00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 1 الى ص 82 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الخامس عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

 

 

 

الميزان في تفسير القرآن

الجزء الخامس عشر

 

 

 

 

 

 

تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف

 (٢٣) سورة المؤمنون مكية و هي مائة و ثماني عشرة آية (۱۱۸)

 

 

[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ١ الی ١١]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ ١ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ٣ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ٤ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ٥ إِلاَّ عَلى‏ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ٦ فَمَنِ اِبْتَغى‏ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ ٧ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ ٨ وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ٩ أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ ١٠ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١

(بيان)

في السورة دعوة إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر و تمييز المؤمنين من الكفار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبودية و ما لأولئك من رذائل الأخلاق و سفاسف الأعمال، و تعقيب ذلك بالتبشير و الإنذار، و قد تضمن الإنذار ذكر عذاب الآخرة و ما غشي

 

 

 الأمم المكذبين للدعوة الحقة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذا من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام).

و السورة مكية، و سياق آياتها يشهد بذلك.

قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ قال الراغب: الفلح بالفتح فالسكون الشق، و قيل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق، و الفلاح‏ الظفر و إدراك بغية و ذلك ضربان: دنيوي و أخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا و هو البقاء و الغنى و العز، و الأخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عز بلا ذل، و علم بلا جهل، و لذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة. انتهى ملخصا.

فتسمية الظفر بالسعادة فلاحا بعناية أن فيه شقا للمانع و كشفا عن وجه المطلوب.

و الإيمان‏ هو الإذعان و التصديق بشي‏ء بالالتزام بلوازمه، فالإيمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيته و رسله و اليوم الآخر و بما جاءت به رسله مع الاتباع في الجملة، و لذا نجد القرآن كلما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفع الإيمان بالعمل الصالح كقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏َ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً: النحل - ٩٧ «و قوله ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ طُوبى‏َ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ: الرعد - ٢٩، إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة جدا.

و ليس مجرد الاعتقاد بشي‏ء إيمانا به حتى مع عدم الالتزام بلوازمه و آثاره فإن الإيمان علم بالشي‏ء مع السكون و الاطمئنان إليه و لا ينفك السكون إلى الشي‏ء من الالتزام بلوازمه لكن العلم ربما ينفك من السكون و الالتزام ككثير من المعتادين بالأعمال الشنيعة أو المضرة فإنهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد و قد قال تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ: النمل - ١٤.

و الإيمان و إن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانية يصرف عنه لكنه لا يتخلف عن لوازمه بالجملة.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ الخشوع‏ تأثر خاص من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجه إليه و الظاهر أنه من صفات القلب ثم ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية

كقوله (ص) على ما روي: فيمن يعبث بلحيته

 

 

 في الصلاة: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه‏، و قوله تعالى: ﴿وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ: طه: ١٠٨.

و الخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني التي فسر بها الخشوع في الآية، كقول بعضهم: هو الخوف و سكون الجوارح، و قول آخرين: غض البصر و خفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يمينا و شمالا، أو إعظام المقام و جمع الاهتمام، أو التذلل إلى غير ذلك.

و هذه الآية إلى تمام ثماني آيات تذكر من أوصاف المؤمنين ما يلازم كون وصف الإيمان حيا فعالا يترتب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتب عليه الغرض المطلوب منه و هو الفلاح فإن الصلاة توجه ممن ليس له إلا الفقر و الذلة إلى ساحة العظمة و الكبرياء و منبع العزة و البهاء و لازمه أن يتأثر الإنسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلة و الهوان و ينتزع قلبه عن كل ما يلهوه و يشغله عما يهمه و يواجهه، فلو كان إيمانه إيمانا صادقا جعل همه حين التوجه إلى ربه هما واحدا و شغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره فما ذا يفعل الفقير المحض إذا لقي غني لا يقدر بقدر؟ و الذليل إذا واجه عزة مطلقة لا يشوبها ذلة و هوان؟ و هذا معنى

‏ قوله (ص) في حديث حارثة بن النعمان المروي في الكافي، و غيره: إن لكل حق حقيقة و لكل صواب نورا. الحديث.

كلام في معنى تأثير الإيمان‏

الدين كما تقدم مرارا السنة الاجتماعية التي يسير بها الإنسان في حياته الدنيوية الاجتماعية، و السنن الاجتماعية متعلقة بالعمل مبنيا على أساس الاعتقاد في حقيقة الكون و الإنسان الذي هو جزء من أجزائه، و من هنا ما نرى أن السنن الاجتماعية تختلف باختلاف الاعتقادات فيما ذكر.

فمن يثبت للكون ربا يبتدئ منه و سيعود إليه و للإنسان حياة باقية لا تبطل بموت و لا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الأعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية و التنعم في الدار الآخرة الخالدة.

 

 

 و من يثبت له إلها أو آلهة تدبر الأمر بالرضا و السخط من غير معاد إليه يعيش عيشة نظمها على أساس التقرب من الآلهة و إرضائها للفوز بأمتعة الحياة و الظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا.

و من لا يهتم بأمر الربوبية و لا يرى للإنسان حياة خالدة كالماديين و من يحذو حذوهم يبني سنة الحياة و القوانين الموضوعة الجارية في مجتمعة على أساس التمتع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت.

فالدين سنة عملية مبنية على الاعتقاد في أمر الكون و الإنسان بما أنه جزء من أجزائه، و ليس هذا الاعتقاد هو العلم النظري المتعلق بالكون و الإنسان فإن العلم النظري لا يستتبع بنفسه عملا و إن توقف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر و إن شئت فقل: الحكم بوجوب اتباع المعلوم النظري و الالتزام به و هو العلم العملي كقولنا: يجب أن يعبد الإنسان الإله تعالى و يراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا و الآخرة معا.

و معلوم أن الدعوة الدينية متعلقة بالدين الذي هو السنة العملية المبنية على الاعتقاد، فالإيمان الذي يتعلق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحق في الله سبحانه و رسله و اليوم الآخر و ما جاءت به رسله و هو علم عملي.

و العلوم العملية تشتد و تضعف حسب قوة الدواعي و ضعفها فإنا لسنا نعمل عملا قط إلا طمعا في خير أو نفع أو خوفا من شر أو ضرر، و ربما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثم صرفنا عنه داع آخر أقوى منه و آثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنه مضر له مناف لصحته، فبالحقيقة يقيد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الذي مع الداعي الممنوع كأنه يقول مثلا:

إن التغذي لرفع الجوع ليس يجب مطلقا بل إنما يجب إذا لم يكن مضرا بالبدن مضادا لصحته.

و من هنا يظهر أن الإيمان بالله إنما يؤثر أثره من الأعمال الصالحة و الصفات الجميلة النفسانية كالخشية و الخشوع و الإخلاص و نحوها إذا لم تغلبه الدواعي الباطلة و التسويلات الشيطانية، و بعبارة أخرى إذا لم يكن إيمانا مقيدا بحال دون حال كما قال تعالى:

﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلى‏َ حَرْفٍ: الحج - ٦١.

 

 

 فالمؤمن إنما يكون مؤمنا على الإطلاق إذا جرت أعماله على حاق ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته و الإعراض عن اللغو و نحوه.

بيان

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ اللغو من الفعل هو ما لا فائدة فيه و يختلف باختلاف الأمور التي تعود عليها الفائدة فرب فعل هو لغو بالنسبة إلى أمر و هو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر.

فاللغو من الأفعال في نظر الدين الأعمال المباحة التي لا ينتفع بها في الآخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضا إلى الآخرة كالأكل و الشرب بداعي شهوة التغذي اللذين يتفرع عليهما التقوي على طاعة الله و عبادته، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة و لا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو و بنظر أدق هو ما عدا الواجبات و المستحبات من الأفعال.

و لم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقا فإن الإنسان في معرض العثرة و مزلة الخطيئة و قد عفا عن السيئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً: النساء: ٣١.

بل وصفهم بالإعراض عن اللغو دون مطلق تركه و الإعراض يقتضي أمرا بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الإنسان صارفا وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به و اعتنائه بشأنه، و لازمه ترفع النفس عن الأعمال الخسيسة و اعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف و الكرامة و تعلقها بعظائم الأمور و جلائل المقاصد.

و من حق الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإن فيه تعلقا بساحة العظمة و الكبرياء و منبع العزة و المجد و البهاء و المتصف به لا يهتم إلا بحياة سعيدة أبدية خالدة فلا يشتغل إلا بما يستعظمه الحق و لا يستعظم ما يهتم به سفلة الناس و جهلتهم‏﴿ وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً، ﴿وَ إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً.

و من هنا يظهر أن وصفهم بالإعراض عن اللغو كناية عن علو همتهم و كرامة نفوسهم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الإنفاق المالي دون الزكاة بمعنى تطهير النفس بإزالة رذائل الأخلاق عنها و لعل المراد بالزكاة المعنى المصدري و هو تطهير المال بالإنفاق منه دون المقدار المخرج من المال

 

 

 فإن السورة مكية و تشريع الزكاة المعهودة في الإسلام إنما كان بالمدينة ثم صار لفظ الزكاة علما بالغلبة للمقدار المعين المخرج من المال.

و بهذا يستصح تعلق ﴿لِلزَّكَاةِ بقوله: ﴿فَاعِلُونَ و المعنى: الذين هم فاعلون للإنفاق المالي و أما لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصح تعلقه به إذ المال المخرج ليس فعلا متعلقا بفاعل، و لذا قدر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده و الذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، و لذا أيضا فسر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الأخلاق الرذيلة فرارا من تعلق ﴿لِلزَّكَاةِ بقوله: ﴿فَاعِلُونَ.

و في التعبير بقوله: ﴿لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ دون أن يقول للزكاة مؤدون أو ما يؤدي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إني شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إني فاعل.

و من حق الإيمان بالله أن يدعو إلى هذا الإنفاق المالي فإن الإنسان لا ينال كمال سعادته إلا في مجتمع سعيد ينال فيه كل ذي حق حقه و لا سعادة لمجتمع إلا مع تقارب الطبقات في التمتع من مزايا الحياة و أمتعة العيش، و الإنفاق المالي على الفقراء و المساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج‏ جمع فرج و هو على ما قيل ما يسوء ذكره من الرجال و النساء، و حفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطا أو بإتيان البهائم و غير ذلك.

و قوله: ﴿إِلاَّ عَلى‏َ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ استثناء من حفظ الفروج، و الأزواج‏ الحلائل من النساء، و ما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنهم غير ملومين في مس الأزواج الحلائل و الجواري المملوكة.

و قوله: ﴿فَمَنِ اِبْتَغى‏َ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ تفريع على ما تقدم من الاستثناء و المستثنى منه أي إذا كان مقتضى الإيمان حفظ الفروج مطلقا إلا عن طائفتين من النساء هما الأزواج و ما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مس غير الطائفتين فأولئك هم المتجاوزون عن الحد الذي حده الله تعالى لهم.

و قد تقدم كلام ما فيما يستعقبه الزنا من فساد النوع في ذيل قوله: ﴿وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى‏َ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً: إسراء - ٣٢ في الجزء الثالث عشر من الكتاب.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ الأمانة مصدر في الأصل و ربما أريد به ما اؤتمن عليه من مال و نحوه، و هو المراد في الآية، و لعل جمعه للدلالة على أقسام الأمانات الدائرة بين الناس، و ربما قيل بعموم الأمانات لكل تكليف إلهي اؤتمن عليه الإنسان و ما اؤتمن عليه من أعضائه و جوارحه و قواه أن يستعملها فيما فيه رضا الله و ما ائتمنه عليه الناس من الأموال و غيرها، و لا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ و إن كان صحيحا من جهة تحليل المعنى و تعميمه.

و العهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر و اليمين، و يمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجه إلى المؤمن فإن الله سبحانه سمى إيمان المؤمن به عهدا و ميثاقا منه على ما توجه إليه من تكاليفه تعالى بقوله: ﴿أَ وَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: البقرة - ١٠٠، و قوله: ﴿وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ: الأحزاب - ١٥، و لعل إرادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لأن جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بإيمان واحد.

و الرعاية الحفظ، و قد قيل: إن أصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه ثم استعمل في الحفظ مطلقا. انتهى. و لعل العكس أقرب إلى الاعتبار.

و بالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الأمانات من أن تخان و العهد من أن ينقض، و من حق الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإن في إيمانه معنى السكون و الاستقرار و الاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده و قطع على ذلك استقر عليه و لم يتزلزل بخيانة أو نقض.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏َ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ جمع الصلاة و تعليق المحافظة عليه دليل على أن المراد المحافظة على العدد فهم يحافظون على أن لا يفوتهم شي‏ء من الصلوات المفروضة و يراقبونها دائما و من حق إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك.

و لذلك جمعت الصلاة هاهنا و أفردت في قوله: ﴿فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ لأن الخشوع في جنس الصلاة على حد سواء فلا موجب لجمعها.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

 

 

الفردوس أعلى الجنان، و قد تقدم معناها و شي‏ء من وصفها في ذيل قوله تعالى: ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً: الكهف - ١٠٧.

و قوله: ﴿اَلَّذِينَ يَرِثُونَ إلخ، بيان لقوله: ﴿اَلْوَارِثُونَ و وراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، و قد ورد في الروايات أن لكل إنسان منزلا في الجنة و منزلا في النار فإذا مات و دخل النار ورث أهل الجنة منزله، و ستوافيك إن شاء الله في بحث روائي.

(بحث روائي)

في تفسير القمي، :و قوله: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ قال: غضك بصرك في صلاتك و إقبالك عليها.

أقول: و قد تقدم أنه من لوازم الخشوع فهو تعريف بلازم المعنى،

 و نظيره ما رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن علي (عليه السلام): أن لا تلتفت في صلاتك. و في الكافي، بإسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.

 أقول: و روي في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي الدرداء عنه (ص) ما في معناه و لفظه: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: و ما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا و القلب ليس بخاشع‏ و في المجمع،: في الآية روي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال:

أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

 و فيه، روي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلما نزلت الآية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.

أقول: و رواهما في الدر المنثور، عن جمع من أصحاب الكتب عنه (ص). و في معنى الخشوع روايات أخر كثيرة.

 و في إرشاد المفيد، في كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام): كل قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو.

 

 

 و في المجمع،: في قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ: و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله و في رواية أخرى أنه الغناء و الملاهي.

 أقول: ما في روايتي المجمع، من قبيل ذكر بعض المصاديق و ما في رواية الإرشاد، من التعميم بالتحليل و في الخصال، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): تحل الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث و نكاح بلا ميراث و نكاح بملك يمين‏

 و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عنها يعني المتعة فقال لي: حلال فلا تتزوج إلا عفيفة إن الله عز و جل يقول: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك.

 أقول: و فيه تعميم لمعنى حفظ الفروج بحيث يشمل ترك نكاح غير العفيفة.

و الروايتان كما ترى تعدان المتعة نكاحا و ازدواجا و الأمر على ذلك فيما لا يحصى من روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) و على ذلك مبني فقههم.

و الأمر على ذلك في عرف القرآن و في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذلك أنه ليس وراء ملك اليمين إلا نوعان نكاح على الزوجية و زنا و قد حرم الله الزنا و أكد في تحريمه في آيات كثيرة في السور المكية و المدنية كسورتي الفرقان و الإسراء و هما مكيتان و سورتي النور و الممتحنة و هما مدنيتان.

ثم سماه سفاحا و حرمه في سورتي النساء و المائدة ثم سماه فحشاء و منع عنه و ذمه في سور الأعراف و العنكبوت و يوسف و هي مكية و في سور النحل و البقرة و النور و هي أو الأخيرتان مدنيتان.

ثم سماه فاحشة و نهى عنها في سور الأعراف و الأنعام و الإسراء و النمل و العنكبوت و الشورى و النجم و هي مكية و في سور النساء و النور و الأحزاب و الطلاق و هي مدنية.

و نهى عنه أيضا بالتكنية في آية المؤمنون: ﴿فَمَنِ اِبْتَغى‏َ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ و نظيره في سورة المعارج و كان من المعروف في أول البعثة من أمر الإسلام

 

 

 أنه يحرم الخمر و الزنا[1].

فلو لم يكن التمتع ازدواجا و المتمتع بها زوجا مشمولة لقوله: ﴿إِلاَّ عَلى‏َ أَزْوَاجِهِمْ لكان زنا و من المعلوم بالضرورة أن التمتع كان معمولا به في مكة قبل الهجرة في الجملة و كذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة و لازم ذلك أن يكون زنا أباحه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لضرورة اقتضته لو أغمضنا عن قوله تعالى: ﴿فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: النساء: ٢٤ و لازم ذلك أن تكون آية سورة المؤمنون ﴿إِلاَّ عَلى‏َ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ إلى قوله ﴿اَلعَادُونَ، ناسخة لإباحة التمتع السابقة ثم يكون تحليل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو تحليل آية سورة النساء ذلك ناسخا لجميع الآيات المكية الناهية عن الزنا و بعض المدنيات مما نزلت قبل التحليل، و خاصة على قول من يقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حلله ثم حرمه مرة[2] بعد مرة فإن لازمه نسخ الآيات الناهية عن الزنا ثم إحكامها ثم نسخها ثم إحكامها مرات و لم يقل أحد من المسلمين بكونها منسوخة فضلا عن النسخ بعد النسخ و هل هذا إلا لعب بكلام الله تجل عنه ساحة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟.

على أن الآيات الناهية عن الزنا آبية بسياقها و ما فيه من التعليل آب عن النسخ و كيف يعقل أن يسمي الله سبحانه فعلا من الأفعال فاحشة فحشاء و سبيل سوء و يخبر أن من يفعله يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا ثم يجيز ارتكابه ثم يمنع ثم يجيز.

على أن أصل نسخ القرآن بالحديث لا معنى له‏[3].

على أن عدة من المرتكبين لنكاح المتعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كانوا من معاريف الصحابة و هم على ما هم عليه من حفظ ظواهر الأحكام فكيف استجازوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الفحشاء؟ و كيف لم يستخبثوه؟ و كيف رضوا بالعار و الشنار و قد تمتع زبير من

 

 

 أسماء بنت أبي بكر فولدت له عبد الله بن زبير و أخاه عروة بن زبير و ورثاه بعد قتله و هم جميعا من الصحابة.

على أن الروايات الدالة على نهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن المتعة متهافتة، و ما تسلموا عليه من قول عمر بن الخطاب حينما نهى أيام خلافته عن المتعة و ما ورد عنه حول القصة يكذب هذه الروايات و يدفع حديث النسخ. و قد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً: النساء - ٢٤.

و من لطيف الدلالة على كون المتعة نكاحا غير سفاح اقتران جملة ﴿فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ إلخ بقوله قبله متصلا به ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ.

فقد تبين بما ذكرنا أن المتعة في الشرع و في عرف القرآن نكاح و زوجية لا زنا و سفاح سواء قلنا بكونها منسوخة بعد بكتاب أو سنة كما عليه معظم أهل السنة أو لم نقل كما عليه الشيعة تبعا لأئمة أهل البيت (عليه السلام).

فالنكاح ينقسم إلى نوعين: نكاح دائم له أحكامه من العدد و الإرث و الإحصان و النفقة و الفراش و العدة و غير ذلك. و نكاح موقت مبني على التسهيل له من أحكام النكاح الدائم اختصاص المرأة بالرجل و لحقوق الأولاد و العدة.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره جمع منهم أن المتعة ليست بزوجية و لو كانت زوجية لجرت فيها أحكامها من العدد و الميراث و النفقة و الإحصان و غير ذلك و ذلك أن الزوجية تتقسم إلى دائمة لها أحكامها و موقتة مبنية على التسهيل يجري فيها بعض تلك الأحكام كما تقدم.

و الإشكال بأن تشريع الازدواج إنما هو للتناسل بدوام الزوجية و الغرض من المتعة مجرد دفع الشهوة بصب الماء و سفحه فهي سفاح و ليست بنكاح.

فيه أن التوسل إلى النسل حكمة لا علة يدور مدارها التشريع و إلا لم يجز نكاح العاقر و اليائسة و الصبي و الصبية.

على أن المتعة لا تنافي الاستيلاد و من الشاهد على ذلك عبد الله و عروة ابنا زبير أولدا له من أسماء بنت أبي بكر من المتعة.

 

 

 و كذا الإشكال بأن المتعة تجعل المرأة ملعبة يلعب بها الرجل كالكرة الدائرة بين الصوالج ذكره صاحب المنار و غيره.

فيه أن هذا يرد أول ما يرد على الشارع فإن من الضروري أن المتعة كانت دائرة في صدر الإسلام برهة من الزمان فما أجاب به الشارع كان هو جوابنا.

و ثانيا أن جميع ما يقصد بالمتعة من لذة أو دفع شهوة أو استيلاد أو استئناس أو غير ذلك مشتركة بين الرجل و المرأة فلا معنى لجعلها ملعبة له دون العكس إلا أن يكابر مكابر.

و للكلام تتمة ستوافيك في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن ابن أبي مليكة قال :سألت عائشة عن متعة النساء قالت: بيني و بينكم كتاب الله و قرأت ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلى‏ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا. أقول: و روي نظيره عن القاسم بن محمد، و قد تبين بما قدمنا أن المتمتع بها زوج و أن الآية تجيزها على خلاف ما في الرواية.

و في تفسير القمي، : ﴿فَمَنِ اِبْتَغى‏ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ قال: من جاوز ذلك.

 و فيه، :﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ قال: على أوقاتها و حدودها.

 و في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل : ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏َ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ قال هي الفريضة قلت:

﴿اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏َ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ قال: هي النافلة.

و في المجمع، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان:

منزل في الجنة و منزل في النار فإن مات و دخل النار ورث أهل الجنة منزله:

أقول: و روى مثله القمي في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث مفصل و تقدم نظيره في قوله تعالى: ﴿وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ: مريم: ٣٩ في الجزء السابق من الكتاب.

 

 

 (بحث حقوقي اجتماعي)

لا ريب أن الذي يدعو الإنسان و يبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعية أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشري تنبهه لحوائج الحياة و توسله بوضعها و العمل بها إلى رفعها.

و كلما كانت الحاجة أبسط و إلى الطبيعة الساذجة أقرب كان التوسل إلى رفعها أوجب و الإهمال في دفعها أدهى و أضر فما الحاجة إلى أصل التغذي و الحياة تدور معه كالحاجة إلى التنعم بألوان الطعام و أنواع الفواكه و هكذا.

و من الحوائج الأولية الإنسانية حاجة كل من صنفيه: الذكور و الإناث إلى الآخرين بالنكاح و المباشرة، و لا ريب أن المطلوب بالنظر إلى الصنع و الإيجاد بذلك بقاء النسل و قد جهز الإنسان بغريزة شهوة النكاح للتوسل به إلى ذلك.

و لذلك نجد المجتمعات الإنسانية التي نشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنة بسنة الازدواج و تكوين البيت، و على ذلك كانت منذ أقدم عهودها فلم يضمن بقاء النسل إلا الازدواج.

و لا يدفع هذا الذي ذكرنا أن المدنية الحديثة وضعت سنة الازدواج على أصل الاشتراك في الحياة دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة فإن هذا البناء على كونه بناء محدثا غير طبيعي لم يبعث حتى الآن شيئا من المجتمعات المستنة بها على شيوع هذه الشركة الحيوية بين الرجال أنفسهم أو النساء أنفسهن و ليس إلا لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الإنسانية.

و بالجملة الازدواج سنة طبيعية لم تزل و لا تزال دائرة في المجتمعات البشرية و لا يزاحم هذه السنة الطبيعية في مسيرها إلا عمل الزنا الذي هو أقوى مانع من تكون البيوت و تحمل كلفة الازدواج و حمل أثقاله بانصراف غريزة الشهوة إليه المستلزم لانهدام البيت و انقطاع النسل.

و لذا كانت المجتمعات الدينية أو الطبيعة الساذجة تستشنعها و تعدها فاحشة منكرة و تتوسل إلى المنع عنه بأي وسيلة ممكنة، و المجتمعات المتمدنة الحديثة و إن لم

 

 

 تسد سبيله بالجملة و لم تمنع عنه ذلك المنع لكنها مع ذلك لا تستحسنه لما ترى من مضادته العميقة لتكون البيوت و ازدياد النفوس و بقاء النسل، و تحتال إلى تقليله بلطائف الحيل و تروج سنة الازدواج و تدعو إلى تكثير الأولاد بجعل الجوائز و ترفيع الدرجات و غير ذلك من المشوقات.

غير أنه على الرغم من كون سنة الازدواج الدائم سنة قانونية متبعة في جميع المجتمعات الإنسانية في العالم و تحريض الدول عليها و احتيالها لتضعيف أمر الزنا و صرف الناس لا سيما الشبان و الفتيات عنه لا يزال يوجد في جميع البلاد صغيرتها و كبيرتها معاهد لهذا العمل الهادم لبنية المجتمع علنية أو سرية على اختلاف السنن الجارية فيها.

و هذا أوضح حجة على أن سنة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيوية للنوع، و أن الإنسانية بعد في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه، و أن من الواجب على من بيده زمام التقنين أن يتوسع في أمر الازدواج.

و لذلك شفع شارع الإسلام سنة الازدواج الدائم بسنة الازدواج الموقت تسهيلا للأمر و شرط فيه شروطا ترتفع بها محاذير الزنا من اختلاط المياه و اختلال الأنساب و المواريث و انهدام البيوت و انقطاع النسل و عدم لحوق الأولاد و هي اختصاص المرأة بالرجل و العدة إذا افترقا و لحوق الأولاد ثم لها ما اشترطت على زوجها و ليس فيه على الرجل شي‏ء من كلفة الازدواج الدائم و مشقته.

و لعمر الحق إنها لمن مفاخر الإسلام في شريعته السهلة السمحة نظير الطلاق و تعدد الزوجات و كثير من قوانينه و لكن ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يسمعون يقول القائل: لئن أزني أحب إلي من أن أتمتع أو أمتع.

[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ١٢ الی ٢٢]

﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ١٢ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ١٣ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً

 

 

﴿آخَرَ فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ ١٤ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ١٥ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ١٦ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَ مَا كُنَّا عَنِ اَلْخَلْقِ غَافِلِينَ ١٧ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى‏ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ١٨ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ١٩ وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ٢٠ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ٢١ وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ٢٢  

بيان‏

لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الأوصاف الجميلة عقبه بشرح خلقهم و خلق ما أنعم عليهم من النعم مقرونا بتدبير أمرهم تدبيرا مخلوطا بالخلق لينكشف به أنه هو رب للإنسان و لكل شي‏ء الواجب أن يعبد وحده لا شريك له.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ قال في المجمع،: السلالة اسم لما يسل من الشي‏ء كالكساحة اسم لما يكسح انتهى. و ظاهر السياق أن المراد بالإنسان هو النوع فيشمل آدم و من دونه و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائي الذي خلق به آدم من الطين ثم جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله: ﴿وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ: الم السجدة: ٨.

 

 

 و يؤيده قوله بعد: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثم خلقناه نطفة كما قيل: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً إلخ.

و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأن المراد به آدم (عليه السلام) غير سديد.

و أصل الخلق‏ كما قيل التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئا من اللباس فالمعنى و لقد قدرنا الإنسان أولا من سلالة من أجزاء الأرض المخلوطة بالماء.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ النطفة القليل من الماء و ربما يطلق على مطلق الماء و القرار مصدر أريد به المقر مبالغة و المراد به الرحم التي تستقر فيها النطفة، و المكين‏ المتمكن وصفت به الرحم لتمكنها في حفظ النطفة من الضيعة و الفساد أو لكون النطفة مستقرة متمكنة فيها.

و المعنى ثم جعلنا الإنسان نطفة في مستقر متمكن هي الرحم كما خلقناه أولا من سلالة من طين أي بدلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً إلى قوله ﴿فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً تقدم بيان مفردات الآية في الآية ٥ من سورة الحج في الجزء السابق من الكتاب و في قوله:

﴿فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ الإنشاء كما ذكره الراغب - إيجاد الشي‏ء و تربيته كما أن النش‏ء و النشأة إحداثه و تربيته كما يقال للشاب الحديث السن ناشئ.

و قد غير السياق من الخلق إلى الإنشاء فقال: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ دون أن يقال: ثم خلقناه إلخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمنه و لا يقارنه ما تقدمه من مادة فإن العلقة مثلا و إن خالفت النطفة في أوصافها و خواصها من لون و طعم و غير ذلك إلا أن في النطفة مكان كل من هذه الأوصاف و الخواص ما يجانسه و إن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة و هما جميعا لون بخلاف ما أنشأه الله أخيرا و هو الإنسان الذي له حياة و علم و قدرة فإن ما له من جوهر الذات و هو الذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة و العلقة و المضغة و العظام المكسوة لحما شي‏ء،

 

 

 و لا سبق فيها شي‏ء يناظر ما له من الخواص و الأوصاف كالحياة و القدرة و العلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم.

و الضمير في ﴿أَنْشَأْنَاهُ على ما يعطيه السياق للإنسان المخلوق عظاما مكسوة باللحم فهو الذي أنشأ و أحدث خلقا آخر أي بدل و هو مادة ميتة جاهلة عاجزة موجودا ذا حياة و علم و قدرة، فقد كان مادة لها صفاتها و خواصها ثم برز و هو يغاير سابقته في الذات و الصفات و الخواص، فهو تلك المادة السابقة فإنها التي صارت إنسانا، و ليس بها إذ لا يشاركها في ذات و لا صفات، و إنما له نوع اتحاد معها و تعلق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم.

و هذا هو الذي يستفاد من مثل قوله: ﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ: الم السجدة: ١١، فالمتوفى و المأخوذ عند الموت هو الإنسان، و المتلاشي الضال في الأرض هو البدن و ليس به.

و قد اختلف العطف في مفردات الآية بالفاء و ثم، و قد قيل في وجهه إن ما عطف بثم له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً، ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ، و ما لم يكن بتلك البينونة و البعد عطف بالفاء كقوله: ﴿فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً.

قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ قال الراغب: أصل البرك‏ بالفتح فالسكون صدر البعير. قال: و برك البعير ألقى ركبه و اعتبر منه معنى اللزوم.

قال: و سمي محبس الماء بركة بالكسر فالسكون و البركة ثبوت الخير الإلهي في الشي‏ء قال تعالى: «﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ و سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة و المبارك‏ ما فيه ذلك الخير.

قال: و لما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك و فيه بركة. انتهى.

فالتبارك منه تعالى اختصاص بالخير الكثير الذي يجود به و يفيضه على خلقه و قد تقدم أن الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كله في تقديره و هو إيجاد

 

 

 الأشياء و تركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها و تناسب ما وراءها و من ذلك ينتشر الخير الكثير.

و وصفه تعالى بأحسن الخالقين يدل على عدم اختصاص الخلق به و هو كذلك لما تقدم أن معناه التقدير و قياس الشي‏ء من الشي‏ء لا يختص به تعالى، و في كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله: ﴿وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ: المائدة: ١١٠ و قوله: ﴿وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً: العنكبوت: ١٧.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ بيان لتمام التدبير الإلهي و أن الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير، و أنه حق كما تقدم في قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً: الأنبياء: ٣٥.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ و هذا تمام التدبير و هو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الإنسان إذا حل بها لزمها و لا يزال قاطنا بها.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَ مَا كُنَّا عَنِ اَلْخَلْقِ غَافِلِينَ، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله: ﴿فَوْقَكُمْ السماوات السبع و قد سماها طرائق - جمع طريقة - و هي السبيل المطروقة لأنها ممر الأمر النازل من عنده تعالى إلى الأرض، قال تعالى: ﴿يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ: الطلاق - ١٢، و قال: ﴿يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ: الم السجدة - ٥، و السبل التي تسلكها الأعمال في صعودها إلى الله و الملائكة في هبوطهم و عروجهم كما قال: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ: فاطر - ١٠، و قال: ﴿وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ: مريم - ٦٤.

و بذلك يتضح اتصال ذيل الآية ﴿وَ مَا كُنَّا عَنِ اَلْخَلْقِ غَافِلِينَ بصدرها أي لستم بمنقطعين عنا و لا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا و بينكم يتطرقها رسل الملائكة بالنزول و الصعود و ينزل منها أمرنا إليكم و تصعد منها أعمالكم إلينا.

و بذلك كله يظهر ما في قول بعضهم: إن الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، و قول آخرين: إنها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة.

على أن اتصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بين.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى‏َ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ المراد بالسماء جهة العلو فإن ما علاك و أظلك فهو سماء، و المراد بالماء النازل منها ماء المطر.

و في قوله: ﴿بِقَدَرٍ دلالة على أن الذي نزل إنما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التام الإلهي الذي يقدره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدر و لا ينقص، و فيه تلميح أيضا إلى قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر: ٢١.

و المعنى: و أنزلنا من جهة العلو ماء بقدر و هو ماء المطر فأسكناه في الأرض و هو الذخائر المدخرة من الماء في الجبال و السهول تتفجر عنه العيون و الأنهار و تكشف عنه الآبار، و إنا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الذي أسكناه في الأرض نوعا من الذهاب لا تهتدون إلى علمه.

قوله تعالى: ﴿فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ إلى آخر الآية، إنشاء الجنات إحداثها و تربيتها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على ﴿جَنَّاتٍ أي و أنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، و المراد بها شجرة الزيتون التي تكثر في طور سيناء، و قوله: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تثمر ثمرة فيها الدهن و هو الزيت فهي تنبت بالدهن، و قوله: ﴿وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ أي و تنبت بصبغ للآكلين، و الصبغ‏ بالكسر فالسكون الإدام الذي يؤتدم به، و إنما خص شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا إلخ، العبرة الدلالة يستدل بها على أنه تعالى مدبر لأمر خلقه حنين بهم رءوف رحيم، و المراد بسقيه تعالى مما في بطونها أنه رزقهم من ألبانها، و المراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها و شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و منها يأكلون.

قوله تعالى: ﴿وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ضمير ﴿عَلَيْهَا للأنعام و الحمل على الأنعام هو الحمل على الإبل، و هو حمل في البر و يقابله الحمل في البحر و هو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله: ﴿وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ: إسراء: ٧٠، و الفلك‏ جمع فلكة و هي السفينة.

 

 

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ يعني نفخ الروح فيه.

 و في الكافي، بإسناده عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين يوما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى؟ فيؤمران فيقولان: يا رب شقي أو سعيد؟ فيؤمران فيقولان: يا رب ما أجله و ما رزقه و كل شي‏ء من حاله؟ و عدد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه.

فإذا كمل الأجل بعث الله إليه ملكا فزجره زجرة فيخرج و قد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أ فيجوز أن يدعو الله فيحول الأنثى ذكرا أو الذكر أنثى؟ فقال: إن الله يفعل ما يشاء.

أقول: و الرواية مروية عن أبي جعفر (عليه السلام) بطرق أخرى و ألفاظ متقاربة.

و في تفسير القمي، قوله عز و جل ﴿وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ قال: شجرة الزيتون، و هو مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) فالطور الجبل و سيناء الشجرة.

 و في المجمع،: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه و ادهنوا.

 [سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ٢٣ الی ٥٤]

﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٢٣ فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ

 

 

﴿مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ ٢٤ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ٢٥ قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ٢٦ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ٢٧ فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى اَلْفُلْكِ فَقُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي نَجَّانَا مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٢٨ وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ ٢٩ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ٣٠ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ٣١ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٣٢ وَ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنَاهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ٣٣ وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ ٣٤ أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرَاباً وَ عِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ٣٥ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ٣٦ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ٣٧ إِنْ هُوَ

 

 

﴿إِلاَّ رَجُلٌ اِفْتَرىَ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً وَ مَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ٣٨ قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ٣٩ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ٤٠ فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٤١ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ٤٢ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ ٤٣ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ ٤٤ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسى‏ وَ أَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ ٤٥ إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً عَالِينَ ٤٦ فَقَالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَ قَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ٤٧ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ ٤٨ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ٤٩ وَ جَعَلْنَا اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنَاهُمَا إِلى‏ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ ٥٠ يَا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ٥١ وَ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ٥٢ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ٥٣ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ٥٤

(بيان)

بعد ما عد نعمه العظام على الناس عقبه في هذه الآيات بذكر دعوتهم إلى توحيد

 

 

 عبادته من طريق الرسالة و قص إجمال دعوة الرسل من لدن نوح إلى عيسى بن مريم (عليه السلام)، و لم يصرح من أسمائهم إلا باسم نوح و هو أول الناهضين لدعوة التوحيد و اسم موسى و عيسى (عليه السلام) و هما في آخرهم، و أبهم أسماء الباقين غير أنه صرح باتصال الدعوة و تواتر الرسل، و أن الناس لم يستجيبوا إلا بالكفر بآيات الله و الكفران لنعمه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى‏َ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ قد تقدم في قصص نوح (عليه السلام) من سورة هود أنه أول أولي العزم من الرسل أصحاب الكتب و الشرائع المبعوثين إلى عامة البشر و الناهضين للتوحيد و نفي الشرك، فالمراد بقومه أمته و أهل عصره عامة.

و قوله: ﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ دعوة إلى عبادة الله و رفض عبادة الآلهة من دونه فإن الوثنيين إنما يعبدون غيره من الملائكة و الجن و القديسين بدعوى ألوهيتهم أي كونهم معبودين من دونه.

قال بعض المفسرين: إن معنى ﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله في سورة هود: ﴿أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ و ترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط و أما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شي‏ء رأسا. انتهى.

و فيه غفلة أو ذهول عن أن الوثنيين لا يعبدون الله سبحانه أصلا بناء على أن العبادة توجه من العابد إلى المعبود، و الله سبحانه أجل من أن يحيط به توجه متوجه أو علم عالم، فالوجه أن يتقرب إلى خاصة خلقه من الملائكة و غيره ليشفعوا عنده و يقربوا منه، و العبادة بإزاء التدبير و أمر التدبير مفوض إليهم منه تعالى فهم الآلهة المعبودون و الأرباب من دونه.

و من هنا يظهر أنه لو جازت عبادته تعالى عندهم لم يجز إلا عبادته وحده لأنهم لا يرتابون في أنه تعالى رب الأرباب موجد الكل و لو صحت عبادته لم تجز إلا عبادته وحده و لم تصح عبادة غيره لكنهم لا يرون صحتها بناء على ما زعموه من الوجه المتقدم.

فقوله (عليه السلام) لقومه الوثنيين: ﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ في معنى أن يقال: اعبدوا الله وحده كما ورد في سورة هود ﴿أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ، و قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ في معنى أن يقال: ما لكم من معبود سواه لأنه لا رب غيره يدبر أمركم حتى تعبدوه ـ

 

 

رجاء لرحمته أو خوفا من سخطه، و قوله بالتفريع على ذلك: ﴿أَ فَلاَ تَتَّقُونَ أي إذا لم يكن لكم رب يدبر أموركم دونه أ فلا تتقون عذابه حيث لا تعبدونه و تكفرون به؟ قوله تعالى: ﴿فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلى قوله ﴿حَتَّى حِينٍ ملأ القوم أشرافهم، و وصفهم بقوله: ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف توضيحي لا احترازي إذ لم يؤمن به من ملإ قومه أحد بدليل قولهم على ما حكاه الله: ﴿وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ: هود - ٢٧.

و السياق يدل على أن الملأ كانوا يخاطبون بمضمون الآيتين عامة الناس لصرف وجوههم عنه و إغرائهم عليه و تحريضهم على إيذائه و إسكاته، و ما حكاه تعالى من أقاويلهم في الآيتين وجوه أربعة أو خمسة من فرية أو مغالطة لفقوها و احتجوا بها على بطلان دعوته.

الأول قولهم: ﴿مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ و محصله أنه بشر مثلكم فلو كان صادقا فيما يدعيه من الوحي الإلهي و الاتصال بالغيب كان نظير ما يدعيه متحققا فيكم إذ لا تنقصون منه في شي‏ء من البشرية و لوازمها، و لم يتحقق فهو كاذب و كيف يمكن أن يكون كمال في وسع البشر أن يناله ثم لا يناله إلا واحد منهم فقط ثم يدعيه من غير شاهد يشهد عليه؟ فلم يبق إلا أنه يريد بهذه الدعوة أن يتفضل عليكم و يترأس فيكم و يؤيده أنه يدعوكم إلى اتباعه و طاعته و هذه الحجة تنحل في الحقيقة إلى حجتين مختلقتين.

و الثاني قولهم: ﴿وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً و محصله أن الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبية لاختار لذلك الملائكة الذين هم المقربون عنده و الشفعاء الروابط بيننا و بينه فأرسلهم إلينا لا بشرا ممن لا نسبة بينه و بينه. على أن في نزولهم و اعترافهم بوجوب العبادة له تعالى وحده و عدم جواز اتخاذهم أربابا و آلهة معبودين آية بينة على صحة الدعوة و صدقها.

و التعبير عن إرسال الملائكة بإنزالهم إنما هو لكون إرسالهم يتحقق بالإنزال و التعبير بلفظ الجمع دون الإفراد لعله لكون المراد بهم الآلهة المتخذة منهم و هم كثيرون.

و الثالث قولهم: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ و محصله أنه لو كانت دعوته حقة لاتفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الإنسانية، و آباؤنا كانوا أفضل منا و أعقل و لم

 

 

 يتفق لهم و في أعصارهم ما يناظر هذه الدعوة فليست إلا بدعة و أحدوثة كاذبة.

و الرابع قولهم: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ الجنة إما مصدر أي به جنون أو مفرد الجن أي حل به من الجن من يتكلم على لسانه لأنه يدعي ما لا يقبله العقل السليم و يقول ما لا يقوله إلا مصاب في عقله فتربصوا و انتظروا به إلى حين ما لعله يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه.

و هذه حجج مختلقة ألقاها ملأ قومه إلى عامتهم أو ذكر كلا منها بعضهم و هي و إن كانت حججا جدلية مدخولة لكنهم كانوا ينتفعون بها حينما يلقونها إلى الناس فيصرفون وجوههم عنه و يغرونهم عليه و يمدون في ضلالهم.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ سؤال منه للنصر و الباء في قوله:

﴿بِمَا كَذَّبُونِ للبدلية و المعنى انصرني بدل تكذيبهم لي أو للآلة و عليه فالمعنى انصرني بالذي كذبوني فيه و هو العذاب فإنهم قالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ: هود - ٣٢، و يؤيده قول نوح: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً: نوح ٢٦، و فصل الآية لكونها في معنى جواب السؤال.

قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا إلى آخر الآية.

متفرع على سؤال النصر، و معنى صنع الفلك بأعينه صنعه بمرأى منه و هو كناية عن كونه تحت مراقبته تعالى و محافظته، و معنى كون الصنع بوحيه كونه بتعليمه الغيبي حالا بعد حال.

و قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ المراد بالأمر كما قيل حكمه الفصل بينه و بين قومه و قضاؤه فيهم بالغرق، و السياق يشهد على كون فوران التنور بالماء أمارة نزول العذاب عليهم و هو أعني فوران الماء من التنور و هو محل النار من عجيب الأمر في نفسه.

و قوله: ﴿فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ القراءة الدائرة ﴿مِنْ كُلٍّ بالتنوين و القطع عن الإضافة، و التقدير من كل نوع من الحيوان، و السلوك فيها الإدخال في الفلك و الظاهر أن ﴿مِنْ لابتداء الغاية و المعنى فأدخل في الفلك زوجين اثنين: ذكر و أنثى من كل نوع من الحيوان.

و قوله: ﴿وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ مِنْهُمْ معطوف على قوله: ﴿زَوْجَيْنِ

 

 

و ما قيل: إن عطف ﴿أَهْلَكَ على ﴿زَوْجَيْنِ يفسد المعنى المراد لرجوع التقدير حينئذ إلى قولنا: و اسلك فيها من كل نوع أهلك فالأولى تقدير ﴿فَاسْلُكْ ثانيا قبل ﴿أَهْلَكَ و عطفه على ﴿فَاسْلُكْ يدفعه أن ﴿مِنْ كُلٍّ في موضع الحال من ﴿زَوْجَيْنِ فهو متأخر عنه رتبة كما قدمنا تقديره فلا يعود ثانيا على المعطوف.

و المراد بالأهل خاصته، و الظاهر أنهم أهل بيته و المؤمنون به فقد ذكرهم في سورة هود مع الأهل و لم يذكر هاهنا إلا الأهل فقط.

و المراد بمن سبق عليه القول منهم امرأته الكافرة على ما فهم نوح (عليه السلام) و هي و ابنه الذي أبى ركوب السفينة و غرق حينما آوى إلى جبل في الحقيقة، و سبق القول هو القضاء المحتوم بالغرق.

و قوله: ﴿وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ النهي عن مخاطبته تعالى كناية عن النهي الشديد عن الشفاعة لهم، بدليل تعليق المخاطبة بالذين ظلموا و تعليل النهي بقوله: ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فكأنه قيل: أنهاك عن أصل تكليمي فيهم فضلا أن تشفع لهم فقد شملهم غضبي شمولا لا يدفعه دافع.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى اَلْفُلْكِ فَقُلِ إلى آخر الآيتين علمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك على تنجيته تعالى من القوم الظالمين و هذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتما، و أن يسأله أن ينجيه من الطوفان و ينزله على الأرض إنزالا مباركا ذا خير كثير ثابت فإنه خير المنزلين.

و في أمره (عليه السلام) أن يحمده و يصفه بالجميل دليل على أنه من عباده المخلصين فإنه تعالى منزه عما يصفه غيرهم كما قال: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ: الصافات: ١٦٠.

و قد اكتفى سبحانه في القصة بإخباره عن حكمه بغرقهم و أنهم مغرقون حتما و لم يذكر خبر غرقهم إيماء إلى أنهم آل بهم الأمر إلى أن لا خبر عنهم بعد ذلك، و إعظاما للقدرة و تهويلا للسخطة و تحقيرا لهم و استهانة بأمرهم، فالسكوت في هذه القصة عن هلاكهم أبلغ من قوله في القصة الآتية: ﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ من وجوه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ خطاب في آخر القصة للنبي

 

 

 (صلى الله عليه وآله و سلم) و بيان أن هذه الدعوة مع ما جرى معها كانت ابتلاء أي امتحانا و اختبارا إليها.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ إلى آخر الآية الثانية. القرن‏ أهل عصر واحد، و قوله: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ تفسير لإرسال الرسول من قبيل تفسير الفعل بنتيجته كقوله تعالى: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا: حم السجدة: ٣٠.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنَاهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا هؤلاء أشرافهم المتوغلون في الدنيا المخلدون إلى الأرض يغرون بقولهم هذا عامتهم على رسولهم.

و قد وصفهم الله بصفات ثلاث و هي: الكفر بالله بعبادة غيره، و التكذيب بلقاء الآخرة أي بلقاء الحياة الآخرة بقرينة مقابلتها لقوله: ﴿فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ، و لكفرهم بالمبدإ و المعاد انقطعوا عما وراء الدنيا فانكبوا عليها ثم لما أترفوا في الحياة الدنيا و تمكنوا من زخارفها و زيناتها الملذة اجتذبتهم الدنيا إلى نفسها فاتبعوا الهوى و نسوا كل حق و حقيقة، و لذلك تفوهوا تارة بنفي التوحيد و الرسالة و تارة بإنكار المعاد و تارة رد الدعوة بإضرارها دنياهم و حريتهم في اتباع هواهم.

فتارة قالوا لعوامهم مشيرين إلى رسولهم إشارة المستحقر المستهين بأمره: ﴿مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ يريدون به تكذيبه في دعوته و دعواه الرسالة على ما مر من تقرير حجتهم في قصة نوح السابقة.

و في استدلالهم على بشريته و مساواته سائر الناس بأكله و شربه مثل الناس و ذلك من خاصة مطلق الحيوان دليل على أنهم ما كانوا يرون للإنسان إلا كمال الحيوان و لا فضيلة إلا في الأكل و الشرب و لا سعادة إلا في التمكن من التوسع و الاسترسال من اللذائذ الحيوانية كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ: الأعراف: ١٧٩، و قال: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ اَلْأَنْعَامُ: سورة محمد: ١٢.

و تارة قالوا: ﴿وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ و هو في معنى قولهم في القصة السابقة: ﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يريدون به أن في اتباعه و إطاعته فيما يأمركم به مع كونه بشرا مثلكم من غير فضل له عليكم خسرانكم و بطلان سعادتكم في

 

 

 الحياة إذ لا حياة إلا الحياة الدنيا و لا سعادة فيها إلا الحرية في التمتع من لذائذها، و في طاعة من لا فضل له عليكم رقيتكم و زوال حريتكم و هو الخسران.

و تارة قالوا: ﴿أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرَاباً وَ عِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أي مبعوثون من قبوركم للحساب و الجزاء ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ و هيهات كلمة استبعاد و في تكراره مبالغة في الاستبعاد ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا أي يموت قوم منا في الدنيا و يحيا آخرون فيها لا نزال كذلك ﴿وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ للحياة في دار أخرى وراء الدنيا.

و يمكن أن يحمل قولهم: ﴿نَمُوتُ وَ نَحْيَا على التناسخ‏ و هو خروج الروح بالموت من بدن و تعلقها ببدن آخر إنساني أو غير إنساني فإن التناسخ مذهب شائع عند الوثنيين و ربما عبروا عنه بالولادة بعد الولادة لكنه لا يلائم سياق الآيات كثير ملائمة.

و تارة قالوا: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ اِفْتَرى‏َ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً وَ مَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ يريدون به تكذيب دعواه الرسالة مع ما احتوت عليه دعوته و قد أنكروا التوحيد و المعاد قبل ذلك.

و مرادهم بقولهم: ﴿نَحْنُ أنفسهم و عامتهم أشركوا أنفسهم عامتهم لئلا يتهمهم العامة فيما يأمرونهم به من الكفر بالرسول، و يمكن أن يكون المراد به أنفسهم خاصة دون العامة و إنما أخبروا بعدم إيمانهم ليقتدوا بهم فيه.

و قد نشأت هذه الأقاويل من اجتماع الصفات التي وصفهم الله بها في أول الآيات و هي إنكار التوحيد و النبوة و المعاد و الإتراف في الحياة الدنيا.

و اعلم أن في قوله في صدر الآيات: ﴿وَ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنَاهُمْ قدم قوله: ﴿مِنْ قَوْمِهِ على ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا بخلاف ما في القصة السابقة من قوله: ﴿فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لأنه لو وقع بعد ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا اختل به ترتيب الجمل المتوالية ﴿كَفَرُوا ﴿وَ كَذَّبُوا ﴿وَ أَتْرَفْنَاهُمْ و لو وقع بعد الجميع طال الفصل.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ تقدم تفسيره في القصة السابقة.

قوله تعالى: ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ استجابة لدعوة الرسول و صيرورتهم نادمين كناية عن حلول عذاب الاستئصال بهم، و قوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ عن

 

 

بمعنى بعد و ﴿عَمَّا لتأكيد القلة و ضمير الجمع للقوم، و الكلام مؤكد بلام القسم و نون التأكيد، و المعنى: أقسم لتأخذنهم الندامة بعد قليل من الزمان بمشاهدة حلول العذاب.

قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ، الباء في ﴿بِالْحَقِّ للمصاحبة و هو متعلق بقوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ أي أخذتهم الصيحة أخذا مصاحبا للحق، أو للسببية، و الحق وصف أقيم مقام موصوفه المحذوف و التقدير فأخذتهم الصيحة بسبب الأمر الحق أو القضاء الحق كما قال: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ: المؤمن: ٧٨.

و الغثاء بضم الغين و ربما شددت الثاء: ما يحمله السيل من يابس النبات و الورق و العيدان البالية، و قوله: ﴿فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ إبعاد و لعن لهم أو دعاء عليهم.

و المعنى: فأنجزنا للرسول ما وعدناه من عذابهم فأخذتهم الصيحة السماوية و هي العذاب فأهلكناهم و جعلناهم كغثاء السيل فليبعد القوم الظالمون بعدا.

و لم يصرح باسم هؤلاء القوم الذين أنشأهم بعد قوم نوح ثم أهلكهم و لا باسم رسولهم، و ليس من البعيد أن يكونوا هم ثمود قوم صالح (عليه السلام) فقد ذكر الله سبحانه في قصتهم في مواضع من كلامه أنهم كانوا بعد قوم نوح و قد أهلكوا بالصيحة.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ تقدم توضيح مضمون الآيتين كرارا.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ، إلى آخر الآية يقال: جاءوا تترى‏ أي فرادى يتبع بعضهم بعضا، و منه التواتر و هو تتابع الشي‏ء وترا و فرادى، و عن الأصمعي: واترت الخبر أتبعت بعضه بعضا و بين الخبرين هنيهة انتهى.

و الكلام من تتمة قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً و ﴿ثُمَّ للتراخي بحسب الذكر دون الزمان، و القصة إجمال منتزع من قصص الرسل و أممهم بين أمة نوح و الأمة الناشئة بعدها و بين أمة موسى.

يقول تعالى: ثم أنشأنا بعد تلك الأمة الهالكة بالصيحة بعد أمة نوح قرونا و أمما آخرين و أرسلنا إليهم رسلنا متتابعين يتبع بعضهم بعضا كلما جاء أمة رسولها المبعوث

 

 

 منها إليها كذبوه فأتبعنا بعضهم أي بعض هذه الأمم بعضا أي بالعذاب و جعلناهم أحاديث أي صيرناهم قصصا و أخبارا بعد ما كانوا أعيانا ذوات آثار فليبعد قوم لا يؤمنون.

و الآيات تدل على أنه كان من سنة الله إنشاء قرن بعد قرن و هدايتهم إلى الحق بإرسال رسول بعد رسول و هي سنة الابتلاء و الامتحان، و من سنة القرون تكذيب الرسول بعد الرسول ثم من سنة الله ثانيا و هي سنة المجازاة تعذيب المكذبين و إتباع بعضهم بعضا.

و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ أبلغ كلمة تفصح عن القهر الإلهي الذي يغشى أعداء الحق و المكذبين لدعوته حيث يمحو العين و يعفو الأثر و لا يبقى إلا الخبر.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسى‏َ وَ أَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ الآيات هي العصا و اليد البيضاء و سائر الآيات التي أراها موسى فرعون و قومه، و السلطان المبين الحجة الواضحة، و تفسير بعضهم السلطان بالعصا غير سديد.

قوله تعالى: ﴿إِلى‏َ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً عَالِينَ قيل: إنما ذكر ملأ فرعون و اكتفى بهم عن ذكر قومه لأنهم الأشراف المتبوعون و سائر القوم أتباع يتبعونهم.

و المراد بكونهم عالين أنهم كانوا يعلون على غيرهم فيستعبدونهم كما علوا على بني إسرائيل و استعبدوهم فالعلو في الأرض كناية عن التطاول على أهلها و قهرهم على الطاعة.

قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَ قَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ المراد بكونهما بشرين مثلهم نفي أن يكون لهما فضل عليهم، و بكون قومهما لهم عابدين فضلهم عليهما كما فضلوا على قومهما فإذا كان الفضل لهم عليهما كان من الواجب أن يعبداهم كما عبدهم قومهما لا أن يؤمنوا بهما كما قال فرعون لموسى: ﴿لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ ثم ختم تعالى القصة بذكر هلاكهم فقال: ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ ثم قال: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ و المراد بهم بنو إسرائيل لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون و ملئه.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنَاهُمَا إِلى‏َ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ

 

 

تقدم أن الآية هي ولادة عيسى (عليه السلام) الخارقة للعادة و إذ كانت أمرا قائما به و بأمه معا عدا جميعا آية واحدة.

و الإيواء من الأوي و أصله الرجوع ثم استعمل في رجوع الإنسان إلى مسكنه و مقره، و آواه إلى مكان كذا أي جعله مسكنا له و الربوة المكان المرتفع المستوي الواسع، و المعين‏ الماء الجاري.

و المعنى: و جعلنا عيسى بن مريم و أمه مريم آية دالة على ربوبيتنا و أسكناهما في مكان مرتفع مستو وسيع فيه قرار و ماء جار.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ خطاب لعامة الرسل بأكل الطيبات و كان المراد بالأكل منها الارتزاق بها بالتصرف فيها سواء كان بأكل أو غيره و هو استعمال شائع.

و السياق يشهد بأن في قوله: ﴿كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ امتنانا منه تعالى عليهم، ففي قوله عقيبه: ﴿وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً أمر بمقابلة المنة بصالح العمل و هو شكر للنعمة و في تعليله بقوله: ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تحذير لهم من مخالفة أمره و بعث إلى ملازمة التقوى.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ تقدم تفسير نظيره الآية في سورة الأنبياء.

قوله تعالى: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ في المجمع، أن التقطع و التقطيع بمعنى واحد، و الزبر بضمتين جمع زبور و هو الكتاب، و الكلام متفرع على ما تقدمه، و المعنى أن الله أرسل إليهم رسله تترى و الجميع أمة واحدة لهم رب واحد دعاهم إلى تقواه لكنهم لم يأتمروا بأمره و قطعوا أمرهم بينهم قطعا و جعلوه كتبا اختص بكل كتاب حزب و كل حزب بما لديهم فرحون.

و في قراءة ابن عامر ﴿زُبُراً بفتح الباء و هو جمع زبرة و هي الفرقة، و المعنى و تفرقوا في أمرهم جماعات و أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، و هي أرجح.

قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ قال في المفردات،: الغمرة معظم الماء الساترة لمقرها و جعل مثلا للجهالة التي يغمر صاحبها، انتهى. و في الآية تهديد

 

 

 بالعذاب، و قد تقدمت إشارة إلى أن من سنته تعالى المجازاة بالعذاب بعد تكذيب الرسالة، و في تنكير ﴿حِينٍ إشارة إلى إتيان العذاب الموعود بغتة.

(بحث روائي)

 في نهج البلاغة،: يا أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم و لم يعذكم من أن يبتليكم و قد قال جل من قائل: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ.

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾ الغثاء اليابس الهامد من نبات الأرض.

 و فيه، :في قوله تعالى: ﴿إِلىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ قال: الربوة الحيرة و ذات قرار و معين الكوفة.

و في المجمع،: ﴿وَ آوَيْنَاهُمَا إِلىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ قيل: حيرة الكوفة و سوادها، و القرار مسجد الكوفة، و المعين الفرات: عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أقول:

و روي في الدر المنثور، عن ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أن الربوة هي دمشق الشام‏، و روي أيضا عن ابن عساكر و غيره عن مرة البهزي عنه (ص): أنها الرملة، و الروايات جميعا لا تخلو من الضعف.

 و في المجمع،: ﴿يَا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا و أنه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ و قال: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن أحمد و مسلم و الترمذي و غيرهم عن أبي هريرة عنه (ص). و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً قال على مذهب واحد. و فيه، :في قوله: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قال: كل من اختار لنفسه دينا فهو فرح به.

 

 

[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ٥٥ الی ٧٧]

﴿أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرَاتِ بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ ٥٦ إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ٥٧ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ٥٨ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ٥٩ وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى‏ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ٦٠ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ ٦١ وَ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٦٢ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ٦٣ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ٦٤ لاَ تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ ٦٥ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى‏ أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ٦٦ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ٦٧ أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ ٦٨ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ٦٩ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ٧٠ وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ٧١ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ

 

 

﴿خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ٧٢ وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٧٣ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ٧٤ وَ لَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَ كَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ٧٥ وَ لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ ٧٦ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ٧٧

(بيان‏)

الآيات متصلة بقوله السابق: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ فإنه لما عقب قصص الرسل باختلاف الناس في أمر الدين و تحزبهم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون أوعدهم بعذاب مؤجل لا مناص لهم عنه و لا مخلص منه فليتيهوا في غمرتهم ما شاءوا فسيغشاهم العذاب و لا محالة.

فنبههم في هذه الآيات أن توهمهم أن ما مدهم الله به من مال و بنين مسارعة لهم في الخيرات خطأ منهم و جهل بحقيقة الحال، و لو كان ذلك من الخير لم يأخذ العذاب مترفيهم بل المسارعة في الخيرات هو ما وفق الله المؤمنين له من الأعمال الصالحة و ما يترتب عليها من جزيل الأجر و عظيم الثواب في الدنيا و الآخرة فهم يسارعون إليها فيسارع لهم فيها.

فالعذاب مدركهم لا محالة و الحجة تامة عليهم و لا عذر لهم يعتذرون به كعدم تدبر القول أو كون الدعوة بدعا لا سابقة له أو عدم معرفة الرسول أو كونه مجنونا مختل القول أو سؤاله منهم خرجا بل هم أهل عناد و لجاج لا يؤمنون بالحق حتى يأتيهم عذاب لا مرد له.

قوله تعالى: ﴿أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرَاتِ

 

 

 بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴿نُمِدُّهُمْ بضم النون من الإمداد و المد و الإمداد بمعنى واحد و هو تتميم نقص الشي‏ء و حفظه من أن ينقطع أو ينفد، قال الراغب: و أكثر ما يستعمل الإمداد في المحبوب و المد في المكروه، فقوله ﴿نُمِدُّهُمْ من الإمداد المستعمل في المكروه و المسارعة لهم في الخيرات إفاضة الخيرات بسرعة لكرامتهم عليه فيكون الخيرات على ظنهم هي المال و البنون سورع لهم فيها.

و المعنى: أ يظن هؤلاء أن ما نعطيهم في مدة المهلة من مال و بنين خيرات نسارع لهم فيها لرضانا عنهم أو حبنا لأعمالهم أو كرامتهم علينا؟.

لا، بل لا يشعرون أي إن الأمر على خلاف ما يظنون و هم في جهل بحقيقة الأمر و هو أن ذلك إملاء منا و استدراج و إنما نمدهم في طغيانهم يعمهون كما قال تعالى:

﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ: الأعراف: ١٨٣.

قوله تعالى ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إلى آخر الآيات الخمس، يبين تعالى في هذه الآيات الخمس بمعونة ما تقدم أن الذي يظن هؤلاء الكفار أن المال و البنين خيرات نسارع لهم فيها خطأ منهم فليست هي من الخيرات في شي‏ء بل استدراج و إملاء و إنما الخيرات التي يسارع فيها هي ما عند المؤمنين بالله و رسله و اليوم الآخر الصالحين في أعمالهم.

فأفصح تعالى عن وصفهم فقال: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، قال الراغب: الإشفاق‏ عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال تعالى: ﴿وَ هُمْ مِنَ اَلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴿مُشْفِقُونَ مِنْهَا انتهى.

و الآية تصفهم بأنهم اتخذوا الله سبحانه ربا يملكهم و يدبر أمرهم، و لازم ذلك أن يكون النجاة و الهلاك دائرين مدار رضاه و سخطه يخشونه في أمر يحبونه و هو نجاتهم و سعادتهم فهم مشفقون من خشيته و هذا هو الذي يبعثهم إلى الإيمان بآياته و عبادته، و قد ظهر بما مر من المعنى أن الجمع في الآية بين الخشية و الإشفاق ليس تكرارا مستدركا.

ثم قال: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ و هي كل ما يدل عليه تعالى بوجه

 

 

و من ذلك رسله الحاملون لرسالته و ما أيدوا به من كتاب و غيره و ما جاءوا به من شريعة لأن إشفاقهم من خشية الله يبعثهم إلى تحصيل رضاه و يحملهم على إجابته إلى ما يدعوهم إليه و ائتمارهم لما يأمرهم به من طريق الوحي و الرسالة.

ثم قال: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ و الإيمان بآياته هو الذي دعاهم إلى نفي الشركاء في العبادة فإن الإيمان بها إيمان بالشريعة التي شرعت عبادته تعالى و الحجج التي دلت على توحده في ربوبيته و ألوهيته.

على أن جميع الرسل و الأنبياء (عليه السلام) إنما جاءوا من قبله و إرسال الرسل لهداية الناس إلى الحق الذي فيه سعادتهم من شئون الربوبية، و لو كان له شريك لأرسل رسولا،

و من لطيف كلام علي عليه أفضل السلام قوله: لو كان لربك شريك لأتتك رسله.

 ثم قال ﴿وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى‏َ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ الوجل‏ الخوف، و قوله: ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من المال بالإنفاق في سبيل الله و قيل: المراد بإيتاء ما آتوا إتيانهم بكل عمل صالح، و قوله: ﴿وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ حال من فاعل ﴿يُؤْتُونَ.

و المعنى و الذين ينفقون ما أنفقوا أو يأتون بالأعمال الصالحة و الحال أن قلوبهم خائفة من أنهم سيرجعون إلى ربهم أي إن الباعث لهم على الإنفاق في سبيل الله أو على صالح العمل ذكرهم رجوعهم المحتوم إلى ربهم على وجل منه.

و في الآية دلالة على إيمانهم باليوم الآخر و إتيانهم بصالح العمل و عند ذلك تعينت صفاتهم أنهم الذين يؤمنون بالله وحده لا شريك له و برسله و باليوم الآخر و يعملون الصالحات.

ثم قال: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ الظاهر أن اللام في ﴿لَهَا بمعنى «إلى» و ﴿لَهَا متعلق بسابقون، و المعنى أولئك الذين وصفناهم هم يسارعون في الخيرات من الأعمال و هم سابقون إليها أي يتسابقون فيها لأن ذلك لازم كون كل منهم مريدا للسبق إليها.

فقد بين في الآيات أن الخيرات هي الأعمال الصالحة المبتنية على الاعتقاد الحق الذي عند هؤلاء المؤمنين و هم يسارعون فيها و ليست الخيرات ما عند أولئك الكفار

 

 

 و هم يعدونها بحسبانهم مسارعة من الله سبحانه لهم في الخيرات.

قال في التفسير الكبير: و فيه يعني قوله: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وجهان:

أحدهما: أن المراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها لئلا تفوت عن وقتها و لكيلا تفوتهم دون الاحترام.

و الثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع و وجوه الإكرام كما قال: ﴿فَآتَاهُمُ اَللَّهُ ثَوَابَ اَلدُّنْيَا وَ حُسْنَ ثَوَابِ اَلْآخِرَةِ ﴿وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ لأنهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها و تعجلوها و هذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين. انتهى.

أقول: إن الذي نفي عن الكفار في الآية المتقدمة هو مسارعة الله للكفار في الخيرات و الذي أثبت للمؤمنين في هذه الآية هو مسارعة المؤمنين في الخيرات، و الذي وجهه في هذا الوجه أن مسارعتهم في الخيرات مسارعة من الله سبحانه بوجه فيبقى عليه أن يبين الوجه في وضع مسارعتهم في الآية موضع مسارعته تعالى و تبديلها منها، و وجهه بعضهم بأن تغيير الأسلوب للإيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، و هو كما ترى.

و الظاهر أن هذا التبديل إنما هو في قوله في الآية المتقدمة: ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرَاتِ و المراد بيان أنهم يحسبون أن ما نمدهم به من مال و بنين خيرات يتسارعون إليها لكرامتهم و هم كافرون لكن لما كان ذلك بإعطاء من الله تعالى لا بقدرتهم عليها من أنفسهم نسبت المسارعة إليه تعالى ثم نفيت بالاستفهام الإنكاري، و أثبت ما يقابله على الأصل للمؤمنين.

فمحصل هذا النفي و الإثبات أن المال و البنين ليست خيرات يتسارعون إليها و لا هم مسارعون إلى الخيرات بل الأعمال الصالحة و آثارها الحسنة هي الخيرات و المؤمنون هم المسارعون إلى الخيرات.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ الذي يعطيه السياق أن في الآية ترغيبا و تحضيضا على ما ذكره من صفات المؤمنين و دفعا لما ربما ينصرف الناس بتوهمه عن التلبس بكرامتها من وجهين أحدهما

 

 

 أن التلبس بها أمر سهل في وسع النفوس و ليس بذاك الصعب الشاق الذي يستوعره المترفون، و الثاني أن الله لا يضيع عملهم الصالح و لا ينسى أجرهم الجزيل.

فقوله: ﴿وَ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا نفي للتكليف الحرجي الخارج عن وسع النفوس أما في الاعتقاد فإنه تعالى نصب حججا ظاهرة و آيات باهرة تدل على ما يريد الإيمان به من حقائق المعارف و جهز الإنسان بما من شأنه أن يدركها و يصدق بها و هو العقل ثم راعى حال العقول في اختلافها من جهة قوة الإدراك و ضعفه فأراد من كل ما يناسب مقدار تحمله و طوقه فلم يرد من العامة ما يريده من الخاصة و لم يسأل الأبرار عما سأل عنه المقربين و لا ساق المستضعفين بما ساق به المخلصين.

و أما في العمل فإنما ندب الإنسان منه إلى ما فيه خيره في حياته الفردية و الاجتماعية الدنيوية و سعادته في حياته الأخروية، و من المعلوم أن خير كل نوع من الأنواع و منها الإنسان إنما يكون فيما يتم به حياته و ينتفع به في عيشته و هو مجهز بما يقوى على إتيانه و عمله، و ما هذا شأنه لا يكون حرجيا خارجا عن الوسع و الطاقة.

فلا تكليف حرجيا في دين الله بمعنى الحكم الحرجي في تشريعه مبنيا على مصلحة حرجية، و بذلك امتن الله سبحانه على عباده، و طيب نفوسهم و رغبهم إلى ما وصفه من حال المؤمنين.

و الآية ﴿وَ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا تدل على ذلك و زيادة فإنها تدل على نفي التكليف المبني على الحرج في أصل تشريعه كتشريع الرهبانية و التقرب بذبح الأولاد مثلا، و نفي التكليف الذي هو في نفسه غير حرجي لكن اتفق أن صار بعض مصاديقه حرجيا لخصوصية في المورد كالقيام في الصلاة للمريض الذي لا يستطيعه فالجميع منفي بالآية و إن كان الامتنان و الترغيب المذكوران يتمان بنفي القسم الأول.

و الدليل عليه في الآية تعلق نفي التكليف بقوله: ﴿نَفْساً و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، و عليه فأي نفس مفروضة في أي حادثة لا تكلف إلا وسعها و لا يتعلق بها حكم حرجي سواء كان حرجيا من أصله أو صار حرجيا في خصوص المورد.

و قد ظهر أن في الآية إمضاء لدرجات الاعتقاد بحسب مراتب العقول و رفعا للحرج سواء كان في أصل الحكم أو طارئا عليه.

و قوله: ﴿وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ترغيب لهم بتطييب

 

 

 نفوسهم بأن عملهم لا يضيع و أجرهم لا يتخلف و المراد بنطق الكتاب إعرابه عما أثبت فيه إعرابا لا لبس فيه و ذلك لأن أعمالهم مثبتة في كتاب لا ينطق إلا بما هو حق فهو مصون عن الزيادة و النقيصة و التحريف، و الحساب مبني على ما أثبت فيه كما يشير إليه قوله: ﴿يَنْطِقُ و الجزاء مبني على ما يستنتج من الحساب كما يشير إليه قوله:

﴿وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فهم في أمن من الظلم بنسيان أجرهم أو بترك إعطائه أو بنقصه أو تغييره كما أنهم في أمن من أن لا يحفظ أعمالهم أو تنسى بعد الحفظ أو تتغير بوجه من وجوه التغير.

قال الرازي في التفسير الكبير، فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، و إن جوزوه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب.

قلنا: يفعل الله ما يشاء، و على أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة. انتهى.

أقول: و الذي أجاب به مبني على مسلكه من نفي الغرض عن فعله تعالى و تجويز الإرادة الجزافية تعالى عن ذلك، و الإشكال مطرد في سائر شئون يوم القيامة التي أخبر الله سبحانه بها كالحشر و الجمع و إشهاد الشهود و نشر الكتب و الدواوين و الصراط و الميزان و الحساب.

و الجواب عن ذلك كله: أنه تعالى مثل لنا ما يجري على الإنسان يوم القيامة في صورة القضاء و الحكم الفصل، و لا غنى للقضاء بما أنه قضاء عن الاستناد إلى الحجج و البينات كالكتب و الشهود و الأمارات و الجمع بين المتخاصمين و لا يتم دون ذلك البتة.

نعم لو أغمضنا النظر عن ذلك كان ظهور أعمال الإنسان له في مراحل رجوعه إلى الله سبحانه بإذنه، فافهمه.

قوله تعالى: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ المناسب لسياق الآيات أن يكون ﴿هَذَا إشارة إلى ما وصفته الآيات السابقة من حال المؤمنين و مسارعتهم في الخيرات، و يمكن أن يكون إشارة إلى القرآن كما يؤيده

 

 

قوله بعد: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلى‏َ عَلَيْكُمْ و الغمرة الغفلة الشديدة أو الجهل الشديد الذي غمرهم، و قوله: ﴿وَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ إلخ، أي من غير ما وصفناه من حال المؤمنين و هو كناية عن أن لهم شاغلا يشغلهم عن هذه الخيرات و الأعمال الصالحة و هو الأعمال الرديئة الخبيثة التي هم لها عاملون.

و المعنى: بل الكفار في غفلة شديدة أو جهل شديد عن هذا الذي وصفنا به المؤمنين و لهم أعمال رديئة خبيثة من دون ذلك هم لها عاملون في شاغلتهم و مانعتهم.

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ الجؤار بضم الجيم صوت الوحش كالظباء و نحوها عند الفزع كني به عن رفعهم الصوت بالاستغاثة و التضرع، و قيل: المراد به ضجتهم و جزعهم و الآيات التالية تؤيد المعنى الأول.

و إنما جعل مترفيهم متعلق العذاب لأن الكلام فيمن ذكره قبلا بقوله: ﴿أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ و هم الرؤساء المتنعمون منهم و غيرهم تابعون لهم.

قوله تعالى: ﴿لاَ تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ العدول عن سياق الغيبة إلى الخطاب لتشديد التوبيخ و التقريع و لقطع طمعهم في النجاة بسبب الاستغاثة و أي رجاء و أمل لهم فيها فإن أخبار الوسائط أنهم لا ينصرون لدعاء أو شفاعة لا يقطع طمعهم في النصر كما يقطعه أخبار من إليه النصر نفسه.

قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلى‏َ عَلَيْكُمْ إلى قوله ﴿ تَهْجُرُونَ النكوص‏:

الرجوع القهقرى، و السامر من السمر و هو التحديث بالليل، قيل: السامر كالحاضر يطلق على المفرد و الجمع، و قرئ «سمرا» بضم السين و تشديد الميم جمع سامر و هو أرجح، و قرئ أيضا «سمارا» بالضم و التشديد ، و الهجر: الهذيان.

و الفصل في قوله: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي إلخ، لكونه في مقام التعليل، و المعنى:

إنكم منا لا تنصرون لأنه قد كانت آياتي تتلى و تقرأ عليكم فكنتم تعرضون عنها و ترجعون إلى أعقابكم القهقرى مستكبرين بنكوصكم تحدثون في أمره في الليل تهجرون و تهذون، و قيل: ضمير ﴿بِهِ عائد إلى البيت أو الحرم و هو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ شروع في قطع أعذارهم في الإعراض عن القرآن النازل لهدايتهم و عدم استجابتهم للدعوة الحقة التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

 

 

 فقوله: ﴿أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ الاستفهام فيه للإنكار و اللام في ﴿اَلْقَوْلَ للعهد و المراد به القرآن المتلو عليهم، و الكلام متفرع على ما تقدمه من كونهم في غفلة منه و شغل يشغلهم عنه، و المعنى: هل إذا كانوا على تلك الحال لم يدبروا هذا القول المتلو عليهم حتى يعلموا أنه حق من عند الله فيؤمنوا به.

و قوله: ﴿أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ ﴿أَمْ فيه و فيما بعده منقطعة في معنى الإضراب، و المعنى: بل أ جاءهم شي‏ء لم يأت آباءهم الأولين فيكون بدعا ينكر و يحترز منه.

و كون الشي‏ء بدعا محدثا لا يعرفه السابقون و إن لم يستلزم كونه باطلا غير حق على نحو الكلية لكن الرسالة الإلهية لما كانت لغرض الهداية لو صحت وجبت في حق الجميع فلو لم يأت الأولين كان ذلك حجة قاطعة على بطلانها.

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ المراد بمعرفة الرسول معرفته بنسبه و حسبه و بالجملة بسجاياه الروحية و ملكاته النفسية من اكتسابية و موروثة حتى يتبين به أنه صادق فيما يقول مؤمن بما يدعو إليه مؤيد من عند الله و قد عرفوا من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سوابق حاله قبل البعثة، و قد كان يتيما فاقدا للأبوين لم يقرأ و لم يكتب و لم يأخذ أدبا من مؤدب و لا تربية من مرب ثم لم يجدوا عنده ما يستقبحه عقل أو يستنكره طبع أو يستهجنه رأي و لا طمعا في ملك أو حرصا على مال أو ولعا بجاه، و هو على ما هو سنين من عمره فإذا هو ينادي للفلاح و السعادة و يندب إلى حقائق و معارف تبهر العقول و يدعو إلى شريعة تحير الألباب و يتلو كتابا.

فهم قد عرفوا رسولهم (ص) بنعوته الخاصة المعجزة لغيره، و لو لم يكونوا يعرفونه لكان لهم عذرا في إعراضهم عن دينه و استنكافهم عن الإيمان به لأن معنى عدم معرفته كذلك وجدانه على غير بعض هذه النعوت أو عدم إحرازه فيه، و من المعلوم أن إلقاء الزمام إلى من هذا شأنه مما لا يجوزه العقل.

قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ و هذا عذر آخر لهم تشبثوا به إذ قالوا: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ: الحجر: ٦ ذكره و رده بلازم قوله: ﴿بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ.

فمدلول قوله: ﴿بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ إضراب عن جملة

 

 

 محذوفة و التقدير إنهم كاذبون في قولهم. ﴿بِهِ جِنَّةٌ و اعتذارهم عن عدم إيمانهم به بذلك بل إنما كرهوا الإيمان به لأنه جاء بالحق و أكثرهم للحق كارهون.

و لازمه رد قولهم بحجة يلوح إليها هذا الإضراب، و هي أن قولهم: ﴿بِهِ جِنَّةٌ لو كان حقا كان كلامه مختل النظم غير مستقيم المعنى مدخولا فيه كما هو مدخول في عقله، غير رام إلى مرمى صحيح، لكن كلامه ليس كذلك فلا يدعو إلا إلى حق، و لا يأتي إلا بحق، و أين ذلك من كلام مجنون لا يدري ما يريد و لا يشعر بما يقول.

و إنما نسب الكراهة إلى أكثرهم لأن فيهم مستضعفين لا يعبأ بهم أرادوا أو كرهوا.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ لما ذكر أن أكثرهم للحق كارهون و إنما يكرهون الحق لمخالفته هواهم فهم يريدون من الحق أي الدعوة الحقة أن يتبع أهواءهم و هذا مما لا يكون البتة.

إذ لو اتبع الحق أهواءهم فتركوا و ما يهوونه من الاعتقاد و العمل فعبدوا الأصنام و اتخذوا الأرباب و نفوا الرسالة و المعاد و اقترفوا ما أرادوه من الفحشاء و المنكر و الفساد جاز أن يتبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة و النظام الذي يجري فيها بالحق إذ ليس بين الحق و الحق فرق فأعطي كل منهم ما يشتهيه من جريان النظام و فيه فساد السماوات و الأرض و من فيهن و اختلال النظام و انتقاض القوانين الكلية الجارية في الكون فمن البين أن الهوى لا يقف على حد و لا يستقر على قرار.

و بتقرير آخر أدق و أوفق لما يعطيه القرآن من حقيقة الدين القيم أن الإنسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام و له في نوعيته غاية هي سعادته و قد خط له طريق إلى سعادته و كماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نظير غيره من الأنواع الموجودة، و قد جهزه الكون العام و خلقته الخاصة به من القوى و الآلات بما يناسب سعادته و الطريق المنصوب إليها و هي الاعتقاد و العمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته.

فالطريق التي تنتهي بالإنسان إلى سعادته أعني الاعتقادات و الأعمال الخاصة المتوسطة بينه و بين سعادته و هي التي تسمى الدين و سنة الحياة متعينة حسب

 

 

 اقتضاء النظام العام الكوني و النظام الخاص الإنساني الذي نسميه الفطرة و تابعة لذلك.

و هذا هو الذي يشير تعالى إليه بقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ: سورة الروم: ٣٠.

فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية طريقة متعينة يقتضيها النظام بالحق و تكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق، و هذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيرة التي تحكم في النظام الكوني الذي أحد أجزائه النظام الإنساني و تدبره و تسوقه إلى غاياته و هو الذي قضى به الله سبحانه فكان حتما مقضيا.

فلو اتبع الحق أهواءهم فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم لم يكن ذلك إلا بتغير أجزاء الكون عما هي عليه و تبدل العلل و الأسباب غيرها و تغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، و في ذلك فساد السماوات و الأرض و من فيهن في أنفسها و التدبير الجاري فيها لأن كينونتها و تدبيرها مختلطان غير متمايزين، و الخلق و الأمر متصلان غير منفصلين.

و هذا هو الذي يشير إليه قوله: ﴿وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ.

و قوله: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ لا ريب أن المراد بالذكر هو القرآن كما قال: ﴿وَ هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ: الأنبياء: ٥٠، و قال: ﴿وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ: الزخرف: ٤٤ إلى غير ذلك من الآيات، و لعل التعبير عنه بالذكر بعد قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ نوع مقابلة لقولهم: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ: الحجر: ٦.

و كيف كان فقد سمي ذكرا لأنه يذكرهم بالله أو يذكر لهم دين الله من الاعتقاد الحق و العمل الصالح، و الثاني أوفق لصدر الآية بما تقدم من معناه، و إنما أضيف إليهم لأن الدين أعني الدعوة الحقة مختلفة بالنسبة إلى الناس بالإجمال و التفصيل و الذي يذكره القرآن آخر مراحل التفصيل لكون شريعته آخر الشرائع.

و المعنى: لم يتبع الحق أهواءهم بل جئناهم بكتاب يذكرهم أو يذكرون به دينهم الذي يختص بهم و يتفرع عليه أنهم عن دينهم الخاص بهم معرضون.

و قال كثير منهم إن إضافة الذكر إليهم للتشريف نظير قوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ

 

 

 لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ: الزخرف: ٤٤، و المعنى: بل أتيناهم بفخرهم و شرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال فهم بما فعلوه من النكوص عن فخرهم و شرفهم أنفسهم معرضون.

و فيه أنه لا ريب في أن القرآن الكريم شرف للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ أنزل عليه و لأهل بيته إذ نزل في بيتهم، و للعرب إذ نزل بلغتهم و للأمة إذ نزل لهدايتهم غير أن الإضافة في الآية ليست لهذه العناية بل لعناية اختصاص هذا الدين بهذه الأمة و هو الأوفق لصدر الآية بالمعنى الذي تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ، قال في مجمع البيان:، أصل الخراج و الخرج‏ واحد و هو الغلة التي يخرج على سبيل الوظيفة انتهى.

و هذا رابع الأعذار التي ذكرت في هذه الآيات و ردت و وبخوا عليها و قد ذكره الله بقوله: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أي مالا يدفعونه إليك على سبيل الرسم و الوظيفة ثم ذكر غنى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ أي إن الله هو رازقك و لا حاجة لك إلى خرجهم، و قد تكرر الأمر بإعلامهم ذلك في الآيات ﴿قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً: الأنعام: ٩٠ الشورى: ٢٣.

و قد تمت بما ذكر في الآية أربعة من الأعذار المردودة إليهم و هي مختلفة فأولها ﴿أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ راجع إلى القرآن و الثاني ﴿أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ إلى الدين الذي إليه الدعوة، و الثالث ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ إلى نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الرابع ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً إلى سيرته.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ النكب و النكوب‏ العدول عن الطريق و الميل عن الشي‏ء.

قد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا يختلف و لا يتخلف في حكمه و هو إيصاله سالكيه إلى الغاية المقصودة، و هذه صفة الحق فإن الحق واحد لا يختلف أجزاؤه بالتناقض و التدافع و لا يتخلف في مطلوبه الذي يهدي إليه فالحق صراط مستقيم، و إذ ذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يهدي إلى الحق كان لازمه هذا الذي ذكره أنه يهدي إلى صراط مستقيم.

 

 

ثم إن الذين كفروا لما كانوا كارهين للحق كما ذكره فهم عادلون عن الصراط أي الصراط المستقيم مائلون إلى غيره.

و إنما أورد من أوصافهم عدم إيمانهم بالآخرة و اقتصر عليه لأن دين الحق مبني على أساس أن للإنسان حياة خالدة لا تبطل بالموت و له فيها سعادة يجب أن تقتنى بالاعتقاد الحق و العمل الصالح و شقاوة يجب أن تجتنب و هؤلاء لنفيهم الحياة الآخرة يعدلون عن الحق و الصراط المستقيم.

و بتقرير آخر: دين الحق مجموع تكاليف اعتقادية و عملية و التكليف لا يتم إلا بحساب و جزاء، و قد عين لذلك يوم القيامة، و إذ لا يؤمن هؤلاء بالآخرة لغا الدين عندهم فلا يرون من الحياة إلا الحياة الدنيا المادية و لا يبقى من السعادة عندهم إلا نيل اللذائذ المادية و هو التمتع بالبطن فما دونه، و لازم ذلك أن يكون المتبع عندهم الهوى وافق الحق أو خالفه.

فمحصل الآيتين أنهم ليسوا بمؤمنين بك لأنك تدعو إلى صراط مستقيم و هم لا هم لهم إلا العدول و الميل عنه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَ كَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ إلى قوله ﴿وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ اللجاج‏ التمادي و العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، و العمه‏ التردد في الأمر من التحير، ذكرهما الراغب، و في المجمع،: الاستكانة الخضوع و هو استفعل من الكون، و المعنى ما طلبوا الكون على صفة الخضوع. انتهى.

و قوله: ﴿وَ لَوْ رَحِمْنَاهُمْ بيان و تأييد لنكوبهم عن الصراط بأنا لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر لم يرجعوا بمقابلة ذلك الشكر بل أصروا على تمردهم عن الحق و تمادوا يترددون في طغيانهم فلا ينفعهم رحمة بكشف الضر كما لا ينفعهم تخويف بعذاب و نقمة فإنا قد أخذناهم بالعذاب فما خضعوا لربهم و ما يتضرعون إليه فهؤلاء لا ينفعهم و لا يركبهم صراط الحق لا رحمة بكشف الضر و لا نقمة و تخويف بالأخذ بالعذاب.

و المراد بالعذاب العذاب الخفيف الذي لا ينقطع به الإنسان عن عامة الأسباب بقرينة ما في الآية التالية فلا يرد أن الرجوع إلى الله تعالى عند الاضطرار و الانقطاع

 

 

 عن الأسباب من غريزيات الإنسان كما تكرر ذكره في القرآن الكريم فكيف يمكن أن يأخذهم العذاب ثم لا يستكينوا و لا يتضرعوا؟.

و قوله في الآية الأولى: ﴿مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ و في الثانية: ﴿وَ لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ يدل على أن الكلام ناظر إلى عذاب قد وقع و لما يرتفع حين نزول الآيات، و من المحتمل أنه الجدب الذي ابتلي به أهل مكة و قد ورد ذكر منه في الروايات.

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي هم على حالهم هذه لا ينفع فيهم رحمة و لا عذاب حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد و هو الموت بما يستتبعه من عذاب الآخرة على ما يعطيه سياق الآيات و خاصة الآيات الآتية فيفاجئوهم الإبلاس و اليأس من كل خير.

و قد ختم هذا الفصل من الكلام أعني قوله: ﴿أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ إلخ بنظير ما ختم به الفصل السابق أعني قوله: ﴿أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ إلى آخر الآيات و هو ذكر عذاب الآخرة، و سيعود إليه ثانيا.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إلى قوله ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوْا قال من العبادة و الطاعة.

 و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و ابن ماجة و ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله قول الله: ﴿وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أ هو الرجل يزني و يسرق و يشرب الخمرو هو مع ذلك يخاف الله؟ قال: لا و لكن الرجل يصوم و يتصدق و يصلي و هو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه. و في المجمع،: في قوله: ﴿وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال أبو عبد الله (عليه السلام): معناه خائفة أن لا يقبل منهم، و في رواية أخرى: أتى و هو خائف راج.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن قتادة :

 

 

﴿حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ قال ذكر لنا أنها نزلت في الذين قتل الله يوم بدر).

أقول: و روي مثله عن النسائي عن ابن عباس و لفظه قال: هم أهل بدر، و سياق الآيات لا ينطبق على مضمون الروايتين.

 و فيه، أخرج النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال :جاء أبو سفيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد أنشدك الله و الرحم فقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله: ﴿وَ لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ. أقول: و الروايات في هذا المعنى مختلفة و ما أوردناه أعدلها و هي تشير إلى جدب وقع بمكة و حواليها بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ظاهر أكثرها أنه كان بعد الهجرة، و لا يوافق ذلك الاعتبار.

و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ قال: الحق رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام).

أقول: هو من البطن بالمعنى الذي تقدم في بحث المحكم و المتشابه و نظيره ما أورده :في قوله ﴿وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ قال إلى ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) و كذا ما أورده :في قوله: ﴿عَنِ اَلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ قال: عن الإمام لحادون.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ يقول: أم تسألهم أجرا فأجر ربك خير.

 و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ فقال: الاستكانة هي الخضوع، و التضرع رفع اليدين و التضرع بهما.

 و في المجمع، و روي عن مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : رفع الأيدي من الاستكانة. قلت: و ما الاستكانة؟ قال: أ ما تقرأ هذه الآية: ﴿فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ؟: أورده الثعلبي و الواحدي في تفسيريهما.

 و فيه، قال أبو عبد الله (عليه السلام): الاستكانة الدعاء، و التضرع رفع اليدين في الصلاة.

 و في الدر المنثور، أخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب: في قوله:

 

 

﴿فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ أي لم يتواضعوا في الدعاء و لم يخضعوا و لو خضعوا لله لاستجاب لهم.

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ قال أبو جعفر (عليه السلام) هو في الرجعة.

 [سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ٧٨ الی ٩٨]

﴿وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ٧٨ وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٧٩ وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اِخْتِلاَفُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٨٠ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ اَلْأَوَّلُونَ ٨١ قَالُوا أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ٨٢ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ٨٣ قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٨٤ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ٨٥ قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ ٨٦ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٨٧ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٨٨ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ٨٩ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ٩٠ مَا اِتَّخَذَ اَللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ٩١ عَالِمِ اَلْغَيْبِ

 

 

﴿وَ اَلشَّهَادَةِ فَتَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٩٢ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ٩٣ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٩٤ وَ إِنَّا عَلى‏ أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ٩٥ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اَلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ٩٦ وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ اَلشَّيَاطِينِ ٩٧ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ٩٨

(بيان‏)

لما أوعدهم بعذاب شديد لا مرد له و لا مخلص منه، و رد عليهم كل عذر يمكنهم أن يعتذروا به، و بين أن السبب الوحيد لكفرهم بالله و اليوم الآخر هو اتباع الهوى و كراهة اتباع الحق، تمم البيان بإقامة الحجة على توحده في الربوبية و على رجوع الخلق إليه بذكر آيات بينة لا سبيل للإنكار إليها.

و عقب ذلك بأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يستعيذ به من أن يشمله العذاب الذي أوعدوا به، و أن يعوذ به من همزات الشيطان و أن يحضروه كما فعلوا بهم.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ افتتح سبحانه من نعمه التي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع و البصر و هما نعمتان خص بهما جنس الحيوان خلقتا فيه إنشاء و إبداعا لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في الأنواع البسيطة التي قبل الحيوان كالنبات و الجماد و العناصر.

و بحصول هذين الحسين يقف الوجود المجهز بهما موقفا جديدا و يتسع مجال فعاليته بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتساعا لا يتقدر بقدر فيدرك خيره و شره و نافعه و ضاره و يعطي معهما الحركة الإرادية إلى ما يريده و عما يكرهه، و يستقر في عالم حديث طري فيه مجالي الجمال و اللذة و العزة و الغلبة و المحبة مما لا خبر عنه فيما قبله.

و إنما اقتصر من الحواس بالسمع و البصر قيل لأن الاستدلال يتوقف عليهما و يتم بهما.

 

 

ثم ذكر سبحانه الفؤاد و المراد به المبدأ الذي يعقل من الإنسان و هو نعمة خاصة بالإنسان من بين سائر الحيوان و مرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجودية جديدة هي أرفع درجة و أعلى منزلة و أوسع مجالا من عالم الحيوان الذي هو عالم الحواس فيتسع به أولا شعاع عمل الحواس مما كان عليه في عامة الحيوان بما لا يتقدر بقدر فإذا الإنسان يدرك بهما ما غاب و ما حضر و ما مضى و ما غبر من أخبار الأشياء و آثارها و أوصافها بعلاج و غير علاج.

ثم يرقى بفؤاده أي بتعقله إلى ما فوق المحسوسات و الجزئيات فيتعقل الكليات فيحصل القوانين الكلية، و يغور متفكرا في العلوم النظرية و المعارف الحقيقية، و ينفذ بسلطان التدبر في أقطار السماوات و الأرض.

ففي ذلك كله من عجيب التدبير الإلهي بإنشاء السمع و الأبصار و الأفئدة ما لا يسع الإنسان أن يستوفي شكره.

و قوله: ﴿قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ فيه بعض العتاب و معناه تشكرون شكرا قليلا فقوله: ﴿قَلِيلاً وصف للمفعول المطلق قائم مقامه.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ قال الراغب:

الذرأ إظهار الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم. و قال:

الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. انتهى.

فالمعنى: أنه لما جعلكم ذوي حس و عقل أظهر وجودكم في الأرض متعلقين بها ثم يجمعكم و يرجعكم إلى لقائه.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اِخْتِلاَفُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ معنى الآية ظاهر، و قوله: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ مترتب بحسب المعنى على الجملة التي قبله أي لما جعلكم ذوي علم و أظهر وجودكم في الأرض إلى حين حتى تحشروا إليه لزمت ذلك سنة الإحياء و الإماتة إذ العلم متوقف على الحياة و الحشر متوقف على الموت.

و قوله: ﴿وَ لَهُ اِخْتِلاَفُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ مترتب على ما قبله فإن الحياة ثم الموت لا تتم إلا بمرور الزمان و ورود الليل بعد النهار و النهار بعد الليل حتى ينقضي العمر و يحل الأجل المكتوب، هذا لو أريد باختلاف الليل و النهار و ورود الواحد منها بعد الواحد، و لو أريد به اختلافهما في الطول و القصر كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول

 

 

 السنة الأربعة المتفرعة على طول الليل و النهار و قصرهما و بذلك يتم أمر إرزاق الحيوان و تدبير معاشها كما قال: ﴿وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ: حم السجدة: ١٠.

فمضامين الآيات الثلاث مترتبة مستتبعة بعضها بعضا فإنشاء السمع و البصر و الفؤاد و هو الحس و العقل للإنسان يستتبع حياة متعلقة بالمادة و سكونا في الأرض إلى حين، ثم الرجوع إلى الله، و هو يستتبع حياة و موتا، و ذلك يستتبع عمرا متقضيا بانقضاء الزمان و رزقا يرتزق به.

فالآيات الثلاث تتضمن إشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الإنسان من حين يخلق إلى أن يرجع إلى ربه، و الله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لأن هذا التدبير تدبير تكويني لا يفارق الخلق و الإيجاد و لا ينحاز عنه، و هو نظام الفعل و الانفعال الجاري بين الأشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة بالتكوين فالله سبحانه هو ربهم المدبر لأمرهم و إليه يحشرون، و قوله: ﴿أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ توبيخ لهم و حث على التنبه فالإيمان.

قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ اَلْأَوَّلُونَ إضراب عن نفي سابق يدل عليه الاستفهام المتقدم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا و كذا.

و في تشبيه قولهم بقول الأولين إشارة إلى أن تقليد الآباء منعهم عن اتباع الحق و أوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى و هو نفي المعاد، و الإخلاص إلى الأرض و الانغمار في الماديات سنة جارية فيهم في آخراهم و أولاهم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بيان لقوله:

﴿قَالُوا في الآية السابقة و الكلام مبني على الاستبعاد.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ الأساطير الأباطيل و الأحاديث الخرافية و هي جمع أسطورة كأكاذيب جمع أكذوبة و أعاجيب جمع أعجوبة و إطلاق الأساطير و هو جمع على البعث و هو مفرد بعناية أنه مجموع عدات كل واحد منها أسطورة كالإحياء و الجمع و الحشر و الحساب و الجنة و النار و غيرها، و الإشارة بهذا إلى حديث البعث و قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ، متعلق بقوله: ﴿وُعِدْنَا على ما يعطيه سياق الجملة.

 

 

 و المعنى: أن وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن و آباؤنا ليس البعث الموعود إلا أحاديث خرافية وضعها و نظمها الأناسي الأولون في صورة إحياء الأموات و حساب الأعمال و الجنة و النار و الثواب و العقاب.

و الدليل على كونها أساطير أن الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا و يخوفوننا بقيام الساعة و لو كان حقا غير خرافي لوقع.

و من هنا يظهر أولا أن قولهم: ﴿مِنْ قَبْلُ لتمهيد الحجة على قولهم بعده ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ.

و ثانيا: أن الكلام مسوق للترقي فالآية السابقة: ﴿أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ مبنية على الاستبعاد و هذه الآية متضمنة للإنكار مبنيا على حجة واهية.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لما ذكر استبعادهم للبعث ثم إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك و الربوبية و السلطنة، و وجه الكلام إلى الوثنيين المنكرين للبعث و هم معترفون به تعالى بمعنى أنه الموجد للعالم و رب الأرباب و الآلهة المعبودون دونه من خلقه، و لذا أخذ وجوده تعالى مسلما في ضمن الحجة.

فقوله: ﴿قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسألهم عن مالك الأرض و من فيها من أولي العقل من هو؟ و معلوم أن السؤال إنما هو عن الملك الحقيقي الذي هو قيام وجود شي‏ء بشي‏ء بحيث لا يستقل الشي‏ء المملوك عن مالكه بأي وجه فرض دون الملك الاعتباري الذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة الاجتماع و هو يقبل الصحة و الفساد و يقع موردا للبيع و الشري، و ذلك لأن الكلام مسوق لإثبات صحة جميع التصرفات التكوينية و ملاكها الملك التكويني الحقيقي دون التشريعي الاعتباري.

قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ إخبار عن جوابهم و هو أن الأرض و من فيها مملوكة لله، و لا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإن هذا النوع من الملك لا يقوم إلا بالعلة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياما لا يستقل عنها بوجه من الوجوه، و العلة الموجدة للأرض و من فيها هو الله سبحانه وحده لا شريك له حتى باعتراف الوثنيين.

و قوله: ﴿قُلْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبخهم على عدم

 

 

 تذكرهم بالحجة الدالة على إمكان البعث، و المعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك الأرض و من فيها لم لا تتذكرون أن له لمكان مالكيته أن يتصرف في أهلها بالإحياء بعد الإماتة.

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ أمره ثانيا أن يسألهم عن رب السماوات السبع و رب العرش العظيم من هو؟.

و المراد بالعرش هو المقام الذي يجتمع فيه أزمة الأمور و يصدر عنه كل تدبير، و تكرار لفظ الرب في قوله: ﴿وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ للإشارة إلى أهمية أمره و رفعة محله كما وصفه الله بالعظمة، و قد تقدم البحث عنه في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب.

ذكروا أن قولنا: لمن السماوات السبع و قولنا: من رب السماوات السبع بمعنى واحد كما يقال: لمن الدار و من رب الدار فقوله تعالى: ﴿مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ؟ سؤال عن مالكها، و لذا حكى الجواب عنهم بقوله: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ على المعنى و لو أنه أجيب عنه فقيل: «الله» كما في القراءة الأخرى كان جوابا على اللفظ.

و فيه أن الذي ثبت في اللغة أن رب‏ الشي‏ء هو مالكه المدبر لأمره بالتصرف فيه فيكون الربوبية أخص من الملك، و لو كان الرب مرادفا للمالك لم يستقم ترتب الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين ﴿قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا إلى قوله ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ إذ كان معنى السؤال: من رب الأرض و من فيها، و من المعلوم أنهم كانوا قائلين بربوبية آلهتهم من دون الله للأرض و من فيها فكان جوابهم إثبات الربوبية لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه و هذا بخلاف السؤال عن مالك الأرض و من فيها فإن الجواب عنه تصديقه لله لأنهم كانوا يرون الإيجاد لله و الملك لازم الإيجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به.

ثم على تقدير كون الرب أخص من المالك يمكن أن يتوهم توجه الإشكال إلى ترتب الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ إلى قوله ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فإن جل الوثنيين من الصابئين و غيرهم يرون للسماوات و ما فيها من الشمس و القمر و غيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن رب السماوات

 

 

 أجابوا بإثبات الربوبية لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ إذ لا ملزم يلزمهم على الاعتراف به.

و الذي يحسم أصل الإشكال أن البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنهم لم يكونوا يبنون آراءهم في أمر الآلهة على أصل أو أصول منظمة مسلمة عند الجميع فأمثال الصابئين و البرهمائيين و البوذيين كانوا يقسمون أمور العالم إلى أنواع و أقسام كأمر السماء و الأرض و أنواع الحيوان و النبات و البر و البحر و غير ذلك و يثبتون لكل منها إلها دون الله يعبدونه من دون الله و يعدونه شفيعا مقربا ثم يتخذون له صنما يمثله.

و أما عامتهم من الهمجيين كأعراب الجاهلية و القاطنين في أطراف المعمورة فلم يكن معتقداتهم في ذلك مبنية على قواعد مضبوطة و ربما كانوا يرون للمعمورة من الأرض و سكانها آلهة دون الله لها أصنام و ربما رأوا نفس الأصنام المصنوعة آلهة، و أما السماوات و السماويات و كذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله سبحانه و الله ربها كما يلوح إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون: ﴿يَا هَامَانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبَابَ أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلى‏ إِلَهِ مُوسى‏: المؤمن: ٣٧، فإن ظاهره أنه كان يرى أن الذي يدعو إليه موسى و هو الله تعالى إله السماء و بالجملة السماوات و ما فيهن و من فيهن من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثم الملائكة أرباب لما دون السماوات.

و أما الصابئون و من يحذو حذوهم فإنهم كما سمعت يرون للسماوات و ما فيهن من النجوم و الكواكب آلهة و أربابا من دون الله و هم الملائكة و الجن و هم يرون الملائكة و الجن موجودات مجردة عن المادة طاهرة عن لوث الطبيعة، و حينما يعدونهم ساكنين في السماوات فإنما يريدون باطن هذا العالم و هو العالم السماوي العلوي الذي فيه تتقدر الأمور و منه ينزل القضاء و به تستمد الأسباب الطبيعية، و هو بما فيه من الملائكة و غيرهم مربوب لله سبحانه و إن كان من فيه آلهة للعالم الحسي و أربابا لمن فيه و الله رب الأرباب.

إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن رب السماوات السبع و الجواب عنه باعترافهم أنه الله في محله كما عرفت.

 

 

و إن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممن يرى للسماء إلها دون الله كان المراد بالسماء العالم السماوي بسكنته من الملائكة و الجن دون السماوات المادية، و يؤيده مقارنته بالسؤال عن رب العرش العظيم فإن العرش مقام صدور الأحكام المتعلقة بمطلق الخلق الذي منهم أربابهم و آلهتهم، و من المعلوم أن لا رب لمقام هذا شأنه إلا الله إذ لا يفوقه شي‏ء دونه.

و هذا العالم العلوي هو عندهم عالم الأرباب و الآلهة لا رب له إلا الله سبحانه فالسؤال عن ربه و الجواب عنه باعترافهم أنه الله في محله كما أشير إليه.

فمعنى الآية و الله أعلم قل: من رب السماوات السبع التي منها تنزل أقدار الأمور و أقضيتها و رب العرش العظيم الذي منه يصدر الأحكام لعامة ما في العالم من الملائكة فمن دونهم؟ فإنهم و ما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله و هو الذي ملكهم ما ملكوه.

قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ حكاية لجوابهم بالاعتراف بأن السماوات السبع و العرش العظيم لله سبحانه.

و المعنى: سيجيبونك بأنها لله قل لهم تبكيتا و توبيخا: فإذا كان السماوات السبع منها ينزل الأمر و العرش العظيم منه يصدر الأمر لله سبحانه فلم لا تتقون سخطه إذ تنكرون البعث و تعدونه من أساطير الأولين و تسخرون من أنبيائه الذين وعدوكم به؟ فإن له تعالى أن يصدر الأمر ببعث الأموات و إنشاء النشأة الآخرة للإنسان و ينزل الأمر به من السماء.

و من لطيف تعبير الآية التعبير بقوله: ﴿لِلَّهِ فإن الحجة تتم بالملك و إن لم يعترفوا بالربوبية.

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الملكوت‏ هو الملك بمعنى السلطنة و الحكم، و يفيد مبالغة في معناه و الفرق بين الملك بالفتح و الكسر و بين المالك أن المالك هو الذي يملك المال و الملك يملك المالك و ماله، فله ملك في طول ملك و له التصرف بالحكم في المال و مالكه.

و قد فسر تعالى ملكوته بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ

 

 

 فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: يس - ٨٣، فملكوت كل شي‏ء هو كونه عن أمره تعالى بكلمة كن و بعبارة أخرى وجوده عن إيجاده تعالى.

فكون ملكوت كل شي‏ء بيده كناية استعارية عن اختصاص إيجاد كل ما يصدق عليه الشي‏ء به تعالى كما قال: ﴿اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: الزمر: ٦٢، فملكه تعالى محيط بكل شي‏ء و نفوذ أمره و مضي حكمه ثابت على كل شي‏ء.

و لما كان من الممكن أن يتوهم أن عموم الملك و نفوذ الأمر لا ينافي إخلال بعض ما أوجده من الأسباب و العلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عما يريده تمم قوله: ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ بقوله: ﴿وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ و هو في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنه بتمام معنى الكلمة فليس لشي‏ء شي‏ء من الملك في عرض ملكه و لو بالمنع و الإخلال و الاعتراض فله الملك و له الحكم.

و قوله: ﴿وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ من الجوار، و هو في أصله قرب المسكن ثم جعلوا للجوار حقا و هو حماية الجار لجاره عمن يقصده بسوء لكرامة الجار على الجار بقرب الدار و اشتق منه الأفعال يقال: استجاره فأجاره أي سأله الحماية فحماه أي منع عنه من يقصده بسوء.

و هذا جار في جميع أفعاله تعالى فما من شي‏ء يخصه الله بعطية حدوثا أو بقاء إلا و هو يحفظه على ما يريد و بمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع لو فرض إنما هو بإذن منه و مشية فليس منعا له تعالى بل منعا منه و تحديدا لفعل منه بفعل آخر، و ما من سبب من الأسباب يفعل فعلا إلا و له تعالى أن يتصرف فيه بما لا يريده لأنه تعالى هو الذي ملكه الفعل بمشيته فله أن يمنعه منه أو من بعضه.

فالمراد بقوله: ﴿وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ أنه يمنع السوء عمن قصد به و لا يمنعه شي‏ء إذا أراد شيئا بسوء عما أراد.

و معنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الذي يختص به إيجاد كل شي‏ء بما له من الخواص و الآثار و هو يحمي من استجار به و لا يحمى عنه شي‏ء إذا أراد شيئا بسوء؟ إن كنتم تعلمون.

قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ قيل: إن المراد بالسحر أن يخيل الشي‏ء للإنسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.

 

 

 و المعنى: سيجيبونك أن الملكوت لله قل لهم تبكيتا و توبيخا: فإلى متى يخيل لكم الحق باطلا فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة و يعيد الأموات للحساب و الجزاء بأمر يأمره و هو قوله: ﴿كُنْ.

و اعلم أن الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحده تعالى في الربوبية فإن الملك الحقيقي لا يتخلف عن جواز التصرفات، و المالك المتصرف هو الرب.

قوله تعالى: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ إضراب عن النفي المفهوم من الحجج التي أقيمت في الآيات السابقة، و المعنى فإذا كانت الحجج المبنية تدل على البعث و هم معترفون بصحتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلا بل جئناهم بلسان الرسل بالحق و إنهم لكاذبون في دعواهم كذبهم و نفيهم للبعث.

قوله تعالى: ﴿مَا اِتَّخَذَ اَللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ إلخ، القول بالولد كان شائعا بين الوثنيين يعدون الملائكة أو بعضهم و بعض الجن و بعض القديسين من البشر أولادا لله سبحانه و تبعهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، و هذا النوع من الولادة و البنوة مبني على اشتمال الابن على شي‏ء من حقيقة اللاهوت و جوهره و انفصاله منه بنوع من الاشتقاق فيكون المسمى بالابن إلها مولودا من إله.

و أما البنوة الادعائية بالتبني و هو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر فلا يوجب اشتمال الابن على شي‏ء من حقيقة الأب كقول اليهود نحن أبناء الله و أحباؤه، و ليس الولد بهذا المعنى مرادا لأن الكلام مسوق لنفي تعدد الآلهة، و لا يستلزم هذا النوع من البنوة ألوهية و إن كان التسمي و التسمية بها ممنوعا.

فالمراد باتخاذ الولد إيجاد شي‏ء بنحو التبعض و الاشتقاق يكون مشتملا بنحو على شي‏ء من حقيقة الموجد لا تسمية شي‏ء موجود ابنا و ولدا لغرض من الأغراض كما ذكره بعضهم.

و الولد كما عرفت أخص مصداقا عندهم من الإله فإن بعض آلهتهم ليس بولد عندهم فقوله: ﴿مَا اِتَّخَذَ اَللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ترق من نفي الأخص إلى نفي الأعم و لفظة ﴿مِنْ في الجملتين زائدة للتأكيد.

 

 

 و قوله: ﴿إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ حجة على نفي التعدد ببيان محذوره إذ لا يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها و ربوبيتها، و معنى ربوبية الإله في شطر من الكون و نوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شي‏ء غير نفسه حتى إلى من فوض إليه الأمر، و من البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا أمران متباينان.

و لازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير و تنقطع رابطة الاتحاد و الاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في العالم الإنساني عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوان و النبات و البر و البحر و السهل و الجبل و الأرض و السماء و غيرها و كل منها عن كل منها، و فيه فساد السماوات و الأرض و ما فيهن، و وحدة النظام الكوني و التئام أجزائه و اتصال التدبير الجاري فيه يكذبه.

و هذا هو المراد بقوله: ﴿إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشح منه من التدبير.

و قوله: ﴿وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ محذور آخر لازم لتعدد الآلهة تتألف منه حجة أخرى على النفي، بيانه أن التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير العرضية كالتدبيرين الجاريين في البر و البحر و التدبيرين الجاريين في الماء و النار، و منها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلي حاكم و تدبير خاص جزئي محكوم كتدبير العالم الأرضي و تدبير النبات الذي فيه، و كتدبير العالم السماوي و تدبير كوكب من الكواكب التي في السماء، و كتدبير العالم المادي برمته و تدبير نوع من الأنواع المادية.

فبعض التدبير و هو التدبير العام الكلي يعلو بعضا بمعنى أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني و لا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص.

و لازم ذلك أن يكون الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عاليا بالنسبة إلى الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه و أخص منه و أخس و استعلاء الإله على الإله محال.

لا لأن الاستعلاء المذكور يستلزم كون الإله مغلوبا لغيره أو ناقصا في قدرته

 

 

محتاجا في تمامه إلى غيره أو محدودا و المحدودية تفضي إلى التركيب، و كل ذلك من لوازم الإمكان المنافي لوجوب وجود الإله فيلزم الخلف كما قرره المفسرون فإن الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوض إليهم تدبير أمر ما دونها، و هي مربوبة لله سبحانه و أرباب لما دونها و الله سبحانه رب الأرباب و إله الآلهة و هو الواجب الوجود بالذات وحده.

بل استحالة الاستعلاء إنما هو لاستلزامه بطلان استقلال المستعلى عليه في تدبيره و تأثيره إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير و الحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمدا في تأثيره محتاجا فيه إلى العالي فيكون سببا من الأسباب التي يتوسل بها إلى تدبير ما دونه لا إلها مستقلا بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلها غير إله بل سببا يدبر به الأمر هذا خلف.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية، و للمفسرين في تقرير حجة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدد الآلهة أمورا تستلزم إمكانها و تنافي كونها واجبة الوجود فيلزم الخلف، و القوم لا يقولون في شي‏ء من آلهتهم من دون الله بوجوب الوجود، و قد أفرط بعضهم فقرر الآية بوجوه مؤلفة من مقدمات لا إشارة في الآية إلى جلها و لا إيهام، و فرط آخرون فصرحوا بأن الملازمة المذكورة في الآية عادية لا عقلية، و الدليل إقناعي لا قطعي.

ثم لا يشتبهن عليك أمر قوله: ﴿لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ حيث نسب الخلقة إليها و قد تقدم أنهم قائلون بإله التدبير دون الإيجاد و ذلك لأن بعض الخلق من التدبير فإن خلق جزئي من الجزئيات مما يتم بوجوده النظام الكلي من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل و التدبير مختلطان و قد نسب الخلق إلى أعمالنا كما في قوله:

﴿وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ: الصافات: ٩٦، و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ: الزخرف: ١٢.

فالقوم يرون أن كلا من الآلهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منا أفعاله، و أما إعطاء الوجود للأشياء فمما يختص بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحد و لا وثني إلا بعض من لم يفرق بين الفعل و الإيجاد من المتكلمين.

و قد ختم الآية بالتنزيه بقوله: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.

 

 

قوله تعالى: ﴿عَالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ فَتَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ صفة لاسم الجلالة في قوله: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ و تأخيرها للدلالة على علمه بتنزهه عن وصفهم إياه بالشركة على ما يعطيه السياق فيكون في معنى قوله: ﴿قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ: يونس: ١٨.

و يرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنه لا يعلم لنفسه شريكا كما أن قوله: ﴿شَهِدَ اَللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ: آل عمران: ١٨ احتجاج بالشهادة على نفي أصل الوجود.

و قيل: إنه برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص و ضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة و هو نوع جهل و قصور. انتهى.

و فيه أن ذلك كسائر ما قرروه من البراهين ينفي تعدد الإله الواجب الوجود بالذات، و الوثنيون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك. على أن بعض مقدمات ما قرر من الدليل ممنوع.

و قوله: ﴿فَتَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ تفريع على جميع ما تقدم من الحجج على نفي الشركاء.

قوله تعالى: ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ لما فرغ من نقل ما تفوهوا به من الشرك بالله و إنكار البعث و الاستهزاء بالرسل و أقام الحجج على إثبات حقيتها رجع إلى ما تقدم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسأله أن ينجيه من العذاب الذي أوعدهم به إن أراه ذلك العذاب.

فقوله: ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ أمر بالدعاء و الاستغاثة، و تكرار ﴿رَبِّ لتأكيد التضرع و ما في قوله: ﴿إِمَّا تُرِيَنِّي زائدة و هي المصححة لدخول نون التأكيد على الشرط و أصله: إن ترني. و في قوله: ﴿مَا يُوعَدُونَ دلالة على أن بعض ما تقدم في السورة من الإيعاد بالعذاب إيعاد بعذاب دنيوي. و ما في قوله: ﴿رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ من الكون فيهم كناية عن شمول عذابهم له.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّا عَلىَ أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)

 

 

 بقدرة ربه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، و لعل المراد به ما عذبهم الله به يوم بدر و قد أراه الله ذلك و أراه المؤمنين و شفى به غليل صدورهم.

قوله تعالى: ﴿اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اَلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ أي ادفع السيئة التي تتوجه إليك منهم بالحسنة و اختر للدفع من الحسنات أحسنها، و هو دفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن مثل أنه لو أساءوا إليك بالإيذاء أحسن إليهم بغاية ما استطعت من الإحسان ثم ببعض الإحسان في الجملة و لو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم.

و قوله: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن لا يسوءونه ما يلقاه و لا يحزنه ما يشاهد من تجريهم على ربهم فإنه أعلم بما يصفون.

قوله تعالى: ﴿وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ اَلشَّيَاطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ، قال في مجمع البيان،: الهمزة شدة الدفع، و منه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى الحلق باعتماد شديد و دفع، و همزة الشيطان دفعه بالإغواء إلى المعاصي انتهى.

 و في تفسير القمي، عنه (عليه السلام): أنه ما يقع في قلبك من وسوسة الشياطين.

و في الآيتين أمره (ص) أن يستعيذ بربه من إغواء الشياطين و من أن يحضروه، و فيه إيهام إلى أن ما ابتلي به المشركون من الشرك و التكذيب من همزات الشياطين و إحاطتهم بهم بالحضور.

[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ٩٩ الی ١١٨]

﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٠٠ فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ ١٠١ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ١٠٢ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا

 

 

﴿أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ١٠٣ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ وَ هُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ١٠٤ أَ لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلىَ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ١٠٥ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ١٠٦ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ١٠٧ قَالَ اِخْسَؤُا فِيهَا وَ لاَ تُكَلِّمُونِ ١٠٨ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ ١٠٩ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ١١٠ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفَائِزُونَ ١١١ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ١١٢ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ ١١٣ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ١١٤ أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ١١٥ فَتَعَالَى اَللَّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ ١١٦ وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ ١١٧ وَ قُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ ١١٨  

(بيان‏)

الآيات تفصل القول في عذاب الآخرة التي أوعدهم الله بها في طي الآيات السابقة و هو من يوم الموت إلى يوم البعث ثم إلى الأبد، و تذكر أن الحياة الدنيا التي غرتهم

 

 

 و صرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون. ثم تختم السورة بأمره (ص) أن تسأله ما حكاه عن عباده المؤمنين الفائزين في الآخرة ﴿رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ و قد افتتحت السورة بأنهم مفلحون وارثون للجنة.

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ ﴿حَتَّى متعلق بما تقدم من وصفهم له تعالى بما هو منزه منه و شركهم به، و الآيات المتخللة اعتراض في الكلام أي لا يزالون يشركون به و يصفونه بما هو منزه منه و هم مغترون بما نمدهم به من مال و بنين حتى إذا جاء أحدهم الموت.

و قوله: ﴿قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ الظاهر أن الخطاب للملائكة المتصدين لقبض روحه و ﴿رَبِّ استغاثة معترضة بحذف حرف النداء و المعنى قال - و هو يستغيث بربه - ارجعون.

و قيل: إن الخطاب للرب تعالى و الجمع للتعظيم كقول امرأة فرعون له على ما حكاه الله: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ.

و قيل: هو من جمع الفعل و يفيد تعدد الخطاب، و المعنى رب ارجعني ارجعني ارجعني كما قيل في قوله:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل‏

 أي قف قف نبك.

و في الوجهين أن الجمع للتعظيم إن صح ثبوته في اللغة العربية فهو شاذ لا يحمل عليه كلامه تعالى، و أشذ منه جمع الفعل بالمعنى الذي ذكر.

قوله تعالى: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا «لعل» للترجي و هو رجاء تعلقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربما ذكروا الرجوع بوعد العمل الصالح كقولهم: ﴿فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً: السجدة: ١٢، و ربما ذكروه بلفظ التمني كقولهم: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا: الأنعام: ٢٧.

و قوله: ﴿أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ أي أعمل عملا صالحا فيما تركت من المال بإنفاقه في البر و الإحسان و كل ما فيه رضا الله سبحانه.

و قيل: المراد بما تركت الدنيا التي تركها بالموت و العمل الصالح أعم من العبادات المالية و غيرها من صلاة و صوم و حج و نحوها، و هو حسن غير أن الأول هو الأظهر.

 

 

 و قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أي لا يرجع إلى الدنيا إن هذه الكلمة ﴿اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلا أنها كلمة هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏َ يَوْمِ يُبْعَثُونَ البرزخ هو الحاجز بين الشيئين كما في قوله: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ: الرحمن: ٢٠، و المراد بكونه وراءهم كونه أمامهم محيطا بهم و سمي وراءهم بعناية أنه يطلبهم كما أن مستقبل الزمان أمام الإنسان و يقال: وراءك يوم كذا بعناية أن الزمان يطلب الإنسان ليمر عليه و هذا معنى قول بعضهم: إن في وراء «معنى الإحاطة، قال تعالى: ﴿وَ كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً: الكهف: ٧٩.

و المراد بهذا البرزخ عالم القبر و هو عالم المثال الذي يعيش فيه الإنسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق و تدل عليه آيات أخر و تكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) و كذا من طرق أهل السنة، و قد تقدم البحث عنه في الجزء الأول من الكتاب.

و قيل: المراد بالآية أن بينهم و بين الدنيا حاجزا يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة و معلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم و إياس لهم من الرجوع إليها من أصله.

و فيه أن ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا و بين يوم يبعثون لا بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا، و لو كان المراد أن الموت حاجز بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا لغا التقييد بقوله: ﴿إِلى‏َ يَوْمِ يُبْعَثُونَ لا لدلالته من طريق المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا و لا رجوع بعد البعث بل للغوية أصل التقييد و إن فرض أنهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد القيامة.

على أن قولهم: إنه تأكيد لعدم الرجوع بإياسهم من الرجوع مطلقا مع قولهم بأن عدم الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي الرجوع مطلقا المفهوم من ﴿كَلاَّ بنفي الرجوع الموقت المحدود بقوله: ﴿إِلى‏َ يَوْمِ يُبْعَثُونَ فافهمه.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ المراد به

 

 

النفخة الثانية التي تحيا فيها الأموات دون النفخة الأولى التي تموت فيها الأحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتب عليها من انتفاء الأنساب و التساؤل و ثقل الميزان و خفته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية.

و قوله: ﴿فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ نفي لآثار الأنساب بنفي أصلها فإن الذي يستوجب حفظ الأنساب و اعتبارها هي الحوائج الدنيوية التي تدعو الإنسان إلى الحياة الاجتماعية التي تبتني على تكون البيت، و المجتمع المنزلي يستعقب التعارف و التعاطف و أقسام التعاون و التعاضد و سائر الأسباب التي تدوم بها العيشة الدنيوية و يوم القيامة ظرف جزاء الأعمال و سقوط الأسباب التي منها الأعمال فلا موطن فيه للأسباب الدنيوية التي منها الأنساب بلوازمها و خواصها و آثارها.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ ذكر لأظهر آثار الأنساب، و هو التساؤل بين المنتسبين بسؤال بعضهم عن حال بعض، للإعانة و الاستعانة في الحوائج لجلب المنافع و دفع المضار.

و لا ينافي الآية ما وقع في مواضع أخر من قوله تعالى: ﴿وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏َ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ: الصافات: ٢٧، فإنه حكاية تساؤل أهل الجنة بعد دخولها و تساؤل أهل النار بعد دخولها و هذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب و القضاء.

قوله تعالى: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ إلى آخر الآيتين.

الموازين‏ جمع الميزان أو جمع الموزون و هو العمل الذي يوزن يومئذ، و قد تقدم الكلام في معنى الميزان و ثقله و خفته في تفسير سورة الأعراف.

قوله تعالى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ وَ هُمْ فِيهَا كَالِحُونَ قال في المجمع:، اللفح و النفح‏ بمعنى إلا أن اللفح أشد تأثيرا و أعظم من النفح، و هو ضرب من السموم للوجه و النفح ضرب الريح الوجه، و الكلوح‏ تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان. انتهى.

و المعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتى تتقلص شفاههم و تنكشف عن أسنانهم كالرءوس المشوية.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلى‏َ عَلَيْكُمْ إلخ أي يقال لهم: أ لم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون.

 

 

 قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ الشقوة و الشقاوة و الشقاء خلاف السعادة و سعادة الشي‏ء ما يختص به من الخير، و شقاوته فقد ذلك و إن شئت فقل: ما يختص به من الشر.

و قوله: ﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أي قهرنا و استولت علينا شقوتنا، و في إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أن لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، و الدليل عليه قولهم بعد: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ إذ هو وعد منهم بالحسنات و لو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياري لم يكن للوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج.

و قد عدوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق السعادة و الشقاوة غير أن الشقوة غلبت فأشغلت المحل و كانت الشقوة شقوة أنفسهم أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم و سيئات أعمالهم لأنهم فرضوا أنفسهم خالية عن السعادة و الشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم و ارتباطها بها إنما هي من جهة سوء اختيارهم و سيئات أعمالهم.

و بالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجة و لحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية بعد قوله: ﴿أَ لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلى‏َ عَلَيْكُمْ إلخ.

ثم عقبوا قولهم: ﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا بقولهم: ﴿وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ تأكيدا لاعترافهم، و إنما اعترفوا بالذنب ليتوسلوا به إلى التخلص من العذاب و الرجوع إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أن اعتراف العاصي المتمرد بذنبه و ظلمه توبة منه مطهرة له تنجيه من تبعة الذنب و هم يعلمون أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و التوبة و الاعتراف بالذنب من الأعمال لكن ذلك من قبيل ظهور الملكات كما أنهم يكذبون يومئذ و ينكرون أشياء مع ظهور الحق و معاينته لاستقرار ملكة الكذب و الإنكار في نفوسهم، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ: المجادلة: ١٨ و قال: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً: المؤمن: ٧٤.

قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ سؤال منهم للرجوع إلى الدنيا على ما تدل عليه آيات أخر فهو من قبيل طلب المسبب بطلب سببه،

 

 

 و مرادهم أن يعملوا صالحا بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممن تاب و عمل صالحا.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اِخْسَؤُا فِيهَا وَ لاَ تُكَلِّمُونِ قال الراغب: خسأت‏ الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر و ذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى. ففي الكلام استعارة بالكناية، و المراد زجرهم بالتباعد و قطع الكلام.

قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا و كان إيمانهم توبة و رجوعا إلى الله كما سماه الله في كلامه توبة، و كان سؤالهم شمول الرحمة و هي الرحمة الخاصة بالمؤمنين البتة سؤالا منهم أن يوفقهم للسعادة فيعملوا صالحا فيدخلوا الجنة، و قد توسلوا إليه باسمه خير الراحمين.

فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و ذلك عين ما قاله هؤلاء مما معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و إنما الفرق بينهما من حيث الموقف.

قوله تعالى: ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ضمائر الخطاب للكفار و ضمائر الغيبة للمؤمنين، و السياق يشهد أن المراد من ﴿ذِكْرِي قول المؤمنين: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا إلخ، و هو معنى قول الكفار في النار.

و قوله: ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي أنسى اشتغالكم بسخرية المؤمنين و الضحك منهم ذكري، ففي نسبة الإنساء إلى المؤمنين دون سخريتهم إشارة إلى أنه لم يكن للمؤمنين عندهم شأن من الشئون إلا أن يتخذوهم سخريا.

قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفَائِزُونَ المراد باليوم يوم الجزاء، و متعلق الصبر معلوم من السياق محذوف للإيجاز أي صبروا على ذكري مع سخريتكم منهم لأجله، و قوله: ﴿أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفَائِزُونَ مسوق للحصر أي هم الفائزون دونكم.

و هذه الآيات الأربع ﴿قَالَ اِخْسَؤُا إلى قوله ﴿هُمُ اَلْفَائِزُونَ إياس قطعي للكفار من الفوز بسبب ما تعلقوا به من الاعتراف بالذنب و سؤال الرجوع إلى الدنيا و محصلها أن اقنطوا مما تطلبونه بهذا القول و هو الاعتراف و السؤال فإنه عمل إنما كان ينفع في دار العمل و هي الدنيا، و قد كان المؤمنون من عبادي يتخذونه وسيلة إلى

 

 

 الفوز و كنتم تسخرون و تضحكون منهم حتى تركتموه و بدلتموه من سخريتهم حتى إذا كان اليوم و هو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل و بقيتم صفر الأكف تريدون أن تتوسلوا بالعمل اليوم و هو يوم الجزاء دون العمل.

قوله تعالى: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ مما يسأل الله الناس عنه يوم القيامة مدة لبثهم في الأرض و قد ذكر في مواضع من كلامه و المراد به السؤال عن مدة لبثهم في القبور كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ: الروم: ٥٥، و قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ: الأحقاف: ٣٥، و غيرهما من الآيات، فلا محل لقول بعضهم: إن المراد به المكث في الدنيا، و احتمال بعضهم أنه مجموع اللبث في الدنيا و البرزخ.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ ظاهر السياق أن المراد باليوم هو الواحد من أيام الدنيا و قد استقلوا اللبث في الأرض حينما قايسوه بالبقاء الأبدي الذي يلوح لهم يوم القيامة و يعاينونه.

و يؤيده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، و في موضع آخر بعشية أو ضحاها.

و قوله: ﴿فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الذين يعدونه و فسر بالملائكة العادين للأيام و ليس ببعيد.

قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ القائل هو الله سبحانه، و في الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور و فيه توطئة لما يلحق به من قوله: ﴿لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بما فيه من التمني.

و المعنى: قال الله: الأمر كما قلتم فما مكثتم إلا قليلا فليتكم كنتم تعلمون في الدنيا أنكم لا تلبثون في قبوركم إلا قليلا ثم تبعثون حتى لا تنكروا البعث و لم تبتلوا بهذا العذاب الخالد، و التمني في كلامه تعالى كالترجي راجع إلى المخاطب أو المقام.

و جعل بعضهم ﴿لَوْ في الآية شرطية و الجملة شرطا محذوف الجزاء و تكلف في تصحيح الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم و هو بعيد عن السياق كما هو ظاهر و أبعد منه جعل «لو» وصلية مع أن «لو» الوصلية لا تجي‏ء بغير واو العطف.

قوله تعالى: ﴿أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً إلى قوله ﴿رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ

 

 

بعد ما بين ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثم اللبث في البرزخ ثم البعث بما فيه من الحساب و الجزاء وبخهم على حسبانهم أنهم لا يبعثون فإن فيه جرأة على الله بنسبة العبث إليه ثم أشار إلى برهان العبث.

فقوله: ﴿أَ فَحَسِبْتُمْ إلخ، معناه فإذا كان الأمر على ما أخبرناكم من تحسركم عند معاينة الموت ثم اللبث في القبور ثم البعث فالحساب و الجزاء فهل تظنون أنما خلقناكم عبثا تحيون و تموتون من غير غاية باقية في خلقكم و أنكم إلينا لا ترجعون؟.

و قوله: ﴿فَتَعَالَى اَللَّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ إشارة إلى برهان يثبت البعث و يدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنه تعالى وصف نفسه في كلمة التنزيه بالأوصاف الأربعة: أنه ملك و أنه حق و أنه لا إله إلا هو و أنه رب العرش الكريم.

فله أن يحكم بما شاء من بدء و عود و حياة و موت و رزق نافذا حكمه ماضيا أمره لملكه، و ما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق و لا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق دون أن يكون عبثا باطلا ثم لما أمكن أن يتصور أن معه مصدر حكم آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنه لا إله أي لا معبود إلا هو، و الإله معبود لربوبيته فإذا لا إله غيره فهو رب العرش الكريم عرش العالم الذي هو مجتمع أزمة الأمور و منه يصدر الأحكام و الأوامر الجارية فيه.

فتلخص أنه هو الذي يصدر عنه كل حكم و يوجد منه كل شي‏ء و لا يحكم إلا بحق و لا يفعل إلا حقا فللأشياء رجوع إليه و بقاء به و إلا لكانت عبثا باطلة و لا عبث في الخلق و لا باطل في الصنع.

و الدليل على اتصافه بالأوصاف الأربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد لغيره.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى لا دعاؤه تعالى و دعاء إله آخر معا فإن المشركين جلهم أو كلهم لا يدعون الله تعالى و إنما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، و يمكن أن يكون المراد بالدعاء الإثبات فإن إثبات إله آخر لا ينفك عن دعائه.

 

 

 و قوله: ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ قيد توضيحي لإله آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل البرهان قائم على نفي الإله الآخر مطلقا.

و قوله: ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ كلمة تهديد و فيه قصر حسابه بكونه عند ربه لا يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء و هو النار كما صرحت به الآيات السابقة فإنه يصيبه لا محالة، و مرجعه إلى نفي الشفعاء و الإياس من أسباب النجاة و تممه بقوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ قُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ خاتمة السورة و قد أمر فيها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنهم يقولونه في الدنيا و أن جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ إلخ، الآيتان ١٠٩ و ١١١ من السورة.

و بذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أول السورة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ و قد تقدم الكلام في معنى الآية.

(بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن و لا مسلم، و هو قوله تعالى: ﴿رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

 أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخر غيرها عنه (عليه السلام) و عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه.

 و في تفسير القمي،: قوله عز و جل: ﴿وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال:

البرزخ هو أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة، و هو قول الصادق (عليه السلام): و الله ما أخاف عليكم إلا البرزخ و أما إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم.:

أقول: و روي الذيل في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد عنه (عليه السلام).

 و فيه، قال علي بن الحسين (عليه السلام): إن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.

 

 

 و في الكافي، بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش.

فقال: لا. المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم‏

 و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يقولون: ربنا أقم الساعة لنا، و أنجز لنا ما وعدتنا و ألحق آخرنا بأولنا.

 و فيه، بإسناده أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تتعارف و تتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان؟ و ما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى قد هوى.

أقول: أخبار البرزخ و تفاصيل ما يجري على المؤمنين و غيرهم فيه كثيرة متواترة، و قد مر شطر منها في أبحاث متفرقة مما تقدم.

 في مجمع البيان، و قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : كل حسب و نسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي و نسبي.

 أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، و قد رواها في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظها: أن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي و سببي و صهري‏، و عن عدة منهم عن عمر بن الخطاب عنه (ص) و لفظها: كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي‏ و عن ابن عساكر عن ابن عمر عنه (ص) و لفظها: كل نسب و صهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي و صهري. و في المناقب، في حديث طاووس عن زين العابدين (عليه السلام): خلق الله الجنة لمن أطاع و أحسن و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و لو كان ولدا قرشيا أ ما سمعت قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ و الله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح.

 

 

 أقول: سياق الآية كالآبي عن التخصيص و لعل من آثار نسبه (ص) أن يوفق ذريته من صالح العمل بما ينتفع به يوم القيامة.

و في تفسير القمي، :و قوله عز و جل: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ قال: تلهب عليهم فتحرقهم ﴿وَ هُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أي مفتوحي الفم متربدي الوجوه.

 و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل:

﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا قال: بأعمالهم شقوا.

 و في العلل، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد (عليه السلام): يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب. قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء. قال:

مه يا ابن أخ خلقنا للبقاء و كيف تفنى جنة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن إنما نتحول من دار إلى دار.

 و في تفسير القمي، :قوله تعالى: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ إلى قوله ﴿فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ قال: سل الملائكة الذين يعدون علينا الأيام، و يكتبون ساعاتنا و أعمالنا التي اكتسبنا فيها.

 و في الدر المنثور،: أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قال لأهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي و رضواني و جنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين.

ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري و سخطي امكثوا فيها خالدين. أقول: و في انطباق معنى الحديث على الآية بما لها من السياق و بما تشهد به الآيات النظائر خفاء، و قد تقدم البحث عن مدلول الآية مستمدا من الشواهد.

 

 

(٢٤) سورة النور مدنية و هي أربع و ستون آية (٦٤)

[سورة النور (٢٤): الآیات ١ الی ١٠]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ١ اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٢ اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ ٣ وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ ٤ إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥ وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ ٦ وَ اَلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٧ وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٨ وَ اَلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اَللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٩ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ١٠

 

 

(بيان‏)

غرض السورة ما ينبئ عنه مفتتحها ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فهي تذكرة نبذة من الأحكام المفروضة المشرعة ثم جملة من المعارف الإلهية تناسبها و يتذكر بها المؤمنون.

و هي سورة مدنية بلا خلاف و سياق آياتها يشهد بذلك و من غرر الآيات فيها آية النور.

قوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ السورة طائفة من الكلام يجمعها غرض واحد سيقت لأجله و لذا اعتبرت تارة نفس الآيات بما لها من المعاني فقيل: ﴿فَرَضْنَاهَا، و تارة ظرفا لبعض الآيات ظرفية المجموع للبعض فقيل: ﴿أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ و هي مما وضعه القرآن و سمي به طائفة خاصة من آياته و تكرر استعمالها في كلامه تعالى، و كأنه مأخوذ من سور البلد و هو الحائط الذي يحيط به سميت به سورة القرآن لإحاطتها بما فيها من الآيات أو بالغرض الذي سيقت له.

و قال الراغب: الفرض‏ قطع الشي‏ء الصلب و التأثير فيه كفرض الحديد و فرض الزند و القوس. قال: و الفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتبارا بوقوعه و ثباته، و الفرض بقطع الحكم فيه، قال تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا أي أوجبنا العمل بها عليك. قال: و كل موضع ورد «فرض الله عليه» ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه، و ما ورد «فرض الله له» فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو ﴿مَا كَانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اَللَّهُ لَهُ. انتهى.

فقوله: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا أي هذه سورة أنزلناها و أوجبنا العمل بما فيها من الأحكام فالعمل بالحكم الإيجابي هو الإتيان به و بالحكم التحريمي الانتهاء عنه.

و قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ المراد بها بشهادة السياق آية النور و ما يتلوها من الآيات المبينة لحقيقة الإيمان و الكفر و التوحيد و الشرك المذكرة لهذه المعارف الإلهية.

قوله تعالى: ﴿اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ الآية، الزنا

 

 

 المواقعة من غير عقد أو شبهة عقد أو ملك يمين، و الجلد هو الضرب بالسوط و الرأفة التحنن و التعطف و قيل: هي رحمة في توجع، و الطائفة في الأصل هي الجماعة كانوا يطوفون بالارتحال من مكان إلى مكان قيل: و ربما تطلق على الاثنين و على الواحد.

و قوله: ﴿اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي إلخ، أي المرأة و الرجل اللذان تحقق منهما الزنا فاضربوا كل واحد منهما مائة سوط، و هو حد الزنا بنص الآية غير أنها مخصصة بصور:

منها أن يكونا محصنين ذوي زوج أو يكون أحدهما محصنا فالرجم و منها أن يكونا غير حرين أو أحدهما رقا فنصف الحد.

قيل: و قدمت الزانية في الذكر على الزاني لأن الزنا منهن أشنع و لكون الشهوة فيهن أقوى و أكثر، و الخطاب في الأمر بالجلد متوجه إلى عامة المسلمين فيقوم بمن قام بأمرهم من ذوي الولاية من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الإمام و من ينوب منابه.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللَّهِ إلخ، النهي عن الرأفة من قبيل النهي عن المسبب بالنهي عن سببه إذ الرأفة بمن يستحق نوعا من العذاب توجب التساهل في إذاقته ما يستحقه من العذاب بالتخفيف فيه و ربما أدى إلى تركه، و لذا قيده بقوله:

﴿فِي دِينِ اَللَّهِ أي حال كون الرأفة أي المساهلة من جهتها في دين الله و شريعته.

و قيل: المراد بدين الله حكم الله كما في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ: يوسف: ٧٦ أي في حكمه أي لا تأخذكم بهما رأفة في إنفاذ حكم الله و إقامة حده.

و قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أي إن كنتم كذا و كذا فلا تأخذكم بهما رأفة و لا تساهلوا في أمرهما و فيه تأكيد للنهي.

و قوله: ﴿وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أي و ليحضر و لينظر إلى ذلك جماعة منهم ليعتبروا بذلك فلا يقتربوا الفاحشة.

قوله تعالى: ﴿اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ ظاهر الآية و خاصة بالنظر إلى سياق ذيلها المرتبط بصدرها أن الذي تشمل عليه حكم تشريعي تحريمي و إن كان صدرها واردا في صورة الخبر فإن المراد النهي تأكيدا للطلب و هو شائع.

و المحصل من معناها بتفسير من السنة من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن

 

 

 الزاني إذا اشتهر منه الزنا و أقيم عليه الحد و لم تتبين منه التوبة يحرم عليه نكاح غير الزانية و المشركة، و الزانية إذا اشتهر منها الزنا و أقيم عليها الحد و لم يتبين منها التوبة يحرم أن ينكحها إلا زان أو مشرك.

فالآية محكمة باقية على إحكامها من غير نسخ و لا تأويل، و تقييدها بإقامة الحد و تبين التوبة مما يمكن أن يستفاد من السياق فإن وقوع الحكم بتحريم النكاح بعد الأمر بإقامة الحد يلوح إلى أن المراد به الزاني و الزانية المجلودان، و كذا إطلاق الزاني و الزانية على من ابتلي بذلك ثم تاب توبة نصوحا و تبين منه ذلك، بعيد من دأب القرآن و أدبه.

و للمفسرين في معنى الآية تشاجرات طويلة و أقوال شتى:

منها: أن الكلام مسوق للإخبار عما من شأن مرتكبي هذه الفاحشة أن يقصدوه و ذلك أن من خبثت فطرته لا يميل إلا إلى من يشابهه في الخباثة و يجانسه في الفساد و الزاني لا يميل إلا إلى الزانية المشاركة لها في الفحشاء و من هو أفسد منها و هي المشركة، و الزانية كذلك لا تميل إلا إلى مثلها و هو الزاني و من هو أفسد منه و هو المشرك فالحكم وارد مورد الأعم الأغلب كما قيل في قوله تعالى: ﴿اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ: الآية: ٢٦ من السورة.

و منها: أن المراد بالآية التقبيح، و المعنى: أن اللائق بحال الزاني أن لا ينكح إلا زانية أو من هي دونها و هي المشركة و اللائق بحال الزانية أن لا ينكحها إلا زان أو من هو دونه و هو المشرك، و المراد بالنكاح العقد، و قوله: ﴿وَ حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ معطوف على أول الآية، و المراد و حرم الزنا على المؤمنين.

و فيه و في سابقه مخالفتهما لسياق الآية و خاصة اتصال ذيلها بصدرها كما تقدمت الإشارة إليه.

و منها: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيَامى‏َ مِنْكُمْ وَ اَلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ.

و فيه أن النسبة بين الآيتين نسبة العموم و الخصوص و العام الوارد بعد الخاص لا ينسخه خلافا لمن قال به نعم ربما أمكن أن يستفاد النسخ من قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لاَ تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ

 

 

 يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ وَ اَللَّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ: البقرة: ٢٢١، بدعوى أن الآية و إن كانت من العموم بعد الخصوص لكن لسانها آب عن التخصيص فتكون ناسخة بالنسبة إلى جواز النكاح بين المؤمن و المؤمنة و المشرك و المشركة، و قد ادعى بعضهم أن نكاح الكافر للمسلمة كان جائزا إلى سنة ست من الهجرة ثم نزل التحريم فلعل الآية التي نحن فيها نزلت قبل ذلك، و نزلت آية التحريم بعدها و في الآية أقوال أخر تركنا إيرادها لظهور فسادها.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إلخ الرمي معروف ثم أستعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الإنسان كالزنا و السرقة و هو القذف، و السياق يشهد أن المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة العفيفة، و المراد بالإتيان بأربعة شهداء و هم شهود الزنا إقامة الشهادة لإثبات ما قذف به، و قد أمر الله تعالى بإقامة الحد عليهم إن لم يقيموا الشهادة، و حكم بفسقهم و عدم قبول شهادتهم أبدا.

و المعنى: و الذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا ثم لم يقيموا أربعة من الشهود على صدقهم في قذفهم فاجلدوهم ثمانين جلدة على قذفهم و هم فاسقون لا تقبلوا شهادتهم على شي‏ء أبدا.

و الآية كما ترى مطلقة تشمل من القاذف الذكر و الأنثى و الحر و العبد، و بذلك تفسرها روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة و هي قوله: ﴿وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ لكنها لما كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله: ﴿وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً على ما يعطيه السياق كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم قبول الشهادة أبدا، و لازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معا.

و المعنى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا أعمالهم فإن الله غفور رحيم يغفر ذنبهم و يرحمهم فيرتفع عنهم الحكم بالفسق و الحكم بعدم قبول شهادتهم أبدا.

و ذكر بعضهم: أن الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة فحسب فلو تاب القاذف

 

 

و أصلح بعد إقامة الحد عليه غفر له ذنبه لكن لا تقبل شهادته أبدا خلافا لمن قال برجوع الاستثناء إلى الجملتين معا.

و الظاهر أن خلافهم هذا مبني على المسألة الأصولية المعنونة بأن الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعددة هل يتعلق بالجميع أو بالجملة الأخيرة و الحق في المسألة أن الاستثناء في نفسه صالح للأمرين جميعا و تعين أحدهما منوط بما تقتضيه قرائن الكلام، و الذي يعطيه السياق في الآية التي نحن فيها تعلق الاستثناء بالجملة الأخيرة غير أن إفادتها للتعليل تستلزم تقيد الجملة السابقة أيضا بمعناه كالأخيرة على ما تقدم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ إلى قوله ﴿مِنَ اَلْكَاذِبِينَ أي لم يكن لهم شهداء يشهدون ما شهدوا فيتحملوا الشهادة ثم يؤدوها إلا أنفسهم، و قوله: ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ أي شهادة أحدهم يعني القاذف و هو واحد أربع شهادات متعلقة بالله إنه لمن الصادقين فيما يخبر به من القذف.

و معنى الآيتين: و الذين يقذفون أزواجهم و لم يكن لهم أربعة من الشهداء يشهدون ما شهدوا و من طبع الأمر ذلك على تقدير صدقهم إذ لو ذهبوا يطلبون الشهداء ليحضروهم على الواقعة فيشهدوهم عليها فات الغرض بتفرقهما فالشهادة التي يجب على أحدهم أن يقيمها هي أن يشهد أربع شهادات أي يقول مرة بعد مرة:

«أشهد الله على صدقي فيما أقذفه به» أربع مرات و خامستها أن يشهد و يقول: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين.

قوله تعالى: ﴿وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ إلى آخر الآيتين، الدرء الدفع و المراد بالعذاب حد الزنا، و المعنى أن المرأة إن شهدت خمس شهادات بإزاء شهادات الرجل دفع ذلك عنه حد الزنا، و شهاداتها أن تشهد أربع مرات تقول فيها: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ثم تشهد خامسة فتقول: لعنة الله علي إن كان من الصادقين، و هذا هو اللعان الذي ينفصل به الزوجان.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ جواب لو لا محذوف يدل عليه ما أخذ في شرطه من القيود إذ معناه لو لا فضل الله و رحمته و توبته

 

 

 و حكمته لحل بكم ما دفعته عنكم هذه الصفات و الأفعال فالتقدير على ما يعطيه ما في الشرط من القيود لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين و توبته لمذنبيكم و تشريعه الشرائع لنظم أمور حياتكم لزمتكم الشقوة، و أهلكتكم المعصية و الخطيئة، و اختل نظام حياتكم بالجهالة. و الله أعلم.

(بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و سورة النور أنزلت بعد سورة النساء، و تصديق ذلك أن الله عز و جل أنزل عليه في سورة النساء ﴿وَ اَللاَّتِي يَأْتِينَ اَلْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً و السبيل الذي قال الله عز و جل ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾.

 و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا يقول: ضربهما ﴿طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ يجمع لهما الناس إذا جلدوا.

 و في التهذيب، بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ لاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللَّهِ قال: في إقامة الحدود، و في قوله تعالى: ﴿وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ قال: الطائفة واحد.

 و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و أنزل بالمدينة ﴿اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ فلم يسم الله الزاني مؤمنا و لا الزانية مؤمنة، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص.

 و فيه، بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل:

 

 

﴿اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً قال: هن نساء مشهورات و رجال مشهورون بالزنا شهروا به، و عرفوا به و الناس اليوم بذلك المنزل فمن أقيم عليه حد الزنا أو متهم بالزنا لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة:

أقول: و رواه أيضا بإسناده عن أبي الصباح عنه (عليه السلام) مثله، و بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) و لفظه: هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مشهورين بالزنا فنهى الله عن أولئك الرجال و النساء، و الناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئا من ذلك أقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرفوا توبته.

 و فيه، بإسناده عن حكم بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: إنما ذلك في الجهر ثم قال: لو أن إنسانا زنى ثم تاب تزوج حيث شاء.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائي و الحاكم و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في سننه و أبو داود في ناسخه عن عبد الله بن عمر قال ":كانت امرأة يقال لها: أم مهزول، و كانت تسافح الرجل و تشرط أن تنفق عليه فأراد رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يزوجها فأنزل الله:

﴿اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.

أقول: و روي ما يقرب منه عن عدة من أصحاب الجوامع عن مجاهد.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال" :لما قدم المهاجرون المدينة قدموها و هم بجهد إلا قليل منهم، و المدينة غالية السعر شديدة الجهد، و في السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب، و أما الأنصار منهن أمية وليدة عبد الله بن أبي و نسيكة بنت أمية لرجل من الأنصار في بغايا من ولائد الأنصار قد رفعت كل امرأة منهن علامة على بابها ليعرف أنها زانية و كن من أخصب أهل المدينة و أكثره خيرا.

فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من بعض أطعماتهن فقال بعضهم: نستأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد و لا نجد ما نأكل، و في السوق بغايا نساء أهل الكتاب و ولائدهن و ولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن فإذا وجدنا عنهن

 

 

[1]  على ما رواه ابن هشام في السيرة و قد أوردنا الرواية في بحث روائي في ذيل قوله تعالى: «إنما الخمر و الميسر» الآية من سورة المائدة ج ٦ ص ١٤٦ من الكتاب.

[2]  و قد أوردنا الروايات الدالة على ذلك في البحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: «فما استمتعتم به فآتوهن أجورهن» الآية النساء: ٢٤ ج ٤ ص ٣٠٨.

[3]  و قد بين ذلك في علم الأصول بما لا مزيد عليه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22535466

  • التاريخ : 14/04/2025 - 11:54

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net