غنى تركناهن فأنزل الله: ﴿اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ﴾ الآية فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا الزواني المسافحات العالنات زناهن. أقول: و الروايتان إنما تذكران سبب نزول قوله: ﴿اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ دون قوله: ﴿اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾. و في المجمع، ":في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا﴾ اختلف في هذا الاستثناء إلى ما ذا يرجع على قولين: أحدهما أنه يرجع إلى الفسق خاصة دون قوله: ﴿وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾ إلى أن قال و الآخر أن الاستثناء يرجع إلى الأمرين فإذا تاب قبلت شهادته حد أم لم يحد عن ابن عباس إلى أن قال و قول أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا و نكل زياد فحد عمر الثلاثة، و قال لهم: توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان و لم يتب أبو بكرة فكان لا تقبل شهادته، و كان أبو بكرة أخا زياد لأمه فلما كان من أمر زياد ما كان حلف أبو بكرة أن لا يكلمه أبدا فلم يكلمه حتى مات.
و في التهذيب، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قذف العبد الحر جلد ثمانين. و قال: هذا من حقوق الناس.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ إلى قوله ﴿ إِنْ كَانَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ﴾ فإنها نزلت في اللعان فكان سبب ذلك أنه لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غزوة تبوك جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني و كان من الأنصار و قال: يا رسول الله إن امرأتي زنى بها شريك بن السمحاء و هي منه حامل فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأعاد عليه القول فأعرض عنه حتى فعل ذلك أربع مرات.
فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) منزله فنزلت عليه آية اللعان فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و صلى بالناس العصر، و قال لعويمر: ائتني بأهلك فقد أنزل الله عز و جل فيكما قرآنا فجاء إليها و قال لها: رسول الله يدعوك و كانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلما دخلت المسجد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعويمر: تقدم إلى المنبر و التعنا - فقال: كيف
أصنع؟ فقال: تقدم و قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به فتقدم و قالها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أعدها فأعادها حتى فعل ذلك أربع مرات فقال له في الخامسة: عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به فقال في الخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا.
ثم قال له: تنح فتنحى ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، و إلا أقمت عليك حد الله فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية فتقدمت إلى المنبر و قالت: أشهد بالله أن عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أعيديها - فأعادتها حتى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : العني نفسك في الخامسة إن كان من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لزوجها: اذهب فلا تحل لك أبدا. قال: يا رسول الله فمالي الذي أعطيتها. قال: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه، و إن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها. الحديث.
و في المجمع، في رواية عكرمة عن ابن عباس: قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع و قد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته و يذهب، و إن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : يا معشر الأنصار ما تسمعون إلى ما قال سيدكم؟ فقالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، و لا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت و أمي و الله إني لأعرف أنها من الله و أنها حق و لكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال: فإن الله يأبى إلا ذلك، فقال: صدق الله و رسوله.
فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له: هلال بن أمية من حديقة له قد رأى رجلا مع امرأته فلما أصبح غدا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إني جئت أهلي
عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني و سمعته بأذني، فكره رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى رئي الكراهة في وجهه - فقال هلال: إني لأرى الكراهة في وجهك و الله يعلم إني لصادق، و إني لأرجو أن يجعل الله فرجا فهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بضربه.
قال: و اجتمعت الأنصار و قالوا: ابتلينا بما قال سعد أ يجلد هلال و يبطل شهادته؟ فنزل الوحي و أمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل - فأنزل الله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ الآيات.
فقال (ص): أبشر يا هلال فإن الله تعالى قد جعل فرجا فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى، فقال (ص): أرسلوا إليها فجاءت فلاعن بينهما فلما انقضى اللعان فرق بينهما و قضى أن الولد لها و لا يدعى لأب و لا يرمى ولدها.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن جاءت به كذا و كذا فهو لزوجها و إن جاءت به كذا و كذا فهو للذي قيل فيه.:
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس.
[سورة النور (٢٤): الآیات ١١ الی ٢٦]
﴿إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ وَ اَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١١ لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ١٢ لَوْ لاَ جَاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ ١٣ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٤ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾
﴿بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيمٌ ١٥ وَ لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ١٦ يَعِظُكُمُ اَللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١٧ وَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١٨ إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفَاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ١٩ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ٢٠ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢١ وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى وَ اَلْمَسَاكِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٢ إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْغَافِلاَتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ٢٣ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٢٤ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللَّهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ ٢٥ اَلْخَبِيثَاتُ﴾
﴿لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٢٦﴾
(بيان)
الآيات تشير إلى حديث الإفك، و قد روى أهل السنة أن المقذوفة في قصة الإفك هي أم المؤمنين عائشة، و روت الشيعة أنها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كل من الحديثين لا يخلو عن شيء على ما سيجيء في البحث الروائي الآتي.
فالأحرى أن نبحث عن متن الآيات في معزل من الروايتين جميعا غير أن من المسلم أن الإفك المذكور فيها كان راجعا إلى بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إما زوجه و إما أم ولده و ربما لوح إليه قوله تعالى: ﴿وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيمٌ﴾ و كذا ما يستفاد من الآيات أن الحديث كان قد شاع بينهم و أفاضوا فيه و سائر ما يومئ إليه من الآيات.
و المستفاد من الآيات أنهم رموا بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالفحشاء، و كان الرامون عصبة من القوم فشاع الحديث بين الناس يتلقاه هذا من ذاك، و كان بعض المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض يساعدون على إذاعة الحديث حبا منهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فأنزل الله الآيات و دافع عن نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) .
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ إلخ، الإفك على ما ذكره الراغب الكذب مطلقا و الأصل في معناه أنه كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه كالاعتقاد المصروف عن الحق إلى الباطل و الفعل المصروف عن الجميل إلى القبيح، و القول المصروف عن الصدق إلى الكذب، و قد استعمل في كلامه تعالى في جميع هذه المعاني.
و ذكر أيضا أن العصبة جماعة متعصبة متعاضدة، و قيل: إنها عشرة إلى أربعين.
و الخطاب في الآية و ما يتلوها من الآيات لعامة المؤمنين ممن ظاهره الإيمان أعم من المؤمن بحقيقة الإيمان و المنافق و من في قلبه مرض، و أما قول بعضهم: إن المخاطب
بالخطابات الأربعة الأول أو الثاني و الثالث و الرابع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المقذوفة و المقذوف ففيه تفكيك بين الخطابات الواقعة في الآيات العشر الأول و هي نيف و عشرون خطابا أكثرها لعامة المؤمنين بلا ريب.
و أسوأ حالا منه قول بعض آخر إن الخطابات الأربعة أو الثلاثة المذكورة لمن ساءه ذلك من المؤمنين فإنه مضافا إلى استلزامه التفكيك بين الخطابات المتوالية مجازفة ظاهرة.
و المعنى: إن الذين أتوا بهذا الكذب و اللام في الإفك للعهد جماعة معدودة منكم مرتبط بعضهم ببعض، و في ذلك إشارة إلى أن هناك تواطؤا منهم على إذاعة هذا الخبر ليطعنوا به في نزاهة بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يفضحوه بين الناس.
و هذا هو فائدة الخبر في قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ لا تسلية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو تسليته و تسلية من ساءه هذا الإفك كما ذكره بعضهم فإن السياق لا يساعد عليه.
و قوله: ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ مقتضى كون الخطاب لعامة المؤمنين أن يكون المراد بنفي كونه شرا لهم و إثبات كونه خيرا أن المجتمع الصالح من سعادته أن يتميز فيه أهل الزيغ و الفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم و ينهضوا لإصلاح ما فسد من أعضائهم، و خاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع فيعظهم و يذكرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة حتى يحتاطوا لدينهم و يتفطنوا لما يهمهم.
و الدليل على ما ذكرنا قوله بعد: ﴿لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ﴾ فإن الإثم هو الأثر السيئ الذي يبقى للإنسان عن اقتراف المعصية فظاهر الجملة أن أهل الإفك الجائين به يعرفون بإثمه و يتميزون به عندكم فيفتضحون به بدل ما أرادوا أن يفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و أما قول من قال: إن المراد بكونه خيرا لهم أنهم يثابون بما اتهموهم بالإفك كما أن أهل الإفك يتأثمون به فمبني على كون الخطاب للمتهمين خاصة و قد عرفت فساده.
و قوله: ﴿وَ اَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فسروا كبره بمعنى معظمه
و الضمير للإفك، و المعنى: و الذي تولى معظم الإفك و أصر على إذاعته بين الناس من هؤلاء الآفكين له عذاب عظيم.
قوله تعالى: ﴿لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ توبيخ لهم إذ لم يردوا الحديث حينما سمعوه و لم يظنوا بمن رمي به خيرا.
و قوله: ﴿ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ﴾ من وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل «ظننتم بأنفسكم» و الوجه في تبديل الضمير وصفا الدلالة على علة الحكم فإن صفة الإيمان رادعة بالطبع تردع المتلبس بها عن الفحشاء و المنكر في القول و الفعل فعلى المتلبس بها أن يظن على المتلبسين بها خيرا، و أن يجتنب القول فيهم بغير علم فإنهم جميعا كنفس واحدة في التلبس بالإيمان و لوازمه و آثاره.
فالمعنى: و لو لا إذ سمعتم الإفك ظننتم بمن رمي به خيرا فإنكم جميعا مؤمنون بعضكم من بعض و المرمي به من أنفسكم و على المؤمن أن يظن بالمؤمن خيرا و لا يصفه بما لا علم له به.
و قوله: ﴿قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ أي قال المؤمنون و المؤمنات و هم السامعون أي قلتم هذا إفك مبين لأن الخبر الذي لا علم لمخبره به و الدعوى التي لا بينة لمدعيها عليها محكوم شرعا بالكذب سواء كان بحسب الواقع صدقا أو كذبا، و الدليل عليه قوله في الآية التالية: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿لَوْ لاَ جَاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ﴾ أي لو كانوا صادقين فيما يقولون و يرمون لأقاموا عليه الشهادة و هي في الزنا بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فهم محكومون شرعا بالكذب لأن الدعوى من غير بينة كذب و إفك.
قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ إفاضة القوم في الحديث خوضهم فيه.
و قوله: ﴿وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ﴾ إلخ، عطف على قوله: ﴿لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ إلخ، و فيه كرة ثانية على المؤمنين، و في تقييد الفضل و الرحمة بقوله: ﴿فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ﴾ دلالة على كون العذاب المذكور ذيلا هو عذاب الدنيا و الآخرة.
و المعنى: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لوصل إليكم بسبب ما خضتم فيه من الإفك عذاب عظيم في الدنيا و الآخرة.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ إلخ، الظرف متعلق بقوله: ﴿أَفَضْتُمْ﴾ و تلقي الإنسان القول أخذه القول الذي ألقاه إليه غيره، و تقييد التلقي بالألسنة للدلالة على أنه كان مجرد انتقال القول من لسان إلى لسان من غير تثبت و تدبر فيه.
و على هذا فقوله: ﴿وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ من قبيل عطف التفسير، و تقييده أيضا بقوله: ﴿بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ للإشارة إلى أن القول لم يكن عن تثبت و تبين قلبي و لم يكن له موطن إلا الأفواه لا يتعداها.
و المعنى: أفضتم و خضتم فيه إذ تأخذونه و تنقلونه لسانا عن لسان و تتلفظون بما لا علم لكم به.
و قوله: ﴿وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيمٌ﴾ أي تظنون التلقي بألسنتكم و القول بأفواهكم من غير علم سهلا و هو عند الله عظيم لأنه بهتان و افتراء، على أن الأمر مرتبط بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و شيوع إفك هذا شأنه بين الناس يفضحه عندهم و يفسد أمر الدعوة الدينية.
قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ عطف بعد عطف على قوله: ﴿لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ إلخ، و فيه كرة ثالثة على المؤمنين بالتوبيخ، و قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ اعتراض بالتنزيه لله سبحانه و هو من أدب القرآن أن ينزه الله بالتسبيح عند تنزيه كل منزه.
و البهتان الافتراء سمي به لأنه يبهت الإنسان المفتري عليه و كونه بهتانا عظيما لأنه افتراء في عرض و خاصة إذ كان متعلقه بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إنما كان بهتانا لكونه إخبارا من غير علم و دعوى من غير بينة كما تقدم في قوله: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ﴾ و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: ﴿يَعِظُكُمُ اَللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً﴾ إلى آخر الآيتين موعظة بالنهي عن العود لمثله، و معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفَاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى آخر الآية إن كانت الآية نازلة في جملة آيات الإفك و متصلة بما تقدمها و موردها الرمي بالزنا بغير بينة كان مضمونها تهديد الرامين المفيضين في الإفك لكونه فاحشة و إشاعته في المؤمنين حبا منهم لشيوع الفاحشة.
فالمراد بالفاحشة مطلق الفحشاء كالزنا و القذف و غير ذلك. و حب شيوعها و منها القذف في المؤمنين يستوجب عذابا أليما لمحبيه في الدنيا و الآخرة.
و على هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحد إذ حب شيوع الفحشاء ليس مما يوجب الحد، نعم لو كان اللام في ﴿اَلْفَاحِشَةُ﴾ للعهد و المراد بها القذف و كان حب الشيوع كناية عن قصة الشيوع بالإفاضه و التلقي بالألسن و النقل أمكن حمل العذاب على الحد لكن السياق لا يساعد عليه.
على أن الرمي بمجرد تحققه مرة موجب للحد و لا موجب لتقييده بقصد الشيوع و لا نكتة تستدعي ذلك.
و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ تأكيد و إعظام لما فيه من سخط الله و غضبه و إن جهله الناس.
قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ﴾ تكرارا للامتنان و معناه ظاهر.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ﴾ تقدم تفسير الآية في الآية ٢٠٨ من سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب.
قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكىَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ إلى آخر الآية. رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل و الرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من تأييد لكون الإفك متعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ليس إلا لكرامته على الله سبحانه.
و قد صرح في هذه المرة الثالثة بجواب لو لا و هو قوله: ﴿مَا زَكىَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ و هذا مما يدل عليه العقل فإن مفيض الخير و السعادة هو الله سبحانه، و التعليم القرآني أيضا يعطيه كما قال تعالى: ﴿بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ﴾: آل عمران: ٢٦، و قال: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ﴾: النساء: ٧٩.
و قوله: ﴿وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ إضراب عما تقدمه فهو تعالى يزكي من يشاء فالأمر إلى مشيته، و لا يشاء إلا تزكية من استعد لها و سأله بلسان استعداده
ذلك، و إليه يشير قوله: ﴿وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم بحال من استعد لها.
قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبىَ وَ اَلْمَسَاكِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ﴾ إلخ، الايتلاء التقصير و الترك و الحلف، و كل من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، و المعنى لا يقصر أولوا الفضل منكم و السعة يعني الأغنياء في إيتاء أولي القرابة و المساكين و المهاجرين في سبيل الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم و ليعفوا عنهم و ليصفحوا ثم حرضهم بقوله: ﴿أَ لاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
و في الآية على تقدير نزولها في جملة الآيات و اتصالها بها دلالة على أن بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الإفك فنهاه الله عن ذلك و حثه على إدامة الإيتاء كما سيجيء.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْغَافِلاَتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أخذ الصفات الثلاث الإحصان و الغفلة و الإيمان للدلالة على عظم المعصية فإن كلا من الإحصان بمعنى العفة و الغفلة و الإيمان سبب تام في كون الرمي ظلما و الرامي ظالما و المرمية مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم، و جزاؤه اللعن في الدنيا و الآخرة و العذاب العظيم، و الآية عامة و إن كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الإفك خاصا.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: ﴿وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
و المراد بقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ كما يقتضيه إطلاقه مطلق الأعمال السيئة كما قيل لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم على رميهم فالمراد بالشهادة شهادة الأعضاء على السيئات و المعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من قبيل الأقوال كالقذف و الكذب و الغيبة و نحوها شهدت عليه الألسنة، و ما كان منها من قبيل الأفعال كالسرقة و المشي للنميمة و السعاية و غيرهما شهدت عليه بقية الأعضاء، و إذ كان معظم المعاصي من الأفعال للأيدي و الأرجل اختصتا بالذكر.
و بالحقيقة الشاهد على كل فعل هو العضو الذي صدر منه كما يشير إليه قوله تعالى:
﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: حم السجدة: ٢٠، و قوله: ﴿إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً﴾: إسراء - ٣٦، و قوله: ﴿اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىَ أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾: يس: ٦٥، و سيأتي الكلام على شهادة الأعضاء يوم القيامة في بحث مستقل في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللَّهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ﴾ المراد بالدين الجزاء كما في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ﴾: الحمد: ٤، و توفية الشيء بذله تاما كاملا، و المعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحق إيتاء تاما كاملا و يعلمون أن الله هو الحق المبين.
هذا بالنظر إلى اتصال الآية بما قبلها و وقوعها في سياق ما تقدمها، و أما بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملة و هو سنة الحياة، و هو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للإنسان، و يكون أكثر مناسبة لقوله:
﴿وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ﴾.
و الآية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله فإن قوله: ﴿وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ﴾ ينبئ أنه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه و لا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر عنه بالعلم، و هذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق المبين.
و إلى مثله يشير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾: ق: ٢٢.
قوله تعالى: ﴿اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ إلخ ذيل الآية ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ دليل على أن المراد بالخبيثات و الخبيثين و الطيبات و الطيبين نساء و رجال متلبسون بالخباثة و الطيب فالآية من تمام آيات الإفك متصلة بها مشاركة لها في سياقها، و هي عامة لا مخصص لها من جهة اللفظ البتة.
فالمراد بالطيب الذي يوجب كونهم مبرءين مما يقولون على ما تدل عليه الآيات
السابقة هو المعنى الذي يقتضيه تلبسهم بالإيمان و الإحصان فالمؤمنون و المؤمنات مع الإحصان طيبون و طيبات يختص كل من الفريقين بصاحبه، و هم بحكم الإيمان و الإحصان مصونون مبرءون شرعا من الرمي بغير بينة، محكومون من جهة إيمانهم بأن لهم مغفرة كما قال تعالى: ﴿وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾: الأحقاف: ٣١ و لهم رزق كريم، و هو الحياة الطيبة في الدنيا و الأجر الحسن في الآخرة كما قال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: النحل: ٩٧.
و المراد بالخبث في الخبيثين و الخبيثات و هم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة التي يوجبها لهم تلبسهم بالكفر و قد خصت خبيثاتهم بخبيثهم و خبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضى المجانسة و المسانخة و ليسوا بمبرءين عن التلبس بالفحشاء نعم هذا ليس حكما بالتلبس .
فظهر بما تقدم:
أولا: أن الآية عامة بحسب اللفظ تصف المؤمنين و المؤمنات بالطيب و لا ينافي ذلك اختصاص سبب نزولها و انطباقها عليه.
و ثانيا: أنها تدل على كونهم جميعا محكومين شرعا بالبراءة عما يرمون به ما لم تقم عليه بينة.
و ثالثا: أنهم محكومون بالمغفرة و الرزق الكريم كل ذلك حكم ظاهري لكرامتهم على الله بإيمانهم، و الكفار على خلاف ذلك.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و أحمد و البخاري و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه - فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ما نزل الحجاب و أنا أحمل في هودجي و أنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غزوته تلك و قفل.
فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار[1]
قد انقطع فالتمست عقدي و حبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، و هم يحسبون أني فيه، و كانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل المرأة العلقة[2] من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه و كنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت.
و كان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني من وراء الجيش فأدلج[3] فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني و كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي و الله ما كلمني كلمة واحدة و لا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك.
و كان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا و الناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، و هو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني
و لا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت و خرجت معي أم مسطح قبل المناصع[4]
و هي متبرزنا و كنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، و ذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا و أمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا و أم مسطح فأقبلت أنا و أم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا[5] من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها[6] فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أ تسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه[7] أ و لم تسمعي ما قال؟ قلت: و ما قال:
فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أ تأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: و أنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما - قالت: فأذن لي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجئت لأبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها و لها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله و لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي.
و دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالذي يعلم من براءة أهله و بالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك و لا نعلم إلا خيرا، و أما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك؟ قالت بريرة: لا و الذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي فقال و هو على المنبر:
يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي.
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله و لا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان: الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قائم على المنبر فلم يزل رسول (صلى الله عليه وآله و سلم) يخفضهم حتى سكتوا و سكت.
فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي و قد بكيت ليلتين و يوما لا أكتحل بنوم و لا يرقأ لي دمع و أبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.
فبينما هما جالسان عندي و أنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم جلس و لم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها و قد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا و كذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مقالته قلص[8] دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) . قال: و الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، قالت: و الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .
فقلت و أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني و الله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم و صدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة و الله يعلم أني بريئة لا تصدقوني، و لئن اعترفت لكم بأمر و الله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، و الله لا أجد لي و لكم مثلا إلا قول أبي يوسف: فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون.
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي و أنا حينئذ أعلم أني بريئة و أن الله مبرئي ببراءتي و لكن و الله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، و لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، و لكن كنت أرجو أن يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رؤيا يبرئني الله بها.
قالت: فوالله ما رام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مجلسه و لا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سرى عنه و هو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: و الله لا أقوم إليه و لا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، و أنزل الله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ العشر الآيات كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر، و كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه و فقره: و الله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: ﴿وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبىَ وَ اَلْمَسَاكِينَ﴾ إلى قوله ﴿رَحِيمٌ﴾ قال أبو بكر: و الله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، و قال: و الله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال:
يا زينب ما ذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي و بصري ما علمت إلا خيرا، قالت: و هي التي كانت تساميني من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فعصمها الله بالورع، و طفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك:
أقول: و الرواية مروية بطرق أخرى عن عائشة أيضا و عن عمر و ابن عباس و أبي هريرة و أبي اليسر الأنصاري و أم رومان أم عائشة و غيرهم و فيها بعض الاختلاف:
و فيها إن الذين جاءوا بالإفك عبد الله بن أبي بن سلول و مسطح بن أثاثة و كان بدريا من السابقين الأولين من المهاجرين، و حسان بن ثابت، و حمنة أخت زينب زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعاهم بعد ما نزلت آيات الإفك فحدهم جميعا غير أنه حد عبد الله بن أبي حدين و إنما حده حدين لأنه من قذف زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان عليه حدان. و في الروايات على تقاربها في سرد القصة إشكال من وجوه:
أحدها: أن المسلم من سياقها أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقق الإفك كما يدل عليه تغير حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيام اشتكائها و بعدها حتى نزلت الآيات، و يدل عليه قولها له حين نزلت الآيات و بشرها به: بحمد الله لا بحمدك، و في بعض الروايات أنها قالت لأبيها و قد أرسله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليبشرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الذي أرسلك، تريد به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و في الرواية الأخرى عنها: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شيء و في الباب امرأة جالسة قالت له عائشة: أ ما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا، و من المعلوم أن هذا النوع من الخطاب المبني على الإهانة و الإزراء ما كان يصدر عنها لو لا أنها وجدت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في ريب من أمرها. كل ذلك مضافا إلى التصريح به في رواية عمر ففيها: «فكان في قلب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مما قالوا».
و بالجملة دلالة عامة الروايات على كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في ريب من أمرها إلى نزول العذر مما لا ريب فيه، و هذا مما يجل عنه مقامه (ص) كيف؟ و هو سبحانه يقول:
﴿لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ فيوبخ المؤمنين و المؤمنات على إساءتهم الظن و عدم ردهم ما سمعوه من الإفك فمن لوازم الإيمان حسن الظن بالمؤمنين، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أحق من يتصف بذلك و يتحرز من سوء الظن الذي من الإثم و له مقام النبوة و العصمة الإلهية.
على أنه تعالى ينص في كلامه على اتصافه (ص) بذلك إذ يقول: ﴿وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ
يُؤْذُونَ النبي صلى الله عليه وآله و سلم وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: التوبة: ٦١.
على أنا نقول: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ينفر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا و الفحشاء و إلا لغت الدعوة و تثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعا لا ظاهرا فحسب، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أعرف بهذه الحجة منا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك.
و ثانيها: أن الذي تدل عليه الروايات أن حديث الإفك كان جاريا بين الناس منذ بدأ به أصحاب الإفك إلى أن ختم بحدهم أكثر من شهر و قد كان حكم القذف مع عدم قيام الشهادة معلوما و هو جلد القاذف و تبرئة المقذوف شرعا فما معنى توقف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن حد أصحاب الإفك هذه المدة الطويلة و انتظاره الوحي في أمرها حتى يشيع بين الناس و تتلقاه الألسن و تسير به الركبان و يتسع الخرق على الراتق؟ و ما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعينه آية القذف من براءة المقذوف حكما شرعيا ظاهريا.
فإن قيل: الذي نزل من العذر براءتها واقعا و طهارة ذيلها في نفس الأمر و هذا أمر لا تكفي له آية حد القاذف، و لعل صبره (ص) هذه المدة الطويلة إنما كان لأجله.
قلت: لا دلالة في شيء من هذه الآيات الست عشرة على ذلك، و إنما تثبت بالحجة العقلية السابقة الدالة على طهارة بيوت الأنبياء من لوثة الفحشاء.
أما الآيات العشر الأول التي فيها شائبة الاختصاص فأظهرها في الدلالة على براءتها قوله تعالى: ﴿لَوْ لاَ جَاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ﴾ و قد استدل فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء، و من الواضح أن عدم إقامة الشهادة إنما هو دليل البراءة الظاهرية أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعية لوضوح عدم الملازمة.
و أما الآيات الست الأخيرة فقوله: ﴿اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ إلخ عام من غير مخصص من جهة اللفظ فالذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين
من غير قيام بينة من المؤمنين و المؤمنات، و من الواضح أن البراءة المناسبة لهذا المعنى هي البراءة الشرعية.
و الحق أن لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بأن آية القذف لم تكن نازلة قبل حديث الإفك و إنما نزلت بعده، و إنما كان سبب توقفه (ص) خلو الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الإفك الحكم السماوي.
و من أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من القاذف في المسجد و قول سعد بن معاذ ما قال و مجادلة سعد بن عبادة إياه و اختلاف الأوس و الخزرج بمحضر من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ و ابن عبادة: فقال هذا: يا للأوس و قال هذا: يا للخزرج فاضطربوا بالنعال و الحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية القذف نازلة قبل ذلك و حكم الحد معلوما لم يجب سعد بن معاذ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه يعذره منه بالقتل و لقال هو و سائر الناس: يا رسول الله حكم القذف معلوم و يدك مبسوطة.
و ثالثها: أنها تصرح بكون أصحاب الإفك هم عبد الله بن أبي و مسطحا و حسانا و حمنة ثم تذكر أنه (ص) حد عبد الله بن أبي حدين و كلا من مسطح و حسان و حمنة حدا واحدا، ثم تعلل حدي عبد الله بن أبي بأن من قذف أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فعليه حدان، و هذا تناقض صريح فإنهم جميعا كانوا قاذفين بلا فرق بينهم.
نعم تذكر الروايات أن عبد الله بن أبي كان هو الذي تولى كبره منهم لكن لم يقل أحد من الأمة إن هذا الوصف يوجب حدين. و لا أن المراد بالعذاب العظيم في قوله: ﴿اَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هو ثبوت حدين.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ الآية فإن العامة روت أنها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة و أما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة.
حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثني عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حزن عليه حزنا شديدا فقالت عائشة: ما الذي
يحزنك عليه؟ ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا (عليه السلام) و أمره بقتله.
فذهب علي (عليه السلام) و معه السيف و كان جريح القبطي في حائط فضرب علي (عليه السلام) باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليا (عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا و لم يفتح باب البستان فوثب علي (عليه السلام) على الحائط و نزل إلى البستان و اتبعه و ولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه[9] صعد في نخلة و صعد علي (عليه السلام) في أثره فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء.
فانصرف علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمي في الوبر أم أثبت؟ قال: لا بل تثبت. قال: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.
و فيه، في رواية عبيد الله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبد الله بن بكير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أمر بقتل القبطي و قد علم أنها كذبت عليه أو لم يعلم؟ و قد دفع الله عن القبطي القتل بتثبيت علي (عليه السلام) فقال: بل كان و الله علم، و لو كان عزيمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما انصرف علي (عليه السلام) حتى يقتله، و لكن إنما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتد عليها قتل رجل مسلم.
أقول: و هناك روايات أخر تدل على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، و جريح هذا كان خادما خصيا لمارية أهداه معها مقوقس عظيم مصر لرسول (ص) و أرسله معها ليخدمها.
و هذه الروايات لا تخلو من نظر:
أما أولا: فلأن ما فيها من القصة لا يقبل الانطباق على الآيات و لا سيما قوله:
﴿إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ﴾ الآية و قوله: ﴿لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً﴾ الآية، و قوله: ﴿تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ الآية، فمحصل الآيات أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون الحديث ليفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كان الناس يتداولونه لسانا عن لسان حتى شاع بينهم و مكثوا على ذلك زمانا و هم لا يراعون حرمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كرامته من الله، و أين مضمون هذه الروايات من ذلك.
اللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة.
و أما ثانيا: فقد كان مقتضى القصة و ظهور براءتها إجراء الحد و لم يجر، و لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الإفك بزمان.
و الذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين من الروايات جميعا كما عرفت أن آيات الإفك نزلت قبل آية حد القذف، و لم يشرع بنزول آيات الإفك إلا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة و تحريم القذف.
و لو كان حد القاذف مشروعا قبل حديث الإفك لم يكن هناك مجوز لتأخيره مدة معتدا بها و انتظار الوحي و لا نجا منه قاذف منهم، و لو كان مشروعا مع نزول آيات الإفك لأشير فيها إليه، و لا أقل باتصال الآيات بآية القذف، و العارف بأساليب الكلام لا يرتاب في أن قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ﴾ الآيات منقطعة عما قبلها.
و لو كان على من قذف أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حدان لأشير إلى ذلك في خلال آيات الإفك بما فيها من التشديد و اللعن و التهديد بالعذاب على القاذفين.
و يتأكد الإشكال على تقدير نزول آية القذف مع نزول آيات الإفك فإن لازمه أن يقع الابتلاء بحكم الحدين فينزل حكم الحد الواحد.
و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز و جل: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ ﴾ إلى قوله ﴿وَ اَلْآخِرَةِ﴾:.
أقول: و رواه القمي في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عنه (عليه السلام)
و الصدوق في الأمالي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عنه (عليه السلام)، و المفيد في الاختصاص، عنه (عليه السلام) مرسلا.
و فيه، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من أذاع فاحشة كان كمبتدئها.
و في المجمع، :قيل: إن قوله: ﴿وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ﴾ الآية، نزلت في أبي بكر و مسطح بن أثاثة و كان ابن خالة أبي بكر، و كان من المهاجرين و من جملة البدريين و كان فقيرا، و كان أبو بكر يجري عليه و يقوم بنفقته فلما خاض في الإفك قطعها و حلف أن لا ينفعه بنفع أبدا فلما نزلت الآية عاد أبو بكر إلى ما كان، و قال: و الله إني لأحب أن يغفر الله لي، و الله لا أنزعها عنه أبدا :عن ابن عباس و عائشة و ابن زيد.
و فيه، :و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك و لا يواسوهم :عن ابن عباس و غيره.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى:
﴿وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبىَ﴾ و هم قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿وَ اَلْمَسَاكِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا﴾ يقول يعفو بعضكم عن بعض، و يصفح بعضكم بعضا فإذا فعلتم كانت رحمة الله لكم، يقول الله عز و جل: ﴿أَ لاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و نزل بالمدينة ﴿وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
فبرأه الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمى بالإيمان، قال الله عز و جل:
﴿أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ﴾ و جعله من أولياء إبليس قال: ﴿إِلاَّ
إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ و جعله ملعونا فقال: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْغَافِلاَتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عز و جل: ﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ الآية، قيل في معناه أقوال إلى أن قال الثالث الخبيثات
من النساء للخبيثين من الرجال و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء عن أبي مسلم و الجبائي و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام). قالا: هي مثل قوله: ﴿اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ إلا أن أناسا هموا أن يتزوجوا منهن فنهاهم الله عن ذلك و كره ذلك لهم.
و في الخصال، عن عبد الله بن عمر و أبي هريرة قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إذا طاب قلب المرء طاب جسده، و إذا خبث القلب خبث الجسد.
و في الإحتجاج، عن الحسن بن علي (عليه السلام): في حديث له مع معاوية و أصحابه و قد نالوا من علي (عليه السلام): ﴿اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾ هم و الله يا معاوية أنت و أصحابك هؤلاء و شيعتك ﴿وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ إلى آخر الآية، هم علي بن أبي طالب و أصحابه و شيعته.
[سورة النور (٢٤): الآیات ٢٧ الی ٣٤]
﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٢٧ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ﴾
﴿اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكىَ لَكُمْ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ٢٨ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ ٢٩ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ٣٠ وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ اَلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجَالِ أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلىَ عَوْرَاتِ اَلنِّسَاءِ وَ لاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٣١ وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيَامى مِنْكُمْ وَ اَلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ٣٢ وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاكُمْ وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا﴾
﴿عَرَضَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣٣ وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ٣٤﴾
(بيان)
أحكام و شرائع متناسبة و مناسبة لما تقدم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىَ أَهْلِهَا﴾ إلخ، الأنس بالشيء و إليه الألفة و سكون القلب إليه، و الاستيناس طلب ذلك بفعل يؤدي إليه كالاستيناس لدخول بيت بذكر الله و التنحنح و نحو ذلك ليتنبه صاحب البيت أن هناك من يريد الدخول عليه فيستعد لذلك فربما كان في حال لا يحب أن يراه عليها أحد أو يطلع عليها مطلع.
و منه يظهر أن مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس و التحفظ على كرامة الإيمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثم دخل فسلم عليه فقد أعانه على ستر عورته، و أعطاه الأمن من نفسه.
و يؤدي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الأخوة و الألفة و التعاون العام على إظهار الجميل و الستر على القبيح و إليه الإشارة بقوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي لعلكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكرون ما يجب عليكم رعايته و إحياؤه من سنة الأخوة و تألف القلوب التي تحتها كل سعادة اجتماعية.
و قيل: إن قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ تعليل لمحذوف و التقدير قيل لكم كذا لعلكم تتذكرون مواعظ الله فتعملوا بموجبها، و لا بأس به.
و قيل: إن في قوله: ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا﴾ تقديما و تأخيرا و الأصل حتى تسلموا و تستأنسوا. و هو كما ترى.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾... إلخ، أي إن علمتم بعدم وجود أحد فيها و هو الذي يملك الإذن فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم من قبل من يملك الإذن، و ليس المراد به أن يتطلع على البيت و ينظر فيه فإن لم ير فيه أحدا كف عن الدخول فإن السياق يشهد على أن المنع في الحقيقة عن النظر و الاطلاع على عورات الناس.
و هذه الآية تبين حكم دخول بيت الغير و ليس فيه من يملك الإذن، و الآية السابقة تبين حكم الدخول و فيه من يملك الإذن و لا يمنع، و أما دخوله و فيه من يملك الإذن و يمنع و لا يأذن فيه فيبين حكمه قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكىَ لَكُمْ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ إلخ، ظاهر السياق كون قوله: ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ صفة بعد صفة لقوله: ﴿بُيُوتاً﴾ لا جملة مستأنفة معللة لقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾، و الظاهر أن المتاع بمعنى الاستمتاع.
ففيه تجويز الدخول في بيوت معدة لأنواع الاستمتاع و هي غير مسكونة بالطبع كالخانات و الحمامات و الأرحية و نحوها فإن كونها موضوعة للاستمتاع إذن عام في دخولها.
و ربما قيل: إن المراد بالمتاع المعنى الاسمي و هو الأثاث و الأشياء الموضوعة للبيع و الشري كما في بيوت التجارة و الحوانيت فإنها مأذونة في دخولها إذنا عاما و لا يخلو من بعد لقصور اللفظ.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكىَ لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ الغض إطباق الجفن، على الجفن و الأبصار جمع بصر و هو العضو الناظر، و من هنا يظهر أن ﴿مِنْ﴾ في ﴿مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ لابتداء الغاية لا مزيدة و لا للجنس و لا للتبعيض كما قال بكل قائل، و المعنى يأتوا بالغض آخذا من أبصارهم.
فقوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ لما كان ﴿يَغُضُّوا﴾ مترتبا على
قوله: ﴿قُلْ﴾ ترتب جواب الشرط عليه دل ذلك على كون القول بمعنى الأمر و المعنى مرهم يغضوا من أبصارهم و التقدير مرهم بالغض إنك إن تأمرهم به يغضوا، و الآية أمر بغض الأبصار و إن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من الأجنبي و الأجنبية لمكان الإطلاق.
و قوله: ﴿وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ أي و مرهم يحفظوا فروجهم، و الفرجة و الفرج الشق بين الشيئين، و كنى به عن السوأة، و على ذلك جرى استعمال القرآن المليء أدبا و خلقا ثم كثر استعماله فيها حتى صار كالنص كما ذكره الراغب.
و المقابلة بين قوله: ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ و ﴿يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ يعطي أن المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا و اللواطة كما قيل، و قد ورد في الرواية عن الصادق (عليه السلام): أن كل آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلا هذه الآية فهي من النظر. و على هذا يمكن أن تتقيد أولى الجملتين بثانيتهما و يكون مدلول الآية هو النهي عن النظر إلى الفروج و الأمر بسترها.
ثم أشار إلى وجه المصلحة في الحكم و حثهم على المراقبة في جنبه بقوله: ﴿ذَلِكَ أَزْكىَ لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ﴾ إلخ، الكلام في قوله: ﴿وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ نظير ما مر في قوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ فلا يجوز لهن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه و يجب عليهن ستر العورة عن الأجنبي و الأجنبية.
و أما قوله: ﴿وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ فالإبداء الإظهار، و المراد بزينتهن مواضع الزينة لأن نفس ما يتزين به كالقرط و السوار لا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن.
و قد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، و قد وردت الرواية أن المراد بما ظهر منها الوجه و الكفان و القدمان كما سيجيء إن شاء الله.
و قوله: ﴿وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىَ جُيُوبِهِنَّ﴾ الخمر بضمتين جمع خمار و هو ما تغطي به المرأة رأسها و ينسدل على صدرها، و الجيوب جمع جيب بالفتح فالسكون و هو معروف و المراد بالجيوب الصدور، و المعنى و ليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها.
و قوله: ﴿وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ إلى قوله ﴿أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ﴾ البعولة هم أزواجهن، و الطوائف السبع الأخر محارمهن من جهة النسب و السبب، و أجداد البعولة حكمهم حكم آبائهم و أبناء أبناء البعولة حكمهم حكم الأبناء.
و قوله: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ في الإضافة إشارة إلى أن المراد بهن المؤمنات من النساء فلا يجوز لهن التجرد لغيرهن من النساء و قد وردت به الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام).
و قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ إطلاقه يشمل العبيد و الإماء، و قد وردت به الرواية كما سيأتي إن شاء الله، و هذا من موارد استعمال ﴿مَا﴾ في أولي العقل.
و قوله: ﴿أَوِ اَلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجَالِ﴾ الإربة هي الحاجة، و المراد به الشهوة التي تحوج إلى الازدواج، و ﴿مِنَ اَلرِّجَالِ﴾ بيان للتابعين، و المراد بهم كما تفسره الروايات البله المولى عليهم من الرجال و لا شهوة لهم.
و قوله: ﴿أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلىَ عَوْرَاتِ اَلنِّسَاءِ﴾ أي جماعة الأطفال و اللام للاستغراق الذين لم يقووا و لم يظهروا من الظهور بمعنى الغلبة على أمور يسوء التصريح بها من النساء، و هو كما قيل كناية عن البلوغ.
و قوله: ﴿وَ لاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ ذلك بتصوت أسباب الزينة كالخلخال و العقد و القرط و السوار.
و قوله: ﴿وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ المراد بالتوبة على ما يعطيه السياق الرجوع إليه تعالى بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه و بالجملة اتباع سبيله.
قوله تعالى: ﴿وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيَامىَ مِنْكُمْ وَ اَلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ﴾ الإنكاح
التزويج، و الأيامى جمع أيم بفتح الهمزة و كسر الياء المشددة و هو الذكر الذي لا أنثى معه و الأنثى التي لا ذكر معها و قد يقال في المرأة أيمة، و المراد بالصالحين الصالحون للتزويج لا الصالحون في الأعمال.
و قوله: ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وعد جميل بالغنى و سعة الرزق و قد أكده بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ و الرزق يتبع صلاحية المرزوق بمشية من الله سبحانه، و سيوافيك إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: ﴿فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾: الذاريات: ٢٣ كلام في معنى سعة الرزق.
قوله تعالى: ﴿وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الاستعفاف و التعفف قريبا المعنى، و المراد بعدم وجدان النكاح عدم القدرة على المهر و النفقة، و معنى الآية الأمر بالتعفف لمن لا يقدر على النكاح و التحرز عن الوقوع في الزنا حتى يغنيه الله من فضله.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ إلخ المراد بالكتاب المكاتبة، و ابتغاء المكاتبة أن يسأل العبد مولاه أن يكاتبه على إيتائه المولى مالا على أن يعتقه، و في الآية أمر للموالي بإجابتهم إن علموا فيهم خيرا و هو كناية عن إحراز صلاحيتهم لذلك.
و قوله: ﴿وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاكُمْ﴾ إشارة إلى إيتائهم مال المكاتبة من الزكاة المفروضة فسهم من سهام الزكاة لهم، كما قال تعالى: ﴿وَ فِي اَلرِّقَابِ﴾: التوبة: ٦٠ أو إسقاط شيء من مال المكاتبة.
و في هذه الآية و الآيات السابقة مباحث فقهية جمة ينبغي أن يراجع فيها كتب الفقه.
قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾الفتيات الإماء و الولائد، و البغاء الزنا و هو مفاعلة من البغي، و التحصن التعفف و الازدواج و ابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال، و المعنى ظاهر.
و إنما اشترط النهي عن الإكراه بإرادة التحصن لأن الإكراه لا يتحقق في من لا يريد التحصن، ثم وعدهن المغفرة على تقدير الإكراه بقوله: ﴿وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ و معناه ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ المثل الصفة و من الممكن أن يكون قوله: ﴿وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا﴾ إلخ، حالا من فاعل قوله: ﴿تُوبُوا﴾ في الآية السابقة أو استينافا و المعنى و أقسم لقد أنزلنا إليكم آيات تبين لكم من معارف الدين ما تفلحون به، و صفة من السابقين أخيارهم و أشرارهم يتميز بها لكم ما ينبغي أن تأخذوا به مما ينبغي لكم أن تجتنبوا، و موعظة للمتقين منكم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىَ أَهْلِهَا﴾ قال: الاستيناس وقع النعل و التسليم.:
أقول: و رواه الصدوق في معاني الأخبار، عن محمد بن الحسن مرفوعا عن عبد الرحمن عنه (عليه السلام). و في المجمع، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلنا: يا رسول الله ما الاستيناس؟ قال يتكلم الرجل بالتسبيحة و التحميدة و التكبيرة و يتنحنح على أهل البيت. و عن سهل بن سعد قال: اطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و معه مدرى[10] يحك رأسه: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك إنما الاستيذان من النظر. و روي: أن رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أستأذن على أمي؟ فقال: نعم. قال
إنها ليس لها خادم غيري أ فأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها. و روي: أن رجلا استأذن على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فتنحنح فقال (ص) لامرأة يقال لها: روضة: قومي إلى هذا فعلميه و قولي له: قل السلام عليكم أ أدخل؟ فسمعها الرجل فقالها فقال: ادخل.
أقول: و روي في الدر المنثور، عن جمع من أصحاب الجوامع الرواية الأولى عن أبي أيوب، و الثانية عن سهل بن سعد و الرابعة عن عمرو بن سعد الثقفي.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن الاستيذان في البيوت فقال: من دخلت عينه قبل أن يستأذن و يسلم فقد عصى الله و لا إذن له. و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ قال: معناه و إن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم.
و فيه،: في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ قال الصادق (عليه السلام): هي الحمامات و الخانات و الأرحية تدخلها بغير إذن.
و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه ما فرض الله على الجوارح. قال: و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه، و أن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له و هو عمله و هو من الإيمان.
فقال تبارك و تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم و أن ينظر المرء إلى فرج أخيه و يحفظ فرجه أن ينظر إليه، و قال: ﴿وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها و تحفظ فرجها من أن ينظر إليه.
و قال: كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فهو من النظر.:
أقول: و روى القمي في تفسيره، ذيل الحديث عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عنه (عليه السلام)، و روي مثله عن أبي العالية و ابن زيد. و في الكافي، بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن فنظر إليها و هي مقبلة فلما جازت نظر إليها و دخل في زقاق قد سماه ببني فلان، و جعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و الله لآتين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لأخبرنه.
قال: فأتاه فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال له: ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.:
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي بن أبي طالب مثله، و ظاهر الحديث أن المراد بالأمر بالغض في الآية النهي عن مطلق النظر إلى الأجنبية، كما أن ظاهر بعض الروايات السابقة أنه نهي عن النظر إلى فرج الغير خاصة.
و فيه، بإسناده عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما يحل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفان و القدمان.
أقول: و رواه في الخصال، عن بعض أصحابنا عنه (عليه السلام) و لفظه: الوجه و الكفين و القدمين. و في قرب الإسناد، للحميري عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه و الكف و موضع السوار.
و في الكافي، بإسناده عن عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس بالنظر إلى رءوس أهل تهامة و الأعراب و أهل السواد و العلوج لأنهم إذا نهوا لا ينتهون[11].
قال: و المجنونة و المغلوبة على عقلها، و لا بأس بالنظر إلى شعرها و جسدها ما لم يتعمد ذلك. أقول: كأنه (عليه السلام) يريد بقوله: ما لم يتعمد ذلك، الريبة.
و في الخصال،: و قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا علي أول نظرة لك و الثانية عليك لا لك أقول:
و روي مثله في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن بريدة عنه (ص) و لفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي: لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى و ليست لك الآخرة.
و في جوامع الجامع، عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم و ذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله أ ليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أ فعمياوان أنتما؟ أ لستما تبصرانه؟:
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن أبي داود و الترمذي و النسائي و البيهقي عنها. و في الفقيه، و روى حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية و النصرانية فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ و قيل: معناه العبيد و الإماء:
و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألته عن غير أولي الإربة من الرجال. قال: الأحمق المولى عليه الذي لا يأتي النساء.
و فيه، بإسناده عن محمد بن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه بالله عز و جل إن الله يقول ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾. أقول: و في المعاني السابقة روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) من أرادها فليراجع كتب الحديث.
و في الفقيه، روى العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز
و جل: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ قال: الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، و يكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة.
أقول: و في معناه روايات أخر.
و في الكافي، بإسناده عن العلاء بن فضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في قوله عز و جل: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاكُمْ﴾ قال:
تضع عنه من نجومه التي لم تكن تريد أن تنقصه، و لا تزيد فوق ما في نفسك. فقلت:
كم؟ فقال: وضع أبو جعفر (عليه السلام) عن مملوك ألفا من ستة آلاف. أقول: و روي في مجمع البيان، و كذا في الدر المنثور، عن علي (عليه السلام) ربع المال، و المستفاد من ظواهر الأخبار عدم تعين مقدار معين ذي نسبة.
و قد تقدمت في ذيل قوله ﴿وَ فِي اَلرِّقَابِ﴾: التوبة: ٦٠ الجزء التاسع من الكتاب رواية العياشي أن المكاتب يؤتى من سهم الرقاب من الزكاة.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾، قال: كانت العرب و قريش يشترون الإماء و يضعون عليهن الضريبة الثقيلة و يقولون: اذهبن و ازنين و اكتسبن فنهاهم الله عن ذلك فقال ﴿وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ﴾ إلى قوله ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي لا يؤاخذهن الله تعالى بذلك إذا أكرهن عليه.
و في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا﴾ قيل: إن عبد الله بن أبي كانت له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنا، فلما نزل تحريم الزنا أتين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فشكون إليه فنزلت الآية.
أقول: أما أنه كان له من الجواري من يكرههن على الزنا فقد وردت فيه روايات رواها في الدر المنثور، كما روى هذه الرواية، و أما كون ذلك بعد نزول تحريم الزنا فيضعفه أن الزنا لم يحرم في المدينة بل في مكة قبل الهجرة بل كانت حرمته من ضروريات الإسلام منذ ظهرت الدعوة الحقة، و قد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن حرمة الفواحش و منها الزنا من الأحكام العامة التي لا تختص بشريعة دون شريعة.
[سورة النور (٢٤): الآیات ٣٥ الی ٤٦]
﴿اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ اَلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ اَلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٣٥ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ ٣٦ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ إِقَامِ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءِ اَلزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصَارُ ٣٧ لِيَجْزِيَهُمُ اَللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٣٨ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ٣٩ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ٤٠ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ٤١ وَ لِلَّهِ﴾
﴿مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ ٤٢ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ٤٣ يُقَلِّبُ اَللَّهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصَارِ ٤٤ وَ اَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٤٥ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٤٦﴾
(بيان)
تتضمن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان و الكفار، تميز المؤمنين منهم بأن المؤمنين مهديون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربهم يفيدهم معرفة الله سبحانه و يسلك بهم إلى أحسن الجزاء و الفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم و أبصارهم الغطاء، و الكفار لا تسلك بهم أعمالهم إلا إلى سراب لا حقيقة له، و هم في ظلمات بعضها فوق بعض و لم يجعل الله لهم نورا فما لهم من نور.
و قد بين سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورا عاما تستنير به السماوات و الأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البين أن ظهور شيء بشيء يستدعي كون المظهر ظاهرا بنفسه و الظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات و الأرض بإشراقه عليها كما أن الأنوار الحسية تظهر الأجسام
الكثيفة للحس بإشراقها عليها غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهي عين وجودها و ظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسية غير أصل وجودها.
و نورا خاصا يستنير به المؤمنون و يهتدون إليه بأعمالهم الصالحة و هو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم و أبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب و الأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، و مثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنها كوكب دري فتزيد نورا على نور، و المصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربهم و عبادته تجارة و لا بيع.
فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقب للسعادة الخالدة، و حرمه على الكافرين و تركهم في ظلمات لا يبصرون، فخص من اشتغل بربه و أعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، و الله يفعل ما يشاء له الملك و إليه المصير يحكم بما أراد ينزل الودق و البرد من سحاب واحد، و يقلب الليل و النهار، و يجعل من الحيوان من يمشي على بطنه و من يمشي على رجلين و من يمشي على أربع و قد خلق الكل من ماء.
و الآيات غير فاقدة للاتصال بما قبلها لما أن بيان الأحكام و الشرائع فيما تقدم انتهى إلى مثل قوله: ﴿وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ و البيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهي.
على أن الآيات قرآن و قد سمى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نورا كقوله:
﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً﴾: النساء: ١٧٤.
قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآية. المشكاة على ما ذكره الراغب و غيره: كوة غير نافذة و هي ما يتخذ في جدار البيت من الكو لوضع بعض الأثاث كالمصباح و غيره عليه و هو غير الفانوس.
و الدري: من الكواكب العظيم الكثير النور، و هو معدود في السماء، و الإيقاد:
الإشعال، و الزيت: الدهن المتخذ من الزيتون.
و قوله: ﴿اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ النور معروف و هو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر. هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع و الشم و الذوق و اللمس.
ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.
و إذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتم للنور فهناك وجود و نور يتصف به الأشياء و هو وجودها و نورها المستعار المأخوذ منه تعالى و وجود و نور قائم بذاته يوجد و يستنير به الأشياء.
فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض، و هذا هو المراد بقوله: ﴿اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ حيث أضيف النور إلى السماوات و الأرض ثم حمل على اسم الجلالة، و على هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات و الأرض، و عمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها و هو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك و تقدس.
و من ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، و إلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ﴾ إذ لا معنى للتسبيح و العلم به و بالصلاة مع الجهل بمن يصلون له و يسبحونه فهو نظير قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾: إسراء: ٤٤، و سيوافيك البحث عنه إن شاء الله.
فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: ﴿اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شيء و هو مساو لوجود كل شيء و ظهوره في نفسه و لغيره و هي الرحمة العامة.
و قوله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ يصف تعالى نوره، و إضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى و ظاهره الإضافة اللامية دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله بل النور المستعار الذي يفيضه، و ليس هو النور العام المستعار الذي يظهر به كل شيء و هو الوجود الذي يستفيضه منه الأشياء و تتصف، به و الدليل عليه قوله بعد تتميم المثل: ﴿يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ إذ لو كان هو النور العام لم يختص به شيء دون شيء بل هو نوره الخاص بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.
و قد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نورا كما في قوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾: الصف: ٨، و قوله: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾: الأنعام: ١٢٢ و قوله: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾: الحديد: ٢٨، و قوله: ﴿أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلىَ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾: الزمر: ٢٢، و هذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربهم و هو نور الإيمان و المعرفة.
و ليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإن الآية تصف حال عامة المؤمنين قبل نزول القرآن و بعده. على أن هذا النور وصف لهم يتصفون به كما يشير إليه قوله:
﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ﴾: الحديد: ١٩ و قوله: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾: التحريم:
٨، و القرآن ليس وصفا لهم و إن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه.
و قوله: ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ اَلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ﴾ المشبه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح «إلخ» لا مجرد المشكاة و إلا فسد المعنى، و هذا كثير في تمثيلات القرآن.
و قوله: ﴿اَلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري من جهة ازدياد لمعان نور المصباح و شروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكونا من غير اضطراب بتموج الأهوية و ضرب الرياح فهي كالكوكب الدري في تلألؤ نورها و ثبات شروقها.
و قوله: ﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذا اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، و المراد بكون الشجرة لا شرقية و لا غربية أنها ليست نابتة في الجانب الشرقي و لا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار و يفيء الظل عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.
و الدليل على هذا المعنى قوله: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ فإن ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن و كمال استعداده للاشتعال و أن ذلك متفرع على الوصفين: لا شرقية و لا غربية.
و أما قول بعضهم: إن المراد بقوله: ﴿لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ أنها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إما في شرق أو في غرب، و كذا قول آخرين: إن المراد أنها ليست من شجر شرق المعمورة و لا من شجر غربها بل من شجر الشام الواقع بين الشرق و الغرب و زيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق.
و قوله: ﴿نُورٌ عَلىَ نُورٍ﴾ خبر لمبتدإ محذوف و هو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، و المعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمع.
و المراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدده فليس المراد به أنه نور معين أو غير معين فوق نور آخر مثله، و لا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل أنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه و هذا التعبير شائع في الكلام.
و هذا معنى لا يخلو من جودة و إن كان إرادة التعدد أيضا لا تخلو من لطف و دقة فإن للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة و الحقيقة و نسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة و المجاز، و يتغاير النور بتغاير النسبتين و يتعدد بتعددهما و إن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح و الزجاجة صفر الكف منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدد النسب نور غير نور المصباح و هو قائم به و مستمد منه.
و هذا الاعتبار جار بعينه في الممثل له فإن نور الإيمان و المعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمد منه.
فقد تحصل أن الممثل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين و المثل هو المشبه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيد صاف و هو موضوع في مشكاة فإن نور المصباح المشرق من الزجاجة و المشكاة تجمعه و تعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوة و الجودة.
فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة و انعكاسه إلى جو البيت، و اعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية و لا غربية للدلالة على صفاء الدهن و جودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله و جودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضيء و لو لم تمسسه نار، و اعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدة من نور المصباح في إنارتها.
و قوله: ﴿يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ استئناف يعلل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان و المعرفة و حرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ﴾ إلخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم.
و المعنى: أن الله إنما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفرالذين سيذكرهم بعد لمجرد مشيته، و ليس المعنى أن الله يهدي بعض الأفراد إلى نوره دون بعض بمشيته ذلك حتى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنه إنما يشاء الهداية إذا استعد المحل إلى الهداية بحسن السريرة، و السيرة و ذلك مما يختص به أهل الإيمان دون أهل الكفر فافهمه.
و الدليل على ذلك ما سيأتي من قوله: ﴿وَ لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله.
و قوله: ﴿وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ إشارة إلى أن المثل المضروب تحته طور من العلم، و إنما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبيين الحقائق و الدقائق و يشترك فيه العالم و العامي فيأخذ منه كل ما قسم له، قال تعالى:
﴿وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ﴾: العنكبوت: ٤٣.
قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ﴾ الإذن في الشيء هو إعلام ارتفاع المانع عن فعله، و المراد بالرفع رفع القدر و المنزلة و هو التعظيم، و إذ كانت العظمة و العلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، و بمقدار ما ينتسب إليه فالإذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه.
و بذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر اسمه فيها، و السياق يدل على الاستمرار أو التهيؤ له فيعود المعنى إلى مثل قولنا: «أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك».
و قوله: ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ متعلق بقوله في الآية السابقة: ﴿كَمِشْكَاةٍ﴾ أو قوله:
﴿يَهْدِي اَللَّهُ﴾ إلخ، و المال واحد، و من المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، و قد قال تعالى: ﴿وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً﴾:
الحج: ٤٠.
قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ رِجَالٌ﴾ إلى آخر الآية. تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، و الغدو جمع غداة و هو الصبح و الآصال جمع أصيل و هو العصر، و الإلهاء صرف الإنسان عما يعنيه و يهمه، و التجارة على ما قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلبا للربح. قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ. و البيع على ما قال: إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و قلب الشيء على ما ذكره صرف الشيء من وجه إلى وجه، و التقليب مبالغة فيه و التقلب قبوله فتقلب القلوب و الأبصار تحول منها من وجه من الإدراك إلى وجه آخر.
و قوله: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ﴾ صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله:
﴿وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ﴾، و كون التسبيح بالغدو و الآصال كناية عن استمرارهم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما.
و الاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لأنه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور و النور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره و إنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه و تنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم
يبق معه غيره و تمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء و الحمد و بالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ﴾: الصافات: ١٦٠، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، و قد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى.
و ببيان آخر حمده تعالى و هو ثناؤه بصفة الكمال مساوي لحصول نور المعرفة و تسبيحه و هو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، و الآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة و هو التسبيح، فافهم ذلك.
و قوله: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ﴾ التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع و الشراء و البيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة و الاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما و لا في وقت من الأوقات، و بعبارة أخرى لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة و لا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم.
و قيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي الهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم الهاء التجارة لا يستلزم عدم الهاء البيع الرابح بالفعل، و لذلك نفى البيع ثانيا بعد نفي الهاء التجارة و لذلك كررت لفظة ﴿لاَ﴾ لتذكير النفي و تأكيده، و هو وجه حسن.
و قوله: ﴿عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ إِقَامِ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءِ اَلزَّكَاةِ﴾ الإقام هو الإقامة بحذف التاء تخفيفا.
و المراد بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة الإتيان بجميع الأعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، و إقامة الصلاة ممثلة لإتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، و إيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق و ذلك لكون كل منها ركنا في بابه.
و المقابلة بين ذكر الله و بين إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هما و خاصة الصلاة
من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان و الغفلة و هو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة و الزكاة ذكر عملي.
فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: ﴿عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ إِقَامِ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءِ اَلزَّكَاةِ﴾ أنهم لا يشتغلون بشيء عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم و ذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة و الزكاة، و عند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة و البيع و بين ذكر الله و إقام الصلاة إلخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر و لا موقت عن الذكر المستمر و الموقت، فافهم ذلك.
و قوله: ﴿يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصَارُ﴾ هذا هو يوم القيامة، و المراد بالقلوب و الأبصار ما يعم قلوب المؤمنين و الكافرين و أبصارهم لكون القلوب و الأبصار جمعا محلى باللام و هو يفيد العموم.
و أما تقلب القلوب و الأبصار فالآيات الواصفة لشأن يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الأمر و انكشاف الغطاء كما قال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾: ق: ٢٢، و قال: ﴿وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾: الزمر:
٤٧، إلى غير ذلك من الآيات.
فتنصرف القلوب و الأبصار يومئذ عن المشاهدة و الرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق و الحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة و الرؤية و هو الرؤية بنور الإيمان و المعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه و هو نور الإيمان و المعرفة فينظر إلى كرامة الله، و يعمى الكافر و لا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: ﴿وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾: الزمر: ٦٩ و قال: ﴿يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعىَ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ﴾: الحديد: ١٢، و قال: ﴿وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمىَ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىَ﴾: الإسراء:
٧٢، و قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلىَ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾: القيامة: ٢٣ و قال: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾: المطففين: ١٥.
و قد تبين بما مر:
أولا: وجه اختصاص هذه الصفة أعني تقلب القلوب و الأبصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر و ذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدايته تعالى إلى
نوره و هو نور الإيمان و المعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة و يبصر به.
و ثانيا: أن المراد بالقلوب و الأبصار النفوس و بصائرها.
و ثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصَارُ﴾ لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب و الأبصار، و إنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله و النظر إلى كرامته و هو الشقاء الدائم و العذاب الخالد و في الحقيقة يخافون أنفسهم.
قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اَللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ الظاهر أن لام ﴿لِيَجْزِيَهُمُ﴾ للغاية، و الذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة و الأجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله:
إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، و مرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكي أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها و انحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن.
و يؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: ﴿وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالإغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالأحسن.
و قوله: ﴿وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ الفضل العطاء، و هذا نص في أنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، و أوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾: ق: ٣٥، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم.
و قد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاءون قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ اَلْمُحْسِنِينَ﴾: الزمر: ٣٤، و قال: ﴿أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَ مَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ خَالِدِينَ﴾: الفرقان:
١٦، و قال: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ كَذَلِكَ يَجْزِي اَللَّهُ اَلْمُتَّقِينَ﴾: النحل: ٣١.
فهذا المزيد الذي هو وراء جزاء الأعمال أمر أعلى و أعظم من أن تتعلق به مشية الإنسان أو يوصل إليه سعيه، و هذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين و يبشرهم به فأجد التدبر فيه.
و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: ﴿يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ على ما مر بيانه.
و محصله أنهم عملوا صالحا و كان لهم من الأجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: ﴿وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾: النحل: ١١١، و ما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى و أرفع من أن تتعلق به مشيتهم و هذه أيضا موهبة و رزق بغير حساب، و الرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء.
غير أنه تعالى وعدهم الرزق و أقسم على إنجازه في قوله: ﴿فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾: الذاريات: ٢٣، فملكهم الاستحقاق لأصله و هو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم و أما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية و للكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مَاءً﴾ إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء و لا حقيقة له، و القيع و القاع هو المستوي من الأرض و مفرداهما القيعة و القاعة كالتينة و التمرة، و الظمآن هو العطشان.
لما ذكر سبحانه المؤمنين و وصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة و لا بيع، و أن الله الذي هو نور السماوات و الأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، و تارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها و هي حاجزة عن النور، و هذه الآية هي التي تتضمن الوصف الأول.
فقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ شبه أعمالهم و هي التي يأتون بها من قرابين و أذكار و غيرهما من
عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء و لا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش و غير ذلك.
و إنما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لأن المطلوب بيان سيره إليه و لا يسير إليه إلا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمإ، و لذلك رتب عليه قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾، كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظمآن ماء فيسير إليه و يقبل نحوه ليرتوي و يرفع عطشه به، و لا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
و التعبير بقوله: ﴿جَاءَهُ﴾ دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه و نحوها للإيماء إلى أن هناك من يريد مجيئه و ينتظره انتظارا و هو الله سبحانه، و لذلك أردفه بقوله: ﴿وَ وَجَدَ اَللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم و جبلتهم و هو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته و جبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، و لا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنا منهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها و يجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، و توفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال و إيصال ما يستحقه صاحب الأعمال.
ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، و تشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء و عنده عذب الماء لكنه يعرض عنه و لا يصغي إلى مولاه الذي ينصحه و يدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه و يقبل نحوه، و تشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال و عند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه و عنده مولاه الذي كان ينصحه و يدعوه إلى شرب الماء.
فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم و الأعمال الصالحة الهادية إلى نوره و فيه سعادتهم و حسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم و الأعمال المقربة إليهم و فيها سعادتهم فأكبوا على تلك الأعمال السرابية و استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم و شارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم و لا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.
و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ﴾ إنما هو لإحاطة علمه بالقليل و الكثير و الحقير و الخطير و الدقيق و الجليل و المتقدم و المتأخر على حد سواء.
و اعلم أن الآية و إن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل و خاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الإنسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة و لا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع و يراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه و الفوز بالسعادة التي يقدرها له، و إن كان ممن ينكره و ينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر و الطبيعة و المادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بما وراءها.
فهؤلاء يرون المؤثر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى و لا مؤثر غيره و يرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم و ليست إلا سرابا لا حقيقة له و لا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الأعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئا و عاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، و عند ذلك يوفيهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.
قوله تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، و قد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اَلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ﴾: البقرة: ٢٥٧، و قوله: ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾: الأنعام: ١٢٢، و قوله: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾: المطففين: ١٥.
و قوله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ معطوف على ﴿كَسَرَابٍ﴾ في الآية السابقة، و البحر اللجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر و هي تردد أمواجه، و المعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي.
و قوله: ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ صفة البحر جيء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنه يغشاه و يحيط به موج كائن من فوقه موج آخر
كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس و القمر و النجوم.
و قوله: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، و قد أكد ذلك بقوله: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ فإن أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه و هو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده و لم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.
فهؤلاء و هم سائرون إلى الله و صائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون و لا نور هناك يستضيء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.
و قوله: ﴿وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ و جاعل النور هو الله الذي هو نور كل شيء، فإذا لم يجعل لشيء نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافَّاتٍ﴾ إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات و الأرض و أنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده و الذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في هذه الآية و الآيات الأربع التالية لها.
فكونه تعالى نور السماوات و الأرض يدل عليه أن ما في السماوات و الأرض موجود بوجود ليس من عنده و لا من عند شيء مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات.
فوجود كل شيء مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشيء و يدل على منوره بما أشرق عليه من النور و أن هناك نورا يستنير به كل شيء فكل شيء مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، و الفاقة التي لزمته، و النقص الذي لا ينفك عنه، و هذا هو تسبيح ما في السماوات و الأرض له سبحانه، و لازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه و سلب أي إله و رب يدبر الأمر دونه تعالى.
و إلى ذلك يشير قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ﴾ و به يحتج تعالى على كونه نور السماوات و الأرض لأن النور هو ما يظهر به الشيء المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، و هو تعالى يظهر و يوجد بإظهاره و إيجاده الأشياء ثم يدل على ظهوره و وجوده.
و تزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان:
منها: اختصاصها من في السماوات و الأرض و الطير صافات و هم العقلاء و بعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: «﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.
و لعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ ﴿مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور و أبدعه.
و يظهر من بعضهم أن المراد بقوله: ﴿مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ﴾ إلخ، جميع الأشياء و إنما عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شئون أولي العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة و وضوح تلك الإشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال.
و فيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ﴾.
و منها: تصدير الكلام بقوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ و فيه دلالة على ظهور تسبيحهم و وضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيرا ما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ﴾: إبراهيم: ١٩، و الخطاب فيه عام لكل ذي عقل و إن كان خاصا بحسب اللفظ.
و من الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد كان أراه الله تسبيح من في السماوات و الأرض و الطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات و الأرض و ليس ببدع منه (ص) و قد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الأخبار المعتبرة.
و منها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات و الأرض و الطير، و قد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾: الإسراء: ٤٤، و ستجيء تتمة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.
و قول بعضهم: إن الضمير في قوله: ﴿قَدْ عَلِمَ﴾ راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق و خاصة لقوله بعده: ﴿وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ و نظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه و تنزيهه.
و منها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى و هو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان و يؤيده قوله: «﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ و لعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد و نفي الشركاء و ذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشيء للإله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.
و أما قوله: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ﴾ فصلاته دعاؤه و الدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء و التحميد.
و منها: أن الآية تنسب التسبيح و العلم به إلى من في السماوات و الأرض فيعم المؤمن و الكافر، و يظهر بذلك أن هناك نورين: نور عام يعم الأشياء و المؤمن و الكافر فيه سواء، و إلى ذلك تشير آيات كآية الذر: ﴿وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلىَ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾: الأعراف: ١٧٢، و قوله:
﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾: ق: ٢٢ إلى غير ذلك، و نور خاص و هو الذي تذكره الآيات و يختص بأوليائه من المؤمنين.
فالنور الذي ينور تعالى به خلقه كالرحمة التي يرحمهم بها قسمان: عام و خاص و قد قال تعالى: ﴿وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾: الأعراف: ١٥٦، و قوله: ﴿فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾: الجاثية: ٣٠، و قد جمع بينهما في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً﴾: الحديد: ٢٨، و ما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء الثاني من كفلي الرحمة.
و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ و من فعلهم تسبيحهم له سبحانه، و هذا التسبيح و إن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعد فعلا لهم بهذه العناية.
و في ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين و شكر لهم بأن ربهم يعلم ذلك منهم و سيجزيهم جزاء حسنا، و إيذان بتمام الحجة على الكافرين، فإن من مراتب علمه تعالى كتب الأعمال و الكتاب المبين التي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثم إنكارهم بألسنتهم.
قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ﴾ سياق الآية و قد وقعت بين قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ﴾ إلخ، و هو احتجاج على شمول نوره العام لكل شيء، و بين قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُزْجِي﴾ إلخ، و ما يتعقبه و هو احتجاج على اختصاص النور الخاص، يعطي أنها كالمتوسط بين القبيلين أعني بين الأمرين يحتج بها على كليهما، فملكه تعالى لكل شيء و كونه مصيرا لها هو دليل على تعميمه نوره العام و تخصيصه نوره الخاص يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
فقوله: ﴿وَ لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ يخص الملك و يقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء و يحكم بما يريد لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، و لازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكل شيء، و إذ كان لا مليك إلا هو و إليه مرجع كل شيء و مصيره فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
و من هنا يظهر أن المراد و الله أعلم بقوله: ﴿وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ﴾ مرجعيته تعالى في الأمور دون المعاد نظير قوله: ﴿أَلاَ إِلَى اَللَّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ﴾: الشورى: ٥٣.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ إلى آخر الآية. الإزجاء هو الدفع، و الركام المتراكم بعضه على بعض، و الودق هو المطر، و الخلال جمع الخلل و هو الفرجة بين الشيئين.
و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، و المعنى: أ لم تر أنت و كل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله و فرجه فينزل على الأرض.
و قوله: ﴿وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ السماء جهة العلو، و قوله: ﴿مِنْ جِبَالٍ فِيهَا﴾ بيان للسماء، و الجبال جمع جبل و هو معروف، و قوله: ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ بيان للجبال، و البرد قطعات الجمد النازل من السماء، و كونه جبالا فيها كناية عن كثرته و تراكمه، و السنا بالقصر الضوء.
و الكلام معطوف على قوله: ﴿يُزْجِي﴾، و المعنى: أ لم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع و البساتين و ربما قتل النفوس و المواشي و يصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار.
و الآية على ما يعطيه السياق مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، و المعنى: أن الأمر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم و مواشيهم و مزارعهم و بساتينهم، و إذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء و يصرفه عمن يشاء.
قوله تعالى: ﴿يُقَلِّبُ اَللَّهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصَارِ﴾ بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى فقط. و تقليب الليل و النهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىَ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىَ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىَ أَرْبَعٍ﴾ بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات و الديدان، و منهم من يمشي على رجلين كالأناسي و الطيور و منهم من يمشي على أربع كالبهائم و السباع، و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع الثلاثة و فيهم غير ذلك إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار.
و قوله: ﴿يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الأمر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه
على جميع خلقه كالنور العام، و الرحمة العامة و له أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص و الرحمة الخاصة.
و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تعليل لقوله: ﴿يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ فإن إطلاق القدرة على كل شيء يستوجب أن لا يتوقف شيء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيته و إلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر و هذا خلف.
و هذا باب من التوحيد دقيق سيتضح بعض الاتضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي.
بحث فلسفي في معنى عليته تعالى للأشياء
إنا لا نشك في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و أن كثيرا منها - و خاصة في الماديات - تتوقف في وجودها على شروط لا تحقق لها بدونها كالإنسان الذي هو ابن فإن لوجوده توقفا على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانية و مكانية، و إذ كان من الضروري كون كل مما يتوقف عليه جزء من علته التامة كان الواجب تعالى على هذا جزء علته التامة لا علة تامة وحدها.
نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شيء غيره و كذا الصادر الأول الذي تتبعه بقية أجزاء المجموع، و أما سائر أجزاء العالم فإنه تعالى جزء علته التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدات.
هذا إذا اعتبرنا كل واحد من الأجزاء بحياله ثم نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.
و هاهنا نظر آخر أدق و هو أن الارتباط الوجودي الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كل شيء و بين علله الممكنة و شروطه و معداته يقضي بنوع من الاتحاد و الاتصال بينها فالواحد من الأجزاء ليس مطلقا منفصلا بل هو في وجوده المتعين مقيد بجميع ما يرتبط به متصل الهوية بغيرها.
فالإنسان الابن الذي كنا نعتبره في المثال المتقدم بالنظر السابق موجودا مستقلا مطلقا فنجده متوقفا على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هوية مقيدة بجميع ما كان يعتبر توقفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب
تعالى فحقيقة زيد مثلا هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولد في زمان كذا و مكان كذا المتقدم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.
فهذه هو حقيقة زيد مثلا و من الضروري أن ما حقيقته ذلك لا تتوقف على شيء غير الواجب فالواجب هو علته التامة التي لا توقف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيدة، و هو قوله تعالى: ﴿يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يريد آية النور و ما يتلوها المبينة لصفة نوره تعالى و الصراط المستقيم سبيله التي لا سبيل للغضب و الضلال إلى من اهتدى إليها كما قال: ﴿اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ﴾: الحمد: ٧، و قد تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد.
و تذييل الآية بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ هو الموجب لعدم تقييد قوله: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ﴾ بلفظة إليكم بخلاف قوله قبل آيات:
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
إذ لو قيل: لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و الله يهدي. تبادر إلى الذهن أن البيان اللفظي هداية إلى الصراط المستقيم و أن المخاطبين عامة مهديون إلى الصراط المستقيم و فيهم المنافق و الذين في قلوبهم مرض و الله العالم.
(بحث روائي)
في التوحيد، بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ فقال: هاد لأهل السماوات و هاد لأهل الأرض. و في رواية البرقي: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.
أقول إذا كان المراد بالهداية الهداية الخاصة و هي الهداية إلى السعادة الدينية
كان من التفسير بمرتبة من المعنى، و إن كان المراد بها الهداية العامة و هي إيصال كل شيء إلى كماله انطبق على ما تقدم.
و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة أن أدخلها على أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت و معها مولاة لها فقالت له: يا أبا عبد الله قول الله: ﴿زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ ما عنى بهذا؟ فقال لها: أيتها المرأة إن الله لم يضرب الأمثال للشجر إنما ضرب الأمثال لبني آدم. و في تفسير القمي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): في هذه الآية ﴿اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ قال: بدأ بنور نفسه ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ مثل هداه في قلب المؤمن ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ و المصباح جوف المؤمن و القنديل قلبه، و المصباح النور الذي جعله الله في قلبه.
﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ قال: الشجرة المؤمن ﴿زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ قال: على سواد الجبل لا غربية أي لا شرق لها، و لا شرقية أي لا غرب لها - إذا طلعت الشمس طلعت عليها و إذا غربت غربت عليها ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ يكاد النور الذي في قلبه يضيء و إن لم يتكلم.
﴿نُورٌ عَلىَ نُورٍ﴾ فريضة على فريضة، و سنة على سنة ﴿يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يهدي الله لفرائضه و سننه من يشاء ﴿وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾ فهذا مثل ضربه الله للمؤمن.
ثم قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنة نور. قلت لجعفر (عليه السلام): إنهم يقولون: مثل نور الرب. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله: ﴿فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ اَلْأَمْثَالَ﴾.
أقول: الحديث يؤيد ما تقدم في تفسير الآية، و قد اكتفى (عليه السلام) في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالذي ذكره في ذيل قوله: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ و قوله: ﴿نُورٌ عَلىَ نُورٍ﴾.
و أما قوله: سبحان الله ليس لله مثل فإنما ينفي به أن يكون المثل مثلا للنور
الذي هو اسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلا له تعالى يؤدي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات و الأرض، و أما الضمير في قوله:
﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح.
و في التوحيد، و قد روي عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله عز و جل:
﴿اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة (ص) من دلالات الله و آياته التي يهتدى بها إلى التوحيد و مصالح الدين و شرائع الإسلام و السنن و الفرائض، و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل المصاديق و هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الطاهرون من أهل بيته (عليه السلام) و إلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الأنبياء (عليه السلام) و الأوصياء و الأولياء.
نعم ليست الآية بعامة لجميع المؤمنين لأخذها في وصفهم صفات لا تعم الجميع كقوله: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ﴾ إلخ.
و قد وردت عدة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أهل بيته (عليه السلام) و هي من التطبيق دون التفسير، و من الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق كرواية الكليني في روضة الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) و فيها: أن المشكاة قلب محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و المصباح النور الذي فيه العلم، و الزجاجة علي أو قلبه، و الشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية و لا غربية إبراهيم (عليه السلام) ما كان يهوديا و لا نصرانيا، و قوله: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾ إلخ، يكاد أولادهم أن يتكلموا بالنبوة و إن لم ينزل عليهم ملك. و ما رواه في التوحيد، بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر (عليه السلام) و فيه: أن المشكاة نور العلم في صدر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الزجاجة صدر علي ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل ﴿نُورٌ عَلىَ نُورٍ﴾ إمام مؤيد بنور العلم و الحكمة في إثر الإمام من آل محمد. و ما في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني عن الصادق (عليه السلام) و فيه: أن المشكاة فاطمة (عليه السلام)، و المصباح الحسن (عليه السلام)، و الزجاجة الحسين (عليه السلام)،
و الشجرة المباركة إبراهيم (عليه السلام)، و ﴿لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ ما كان يهوديا و لا نصرانيا، و ﴿نُورٌ عَلىَ نُورٍ﴾ إمام بعد إمام، و ﴿يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ يهدي الله للأئمة (عليه السلام) من يشاء و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله:
﴿زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ قال: قلب إبراهيم لا يهودي و لا نصراني). أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمة أهل البيت (عليه السلام) كما تقدم.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي و فاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها.:
أقول: و رواه في المجمع، عنه (ص) مرسلا، و روى هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) و لفظه: قال: هي بيوت الأنبياء و بيت علي (عليه السلام) منها. و هو على أي حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدم.
و في نهج البلاغة،: من كلام له (عليه السلام) عند تلاوته ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ﴾ و إن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و ينتهون عنه.
كأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون. و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ﴾: و روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجرا ممن لم يتجر.
أقول: أي لم يتجر و اشتغل بذكر الله كما في روايات أخر.
و في الدر المنثور، عن ابن مردويه و غيره عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله تعالى: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ﴾ قال: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله. أقول: كأن الرواية غير تامة و تمامها فيما روي عن ابن عباس قال: كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون و يبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم و قاموا إلى المسجد فصلوا.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ﴾ و سئل أمير المؤمنين (عليه السلام):
كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.
و في روضة الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن الله عز و جل جعل السحاب غرابيل المطر هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكي لا يضر شيئا يصيبه، و الذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من الله عز و جل يصيب بها من يشاء من عباده.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىَ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىَ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىَ أَرْبَعٍ﴾ قال: على رجلين الناس، و على بطنه الحيات، و على أربع البهائم، و قال أبو عبد الله (عليه السلام): و منهم من يمشي على أكثر من ذلك.
[سورة النور (٢٤): الآیات ٤٧ الی ٥٧]
﴿وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ٤٧ وَ إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ٤٨ وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ٤٩ أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ ٥٠﴾
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٥١ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَائِزُونَ ٥٢ وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ٥٣ قُلْ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ٥٤ وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ ٥٥ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٥٦ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ ٥٧﴾
(بيان)
تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنها لا تفارق طاعة الله تعالى، و وجوب الرجوع إلى حكمه و قضائه و أن الإعراض عنه آية النفاق، و تختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين و إيعاد للكافرين.
قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾«إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالإيمان بالله هو العقد على توحيده و ما شرع من الدين، و الإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شيء، و طاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرسول الايتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه و قبول ما حكم به و قضى عليه.
فالإيمان بالله و طاعته موردهما نفس الدين و التشرع به، و الإيمان بالرسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات و الانقياد له في ذلك كله.
فبين الإيمانين و الطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد و ضيقه، و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ﴾ فأشير إلى تعدد الإيمان و الطاعة و لم يقل: آمنا بالله و الرسول بحذف الباء، و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: ﴿وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ﴾: النساء: ١٥٠.
فقوله: ﴿وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا﴾ أي عقدنا القلوب على دين الله و تشرعنا به و على أن الرسول لا يخبر إلا بالحق و لا يحكم إلا بالحق.
و قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا﴾ عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.
و قوله: ﴿وَ مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، و المشار إليه باسم الإشارة القائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لأن الكلام مسوق لذم الجميع.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في منازعة وقعت بينه و بين غيره فأبى الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في ذلك نزلت الآيات.
و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ﴾: النساء: ١٠٥. فللحكم نسبة إليه بالمباشرة و نسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته و بنصبه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للحكم و القضاء.
و بذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، و بالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، و أن الظاهر أن ضمير ﴿لِيَحْكُمَ﴾ للرسول، و إنما أفرد الفاعل و لم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى.
و الآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا معينا منهم و الإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ الإذعان الانقياد، و ظاهر السياق و خاصة قوله: ﴿يَأْتُوا إِلَيْهِ﴾ أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوى أنه حق لا ينفك عنه، و المعنى و إن يكن الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لهم، و لازم ذلك أنهم يتبعون الهوى و لا يريدون اتباع الحق.
قوله تعالى: ﴿أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ﴾ إلى آخر الآية. الحيف الجور.
و ظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله تعالى:
﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾: الأحزاب: ٣٢، و قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾: الأحزاب:
٦٠، و غير ذلك من الآيات.
و أما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات:
﴿وَ مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنه حكم بنفاقهم، و لا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الإضراب عنه بقوله: ﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ﴾.
و قوله: ﴿أَمِ اِرْتَابُوا﴾ ظاهر إطلاق الارتياب و هو الشك أن يكون المراد هو
شكهم في دينهم بعد الإيمان دون الشك في صلاحية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للحكم أو عدله و نحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.
و قوله: ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ﴾ أي أم يعرضون عن ذلك لأنهم يخافون أن يجور الله عليهم و رسوله لكون الشريعة الإلهية التي يتبعها حكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مبنية على الجور و إماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يراعي الحق في قضائه.
و قوله: ﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ﴾ إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة و ذلك أن سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، و أما الخوف من أن يحيف الله عليهم و رسوله فلا موجب له فالله بريء من الحيف و رسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله و رسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون.
و الظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولا كما قال آنفا: ﴿وَ مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، و لو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنها من مطلق الظلم و يدل عليه أيضا الآية التالية.
و قد بان بما تقدم أن الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الأمور الثلاثة حاصر و الأقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إما لضعف إيمانهم و إما لزواله بالارتياب و إما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه و ميله عن الحق إلى الباطل و لا يحتمل ذلك في حكم الله و رسوله.
و قد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد و الإضراب و لعل فيما ذكرناه كفاية، و من أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا﴾ إلى آخر الآية سياق قوله: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ و قد أخذ فيه ﴿كَانَ﴾ و وصف الإيمان في ﴿اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة
الإيمان فإن مقتضى الإيمان بالله و رسوله و عقد القلب على اتباع ما حكم به الله و رسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله و رسوله دون الرد.
و على هذا فالمراد بقوله: ﴿إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله و رسوله ليحكم بينهم، و يدل عليه تصدير الجملة بلفظة ﴿إِذَا﴾ و لو كان المراد به دعوة الله و رسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله و رسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.
و بذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل ﴿دُعُوا﴾ المحذوف هو الله و رسوله، و المعنى: إذا دعاهم الله و رسوله. نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله و رسوله.
و كيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله و رسوله في قولهم: سمعنا و أطعنا و هو سمع و طاعة للدعوة الإلهية سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله و رسوله أو كان المراد هو السمع و الطاعة لحكم الله و رسوله و إن كان بعيدا.
و انحصار قول المؤمنين عند الدعوة في ﴿سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا﴾ يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الإيمان، كما يفيده قوله:
﴿بَلْ أُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ﴾ على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.
و قد ختمت الآية بقوله: ﴿وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ﴾ و فيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.
قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَائِزُونَ﴾ ورود الآية في سياق الآيات السابقة و انضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل كالكبرى الكلية للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله و رسوله بالسمع و الطاعة بقيد الإيمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله و رسوله و هو مؤمن لأنه مطيع لله و لرسوله و هو مؤمن حقا في باطنه خشية الله و في
ظاهره تقواه و من يطع الله و رسوله فيما قضي عليه و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون، و الفوز هو الفلاح.
و تشمل الآية الداعي إلى حكم الله و رسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع و الطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي و المدعو جميعا.
قوله تعالى: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ إلى آخر الآية الجهد الطاقة، و التقدير في قوله: ﴿أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم و المراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.
و الظاهر أن المراد بقوله: ﴿لَيَخْرُجُنَّ﴾ الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: ﴿وَ لَوْ أَرَادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لَكِنْ كَرِهَ اَللَّهُ اِنْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾: التوبة: ٤٧.
و قوله: ﴿قُلْ لاَ تُقْسِمُوا﴾ نهي عن الإقسام، و قوله: ﴿طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج و الجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام و لذا جيء بالفصل، و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من تمام التعليل.
و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين و هو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ و إن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله و رسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره إغلاظكم في الإيمان.
و قيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم و أموالهم لو حكم الرسول بذلك، و قوله: ﴿طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ﴾ مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير: طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم و حكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لأن طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله و الله خبير بما تعملون.
و فيه أن هذا المعنى و إن كان يؤكد اتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله و رسوله ليحكم بينهم لأنهم إذ كانوا
تولوا و أعرضوا عن حكم الله و رسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن و هو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، و حينئذ كان حمل ﴿لَيَخْرُجُنَّ﴾ على هذا المعنى لا دليل يدل عليه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، و أمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم و يأمرهم به في أمر دينهم و دنياهم، و تصدير الكلام بقوله: ﴿قُلْ﴾ إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، و قد أكده بقوله: ﴿وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ﴾ دون أن يقول: و أطيعوني لأن طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، و بذلك تتم الحجة.
و لذلك عقب الكلام:
أولا بقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ أي فإن تتولوا و تعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من التكليف و لا يمسكم منه شيء و عليكم ما حملتم من التكليف و لا يمسه منه شيء فإن الطاعة جميعا لله سبحانه.
و ثانيا بقوله: ﴿وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ أي و إن كان لكل منكم و منه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأن ما يجيء به إليكم و ما يأمركم به من الله و بأمره و الطاعة لله و فيه الهداية.
و ثالثا بقوله ﴿وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ﴾ و هو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ و إذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله و في طاعة من أرسله و هو الله سبحانه اهتداؤكم.
قوله تعالى ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ إلى آخر الآية.
ظاهر وقوع الآية موقعها أنها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة و هي مدنية و لم تنزل بمكة قبل الهجرة على ما يؤيد سياقها و خاصة ذيلها.
فالآية على هذا وعد جميل للذين آمنوا و عملوا الصالحات أن الله تعالى سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم فيستخلفهم في الأرض و يمكن لهم دينهم و يبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق و لا صد كافر يعبدونه لا يشركون به شيئا.
فقوله ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ من فيه تبعيضية لا بيانية و الخطاب لعامة المسلمين و فيهم المنافق و المؤمن و في المؤمنين منهم من يعمل الصالحات و من لا يعمل الصالحات و الوعد خاص بالذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات محضا.
و قوله ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهية كما ورد في آدم و داود و سليمان (عليه السلام) قال تعالى ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾: البقرة - ٣٠ و قال ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ﴾: ص - ٢٦ و قال ﴿وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾: النمل - ١٦ فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه و أوليائه و لا يخلو من بعد كما سيأتي.
و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم كما قال ﴿إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾: الأعراف - ١٢٨ و قال ﴿أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ﴾: الأنبياء - ١٠٥ فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الأنبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين و الفاسقين منهم و نجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح و هود و صالح و شعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحىَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَ خَافَ وَعِيدِ﴾:
إبراهيم - ١٤ فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا و عاشوا فيه حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
و أما قول من قال إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون و جنوده فأورثهم أرض مصر و الشام و مكنهم فيها كما قال تعالى فيهم
﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ﴾: القصص - ٦.
ففيه أن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده لم يصف من الكفر و النفاق و الفسق و لم يخلص للذين آمنوا و عملوا الصالحات و لا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة و لا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا و عملوا الصالحات باستخلافهم و فيهم الكافر و المنافق و الطالح و الصالح.
و لو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم و هم بنو إسرائيل كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيلي للتشبيه به و في زمن نزول الآية و قبل ذلك أمم أشد قوة و أكثر جمعا منهم كالروم و الفرس و كلدة و غيرهم و قد قال تعالى في عاد الأولى و ثمود ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾: الأعراف - ٦٩ و قال ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ﴾: الأعراف - ٧٤ و قد خاطب بذلك الكفار من هذه الأمة فقال ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ اَلْأَرْضِ﴾: الأنعام - ١٦٥ و قال ﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾: فاطر - ٣٩.
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثم يؤدى حق هذا المجتمع الصالح بما يعقبه من قوله ﴿وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ﴾ إلى آخر الوعد قلت نعم و لكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبه به و أن يكون المراد بالذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدم.
و قوله ﴿وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىَ لَهُمْ ﴾تمكين الشيء إقراره في مكان و هو كناية عن ثبات الشيء من غير زوال و اضطراب و تزلزل بحيث يؤثر أثره من غير مانع و لا حاجز فتمكن الدين هو كونه معمولا به في المجتمع من غير كفر به و استهانة بأمره و مأخوذا بأصول معارفه من غير اختلاف و تخاصم و قد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أن الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله ﴿وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾: البقرة - ٢١٣.
و المراد بدينهم الذي ارتضى لهم دين الإسلام و أضاف الدين إليهم تشريفا لهم و لكونه من مقتضى فطرتهم.
و قوله ﴿وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ هو كقوله ﴿وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ﴾ عطف على قوله ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾ و أصل المعنى و ليبدلن خوفهم أمنا فنسبة التبديل إليهم إما على المجاز العقلي أو على حذف مضاف يدل عليه قوله ﴿مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ﴾ و التقدير و ليبدلن خوفهم أو كون ﴿أَمْناً﴾ بمعنى آمين.
و المراد بالخوف على أي حال ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الإسلام من الكفار و المنافقين.
و قوله ﴿يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ الأوفق بالسياق أن يكون حالا من ضمير ﴿وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ﴾ أي و ليبدلن خوفهم أمنا في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئا.
و الالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلم و تأكيد ﴿يَعْبُدُونَنِي﴾ بقوله ﴿لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ و وقوع النكرة شيئا في سياق النفي الدال على نفي الشرك على الإطلاق كل ذلك يقضي بأن المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جلي أو خفي و بالجملة يبدل الله مجتمعهم مجتمعا آمنا لا يعبد فيه إلا الله و لا يتخذ فيه رب غيره.
و قوله ﴿وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ﴾ ظاهر السياق كون ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى الموعود و الأنسب على ذلك كون ﴿كَفَرَ﴾ من الكفران مقابل الشكر و المعنى و من كفر و لم يشكر الله بعد تحقق هذا الوعد بالكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة فأولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق و هو الخروج عن زي العبودية.
و قد اشتد الخلاف بين المفسرين في الآية.
فقيل إنها واردة في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد أنجز الله وعده لهم باستخلافهم في الأرض و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمنا بما أعز الإسلام بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في أيام الخلفاء الراشدين و المراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الأربعة بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو الثلاثة الأول منهم و نسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم و هم الأربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكل كقولهم قتل بنو فلان و إنما قتل بعضهم.
و قيل هي عامة لأمة محمد ص و المراد باستخلافهم و تمكين دينهم و تبديل
خوفهم أمنا إيراثهم الأرض كما أورثها الله الأمم الذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على اختلاف التقرير و تمكين الإسلام و انهزام أعداء الدين و قد أنجز الله وعده بما نصر الإسلام و المسلمين بعد الرحلة ففتحوا الأمصار و سخروا الأقطار.
و على القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أوان تحققه و لم يكن مرجوا ذلك يومئذ.
و قيل إنها في المهدي الموعود (عليه السلام) الذي تواترت الأخبار على أنه سيظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا و أن المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة من أهل بيته (عليه السلام).
و الذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدم من البحث بالتحرز عن المسامحات التي ربما يرتكبها المفسرون في تفسير الآيات هو أن الوعد لبعض الأمة لا لجميعها و لا لأشخاص خاصة منهم و هم الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات فالآية نص في ذلك و لا قرينة من لفظ أو عقل يدل على كونهم هم الصحابة أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت عليهم الصلاة و السلام و لا على أن المراد بالذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات جميع الأمة و إنما صرف الوعد إلى طائفة خاصة منهم تشريفا لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كله تحكم من غير وجه.
و المراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الأرض كما ورثها الذين من قبلهم من الأمم الماضين أولي القوة و الشوكة و هذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختص به أشخاص منهم كما كان كذلك في الذين من قبلهم و أما إرادة الخلافة الإلهية بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود و سليمان و يوسف (عليه السلام) و هي السلطنة الإلهية فمن المستبعد أن يعبر عن أنبيائه الكرام بلفظ ﴿اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ و قد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعا من كلامه تعالى و لم يقصد و لا في واحد منها الأنبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن نعم ذكرهم الله بلفظ ﴿رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ أو ﴿رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي﴾ أو نحوها بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و المراد بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم كما مر ثبات الدين على ساقه بحيث لا
يزلزله اختلافهم في أصوله و لا مساهلتهم في إجراء أحكامه و العمل بفروعه و خلوص المجتمع من وصمة النفاق فيه.
و المراد من تبديل خوفهم أمنا انبساط الأمن و السلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوا في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهرا أو مستخفيا على دينهم أو دنياهم.
و قول بعضهم إن المراد الخوف من العدو الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفار و المشركين القاصدين إطفاء نور الله و إبطال الدعوة.
تحكم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معينة للمدعي على أن الآية في مقام الامتنان و أي امتنان على قوم لا عدو يقصدهم من خارج و قد أحاط بمجتمعهم الفساد و عمته البلية لا أمن لهم في نفس و لا عرض و لا مال الحرية فيه للقدرة الحاكمة و السبق فيه للفئة الباغية.
و المراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئا ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ و هو عموم إخلاص العبادة و انهدام بنيان كل كرامة إلا كرامة التقوى.
و المتحصل من ذلك كله أن الله سبحانه يعد الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعا صالحا خالصا من وصمة الكفر و النفاق و الفسق يرث الأرض لا يحكم في عقائد أفراده عامة و لا أعمالهم إلا الدين الحق يعيشون آمنين من غير خوف من عدو داخل أو خارج، أحرارا من كيد الكائدين و ظلم الظالمين و تحكم المتحكمين.
و هذا المجتمع الطيب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة و القداسة لم يتحقق و لم ينعقد منذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى يومنا هذا، و إن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهدي (عليه السلام) على ما ورد من صفته في الأخبار المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا له (عليه السلام) وحده.
فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات و ليس المهدي (عليه السلام) أحد المخاطبين حين النزول و لا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم؟ قلت: فيه خلط بين الخطابات الفردية و الاجتماعية أعني الخطاب المتوجه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم و الخطاب المتوجه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالأول لا يتعدى إلى غير أشخاصهم و لا ما تضمنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك
يسري إلى غيرهم و الثاني يتعدى إلى كل من اتصف بما ذكر فيه من الوصف و يسري إليه ما تضمنه من الحكم، و خطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدم.
و من هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنية المتوجهة إلى المؤمنين و الكفار، و منه الخطابات الذامة لأهل الكتاب و خاصة اليهود بما فعله أسلافهم و للمشركين بما صنعه آباؤهم.
و من هذا القبيل خاصة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ﴾: الإسراء: ٧ فإن الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، و نظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾: الكهف: ٩٨، و كذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة و انطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال: ﴿ثَقُلَتْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾: الأعراف: ١٨٧، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم و لما يوجد أشخاص المجتمع الذي يدرك إنجاز الوعد مما لا ضير فيه البتة.
فالحق أن الآية إن أعطيت حق معناها لم تنطبق إلا على المجتمع الموعود الذي سينعقد بظهور المهدي (عليه السلام) و إن سومح في تفسير مفرداتها و جملها و كان المراد باستخلاف الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات استخلاف الأمة بنوع من التغليب و نحوه، و بتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالأمة المسلمة و عدهم الإسلام دينا لهم و إن تفرقوا فيه ثلاثا و سبعين فرقة يكفر بعضهم بعضا و يستبيح بعضهم دماء بعض و أعراضهم و أموالهم، و بتبديل خوفهم أمنا يعبدون الله و لا يشركون به شيئا عزة الأمة و شوكتها في الدنيا و انبساطها على معظم المعمورة و ظواهر ما يأتون به من صلاة و صوم و حج و إن ارتحل الأمن من بينهم أنفسهم و ودعهم الحق و الحقيقة، فالوجه أن الموعود بهذا الوعد الأمة، و المراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزة و الشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة و لا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الإسلامية.
و أما تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثة الأول أو خصوص علي
(عليه السلام) فلا سبيل إليه البتة.
قوله تعالى: ﴿وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنها من تمامها.
فقوله: ﴿وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ﴾ أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، و تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى و إلى الخلق، و قوله: ﴿وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ﴾ إنفاذ لولايته (ص) في القضاء و الحكومة.
و قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ تعليل للأمر بما في المأمور به من المصلحة، و المعنى على ما يعطيه السياق : أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فينجز لكم وعده أو يجعل لكم إنجازه فإن ارتفاع النفاق من بين المسلمين و عموم الصلاح و الاتفاق على كلمة الحق مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدر عليهم بكل خير.
قوله تعالى: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ﴾ من تمام الآيات السابقة، و فيها تأكيد ما مر من وعد الاستخلاف في الأرض و تمكين الدين و تبديل الخوف أمنا.
يخاطب تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الوعد بخطاب مؤكد أن لا يظن أن الكفار معجزين لله في الأرض فيمنعونه بما عندهم من القوة و الشوكة من أن ينجز وعده، و هذا في الحقيقة بشرى خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أكرم به أمته و أن أعداءه سينهزمون و يغلبون و لذلك خصه بالخطاب على طريق الالتفات.
و لكون النهي المذكور في معنى أن الكفار سينتهون عن معارضة الدين و أهله عطف عليه قوله: ﴿وَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ﴾ إلخ، كأنه قيل: هم مقهورون في الدنيا و مسكنهم النار في الآخرة و بئس المصير.
(بحث روائي)
في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآيات قيل: نزلت الآيات في
رجل من المنافقين كان بينه و بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف.
و حكى البلخي أنه كانت بين علي و عثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار و أراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني و بينك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات :،و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أو قريب منه:
أقول: و في تفسير روح المعاني، عن الضحاك :أن النزاع كان بين علي و المغيرة بن وائل و ذكر قريبا من القصة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية: و روي عن أبي جعفر: أن المعني بالآية أمير المؤمنين (عليه السلام).
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾ الآية:، أخرج ابن جرير و ابن قانع و الطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجهني قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت إن كان علينا أمراء من بعدك يأخذونا بالحق الذي علينا و يمنعونا الحق الذي جعله الله لنا نقاتلهم و نبغضهم؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : عليهم ما حملوا و عليكم ما حملتم. أقول: و في معناه بعض روايات أخر مروية فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أن الإسلام بما فيه من روح إحياء الحق و إماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم و إباحة السكوت و تحمل الضيم و الاضطهاد قبال الطغاة و الفجرة لمن يجد إلى إصلاح الأمر سبيلا و قد اتضح بالأبحاث الاجتماعية اليوم أن استبداد الولاة برأيهم و اتباعهم لأهوائهم في تحكماتهم أعظم خطرا و أخبث أثرا من إثارة الفتن و إقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحق و العدل.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ الآية: و اختلف في الآية و المروي عن أهل البيت (عليه السلام) أنها في المهدي من آل محمد.
قال: و روى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين (عليه السلام): أنه قرأ الآية و قال:
هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا و هو مهدي هذه الأمة،
و هو الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا:
و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و بذلك وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و قد تقدم بيان انطباق الآية على ذلك.
و قال في المجمع، بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أهل بيته عليهم الصلاة و السلام انتهى. و قد عرفت أن المراد به عام و الرواية لا تدل على أزيد من ذلك حيث قال (عليه السلام): هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء" :في قوله: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ الآية قال: فينا نزلت و نحن في خوف شديد.
أقول: ظاهره أن المراد بالذين آمنوا الصحابة و قد عرفت أن الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه.
و فيه، أخرج ابن المنذر و الطبراني في الأوسط و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و الضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال :لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح و لا يصبحون إلا فيه فقالوا: أ ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ الآية. أقول: هو لا يدل على أزيد من سبب النزول و أما أن المراد بالذين آمنوا من هم؟ و أن الله متى أنجز أو ينجز هذا الوعد؟ فلا تعرض له به.
و نظيرته روايته الأخرى:لما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ الآية قال: بشر هذه الأمة بالسناء و الرفعة و الدين و النصر و التمكين في الأرض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب. فإن تبشير الأمة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالذين آمنوا في الآية جميع الأمة أو خصوص الصحابة أو نفرا معدودا منهم.
و في نهج البلاغة،: في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال (عليه السلام): إن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلة، و هو دين الله الذي أظهره، و جنده الذي أعزه و أيده حتى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع، و نحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه: وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات - ليستخلفنهم في الأرض و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا.
و الله تعالى منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق و رب متفرق لم يجتمع، و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا و استدر الرحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، و كان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و طمعهم فيك.
فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنما كنا نقاتل بالنصر و المعونة. أقول: و قد استدل به في روح المعاني، على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الإسلام و ارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين و هو بمعزل عن ذلك بل دليل على خلافه، فإن ظاهر كلامه أن الوعد الإلهي لم يتم أمر إنجازه بعد و أنهم يومئذ في طريقه حيث يقول: و الله منجز وعده، و أن الدين لم يمكن بعد و لا الخوف بدل أمنا و كيف لا؟ و هم بين خوفين خوف من تنقض العرب من داخل و خوف من مهاجمة الأعداء من خارج.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال :كنت جالسا مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و إنما هو اليوم الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخر الآية.
أقول: ليت شعري أين ذهب منافقو عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ و شواهد الكتاب العزيز و التاريخ تدل على أنهم ما كانوا بأقل من ثلث أهل المدينة و معظمهم بها أصدقوا الإسلام يوم رحلته (ص) أم تغيرت آراؤهم في تربصهم الدوائر و تقليبهم الأمور؟.
[سورة النور (٢٤): الآیات ٥٨ الی ٦٤]
﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ اَلْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٨ وَ إِذَا بَلَغَ اَلْأَطْفَالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٩ وَ اَلْقَوَاعِدُ مِنَ اَلنِّسَاءِ اَللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٦٠ لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ﴾
﴿أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلىَ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٦١ إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمُ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٦٢ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٦٣ أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٦٤﴾
(بيان)
بقية الأحكام المذكورة في السورة و تختتم السورة بآخر الآيات و فيها إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يشرع ما يشرع بعلمه و سيظهر و سينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ إلى آخر الآية. وضع الثياب خلعها و هو كناية عن كونهم على حال ربما لا يحبون أن يراهم عليها الأجنبي. و الظهيرة وقت الظهر، و العورة السوأة سميت بها لما يلحق الإنسان من انكشافها من العار و كان المراد بها في الآية ما ينبغي ستره.
فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلخ، تعقيب لقوله سابقا: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا﴾ إلخ، القاضي بتوقف دخول البيت على الإذن و هو كالاستثناء من عمومه في العبيد و الأطفال بأنه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرات في اليوم.
و قوله: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول، و ظاهر الذين ملكت أيمانكم العبيد دون الإماء و إن كان اللفظ لا يأبى عن العموم بعناية التغليب، و به وردت الرواية كما سيجيء.
و قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ﴾ يعني المميزين من الأطفال قبل البلوغ، و الدليل على تقيدهم بالتمييز قوله بعد: ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾.
و قوله: ﴿ثَلاَثَ مَرَّاتٍ﴾ أي كل يوم بدليل تفصيله بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ ﴾ أي وقت الظهر ﴿وَ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ اَلْعِشَاءِ﴾، و قد أشار إلى وجه الحكم بقوله: ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ﴾ أي الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطلع عليكم فيها غيركم.
و قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان و لا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الأوقات، و قد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله: ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلىَ بَعْضٍ﴾ أي هم كثير الطوف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث.
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ﴾ أي أحكام دينه التي هي آيات دالة عليه ﴿وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ﴾ يعلم أحوالكم و ما تستدعيه من الحكم ﴿حَكِيمٌ﴾ يراعي مصالحكم في أحكامه.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا بَلَغَ اَلْأَطْفَالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ إلخ، بيان أن حكم
الاستيذان ثلاث مرات في الأطفال مغيى بالبلوغ فإذا بلغ الأطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم و هم البالغون من الرجال و النساء الأحرار ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْقَوَاعِدُ مِنَ اَلنِّسَاءِ اَللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً﴾ إلى آخر الآية.
القواعد جمع قاعدة و هي المرأة التي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله: ﴿اَللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً﴾ وصف توضيحي، و قيل: هي التي يئست من الحيض، و الوصف احترازي.
و في المجمع:، التبرج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، و أصله الظهور و منه البرج البناء العالي لظهوره.
و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، و المعنى: و الكبائر المسنة من النساء فلا بأس عليهن أن لا يحتجبن حال كونهن غير متبرجات بزينة.
و قوله: ﴿وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهن من وضع الثياب، و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهن عليم يعلم ما يحتجن إليه من الأحكام.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمىَ حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلىَ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ﴾ إلى قوله ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ ظاهر الآية أن فيها جعل حق للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو التي اؤتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف و إفساد.
فقوله: ﴿لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمىَ حَرَجٌ ﴾ إلى قوله ﴿وَ لاَ عَلىَ أَنْفُسِكُمْ﴾ في عطف ﴿عَلىَ أَنْفُسِكُمْ﴾ على ما تقدمه دلالة على أن عد المذكورين ليس لاختصاص الحق بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحيانا و إلا فلا فرق بين الأعمى و الأعرج و المريض و غيرهم في ذلك.
و قوله: ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ﴾ إلخ، في عد ﴿بُيُوتِكُمْ﴾ مع بيوت الأقرباء و غيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبني على كون المؤمنين بعضهم
أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم و بيوت أقربائهم و ما ملكوا مفاتحه و بيوت أصدقائهم.
على أن ﴿بُيُوتِكُمْ﴾ يشمل بيت الابن و الزوج كما وردت به الرواية، و قوله:
﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ المفاتح جمع مفتح و هو المخزن، و المعنى: أو البيت الذي ملكتم أي تسلطتم على مخازنه التي فيها الرزق كما يكون الرجل قيما على بيت أو وكيلا أو سلم إليه مفتاحه.
و قوله: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ معطوف على ما تقدمه بتقدير بيت على ما يعلم من سياقه، و التقدير أو بيت صديقكم.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾ الأشتات جمع شت و هو مصدر بمعنى التفرق استعمل بمعنى المتفرق مبالغة ثم جمع أو صفة بمعنى المتفرق كالحق، و المعنى لا إثم عليكم أن تأكلوا مجتمعين و بعضكم مع بعض أو متفرقين، و الآية عامة و إن كان نزولها لسبب خاص كما روي.
و للمفسرين في هذا الفصل من الآية و في الفصل الذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها و الغور في البحث عنها أولى، و ما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الذي يعطيه سياقهما.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلىَ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ إلخ، لما تقدم ذكر البيوت فرع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً﴾.
فقوله: ﴿فَسَلِّمُوا عَلىَ أَنْفُسِكُمْ﴾ المراد فسلموا على من كان فيها من أهلها و قد بدل من قوله: ﴿عَلىَ أَنْفُسِكُمْ﴾ للدلالة على أن بعضهم من بعض فإن الجميع إنسان و قد خلقهم الله من ذكر و أنثى على أنهم مؤمنون و الإيمان يجمعهم و يوحدهم أقوى من الرحم و أي شيء آخر.
و ليس ببعيد أن يكون المراد بقوله: ﴿فَسَلِّمُوا عَلىَ أَنْفُسِكُمْ﴾ أن يسلم الداخل على أهل البيت و يرد السلام عليه.
و قوله: ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ أي حال كون السلام تحية من عند الله شرعها الله و أنزل حكمها ليحيي بها المسلمون و هو مبارك ذو خير كثير باق و طيب
[1] ظفار كقطام بلد باليمن قرب صنعاء، و جزع ظفاري منسوب إليها و الجزع الخرز و هو الذي فيه سواد و بياض.
[2] العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق.
[3] أدلج القوم: ساروا الليل كله أو في آخره.
[4] المناصع: المواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة.
[6] المرط بالكسر كساء واسع يؤتزر به و ربما تلقيه المرأة على رأسها و تتلفع به.
[7] خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه.
[11] رعاية التذكير لاعتبار الأهل و القوم في مرجع الضمير، و كان الظاهر أن يقال: لأنهن إذا نهين لا ينتهين.
|