سلائق الأشراف و قد قال ص يوم فتح مكة عند الكعبة على ما رواه أصحاب السير: «إلا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت و سقاية الحاج». ثم لو كانت سنة عربية غير مذمومة فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ذهل عنها و نسيها حين أسلم الآيات إلى أبي بكر و أرسله، و خرج هو إلى مكة حتى إذا كان في بعض الطريق ذكر ص ما نسيه أو ذكره بعض من عنده بما أهمله و ذهل عنه من أمر كان من الواجب مراعاته؟ و هو ص المثل الأعلى في مكارم الأخلاق و اعتبار ما يجب أن يعتبر من الحزم و حسن التدبير، و كيف جاز لهؤلاء المذكرين أن يغفلوا عن ذلك و ليس من الأمور التي يغفل عنها و تخفى عادة فإنما الذهول عنه كغفلة المقاتل عن سلاحه؟.
و هل كان ذلك بوحي من الله إليه أنه يجب له أن لا يلغي هذه السنة العربية الكريمة، و أن ذلك أحد الأحكام الشرعية في الباب و أنه يحرم على ولي أمر المسلمين أن ينقض عهدا إلا بنفسه أو بيد أحد من أهل بيته؟ و ما معنى هذا الحكم؟.
أو أنه حكم أخلاقي اضطر إلى اعتباره لما أن المشركين ما كانوا يقبلون هذا النقض إلا بأن يسمعوه من النبي صلى الله عليه وآله و سلم نفسه أو من أحد من أهل بيته؟ و قد كانت السيطرة يومئذ له ص عليهم، و الزمام بيده دونهم، و الإبلاغ إبلاغ.
أو أن المؤمنين المخاطبين بقوله: ﴿عَاهَدْتُمْ﴾ و قوله: ﴿وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ﴾ و قوله: ﴿فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ﴾ ما كانوا يعتبرون هذا النقض نقضا دون أن يسمعوه منه ص أو من واحد من أهل بيته و إن علموا بالنقض إذا سمعوا الآيات من أبي بكر؟.
و لو كان كذلك فكيف قبله و اعتبره نقضا من سمعه من أبي هريرة الذي كان ينادي به حتى صحل صوته؟ و هل كان أبو هريرة أقرب إلى علي و أمس به من أبي بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فالحق أن هذه الروايات الحاكية لنداء أبي هريرة و غيره غير سديدة لا ينبغي الركون إليها.
قال صاحب المنار في تفسيره: جملة الروايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم جعل أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع و أمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام ثم أردفه بعلي ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة و إعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا في أمرهم، و إن العهود الموقتة أجلها نهاية وقتها، و يتلو عليهم الآيات المتضمنة لمسألة نبذ العهود و ما يتعلق بها من أول سورة براءة.
و هي أربعون أو ثلاث و ثلاثون آية، و ما ذكر في بعض الروايات من التردد بين ثلاثين و أربعين فتعبير بالأعشار مع إلغاء كسرها من زيادة و نقصان.
و ذلك لأن من عادة العرب أن العهود و نبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، و أن عليا كان مختصا بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر الذي كان يساعده على ذلك و يأمر بعض الصحابة كأبي هريرة بمساعدته. انتهى.
و قال أيضا: إن بعض الشيعة يكبرون هذه المزية لعلي عليه السلام كعادتهم و يضيفون إليها ما لا تصح به رواية، و لا تؤيده دراية فيستدلون بها على تفضيله على أبي بكر رضي الله عنهما و كونه أحق بالخلافة منه، و يزعمون أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم عزل أبا بكر من تبليغ سورة براءة لأن جبرئيل أمره بذلك، و أنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه و لا يخصون هذا النفي بتبليغ نبذ العهود و ما يتعلق به بل يجعلونه عاما لأمر الدين كله.
مع استفاضة الأخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة كالجهاد في حمايته و الدفاع عنه، و كونه فريضة لا فضيلة فقط و منها قوله ص في حجة الوداع على مسمع الألوف من الناس: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» و هو مكرر في الصحيحين و غيرهما، و في بعض الروايات عن ابن عباس: فوالذي نفسي بيده أنها لوصيته إلى أمته «فليبلغ الشاهد الغائب» إلخ و حديث: «بلغوا عني و لو آية» رواه البخاري في صحيحة و الترمذي، و لو لا ذلك لما انتشر الإسلام ذلك الانتشار السريع في العالم.
بل زعم بعضهم كما قيل إنه ص عزل أبا بكر من إمارة الحج و ولاها عليا، و هذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها الخاص و العام.
و الحق أن عليا كرم الله وجهه كان مكلفا بتبليغ أمر خاص، و كان في تلك الحجة تابعا لأبي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العام حتى كان أبو بكر يعين له الوقت الذي يبلغ ذلك فيه فيقول: يا علي قم فبلغ رسالة رسول الله ص كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة كما أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين و غيرهما.
ثم ساق الكلام و استدل بإمارة أبي بكر في تلك الحجة و ضم إليها صلاته موضع النبي صلى الله عليه وآله و سلم قبيل وفاته على تقدمه و أفضليته من جميع الصحابة على من سواه انتهى.
أما قوله: مع استفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة إلى آخر ما قال فيكشف عن أنه لم يحصل معنى كلمة الوحي: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» حق التحصيل، و لم يفرق بين قولنا: «لا يؤدي منك إلا رجل منك» و بين قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فزعم أن الكلام بإطلاقه يمنع عن كل تبليغ ديني يتصداه غير النبي صلى الله عليه وآله و سلم أو رجل منه فدفع ذلك باستفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة و قيد به إطلاق قوله: «لا يؤدي عنك» إلخ فجعله خاصا بتبليغ نبذ العهد بعد تحويل الحكم الإلهي إلى سنة عربية جاهلية.
و قد ساقه اشتباه معنى الكلمة إلى أن زعم أن إبقاء الكلام على إطلاقه منشؤه الغفلة عن أمر هو كالضروري عند عامة المسلمين أعني وجوب التبليغ العام حتى استدل على ذلك بما في الصحيحين و غيرهما من قوله ص: «فليبلغ الشاهد الغائب»، و قد عرفت ما هو حق المعنى لكلمة الوحي.
و أما قوله: «بل زعم بعضهم كما قيل إنه عزل أبا بكر من إمارة الحج و ولاها عليا و هذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها العام و الخاص» فليس ذلك زعما من البعض و لا بهتانا كما بهته بل رواية روتها الشيعة و قد أوردناها في ضمن الروايات المتقدمة.
و ليس التوغل في مسألة الإمارة مما يهمنا في تفهم معنى قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فإمارة الحاج سواء صحت لأبي بكر أو لعلي، دلت على فضل أو لم تدل إنما هي من شعب الولاية الإسلامية العامة التي شأنها التصرف في أمور المجتمع الإسلامي الحيوية، و إجراء الأحكام و الشرائع الدينية، و لا حكومة لها على المعارف الإلهية و مواد الوحي النازلة من السماء في أمر الدين.
إنما هي ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ينصب يوما أبا بكر أو عليا لإمارة الحاج، و يؤمر يوما أسامة على أبي بكر و عامة الصحابة في جيشه، و يولي يوما ابن أم مكتوم على المدينة و فيها من هو أفضل منه، و يولي هذا مكة بعد فتحها، و ذاك اليمن، و ذلك أمر الصدقات، و قد استعمل ص أبا دجانة الساعدي أو سباع بن عرفطة الغفاري على ما في سيرة ابن هشام على المدينة عام حجة الوداع، و فيها أبو بكر لم يخرج إلى الحج على ما رواه البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و غيرهم و إنما تدل على إذعانه ص بصلاحية من نصبه لأمر لتصديه و إدارة رحاه.
و أما الوحي السماوي بما يشتمل عليه من المعارف و الشرائع فليس للنبي ص و لا لمن دونه صنع فيه و لا تأثير فيه مما له من الولاية العامة على أمور المجتمع الإسلامي بإطلاق أو تقييد أو إمضاء أو نسخ أو غير ذلك، و لا تحكم عليه سنة قومية أو عادة جارية حتى توجب تطبيقه على ما يوافقها أو قيام العصبة مقام الإنسان فيما يهمه من أمر.
و الخلط بين البابين يوجب نزول المعارف الإلهية من أوج علوها و كرامتها إلى حضيض الأفكار الاجتماعية التي لا حكومة فيها إلا للرسوم و العادات و الاصطلاحات، فيعود الإنسان يفسر حقائق المعارف بما يسعه الأفكار العامية و يستعظم ما استعظمه المجتمع دون ما عظمه الله، و يستصغر ما استصغره الناس حتى يقول القائل في معنى كلمة الوحي أنه عادة عربية محترمة.
و أنت إذا تأملت هذه القصة أخذ آيات براءة من أبي بكر و إعطاءها عليا على ما تقصها الروايات وجدت فيها من مساهلة الرواة و توسعهم في حفظ القصة بما لها من الخصوصيات إن لم يستند إلى غرض آخر أمرا عجيبا ففي بعضها و هو الأكثر أنه ص بعث أبا بكر بالآيات ثم بعث عليا و أمره أن يأخذها منه و يتلوها على الناس فرجع أبو بكر إلخ، و في بعضها أنه بعث أبا بكر بإمارة الحج ثم بعث عليا بعده بآيات براءة و في بعضها: أن أبا بكر أمره بالتبليغ و أمر بعض الصحابة أن يشاركه في النداء حتى آل الأمر إلى مثل ما رواه الطبري و غيره عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ﴾ إلى أهل العهد خزاعة و مدلج و من كان له عهد و غيرهم. أقبل رسول الله ص من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر و عليا فطافا في الناس بذي المجاز و بأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها و بالموسم كله فأذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر و هي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الأول[1] ثم عهد لهم و آذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا.
و إذا كان هذا هو الحال فما معنى قوله: «بهتان صريح مخالف لجميع الروايات
في مسألة عملية عرفها العام و الخاص»؟ فإن كان يعني: عرفها العام و الخاص في عصر النبي صلى الله عليه وآله و سلم ممن شاهد الأمر أو سمع ذلك ممن شاهده و وصفه فما ذا ينفعنا ذلك؟.
و إن كان يعني: أن العام و الخاص ممن يلي عهد النبي صلى الله عليه وآله و سلم أو يلي من يليه عرفا ذلك و لم يشك أحد في ذلك فهذا حال الروايات المنقولة عنهم لا يجتمع على كلمة.
منها ما يحكى أن عليا اختص بتأدية براءة و أخرى تدل على أن أبا بكر شاركه فيه، و أخرى تدل على أن أبا هريرة شاركه في التأدية و رجال آخرون لم يسموا في الروايات.
و منها ما يدل على أن الآيات كانت تسع آيات، و أخرى عشرا، و أخرى ست عشرة، و أخرى ثلاثين، و أخرى ثلاثا و ثلاثين، و أخرى سبعا و ثلاثين، و أخرى أربعين، و أخرى سورة براءة.
و منها ما يدل على أن أبا بكر ذهب لوجهه أميرا على الحاج و أخرى على أنه رجع حتى أوله بعضهم كابن كثير أنه رجع بعد إتمام الحج، و آخرون أنه رجع ليسأل النبي صلى الله عليه وآله و سلم عن سبب عزله، و في رواية أنس الآتية أنه ص بعث أبا بكر ببراءة ثم دعاه فأخذها منه.
و منها ما يدل على أن الحجة وقعت في ذي الحجة و أن يوم الحج الأكبر تمام أيام تلك الحجة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك و أخرى أن أبا بكر حج في تلك السنة في ذي القعدة.
و منها ما يدل على أن أشهر السياحة تأخذ من شوال، و أخرى من ذي القعدة، و أخرى من عاشر ذي الحجة، و أخرى من الحادي عشر من ذي الحجة و غير ذلك.
و منها ما يدل على أن الأشهر الحرم هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم من تلك السنة و، أخرى على أنها أشهر السياحة تبتدأ من يوم التبليغ أو يوم النزول.
فهذا حال اختلاف الروايات، و مع ذلك كيف يستقيم دعوى أنه أمر عرفه العام و الخاص، و بعض المحتملات السابقة و إن كان قولا من مفسري السلف إلا أن المفسرين يعاملون أقوالهم معاملة الروايات الموقوفة.
و أما قوله: و الحق أن عليا كان مكلفا بتبليغ أمر خاص و كان في تلك الحجة
تابعا لأبي بكر في إمارته إلى آخر ما قال فلا ريب أن الذي بعث به النبي صلى الله عليه وآله و سلم عليا من الأحكام كان أمرا خاصا و هو تلاوة آيات براءة و سائر ما يلحق بها من الأمور الأربعة المتقدمة غير أن الكلام في أن كلمة الوحي: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» لا تختص في دلالتها بتأدية آيات براءة على ما تقدمبيانه فلا ينبغي الخلط بين ما يدل عليه الكلمة و بين ما أمر به علي في خصوص تلك السفرة.
و أما قوله: و كان في تلك الحجة تابعا «إلخ» فأمر استفادة من كلام أبي هريرة و ما يشبه، و قد عرفت الكلام فيه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسنه و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله و سلم ببراءة مع أبي بكر رضي الله عنه ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليا فأعطاه إياه.
أقول: ذكر صاحب المنار في بعض كلامه: أن قوله ص: «أو رجل مني في رواية السدي قد فسرتها الروايات الأخرى عند الطبري و غيره بقوله ص: «أو رجل من أهل بيتي» و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» بأن معناها أن نفس علي كنفس رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و أنه مثله و أنه أفضل من كل أصحابه انتهى .
و الذي أشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلا بقوله: و أخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم بعث ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال: لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعث بها مع علي.
و هذه بعينها على ما لا يخفى هي الرواية السابقة التي أوردناها عن أنس، و قد وقع فيها «أو رجل من أهلي» و إن اختلف لفظا الروايتين بما عملت فيهما يد النقل بالمعنى.
و أول ما في كلامه: أن اللفظ: «أو رجل مني» لم يقع إلا في رواية واحدة موقوفة هي رواية السدي التي استضعفها قبيل ذلك بل الأصل في ذلك كلمة الوحي التي أثبتتها معظم الروايات الصحيحة على بلوغ كثرتها، و الروايات الآخر المشتملة على قوله: «من أهل بيتي» و هو يستكثرها إنما هي رواية أنس على ما عثرنا عليها و قد وقع في بعض ألفاظها قوله «من أهلي» مكان «من أهل بيتي».
و الثاني: أن الرواية كما اتضح لك -منقولة بالمعنى، و مع ذلك لا يصلح ما وقع فيها من بعض الألفاظ لتفسير ما اتفقت عليه معظم الروايات الصحيحة الواردة من طرق الفريقين من لفظ الوحي المنقول فيها.
على أن قوله: «من أهل بيتي» في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر الروايات من «لفظ رجل منك» أو «رجل مني» لكان الواقع في رواية في سائر الروايات من لفظ رجل منك أو رجل مني لكان الواقع في رواية أبي سعيد الخدري السابقة من قوله عليه السلام : «يا علي إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت» مفسرا لما في رواية أنس: «إلا رجل من أهل بيتي» أو «إلا رجل من أهلي» و ما في سائر الروايات: «إلا رجل منك» أو «إلا رجل مني».
فيعود هذه الألفاظ كناية عن شخص علي عليه السلام ، بل الكناية بما لها من المعنى مشيرة إلى أنه من نفس النبي عليه السلام و من أهله و من أهل بيته جميعا، و هذا عين ما فر منه و زيادة.
و الثالث: أن استفادة كونه عليه السلام بمنزلة نفسه عليه السلام ليست بمستندة إلى مجرد قوله ص: «رجل مني» كما حسبه فإن مجرد قول القائل: فلان مني لا يدل على تنزيله منزلته في جميع شئون وجوده و مماثلته إياه، و إنما يدل على نوع من الاتصال و الاتباع كما في قول إبراهيم عليه السلام : ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ إبراهيم: ٣٦ إلا بنوع من القرينة الدالة على عناية كلامية كقوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾.
بل إنما استفيد ذلك من قوله: «رجل مني» أو «رجل منك» بمعونة قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت» على البيان الذي تقدم و على هذا فلو كان هناك قوله: «لا يؤدي عني إلا رجل من أهلي أو رجل من أهل بيتي» لاستفيد منه عين ما استفيد من قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و قوله: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» مضافا[2] إلى أنه ص عده منه في خطابه أبا بكر و هو أيضا منه بالاتباع.
و الرابع: أنه أهمل في البحث الروايات الصحيحة المستفيضة أو المتواترة التي تدل على أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله و سلم هم: علي و فاطمة و الحسنان على ما تقدم في أخبار آية المباهلة و سيجيء معظمها في أخبار آية التطهير إن شاء الله تعالى.
و لا رجل في أهل بيته ص إلا علي عليه السلام فيئول الأمر إلى كون اللفظ كناية عن علي عليه السلام فيرجع إلى ما تقدم من الوجه.
و أما ما احتمله من المعنى فهو أن المراد بأهل بيته عامة أقربائه من بني هاشم أو بنو هاشم و نساؤه فينزل اللفظ منزلة عادية من غير أن يحمل شيئا من المزية، و المعنى لا يؤدي نبذ العهد عني إلا رجل من بني هاشم، و القوم يرجعون غالبا في مفاهيم أمثال هذه الألفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوي في ذلك من غير توجه إلى ما اعتبره الشرع، و قد تقدم نظير ذلك في معنى الابن و البنت حيث حسبوا أن كون ابن البنت ابنا للرجل و عدمه مرجعه إلى بحث لغوي يعين كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوي على ابن البنت مثلا أو لا يصدق عليه، و جميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الأبحاث اللفظية و الأبحاث المعنوية، و كذا الخلط بين الأنظار الاجتماعية و الأنظار الدينية السماوية على ما تقدمت الإشارة إليه.
و أعجب من الجميع قوله: و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» فإن مراده بدلالة السياق أن كلمة «من أهل بيتي» نص صريح في أن المراد برجل مني رجل من بني هاشم، و لا ندري أي نصوصية أو صراحة لكلمة «أهل البيت» في بني هاشم بعد ما تكاثرت الروايات أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله و سلم هم علي و فاطمة و الحسنان عليه السلام ثم في قوله: «أهل بيتي» بمعنى بني هاشم أن المراد بكلمة «مني» هو ذلك!.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليه السلام: ﴿فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ قال: عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من ربيع الآخر.
أقول: و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليه السلام أن المراد من الأربعة الأشهر هو ذلك، روى ذلك الكليني و الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم في كتبهم، و روي ذلك من طرق أهل السنة، و هناك روايات أخرى
من طرقهم في غير هذا المعنى حتى وقع في بعضها أن أبا بكر حج بالناس عام تسع في شهر ذي القعدة، و هي غير متأيدة و لذلك أغمضنا عنها.
و في تفسير العياشي، عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين عليه السلام : في قوله تعالى: ﴿وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ﴾ قال: الأذان أمير المؤمنين عليه السلام.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام، و عن جابر عن جعفر بن محمد و أبي جعفر عليه السلام، و رواه القمي عن أبيه عن فضالة عن أبان بن عثمان عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين عليه السلام قال: و في حديث آخر قال: كنت أنا الأذان في الناس:، و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن حكيم عنه عليه السلام ، و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن حكيم بن حميد عن علي بن الحسين عليه السلام ،
و قال في تفسير البرهان:، قال السدي و أبو مالك و ابن عباس و زين العابدين: الأذان هو علي بن أبي طالب فأدى به.
و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن الفضيل بن عياض عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الحج الأكبر فقال: عندك فيه شيء؟ فقلت: نعم كان ابن عباس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة يعني أنه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الشمس من يوم النحر فقد أدرك الحج و من فاته ذلك فاته الحج فجعل ليلة عرفة لما قبلها و لما بعدها، و الدليل على ذلك أنه من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحج و أجزي عنه من عرفة.
فقال أبو عبد الله عليه السلام : قال أمير المؤمنين عليه السلام الحج الأكبر يوم النحر و احتج بقول الله عز و جل: ﴿فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ فهي عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشر من شهر ربيع الآخر، و لو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر و يوما، و احتج بقوله عز و جل: ﴿وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ﴾ و كنت أنا الأذان في الناس.
قلت: فما معنى هذه اللفظة: الحج الأكبر؟ فقال: إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون و المشركون، و لم يحج المشركون بعد تلك السنة.
و فيه، عنه بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن يوم
الحج الأكبر فقال: يوم النحر و الأصغر العمرة.
أقول: و في الرواية مضافا إلى تفسير اليوم بيوم النحر إشارة إلى وجه تسمية الحج بالأكبر، و قد أطبقت الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام إلا ما شذ على أن المراد بيوم الحج الأكبر في الآية هو يوم الأضحى عاشر ذي الحجة و هو يوم النحر، و رووا ذلك عن علي عليه السلام .
و روى هذه الرواية الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام، و روى ذلك أيضا بإسناده عن ذريح عنه عليه السلام، و كذا الصدوق بإسناده إلى ذريح عنه عليه السلام، و رواه العياشي عن عبد الرحمن و ابن أذينة و الفضيل بن عياض عنه عليه السلام .
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم: أنه قال يوم الأضحى: هذا يوم الحج الأكبر. و فيه، أيضا أخرج البخاري تعليقا و أبو داود و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر قال: هذا يوم الحج الأكبر.
أقول: و روي ذلك بطرق مختلفة عن علي عليه السلام و ابن عباس و مغيرة بن شعبة و أبي جحيفة و عبد الله بن أبي أوفى، و قد روي بطرق مختلفة أخرى عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أنه يوم عرفة، و كذا روي ذلك عن علي و ابن عباس و ابن الزبير، و روي عن سعيد بن المسيب أنه اليوم التالي ليوم النحر، و روي أنه أيام الحج كلها، و روي أنه الحج في العام الذي حج فيها أبو بكر، و هذا الوجه الأخير لا يأبى الانطباق على ما تقدم من الحديث عن الصادق عليه السلام: أنه سمي الحج الأكبر لما حج في تلك السنة المسلمون و المشركون جميعا.
و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله: ﴿فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ قال: هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ﴾: أخرج الحاكم و صححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه رضي الله عنه قال: افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم مكة ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ثم ارتحل غدوة و روحة ثم نزل ثم هجر.
ثم قال: أيها الناس إني لكم فرط، و إني أوصيكم بعترتي خيرا موعدكم الحوض، و الذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة و لتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا مني أو كنفسي فليضربن أعناق مقاتلهم و ليسبين ذراريهم. فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما فأخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: هذا.
أقول: يعني ص به الكفر.
و في تفسير العياشي، في حديث جابر عن أبي جعفر عليه السلام: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ يعني فإن آمنوا فإخوانكم في الدين. و في تفسير القمي: في قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ الآية قال: قال، اقرأ عليه و عرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير القشيري: أن رجلا قال لعلي يا ابن أبي طالب فمن أراد منا أن يلقي رسول الله في بعض الأمر من بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علي: بلى لأن الله قال: ﴿وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ الآية.
و في الدر المنثور:في قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ الآية: أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه : أنهم ذكروا عنده هذه الآية فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و ابن مردويه عن زيد بن وهب: في قوله: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ﴾ قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة و لا من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا بأمور لا ندري ما هي؟ فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا و يسرقون أعلاقنا؟ قال: أولئك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده
و في قرب الإسناد، للحميري: حدثني عبد الحميد و عبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزبير فقلت لهم: كانوا[3] من أئمة الكفر أن عليا يوم البصرة لما صف الخيل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني و بين الله و بينهم.
فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا: لا.
قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا. قال: فرغبه في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال فأقمت فيكم الحدود و عطلتها في غيركم؟ قالوا: لا. قال: فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث إني ضربت الأمر أنفه و عينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف.
ثم ثنى إلى أصحابه فقال إن الله تبارك و تعالى يقول في كتابه: ﴿وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: و الذي فلق الحبة و برأ النسمة و اصطفى محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية و ما قوتلوا مذ نزلت: أقول: و رواه العياشي عن حنان بن سدير عنه عليه السلام.
و في أمالي المفيد، بإسناده عن أبي عثمان مؤذن بني قصي قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام حين خرج طلحة و الزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة و الزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ثم تلا هذه الآية: ﴿وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن و أبي الطفيل و الحسن البصري: مثله، و رواه الشيخ في أماليه، عن أبي عثمان المؤذن. و في حديثه قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر عليه السلام فقال: صدق الشيخ هكذا قال علي. هكذا كان. و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم
و المسور بن مخرمة قال :كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يوم الحديبية بينه و بين قريش أن من شاء أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وآله و سلم و عهده دخل فيه، و من شاء أن يدخل في عهد قريش و عقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمد و عقده.
و تواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش و عهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا.
ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش و عهدهم - وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و عهده ليلا بماء لهم يقال له: الوتير قريب من مكة فقالت قريش ما يعلم بنا محمد و هذا الليل و ما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع و السلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله ص.
و ركب عمرو بن سالم عند ما كان من أمر خزاعة و بني بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بأبيات أنشده إياها: *** يا رب[4] إني ناشد محمدا *** حلف أبينا و أبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا و كنا والدا *** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا *** و ادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا *** إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا *** إن قريشا أخلفوك الموعدا
و نقضوا ميثاقك المؤكدا *** و جعلوا لي في كداء رصدا
و زعموا أن لست أدعو أحدا *** و هم أذل و أقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا *** و قتلونا ركعا و سجدا[5]
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : إن هذه السحابة لتشهد[6] بنصر بني كعب، و أمر رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الناس بالجهاد و كتمهم مخرجه، و سأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
أقول: أورد الرواية في الدر المنثور، بعد ما روي بطرق عن مجاهد و عكرمة أن قصة نقض قريش عهد الحديبية و إعانتهم بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم كان هو السبب لنزول قوله تعالى: ﴿أَ لاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً﴾ إلى قوله: ﴿وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ و هم خزاعة.
و لو كان الأمر على ما ذكروا كانت الآية: ﴿أَ لاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ إلى تمام ثلاث آيات بل أربع على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.
لكن القصة التي رواها ابن إسحاق و البيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة لا تصرح بنزول الآيات في ذلك، و ما رواها مجاهد و عكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف و الانقطاع، و سياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها و اتصالها بها على ما لا يخفى.
و الذي ذكر فيها من قوله: ﴿نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ و إن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز أن تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش و جيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة و هم لاتحادهم مع قريش و اتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.
و اعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق أهل البيت عليه السلام تطبق الآيات على ظهور المهدي عليه السلام، و هي من الجري.
كلام في معنى العهد و أقسامه و و هي من أحكامه في أربعة فصول
قدمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاما في معنى العقد و العهد و نستأنف البيان هاهنا في معنى ما تقدم و ما يستتبعه من الأقسام و الأحكام بتقرير آخر في فصول: ١ - قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الإنسان في مسير حياته لا يزال يصور أعماله و ما يتعلق به أعماله من المادة تصور الأمور الكونية و يمثلها بها و يجري بينها أحكام الأمور الكونية و آثارها من القوانين العامة الجارية في الكون بحسب ما يناسب أغراضه الحيوية كما أنه يأخذ مثلا أصواتا متفرقة هي الزاي
و الياء و الدال، و يؤلفها بشكل مخصوص و يعمل لفظ «زيد» ثم يفترض أنه زيد الإنسان الخارجي فيسميه به ثم كلما أراد أن يحضر زيدا في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ «زيد» فكان ممثلا لعين زيد عنده، و حصل بذلك غرضه.
و إذا أراد أن يدير أمرا لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة و افترضهم واحدا كالإنسان الواحد، و فرض واحدا منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الإنسان و يسميه رئيسا، و فرض كلا من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذي الأعضاء و يسميه عضوا ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي، و على العضو آثار العضو الخارجي و على هذا القياس.
و إلى هذا يئول جميع أفكار الإنسان الاجتماعية بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط من التصورات و التصديقات إذا حللت تحليلا صحيحا كما تئول إليه أنظاره الفردية فيما يرتبط بأعماله و أفعاله.
الإنسان شديد الاهتمام بعقد العقود و تمثيل العهود و ما يرتبط بها من الحلف و اليمين و البيعة و نحو ذلك، و العامل الأولي في ذلك أن الإنسان لا هم له إلا التحفظ على حياته و الوصول إلى مزاياها و التمتع بالسعادة التي تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.
فأي بغية من مبتغياته وجدها و سلط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من التمتع كالأكل و الشرب و غيرهما بما جهز به من أدوات التمتع، و دفع كل ما يمنعه من التمتع لو عرض هناك مانع عارض و رأى أنه إنما وفق لذلك في ضوء ما أوتيه من السلطة.
و قد أوتي الإنسان سلعة الفكر و بذلك يدبر أمر حياته و يصلح شأن معاشه فيعمل ليومه و يمهد لغده، و أعماله التي هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك في عين أنها جميعا متوقفة على انبساط سلطته على الفعل و إحاطته بكل ما يتعلق به عمله، مختلفة في أن بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء و هو جوعان فتناوله فأكله، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل، و لا على تمهيد و تقدمة.
و بعضها و هو جل الأعمال الإنسانية الاجتماعية يتوقف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته و على زمان قبله فقط أو على زمان قبله و بعده، لحاجته
إلى مقدمات يمهدها له، و تدبير سابق يقدمه لوجوده، فما كل عمل يعمله الإنسان بصدفة، بل جل الأمور الحيوية من شأنها أن يتهيأ الإنسان له قبل أوانه.
و من التهيؤ له أن يتهيأ لجمع أسبابه و نظم الوسائل التي يتوسل بها إليه و أن يتهيأ لرفع موانعه التي من شأنها أن تزاحمه في وجوده و عند حصوله، فالإنسان لا يوفق لعمل و لا ينجح في مسعاه إلا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه الموانع و المزاحمات.
و التنبه لهذه الحقيقة هو الذي بعث الإنسان إلى أن يأخذ أمنا من رقبائه في الحياة: أن يعينوه فيما يحتاج من الأمور إلى معين مشارك، أو أن لا يمانعوه من العمل فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع و زوالها.
فالإنسان و هو يريد أن يتخذ لباسا يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف، و الأمر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزال و النساج و الخياط و من يصنع لهم أدوات الغزل و النسج و الخياطة، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس و لا ينجح سعيه إلا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: أن يعملوا على ما يريده و لا يخلوه وحده فيخيب سعيه و يخسر في عمله.
و كذا الإنسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه إلا مع الأمن من ممانعة الناس و مزاحمتهم له في سكناه و التصرف فيه بما يصلح به لذلك.
و هذا هو الذي هدى الإنسان إلى اعتبار العقد و إبرام العهد، فهو يأخذ ما يريده من العمل و يربطه بما يعينه عليه من عمل غيره و يعقدهما: يمثل به عقد الحبال الذي يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض و عدم تخلف بعضها عن بعض، و مثله العهد الذي يعهده إليه غيره أن يساعده في ما يريده من الأمر أو أن لا يمانعه في ذلك.
و إلى ذلك يئول أمر عامة العقود لعقد النكاح و عقد البيع و الشري و عقد الإجارة، و يصدق عليها العهد بمعناها العام و هو أن يعطي الإنسان لغيره قولا أو كتابا أن يعينه على كذا أو أن لا يمنعه من كذا إلى أجل مضروب أو لا إلى أجل.
و الكلام في المقام في العهد الذي لم يختص باسم خاص كعقد البيع و النكاح و غيرهما من عقود المعاملات فهي خارجة من غرضنا و لها في المجتمعات الإنسانية أحكام
خاصة و آثار و خواص مخصوصة بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الإنسان لغيره من الإعانة أو عدم الممانعة في متفرقات المقاصد الاجتماعية، و ما يجعله لذلك من الآثار كمن يعاهد غيره أن يعطيه كل سنة كذا مالا ليستعين به على حوائجه، و يأخذ منه كذا مالا أو نفعا، أو يعاهده أن لا يزاحمه في عمله أو لا يمانعه في مسيره إلى أجل كذا أو لا إلى أجل، و هو نوع إحكام و إبرام لا ينتقض إلا بنقض أحد الطرفين أو بنقضهما معا.
و ربما زيد على إحكام العهد بالحلف و هو أن يقيد المعاهد ما يعطيه من العهد و يربطه بأمر عظيم شأنه يقدسه و يحترمه كأنه يجعل ما له من الحرمة و العزة رهنا يرهن به عهده يمثل به أنه لو نقضه فقد أذهب حرمته يقول المعاهد: و الله لا أخوننك، و لعمري لأساعدنك، و أقسم لأنصرنك، يمثل به أنه لو أخلف وعده و نقض عهده فقد أبطل حرمة ربه، أو حرمة عمره أو حرمة قسمه فلا مروة له.
و ربما أبرم العهد و الميثاق بالبيعة و الصفقة يضع المعاهد يده في يد معاهده يمثل به أنه أعطاه يده التي بها يفعل ما يفعل فلا يفعل ما يكره معاهده لأن يده قبضة يده. ٢ - العهود و المواثيق كما تمسها حياة الإنسان الذي هو فرد المجتمع كذلك تمسها حياة المجتمع فليس المجتمع إلا المجتمع من أفراد الإنسان، حياته مجموع حياة أجزائه، و أعماله الحيوية مجموع أعمال أجزائه و له من الخير و الشر و النفع و الضر و الصحة و السقم و النشوء و الرشد و الاستقامة و الانحراف و السعادة و الشقاوة و البقاء و الزوال مجموع ما لأجزائه من ذلك.
فالمجتمع إنسان كبير له من مقاصد الحياة ما للإنسان الصغير، و نسبة المجتمع إلى المجتمع تقرب من نسبة الإنسان الفرد إلى الإنسان الفرد فهو يحتاج في ركوب مقاصده و إتيان أعماله من الأمن و السلامة إلى مثل ما يحتاج إليه الإنسان الفرد بل الحاجة فيه أشد و أقوى لأن العمل يعظم بعظمة فاعله و عظمة غرضه، و المجتمع في حاجة إلى الأمن و السلام من قبل أجزائه لئلا يتلاشى و يتفرق، و إلى الأمن و السلام من قبل رقبائه من سائر المجتمعات.
و على هذا جرى ديدن المجتمعات الإنسانية على ما بأيدينا من تاريخ الأمم و الأقوام الماضية، و ما نسمعه أو نشاهده من الملل الحاضرة فلم يزل و لا يزال المجتمع من المجتمعات الإنسانية في حاجة قائمة إلى أن يعاهد غيره في بعض شئون حياته السياسية و الاقتصادية
أو الثقافية أو غيرها، فلا يصفو الجو للإقدام على شيء من مقاصد الحياة أو التقدم في شيء من مآربها إلا بالاعتضاد بالأعضاد و الأمن من معارضة الموانع.
٣ - الإسلام بما أنه متعرض لأمر المجتمع كالفرد، و يهتم بإصلاح حياة الناس العامة كاهتمامه بإصلاح حياة الفرد الخاصة قنن فيه كليات ما يرجع إلى شئون الحياة الاجتماعية كالجهاد و الدفاع و مقاتلة أهل البغي و النكث و الصلح و السلم و العهود و المواثيق و غير ذلك.
و العهد الذي نتكلم فيه قد اعتبره اعتبارا تاما و أحكمه إحكاما يعد نقضه من طرف أهله من أكبر الإثم إلا أن ينقضه المعاهد الآخر فيقابل بالمثل فإن الله سبحانه أمر بالوفاء بالعهود و العقود، و ذم نقض العهود و المواثيق ذما بالغا في آيات كثيرة جدا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ المائدة: ١، و قال: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ إلى أن قال ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ:﴾ الرعد: ٢٥، و قال: ﴿وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً﴾ إسراء: ٣٤ إلى غير ذلك.
و لم يبح نقض العهود و المواثيق إلا فيما يبيحه حق العدل و هو أن ينقضه المعاهد المقابل نقضا بالبغي و العتو أو لا يؤمن نقضه لسقوطه عن درجة الاعتبار، و هذا مما لا اعتراض فيه لمعترض و لا لوم للائم، قال تعالى: ﴿وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلىَ سَوَاءٍ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْخَائِنِينَ﴾ الأنفال: ٥٨ فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة و لم يرض بالنقض من غير إخبارهم به و اغتيالهم و هم غافلون دون أن قال: ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلىَ سَوَاءٍ﴾ فأوجب أن يخبروهم بالنقض المتقابل احترازا من رذيلة الخيانة.
و قال: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ براءة: ٢ فلم يرض بالبراءة دون أن وسع عليهم أربعة أشهر حتى يكونوا على مهل من التفكر في أمرهم و التروي في شأنهم فيروا رأيهم على حرية من الفكر فإن شاءوا آمنوا و نجوا و إن لم يشاءوا قتلوا و فنوا، و قد كان من حسن أثر هذا التأجيل أن آمنوا فلم يفنوا.
و قد تمم سبحانه هذه الفائدة أحسن إتمام بقوله بعد إعلام البراءة: ﴿وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ التوبة: ٦.
و قال مستثنيا الموفين بعهدهم من المشركين: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ
اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ تَأْبىَ قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ التوبة: ٨ و قد علل الاستقامة لمن استقام بأنه من التقوى - ذاك التقوى الذي لا دعوة في الدين إلا إليه و إن الله يحب المتقين، و هذا تعليل حي إلى يوم القيامة.
و قال تعالى: ﴿فَمَنِ اِعْتَدىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىَ عَلَيْكُمْ﴾البقرة: - ١٩٤ و قال: ﴿وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىَ وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ﴾ المائدة: - ٢.
و أما النقض الابتدائي من غير نقض من العدو المعاهد فلا مجوز له في هذا الدين الحنيف أصلا، و قد تقدم قوله تعالى: ﴿فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ الآية و قال: ﴿وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ:﴾ البقرة: - ١٩٠.
و على ذلك جرى عمل النبي صلى الله عليه وآله و سلم أيام حياته فقد عاهد بني قينقاع و بني قريظة و غيرهم من اليهود و لم ينقض إلا بعد ما نقضوا، و عاهد قريشا في الحديبية و لم ينقض حتى نقضوا بإظهار بني بكر على خزاعة و قد كانت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله و سلم ، و بنو بكر في عهد قريش.
و أما النقض من غير نقض فلا مبيح له في الإسلام و إن كان الوفاء مما يفوت على المسلمين بعض منافعهم، و يجلب إليهم بعض الضرر و هم على قدرة من حفظ منافعهم بالبأس و القوة أو أمكنهم الاعتذار ببعض ما تصور لهم الحجة ظاهرا و تصرف عنهم اللوم و العذل فإن مدار الأمر على الحق، و الحق لا يستعقب شرا و لا ضرا إلا على من انحرف عنه و آوى إلى غيره.
٤ - المجتمعات الإنسانية سيما الراقية المتمدنة منها غير المجتمع الديني لا هدف لاجتماعهم و لا غرض لسننهم الجارية إلا التمتع من مزايا الحياة المادية ما قدروا عليه فلا موجب لهم للتحفظ على شيء أزيد مما بأيديهم من القوانين العملية الناظمة لشتات مقاصدهم الحيوية.
و من الضروري أن الظرف الذي هذا شأنه لا قيمة فيها للمعنويات إلا بمقدار
ما يوافق المقاصد الحيوية المادية فالفضائل و الرذائل المعنوية كالصدق و الفتوة و المروة و نشر الرحمة و الرأفة و الإحسان و أمثال ذلك لا اعتبار لها إلا بمقدار ما درت بها منافع المجتمع، و لم يتضرروا بها لو لم تعتبر، و أما فيما ينافي منافع القوم فلا موجب للعمل بها بل الموجب لخلافها.
و لذلك ترى المؤتمرات الرسمية و أولياء الأمور في المجتمعات لا يرون لأنفسهم وظيفة إلا التحفظ على منافع المجتمع الحيوية، و ما يعقد فيها من العهود و المواثيق إنما يعقد على حسب مصلحة الوقت، و يوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوة و العدة، و ما عليه المعاهد المقابل من القوة و العدة في نفسه و بما يضاف إليه من سائر المقتضيات المنضمة إليه المعينة له.
فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله، و إذا مالت كفة الميزان للدولة المعاهدة على خصمه أبطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة و اتهامات مفتعلة للتوسل إلى نقضه، و إنما يراد بتقديم الأعذار أن يتحفظ على ظاهر القوانين العالمية التي لا عقبى لنقضها و التخلف عنها إلا ما يهدد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم، و لو لا ذلك لم يكن ما يمنع النقض و لو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوى الحيوية.
و أما الكذب أو الخيانة أو التعدي لما يتخذه الغير منافع لنفسه فليس مما يمنع مجتمعا من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعا لشأنه إذ الأخلاق و المعنويات لا أصالة لها عندهم و إنما تعتبر على حسب ما تقدره غاية المجتمع و غرضه الحيوي و هو التمتع من الحياة.
و أنت إذا تتبعت الحوادث العامة بين المجتمعات سابقها و لاحقها و خاصة الحوادث العالمية الجارية في هذا العصر الأخير عثرت على شيء كثير من العهود الموثقة و نقوضها على ما وصفناه.
و أما الإسلام فلم يعد حياة الإنسان المادية حياة له حقيقية، و لا التمتع من مزاياها سعادة له واقعية، و إنما يرى حياته الحقيقية حياته الجامعة بين المادة و المعنى، و سعادته الحقيقية اللازم إحرازها ما يسعده في دنياه و أخراه.
و يستوجب ذلك أن يبنى قوانين الحياة على الفطرة و الخلقة دون ما يعده الإنسان صالحا لحال نفسه، و يؤسس دعوته الحقة على اتباع الحق و الاهتداء به دون اتباع الهوى
و الاقتداء بما يميل إليه الأكثرية بعواطفهم و إحساساتهم الباطنة قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ
﴾الروم: - ٣٠ و قال: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىَ وَ دِينِ[7] اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ﴾ التوبة: - ٣٣، و قال: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ﴾ المؤمنون: - ٩٠، و قال: ﴿وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ﴾ المؤمنون: - ٧١.
و من لوازم ذلك أن يراعى حق الاعتقاد و فضيلة الخلق و صالح العمل جميعا فلا غنى للمادة عن المعنى و لا غنى للمعنى عن المادة فمن الواجب رعاية جانب الفضائل الإنسانية نفعت أو ضرت و التجنب عن الرذائل نفعت أو ضرت لأن ذلك من اتباع الحق، و حاشا أن يضر إلا من انحرف عن ميزانه و تخطى ما يخط له الحق.
و من هنا ما نرى أن الله سبحانه ينقض عهد المشركين لنقضهم عهده و يستعمل الرحمة بإمهالهم أربعة أشهر، و يأمر بالاستقامة لمن استقام في عهده من المشركين و قد استذلهم الحوادث يومئذ و ضعفوا دون شوكة الإسلام، و كذا يأمر نبيه صلى الله عليه وآله و سلم إن خاف من قوم خيانة أن ينقض عهدهم لكن يأمره بإعلامهم ذلك و يعلله بأنه لا يحب الخيانة.
كلام في نسبة الأعمال إلى الأسباب طولا
تقدم في مواضع من هذا الكتاب أن الذي تنتجه الأبحاث العقلية أن الحوادث كما أن لها نسبة إلى أسبابها القريبة المتصلة بها كذلك لها نسبة إلى أسبابها القصوى التي هي أسباب لهذه الأسباب فالحوادث أفعال لها في عين أنها من أفعال أسبابها القريبة المباشرة للعمل فإن الفعل كالحركة مثلا يتوقف على فاعله المحرك و يتوقف على محرك محركه بعين ما يتوقف على محركه، نظير العجلة المحركة للأخرى المحركة لثالثة و ليست من الحركة بالعرض.
فللفعل نسبة إلى فاعله، و له انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة التي إلى فاعله لا بنسبة أخرى منفصلة عنها مستقلة بنفسها غير أنه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل عاد الفاعل القريب بمنزلة الإله بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها
في العمل بمعنى أنه لا يستغني في تأثيره عن فاعل الفاعل إذ فرض عدمه يساوق انعدام الفاعل و انعدام أثره.
و ليس من شرط الواسطة أن تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة فإن الشعور الذي يؤثر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه و إنما أوجده فيه فاعله الذي أوجد الفاعل و شعوره، و كذلك الاختيار لم يوجده الفاعل المختار لنفسه و إنما أوجده الفاعل الذي أوجد الفاعل المختار، و كما يتوقف الفعل في غير موارد الشعور و الاختيار إلى فاعله، و يتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله، كذلك يتوقف الفعل الشعوري و الفعل الاختياري إلى فاعله و يتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله الذي أوجد لفاعله الشعور و الاختيار.
ففاعل الفاعل الشاعر أو المختار أراد من الفاعل الشاعر أو المختار أن يفعل من طريق شعوره فعلا كذا أو يفعل باختياره فعلا اختياريا كذا فقد أريد الفعل من طريق الاختيار لأنه أريد الفعل و أهمل الاختيار الذي ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
و على هذه الحقيقة يجري الناس بحسب فهمهم الغريزي فينسبون الفعل إلى السبب البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما أنه أثر مترشح منه يقال: بنى فلان دارا، و حفر بئرا و إنما باشر ذلك البناء و الحفار، و يقال: جلد الأمير فلانا، و قتل فلانا، و أسر فلانا، و حارب قوما كذا، و إنما باشر الجلد جلاده، و القتل سيافه، و الأسر جلاوزته، و المحاربة جنده، و يقال، أحرق فلان ثوب فلان، و إنما أحرقه النار، و شفى فلان مريضا كذا و إنما شفاه الدواء الذي ناوله و أمره بشربه و استعماله.
ففي جميع ذلك يعتبر أمر الآمر أو توسل المتوسل تأثيرا منه في الفاعل القريب ثم ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد، و ليس أصل النسبة إلا نسبة حقيقة من غير مجاز قطعا.
و من قال من علماء الأدب و غيرهم إن ذلك كله من المجاز في الكلمة لصحة سلب الفعل عن الفاعل البعيد فإن مالك البناء لم يضع لبنة على لبنة و إنما هو شأن البناء الذي باشر العمل! إنما أراد الفعل بخصوصية صدوره عن الفعل المباشر و من المسلم أن المباشرة إنما هو شأن الفاعل القريب، و لا كلام لنا فيه، و إنما الكلام فيما يتصور له
من الوجود المتوقف إلى فاعل موجد، و هذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل.
و اعتبار هذه النكتة هو الذي أوجب لهم أن يميزوا بين الأعمال و ينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب و البعيد معا، و لا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة و الاتصال بالعمل كالأكل بمعنى الالتقام و البلع و الشرب بمعنى المص و التجرع و القعود بمعنى الجلوس و نحو ذلك لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاء كذا و يشرب شرابا كذا و يقعد على كرسي كذا، قيل: أكل الخادم و شرب و قعد و لا يقال: أكله سيده و شربه و قعد عليه، و إنما يقال: تصرف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا و نحو ذلك لما ذكرناه.
و أما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة و الحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل و الأسر و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و الإحسان و الإكرام و نظائر ذلك فإنها تنسب إلى الفاعل القريب و البعيد على السوية بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجودا و أشد سلطة و إحاطة.
فهذا ما ينتجه البحث العقلي و يجري عليه الإنسان بفهمه الغريزي، و القرآن الكريم يصدق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى في الآيات السابقة: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ الآيتان. حيث نسب التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه بجعل أيديهم بمنزلة الآلة.
و نظيره قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ﴾ الصافات: - ٩٦ فإن المراد بما تعملون إما الأصنام التي كانوا يعملونها من الحجارة أو الأخشاب أو الفلزات فإنما أريد به المادة بما عليها من عمل الإنسان ففيه نسبة الخلق إلى الأعمال كنسبته إلى فواعلها، و أما نفس الأعمال فالأمر أوضح.
و يقرب من ذلك قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾
الزخرف - ١٢، ففيه نسبة الخلق إلى الفلك و الفلك بما هي من عمل الإنسان.
هذا فيما نسب فيه الخلق إلى الأعمال الصادرة عن الشعور و الإرادة، و أما الأفعال التي لا تتوقف في صدورها على شعور و إرادة كالأفعال الطبيعية فقد ورد نسبتها إلى الله سبحانه في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إحصائها كإحياء الأرض و إنبات النبات و إخراج الحب و إمطار السماء و إجراء الأنهار و تسيير الفلك التي تجري في البحر بأمره إلى غير ذلك.
و لا منافاة في جميع هذه الموارد بين انتساب الأمر إليه تعالى و انتسابه إلى غيره من الأسباب و العلل الطبيعية و غيرها إذ ليست النسبة عرضية تزاحم إحدى النسبتين الأخرى بل هي طولية لا محذور في تعلقها بأزيد من طرف واحد.
و قد تقدم في مطاوي أبحاثنا السابقة دفع ما اشتبه على الماديين من إسناد الحوادث العامة كالسيول و الزلازل و الجدب و الوباء و الطاعون إلى الله سبحانه مع الحصول على أسبابها الطبيعية اليوم حيث خلطوا بين العلل و الأسباب العرضية و الطولية، و حسبوا أن استنادها إلى عللها الطبيعية يبطل ما أثبته الكتاب العزيز و أذعن به الإلهيون من استنادها إلى مسبب الأسباب الذي إليه يرجع الأمر كله.
و للأشاعرة و المعتزلة بحث غريب في الآية السابقة: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ و ما يناظرها من الآيات، أورده الرازي في تفسيره نورده ملخصا.
قال: استدلت الأشاعرة بقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله، و أن الناس مجبرون في أفعالهم غير مختارين فإن الله سبحانه يخبر فيها أنه هو الذي يعذب المشركين بقتل بعضهم و جرح آخرين بأيدي المؤمنين و يدل ذلك على أن أيدي المؤمنين كسيوفهم و رماحهم آلات محضة لا تأثير لها أصلا و إنما الفعل لله سبحانه، و أن الكسب الذي يعد مناطا للتكليف اسم لا مسمى له.
و هذه الآية أقوى دلالة على المطلوب من دلالة مثل قوله تعالى: ﴿وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمىَ﴾ إذ فيه إثبات الرمي على النبي صلى الله عليه وآله و سلم و إن كان مع ذلك نفي عنه و إثبات لإسناده إلى الله سبحانه لكن الآية أعني قوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ إثبات للتعذيب على الله سبحانه و جعل أيدي المؤمنين التي لهم آلات
في الفعل لا تأثير لها و فيها أصلا.
و أجاب عنه الجبائي من المعتزلة: بأنه لو جاز أن يقال: إن الله يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين بحقيقة ما ادعي له من المعنى لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين، و أنه تعالى يكذب أنبياءه بألسنتهم، و يلعن المؤمنين و يسبهم بأفواههم لأنه تعالى خالق لذلك كله، و إذ لم يجز ذلك علمنا أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد، و إنما أعمالهم خلق أنفسهم.
و بذلك يعلم أن إسناد التعذيب في الآية إليه تعالى بنوع من التوسع لأنه إنما تحقق عن أمره و لطفه كما أنه تعالى ينسب جميع الطاعات و الحسنات إلى نفسه لتحققها عن أمره و توفيقه.
و أجاب عنه الرازي بأن أصحابنا يلتزمون جميع ما ألزم به الجبائي و أصحابه من لزوم إسناد القبائح إليه تعالى و يعتقدون به لبا و إن كانوا لا ينطقون به لسانا أدبا مع الله سبحانه، انتهى ملخصا.
و الأبحاث التي قدمناها في هذا الكتاب حول هذه المعاني تكفي لإيضاح الحق و إنارته في هذا المقام، و الكشف عما وقع فيه الفريقان جميعا.
أما ما ذكرته الأشاعرة و التزموا به فإنما أوقعهم في ذلك ما ذهبوا إليه من نفي رابطة العلية و المعلولية من بين الأشياء و قصرها فيما بينه تعالى و بين خلقه عامة فلا سبب في الوجود لا استقلالا و لا بالوساطة غيره تعالى، و أما رابطة السببية التي بين الأشياء أنفسها فإنما هي سببية بالاسم فقط لا بالحقيقة، و إنما هي العادة الإلهية جرت بإيجاد ما نسميها مسببات عقيب ما نسميها أسبابا فما بينها و بينه تعالى سببية حقيقية، و ما بينها أنفسها يعود إلى الاتفاق الدائم أو الأكثري.
و لازم ذلك إبطال العلية و السببية من أصلها، و ببطلانها يبطل ما أثبتوه من انحصار السببية فيه تعالى إذ لو جاز أن يكون نسبة كل شيء إلى كل شيء نسبة واحدة من غير اختلاف بالتأثير و التأثر لم يبق للإنسان ما يتنبه به لأصل معنى السببية فلا سبيل له إلى إثبات سببيته تعالى لكل شيء.
على أن الإنسان يترقب حوادث من حوادث أخرى، و يقطع بالنتائج عن
مقدماتها و يبني حياته على التعليم و التربية، و على تقديم الأسباب طمعا في مسبباتها سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف، و لا يتم له شيء من ذلك إلا عن إذعان فطري بأصل العلية و المعلولية، و لو أجازت الفطرة الإنسانية بطلان ذلك و جريان الحوادث على مجرد الاتفاق اختل نظام حياته ببطلان سعيه الفكري و العملي، و انسد طريق إثبات سبب ما فوق طبيعة الحوادث.
على أن الكتاب العزيز يجري فيبياناته على تصديق أصل العلية و المعلولية، و ينسب كل حسنة إليه تعالى و ينفي استناد السيئات و المعاصي إليه و يسميه بكل اسم أحسن و يصفه بكل وصف جميل، و ينفي عنه كل هزل و عبث و لغو و لهو و جزاف، و لا يتم شيء من ذلك إلا على أصل العلية و المعلولية، و قد تقدم في الأبحاث السابقة ما يتبين به ذلك كله.
و قد ذهب طائفة من الماديين و خاصة أصحاب المادية المتحولة إلى عين ما ذهب إليه الأشاعرة من ثبوت الجبر و نفي الاختيار عن الأفعال الإنسانية، و إنما الفارق بين قولي الطائفتين هو أن الأشاعرة بنوا ذلك على سببية الواجب تعالى المنحصرة و استنتجوا من ذلك بطلان السببية الاختيارية و انتفاءها عن الإنسان، و الماديون بنوه على معلولية الأفعال الإنسانية لمجموع الحوادث المحتفة بالفعل التي هي علة حدوثه، و لا معنى للعلية إلا بالإيجاب، فالإنسان موجب في فعله مجبر عليه.
و قد فات منهم أن الذي نسبة المعلول إليه بالإيجاب إنما هو العلة التامة، و هي مجموع الحوادث المتقدمة على المعلول التي لا يتوقف هو في وجوده على شيء وراءها، و بوجودها جميعا لا يبقى له إلا أن يوجد، و أما بعض أجزاء العلة التامة فإنما نسبة المعلول إليه بالإمكان لا بالوجوب لتوقف وجوده على أشياء أخر وراءه فلا يتحقق بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقف عليه وجوده حتى يعود واجبا وجوده.
و الأفعال الإنسانية يتوقف في وجودها على الإنسان و إرادته و على أمور غير محصورة أخرى من المادة و الشرائط الزمانية و المكانية فهي إذا نسب إليها جميعا كانت النسبة الحاصلة نسبة الوجوب و الضرورة، و أما إذا نسبت إلى الإنسان وحده أو إلى الإنسان المريد فقد نسبت إلى جزء العلة التامة و عادت النسبة إلى الإمكان دون الوجوب، فالأفعال الإرادية الإنسانية اختيارية أي أنه يمكنه أن يفعل و أن لا يفعل فإن فعل
فبمشيته و إرادته، و إن لم يفعل فلم يختره و لم يرده و إنما اختار و أراد شيئا آخر، لكنها لا تقع في الخارج إلا واجبة لاستنادها حينئذ إلى جميع أجزاء عللها.
فهؤلاء خلطوا في كلامهم بين النسبتين فوضعوا النسبة الوجوبية التي للفعل إلى مجموع أجزاء علتها التامة موضع النسبة الإمكانية التي للفعل إلى بعض أجزاء علته التامة و هي التي تسمى في الإنسان بالاختيار على نحو من العناية.
و أما ما ذكره المعتزلة أنه لو جاز كونه تعالى هو الفاعل للفعل الذي أتى به المؤمنون و هو التعذيب، و ليس لهم إلا مقام الآلية المحضة من غير تأثير لجاز إسناد تعذيب الكفار للمؤمنين و تكذيبهم للأنبياء و لعنهم المؤمنين أيضا إليه، و هو باطل قطعا فأفعال العباد مخلوقة لهم لا صنع لله تعالى فيها.
ففيه أن الملازمة حقة لكن بطلان التالي لا يستلزم كون الأفعال مخلوقة لهم لا نسبة لها إلى الله سبحانه أصلا لجواز كونها منسوبة إليه تعالى بعين ما ينتسب به إليهم فإنهم فاعلون لها و هو فاعل الفاعلين فينتسب إليهم بالصدور عن الفاعل المباشر، و ينتسب إليه بالصدور عن الفاعل الذي هو فاعله و النسبتان في الحقيقة نسبة واحدة مختلفة بالقرب و البعد و انتفاء الواسطة و ثبوتها، و لا يستلزم ذلك اجتماع فاعلين مستقلين على فعل واحد لكونهما طوليين لا عرضيين.
فإن قلت: فيبقى محذور استناد الحسنات و السيئات و الإيمان و الكفر إليه تعالى في محله.
قلت: كلا و إنما ينتسب إليه أصل وجودها، و أما عنوان الفعل الذي يشير إلى جهة قيام الحركة و السكون بالموضوع المتحرك كالنكاح و الزنا و الأكل المحرم و المحلل فإنما ينسب إلى الإنسان لكونه هو الموضوع المادي الذي يتحرك بهذه الحركات: و أما الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركته و ليس بنفسه متحركا بها و إنما يوجدها إيجادا إذا تمت شرائطها و أسبابها فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بالإنسان.
نعم هناك عناوين عامة لا تستتبع معنى الحركة و المادة، لا مانع من إسنادها إلى الإنسان و إليه سبحانه إذا لم يستلزم محذورا كالهداية و الإضلال إذا لم يكن إضلالا ابتدائيا، و كالتعذيب و الابتلاء، فقتل المؤمن للكافر تعذيب إلهي للكافر، و قتل
الكافر للمؤمن بلاء حسن للمؤمن يستوجب به أجرا حسنا عند الله، و على هذا القياس.
على أن الذي ذهب إليه المعتزلة يوقعهم فيما وقعت فيه الأشاعرة و هو انسداد طريق إثبات الصانع عليهم فإنه لو جاز أن يوجد في العالم حادث من الحوادث عن سبب له و ينقطع عما وراء سببه ذلك انقطاعا تاما لا تأثير له فيه جاز في كل ما فرض من الحوادث أن يستند إلى ما يليه من غير أن يرتبط بشيء آخر وراءه، و من الجائز أن يفنى الفاعل و يبقى أثره فمن الجائز أن يستند كل ما فرض معلولا إلى فاعل له غير واجب الوجود و من الجائز أن يستند كل عالم مفروض إلى عالم قبله هو فاعله و قد فنى قبله على ما هو المشهود من حوادث هذا العالم المولد بعضها بعضا: و المتولد بعضها من بعض، و لا يلزم محذور التسلسل لعدم تحقق سلسلة ذات أجزاء في وقت من الأوقات إلا في الذهن.
و في كلامهم مفاسد كثيرة أخرى مبينة في المحل المربوط به، و قد تقدم في الكلام على نسبة الخلق إليه تعالى في الجزء السابع من الكتاب ما ينفع في هذا المقام.
و كيف يسع لمسلم موحد أن يثبت مع الله سبحانه خالقا آخر بحقيقة معنى الخلق و الإيجاد و قد قال الله سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾: المؤمن: - ٦٢ و قد كرر ذلك في كلامه، و ليس في تجاهه إلا نسبة أفعال الإنسان إليه من غير قطع رابطتها إليه تعالى بل مع إثبات النسبة بدليل آيات القدر و دلالة العقل على أن لفعل الفاعل نسبة إلى فاعل فاعله بحسب ما يليق بساحته.
فالحق أن للأفعال الإنسانية نسبة إلى فواعلها بالمباشرة، و نسبة إليه تعالى بما يليق بساحة قدسه، قال تعالى: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾: إسراء: - ٢٠.
[سورة التوبة ٩: الآیات ١٧ الی ٢٤]
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اَللَّهِ شَاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَ فِي اَلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ١٧ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اَللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَقَامَ اَلصَّلاَةَ وَ آتَى اَلزَّكَاةَ﴾
﴿وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللَّهَ فَعَسى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ١٩ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اَللَّهِ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَائِزُونَ ٢٠ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوَانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ٢١ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ٢٢ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَ إِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمَانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ ٢٣ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوَالٌ اِقْتَرَفْتُمُوهَا وَ تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَ مَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ ٢٤﴾
بيان
آيات تبين أن الأعمال إنما تكون حية مرضية إذا صدرت عن حقيقة الإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر و إلا فإنما هي حبط لا تهدي صاحبها إلى سعادة، و إن من لوازم الإيمان بحقيقته قصر الولاية و الحب و الوداد في الله و رسوله.
و هي ظاهرة الاتصال و الارتباط فيما بينها أنفسها، و أما اتصالها بما تقدمها من الآيات فليس بذاك الوضوح، و ما ذكره بعض المفسرين في وجه اتصالها بما قبلها لا يخلو من تكلف.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اَللَّهِ شَاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ العمارة ضد الخراب يقال: عمر الأرض إذا بنى بها بناء، و عمر البيت إذا أصلح ما أشرف منها على الفساد، و التعمير بمعناه و منه العمر لأنه عمارة البدن بالروح، و العمرة بمعنى زيارة البيت الحرام لأن فيها تعميره. و المسجد
اسم مكان بمعنى المحل الذي يتعلق به السجدة كالبيت الذي يبنى ليسجد فيه الله تعالى، و أعضاء السجدة التي تتعلق بها السجدة نوع تعلق و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و رءوس إبهامي القدمين.
و قوله: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآية لنفي الحق و الملك فإن اللام للملك و الحق، و النفي الحالي للكون السابق يفيد أنه لم يتحقق منهم سبب سابق يوجب لهم أن يملكوا هذا الحق و هو حق أن يعمروا مساجد الله و يرموا ما استرم منها أو يزوروها كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى﴾ الأنفال: - ٦٧ و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ آل عمران: ١٦١.
و المراد بالعمارة في قوله: ﴿أَنْ يَعْمُرُوا﴾ إصلاح ما أشرف على الخراب من البناء و رم ما استرم منه دون عمارة المسجد بالزيارة فإن المراد بمساجد الله هي المسجد الحرام و كل مسجد لله و لا عمرة في غير المسجد الحرام، و الدخول في المساجد للعبادة فيها و إن أمكن أن يسمى عمارة و زيارة لكن التعبير المعهود من القرآن فيه الدخول.
على أن في قوله في الآية الآتية: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ﴾ تأييدا ما لكون المراد بالعمارة هو إصلاح البناء دون زيارة البيت الحرام.
و المراد بمساجد الله بيوت العبادة المبنية لله لكن السياق يدل على أن المراد نفي جواز عمارتهم للمسجد الحرام، و يؤيده قراءة من قرأ «أن يعمروا مسجد الله» بالإفراد.
و لا ضير في التعبير بالجمع و المقصود الأصيلبيان حكم فرد خاص من أفراده لأن الملاك عام، و التعليل الوارد في الآية غير مقيد بخصوص المسجد الحرام فالكلام في معنى: ما كان لهم أن يعمروا المسجد الحرام لأنه مسجد و المساجد من شأنها ذلك.
و قوله: ﴿شَاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ المراد بالشهادة أداؤها و هو الاعتراف إما قولا كمن يعترف بالكفر لفظا، و إما فعلا كمن يعبد الأصنام و يتظاهر بكفره
فكل ذلك من الشهادة و الملاك واحد.
فمعنى الآية: لا يحق و لا يجوز للمشركين أن يرموا ما استرم من المسجد الحرام كسائر مساجد الله و الحال أنهم معترفون بالكفر بدلالة قولهم أو فعلهم.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَ فِي اَلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ في مقام التعليل لما أفيد من الحكم في قوله: ﴿مَا كَانَ﴾ إلخ و لذلك جيء به بالفصل دون الوصل.
و المراد بالجملة الأولى بيان بطلان الأثر و ارتفاعه عن أعمالهم، و العمل إنما يؤتى به للتوسل به إلى أثر مطلوب، و إذ كانت أعمالهم حابطة لا أثر لها لم يكن ما يجوز لهم الإتيان بها، و الأعمال العبادية كعمارة مساجد الله إنما تقصد لما يطمع فيه و يرجى من أثرها و هو السعادة و الجنة، و العمل الحابط لا يتعقب سعادة و لا جنة البتة.
و المراد بالجملة الثانية بيان ظرفهم الذي يستقرون فيه لولا السعادة و الجنة و هو النار فكأنه قيل: أولئك لا يهديهم أعمالهم العبادية إلى الجنة بل هم في النار الخالدة، و لا تفيد لهم سعادة بل هم في الشقاوة المؤبدة.
و في الآية دلالة على أصلين لطيفين من أصول التشريع:
أحدهما: أن تشريع الجواز بالمعنى الأعم الشامل للواجبات و المستحبات و المباحات يتوقف على أثر في الفعل ينتفع به فاعله فلا لغو مشروعا في الدين، و هذا أصل يؤيده العقل، و هو منطبق على الناموس الجاري في الكون: أن لا فعل إلا لنفع عائد إلى فاعله.
و ثانيهما: أن الجواز في جميع موارده مسبوق بحق مجعول من الله لفاعله في أن يأتي بالفعل من غير مانع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اَللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ﴾ الآية السياق كاشف عن أن الحصر من قبيل قصر الإفراد كان متوهما يتوهم أن للمشركين و المؤمنين جميعا أن يعمروا مساجد الله فأفرد و قصر ذلك في المؤمنين، و لازم ذلك أن يكون المراد بقوله: ﴿يَعْمُرُ﴾ إنشاء الحق و الجواز في صورة الإخبار دون الإخبار، و هو ظاهر.
و قد اشترط سبحانه في ثبوت حق العمارة و جوازها أن يتصف العامر بالإيمان بالله و اليوم الآخر قبال ما نفى عن المشركين أن يكون لهم ذلك و لم يقنع بالإيمان بالله
وحده لأن المشركين يذعنون به تعالى بل شفع ذلك بالإيمان باليوم الآخر لأن المشركين ما كانوا مؤمنين به، و بذلك يختص حق العمارة و جوازها بأهل الدين السماوي من المؤمنين.
و لم يقنع بذلك أيضا بل ألحق به قوله: ﴿وَ أَقَامَ اَلصَّلاَةَ وَ آتَى اَلزَّكَاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللَّهَ﴾ لأن المقام مقام بيان من ينتفع بعمله فيحق له بذلك أن يقترفه، و من كان تاركا للفروع المشروعة في الدين و خاصة الركنين: الصلاة و الزكاة فهو كافر بآيات الله لا ينفعه مجرد الإيمان بالله و اليوم الآخر و إن كان مسلما، إذا لم ينكرها بلسانه، و لو أنكرها بلسانه أيضا كان كافرا غير مسلم.
و قد خص من بينها الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما الركنين الذين لا غنى عنهما في حال من الأحوال.
و بما ذكرنا من اقتضاء المقام يظهر أن المراد بقوله: ﴿وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللَّهَ﴾ الخشية الدينية و هي العبادة دون الخشية الغريزية التي لا يسلم منها إلا المقربون من أولياء الله كالأنبياء قال تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ:﴾ الأحزاب: - ٣٩.
و الوجه في التكنية عن العبادة بالخشية أن الأعرف عند الإنسان من علل اتخاذ الإله للعبادة الخوف من سخطه أو الرجاء لرحمته و رجاء الرحمة، أيضا يعود بوجه إلى الخوف من انقطاعها و هو السخط فمن عبد الله سبحانه أو عبد شيئا من الأصنام فقد دعاه إلى ذلك أما الخوف من شمول سخطه أو الخوف من انقطاع نعمته و رحمته فالعبادة ممثلة للخوف و الخشية مصداق لها لتمثيلها إياها، و بينهما حالة الاستلزام، و لذلك كني بها عنها، فالمعنى و الله أعلم و لم يعبد أحدا من دون الله من الآلهة.
و قوله: ﴿فَعَسى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ﴾ أي أولئك الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و لم يعبدوا أحدا غير الله سبحانه يرجى في حقهم أن يكونوا من المهتدين، و هذا الرجاء قائم بأنفسهم أو بأنفس المخاطبين بالآية، و أما هو تعالى فمن المستحيل أن يقوم به الرجاء الذي لا يتم إلا مع الجهل بتحقق الأمر المرجو الحصول.
و إنما أخذ الاهتداء مرجو الحصول لا محقق الوقوع مع أن من آمن بالله و اليوم الآخر حقيقة و حققه أعماله العبادية فقد اهتدى حقيقة لأن حصول الاهتداء مرة أو مرات لا يستوجب كون العامل من المهتدين، و استقرار صفة الاهتداء و لزومها له،
فالتلبس بالفعل الواقع مرة أو مرات غير التلبس بالصفة اللازمة فأولئك حصول الاهتداء لهم محقق، و أما حصول صفة المهتدين فهو مرجو التحقق لا محقق.
و قد تحصل من الآية أن عمارة المساجد لا تحق و لا تجوز لغير المسلم أما المشركون فلعدم إيمانهم بالله و اليوم الآخر، و أما أهل الكتاب فلأن القرآن لا يعد إيمانهم بالله إيمانا قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ النساء: - ١٥١، و قال أيضا في آية ٢٩ من السورة: ﴿قَاتِلُوا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاَ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ﴾ الآية، السقاية كالحكاية و الجناية و النكاية مصدر يقال: سقى يسقي سقاية. و السقاية أيضا الموضع الذي يسقى فيه الماء، و الإناء الذي يسقى به قال تعالى: ﴿جَعَلَ اَلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ:﴾ يوسف: ٧٠، و قد رووا في الآثار أن سقاية الحاج كانت إحدى الشئونات الفاخرة و المآثر التي يباهي بها في الجاهلية، و أن السقاية كانت حياضا من آدم على عهد قصي بن كلاب أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله و سلم توضع بفناء الكعبة، و يستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، و يسقي الحاج فجعل قصي أمر السقاية عند وفاته لابنه عبد مناف و لم يزل في ولده حتى ورثه العباس بن عبد المطلب.
و سقاية العباس هو الموضع الذي كان يسقى فيه الماء في الجاهلية و الإسلام و هو في جهة الجنوب من زمزم بينهما أربعون ذراعا، و قد بني عليه بناء هو المعروف اليوم بسقاية العباس.
و المراد بالسقاية في الآية على أي حال معناها المصدري و هو السقي، و يؤيده مقابلتها في الآية عمارة المسجد الحرام و المراد بها المعنى المصدري قطعا بمعنى الشغل.
و قد قوبل في الآية سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام بمن آمن بالله و اليوم الآخر و جاهد في سبيل الله، و لا معنى لدعوى المساواة بين الإنسان و بين عمل من الأعمال كالسقاية و العمارة أو نفيها فالمعادلة و المساواة إما بين عمل و عمل أو بين إنسان ذي عمل و إنسان ذي عمل.
و لذلك اضطر المفسرون إلى القول بأن تقدير الكلام: أ جعلتم أهل سقاية الحاج و أهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر حتى يستقيم السياق.
و أوجب منه النظر في قيود الكلام المأخوذة في الآية الكريمة فقد أخذ في أحد الجانبين سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام وحدهما من غير أي قيد زائد، و في الجانب الآخر الإيمان بالله و اليوم الآخر و الجهاد في سبيل الله و إن شئت فقل: الجهاد في سبيل الله مع اعتبار الإيمان معه.
و هو يدل على أن المراد: السقاية و العمارة خاليتين من الإيمان، و يؤيده قوله تعالى في ذيل الآية: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ﴾ على تقدير كونه تعريضا لأهل السقاية و العمارة لا تعريضا لمن يسوى بينهما كما يتبادر من السياق.
و هذا يكشف أولاً عن أن هؤلاء الذين كانوا يسوون بين كذا و كذا و بين كذا إنما كانوا يسوون بين عمل جاهلي خال عن الإيمان بالله و اليوم الآخر كالسقاية و العمارة من غير أن يكون عن إيمان، و بين عمل ديني عن إيمان بالله و اليوم الآخر كالجهاد في سبيل الله عن إيمان، أي كانوا يسوون بين جسد عمل لا حياة فيه و بين عمل حي طيب نفعه فأنكره الله عليهم.
و ثانيا: أن هؤلاء المسوين كانوا من المؤمنين يسوون بين عمل من غير إيمان، كان صدر عنهم قبل الإيمان أو صدر عن مشرك غيرهم، و بين عمل صدر عن مؤمن بالله عن محض الإيمان حال إيمانه كما يشهد به سياق الإنكار وبيان الدرجات في الآيات.
بل يشعر بل يدل ذكر نفس السقاية و العمارة من غير ذكر صاحبهما على أن صاحبيهما كانا من أهل الإيمان عند التسوية فلم يذكرا حفظا لكرامتهما و هما مؤمنان حين الخطاب و وقاية لهما بالنظر إلى التعريض الظاهر الذي في آخر الآية من أن يسميا ظالمين.
بل يدل قوله تعالى في الآية التالية في مقامبيان أجر هؤلاء المجاهدين في سبيل الله عن إيمان: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ﴾ على أن طرفي التسوية في قوله: ﴿أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ﴾ الآية كانا من أهل مكة، و أن أهل أحد الطرفين و هو الذي آمن و جاهد كان ممن أسلم و هاجر، و أهل الطرف الآخر أسلم و لم يهاجر فإن هذا هو الوجه في ذكره تعالى أولا الإيمان و الجهاد في أحد
[2] و في رواية الحاكم الآتية عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه عنه صلى الله عليه و آله فيما قاله لأهل الطائف: «و الذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة و لتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا مني أو كنفسي» فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر فأخد بيد علي فقال: «هذا» دلالة على هذا الفهم من جهة ما فيها من الترديد.
[4] في الدر المنثور: لا هم.
[5] الأبيات منقولة على ما يطابق نسخة السيرة لابن هشام لكثر الغلط في نسخة الدر المنثور.
[6] لتستهل. نسخة سيرة النبي.
[7] ظاهر الآية كون الإضافة حقيقية لا من إضافة الموصوف إلى صفته.
|