإن في الميل و الانحراف إفسادا للنظام المرسوم، و يتبعه إفساد غايته و غاية الكل، و من الضروري أن خروج بعض الأجزاء عن خطه المخطوط له و إفساد النظم المفروض له و لغيره يستعقب منازعة بقية الأجزاء له فإن استطاعت أن تقيمه و ترده إلى وسط الاعتدال فهو و إلا أفنته و عفت آثاره حفظا لصلاح الكون و استبقاء لقوامه.

و الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له و إن تعدى حدود فطرته و أفسد في الأرض أخذه الله سبحانه بالسنين و المثلات و أنواع النكال و النقمة لعله يرجع إلى الصلاح و السداد قال تعالى: ﴿ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ

 

 

 بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ: الروم: ٤١.

و إن أقاموا مع ذلك على الفساد لرسوخه في نفوسهم أخذهم الله بعذاب الاستئصال و طهر الأرض من قذارة فسادهم قال تعالى: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: الأعراف:

 ٩٦. و قال: ﴿وَ مَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرىَ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهَا مُصْلِحُونَ: هود: ١١٧، و قال: ﴿أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ: الأنبياء: ١٠٥، و ذلك أنهم إذا صلحوا صلحت أعمالهم و إذا صلحت أعمالهم وافقت النظام العام و صلحت بها الأرض لحياتهم الأرضية.

فقد تبين بما مر أولا أن حقيقة دعوة النبوة هي إصلاح الحياة الإنسانية الأرضية قال تعالى: حكاية عن شعيب: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ: هود: ٨٨.

و ثانيا: أن قوله: ﴿وَ لاَ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ إلخ، على سذاجة بيانه معتمد على حجة برهانية.

و لعل في قوله: ﴿وَ لاَ يُصْلِحُونَ بعد قوله: ﴿اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ إشارة إلى أنه كان المتوقع منهم بما أنهم بشر ذوو فطرة إنسانية أن يصلحوا في الأرض لكنهم انحرفوا عن الفطرة و بدلوا الإصلاح إفسادا.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ أي ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب على عقله، و قيل: إن السحر أعلى البطن و المسحر من له جوف فيكون كناية عن أنك بشر مثلنا تأكل و تشرب فيكون قوله بعده: ﴿مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تأكيدا له، و قيل: المسحر من له سحر أي رئة كأن مرادهم أنك متنفس بشر مثلنا.

قوله تعالى: ﴿مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا إلى قوله ﴿عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ الشرب‏ بكسر الشين النصيب من الماء، و الباقي ظاهر و قد تقدمت تفصيل القصة في سورة هود.

قوله تعالى: ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ نسبة العقر إلى الجمع و لم يعقرها إلا واحد منهم لرضاهم بفعله،

و في نهج البلاغة،: أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا و السخط و إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ.

 

 

و قوله: ﴿فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ لعل ندمهم إنما كان عند مشاهدتهم ظهور آثار العذاب و إن قالوا له بعد العقر تعجيزا و استهزاء: ﴿يَا صَالِحُ اِئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ: الأعراف: ٧٧.

قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذَابُ إلى قوله ﴿اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ اللام للعهد أي أخذهم العذاب الموعود فإن صالحا وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة أيام كما في سورة هود، و الباقي ظاهر.

 [سورة الشعراء (٢٦): الآیات ١٦٠ الی ١٧٥]

﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ ١٦٠ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ ١٦١ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٦٢ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ١٦٣ وَ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى‏ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٦٤ أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرَانَ مِنَ اَلْعَالَمِينَ ١٦٥ وَ تَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ١٦٦ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ ١٦٧ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ اَلْقَالِينَ ١٦٨ رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ١٦٩ فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ١٧٠ إِلاَّ عَجُوزاً فِي اَلْغَابِرِينَ ١٧١ ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ ١٧٢ وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ ١٧٣ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٧٤ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ١٧٥

 

 

 (بيان)

تشير الآيات إلى قصة لوط النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) (عليه السلام) و هو بعد صالح (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ إلى قوله ﴿رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، تقدم تفسيره.

قوله تعالى: ﴿أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرَانَ مِنَ اَلْعَالَمِينَ الاستفهام للإنكار و التوبيخ و الذكران‏ جمع ذكر مقابل الأنثى و إتيانهم كناية عن اللواط و قد كان شاع فيما بينهم، و العالمين جمع عالم و هو الجماعة من الناس.

و قوله: ﴿مِنَ اَلْعَالَمِينَ يمكن أن يكون متصلا بضمير الفاعل في ﴿تَأْتُونَ و المراد أ تأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع؟ فيكون في معنى قوله في موضع آخر: ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ: الأعراف: ٨٠، العنكبوت - ٢٨.

و يمكن أن يكون متصلا بقوله: ﴿اَلذُّكْرَانَ و المعنى على هذا أ تنكحون من بين العالمين على كثرتهم و اشتمالهم على النساء الرجال فقط؟.

قوله تعالى: ﴿وَ تَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلخ ﴿تَذَرُونَ بمعنى تتركون و لا ماضي له من مادته.

و المتأمل في خلق الإنسان و انقسام أفراده إلى صنفي الذكر و الأنثى و ما جهز به كل من الصنفين من الأعضاء و الأدوات و ما يختص به من الخلقة لا يرتاب في أن غرض الصنع و الإيجاد من هذا التصوير المختلف و إلقاء غريزة الشهوة في القبيلين و تفريق أمرهما بالفعل و الانفعال أن يجمع بينهما بالنكاح ليتوسل بذلك إلى التناسل الحافظ لبقاء النوع حتى حين.

فالرجل من الإنسان بما هو رجل مخلوق للمرأة منه لا لرجل مثله و المرأة من الإنسان بما هي امرأة مخلوقة للرجل منه لا لامرأة مثلها و ما يختص به الرجل في خلقته للمرأة و ما تختص به المرأة في خلقتها للرجل و هذه هي الزوجية الطبيعية التي عقدها الصنع و الإيجاد بين الرجل و المرأة من الإنسان فجعلهما زوجين.

 

 

 ثم الأغراض و الغايات الاجتماعية أو الدينية سنت بين الناس سنة النكاح الاجتماعي الاعتباري الذي فيه نوع من الاختصاص بين الزوجين و قسم من التحديد للزوجية الطبيعية المذكورة فالفطرة الإنسانية و الخلقة الخاصة تهديه إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال و ازدواج النساء بالرجال دون النساء، و أن الازدواج مبني على أصل التوالد و التناسل دون الاشتراك في مطلق الحياة.

و من هنا يظهر أن الأقرب أن يكون المراد بقوله: ﴿مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ العضو المباح للرجال من النساء بالازدواج و اللام للملك الطبيعي، و أن ﴿مِنْ في قوله: ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ للتبعيض و الزوجية هي الزوجية الطبيعية و إن أمكن أن يراد بها الزوجية الاجتماعية الاعتبارية بوجه.

و أما تجويز بعضهم أن يراد بلفظة ﴿مَا النساء و يكون قوله: ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بيانا له فبعيد.

و قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ أي متجاوزون خارجون عن الحد الذي خطته لكم الفطرة و الخلقة فهو في معنى قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ: العنكبوت: ٢٩.

و قد ظهر من جميع ما مر أن كلامه (عليه السلام) مبني على حجة برهانية أشير إليها.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ أي المبعدين المنفيين من قريتنا كما نقل عنهم في موضع آخر: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ اَلْقَالِينَ المراد بعملهم على ما يعطيه السياق إتيان الذكران و ترك الإناث. و القالي‏ المبغض، و مقابلة تهديدهم بالنفي بمثل هذا الكلام من غير تعرض للجواب عن تهديدهم يفيد من المعنى أني لا أخاف الخروج من قريتكم و لا أكترث به بل مبغض لعملكم راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة، و لذا أتبعه بقوله: ﴿رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ.

قوله تعالى: ﴿رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من أصل عملهم الذي يأتون به بمرأى و مسمع منه فهو منزجر منه أو من وبال عملهم و العذاب الذي سيتبعه لا محالة.

و إنما لم يذكر إلا نفسه و أهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد، قال تعالى

 

 

 في ذلك: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ: الذاريات: ٣٦.

قوله تعالى: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إلى قوله ﴿اَلْآخَرِينَ الغابر كما قيل الباقي بعد ذهاب من كان معه، و التدمير الإهلاك، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً إلخ، و هو السجيل كما قال تعالى:

﴿وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ: الحجر: ٧٤.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً إلى قوله ﴿اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ تقدم تفسيره.

[سورة الشعراء (٢٦): الآیات ١٧٦ الی ١٩١]

﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ اَلْمُرْسَلِينَ ١٧٦ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ ١٧٧ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٧٨ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ ١٧٩ وَ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى‏ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٨٠ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ ١٨١ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ١٨٢ وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ١٨٣ وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ ١٨٤ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ ١٨٥ وَ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ اَلْكَاذِبِينَ ١٨٦ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ١٨٧ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ١٨٨ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٨٩ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٩٠ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ١٩١

 

 

 (بيان)

إجمال قصة شعيب (عليه السلام) و هو من أنبياء العرب، و هي آخر القصص السبع الموردة في السورة.

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ اَلْمُرْسَلِينَ إلى قوله ﴿رَبِّ اَلْعَالَمِينَ الأيكة الغيضة الملتف شجرها. قيل: إنها كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة و كانوا ممن بعث إليهم شعيب (عليه السلام)، و كان أجنبيا منهم و لذلك قيل: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ و لم يقل: أخوهم شعيب بخلاف هود و صالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما و كذا لوط فقد كان نسيبا إلى قومه بالمصاهرة و لذا عبر عنهم بقوله: ﴿أَخُوهُمْ هُودٌ ﴿أَخُوهُمْ صَالِحٌ ﴿أَخُوهُمْ لُوطٌ.

و قد تقدم تفسير باقي الآيات.

قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ الكيل‏ ما يقدر به المتاع من جهة حجمه و إيفاؤه أن لا ينقص الحجم، و القسطاس‏ الميزان الذي يقدر به من جهة وزنه و استقامته أن يزن بالعدل، و الآيتان تأمران بالعدل في الأخذ و الإعطاء بالكيل و الوزن.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ البخس‏ النقص في الوزن و التقدير كما أن الإخسار النقص في رأس المال.

و ظاهر السياق أن قوله: ﴿وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ أي سلعهم و أمتعتهم قيد متمم لقوله: ﴿وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ كما أن قوله: ﴿وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ قيد متمم لقوله: ﴿أَوْفُوا اَلْكَيْلَ و قوله: ﴿وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ تأكيد للنهيين جميعا أعني قوله: ﴿لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ و قوله: ﴿لاَ تَبْخَسُوا و بيان لتبعة التطفيف السيئة المشئومة.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ العثي و العيث‏ الإفساد، فقوله:

﴿مُفْسِدِينَ حال مؤكد و قد تقدم في قصة شعيب من سورة هود و في قوله: ﴿وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً: الآية - ٣٥ من سورة الإسراء كلام في كيفية ـ

 

 

إفساد التطفيف المجتمع الإنساني، فراجع.

قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ قال في المجمع:، الجبلة الخليقة التي طبع عليها الشي‏ء. انتهى. فالمراد بالجبلة ذوو الجبلة أي اتقوا الله الذي خلقكم و آباءكم الأولين الذين فطرهم و قرر في جبلتهم تقبيح الفساد و الاعتراف بشؤمه.

و لعل هذا الذي أشرنا إليه من المعنى هو الموجب لتخصيص الجبلة بالذكر، و في الآية على أي حال دعوة إلى توحيد العبادة فإنهم لم يكونوا يتقون الخالق الذي هو رب العالمين.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ - إلى قوله: ﴿وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ اَلْكَاذِبِينَ تقدم تفسير الصدر، و: ﴿إِنْ في قوله: ﴿إِنْ نَظُنُّكَ مخففة من الثقيلة.

قوله تعالى: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ إلخ، الكسف‏ بالكسر فالفتح على ما قيل جمع كسفة و هي القطعة، و الأمر مبني على التعجيز و الاستهزاء.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ جواب شعيب عن قولهم و اقتراحهم منه إتيان العذاب، و هو كناية عن أنه ليس له من الأمر شي‏ء و إنما الأمر إلى الله لأنه أعلم بما يعملون و أن عملهم هل يستوجب عذابا؟ و ما هو العذاب الذي يستوجبه إذا استوجب؟ فهو كقول هود لقومه: ﴿إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ: الأحقاف: ٢٣.

قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ إلخ، يوم الظلة يوم عذب فيه قوم شعيب بظلة من الغمام، و قد تقدم تفصيل قصتهم في سورة هود.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً إلى قوله ﴿اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ: تقدم تفسيره.

(بحث روائي)

في جوامع الجامع،: في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ و في الحديث أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة.

 و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ قال:

 

 

 الخلق الأولين، و قوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ قال: قوم شعيب ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ قال: يوم حر و سمائم.

[سورة الشعراء (٢٦): الآیات ١٩٢ الی ٢٢٧]

﴿وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ ١٩٣ عَلىَ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ١٩٥ وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ ١٩٦ أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ١٩٧ وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلى‏ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ ١٩٨ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ١٩٩ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ ٢٠٠ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ ٢٠١ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٢٠٢ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ٢٠٣ أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ٢٠٤ أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ٢٠٥ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ٢٠٦ مَا أَغْنى‏ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ٢٠٧ وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ ٢٠٨ ذِكْرى‏ وَ مَا كُنَّا ظَالِمِينَ ٢٠٩ وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيَاطِينُ ٢١٠ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَ مَا يَسْتَطِيعُونَ ٢١١ إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ٢١٢ فَلاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ ٢١٣ وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ ٢١٤ وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ

 

 

﴿اَلْمُؤْمِنِينَ ٢١٥ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ٢١٦ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ ٢١٧ اَلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسَّاجِدِينَ ٢١٩ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٢٢٠ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى‏ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيَاطِينُ ٢٢١ تَنَزَّلُ عَلى‏ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ٢٢٢ يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ٢٢٣ وَ اَلشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغَاوُونَ ٢٢٤ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ٢٢٥ وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ٢٢٦ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ ذَكَرُوا اَللَّهَ كَثِيراً وَ اِنْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ٢٢٧  

(بيان)

تشير الآيات إلى ما هو كالنتيجة المستخرجة من القصص السبع السابقة و يتضمن التوبيخ و التهديد لكفار الأمة.

و فيها دفاع عن نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالاحتجاج عليه بذكره في زبر الأولين و علم علماء بني إسرائيل به، و دفاع عن كتابه بالاحتجاج على أنه ليس من إلقاءات الشياطين و لا من أقاويل الشعراء.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ الضمير للقرآن، و فيه رجوع إلى ما في صدر السورة من قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ و تعقيب لحديث كفرهم به كما في قوله بعد ذلك: ﴿وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا الآية.

 

 

 و التنزيل و الإنزال‏ بمعنى واحد، غير أن الغالب على باب الإفعال الدفعة و على باب التفعيل التدريج، و أصل النزول في الأجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه و في غير الأجسام بما يناسبه.

و تنزيله تعالى إخراجه الشي‏ء من عنده إلى موطن الخلق و التقدير و قد سمى نفسه بالعلي العظيم و الكبير المتعال و رفيع الدرجات و القاهر فوق عباده فيكون خروج الشي‏ء بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق و التقدير و إن شئت فقل: إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة تنزيلا منه تعالى له.

و قد استعمل الإنزال و التنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية كقوله تعالى:

﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ: الأعراف: ٢٦، و قوله: ﴿وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ: الزمر: ٦، و قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ: الحديد: ٢٥، و قوله: ﴿مَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ وَ لاَ اَلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ: البقرة: ١٠٥، و قد أطلق القول في قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر: ٢١.

و من الآيات الدالة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ: الزخرف: ٤.

و قد أضيف التنزيل إلى رب العالمين للدلالة على توحيد الرب تعالى لما تكرر مرارا أن المشركين إنما كانوا يعترفون به تعالى بما أنه رب الأرباب و لا يرون أنه رب العالمين.

قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى‏َ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ المراد بالروح الأمين هو جبرئيل ملك الوحي بدليل قوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏َ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللَّهِ: البقرة: ٩٧ و قد سماه في موضع آخر بروح القدس:

﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ: النحل: ١٠٢، و قد تقدم في تفسير سورتي النحل و الإسراء ما يتعلق بمعنى الروح من الكلام.

و قد وصف الروح بالأمين للدلالة على أنه مأمون في رسالته منه تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يغير شيئا من كلامه تعالى بتبديل أو تحريف بعمد أو سهو أو نسيان كما أن

 

 

 توصيفه في آية أخرى بالقدس يشير إلى ذلك.

و قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ الباء للتعدية أي نزله الروح الأمين و أما قول من قال: إن الباء للمصاحبة و المعنى نزل معه الروح فلا يلتفت إليه لأن العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن.

و الضمير في ﴿نَزَلَ بِهِ للقرآن بما أنه كلام مؤلف من ألفاظ لها معانيها الحقة فإن ألفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى كما أن معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ: القيامة: ١٨، و قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ: آل عمران: ١٠٨، الجاثية: ٦، إلى غير ذلك.

فلا يعبأ بقول من قال: إن الذي نزل به الروح الأمين إنما هو معاني القرآن الكريم ثم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يعبر عنها بما يطابقها و يحكيها من الألفاظ بلسان عربي.

و أسخف منه قول من قال: إن القرآن بلفظه و معناه من منشئات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمى الروح الأمين إلى مرتبة منها تسمى القلب.

و المراد بالقلب المنسوب إليه الإدراك و الشعور في كلامه تعالى هو النفس الإنسانية التي لها الإدراك و إليها تنتهي أنواع الشعور و الإرادة دون اللحم الصنوبري المعلق عن يسار الصدر الذي هو أحد الأعضاء الرئيسة كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالى، كقوله: ﴿وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنَاجِرَ: الأحزاب: ١٠، أي الأرواح، و قوله: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾: البقرة: ٢٨٣، أي نفسه إذ لا معنى لنسبة الإثم إلى العضو الخاص.

و لعل الوجه في قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى‏َ قَلْبِكَ دون أن يقول: عليك هو الإشارة إلى كيفية تلقيه (ص) القرآن النازل عليه، و أن الذي كان يتلقاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية.

فكان (ص) يرى و يسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر و السمع كما روي أنه كان يأخذه شبه إغماء يسمى برجاء الوحي.

فكان (ص) يرى الشخص و يسمع الصوت مثل ما نرى الشخص و نسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره و سمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما.

 

 

 و لو كان رؤيته و سمعه بالبصر و السمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه و بين غيره فكان سائر الناس يرون ما يراه و يسمعون ما يسمعه و النقل القطعي يكذب ذلك فكثيرا ما كان يأخذه برجاء الوحي و هو بين الناس فيوحى إليه و من حوله لا يشعرون بشي‏ء و لا يشاهدون شخصا يكلمه و لا كلاما يلقى إليه.

و القول بأن من الجائز أن يصرف الله تعالى حواس غيره (ص) من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسه و هي الأمور الغيبية المستورة عنا.

هدم لبنيان التصديق العلمي إذ لو جاز مثل هذا الخطإ العظيم على الحواس و هي مفتاح العلوم الضرورية و التصديقات البديهية و غيرها لم يبق وثوق على شي‏ء من العلوم و التصديقات.

على أن هذا الكلام مبني على أصالة الحس و أن لا وجود إلا لمحسوس و هو من أفحش الخطإ و قد تقدم في تفسير سورة مريم كلام في معنى تمثل الملك نافع في المقام.

و ربما قيل في وجه تخصيص القلب بالإنزال إنه لكونه هو المدرك المكلف دون الجسد و إن كان يتلقى الوحي بتوسيط الأدوات البدنية من السمع و البصر، و قد عرفت ما فيه.

و ربما قيل: لما كان للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جهتان: جهة ملكية يستفيض بها، و جهة بشرية يفيض بها، جعل الإنزال على روحه لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين، و للإشارة إلى ذلك قيل. ﴿عَلى‏َ قَلْبِكَ و لم يقل: عليك مع كونه أخصر. انتهى.

و هذا أيضا مبني على مشاركة الحواس و القوى البدنية في تلقي الوحي فيرد عليه ما قدمناه.

و ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالقلب هو العضو الخاص البدني و أن الإدراك كيفما كان من خواصه.

فمنهم من قال: إن جعل القلب متعلق الإنزال مبني على التوسع لأن الله تعالى يسمع القرآن جبرئيل بخلق الصوت فيحفظه و ينزل به على الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و يقرؤه عليه فيعيه و يحفظه بقلبه فكأنه نزل به على قلبه.

 

 

و منهم من قال: إن تخصيص القلب بالإنزال لأن المعاني الروحانية تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منها إلى القلب لما بينهما من التعلق ثم تنتقل منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة.

و منهم من قال: إن تخصيصه به للإشارة إلى كمال تعقله (ص) حيث لم يعتبر الوسائط من سمع و بصر و غيرهما.

و منهم من قال: إن ذلك للإشارة إلى صلاح قلبه (ص) و تقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم به صلاح سائر أجزائه و أعضائه فإن القلب رئيس سائر الأعضاء و ملكها و إذا صلح الملك صلحت رعيته.

و منهم من قال: إن ذلك لأن الله تعالى جعل لقلب رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) سمعا و بصرا مخصوصين يسمع و يبصر بهما تمييزا لشأنه من غيره كما يشعر به قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏َ: النجم: ١١.

و هذه الوجوه مضافا على اشتمال أكثرها على المجازفة مبنية على قياس هذه الأمور الغيبية على ما عندنا من الحوادث المادية و إجراء حكمها فيها و قد بلغ من تعسف بعضهم أن قال: إن معنى إنزال الملك القرآن أن الله ألهمه كلامه و هو في السماء و علمه قراءته ثم الملك أداه في الأرض و هو يهبط في المكان و في ذلك طريقتان: إحداهما أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية فأخذه من الملك، و ثانيتهما أن الملك انخلع إلى صورة البشرية حتى يأخذه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأولى أصعب الحالين. انتهى.

و ليت شعري ما الذي تصوره من انخلاع الإنسان من صورته إلى صورة الملكية و صيرورته ملكا ثم عوده إنسانا و من انخلاع الملك إلى صورة الإنسانية و قد فرض لكل منهما هوية مغايرة للآخر لا رابطة بين أحدهما و الآخر ذاتا و أثرا و في كلامه مواضع أخرى للنظر غير خفية على من تأمل فيه.

و للبحث تتمة لعل الله سبحانه يوفقنا لاستيفائها بإيراد كلام جامع في الملك و آخر في الوحي.

و قوله: ﴿لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ أي من الداعين إلى الله سبحانه بالتخويف من عذابه و هو المراد بالإنذار في عرف القرآن دون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو الرسول بالخصوص، قال

 

 

 تعالى في مؤمني الجن: ﴿وَ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ اَلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ اَلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏َ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ: الأحقاف: ٢٩، و قال في المتفقهين من المؤمنين: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ: براءة: ١٢٢.

و إنما ذكر إنذاره (ص) غاية لإنزال القرآن دون نبوته أو رسالته لأن سياق آيات السورة سياق التخويف و التهديد.

و قوله ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أي ظاهر في عربيته أو مبين للمقاصد تمام البيان و الجار و المجرور متعلق بنزل أي أنزله بلسان عربي مبين.

و جوز بعضهم أن يكون متعلقا بقوله: ﴿اَلْمُنْذِرِينَ و المعنى أنزله على قلبك لتدخل في زمرة الأنبياء من العرب و قد ذكر منهم في القرآن هود و صالح و إسماعيل و شعيب (عليه السلام) و أول الوجهين أحسنهما.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ الضمير للقرآن أو نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الزبر جمع زبور و هو الكتاب و المعنى و إن خبر القرآن أو خبر نزوله عليك في كتب الماضين من الأنبياء.

و قيل: الضمير لما في القرآن من المعارف الكلية أي إن المعارف القرآنية موجودة مذكورة في كتب الأنبياء الماضين.

و فيه أولا: أن المشركين ما كانوا يؤمنون بالأنبياء و كتبهم حتى يحتج عليهم بما فيها من التوحيد و المعاد و غيرهما، و هذا بخلاف ذكر خبر القرآن و نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في كتب الأولين فإنه حينئذ يكون ملحمة تضطر النفوس إلى قبولها.

و ثانيا: أنه لا يلائم الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ضمير ﴿أَنْ يَعْلَمَهُ لخبر القرآن أو خبر نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أي أ و لم يكن علم علماء بني إسرائيل بخبر القرآن أو نزوله عليك على سبيل البشارة في كتب الأنبياء الماضين آية للمشركين على صحة نبوتك و كانت اليهود تبشر بذلك و تستفتح على العرب به كما مر في قوله تعالى:

﴿وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا: البقرة: ٨٩.

و قد أسلم عدة من علماء اليهود في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اعترفوا بأنه مبشر به في

 

 

 كتبهم "و السورة من أوائل السور المكية النازلة قبل الهجرة و لم تبلغ عداوة اليهود للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مبلغها بعد الهجرة و كان من المرجو أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحق و لو بوجه كلي.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلى‏َ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ قال في المفردات:، العجمة خلاف الإبانة و الإعجام‏ الإبهام إلى أن قال و العجم‏ خلاف العرب و العجمي منسوب إليهم، و الأعجم‏ من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم، و منه قيل للبهيمة عجماء و الأعجمي منسوب إليه قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلى‏َ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ على حذف الياءات انتهى.

و مقتضى ما ذكره كما ترى أن أصل الأعجمين الأعجميين ثم حذفت ياء النسبة و به صرح بعض آخر، و ذكر بعضهم أن الوجه أن أعجم مؤنثه عجماء و أفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكن الكوفيين من النحاة يجوزون ذلك و ظاهر اللفظ يؤيد قولهم فلا موجب للقول بالحذف.

و كيف كان فظاهر السياق اتصال الآيتين بقوله: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فتكونان في مقام التعليل له و يكون المعنى: نزلناه عليك بلسان عربي ظاهر العربية واضح الدلالة ليؤمنوا به و لا يتعللوا بعدم فهمهم مقاصده و لو نزلناه على بعض الأعجمين بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين و ردوه بعدم فهم مقاصده.

فيكون المراد بنزوله على بعض الأعجمين نزوله أعجميا و بلسانه، و الآيتان و التي بعدهما في معنى قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْ لاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفَاءٌ وَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى: حم السجدة: ٤٤.

و قال بعضهم: إن المعنى و لو نزلناه قرآنا عربيا كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم و شدة شكيمتهم في المكابرة.

 

 

 قال: و أما قول بعضهم: إن المعنى و لو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة و العناد. انتهى ملخصا.

و فيه أن اتصال الآيتين بقوله: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أقرب إليهما من اتصالهما بسياق تمادي الكفار في كفرهم و جحودهم و قد عرفت توضيحه.

و يمكن أن يورد على الوجه السابق أن الضمير في قوله: ﴿وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلى‏َ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ راجع إلى هذا القرآن الذي هو عربي فلو كان المراد تنزيله بلسان أعجمي لكان المعنى و لو نزلنا العربي غير عربي و لا محصل له.

و يرده أنه من قبيل قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: الزخرف: ٣، و لا معنى لقولنا: إنا جعلنا العربي عربيا فالمراد بالقرآن على أي حال الكتاب المقروء.

قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ الإشارة بقوله: ﴿كَذَلِكَ إلى الحال التي عليها القرآن عند المشركين و قد ذكرت في الآيات السابقة و هي أنهم معرضون عنه لا يؤمنون به و إن كان تنزيلا من رب العالمين و كان عربيا مبينا غير أعجمي و كان مذكورا في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل.

و السلوك‏ الإدخال في الطريق و الإمرار، و المراد بالمجرمين هم الكفار و المشركون و ذكرهم بوصف الاجرام للإشارة إلى علة الحكم و هو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة و المنفورة و أن ذلك مجازاة إلهية جازاهم بها عن إجرامهم و ليعم الحكم بعموم العلة.

و المعنى على هذه الحال و هي أن يكون بحيث يعرض عنه و لا يؤمن به ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين و نمره في نفوسهم جزاء لإجرامهم و كذلك كل مجرم.

و قيل: الإشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة و المعنى: ندخل القرآن و نمره في قلوب المجرمين بمثل ما بينا له الأوصاف فيرون أنه كتاب سماوي ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر و أنه مبشر به في زبر الأولين يعلمه علماء بني إسرائيل و تتم الحجة به عليهم و هو بعيد من السياق.

 

 

 و قيل: الضمير في ﴿سَلَكْنَاهُ للتكذيب بالقرآن و الكفر به المدلول عليه بقوله:

﴿مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ هذا و هو قريب من الوجه الأول لكن الوجه الأول ألطف و أدق، و قد ذكره في الكشاف،.

و قد تبين بما تقدم أن المراد بالمجرمين مشركو مكة غير أن عموم وصف الاجرام يعمم الحكم، و قال بعضهم: إن المراد بالمجرمين غير مشركي مكة من معاصريهم و من يأتي بعدهم، و المعنى: كما سلكناه في قلوب مشركي مكة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين.

و لعل الذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتحاد المشبه و المشبه به على الوجه الأول مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله: ﴿كَذَلِكَ السلوك في قلوب مشركي مكة و هو المشبه به و جعل المشبه غيرهم من المجرمين و فيه أن تشبيه الكلي ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الأفراد طريقة شائعة.

و من هنا يظهر أن هناك وجها آخر و هو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعم مشركي مكة و غيرهم بجعل اللام فيه لغير العهد و لعل الوجه الأول أقرب من السياق.

قوله تعالى: ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ إلى قوله ﴿مُنْظَرُونَ تفسير و بيان لقوله: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ إلخ هذا على الوجه الأول و الثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة و أما على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبط بما قبله.

و قوله: ﴿حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ أي حتى يشاهدوا العذاب الأليم فيلجئهم إلى الإيمان الاضطراري الذي لا ينفعهم، و الظاهر أن المراد بالعذاب الأليم ما يشاهدونه عند الموت و احتمل بعضهم أن يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكة و غيرهم لا يلائم ذلك.

و قوله: ﴿فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كالتفسير لقوله: ﴿حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ إذ لو لم يأتهم بغتة و علموا به قبل موعده لاستعدوا له و آمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه.

و قوله: ﴿فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ كلمة تحسر منهم.

قوله تعالى: ﴿أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ توبيخ و تهديد.

 

 

قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ إلى قوله ﴿يُمَتَّعُونَ متصل بقوله:

﴿فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ و محصل المعنى أن تمني الإمهال و الإنظار تمني أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنونه و لم يغن عنهم شيئا لو أجيبوا إلى ما سألوه فإن تمتيعهم أمدا محدودا طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الذي قضي في حقهم.

و هو قوله: ﴿أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ معدودة ستنقضي: ﴿ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ من العذاب بعد انقضاء سني الإنظار و الإمهال ﴿مَا أَغْنى‏َ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ أي تمتيعهم أمدا محدودا.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرى‏َ إلخ، الأقرب أن يكون قوله: ﴿لَهَا مُنْذِرُونَ حالا من ﴿قَرْيَةٍ و قوله: ﴿ذِكْرى‏َ حالا من ضمير الجمع في ﴿مُنْذِرُونَ أو مفعولا مطلقا عامله ﴿مُنْذِرُونَ لكونه في معنى مذكرون و المعنى ظاهر، و قيل غير ذلك مما لا جدوى في ذكره و إطالة البحث عنه.

و قوله: ﴿وَ مَا كُنَّا ظَالِمِينَ ورود النفي على الكون دون أن يقال: و ما ظلمناهم و نحو ذلك يفيد نفي الشأنية أي و ما كان من شأننا و لا المترقب منا أن نظلمهم.

و الجملة في مقام التعليل للحصر السابق و المعنى: ما أهلكنا من قرية إلا في حال لها منذرون مذكرون تتم بهم الحجة عليهم لأنا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنا ظالمين لهم و ليس من شأننا أن نظلم أحدا فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً: إسراء: ١٥.

كلام في معنى نفي الظلم عنه تعالى‏

من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل و تصرفه ما لا يملكه من الفعل و التصرف، و يقابله العدل و لازمه أنه فعل الفاعل و تصرفه ما يملكه.

و من هنا يظهر أن أفعال الفواعل التكوينية من حيث هي مملوكة لها تكوينا لا يتحقق فيها معنى الظلم لأن فرض صدور الفعل عن فاعله تكوينا مساوق لكونه مملوكا له بمعنى قيام وجوده به قياما لا يستقل دونه.

 

 

 و لله سبحانه ملك مطلق منبسط على الأشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه و استقلال دونه فأي تصرف تصرف به فيها مما يسرها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرها ليس من الظلم في شي‏ء و إن شئت فقل: عدل بمعنى ما ليس بظلم فله أن يفعل ما يشاء و له أن يحكم ما يريد كل ذلك بحسب التكوين.

فله تعالى ملك مطلق بذاته، و لغيره من الفواعل التكوينية ملك تكويني بالنسبة إلى فعله حسب الإعطاء و الموهبة الإلهية و هو ملك في طول ملكه تعالى و هو المالك لما ملكها و المهيمن على ما عليه سلطها.

و من جملة هذه الفواعل النوع الإنساني بالنسبة إلى أفعاله و خاصة ما نسميها بالأفعال الاختيارية و الاختيار الذي يتعين به هذه الأفعال، فالواحد منا يجد من نفسه عيانا أنه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل و الترك معا، فإن شاء فعل و إن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرا يملك الفعل و الترك، أي فعل و ترك كانا، بمعنى إمكان صدور كل منهما عنه.

ثم إن اضطرار الإنسان إلى الحياة الاجتماعية المدنية اضطر العقل أن يغمض عن بعض ما للإنسان من حرية العمل و يرفع اليد عن بعض الأفعال التي كان يرى أنه يملكها و هي التي يختل بإتيانها أمر المجتمع فيختل نظم حياته نفسه و هذه هي المحرمات و المعاصي التي تنهى عنها القوانين المدنية أو السنن القومية أو الأحكام الملوكية الدائرة في المجتمعات.

و من الضروري لتحكيم هذه القوانين و السنن أن يجعل نوع من الجزاء السيئ على المتخلف عنها بشرط العلم و تمام الحجة لأنه شرط تحقق التكليف من ذم أو عقاب، و نوع من الأجر الجميل للمطيع الذي يحترمها من مدح أو ثواب.

و من الضروري أن ينتصب على المجتمع و القوانين الجارية فيها من يجريها على ما هي عليه و هو مسئول عما نصب له و خاصة بالنسبة إلى أحكام الجزاء، فلو لم يكن مسئولا و جاز له أن يجازي و أن لا يجازي و يأخذ المحسن و يترك المسي‏ء لغا وضع القوانين و السنن من رأس. هذه أصول عقلائية جارية في الجملة في المجتمعات الإنسانية منذ استقر هذا النوع على الأرض منبعثة عن فطرتهم الإنسانية.

 

 

 و قد دلت البراهين العقلية و أيدها تواتر الأنبياء و الرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية و سنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى و هي أحكام و وظائف إنسانية تهدي إليها الفطرة الإنسانية و تضمن سعادة حياته و تحفظ مصالح مجتمعة.

و هذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه و مجريها من حيث الثواب و العقاب و موطنهما موطن الرجوع إليه تعالى هو الله سبحانه.

و مقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية و اعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا - و ليس بالتكويني أن لا يناقض نفسه و لا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند، و أخذ المظلوم بإثم الظالم و إلا كان ظلما منه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

و لعل هذا معنى ما يقال: إن الظلم مقدور له تعالى لكنه ليس بواقع البتة لأنه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال و ليس بفرض محال، و هو المستفاد من ظاهر قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنَّا ظَالِمِينَ، و قوله:

: الآية ٢٠٩ من السورة ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ اَلنَّاسَ شَيْئاً: يونس: ٤٤، و قوله: ﴿وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ: فصلت: ٤٦، و قوله: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ: النساء: ١٦٥، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما يومئ إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما.

فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لأنه من حق المعاقب و من الجائز على صاحب الحق تركه و عدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لأنه من حق الغير و هو المطيع فلا يجوز تركه و إبطاله.

على أنه قيل: إن الإثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لأن العبد و عمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشي‏ء.

قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لأنه من الفضل و أما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع و التقنين و ترتيب الجزاء على العمل.

 

 

 و أما كون ثواب الأعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله فلا ينافي فضلا آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكا له، ثم جعل ما يثيبه عليه أجرا لعمله، و القرآن ملي‏ء بحديث الأجر على الأعمال الصالحة، و قد قال تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‏َ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ: براءة: ١١١.

(بيان)

قوله تعالى: ﴿وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيَاطِينُ إلى قوله ﴿لَمَعْزُولُونَ شروع في الجواب عن قول المشركين: إن لمحمد جنا يأتيه بهذا الكلام، و قولهم: إنه شاعر، و قدم الجواب عن الأول و قد وجه الكلام أولا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فبين له أن القرآن ليس من تنزيل الشياطين و طيب بذلك نفسه ثم وجه القول إلى القوم فبينه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه.

فقوله: ﴿وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيَاطِينُ أي ما نزلته و الآية متصلة بقوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ و وجه الكلام كما سمعت إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بدليل قوله تلوا: ﴿فَلاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إلى آخر الخطابات المختصة به (ص) المتفرعة على قوله: ﴿وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ إلخ، على ما سيجي‏ء بيانه.

و إنما وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دون القوم لأنه معلل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ و الشيطان‏ الشرير و جمعه الشياطين و المراد بهم أشرار الجن.

و قوله: ﴿وَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ أي للشياطين. قال في مجمع البيان:، و معنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب. انتهى.

و الوجه في أنه لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به أنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر و الفساد و الأخذ بالباطل و تصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله، و القرآن كلام حق لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد.

و قوله: ﴿وَ مَا يَسْتَطِيعُونَ أي و ما يقدرون على التنزل به لأنه كلام سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ و حراسة منه تعالى كما قال:

﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ

 

 

 بِمَا لَدَيْهِمْ: الجن: ٢٨، و إلى ذلك يشير قوله: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ إلخ.

و قوله: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي إن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية و الاطلاع على ما يجري في الملإ الأعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ينهاه عن الشرك بالله متفرع على قوله: ﴿وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيَاطِينُ إلخ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلا من رب العالمين و لم تنزل به الشياطين و هو ينهى عن الشرك و يوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه و تدخل في زمرة المعذبين.

و كونه (ص) معصوما بعصمة إلهية يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإن العصمة لا توجب بطلان تعلق الأمر و النهي بالمعصوم و ارتفاع التكليف عنه بما أنه بشر مختار في الفعل و الترك متصور في حقه الطاعة و المعصية بالنظر إلى نفسه، و قد تكاثرت الآيات في تكليف الأنبياء (عليه السلام) في القرآن الكريم كقوله في الأنبياء (عليه السلام): ﴿وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: الأنعام: ٨٨، و قوله في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ: الزمر: ٦٥، و الآيتان في معنى النهي.

و قول بعضهم: إن التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال و تحققه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإن الأعمال الصالحة التي يتعلق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب و الكمال النفساني كما يجب أن يكتسب بالإتيان بآثاره و مزاولة الأعمال التي تناسبه و الارتياض بها كذلك يجب أن يستبقي بذلك فما دام الإنسان بشرا له تعلق بالحياة الأرضية لا مناص له عن تحمل أعباء التكليف، و قد تقدم كلام في هذا المعنى في بعض الأبحاث.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ في مجمع البيان:، عشيرة الرجل قرابته سموا بذلك لأنه يعاشرهم و هم يعاشرونه انتهى. و خص عشيرته و قرابته الأقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك و إنذاره تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية

 

 

و لا مداهنة و لا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكية فلا فرق في تعلق الإنذار بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمته و لا بين الأقارب و الأجانب، فالجميع عبيد و الله مولاهم.

قوله تعالى: ﴿وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أي اشتغل بالمؤمنين بك و اجمعهم و ضمهم إليك بالرأفة و الرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها، و هذا من الاستعارة بالكناية تقدم نظيره في قوله: ﴿وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ: الحجر: ٨٨.

و المراد بالاتباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية: ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فملخص معنى الآيتين: إن آمنوا بك و اتبعوك فاجمعهم إليك بالرأفة و اشتغل بهم بالتربية و إن عصوك فتبرأ من عملهم.

قوله تعالى: ﴿وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ أي ليس لك من أمر طاعتهم و معصيتهم شي‏ء وراء ما كلفناك فكل ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنه لعزته سيعذب العاصين و برحمته سينجي المؤمنين المتبعين.

و في اختصاص اسمي العزيز و الرحيم إلفات للذهن إلى ما تقدم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين.

فهو في معنى أن يقال: توكل في أمر المتبعين و العاصين جميعا إلى الله فهو العزيز الرحيم الذي فعل بقوم نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و قوم فرعون ما فعل مما قصصناه فسنته أخذ العاصين و إنجاء المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسَّاجِدِينَ ظاهر الآيتين على ما يسبق إلى الذهن أن المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في صلاته بهم جماعة، و المراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى: الذي يراك و أنت بعينه في حالتي قيامك و سجودك متقلبا في الساجدين و أنت تصلي مع المؤمنين.

و في معنى الآية روايات من طرق الشيعة و أهل السنة سنتعرض لها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ تعليل لقوله: ﴿وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215142

  • التاريخ : 3/02/2025 - 19:52

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net