00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 601 الى ص 700 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء التاسع)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

 

 الطرفين ثم إضافة الهجرة إلى ذلك عند ما أعيد ثانيا، و قد ذكر تعالى السقاية و العمارة في الجانب الآخر و لم يزد على ذلك شيئا لا أولا و لا ثانيا فما هذه القيود بلاغية في قوله الفصل.

و هذا كله يؤيد ما ورد في سبب نزول الآية أن الآيات نزلت في العباس و شيبة و علي عليه السلام حين تفاخروا فذكر العباس سقاية الحاج، و شيبة عمارة المسجد الحرام، و على الإيمان و الجهاد في سبيل الله فنزلت الآيات و ستجي‏ء الرواية في البحث الروائي المتعلق بالآيات.

و كيف كان فالآية و ما يتلوها من الآيات تبين أن الزنة و القيمة إنما هو للعمل إذا كان حيا بولوج روح الإيمان فيه و أما الجسد الخالي الذي لا روح فيه و لا حياة له فلا وزن له في ميزان الدين و لا قيمة له في سوق الحقائق فليس للمؤمنين أن يعتبروا مجرد هياكل الأعمال، و يجعلوها ملاكات للفضل و أسبابا للقرب منه تعالى إلا بعد اعتبار حياتها بالإيمان و الخلوص.

و من هذه الجهة ترتبط الآية: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ و ما بعدها من الآيات بالآيتين اللتين قبلها: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اَللَّهِ شَاهِدِينَ عَلى‏َ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ إلى آخر الآيتين.

و بذلك كله يظهر أولا أن قوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ جملة حالية تبين وجه الإنكار لحكمهم بالمساواة في قوله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ الآية.

و ثانيا: أن المراد بالظلم هو ما كانوا عليه من الشرك في حال السقاية و العمارة لا حكمهم بالمساواة بين السقاية و العمارة و بين الجهاد عن إيمان.

و ثالثا: أن المراد نفي أن ينفعهم العمل و يهديهم إلى السعادة التي هي عظم الدرجة و الفوز و الرحمة و الرضوان و الجنة الخالدة.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ إلى آخر الآية بيان لحق الحكم الذي عند الله في المسألة بعد إنكار المساواة، و هو أن الذي آمن و هاجر و جاهد في سبيل الله ما استطاع ببذل ما عنده من مال و نفس، أعظم درجة عند الله و إنما عبر في صورة الجمع الذين آمنوا إلخ إشارة إلى أن ملاك الفصل هو الوصف دون الشخص.

و ما تقدم من دلالة الكلام على أن الأعمال من غير إيمان بالله لا فضل لها و لا درجة

 

 

 

 

 

 

لصاحبها عند الله، قرينة على أن ليس المراد بالقياس الذي يدل عليه أفعل التفضيل في قوله: ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً إلخ هو أن بين الفريقين اشتراكا في الدرجات غير أن درجة من جاهد عن إيمان أعظم ممن سقى و عمر.

بل المرادبيان أن النسبة بينهما نسبة الأفضل إلى من لا فضل له كالمقايسة المأخوذة بين الأكثر و الأقل فإنها تستدعي وجود حد متوسط بينهما يقاسان إليه فهناك ثلاثة أمور أمر متوسط يؤخذ مقياسا معدلا و آخر يكون أكثر منه، و آخر يكون أقل منه فإذا قيس الأكثر من الأقل كان الأكثر مقيسا إلى ما لا كثرة فيه أصلا.

فقوله: ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اَللَّهِ أي بالقياس إلى هؤلاء الذين لا درجة لهم أصلا، و هذا نوع من الكناية عن أن لا نسبة حقيقة بين الفريقين لأن أحدهما ذو قدم رفيع فيما لا قدم للآخر فيه أصلا.

و يدل على ذلك أيضا قوله: ﴿وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَائِزُونَ بما يدل على انحصار الفوز فيهم و ثبوتها لهم على نهج الاستقرار.

قوله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوَانٍ وَ جَنَّاتٍ إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ما يعده من الفضل في حقهمبيان و تفصيل لما ذكر في الآية السابقة من فوزهم جي‏ء به بلسان التبشير.

فالمعنى ﴿يُبَشِّرُهُمْ أي هؤلاء المؤمنين ﴿رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ عظيمة لا يقدر قدرها ﴿وَ رِضْوَانٍ كذلك ﴿وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا في تلك الجنات ﴿نَعِيمٌ مُقِيمٌ لا يزول و لا ينفد حالكونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا ينقطع خلودهم بأجل و لا أمد.

ثم لما كان المقام مقام التعجب و الاستبعاد لكونها بشارة بأمر عظيم لم يعهد في ما نشاهده من أنواع النعيم الذي في الدنيا، رفع الاستبعاد بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

و سيوافيك الكلام في توضيح معنى رحمته تعالى و رضوانه فيما سيمر من موضع مناسب و قد تقدم بعض الكلام فيهما.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَ إِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إلى آخر الآية نهى عن تولي الكفار و لو كانوا آباء و إخوانا فإن الملاك عام، و الآية التالية

 

 

 

 

 

 

 تنهى عن تولي الجميع غير أن ظاهر لفظ الآية النهي عن اتخاذ الآباء و الإخوان أولياء إن استحبوا الكفر و رجحوه على الإيمان.

و إنما ذكر الآباء و الإخوان دون الأبناء و الأزواج مع كون القبيلين و خاصة الأبناء محبوبين عندهم كالآباء و الإخوان لأن التولي يعطي للولي أن يداخل أمور وليه و يتصرف في بعض شئون حياته، و هذا هو المحذور الذي يستدعي النهي عن تولي الكفار حتى لا يداخلوا في أمورهم الداخلية و لا يأخذوا بمجامع قلوبهم، و لا يكف المؤمنون و لا يستنكفوا عن الإقدام فيما يسوؤهم و يضرهم، و من المعلوم أن النساء و الذراري لا يترقب منهم هذا الأثر السيئ إلا بواسطة، فلذلك خص النهي عن التولي بالآباء و الإخوان فهم الذين يخاف نفوذهم في قلوب المؤمنين و تصرفهم في شئونهم.

و قد ورد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء في مواضع من كلامه تقدم بعضها في سورة المائدة و آل عمران و النساء و الأعراف و فيها إنذار شديد و تهديدات بالغة كقوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ المائدة: - ٥١، و قوله: ﴿وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ: آل عمران: - ٢٨، و قوله: ﴿وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللَّهِ فِي شَيْ‏ءٍ: آل عمران: - ٢٨، و قوله: ﴿أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً النساء: - ١٤٤.

و أنذرهم في الآية التي نحن فيها بقوله: «و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون» و لم يقل: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» إذ من الجائز أن يتوهم بعض هؤلاء أنه منهم لأنهم آباؤه و إخوانه فلا يؤثر فيه التهديد أثرا جديدا يبعثه نحو رفض الولاية.

و كيف كان فقوله: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ بما في الجملة من المؤكدات كاسمية الجملة، و دخول اللام على الخبر و ضمير الفصل يفيد تحقق الظلم منهم و استقراره فيهم، و قد كرر الله في كلامه أن الله لا يهدي القوم الظالمين، و قال في نظير الآية من سورة المائدة: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ فهؤلاء محرومون من الهداية الإلهية لا ينفعهم شي‏ء من أعمالهم الحسنة في جلب السعادة إليهم، و السماحة بالفوز و الفلاح عليهم.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ إلى آخر الآية التفت من مخاطبتهم إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله و سلم إيماء إلى الإعراض عنهم لما يستشعر من حالهم أن

 

 

 

 

 

 

 قلوبهم مائلة إلى الاشتغال بما لا ينفع معه النهي عن تولي آبائهم و إخوانهم الكافرين، و إيجاد الداعي في نفوسهم إلى الصدور عن أمر الله و رسوله، و قتال الكافرين جهادا في سبيل الله و إن كانوا آباءهم و إخوانهم.

و الذي يمنعهم من ذلك هو الحب المتعلق بغير الله و رسوله و الجهاد في سبيل الله، و قد عد الله سبحانه أصول ما يتعلق به الحب النفساني من زينة الحياة الدنيا، و هي الآباء و الأبناء و الإخوان و الأزواج و العشيرة و هؤلاء هم الذين يجمعهم المجتمع الطبيعي بقرابة نسبية قريبة أو بعيدة أو سببية و الأموال التي اكتسبوها و جمعوها، و التجارة التي يخشون كسادها و المساكن التي يرضونها و هذه أصول ما يقوم به المجتمع في المرتبة الثانية .

و ذكر تعالى أنهم إن تولوا أعداء الدين، و قدموا حكم هؤلاء الأمور على حب الله و رسوله و الجهاد في سبيله فليتربصوا و لينتظروا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين.

و من المعلوم أن الشرط أعني قوله: ﴿إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ إلى قوله: ﴿فِي سَبِيلِهِ في معنى أن يقال: إن لم تنتهوا عما ينهاكم عنه من اتخاذ الآباء و الإخوان الكافرين أولياء باتخاذكم سببا يؤدي إلى خلاف ما يدعوكم إليه، و إهمالكم في أمر غرض الدين و هو الجهاد في سبيل الله.

فقوله في الجزاء: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ لا محالة إما أمر يتدارك به ما عرض على الدين من ثلمة و سقوط غرض في ظرف مخالفتهم، و إما عذاب يأتيهم عن مخالفة أمر الله و رسوله و الإعراض عن الجهاد في سبيله.

غير أن قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ يعرض لهم أنهم خارجون حينئذ عن زي العبودية، فاسقون عن أمر الله و رسوله فهم بمعزل من أن يهديهم الله بأعمالهم و يوفقهم لنصرة الله و رسوله، و إعلاء كلمة الدين و إمحاء آثار الشرك.

فذيل الآية يهدي إلى أن المراد بهذا الأمر الذي يأمرهم الله أن يتربصوا له حتى يأتي به أمر منه تعالى، متعلق بنصرة دينه و إعلاء كلمته فينطبق على مثل قوله تعالى

 

 

 

 

 

 

 في سورة المائدة بعد آيات ينهى فيها عن تولي الكافرين: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ: المائدة: - ٥٤. و الآية بقيودها و خصوصياتها كما ترى تنطبق على ما تفيده الآية التي نحن فيها.

فالمراد و الله أعلم إن اتخذتم هؤلاء أولياء، و استنكفتم عن إطاعة الله و رسوله و الجهاد في سبيل الله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، و يبعث قوما لا يحبون إلا الله، و لا يوالون أعداءه و يقومون بنصرة الدين و الجهاد في سبيل الله أفضل قيام فإنكم إذا فاسقون لا ينتفع بكم الدين، و لا يهدي الله شيئا من أعمالكم إلى غرض حق و سعادة مطلوبة.

و ربما قيل: إن المراد بقوله: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ الإشارة إلى فتح مكة، و ليس بسديد فإن الخطاب في الآية للمؤمنين من المهاجرين و الأنصار و خاصة المهاجرين، و هؤلاء هم الذين فتح الله مكة بأيديهم، و لا معنى لأن يخاطبوا و يقال لهم: إن كان آباؤكم و أبناؤكم «إلخ» أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فواليتموهم و استنكفتم عن إطاعة الله و رسوله و الجهاد في سبيله فتربصوا حتى يفتح الله مكة بأيديكم و الله لا يهدي القوم الفاسقين، أو فتربصوا حتى يفتح الله مكة و الله لا يهديكم لمكان فسقكم فتأمل.

بحث روائي

 في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ الآية: عن أمالي الشيخ بإسناده عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر في حديث الشورى : فيما احتج به علي عليه السلام على القوم: و قال لهم في ذلك: فهل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ غيري؟ قالوا: لا.

 

 

 

 

 

 

و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا إلى قوله ﴿اَلْفَائِزُونَ ثم وصف ما لعلي عليه السلام عنده فقال. ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوَانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ.

 و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: بينما شيبة و العباس يتفاخران إذ مر عليهما علي بن أبي طالب قال: بما تفتخران؟ قال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاج، و قال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام، و قال علي: و أنا أقول لكما لقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا فقالا: و ما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله تبارك و تعالى و رسوله.

فقام العباس مغضبا يجر ذيله حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال: أ ما ترى ما استقبلني به علي؟ فقال: ادعوا لي عليا، فدعي له فقال: ما حملك يا علي على ما استقبلت به عمك؟ فقال: يا رسول الله صدقته الحق فإن شاء فليغضب، و إن شاء فليرض.

فنزل جبرئيل عليه السلام و قال: يا محمد ربك يقرأ عليك السلام و يقول: اتل عليهم: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ إلى قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

و في تفسير الطبري، بإسناده عن محمد بن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة و العباس و علي بن أبي طالب قال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، و قال العباس: و أنا صاحب السقاية و القائم عليها، فقال علي: ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، و أنا صاحب الجهاد، فأنزل الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ الآية كلها. و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي عن ابن سيرين قال: قدم علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس: أي عم أ لا تهاجر؟ أ لا تلحق برسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ؟ فقال: أعمر المسجد الحرام و أحجب البيت فأنزل الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ الآية، و قال لقوم قد سماهم: أ لا تهاجرون؟ أ لا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا و عشائرنا و مساكننا فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ الآية كلها

 

 

 

 

 

 

 و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام و الهجرة و الجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام و نسقي الحاج و نفك العاني‏[1] فأنزل الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ الآية، يعني أن ذلك كان في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك. و فيه، أخرج مسلم و أبو داود و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، و قال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، و قال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم .

فزجرهم عمر و قال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ، و ذلك يوم الجمعة، و لكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ إلى قوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ. أقول: قال صاحب المنار في تفسيره بعد إيراد هذه الروايات الأربع الأخيرة: و المعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده و موافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت و حجابته من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة و بين الإيمان و الجهاد بالمال و النفس و الهجرة، و هي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، و الآيات تتضمن الرد عليها كلها. انتهى.

أما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها بصحة السند ففيه أولا أن رواية القرظي أيضا في مضمونها موافقة لرواية الحاكم في المستدرك و قد صححها.

و ثانيا: أن روايات التفسير إذا كانت آحادا لا حجية لها إلا ما وافق مضامين الآيات بقدر ما يوافقها على ما بين في فن الأصول فإن الحجية الشرعية تدور مدار الآثار الشرعية المترتبة فتنحصر في الأحكام الشرعية و أما ما وراءها كالروايات الواردة في القصص و التفسير الخالي عن الحكم الشرعي فلا حجية شرعية فيها.

و أما الحجية العقلية أعني العقلائية فلا مسرح لها بعد توافر الدس و الجعل في

 

 

 

 

 

 

 الأخبار سيما أخبار[2] التفسير و القصص إلا ما تقوم قرائن قطعية يجوز التعويل عليها على صحة متنه، و من ذلك موافقة متنه لظواهر الآيات الكريمة.

فالذي يهم الباحث عن الروايات غير الفقهية أن يبحث عن موافقتها للكتاب فإن وافقتها فهي الملاك لاعتبارها و لو كانت مع ذلك صحيحة السند فإنما هي زينة زينت بها و إن لم توافق فلا قيمة لها في سوق الاعتبار.

و أما ترك البحث عن موافقة الكتاب، و التوغل في البحث عن حال السند إلا ما كان للتوسل إلى تحصيل القرائن ثم الحكم باعتبار الرواية بصحة سندها ثم تحميل ما يدل عليه متن الرواية على الكتاب، و اتخاذه تبعا لذلك كما هو دأب كثير منهم فمما لا سبيل إليه من جهة الدليل.

و أما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها من جهة المتن مبينا ذلك بأن الآيات تدل على أن موضوع المساواة أو المفاضلة كان بين خدمة البيت أو حجابته و هي من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة، و بين الإيمان و الجهاد و الهجرة و هي من أعمال البر النفسية و البدنية الشاقة، و الآيات تتضمن الرد عليها كلها. انتهى.

ففيه أولا: أن الذي ذكره من مدلول الآيات مشترك بين جميع ما أورده من الروايات: أما رواية ابن عباس التي مضمونها وقوع الكلام في المساواة أو المفاضلة حين أسر العباس يوم بدر بين العباس و بين المسلمين حيث عيروه فقد ذكر فيها صريحا المقايسة بين الإسلام و الهجرة و الجهاد و بين سقاية الحاج و عمارة المسجد و فك العاني، و هناك روايات أخر في معناه.

و أما رواية ابن سيرين الدالة على وقوع النزاع بين علي و العباس بمكة حين دعاه إلى الهجرة و اللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله و سلم فأجابه بأن له عمارة المسجد الحرام و حجابة البيت و قد روى هذا المعنى ابن مردويه عن الشعبي و فيها :أن العباس قال لعلي: أنا عم النبي صلى الله عليه وآله و سلم ، و أنت ابن عمه، و إلي سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام، فأنزل الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ﴾ الآية.

 

 

 

 

 

 

 و رواه أيضا ابن أبي شيبة و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عبد الله بن عبيدة و فيها : أن العباس قال لعلي: أ و لست في أفضل من الهجرة؟ أ لست أسقي الحاج و أعمر المسجد الحرام فنزلت هذه الآية. و على أي حال فالواقع في هذه الرواية أيضا المقايسة بين السقاية و العمارة و بين الهجرة و ما يترتب عليا مما يستلزمه اللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله و سلم كالجهاد و غيره من الأعمال الشريفة الدينية.

و أما رواية القرظي و ما في معناها كالذي رواه الحاكم و صححه، و ما رواه عبد الرزاق عن الحسن قال: نزلت في علي و العباس و عثمان و شيبة[3] تكلموا في ذلك، و كذا رواية النعمان التي تقدمت فكون المنازعة فيها في السقاية و العمارة و الإيمان و الجهاد ظاهر فإذا كان الحال هذا الحال فأي مزية في رواية النعمان بن بشير توجب اختصاصها بموافقة الكتاب من بين سائر الروايات.

و ثانيا: أن قوله: إن موضوع المفاضلة هي أعمال البر الهينة المستلذة كالسقاية و الحجابة و أعمال البر الشاقة كالإيمان و الهجرة و الجهاد لا يوافق ما يدل عليه الآيات فإنها كما تقدم ظاهرة الدلالة على أن المقايسة كانت بينهم بين أجساد الأعمال الخالية عن روح الإيمان و ليست من البر حينئذ و بين أعمال حية بولوج روح الإيمان فيها كالهجرة و الجهاد عن إيمان بالله و اليوم الآخر.

فالآيات تدل على أنهم كانوا يسوون أو يفضلون غير أعمال البر كالسقاية و العمارة من غير إيمان على أعمال البر كالجهاد عن إيمان و هجرة و الهجرة عن إيمان فأين ما ذكره من أعمال البر الهينة قبال أعمال البر الشاقة[4]؟ و دلالة الآيات بما فيها من القيود المأخوذة على ذلك بمكان من الظهور و الجلاء فقد قيد الجهاد فيها بالإيمان بالله و اليوم الآخر، و أطلق السقاية و العمارة من غير تقييد بالإيمان ثم قال تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللَّهِ ثم زاد: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ

 

 

 

 

 و حاشا أن يكون الآتي بأعمال البر عند الله من القوم الظالمين المحرومين عن نعمة الهداية الإلهية.

حتى لو فرض أن المراد بالظالمين أولئك المسوون أو المفضلون من المؤمنين للسقاية و العمارة على الجهاد فإن المؤمن على إيمانه إذا حكم بمثل هذا الحكم فإنما هو خاط يهتدي إذا دل على الصواب لا ظالم محروم من الهداية فافهم ذلك.

و ثالثا: ما تقدم من أن قوله: ﴿كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الآية و قوله: ﴿لاَ يَسْتَوُونَ الآية دليل على أن للشخص دخلا فيما تتضمن الآيات من الحكم.

و التدبر في الآيات الكريمة و التأمل فيما ذكرناه هنا و هناك يوضح للباحث الناقد أن أضعف الروايات و أبعدها من الانطباق على مضمون الآيات هي رواية النعمان بن بشير فإنها لا تقبل الانطباق على الآيات الكريمة بما فيها من القيود المأخوذة.

و يليها في الضعف رواية ابن سيرين و ما في معناها من الروايات فإن ظاهرها أن العباس إنما دعي إلى الهجرة و هو مسلم فافتخر بالسقاية و الحجابة و الآيات لا تساعد على ذلك كما مر.

على أن الواقع في رواية ابن سيرين ذكر العباس للسقاية و حجابة البيت و لم يكن له حجابة إنما هي السقاية.

و يليها في الضعف رواية ابن عباس فظاهرها أن المقايسة إنما كانت بين الأعمال فقط و الآية لا تساعد على ذلك.

على أن فيها أن العباس ذكر فيما ذكر سقاية الحاج و عمارة المسجد و فك العاني و هو الأسير. و لو كان لذكر في الآية، و قد وقع في رواية ابن جرير و أبي الشيخ عن الضحاك في هذا المعنى قال :أقبل المسلمون على العباس و أصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما و الله لقد كنا نعمر المسجد الحرام، و نفك العاني، و نحجب البيت و نسقي الحاج فأنزل الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ الآية، و الكلام في فك العاني و حجابة البيت الواقعين فيها كالكلام في سابقها.

فأسلم الروايات في الباب و أقربها إلى الانطباق على الآيات مضمونا رواية القرظي و ما في معناها كرواية الحاكم في المستدرك و رواية عبد الرزاق عن الحسن و رواية أبي

 

 

 

 

 

 

 نعيم و ابن عساكر عن أنس الآتية و قد تقدم توضيح ذلك.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة و ابن عساكر عن أنس قال: قعد العباس و شيبة صاحب البيت يفتخران فقال العباس: أنا أشرف منك أنا عم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ، و وصي أبيه، و ساقي الحجيج، فقال شيبة: أنا أشرف منك أنا أمين الله على بيته و خازنه أ فلا ائتمنك كما ائتمنني؟.

فاطلع عليهما علي فأخبراه بما قالا فقال علي: أنا أشرف منكما أنا أول من آمن و هاجر فانطلق ثلاثتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم فأخبروه فما أجابهم بشي‏ء فانصرفوا فنزل عليه الوحي بعد أيام فأرسل إليهم فقرأ عليهم: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إلى آخر العشر.

 و في تفسير القمي، عن أبيه عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: قال: نزلت في علي و العباس و شيبة. قال العباس: أنا أفضل لأن سقاية الحاج بيدي، و قال شيبة: أنا أفضل لأن حجابة البيت بيدي، و قال علي: أنا أفضل فإني آمنت قبلكما ثم هاجرت و جاهدت فرضوا برسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فأنزل الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ إلى قوله ﴿ إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ: أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام مثله، و فيه عثمان بن أبي شيبة مكان شيبة.

و في الكافي، عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما عليه السلام: في قول الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ نزلت في حمزة و علي و جعفر و العباس و شيبة، إنهم فخروا بالسقاية و الحجابة فأنزل الله عز ذكره: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ و كان علي و حمزة و جعفر هم الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و جاهدوا في سبيل الله. لا يستوون عند الله: أقول: و رواه أيضا العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أحدهما عليه السلام مثله. و الرواية لا تلائم ما يثبته النقل القطعي فقد كان حمزة من المهاجرين الأولين لحق برسول صلى الله عليه وآله و سلم ثم استشهد في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، و قد كان جعفر

 

 

 

 

 

 

هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله و سلم ثم رجع إلى المدينة أيام فتح خيبر و قد استشهد حمزة قبل ذلك بمدة فلو كان من الخمسة اجتماع على التفاخر فقد كان قبل الهجرة النبوية و حينئذ فما معنى ما وقع في الرواية: «و كان علي و حمزة و جعفر هم الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و جاهدوا في سبيل الله»؟.

و إن كان المراد بالنزول فيهم انطباق الآية عليهم على سبيل الجري فقد كان العباس مثلهم فإنه آمن يوم أسر ببدر ثم حضر بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله و سلم.

 و في تفسير البرهان، عن الجمع بين الصحاح الستة للعبدي في الجزء الثاني من صحيح النسائي بإسناده قال: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار و العباس بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب فقال طلحة: بيدي مفتاح البيت و لو أشاء بت فيه، و قال العباس: أنا صاحب السقاية و القائم عليها و لو أشاء بت في المسجد، و قال علي: ما أدري ما تقولان؟ لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس و أنا صاحب الجهاد فأنزل الله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ الآية. أقول: المراد بالصلاة ستة أشهر قبل الناس التقدم في الإيمان بالله على ما تعرضت له الآية و إلا كان من الواجب أن تذكر في الآية، و قد ذكر ثالث القوم طلحة بن شيبة، و قد تقدم في بعضها أنه شيبة، و في بعضها أنه عثمان بن أبي شيبة.

 و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَ إِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمَانِ قال: الإيمان ولاية علي بن أبي طالب.

 أقول: هو من باطن القرآن مبني على تحليل معنى الإيمان إلى مراتب كماله.

 و في تفسير القمي،: لما أذن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك جزعت قريش جزعا شديدا، و قالوا: ذهبت تجارتنا و ضاعت عيالنا و خربت دورنا فأنزل الله في ذلك: ﴿قُلْ يا محمد ﴿إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ إلى قوله ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ.

 أقول: و على هذا كان من الجري أن يفسر قوله في الآية: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ بتدارك ما ينزل بهم من الكساد و فتح باب الرزق عليهم من وجه آخر كما

 

 

 

 

 

 

 وقع مثله في قوله تعالى في ضمن الآيات التالية: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: التوبة: - ٢٨.

بل اتحد حينئذ موردا الآيتين، و لسان الرفق و كرامة الخطاب بمثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا يأبى أن يكون الخطاب بقوله: ﴿إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ الآية متوجها إليهم بأعيانهم على ما في آخرها من الخشونة في قوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ.

على أن الآية تذكر حب الآباء و الإخوان و العشيرة و الأموال التي اقترفوها، و لم يذكر شي‏ء منها في الرواية، و لا حسبت قريش ضيعة بالنسبة إليها فما معنى ذكرها في الآية و التهديد على اختيار حبها على حب الله و رسوله؟ و ما معنى ذكر الجهاد في سبيله في الآية؟ فافهم ذلك.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و هو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: و الله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شي‏ء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه.

[سورة التوبة ٩: الآیات ٢٥ الی ٢٨ ]

﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ٢٥ ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَ عَذَّبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذَلِكَ جَزَاءُ اَلْكَافِرِينَ ٢٦ ثُمَّ يَتُوبُ اَللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلى‏ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٧ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ

 

 

 

 

 

 

بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٢٨

بيان

تشير الآيات إلى قصة غزوة حنين و تمتن بما نصر الله فيه المؤمنين كسائر المواطن من الغزوات التي نصرهم الله بعجيب نصرته على ضعفهم و قلتهم، و أظهر أعاجيب آياته بتأييد نبيه صلى الله عليه وآله و سلم و إنزال جنود لم يروها و إنزال السكينة على رسوله و المؤمنين و تعذيب الكافرين بأيدي المؤمنين.

و فيها الآية التي تحرم على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عام تسع من الهجرة، و هي العام الذي أذن فيه علي عليه السلام ببراءة، و منع طواف البيت عريانا، و دخول المشركين في المسجد الحرام.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إلى قوله ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ المواطن‏ جمع موطن و هو الموضع الذي يسكنه الإنسان و يتوطن فيه. و حنين‏ اسم واد بين مكة و الطائف وقع فيه غزوة حنين قاتل فيه النبي صلى الله عليه وآله و سلم هوازن و ثقيف و كان يوما شديدا على المسلمين انهزموا أولا ثم أيدهم الله بنصره فغلبوا. والإعجاب‏ الإسرار و العجب‏ سرور النفس بما يشاهده نادرا، و الرحب‏ السعة في المكان و ضده الضيق.

و قوله: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ذكر لنصرته تعالى لهم في مواطن كثيرة و مواضع متعددة يدل السياق على أنها مواطن الحروب كوقائع بدر و أحد و الخندق و خيبر و غيرها، و يدل السياق أيضا أن الجملة كالمقدمة الممهدة لقوله: ﴿وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ الآية فإن الآيات الثلاث مسوقة لتذكير قصة وقعة حنين، و عجيب ما أفاض الله عليهم من نصرته و خصهم به من تأييده فيها.

و قد استظهر بعض المفسرين كون الآية و ما يتلوها إلى تمام الآيات الثلاث تتمة لقول النبي صلى الله عليه وآله و سلم فيما أمره ربه أن يواجه به المؤمنين في قوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ

 

 

 

 

 

 

الآية و تكلف في توجيه الفصل الذي في قوله: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ.

و لا دليل من جهة اللفظ على ذلك بل الدليل على خلافه فإن قصة حنين و ما يشتمل عليه من الامتنان بنصر الله و إنزال السكينة و إنزال الجنود و تعذيب الكافرين و التوبة على من يشاء أمر مستقل في نفسه ذو أهمية في ذاته و هو أهم هدفا من قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ الآية أو هو مثله لا يقصر عنه فلا معنى لاتباعه إياه و عطفه عليه في المعنى.

و حينئذ لو كان مما يجب أن يخاطب به القوم لكان من الواجب أن يقال. و قل لهم لقد نصركم الله في مواطن كثيرة الآية، على ما جرى عليه القرآن في نظائره كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏َ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ إلى أن قال ﴿قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ حم السجدة: ٩ و غيره من الموارد.

على أن سياق الآيات و ما يجب أن تشتمل عليه من الالتفات و غيره لو كانت الآيات مقولة للقول لا تلائم كونها مقولة للقول السابق.

و الخطاب في قوله: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ و ما يتلوه من قوله: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ الآية، للمسلمين و هم الذين يؤلفون مجتمعا إسلاميا واحدا حضروا بوحدتهم هذه الوحدة أمثال وقائع بدر و أحد و الخندق و خيبرا و حنينا و غيرها.

و هؤلاء فيهم المنافقون و الضعفاء في الإيمان و المؤمنون صدقا على اختلافهم في المنازل إلا أن الخطاب متوجه إلى الجميع باعتبار اشتماله على من يصح أن يخاطب بمثل قوله: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ إلى آخر الآية.

و قوله: ﴿وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أي و يوما وقعت فيه القتال بينكم و بين أعدائكم بوادي حنين، و إضافة اليوم إلى أمكنة الوقائع العظيمة شائع في العرف كما يقال: يوم بدر و يوم أحد و يوم الخندق نظير إضافته إلى الجماعة المتلبسين بذلك كيوم الأحزاب و يوم تميم، و إضافته إلى نفس الحادثة كيوم فتح مكة.

و قوله: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أي أسرتكم الكثرة التي شاهدتموها في أنفسكم فانقطعتم عن الاعتماد بالله و الثقة بأيده و قوته و استندتم إلى الكثرة فرجوتم أن ستدفع عنكم كيد العدو و تهزم جمعهم، و إنما هو سبب من الأسباب الظاهرية

 

 

 

 

 

 

 لا أثر فيها إلا ما شاء الله الذي إليه تسبيب الأسباب.

و بالنظر إلى هذا المعنى أردف قوله: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بقوله: ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي اتخذتموها سببا مستقلا دون الله فأنساكم الاعتماد بالله، و ركنتم إليها فبان لكم ما في وسع هذا السبب الموهوم و هو أن لا غنى عنده حتى يغنيكم فلم يغن عنكم شيئا لا نصرا و لا شيئا آخر.

و قوله: ﴿وَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ أي مع ما رحبت، و هو كناية عن إحاطة العدو بهم إحاطة لا يجدون مع ذلك مأمنا من الأرض يستقرون فيه و لا كهفا يأوون إليه فيقيهم من العدو، أي فررتم فرارا لا تلوون على شي‏ء.

فهو قريب المعنى من قوله تعالى في قصة الأحزاب: ﴿إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ اَلْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ اَلظُّنُونَاالأحزاب: ١٠.

و قول بعضهم: أي ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا موضعا تفرون إليه. غير سديد.

و قوله: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي جعلتم العدو يلي أدباركم و هو كناية عن الانهزام و هذا هو الفرار من الزحف ساقهم إليه اطمئنانهم بكثرتهم و الانقطاع من ربهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبَارَ وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلى أن قال ﴿فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ الأنفال: - ١٦ و قال: ﴿وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اَللَّهِ مَسْؤُلاً الأحزاب: - ١٥.

فهذا كله أعني ضيق الأرض عليهم بما رحبت ثم انهزامهم و فرارهم من الزحف على ما فيه من كبير الإثم، و وقوفهم هذا الموقف الذي يستتبع العتاب من ربهم إنما ساقهم إليه اعتمادهم و اطمئنانهم إلى هذه الأسباب السرابية التي لا تغني عنهم شيئا.

و الله سبحانه بسعة رحمته و عظم منه امتن عليهم بنصره و إنزال سكينته و إنزال جنود لم يروها، و تعذيب الكافرين و وعد مجمل بمغفرته وعدا ليس بالمقطوع وجوده حتى تبطل به صفة الخوف من قلوبهم، و لا بالمقطوع عدمه حتى تزول صفة الرجاء من نفوسهم بل وعدا يحفظ فيهم الاعتدال و التوسط بين صفتي الخوف

 

 

 

 

 

 

 و الرجاء، و يربيهم تربية حسنة تعدهم و تهيئهم للسعادة الواقعية.

و قد أغرب بعض المفسرين في تفسير الآية مستظهرا بما جمع به بين الروايات على اختلافها فأصر على ما ملخصه أن المسلمين لم يفروا على جبن، و إنما انكشفوا عن موضعهم لما فاجأهم من شد كتائب ثقيف و هوازن عليهم شد رجل واحد فاضطربوا اضطرابة زلزلتهم و كشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة و هذا أمر طبيعي في الإنسان إذا فاجأه الخطر و دهمته بلية دفعة و من غير مهل اضطربت نفسه و خلي عن موضعه.

و يشهد به نزول السكينة على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و عليهم جميعا فقد كان الاضطراب شمله و إياهم جميعا، غير أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أصابه ما أصابه من الاضطراب و القلق حزنا و أسفا مما وقع، و المسلمون شملهم ذلك لما فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد.

و من الشواهد أنهم بمجرد ما سمعوا نداء الرسول صلى الله عليه وآله و سلم و نداء العباس بن عبد المطلب رجعوا من فورهم و هزموا الكفار بالسكينة النازلة عليهم من عند الله تعالى.

ثم ذكر ما نزل من الآيات في صفة الصحابة كآية بيعة الرضوان، و قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ الآية، و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‏َ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ الآية، و ما ورد من طريق الرواية في مدح صحابة النبي صلى الله عليه وآله و سلم. انتهى.

و الذي أورده من الخلط بين البحث التفسيري الذي لا هم له إلا الكشف عما يدل عليه الآيات الكريمة، و بين البحث الكلامي الذي يرام به إثبات ما يدعيه المتكلم في شي‏ء من المذاهب من أي طريق أمكن من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع أو المختلط منها و البحث التفسيري لا يبيح لباحثه شيئا من ذلك، و لا تحميل أي نظر من الأنظار العلمية على الكتاب الذي أنزله الله تبيانا.

أما قوله: إنهم لم يفروا جبنا و لا خذلانا للنبي صلى الله عليه وآله و سلم ، و إنما كان انكشافا لأمر فاجأهم فاضطربوا و زلزلوا ففروا ثم كروا فهذا مما لا يندفع به صريح قوله تعالى: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ مع اندراج هذا الفعل منهم تحت كلية قوله تعالى في آية تحريم الفرار من الزحف: ﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبَارَ وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلى أن قال ﴿فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ الآية.

 

 

 

 

 

 

و لم يقيد سبحانه النهي عن تولية الأدبار بأنه يجب أن يكون عن جبن أو لغرض الخذلان، و لا أستثني من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجئ، و لا أورد في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: ﴿إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏َ فِئَةٍ و ليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف.

و لم يورد تعالى أيضا فيما حكي من عهدهم شيئا من الاستثناء إذ قال: ﴿وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اَللَّهِ مَسْؤُلاً الأحزاب: - ١٥.

و أما استشهاده على ذلك بأن الاضطراب كان مشتركا بينهم و بين النبي صلى الله عليه وآله و سلم ، و استدلاله على ذلك بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حيث إن نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان على ما تدل عليه كلمة ثم يلازم نزول الاضطراب عند ذلك على النبي صلى الله عليه وآله و سلم و إن كان عن حزن و أسف إذ لا يتصور في حقه ص التزلزل في ثباته و شجاعته.

فلننظر فيما اعتبره للنبي صلى الله عليه وآله و سلم من الحزن و الأسف هل كان ذلك حزنا و أسفا على ما وقع من الأمر من انهزام المسلمين و ما ابتلاهم الله به من الفتنة و المحنة جزاء لما أعجبوا من كثرة عددهم، و بالجملة حزنا مكروها عند الله؟ فقد نزهه الله عن ذلك و أدبه بما نزل عليه من كتابه و علمه من علمه، و قد أنزل عليه مثل قوله عز من قائل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ: آل عمران: ١٢٨، و قال: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسى‏َ الأعلى: ٦.

و لم يرد في شي‏ء من روايات القصة أنه ص زال عن مكانه يومئذ أو اضطرب اضطرابا مما نزل على المسلمين من الوهن و الانهزام.

و إن كان ذلك حزنا و أسفا على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطئهم في الاعتماد بغير الله و الركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، و الذهول عن الاعتصام بالله سبحانه حتى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف لما كان هو ص عليه من الرأفة و الرحمة بالمؤمنين فهذا أمر يحبه الله سبحانه و قد مدح رسوله صلى الله عليه وآله و سلم به إذ قال: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ التوبة: - ١٢٨.

و ليس يزول مثل هذا الأسف و الحزن بنزول السكينة عليه، و لا أن السكينة لو فرض نزولها لأجله مما حدث بعد وقوع الانهزام حتى يكون النبي صلى الله عليه وآله و سلم خاليا عنها

 

 

 

 

 

 

 قبل ذلك بل كان ص على بينة من ربه منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، و كانت السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حينا بعد حين.

ثم السكينة التي نزلت على المؤمنين ما هي؟ و ما ذا يحسبها؟ أ كانت هي الحالة النفسانية التي تحصل من السكون و الطمأنينة كما فسرها بها و استشهد عليه بقول صاحب المصباح: أنها تطلق على الرزانة و المهابة و الوقار حتى كانت ثبات الكفار و سكونهم في مواقفهم الحربية عن سكينة نازلة إليهم؟ فإن كانت السكينة هي هذه فقد كانت في أول الوقعة عند كفار هوازن و ثقيف خصماء المسلمين ثم تركتهم و نزلت على عامة جيش المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و من مؤمن لم يثبت و اختار الفرار على القرار، و من منافق و من ضعيف الإيمان مريض القلب فإنهم جميعا رجعوا ثانيا إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم ، و ثبتوا معه حتى هزموا العدو فهم جميعا أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم فما باله تعالى يقصر إنزال السكينة على رسوله و على المؤمنين إذ يقول: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ.

على أنه إن كانت السكينة هي هذه، و هي مبتذلة مبذولة لكل مؤمن و كافر فما معنى ما امتن الله به على المؤمنين بما ظاهره أنها عطية خاصة غير مبتذلة؟ و لم يذكرها في كلامه إلا في موارد معدودة بضعة موارد لا تبلغ تمام العشرة.

و بذلك يظهر أن السكينة أمر وراء السكون و الثبات لا أن لها معنى في اللغة أو العرف وراء مفهوم الحالة النفسانية الحاصلة من السكون و الطمأنينة بل بمعنى أن الذي يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الذي نجده عند كل شجاع باسل له نفس ساكنة و جاش مربوط، و إنما هي نوع خاص من الطمأنينة النفسانية له نعت خاص و صفة مخصوصة.

كيف؟ و كلما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتنانا بها على رسوله و على المؤمنين خصها بالإنزال من عنده فهي حالة إلهية لا ينسى العبد معها مقام ربه لا كما عليه عامة الشجعان أولوا الشدة و البسالة المعجبون ببسالتهم المعتمدون على أنفسهم.

و قد احتفت في كلامه بأوصاف و آثار لا تعم كل وقار و طمأنينة نفسانية كما قال في حق رسوله: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اَللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ

 

 

 

 

 

 

 وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا التوبة: ٤٠ و قال تعالى في المؤمنين ﴿لَقَدْ رَضِيَ اَللَّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ الفتح: ١٨ فذكر أنه إنما أنزل السكينة عليهم لما علمه من قلوبهم فنزولها يحتاج إلى حالة قلبية طاهرة سابقة يدل السياق على أنها الصدق و نزاهة القلب عن إبطان نية الخلاف.

و قال أيضا: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ الفتح: ٤ فذكر أن من أثرها زيادة الإيمان مع الإيمان و قال أيضا: ﴿إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى‏َ وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا: الفتح: - ٢٦،.

و الآية كما ترى تذكر أن نزول السكينة من عنده تعالى مسبوق باستعداد سابق و أهلية و أحقية قبلية و هو الذي أشير إليه في الآية السابقة بقوله: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ. و تذكر أن من آثارها لزوم كلمة التقوى، و طهارة ساحة الإنسان عن مخالفة الله و رسوله باقتراف المحارم و ورود المعاصي.

و هذا كالمفسر يفسر قوله في الآية الأخرى: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ فازدياد الإيمان مع الإيمان بنزول السكينة هو أن يكون الإنسان على وقاية إلهية من اقتراف المعاصي و هتك المحارم مع إيمان صادق بأصل الدعوة الحقة.

و هذا نعم الشاهد يشهد أولا: أن المراد بالمؤمنين في قوله في الآية المبحوث عنها ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ غير المنافقين و غير مرضى القلوب و ضعفاء الإيمان، و لا يبقى إلا من ثبت من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم ، و هم ثلاثة أو أربعة أو تسعة أو عشرة أو ثمانون أو دون المائة على اختلاف الروايات في إحصائهم، و من فر و انكشف عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أولا ثم رجع و قاتل ثانيا و فيهم جل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله و سلم و عدة من خواصهم.

فهل المراد بالمؤمنين الذين نزلت عليهم، جميع من ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم و من فر أولا ثم رجع ثانيا، أو أنهم هم الذين ثبتوا معه من المؤمنين حتى نزل النصر؟.

الذي يستفاد من آيات السكينة أن نزولها متوقف على طهارة قلبية و صفاء نفسي سابق حتى يقرها الله تعالى بالسكينة، و هؤلاء كانوا مقترفين لكبيرة الفرار من الزحف

 

 

 

 

 

 

 آثمين قلوبا، و لا محل لنزول السكينة على من هذا شأنه فإن كانوا ممن نزلت عليهم السكينة كان من الواجب أن يندموا على ما فعلوا، و يتوبوا إلى ربهم توبة نصوحا بقلوب صادقة حتى يعلم الله ما في قلوبهم فينزل السكينة عليهم فيكونون أذنبوا أولا ثم تابوا و رجعوا ثانيا، فأنزل الله سكينته عليهم و نصرهم على عدوهم، و لعل هذا هو الذي يشير إليه التراخي المفهوم من قوله تعالى ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حيث عبر بثم».

لكن يبقى عليه أولا: أنه كان من اللازم على هذا أن يتعرض في الكلام لتوبتهم فيختص حينئذ قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اَللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ على الكفار الذين أسلموا بعد منهم، و لا أثر من ذلك في الكلام و لا قرينة تخص قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اَللَّهُ إلخ بالكافرين الذين أسلموا بعد، فافهم ذلك.

و ثانيا: أن في ذلك غمضا عن جميل المسعى و المحنة الحسنة التي امتحن بها أولئك النفر القليل الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم حين تركه جموع المسلمين بين الأعداء و انهزموا فارين لا يلوون على شي‏ء، و من المستبعد من دأب القرآن أن يهمل أمر من تحمل محنة في ذات الله، و ألقى نفسه في أشق المهالك ابتغاء مرضاته و هو شاكر عليم فلا يحمده و لا يشكر سعيه.

و المعهود من دأب القرآن أنه إذا عم قوما بعتاب أو توبيخ و ذم، و فيهم من هو بري‏ء من استحقاق اللوم أو العتاب أو طاهر من دنس الإثم و الخطيئة أن يستثنيه منهم و يخصه بجميل الذكر، و يحمده على عمله و إحسانه كما نراه كثيرا في الخطابات التي تعمم اليهود أو النصارى عتابا أو ذما و توبيخا فإنه تعالى يخاطبهم بما يخاطب و يوبخهم و ينسب إليهم الكفر بآياته و التخلف عن أوامره و نواهيه، ثم يمدح منهم الأقلين الذين آمنوا به و بآياته و أطاعوه فيما أراد منهم.

و أوضح من ذلك ما يتعرض من الآيات لوقعة أحد، و تمتن على المؤمنين بما أنزل الله عليهم من النصرة و الكرامة، و يعاتبهم على ما أظهروه من الوهن و الفشل ثم يستثني الثابتين منهم على أقدام الصدق، و يعدهم وعدا حسنا إذ قال مرة بعد مرة: ﴿وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ آل عمران: ١٤٤، ﴿وَ سَنَجْزِي اَلشَّاكِرِينَ آل عمران: - ١٤٥.

و نجد مثله في ما يذكره الله سبحانه من أمر وقعة الأحزاب فإن في كلامه عتابا

 

 

 

 

 

 

 شديدا لجمع من المؤمنين، و توبيخا و ذما للمنافقين و الذين في قلوبهم مرض حتى قال فيما قال: ﴿وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اَللَّهِ مَسْؤُلاً: الأحزاب: ١٥، ثم إنه تعالى ختم القصة بمثل قوله: ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏َ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً الأحزاب: ٢٣.

فما باله تعالى لم يتعرض لحالهم في قصة حنين، و ليست بأهون من غيرها، و لا خصهم بشي‏ء من الشكر، و لا حمدهم بما يمتنون به من لطيف حمده تعالى كغيرهم في غيرها.

فهذا الذي ذكرناه مما يقرب إلى الاعتبار أن يكون المراد بالمؤمنين الذين ذكر نزول السكينة عليهم هم الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم، و أما سائر المؤمنين ممن رجع بعد الانكشاف فهم تحت شمول قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اَللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يشمل من شملته العناية منهم كما يشمل من شملته العناية و التوفيق من كفار هوازن و ثقيف و من الطلقاء و الذين في قلوبهم مرض. هذا ما يهدي إليه البحث التفسيري، و أما الروايات فلها شأنها و سيأتي طرف منها.

و أما ما ذكره من شهادة رجوعهم من فورهم حين سمعوا نداء النبي صلى الله عليه وآله و سلم و نداء العباس فذلك مما لا يبطل ما قدمناه من ظهور قوله تعالى: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ إذا انضم إلى قوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبَارَ الآية في أن ما ظهر منهم في الوقعة من الفعل كان فرارا من الزحف فعلوه عن جبن أو تعمد في خذلان أو عن قلق و اضطراب و تزلزل.

و أما ما ذكره من الآيات التي تمدحهم و تذكر رضى الرب عنهم و استحقاقهم جزيل الأجر من ربهم. ففيه أن هذه المحامد مقيدة فيها بقيود لا يتحتم معها لهم الأمر فإن الآيات إنما تحمد من تحمده منهم لما به من نعوت العبودية كالإيمان و الإخلاص و الصدق و النصيحة و المجاهدة الدينية فالحمد باق ما بقيت الصفات، و الوعد الحسن على اعتباره ما لبثت فيهم النعوت و الأحوال الموجبة له فإذا زالت لحادثة أو خطيئة زال بتبعه.

و ليس ما عندهم من مبادئ الخير و البركات بأعظم و لا أهم مما عند الأنبياء من صفة العصمة يستحيل معها صدور الذنب منهم، و قد قال الله تعالى بعد ثناء طويل عليهم: ﴿وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الأنعام: ٨٨.

 

 

 

 

 

 

و قد قال تعالى قبال ما ظنوا أنهم مصونون عن ما يكرهونه من أقسام المجازاة كرامة لإسلامهم كما ظن نظيره أهل الكتاب: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ النساء: ١٢٣.

و الذي ورد في بيعة الرضوان من قوله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اَللَّهُ فإنما رضاه تعالى من صفاته الفعلية التي هي عين أفعاله الخارجية منتزعة منها فهو عين ما أفاض عليهم من الحالات الطاهرة النفسية التي تستعقب بطباعها جزيل الجزاء و خير الثواب إن بقيت أعمالهم على ما هي عليها و إن تغيرت تغير الرضى سخطا و النعمة نقمة و لم يأخذ أحد عليه تعالى عهدا أن لا يخلف عهده فيحمله على السعادة و الكرامة أحسن أو أساء، أطاع أو عصى، آمن أو كفر.

و ليس رضى الرب من صفاته الذاتية التي يتصف بها في ذاته فلا يعرضه تغير أو تبدل و لا يطرأ عليه زوال أو دثور.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إلى آخر الآية السكينة كما تقدم حالة قلبية توجب سكون النفس و ثبات القلب ملازمة لازدياد الإيمان مع الإيمان و لكلمة التقوى التي تهدي إلى الورع عن محارم الله على ما تفسرها الآيات.

و هي غير العدالة التي هي ملكة نفسانية تردع عن ركوب الكبائر و الإصرار على الصغائر فإن السكينة تردع عن الصغائر و الكبائر جميعا.

و قد نسب الله السكينة في كتابه إلى نفسه نسبة تشعر بنوع من الاختصاص كما نسب الروح إلى نفسه دون العدالة و وصفها بالإنزال فلها اختصاص عندي به تعالى بل ربما يشعر بعض الآيات بأنه عدها من جنوده كقوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ الفتح: ٤.

و في غير واحد من الآيات المشتملة على ذكر السكينة ذكر الجنود كقوله: ﴿فَأَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا التوبة: ٤٠، و كما في الآية المبحوث عنها: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا.

و الذي يفهم من السياق أن هذه الجنود هي الملائكة النازلة إلى المعركة، أو أن يقال من جملتها الملائكة النازلة و الذي ينتسب إلى السكينة و الملائكة أن يعذب بهم

 

 

 

 

 

 

 الكفار و يسدد و يسعد بهم المؤمنون كما اشتملت عليه آيات آل عمران القاصة قصة أحد، و آيات في أول سورة الفتح فراجعها حتى يتبين لك حقيقة الحال إن شاء الله تعالى.

و قد تقدم في قوله تعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ البقرة: ٢٤٨ في الجزء الثاني من الكتاب بعض ما يتعلق بالسكينة الإلهية من الكلام مما لا يخلو من نفع في هذا المقام.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اَللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قد تقدم مرارا أن التوبة من الله سبحانه هي الرجوع إلى عبده بالعناية و التوفيق أولا ثم بالعفو و المغفرة ثانيا، و من العبد الرجوع إلى ربه بالندامة و الاستغفار، و لا يتوب الله على من لا يتوب إليه.

و الإشارة في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ على ما يعطيه السياق إلى ما ذكره في الآيتين السابقتين من خطيئتهم بالركون إلى غير الله سبحانه و معصيتهم بالفرار و التولي ثم إنزال السكينة و إنزال الجنود و تعذيب الذين كفروا.

و الملائم لذلك أن يكون الموصول في ﴿مَنْ يَشَاءُ شاملا للمسلمين و الكافرين جميعا فقد ذكر من الفريقين جميعا ما يصلح لأن يتوب الله عليهم فيه إن تابوا و هو من الكفار كفرهم و من المسلمين خطيئتهم و معصيتهم، و لا وجه لتخصيص التوبة على بعضهم مع ما في آيات التوبة من عموم الحكم و سعته و لم يقيد في هذه الآية المبحوث عنها بما يوجب اختصاصها بأحد الفريقين: المسلمين أو الكافرين مع وجود المقتضي فيهما جميعا.

و مما ذكرنا يظهر فساد ما فسر به بعضهم الآية مع قصر الإشارة على التعذيب إذ قال: إن معناها ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام و هم الذين لم يحط بهم خطيئات جهالة الشرك و خرافاته من جميع جوانب أنفسهم، و لم يختم على نفوسهم بالإصرار على الجحود و التكذيب أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد. انتهى.

و قد عرفت أن تخصيص الآية بما ذكر و التصرف في سائر قيوده كقصر الإشارة على التعذيب و غير ذلك مما لا دليل عليه البتة.

و الوجه في التعبير بالاستقبال في قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اَللَّهُ الإشارة إلى انفتاح باب التوبة دائما، و جريان العناية و فيضان العفو و المغفرة الإلهية مستمرا بخلاف ما

 

 

 

 

 

 

 يشير إليه قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ الآية، فإن ذلك أمور محدودة غير جارية.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا قال في المجمع،: كل مستقذر نجس‏ يقال: رجل نجس و امرأة نجس و قوم نجس لأنه مصدر، و إذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس بكسر النون قال: و العيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر. انتهى.

و النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام بحسب المتفاهم العرفي يفيد أمر المؤمنين بمنعهم عن دخول المسجد الحرام، و في تعليله تعالى منع دخولهم المسجد بكونهم نجسا اعتبار نوع من القذارة لهم كاعتبار نوع من الطهارة و النزاهة للمسجد الحرام، و هي كيف كانت أمر آخر وراء الحكم باجتناب ملاقاتهم بالرطوبة و غير ذلك.

و المراد بقوله: ﴿عَامِهِمْ هَذَا سنة تسع من الهجرة، و هي السنة التي أذن فيها علي عليه السلام بالبراءة، و منع طواف البيت عريانا، و حج المشركين البيت.

و قوله: ﴿وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الآية، أي و إن خفتم في إجراء هذا الحكم أن ينقطعوا عن الحج، و يتعطل أسواقكم، و تذهب تجارتكم فتفتقروا و تعيلوا فلا تخافوا فسوف يغنيكم الله من فضله، و يؤمنكم من الفقر الذي تخافونه.

و هذا وعد حسن منه تعالى فيه تطييب نفوس أهل مكة و من كان له تجارة هناك بالموسم، و كان حاضر العالم الإسلامي يبشرهم يومئذ بمضمون هذا الوعد فقد كان الإسلام تعلو كلمته، و ينتشر صيته حالا بعد حال، و كانت عامة المشركين في عتبة الاستئصال بعد إيذان براءة لم يبق لهم إلا أربعة أشهر إلا شرذمة قليلة من العرب كان النبي صلى الله عليه وآله و سلم عاهدهم عند المسجد الحرام إلى أجل ما بعده من مهل فالجميع كانوا في معرض قبول الإسلام.

بحث روائي

 في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن بعض أصحابه ذكره قال: لما سم المتوكل نذر إن عوفي أن يتصدق بمال كثير فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه فقال بعضهم: مائة ألف، و قال بعضهم: عشرة آلاف فقالوا فيه أقاويل مختلفة فاشتبه عليه الأمر .

فقال رجل من ندمائه يقال له صفوان: أ لا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه؟.

 

 

 

 

 

 

 فقال له المتوكل: من تعني ويحك؟ فقال: ابن الرضا. فقال له: و هو يحسن من هذا شيئا؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا و كذا و إلا فاضربني مائة مقرعة فقال المتوكل: رضيت، يا جعفر بن محمود اذهب إلى أبي الحسن علي بن محمد فاسأله عن حد المال الكثير، فسأله فقال له: الكثير ثمانون .

فقال له جعفر بن محمود: يا سيدي إنه يسألني عن العلة فيه فقال له أبو الحسن عليه السلام: إن الله عز و جل يقول: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ فعددنا تلك المواطن فكان ثمانين: أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره و بعض أصحابه الذي ذكر في الرواية أنه سماه هو محمد بن عمرو على ما ذكره في التفسير. و معنى الرواية أن الثمانين من مصاديق الكثير بدلالة من الكتاب لا أن الكثير معناه الثمانون و هو ظاهر.

 و في المجمع، ذكر أهل التفسير و أصحاب السير :أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لما فتح مكة خرج منها متوجها إلى حنين لقتال هوازن و ثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوال في سنة ثمان من الهجرة، و قد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصري، و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم و نزلوا بأوطاس .

قال: و كان دريد بن الصمة في القوم، و كان رئيس جشم، و كان شيخا كبيرا قد ذهب بصره من الكبر فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، و لا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير و نهيق الحمير و خوار البقر و ثغاء الشاة و بكاء الصبيان؟ فقالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم و أموالهم و نساءهم ليقاتل كل منهم عن أهله و ماله فقال دريد: راعي ضأن و رب الكعبة .

ثم قال: ائتوني بمالك فلما جاءه قال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك، و هذا يوم له ما بعده، رد قومك إلى عليا بلادهم، و ألق الرجال على متون الخيل فإنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه و فرسه فإن كانت لك لحق بك من وراءك، و إن كانت عليك لا تكون قد فضحت في أهلك و عيالك؛ فقال له مالك: إنك قد كبرت و ذهب علمك و عقلك .

و عقد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لواءه الأكبر و دفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، و كل من دخل مكة براية أمره أن يحملها، و خرج بعد أن أقام بمكة خمسة عشر يوما و بعث إلى صفوان بن أمية فاستعار منه مائة درع فقال صفوان: عارية أم غصب؟ فقال ص:

 

 

 

 

 

 

 عارية مضمونة مؤداة، فأعاره صفوان مائة درع و خرج معه، و خرج من مسلمة الفتح ألفا رجل، و كان ص دخل مكة في عشرة آلاف رجل و خرج منها في اثني عشر ألفا .

و بعث رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف و هو يقول لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله و ماله خلف ظهره، و اكسروا جفون سيوفكم، و أكمنوا في شعاب هذا الوادي و في السحر فإذا كان في غبش الصبح فاحملوا حملة رجل واحد فهدوا القوم فإن محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب .

و لما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بأصحابه الغداة انحدر في وادي حنين فخرجت عليهم كتائب هوازن من كل ناحية، و انهزمت بنو سليم و كانوا على المقدمة و انهزم ما وراءهم، و خلى الله تعالى بينهم و بين عدوهم لإعجابهم بكثرتهم و بقي علي عليه السلام و معه الراية يقاتلهم في نفر قليل و مر المنهزمون برسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لا يلوون على شي‏ء.

و كان العباس بن عبد المطلب أخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و الفضل عن يمينه، و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، و نوفل بن الحارث و ربيعة بن الحارث في تسعة من بني هاشم، و عاشرهم أيمن بن أم أيمن، و في ذلك يقول العباس:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** و قد فرّ من قد فرّ عنه فأقشعوا

 و قولي إذا ما الفضل كرّ بسيفه *** على القوم أخرى يا بني ليرجعوا

 و عاشِرُنا لاقى الحمام بنفسه *** لما ناله في الله لا يتوجع‏

و لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم هزيمة القوم عنه قال للعباس و كان جهوريا صيتا اصعد هذا الظرب فناد: يا معشر المهاجرين و الأنصار يا أصحاب سورة البقرة يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرون؟! هذا رسول الله .

فلما سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا و قالوا: لبيك لبيك، و تبادر الأنصار خاصة و قاتلوا المشركين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : الآن حمي الوطيس. أنا النبي لا كذب‏[5] أنا ابن عبد المطلب، و نزل النصر من عند الله، و انهزمت هوازن هزيمة قبيحة ففروا في كل وجه، و لم يزل المسلمون في آثارهم.

 

 

 

 

 

 

 

 و فر مالك بن عوف فدخل حصن الطائف، و قتل منهم زهاء مائة رجل، و أغنم الله المسلمين أموالهم و نساءهم، و أمر رسول الله بالذراري و الأموال أن تحدر إلى الجعرانة، و ولى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعي .

و مضى صلى الله عليه وآله و سلم في أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك بن عوف فحاصر أهل الطائف بقية الشهر فلما دخل ذو القعدة انصرف و أتى الجعرانة، و قسم بها غنائم حنين و أوطاس .

قال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن و أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لم يقفوا لنا حلب شاة فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا فكانوا إياها يعني الملائكة .

قال الزهري: و بلغني أن شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و أنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان و عثمان بن طلحة و كانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إلي و ضرب في صدري، و قال: أعيذك بالله يا شيبة، فأرعدت فرائصي فنظرت إليه و هو أحب إلي من سمعي و بصري فقلت: أشهد أنك رسول الله، و أن الله أطلعك على ما في نفسي .

و قسم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الغنائم بالجعرانة و كان معه من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري و النساء، و من الإبل و الشاة ما لا يدرى عدته. قال أبو سعيد الخدري: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم للمتألفين من قريش و من سائر العرب ما قسم، و لم يكن في الأنصار منها شي‏ء قليل و لا كثير فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك و في سائر العرب و لم يكن فيهم من ذلك شي‏ء فقال ص: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة فجمعهم فخرج رسول الله ص فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار أ و لم آتكم ضلالا فهداكم الله، و عالة فأغناكم الله و أعداء فألّف

 

 

 

 

 

 

بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله .

ثم قال: أ لا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فقالوا: و ما نقول؟ و بماذا نجيبك؟ المن لله و لرسوله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : أما و الله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، و عائلا فآسيناك، و خائفا فآمناك، و مخذولا فنصرناك. فقالوا: المن لله و لرسوله .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا و وكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام. أ فلا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس إلى رحالهم بالشاة و البعير، و تذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا و سلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار و لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار اللهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، و قالوا: رضينا بالله و رسوله قسما ثم تفرقوا .

و قال أنس بن مالك: و كان رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أمر مناديا فنادى يوم أوطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، و لا غير الحبالى حتى يستبرأن بحيضة .

ثم أقبلت وفود هوازن و قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بالجعرانة مسلمين فقام خطيبهم و قال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك و حواضنك اللاتي كن يكفلنك فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما و عطفهما و أنت خير المكفولين ثم أنشد أبياتا .

فقال صلى الله عليه وآله و سلم: أي الأمرين أحب إليكم: السبي أو الأموال؟ قالوا: يا رسول الله خيرتنا بين الحسب و بين الأموال، و الحسب أحب إلينا و لا نتكلم في شاة و لا بعير فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : أما الذي لبني هاشم فهو لكم و سأكلم لكم المسلمين و أشفع لكم فكلموهم و أظهروا إسلامكم .

فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الهاجرة قاموا فتكلموا فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم : قد رددت الذي لبني هاشم و الذي بيدي عليهم فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل و من كره أن يعطي فليأخذ الفداء و علي فداؤهم؛ فأعطى الناس ما كان بأيديهم منهم إلا قليلا من الناس سألوا الفداء .

 

 

 

 

 

 

 و أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلى مالك بن عوف و قال: إن جئتني مسلما رددت إليك أهلك و مالك و لك عندي مائة ناقة؛ فخرج إليه من الطائف فرد عليه أهله و ماله و أعطاه مائة من الإبل و استعمله على من أسلم من قومه.

أقول: و روى القمي في تفسيره مثله و لم يرو ما نسب من الرجز إليه ص و كذا ما أسنده إلى راو معين كالمسيب و الزهري و أنس و أبي سعيد، و روي هذه المعاني بطرق كثيرة من طرق أهل السنة.

 و في رواية علي بن إبراهيم القمي زيادة يسيرة هي ما يأتي: قال علي بن إبراهيم :فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه‏[6] فقال: يا عباس اصعد هذا الظرب و ناد: يا أصحاب [سورة] البقرة يا أصحاب الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله .

ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يده و قال: اللهم لك الحمد و لك الشكر و إليك المشتكى و أنت المستعان فنزل إليه جبرئيل فقال: يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى بن عمران حين فلق الله له البحر و نجاه من فرعون .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لأبي سفيان بن الحارث: ناولني كفا من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال: شاهت الوجوه. ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد .

فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا و كسروا جفون سيوفهم و هم ينادون: لبيك و مروا برسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و استحيوا أن يرجعوا إليه و لحقوا بالراية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال: يا رسول الله هؤلاء الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : الآن حمي الوطيس فنزل النصر من السماء و انهزمت هوازن.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن محمد بن عبيد الله بن عمير الليثي قال : كان مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم أربعة آلاف من الأنصار و ألف من جهينة، و ألف من مزينة و ألف من أسلم و ألف من غفار و ألف من أشجع و ألف من المهاجرين و غيرهم فكان معه عشرة

 

 

 

 

 

 

 آلاف و خرج باثني عشر ألفا و فيها قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً و في سيرة ابن هشام، عن ابن إسحاق قال :فلما انهزم الناس، و رأى من كان مع رسول الله ص من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن: فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. و إن الأزلام لمعه في كنانته و صرخ جبلة بن الحنبل قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل و هو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: أ لا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن .

قال ابن إسحاق: و قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثاري و كان أبوه قتل يوم أحد اليوم أقتل محمدا قال: فأدرت برسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لأقتله فأقبل شي‏ء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك فعلمت أنه ممنوع مني.

فهرس أسماء شهداء حنين

 في سيرة ابن هشام، قال ابن إسحاق :و هذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين: من قريش ثم من بني هاشم أيمن بن عبيد و من بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد - جمح به فرس يقال له الجناح فقتل .

و من الأنصار سراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان و من الأشعريين أبو عامر الأشعري. أقول: و أما الثباة مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقد عدوا في بعض الروايات ثلاثة و في بعضها أربعة و في بعضها تسعة عاشرهم أيمن بن عبيد و هو ابن أم أيمن و في بعضها ثمانين و في بعضها: دون المائة.

و المتعمد من بينها ما روي عن العباس أنهم كانوا تسعة عاشرهم أيمن و له في ذلك شعر تقدم نقله و ذلك أنه كان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم طول الوقعة و شاهد ما كان من الأمر و هو الذي كان ينادي المنهزمين و يستلحقهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله و سلم و قد باهى بما قاله من الشعر.

 

 

 

 

 

 

 و من الممكن أن يثبت جمع بعد انهزام الناس هنيئة ثم يلحقوا بالمنهزمين أو يرجع جمع قبل رجوع غيرهم فيلحقوا بالراية فيعدوا ممن ثبت و قاتل فالحرب العوان لا يجري على ما يجري عليه السلم من النظم.

و من هنا يعلم ما في قول بعضهم: إن الأرجح رواية الثمانين كما عن عبد الله بن مسعود و إليها يرجع ما رواه ابن عمر أنهم كانوا دون المائة فإن الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ، انتهى ملخصا.

و ذلك أن كون الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ حق لكن الحفظ في حال الحرب على ما فيه من التحول السريع في الأوضاع الحاضرة غير الحفظ في غيره فلا يعتمد إلا على ما شهدت القرائن لصحته و أيد الاعتبار وثاقة حفظه و قد كان العباس مأمورا بما من شأنه حفظ هذا الشأن و ما يرتبط به.

[سورة التوبة ٩: الآیات ٢٩ الی ٣٥]

﴿قَاتِلُوا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاَ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صَاغِرُونَ ٢٩ وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللَّهِ وَ قَالَتِ اَلنَّصَارى‏ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ٣٠ اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٣١ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ ٣٢ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ اَلْحَقِّ 

 

 

 

 

 

 

لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ ٣٣ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبَارِ وَ اَلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣٤ يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‏ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ٣٥

بيان

الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب ممن يمكن تبقيته بالجزية و تذكر أمورا من وجوه انحرافهم عن الحق في الاعتقاد و العمل.

قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاَ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ أهل الكتاب هم اليهود و النصارى على ما يستفاد من آيات كثيرة من القرآن الكريم و كذا المجوس على ما يشعر أو يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلصَّابِئِينَ وَ اَلنَّصَارى‏ وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ: الحج: ١٧ حيث عدوا في الآية مع سائر أرباب النحل السماوية في قبال الذين أشركوا، و الصابئون كما تقدم طائفة من المجوس صبوا إلى دين اليهود فاتخذوا طريقا بين الطريقين.

و السياق يدل على أن لفظة ﴿مِنَ في قوله: ﴿مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَبيانية لا تبعيضية فإن كلا من اليهود و النصارى و المجوس أمة واحدة كالمسلمين في إسلامهم و إن تشعبوا شعبا مختلفة و تفرقوا فرقا متشتتة اختلط بعضهم ببعض و لو كان المراد قتال البعض و إثبات الجزية على الجميع أو على ذلك البعض بعينه لاحتاج المقام في إفادة ذلك إلىبيان غير هذا البيان يحصل به الغرض.

و حيث كان قوله: ﴿مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَبيانا لما قبله من قوله: ﴿اَلَّذِينَ

 

 

[1]   العاني: الأسير.

[2]   و قد اعترف في مواضع من كلامه و نقل عن أحمد أنه قال: لا أصل لها.

[3]   ابن شيبة ظ.

[4]   نعم زعم هو أن السقاية و العمارة من العباس في حال شركه من أعمال البر كما زعمه العباس غير أن الآيات بنزولها نبهت العباس أنه كان قد أخطأ في مزعمته كما يشعر به ذيل رواية ابن عباس و لم يتنبه هو لما تنبه له العباس رضي الله عنه.

[5]   غير كذب خ.

[6]   و في نسخة البحار: ركض نحو على بغلته فرآه قد شهر سيفه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215196

  • التاريخ : 3/02/2025 - 19:55

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net