(بيان)
اتصال الايات بما قبلها واضح لا يحتاج بعض الامتنان عليه وعلى من عد معه من الانبياء كما هو ظاهر قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) وقوله: (و كذلك نجزى المحسنين) وقوله: (وكلا فضلنا على العالمين) إلى غير ذلك لكنها ليست مسوقة لذلك فحسب كما يظهر من بعض المفسرين بل لبيان النعم الجسيمة والايادي الجميلة الالهية التى يتعقبها التوحيد الفطري والاهتداء بالهداية الالهية.
[ 242 ]
فإن ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة التى تبين فيها مسألة التوحيد على ما تهدى إليه الفطرة التى فطر الناس عليها، وقد تقدم أن قصة إبراهيم عليه السلام بالنسبة إلى الايات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عام. وفي سياق الايات مضافا إلى بيان التوحيد بيان أن عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة متصلة ركبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهية وعناية خاصة ربانية حفظ الله بها الفطرة الالهية من أن تضيع بالاهواء الشيطانية، وتسقط رأسا من الفعلية فيبطل بذلك غرض الخلقة ويذهب سدى كما يشعر بذلك قوله: (ووهبنا له) الخ. وقوله: (ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته) الخ، وقوله: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم وقوله فان يكفر بها هؤلاء الخ. وفي طى الايات بيان ما تمتاز به الهداية الالهية من غيرها من الخصائص وهى الاجتباء واستقامة الصراط وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة على ما سيجئ من البيان إن شاء الله. قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) إسحاق هو ابن ابراهيم ويعقوب هو ابن إسحاق عليهما السلام، وقوله: (كلاهدينا) قدم فيه كلا للدلالة على أن الهداية الالهة تعلقت بكل واحد من المعدودين استقلالا لا انها تعلقت ببعضهم استقلالا كإبراهيم وبغيره بتبعه، فهو بمنزلة أن يقال هدينا إبراهيم وهدينا إسحاق وهدينا يعقوب. كما قيل. قوله تعالى: (ونوحا هدينا من قبل) فيه إشعار بأن سلسلة الهداية غير منقطعة ولا مبتدئة من إبراهيم عليه السلام بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوح عليه السلام. قوله تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان - إلى قوله - وكذلك نجزى المحسنين) الضمير في (ذريته) راجع إلى نوح ظاهرا لانه المرجع القريب لفظا، ولان في المعدودين من ليس هو من ذرية إبراهيم مثل لوط وإلياس، على ما قيل. وربما قيل: إن الضمير يعود إلى إبراهيم عليه السلام وقد ذكر لوط وإلياس عليهما السلام من الذرية تغليبا قال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) (العنكبوت: 27) أو أن المراد بالذرية هم الستة المذكورون في هذه الاية
[ 243 ]
دون الباقين، وأما قوله: (وزكريا) الخ، وقوله: (وإسماعيل) الخ، فمعطوفان على قوله: ومن (ذريته) لا على قوله: (داود) الخ، وهو بعيد من السياق. وأما قوله: (وكذلك نجزى المحسنين) فالظاهر أن المراد بهذا الجزاء هو الهداية الالهية المذكورة، وإليها الاشارة بقوله (كذلك) والاتيان بلفظ الاشارة البعيدة لتفخيم أمر هذه الهداية فهو نظير قوله: (كذلك يضرب الله الامثال) (الرعد: 17) والمعنى نجزى المحسنين على هذا المثال. قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) تقدم الكلام في معنى الاحسان والصلاح فيما سلف من المباحث وفي ذكر عيسى بين المذكورين من ذرية نوح عليهما السلام وهو إنما يتصل به من جهة أمة ه مريم دلالة واضحة على أن القرآن الكريم يعتبرأولاد البنات وذريتهن أولادا وذرية حقيقة، وقد تقدم استفادة نظير ذلك من آية الارث وآية محرمات النكاح، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي الاتى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) الظاهر أن المراد بإسماعيل هو ابن ابراهيم أخو إسحاق عليهم السلام وقوله: (اليسع) بفتحتين كأسد وقرئ (الليسع) كالضيغم أحد أنبياء بنى إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيل عليهما السلام كما في قوله: (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) (ص: 48) ولم يذكر شيئا من قصته في كلامه. وأما قوله: (وكلا فضلنا على العالمين) فالعالم هو الجماعة من الناس كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم، ومعنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمى زمانهم لما أن الهداية الخاصة الالهية أخذتهم بلا واسطة، وأما غيرهم فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم، ويمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الالهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإن الهداية الالهية من غير واسطة نعمة يتقدم بها من تلبس بها على من لم يتلبس، وقد شملت المذكورين من الانبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فالمجتمع الحاصل منهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهى.
[ 244 ]
وبالجملة الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبس بتلك الهداية الالهية التى لا واسطة فيها، والانبياء فضلوا على غيرهم بسبب التلبس بها فلو فرض تلبس من غيرهم بهذه الهداية كالملائكة كما ربما يظهر من كلامه تعالى وكالائمة على ما تقدم في البحث عن قوله تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات) (البقرة: 124) في الجزء الاول من الكتاب فلا يفضل عليهم الانبياء عليه السلام من هذه الحيثية وإن أمكن أن يفضلوا عليهم من جهة اخرى غير جهة الهداية. ومن هنا يظهر: أن استدلال بعضهم بالاية على أن الانبياء أفضل من الملائكة ليس في محله. ويظهر أيضا أن المراد بالتفضيل إنما هو التفضيل من حيث الهداية الالهية الخاصة التى أخذتهم من غير توسط أحد، وأما كونهم أهل الاجتباء وأهل الصراط المستقيم وأهل الكتاب والحكم والنبوة فأمر خارج عن مصب التفضيل المذكور في هذه الاية. واعلم أن الذى وقع في الايات الثلاث من ذكر من عدده الله تعالى من الانبياء بأسمائهم - وهم سبعة عشر نبيا - لم يراع فيه الترتيب الذى بينهم لا بحسب الزمان وهو ظاهر، ولا بحسب الرتبة والفضيلة فإن فيهم نوحا وموسى وعيسى عليه السلام، وهم أفضل من باقى المذكورين بنص الكتاب كما تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وقد قدم عليهم غيرهم في الذكر. وقد ذكر صاحب المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الايات الثلاث بين الانبياء المسمين فيها - وهم أربعة عشر نبيا - ما ملخصه: أنه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم. فالقسم الاول: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بينهم أن الله تعالى آتاهم الملك والامارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان وكانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف، وكان أيوب أميرا غنيا عظيما محسنا، وكان يوسف وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، وقد ابتليا بالضراء فصبرا وبالسراء فشكرا، وبعد ذلك موسى وهارون وكانا حاكمين في قومهما ولم يكونا ملكين.
[ 245 ]
فكل زوجين من هذه الازواج الثلاثة ممتاز بمزية والترتيب مع ذلك من حيث نعم الدنيا فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا من نعمها من أيوب ويوسف، وهما من موسى وهارون، أو الترتيب من حيث الفضل الدينى فالظاهر أن موسى وهارون أفضل من أيوب ويوسف، وهما أفضل من داود وسليمان لجمعهما بين الصبر في الضراء والشكر في السراء. والقسم الثاني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا بشدة الزهد في الدنيا، والاعراض عن لذائذها، والرغبة عن زينتها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين لان هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم وإن كان كل نبى صالحا ومحسنا على الاطلاق. والقسم الثالث: إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا وسلطانها ما كان للقسم الاول ولا من المبالغة من الاعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخصا. وفي تفسير الرازي ما يقرب منه وإن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره الرازي، ويرد على ذكراه جميعا أنهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصية له يمتاز به وهو غير مستقيم فإن إسماعيل عليه السلام قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله تعالى به قال تعالى: فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني أن شاء الله من الصابرين - إلى أن قال - إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الاخرين) (الصافات: 108) وهذا من الخصائص الفاخرة التى اختص الله بها إسماعيل عليه السلام، وبلاء مبين امتاز به حتى جعل الله تعالى التضحية في الحج طاعة عامة مذكرة لمحنته في جنب الله وترك عليه في الاخرين على أنه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة وكفى به ميزا. وكذلك يونس النبي عليه السلام امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحدا من أنبيائه وهو ما التقمه الحوت فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين. وأما لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أول أمره مع إبراهيم عليهما السلام حتى هاجر قومه وأرضه في صحابته، ثم أرسله الله إلى
[ 246 ]
أهل سدوم وما والاه مهد الفحشاء التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتى إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين وهو من بيت لوط خلا امرأته. وأما اليسع فلم يذكر له في القرآن قصة، وإنما ورد في بعض الروايات أنه كان وصى إلياس وقد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريم عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص وقد ابتلى الله قومه بالسنة والقحط العظيم. فالاحسن أن يتمم الوجه المذكور لترتيب الاسماء المعدودة في الاية بأن يقال: إن الطائفة الاولى المذكورين - وهم ستة - اختصوا بالملك والرئاسة مع الرسالة، والطائفة الثانية - وهم أربعة - امتازوا بالزهد في الدنيا والاعراض عن زخارفها، والطائفة الثالثة - وهم أربعة - أولوا خصائص مختلفة ومحن إلهية عظيمة يختص كل بشئ من المميزات. والله أعلم. ثم إن الذى ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى وهارون على أيوب ويوسف، وتفضيلهما على داود وسليمان بما ذكره من الوجه، وكذا جعله الصلاح بعنى الزهد والاحسان كل ذلك ممنوع لا دليل عليه. قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) هذا التعبير يؤيد ما قدمناه أن المراد بيان اتصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنهم متصلون بهم بابوة أو بنوة أو اخوة. قوله تعالى: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) قال الراغب في المفردات: يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية وجمعها (جواب) قال الله تعالى: وجفان كالجواب، ومنه استعير جبيت الخراج جباية ومنه قوله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شئ، والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عزوجل: فاجتباه ربه. قال: واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهى يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى من العبد، وذلك للانبياء وبعض من يقارنهم من الصديقين والشهداء كما قال تعالى: وكذلك يجتبيك ربك، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم وقوله تعالى: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، وقال عزوجل: يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب، انتهى.
[ 247 ]
والذى ذكره من معنى الاجتباء وإن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنه لازم المعنى الاصلى بحسب انطباقه على صنعه فيهم والذى يعطيه سياق الايات إن العناية تعلقت بمعنى الكلمة الاصلى وهو الجمع من مواضع وأمكنة مختلفة متشتتة فيكون تمهيدا لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه يقول: وجمعناهم على تفرقهم حتى إذا اجتمعوا وانضم بعضهم إلى بعض هديناهم جميعا إلى صراط كذا وكذا. وذلك لما عرفت أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطرية الالهية، والمناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع وتوحد حتى تشمل جمعهم الرحمة الالهية، ويهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا اختلاف فيه أصلا فلا يختلف بحسب الاحوال، ولا بحسب الازمان، ولا بحسب الاجزاء، ولا بحسب الاشخاص السائرين فيه، ولا بحسب المقصد. وذلك أن صراطهم الذى هداهم الله إليه وإن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة وضيقا إلا أن ذلك إنما هو بحسب الاجمال والتفصيل وقلة استعداد الامم وكثرته، والجميع متفق في حقيقة واحدة وهو التوحيد الفطري والعبودية التى تهدى إليه البنية الانسانية بحسب نوع الخلقة التى أظهرها الله سبحانه على ذلك ومن المعلوم أن الخلقة الانسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغير ولا تتبدل تبدلا يقضى بتبدل أصول الشعور والارادة الانسانيين فحواس الانسان الظاهرة وإحساساته وعواطفه الباطنة ومبدء القضاء والحكم الذى فيه وهو العقل الفطري لا تزال تجرى بحسب الاصول على وتيرة واحدة وإن اختلفت الاراء والمقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذى يتعلق بالنوع والتنبه بجهات حوائج الحياة. فلا يزال الانسان يشعر بحاجته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح ويشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، ويكره ما يؤلمه ويضربه، ويأمل سعادة الحياة ويخشى الشقاء وسوء العاقبة وأن اختلفت مظاهر حياته وصور أعماله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل. قال تعال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30) فالدين الحنيف
[ 248 ]
الالهى الذى هو قيم على المجتمع الانساني هو الذى تهدى إليه الفطرة وتميل إليه الخلقة البشرية بحسب ما تحس بحوائجها الوجودية، وتلهم بما يسعدها فيها من الاعتقاد والعمل، وبتعبير آخر من المعارف والاخلاق والاعمال. وهذا أمر لا يتغير ولا يتبدل لانه مبنى على الفطرة التكوينية التى لا سبيل للتغير والتبدل إليها فلا يختلف بحسب الاحوال والازمان بأن يدعو إلى السعادة الانسانية في حال دون حال أو في زمان دون زمان، ولا بحسب الاجزاء بأن يزاحم بعض أحكام الدين الحنيف بعضه الاخر بتناقض أو تضاد أو أي شئ آخر يؤدى إلى إبطال بعضها بعضا فإن الجميع ترتضع من ثدى التوحيد الذى يعدلها أحسن تعديل كما أن القوى البدنية إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإن هناك حاكما مدبرا يدبر كلا على حسب ما له من الوزن والتأثير في تقويم الحياة الانسانية. ولا بحسب الاشخاص فإن المهتدين بهذه الهداية القيمة الفطرية لا يختلف مسيرهم، ولا يدعو آخرهم إلا إلى ما دعا إليه أولهم وإن اختلفت دعوتهم بالاجمال والتفصيل بحسب اختلاف أعصار الانسانية تكاملا ورقيا كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) (آل عمران: 19)، وقال: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيمو الدين ولا تتفرقوا فيه، (الشورى: 13). ولا بحسب المقصد والغاية فإنه التوحيد الذى يؤول إليه شتات المعارف الدينية والاخلاق الفاضلة والاحكام الشرعية قال تعالى: (وهديناهم إلى صراط مستقيم) وقد نكر الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) (الحمد) لننوجه عناية الذهن إلى اتصافه بالاستقامة - والاستقامة في الشئ كونه على وتيرة واحدة في صفته وخاصته - فالصراط الذى هدوا إليه صراط لا اختلاف فيه في جهات وولا حال من الاحوال لما أنه صراط مبنى على الفطرة كما أن الفطرة الانسانية وهى نوع خلقته وكونه لا تختلف من الاحوال لما أنه صراط مبنى على الفطرة الانانية وهى نوع خلقته إنسانية والاهتداء إلى مقاصد الانسان التكوينية. فهؤلاء المهديون إلى مستقين الصراط في أمن إلهى من خطرات السير وعثرات
[ 249 ]
الطريق إذا كان الصراط الذى يسلكونه والمسير الذى يضربونه فيه لا اختلاف فيه بالهداية والاضلال والحق والباطل والسعادة واشقاوة بل هو مؤتلف الاجزاء ومتساوى الاحوال يقوم على الحق ويؤدى إلى الحق لا يدع صاحبه في حيرة، ولا يورده إلى ظلم وشقاء ومعصية قال تعالى: (الذين آمنو ولم يلبسو إيمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون) (الانعام 82). قوله تعالى: (ذالك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده) إلى آخر الاية. تعالى أن الذى ذكره من صفة الهداية التى هدى بها المذكورين من أنبيائه هو المعرف لهداه الخاص به الذى يهدى به من يشاء من عباده فالهدى إنما يكون هدى - حق الهدى - إذا كان من الله سبحانه، والهدى إنما يكون هدى الله إذا أورد المتلبس به صراطا مستقيما اتفق على الورود فيه أصحاب الهدى وهم الانبياء المكرمون عليهم السلام واتفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى كلمة التوحيد وإقامة دعوة الحق والاتسام بسمة العبودية والتقوى. أما الطريق الذى يفرق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض ويكفر ببعض أو يفرق فيه بين أحكام الله وشرائعه فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض، والطرق التى لا تضمن سعادة حياة المجتمع الانساني أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الانسانية فتلك هي الطرق التى لا مرضاة فيها لله سبحانه وقد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الاهواء، والاهتداء إليها ليس اهتداء بهدى الله سبحانه. قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، اولئك هم الكافرون حقا) (النساء: 151) وقال: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) (البقرة: 85) وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين) (القصص: 50) يريد أن الطريق الذى فيه اتباع الهوى إنما هو ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة وليس بهدى الله لان فيه ظلما والله سبحانه لم يجعل الظلم ولن يجعله مما يتوسل به إلى سعادة ولا أن السعادة تنال بظلم.
[ 250 ]
وبالجملة هدى الله سبحانه من خاصته أنه لا يشتمل على ضلال ولا يجامع ضلالا بالتأدية إليه، وإنما هو الهدى محضا تتلوه السعادة محضة عطاء غير مجذوذ لكن لا على حد العطايا المعمولة فيما بيننا التى ينقطع معها ملك المعطى (بالكسر) عن عطيته وينتقل إلى المعطى (بالفتح) فيحوزه على أي حال سواء شكرأو كفر. بل هذه العطية الالهية إنما تقوم على شريطة التوحيد والعبودية فلا كرامة لاحد عليه تعالى ولا أمن له منه إلا بالعبودية محضا، ولذلك ذيل الكلام بقوله: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) وإنما ذكر الاشراك لان محط البيان إنما هو التوحيد. قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) الاشارة باللفظ المفيد للبعد للدلالة على علو شأنهم ورفعة مقامهم، والمراد بإيتائهم الكتاب وغيره إيتاء جمعهم ذلك بوصف المجموع وإن كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما مر في تفسير قوله: (واجتبيناهم وهديناهم) فإن الكتاب إنما أوتيه بعض الانبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليه السلام. والكتاب إذا نسب في كلامه تعالى إلى الانبياء عليهم السلام نوعا من النسبة يراد به الصحف التى تشتمل على الشرائع ويقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة: 213) وقوله: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون - إلى أن قال - وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 48). إلى غير ذلك من الايات. والحكم هو إلقاء النسبة التصديقية بين أجزاء الكلام كقولنا: فلان عالم، وإذا كان ذلك في الامور الاجتماعية والقضايا العملية التى تدور بين المجتمعين عد نوع النسبة حكما كما تسمى نفس القضية حكما كما يقال: يجب على الانسان أن يفعل كذا ويحرم عليه أن يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو احب أو أكره أن تفعل كذا فتسمى الوجوب والحرمة والجواز والاستحباب والكراهة أحكاما كما تسمى القضايا المشتملة عليها أحكاما، ولاهل الاجتماع أحكام اأخرنا شئة من نسب أخرى كالملك والرئاسة والنيابة والكفاية
[ 251 ]
والولاية وغير ذلك. وإذا قصد به المعنى المصدرى أريد به إيجاد الحكم وجعله إما بحسب التشريع والتقنين كما يجعل أهل التقنين أحكاما صالحة ليجرى عليها الناس ويعملوا بها في مسير حياتهم لحفظ نظام مجتمعهم، وإما بحسب التشخيص والنظر كتشخيص القضاة والحكام في المنازعات والدعاوى أن المال لفلان والحق مع فلان وكتشخيص أهل الفتيا في فتاواهم وقد يراد به إنفاذ الحكم كحكم الوالى والملك على الناس بما يريدان في حوزة الولاية والملك. والظاهر من الحكم في الايه ة بقرينة ذكر الكتاب معه أن يكون المراد به معنى القضاء فيكون المراد من إيتاء الكتاب والحكم إعطاء شرائع الدين والقضاء بحسبها بين الناس كما هو ظاهر عدة من الايات كقوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة: 213) وقوله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا) (المائدة: 44) وقوله: (لتحكم بين الناس بما أراك الله) (النساء: 105) وقوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) (الانبياء: 78) وقوله: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) (ص: 26) إلى غير ذلك من الايات وهى كثيرة، وإن كان مثل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (رب هب لى حكما وألحقني بالصالحين) (الشعراء: 83) لا يأبى بظاهره الحمل على المعنى الاعم. وأما النبوة فقد تقدم في تفسير قوله: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) الاية (البقرة: 21) أن المراد بها التحقق بأنباء الغيب بعناية خاصة إلهية وهى الانباء المتعلقة بما وراء الحس والمحسوس كوحدانيته تعالى والملائكة واليوم الاخر. وعد هذه الكرامات الثلاث التى أكرم الله سبحانه بها سلسلة الانبياء عليهم السلام أعنى الكتاب والحكم والنبوة في سياق الايات الواصفة لهداه تعالى يدل على أنها من آثار هداية الله وبها يتم العلم بالله تعالى وآياته فكأنه قيل: تلك الهداية التى جمعنا عليها الانبياء عليهم السلام وفضلناهم بها على العالمين هي التى توردهم صراطا مستقيما وتعلمهم الكتاب المشتمل على شرائعه، وتسددهم وتنصبهم للحكم بين الناس، تنبهم أنباء الغيب.
[ 252 ]
(كلام في معنى الكتاب في القرآن)
الكتاب بحسب ما يتبادر منه اليوم إلى أذهاننا هو الصحيفة أو الصحائف التى تضبط فيها طائفة من المعاني على طريق التخطيط بقلم أو طابع أو غيرهما (1) لكن لما كان الاعتبار في استعمال الاسماء إنما هو بالاغراض التى أوقعت التسمية لاجلها أباح ذلك التوسع في إطلاق الاسماء على غير مسمياتها المعهودة في أوان الوضع، والغرض من الكتاب هو ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الانسان كلما راجعه، وهذا المعنى لا يلازم ما خطته اليد بالقلم على القرطاس كما أن الكتاب في ذكر الانسان إذا حفظه كتاب وإذا أملاه عن حفظه كتاب وإن لم يكن هناك صحائف أو ألواح مخطوطه بالقلم المعهود. وعلى هذا التوسع جرى كلامه تعالى في إطلاق الكتاب على طائفة من الوحى الملقى إلى النبي وخاصه إذا كان مشتملا على عزيمة وشريعة وكذا إطلاقه على ما يضبط الحوادث والوقائع نوعا من الضبط عند الله سبحانه، قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك) (ص: 29) وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) (الحديد: 22) وقال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرا كتابك) (الاسراء: 14). وفي هذه الاقسام الثلاثة ينحصر ما ذكره الله سبحانه في كلامه من كتاب منسوب إلى نفسه غير ما في ظاهر قوله في أمر التوراة: (وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلالكل شئ) (الاعراف: 145) وقوله: (وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه) (الاعراف: 150) وقوله: (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) (الاعراف: 154) (2). القسم الاول: الكتب المنزلة على الانبياء عليهم السلام وهى المشتملة على شرائع الدين - كما تقدم آنفا - وقد ذكر الله سبحانه منها كتاب نوح عليه السلام في قوله: وأنزل معهم الكتاب بالحق) (البقرة: 213) وكتاب إبراهيم وموسى عليهما السلام قال: (صحف
_________________________________
(1) ولعل اطلاق الكتاب على غير ما خطته اليد بالقلم من قبيل التوسع. (2) فان ظاهر الايات أنها كانت على طريق التخط يط. (*)
[ 253 ]
إبراهيم وموسى) (الاعلى: 19) وكتاب عيسى وهو الانجيل قال: (وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور) (المائدة: 46) وكتاب محمد صلى الله عليه وآله قال ؟ (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) (الحجر: 1) وقال: (رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة) (البينة: 3) وقال: (في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدى سفرة، كرام بررة) (عبس: 16) وقال: (نزل به الروح الامين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) (الشعراء: 195). القسم الثاني: الكتب التى تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات فمنها: ما يختص بكل نفس إنسانية كالذى يشير إليه قوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا) (الاسراء: 13) وقوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) (آل عمران: 30) إلى غير ذلك من الايات، ومنها: ما يضبط أعمال الامة كالذى يدل عليه قوله: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها) (الجاثيه: 28) ومنها: ما يشترك فيه الناس جميعا كما في قوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) (الجاثية: 29) لو كان الخطاب فيه لجميع الناس. لعل لهذا القسم من الكتاب تقسيما آخربحسب انقسام الناس إلى طائفتي الابرار والفجار وهو الذى يذكره في قوله: (كلا إن كتاب الفجار لفى سجين، وما أدراك ما سجين، كتاب مرقوم - إلى أن قال - كلا إن كتاب الابرار لفى عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون) (المطففين: 21). القسم الثالث: الكتب التى تضبط تفاصيل نظام الوجود والحوادث الكائنة فيه فمنها الكتاب المصون عن التغير المكتوب فيه كل شئ كالذى يشير إليه قوله تعالى: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) (يونس: 61) وقوله: (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) (يس: 12) وقوله: (وعندنا كتاب حفيظ) (ق: 4) وقوله: (لكل أجل كتاب) (الرعد: 38) ومن الاجال الاجل المسمى الذى لا سبيل للتغير إليه وقوله: (وما كان نفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) (آل عمران: 146).
[ 254 ]
ولعل هذا النوع من الكتاب ينقسم إلى كتاب واحد عام حفيظ لجميع الحوادث والموجودات، وكتاب خاص بكل موجود موجود يحفظ به حاله في الوجود كما يشعر به الايتان الاخيرتان وسائر الايات الكريمة التى تشاكلهما. ومنها: الكتب التى يتطرق إليها التغيير ويداخلها المحو والاثبات كما يدل عليه قوله تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 39) واستيفاء البحث عن كل قسم من أقسام هذه الكتب موكول إلى المحل الذى يناسبه من الكتاب والله المستعان.
(كلام في معنى الحكم في القرآن)
الاصل في مادة الحكم بحسب ما يتحصل من موارد استعمالاتها هو المنع، وبذلك سمى الحكم المولوي حكما لما أن الامر يمنع به المأمور عن الاطلاق في الارادة والعمل ويلجمه أن يقع على كل ما تهواه نفسه، وكذا الحكم بمعنى القضاء يمنع مورد النزاع من أن يتزلزل بالمنازعة والمشاجرة أو يفسد بالتعدي والجور، وكذا الحكم بمعنى التصديق يمنع القضية من تطرق الشك إليه، والاحكام والاستحكام يشعران عن حال في الشئ يمنعه من دخول ما يفسده بين أجزائه أو استيلاء الامر الأجنبي في داخله، والاحكام يقابل بوجه التفصيل الذى هو جعل الشئ فصلا فصلا يبطل بذلك التئام أجزائه وتوحدها قال تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) (هود: 1) وإلى ذلك يعود معنى المحكم الذى يقابل المتشابه. قال الراغب في المفردات: حكم أصله منع منعا لاصلاح، ومنه سميت اللجام حكمة الدابة (بفتحتين) فقيل: حكمته، وحكمت الدابة منعتها بالحكمة، وأحكمتها جعلت لها حكمة، وكذلك حكمت السفينة وأحكمتها قال الشاعر: (أبنى حنيفة أحكموا سفهاءكم). انتهى. والحكم إذا نسب إلى الله سبحانه فإن كان في تكوين أفاد معنى القضاء الوجودى وهو الايجاد الذى يساوق الوجود الحقيقي والواقعية الخارجية بمراتبها قال تعالى: (والله والله يحكم لا معقب لحكمه) (الرعد: 41).
[ 255 ]
وقال: (وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون) (البقرة: 117) ومنه يوجه قوله: (قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) (المؤمن: 48). وإن كان في تشريع أفاد معنى التقنين والحكم المولوي قال تعالى: (وعندهم التوراة فيها حكم الله) (المائدة: 43) وقال: (ومن أحسن من الله حكما) (المائدة: 50) وإذا نسب إلى الانبياء عليهم السلام أفاد معنى القضاء وهو من المناصب الالهية التى أكرمهم بها قال تعالى: (فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) (المائدة: 48) وقال تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم) (الانعام: 89). ولعل في بعض الايات إشعارا أو دلالة على إيتائهم الحكم بمعنى التشريع كما في قوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام في دعائه: (رب هب لى حكما وألحقني بالصالحين) (الشعراء: 83). وأما غير الانبياء من الناس فنسب إليهم الحكم بمعنى القضاء كما في قوله: (وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه) (المائدة: 47) والحكم بمعنى التشريع وقد ذمهم الله عليه كما في قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا - إلى أن قال - ساء ما يحكمون) (الانعام: 136) وقوله (وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) (هود: 45) والاية بحسب موردها يشمل الحكم بمعنى إنجاز الوعد وإنفاذ الحكم. قوله تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) الضميران في قوله: يكفر بها) وقوله: (وكلنا بها) راجعان إلى الهدى ويجوز فيه التذكير والتأنيث من جهة أنه هداية، أو راجعان إلى الكتاب والحكم والنبوة التى هي من آثار الهداية الالهية، ولا يخلو أول الوجهين عن بعد، والمشار إليه بقوله: (هؤلاء) الكافرون بالدعوة من قوم النبي صلى الله عليه وآله والمتيقن منهم بحسب مورد الاية كفار مكة الذين أشار الله سبحانه إليهم بقوله: (إن الذين كفرو سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) (البقرة: 6). والمعنى على الوجه الاول: فإن يكفر مشركو قومك بهدايتنا وهى طريقتنا فقد وكلنا بها من عبادنا من ليس يكفر بها، والكفر والايمان يتعلقان بالهداية وخاصة إذا كانت
[ 256 ]
بمعنى الطريقة كما ينسبان إلى الله سبحانه وآياته قال تعالى: (وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به) (الجن: 13) وقال: (فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة: 38). وعلى الوجه الثاني: فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة - وهى التى تشتمل على الطريقة الالهية والدعوة الدينية - مشركو مكة فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. وأما أن هؤلاء القوم من هم: - وفي تنكير اللفظ دلالة على أن لهم خطرا عظيما - فقد اختلف فيهم أقوال المفسرين: فمن قائل: إن المراد بهم الانبياء المذكورون في الايات السابقة وهم ثمانية عشر نبيا أو مطلق الانبياء المذكورين بأسمائهم أو بنعوتهم في قوله: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم)، وفيه أن سياق اللفظ لا يلائمه إذ ظاهر قوله: (ليسوا بها بكافرين) نفى الحال أو الاستمرار في النفى والمذكورون من الانبياء عليهم السلام يكونوا موجودين حال الخطاب ولو كان المراد ذلك لكان المتعين أن يقال: لم يكونوا بها بكافرين، وليس رسول الله صلى الله عليه وآله معدودا منهم بحسب هذه العناية وإن كان هو منهم وأفضلهم فإن الله سبحانه يذكره صلى الله عليه آله بعد ذلك بقوله: (اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده). ومن قائل: إن المراد بهم الملائكة، وفيه - كما قيل - أن القوم وخاصة إذا أطلق من غير تقييد لا يطلق على الملائكة ولا يسبق إلى الذهن على أن في الاية بحسب السياق نوع تسلية للنبى صلى الله عليه وآله ولا معنى لتسليته في كفر قومه بإيمان الملائكة. ومن قائل إن المراد بهم المؤمنون به صلى الله عليه وآله عند نزول السورة في مكة أو مطلق المهاجرين. وفيه: أن بعض هؤلاء قد ارتدوا بعد إيمانهم كالذى قال سأنزل مثل ما أنزل الله، وقد تعرض سبحانه لامره في هذه السورة بعد آيات، وقد كان فيهم المنافق فلا ينطبق عليهم قوله: (ليسوا بها بكافرين). ومن قائل: أن المراد بهم الانصارأو المهاجرون والانصار جميعا أو أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والانصار وهم الذين أقاموا هذه الدعوة على ساقها ونصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العسرة، وقد مدحهم الله في كتاب أبلغ المدح. وفيه: أن كرامة جماعتهم ورفعة منزلتهم بما هم جماعة مما لا يدانيه ريب لكن كان بينهم من ارتد بعد ايمانه والمنافق الذى لم يظهر حاله بعد، ولا ينطبق على من هذا نعته مثل قوله تعالى: (فقد وكلنا بها قوما
[ 257 ]
ليسوا بها بكافرين) وظاهره أنه لاسبيل للكفر إليهم ولم يقل: فقد وكلنا بها قوما يؤمنون بها أو آمنوا بها. وربما يستفاد من كلمات بعضهم: أن المراد به قيام الايمان بجماعتهم وإن أمكن أن يتخلف عن إقامته آحاد منهم وبعبارة أخرى قوله: (ليسوا بها بكافرين) وصف للمجتمع ولا ينافى خروج بعض الابعاض اتصاف المجتمع بوصفه القائم بالمجموع من حيث هو مجموع، والمؤمنون به صلى الله عليه وآله وسلم من الانصار أو منهم ومن المهاجرين أو الصحابة ثبت الايمان فيهم ثبوتا من غير زوال وإن زال عن بعض أفرادهم. وهذا الوجه لو تم لدل على أن المراد بالقوم جميع الامة المسلمة أو المؤمنون من جميع الامم، ولا دليل من تخصيصه بقوم دون قوم، و اختصاص بعضهم بمزايا وكرامات دينية كتقدم المهاجرين في الايمان بالله والصبر على الاذى في جنب الله، أو تبوء الانصار الدار والايمان وإعلاؤهم كلمة التوحيد لا يوجب إلا فضل اتصافهم بهذا النعت لا اختصاصه بهم وحرمان غيرهم منه مع مشاركته إياهم في معناه. إلا أنه يرد على هذا الوجه: أن المألوف من كلامه في الاوصاف الاجتماعية التى لا تستوعب جميع أفراد المجتمع أن يستثنى المتخلفين عنها لو كان هناك متخلف أو يأتي بما في معنى الاستثناء كقوله: (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا) (التين: 6). و قوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (الفتح: 29) وقوله: (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار - إلى أن قال - إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله) (النساء: 146) وقوله: (كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم - إلى أن قال - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) (آل عمران: 89) وهذا المعنى كثير دائر في القرآن الكريم فما بال قوله: (قوما ليسوا بها بكافرين) لم يستثن منه المتخلف عن الوصف من القوم مع وجوده فيهم. وأغرب منه قول بعضهم: إن المراد بوصف القوم بأنهم ليسوا بها بكافرين - والقوم
[ 258 ]
على قوله هم الانصار - الاشارة إلى أنهم وإن لم يؤمنوا بها بعد لكنهم لم يكفروا بها كما كفر بها مشركو مكة. وفيه مضافا إلى أنه لا يسلم مما تقدم من الاشكال على الوجوه السابقة أن أهل المدينة من الانصار كانوا حين نزول الايات مشركين يعبدون الاصنام ولا معنى لنفى الكفر عنهم اللهم إلا بمعنى الرد بعد الدعوة وهو الاستكبار والاستنكاف ولا دليل على كون الكفر في الاية بهذا المعنى مع كون الايات مسوقة لوصف الهداية الالهية المقابلة للاشراك كما جرى على هذا المجرى في قوله: (و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون). وفيه: أن التوكيل المذكور في الاية يفيد معنى الحفظ، ولا معنى لقولنا: إن يكفر بها هؤلاء فقد حفظناها بقوم لم يؤمنوا بها ولم يردوها بعد. ومن قائل: إن المراد بهم العجم ولم يكونوا يؤمنوا بها يومئذ وكأنه مأخوذ من قوله تعالى (إن يشأ يذهبكم أيها الناس و يأت بآخرين) (النساء: 133) فقد ورد أن المراد بالاخرين هم العجم لكن يرد عليه ما يرد على سابقه. ومن قائل: إن المراد بالقوم هم المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المؤمنون من جميع الامم. وفيه: إنه يرد عليه ما أورد على ما قبله من الوجوه. نعم يمكن أن يوجه بأن المراد بهم نفوس من هذه الامة أو من جميع الامم يؤمن بالله إيمانا لا يعقبه كفر ما دامت تعيش في الدنيا فهؤلاء قوم مؤمنون وليسوا بها بكافرين وإن لم يمتنع الكفر عليهم لكن دوامهم على الايمان بدعوة التوحيد من غير كفر أو نفاق يستدعى صدق قوله (قوما ليسوا بها بكافرين) عليهم ويتم به معنى الاية في أنها مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وآله. وتطييب قلبه الشريف إذ كان يحزنه كفر المشركين من قومه واستكبارهم عن إجابة دعوة الحق والايمان بالله وآياته، وفي أنها دالة على اعتزازه تعالى بحفظ هدايته وطريقته التى أكرم بها عباده المكرمين وأنبياءه المقربين. لكن يتوجه إليه أن بناء هذا الوجه على قضية اتفاقية وهى إيمان المؤمنين بها إيمانا يتفق أن يبقى سليما من الزوال من غير ضامن يضمن بقاءه، ولا يلائمه قوله تعالى: (وكلنا بها) فإن التوكيل يفيد معنى الاعتماد ويتضمن معنى الحفظ والكلاءة، ولا وجه للاعتزاز والمباهاة بأمر لا ضامن لثباته ولا حافظ لاستقراره وبقائه. على أن الله سبحانه يذم كثيرا من الايمان إذ يقول: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا
[ 259 ]
وهم مشركون) (يوسف: 106) وهذه الايات إنما تصف التوحيد الفطري المحض والهداية الالهية الطاهرة النقية الخالية عن شوب الشرك والظلم التى أكرم الله بها خليله إبراهيم ومن قبله وبعده من الانبياء المكرمين عليهم السلام كما يذكره إبراهيم عليه السلام في قوله على ما يحكيه الله سبحانه عنه: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) (الانعام: 82) والهداية التى هذا شأنها لا يعد كل متلبس بالايمان حافظا لها موكلا بها من الله يحفظها الله به من الضيعة والفساد البتة وفيهم الطغاة والبغاة والفراعنة والمستكبرون والجفاة الظلمة وأهل البدع والمتوغلون في الفجور وأنواع الفحشاء والفسق. والذى ينبغى أن يقال في معنى الاية أعنى قوله: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) أن الايات لما كانت تصف التوحيد الفطري والهداية الالهية الطاهرة من شوب الشرك بالله سبحانه، وتذكر أن الله سبحانه أكرم بهذه الهداية سلسلة متصلة متحدة من أنبيائه واصطفاهم بها ذرية بعضها من بعض واجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم لا ضلال فيه وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة. ثم فرع على ذلك قوله: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) وسياقه سياق اعتزاز منه تعالى وتسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه لئلا يوهنه الحزن ويفسخ عزيمته في الدعوة الدينية ما يشاهده من كفر قومه واستكبارهم وعمههم في طغيانهم فمعناه أن لا تحزن بما تراه من كفرهم بهذه الهداية الالهية والطريقة التى تشتمل عليها الكتاب والحكم والنبوة التى آتيناها سلسلة المهديين من الانبياء الكرام فإنا قد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين فلا سبيل للضيعة والزوال إلى هذه الهداية الالهية لانا وكلناهم بها واعتمدنا عليهم فيها وأولئك غير كافرين بها البتة. فهؤلاء قوم لا يتصور في حقهم كفر ولا يدخل في قلوبهم شرك لان الله وكلهم بها واعتمد عليهم فيها وحفظها بهم ولو جاز عليهم الشرك وأمكن فيهم التخلف كان الاعتماد عليهم فيها خطاء وضلالا والله سبحانه لا يضل ولا ينسى. فالاية تدل - والله أعلم - على أن لله سبحانه في كل زمان عبدا أو عبادا موكلين بالهداية الالهية والطريقة المستقيمة التى يتضمنها ما آتاه أنبياءه من الكتاب والحكم والنبوة يحفظ الله بهم دينه عن الزوال وهدايته عن الانقراض، ولا سبيل للشرك والظلم إليهم
[ 260 ]
لاعتصامهم بعصمة إلهية وهم أهل العصمة من الانبياء الكرام وأوصيائهم عليه السلام. فالاية خاصة بأهل العصمة وقصارى ما يمكن أن يتوسع به أن يلحق بهم الصالحون من المؤمنين ممن اعتصم بعصمة التقوى والصلاح ومحض الايمان عن الشرك والظلم، وخرج بذلك عن ولاية الشيطان قال تعالى. إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (النحل: 99) إن صدق عليهم أن الله وكلهم بها واعتمد عليهم فيها. قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) إلى آخر الاية. عاد ثانيا إلى تعريفهم بما فيه تعريف الهدى الالهى فالهدى الالهى لا يتخلف عن شأنه وأثره وهو الايصال إلى المطلوب قال تعالى: (فإن الله لا يهدى من يضل) (النحل: 37). وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (فبهداهم اقتده) بالاقتداء - وهوالاتباع - بهداهم لا بهم لان شريعته ناسخة لشرائعهم وكتابه مهيمن على كتبهم، ولان هذا الهدى المذكور في الايات لا واسطة فيه بينه تعالى وبين من يهديه، وأما نسبة الهدى إليهم في قوله: (فبهداهم) فمجرد نسبة تشريفية، والدليل عليه قوله: (ذلك هدى الله) الخ. وقد استدل بعضهم بالاية على أن النبي صلى الله عليه واله وسلم وأمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل على نسخه، وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان قيل: فبهم اقتده، وأما قوله (فبهداهم اقتده) فهو بمعزل عن الدلالة على ذلك، كما هو ظاهر. وختم سبحانه كلامه في وصف التوحيد الفطري والهداية الالهية إليه بقوله خطابا لنبيه: (قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين) كأنه قيل: اهتد بالهدى الالهى الذى اهتدى به الانبياء قبلك، وذكر به العالمين من غير أن تسألهم أجرا على ذلك، وقل لهم ذلك لتطيب به نفوسهم، ويكون أنجح للدعوة وأبعد من التهمة، وقد حكى الله سبحانه هذه الكلمة عن نوح ومن بعده من الانبياء عليهم السلام في دعواتهم. والذكرى أبلغ من الذكر كما ذكره الراغب، وفي الاية دليل على عموم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم لجميع العالمين.
[ 261 ]
(بحث روائي)
في قصص الانبياء للثعلبي: إن إلياس أتى إلى بيت امرأة من بنى إسرائيل لها ابن يسمى اليسع بن خطوب، وكان به ضر فآوته وأخفت أمره فدعا له فعوفى من الضر الذى كان به، واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه فكان يذهب حيثما يذهب، ثم ذكر قصة رفع إلياس وأن اليسع ناداه عند ذلك: يا إلياس ما تأمرني به ؟ فقذف إليه كساءه من الجو الاعلى فكان ذلك علامة على استخلافه إياه على بنى إسرائيل. قال: ونبأ الله تعالى بفضله اليسع عليه السلام وبعثه نبيا ورسولا إلى بنى إسرائيل، وأوحى الله تعالى إليه وأيده بمثل ما أيد به عبده إلياس فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه وينتهون إلى رأيه وأمره، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع. وفي البحار عن الاحتجاج والتوحيد والعيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا عليه السلام فيما احتج به على جاثليق النصارى إلى أن قال عليه السلام: إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى عليه السلام مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرا الاكمه والابرص فلم يتخذه أمته ربا. الخبر. وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن الثمالى عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) لنجعلها في أهل بيته، (ونوحا هدينا من قبل) لنجعلها في أهل بيته فأمر العقب من ذرية الانبياء من كان قبل إبراهيم ولابراهيم. أقول: وفيه تأييد ما قدمناه أن الايات لبيان اتصال سلسلة الهداية. وفى الكافي مسندا وفي تفسير العياشي مرسلا عن بشير الدهان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء ثم تلا: ومن ذريته داود وسليمان إلى آخر الاية وذكر عيسى. وفي تفسير العياشي عن أبى حرب عن أبى الاسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن معمر قال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجدونه في كتاب الله، وقد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده. قال أليس تقرا سورة الانعام ؟ (ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ يحيى وعيسى قال: أليس عيسى من ذريه إبراهيم ؟
[ 262 ]
قال: نعم قرأت. أقول: ورواه في الدر المنثورعن ابن أبى حاتم عن أبى الحرب بن أبى الاسود مثله. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن معمر على الحجاج فذكر الحسين فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال يحيى: كذبت فقال لتأتينى على ما قلت ببينة فتلا: (ومن ذريتة داود وسليمان - إلى قوله - وعيسى وإلياس) فأخبر تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بامه. قال: صدقت. أقول: ذكر الالوسى في روح المعاني في قوله تعالى: (وعيسى) وفي ذكره عليه السلام دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنات لان انتسابه ليس إلا من جهة أمه. وأورد عليه: أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الام إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الام وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية. وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الاية، وبها احتج موسى الكاظم رضى الله عنه على ما رواه البعض عند الرشيد. وفي التفسير الكبير: أن أبا جعفر رضى الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف وبأية المباهلة حيث دعا صلى الله عليه وسلم الحسن والحسن رضى الله تعالى عنهما بعد ما نزل (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم). وادعى بعضهم: أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف أفتاء أصحابنا في هذه المسألة، والذى أميل إليه القول بالدخول. انتهى. وقال في المنار: وأقول: في الباب حديث أبى بكره عند البخاري مرفوعا: (إن ابني هذا سيد) يعنى الحسن، ولفظ ابن لا يجرى عند العرب على أولاد البنات، وحديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لابي نعيم مرفوعا: (وكل ولد آدم فإن عصبتهم لابيهم خلا ولد فاطمة فإنى أبوهم وعصبتهم) وقد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة عليها السلام: أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه وعترته وأهل بيته. انتهى. أقول: وفي المسألة خلط، وقد اشتبه الامر فيها على عدة من الاعلام فحسبوا أن المسألة لفظية يتبع فيها اللغة حتى احتج فيها بعضهم بمثل قول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * * بنوهن ابناء الرجال الاباعد
[ 263 ]
وقوله:
وإنما أمهات الناس أوعية * * مستودعات وللانساب آباء
وقد أخطأوا في ذلك، وإنما هي مسألة حقوقية اجتماعية من شعب مسألة القرابة، والامم والاقوام مختلفة في تحديدها وتشخيصها وأن المرأة هل هي داخلة في القرابة ؟ وأن أولاد بنت الرجل هل هي أولاده ؟ وأن القرابة هل تختص بما يحصل بالولادة أو تعمه وما حصل بالادعاء ؟ وقد كانت عرب الجاهلية لا ترى للمرأة إلا القرابة الطبيعية التى تؤثر أثرها في الازدواج والانفاق ونحو ذلك، ولا ترى لها قرابة قانونية تسمح لها بالوراثة ونحوها وأما أولاد البنات فلم تكن ترى لها قرابة، وكانت ترى قرابة الادعياء وتمسى الدعى ابنا لا لان اللغة كانت تجوز ذلك بل لانهم اتبعوا في ذلك ما تجاورهم من الامم الراقية ترى ذلك بحسب قوانينها المدنية أو سننها القومية كالروم وإيران. وأما الاسلام فقد ألغى قرابة الادعياء من رأس قال تعالى: و (ما جعل أدعياءكم أبناءكم) (الاحزاب: 4) وأدخل المرأة في القرابة ورتب على ذلك آثارها وأدخل أولاد البنات في الاولاد قال تعالى في آية الارث: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) الاية (النساء: 11) وقال: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون مما قل منه أو كثر) (النساء: 7). وقال في آية محرمات النكاح: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم - إلى أن قال - وأحل لكم ما وراء ذلكم) (النساء: 24) فسمى بنت البنت بنتا وأولاد البنات أولادا من غير شك في ذلك، وقال تعالى: (ويحيى وعيسى وإلياس) الاية فعد عيسى من ذرية إبراهيم أو نوح عليهما السلام وهو غير متصل بهما إلا من جهة الام. وقد استدل أئمة أهل البيت عليهم السلام بهذه الاية وآية التحريم وآية المباهلة على كون ابن بنت الرجل ابنا له والدليل عام وإن كان الاحتجاج على أمر خاص ولابي جعفر الباقر عليه السلام احتجاج آخر أصرح من الجميع رواه في الكافي بإسناده عن عبد الصمد ابن بشير عن أبى الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين ؟ قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فأى شئ احتججتم عليهم ؟ قلت احتججنا عليهم بقول الله عزوجل - في عيسى بن مريم: (ومن
[ 264 ]
ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى) فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح. قال: فأى شئ قالوا لكم ؟ قلت: قالوا قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب. قال: فأى شئ احتججتم عليهم ؟ قلت احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) ثم قال: أي شئ قالوا: قلت قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول: أبناؤنا. قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: لاعطينكما (1) من كتاب الله عز وجل أنهما من صلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرده إلا كافر. قلت: وأين ذلك جعلت فداك ؟ قال: من حيث قال الله: (حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم وأخواتكم) الاية إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) يا أبا الجارود - هل كان يحل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نكاح حليلتهما ؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا وفجروا، وإن قالوا: لا، فإنهما ابناه لصلبه. وروى قريبا منه القمى في تفسيره. وبالجملة فالمسألة غير لفظية، وقد اعتبر الاسلام في المرأة القرابة الطبيعية (2) التشريعية جميعا، وكذا في أولاد البنات أنهم من الاولاد وأن عمود النسب يجرى من جهة المرأة كما يجرى من جهة الرجل كما ألغى الاتصال النسبى من جهة الدعاء أو من غير نكاح شرعى، وقد روى الفريقان عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) غير أن مساهلة الناس في الحقائق الدينية أنستهم هذه الحقيقة ولم يبق منها إلا بعض آثارها كالوراثة والحرمة ولم تخل السلطات الدولية في صدر الاسلام من تأثير في ذلك، وقد تقدم البحث في ذيل آية التحريم من الجزء الثالث من الكتاب. وفي تفسير النعماني بإسناده عن سليمان بن هارون العجلى قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن صاحب هذا الامر محفوظة له لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه،
_________________________________
(1) لاعطينك ظ. (2) المراد بالرابة الطبيعية ليست هي الولادة وما يتبعها بحسب الوراثة التكوينية الجارية في الحيوان بل القرابة من حيث تستتبع أحكاما تشريعية لا كثير مؤنة في جعلها كا ختصاص الانسان بما ولده وحق حضانته مثلا تجاه ما في جعله مؤنة زائدة، وهو نظير الحكم الطبيعي في اصطلاحهم.
[ 265 ]
وهم الذين قال الله عزوجل: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) وهم الذين قال الله فيهم: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين). أقول: وهو من الجرى. وفي الكافي بإسناده عن أبى حمزة عن ابى جعفر عليه السلام: قال الله عزوجل في كتابه: (ونوحا هدينا من قبل إلى قوله - بكافرين) فإنه وكل بالفضل من أهل بيته والاخوان والذرية، وهو قول الله تبارك وتعالى: (فإن يكفر بها) امتك فقد وكلنا أهل بيتك بالايمان الذى أرسلناك به فلا يكفرون به أبدا، ولا أضيع الايمان الذى أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء أمتك وولاة أمرى بعدك، وأهل استنباط العلم الذى ليس فيه كذب ولا إثم ولا وزر ولا بطر ولا رباء. أقول: ورواه العياشي مرسلا وكذا الذى قبله والحديث كسابقه من الجرى. وفي المحاسن بإسناده على ابن عيينة عن إبى عبد الله عليه السلام قال: قال: أبو عبد الله عليه السلام: ولقد دخلت على أبى العباس وقد أخذ القوم مجلسهم فمد يده إلى والسفرة بين يديه موضوعة فذهبت لاخطو إليه فوقعت رجلى على طرف السفرة فدخلني بذلك ما شاء الله أن يدخلنى إن الله يقول: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) قوما والله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويذكرون الله كثيرا. أقول: محصله استحياؤه عليه السلام من الله سبحانه بوقوع قدمه على طرف السفرة اضطرارا كأن في وطئ السفرة كفرانا لنعمه الله ففيه تعميم للكفر في قوله: (ليسوا بها بكافرين) لكفر النعمة. وفي النهج: اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى. أقول: واستفادته من الايات ظاهرة. وفي تفسير القمى عن النبي صلى الله عليه وآله قال: وأحسن الهدى هدى الانبياء.
[ 266 ]
* * *
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا انتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون - 91. وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به وهم على صلوتهم يحافظون - 92. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون - 93. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون - 94. إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى ذلكم اله فأنى تؤفكون - 95. فالق
[ 267 ]
الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم - 96. وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الايات لقوم يعلمون - 97. وهو الذى أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الايات لقوم يفقهون - 98. وهو الذى أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانيه وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لايات لقوم يؤمنون - 99. وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون - 100. بديع السموات والارض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبه وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم - 101. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فأعبدوه وهو على كل شئ وكيل - 102. لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير - 103. قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ - 104. وكذلك نصرف الايات وليقولوا درست ولنبيه لقوم يعلمون - 105.
[ 268 ]
(بيان)
الايات لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تفتتح بالمحاجة في خصوص إنزال الكتاب على أهل الكتاب إذ ردوا على النبي صلى الله عليه وآله بقولهم: (ما أنزل الله على بشر من شئ)، والايات السابقة تعد إيتاء الكتاب من لوازم الهداية الالهية التى أكرم بها أنبياءه. فقد بدأت الكلام بمحاجة أهل الكتاب ثم تذكر أن أظلم الظلم أن يشرك بالله افتراء عليه أو يظلم في باب النبوة بإنكار ما هو حق منها أو دعوى ما ليس بحق منها كالذى قال: سأنزل مثل ما أنزل الله. ثم تذكر الايات ما يؤول إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مسألة الموت إذا غشيتهم غمراته والملائكة باسطوا أيديهم، ثم تتخلص إلى ذكر آيات توحيده تعالى وذكر أشياء من أسمائه الحسنى وصفاته العليا. قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) قدر الشئ وقدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر ونحوهما يقال: قدرت الشئ قدرا وقدرته بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشئ وهندسته المحسوسة ثم توسع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل: قدر فلان عند الناس وفي المجتمع أي عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعهم وقيمته الاجتماعية. وإذ كان تقدير الشئ وتحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة لحاله المستتبعة لعرفانه أطلق القدر والتقدير على الوصف وعلى المعرفة بحال الشئ - على نحو الاستعارة. - فيقال قدر الشئ وقدره أي وصفه، ويقال: قدر الشئ وقدره أي عرفه، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا. ولما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس ولا وهم ولا عقل وإنما يعرف معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الاوصاف وينال من عظمته ما دلت عليه آياته وأفعاله صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال: ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه أو ما عرفوه حق معرفته. فالاية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الانسب
[ 269 ]
بالنظر إلى الايات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لايتائهم الكتاب والحكم والنبوة، وعنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق ونعمة الهداية بين الناس زمانا بعد زمان وجيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الاول فإن في إنكار إنزال الوحى حطا لقدره تعالى وإخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية بشؤون عباده وهدايتهم إلى هدفهم من السعادة والفلاح. ويؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) (الزمر: 67). وقوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز) (الحج: 74) أي وقوته وعزته وضعف غيره وذلته تقتضيان أن لا يحط قدره ولا يسوى هو وما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة وأربابا فالانسب بالاية هو المعنى الاول وإن لم يمتنع المعنيان الاخران، وأما تفسير (ما قدروا الله حق قدره) بأن المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الاية. ولما قيد قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) بالظرف الذى في قوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه وعدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحى والكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الالوهية وخصائص الربوبية أن ينزل الوحى والكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط والفوز بسعادة الدنيا والاخرة فهى الدعوى. وقد أشارتعالى إلى إثبات هذه الدعوى والحجاج له بقوله: (قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى) الخ، وبقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) والاول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الانبياء عليهم السلام الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التى أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الالهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالانبياء عليهم السلام نوح ومن بعده، وهى التى وصفها الله تعالى في الايات السابقة من قوله: (وإذ قال إبراهيم لابيه آزر - إلى قوله - إن هو إلا ذكرى للعالمين).
[ 270 ]
والثانى من القولين احتجاج بوجود معارف وإحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من الانسان الاجتماعي من حيث مجتمعه بما له من العواطف والافكار التى تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء والمسكن واللباس والنكاح وجلب المنافع ودفع المضار والمكاره فهذه الامور التى في مجرى التمتع بالماديات هي التى يتوخاها الانسان بحسب طبعه الحيوانى، وأما المعارف الالهية والاخلاق الفاضلة الطيبة والشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الامور التى ينالها الانسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي وأنى للشعور الاجتماعي ذلك ؟ وهو إنما يبعث الانسان إلى استخدام جميع الوسائل التى يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الارضية، ومقاصده في المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن وما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد والاشتراك في المنافع ورعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه، وهو سر كون الانسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة في البحث عن قوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين) الاية (البقرة: 213) في الجزء الثاني من الكتاب، وسنزيده وضوحا إن شاء الله. وبالجملة فالاية أعنى قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الالوهية أن تهدى الانسان إلى مستقيم الصراط ومنزل السعادة بإنزال الكتاب والوحى على بعض أفراده، وتستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا، وبوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الانسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا. قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب والمخاطبون به اليهود لا محالة، وقرئ (يجعلونه) بصيغة الغيبة، والمخاطب المسؤول عنه بقوله: (من أنزل الكتاب الخ)، حينئذ اليهود أو مشركوا العرب على ما قيل، والمراد يجعل الكتاب قراطيس وهى جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها، وإما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف والقراطيس تسمى كتابا كما تسمى الالفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا.
[ 271 ]
وقوله: (قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى) الخ. جواب عن قولهم المحكى بقوله تعالى: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) والاية وإن لم تعين القائلين بهذا القول من هم ؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون: (ما أنزل الله على بشر من شئ) هم اليهود أيضا، وذلك أن الاية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى عليه السلام والمشركون لا يعترفون به ولا يقولون بنزوله من عند الله، وإنما القائلون به أهل الكتاب، وأيضا الاية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، وهذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين. على أن قوله بعد ذلك: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم وسيجئ إن شاء الله تعالى. وأما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الانبياء موسى ومن قبله عليهم السلام وبنزول كتب سماوية كالتوراة وغيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا: ما أنزل الله على بشر من شئ لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه: أن أكون ذلك مخالفا للاصل الذى عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الاسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعى نزوله عليه من جانب الله سبحانه، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد و أساس دينهم التوحيد حتى أنزل الله: (ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) (النساء: 51). وقولهم - وهو أبين سفها من سابقه - اغتياظا على النصارى: أن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون - إلى أن قال - ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) (آل عمران: 67) إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لاصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم.
[ 272 ]
ومن كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفى نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعى الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة. وأما قول من قال: إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة وإنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم والدار دارهم، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس والدين عام ودعوته شاملة لجميع الناس والقرآن ذكر للعالمين وهم والمشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما وقد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الاية مدنية كقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) (العنكبوت: 46) وقوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون) (النحل: 118) وقد ذكر في سورة الاعراف كثير من مظالم بنى إسرائيل مع كون السورة مكية. ومن المستبعد أن تدوم الدعوة الاسلامية سنين قبل الهجرة وفي داخل الجزيرة طوائف من اليهود والنصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها ولا يقولوا شيئا لها أو عليها وقد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة وقرأوا سورة مريم المكية عليهم وفيها قصة عيسى ونبوته. وأما قول من قال: إن السورة - يعنى سورة الانعام - إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه وعامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لارجاع الضمير في قوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لان الكلام في سياق الخبر عنهم، ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الاية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالارجح قراءة (يجعلونه) الخ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب. وأما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة
[ 273 ]
المنزلة على موسى عليه السلام فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة. ففيه: أن سياق السورة فيما تقدم من الايات وإن كان لمحاجة المشركين لكن لا لانهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتنى بشخص أو أشخاص لانفسهم بل لانهم يستكبرون عن الخضوع للحق وينكرون أصول الدعوة التى هي التوحيد والنبوة والمعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة ونزول الكتاب لدخوله في غرض السورة، ووقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أصول الدين الالهى وإن كان كان القائل به من غير المشركين وعبدة الاصنام، ولعله مما لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في بعض الاثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربما بعثوا إليهم الوفود لذلك. على أن قوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) كما سيأتي لا يصح أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى: قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس) والقول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله سبحانه وخاصة مع وصفها بأنها نور وهدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدعى ذلك والمصحح للخطاب هو الاول دون الثاني. وأما قراءة (يجعلونه) الخ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله (من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى)، وقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) لليهود. وقد حاول بعضهم دفع الاشكالات الواردة على جعل الخطاب في الاية للمشركين مع تصحيح القراءتين جميعا فقال ما ملخصه: أن الاية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو - يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة - محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحى استبعادا لان يخاطب الله البشر بشئ، وقد اعترفوا بكتاب موسى وأرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بانهم أهل الكتاب الاول العالمون بأخبار الانبياء.
[ 274 ]
فهو تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ كقولهم: أبعث الله بشرا رسولا: (من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا) انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذى ورثته بنو إسرائيل عن المصريين (وهدى الناس) أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الاحكام والشرائع الالهية فكانوا على النور والهدى إلى أن اختلفوا فيه ونسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الاهواء (يجعلونه قراطيس يبدونها) فيما وافق (ويخفون كثيرا) مما لا يوافق أهواءهم. قال: والظاهر أن الاية كانت تقرا هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم وكتموا بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شئ كما قال المشركون من قبلهم - إن صحت الروايات بذلك - فعند ذلك كان غير مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود وغيرهم بالخطاب لليهود فيقول: (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) مع عدم نسخ القراءة الاولى. قال: وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما، انتهى كلامه ملخصا. وأنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله وكذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) على ما أشرنا إليه، وكذا تخصيصه قوله تعالى: (نورا وهدى للناس) باليهود فقط وكذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة: (ما أنزل الله على بشر من شئ) كر على ما فر منه. على أن قوله: إن الله لقن رسوله أن يقرا الاية عليهم ويخاطبهم بقوله: (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا بالخطاب كالوحي الاول بالغيبة كانت الاية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة وهى إحدى آياته ومرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة ولا جزء منها، وإن أراد بالتلقين غير الوحى بنزول جبرئيل بها لم تكن الاية آية ولا القراءة قراءة وأن اريد به أن الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ (تجعلونه قراطيس) الخ، النازل عليه في ضمن سورة الانعام بمكة يسع الخطاب والغيبة جميعا وأن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله
[ 275 ]
من ينهى القراءات المختلفة إلى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو القراءة عليه ونحوهما ففيه الالتزام بورود جميع الاشكال السابقة كما هو ظاهر. واعلم أن هذه الابحاث إنما تتأتى على تقدير كون الاية نازلة بمكة، وأما على ما وقع في بعض الروايات من أن الاية نزلت بالمدينة فلا محل لاكثرها. قوله تعالى: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) المراد بهذا العلم الذى علموه ولم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ليس هو العلم العادى بالنافع والضار في الحياة مما جهز الانسان بالوسائل المؤدية إليه من حس وخيال وعقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به ولا رابطة بين حصول العلوم العادية للانسان من الطرق المودعة فيه وبين المدعى وهو أن من لوازم الالوهية أن تهدى الانسان إلى سعادته وتنزل على بعض أفراده الوحى والكتاب. وليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده قوله تعالى: و (جعل لكم السمع والابصار والافئدة) (النحل: 78) وقوله: (الذى علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم) (العلق: 5)، فإن السياق كما عرفت ينافى ذلك. فالمراد بالاية تعليم ما ليس في وسع الانسان بحسب الطرق المألوفة عنده التى جهز بها أن ينال علمه. وليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه وحملة وحيبكتاب أو بغير كتاب من المعارف الالهية والاحكام والشرائع فإنها هي التى لا تسع الوسائل العادية التى عند عامة الانسان أن تنالها. ومن هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعنى قوله: (وعلمتم ما لم تعلموا) الخ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة والشرائع الالهية شئ بين يعرفونه ويعترفون به والذى كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف وقد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله: (وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله) (البقرة: 118). فالخطاب متوجه إلى غير المشركين، وليس بموجه إلى المسلمين أما أولا: فلان السياق سياق الاحتجاج، ولو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق الاحتجاج
[ 276 ]
من غير نكتة ظاهرة. وأما ثانيا: فلما فيه من تغيير مورد الخطاب، والعدول من خطاب المخاطبين بقوله: (من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى) الخ، إلى خطاب غيرهم بقوله: (وعلمتم) الخ، من غيرقرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين والمسلمين وهم اليهود المخاطبون بصدر الاية. فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين: (ما أنزل الله على بشر من شئ) عنادا وابتغاء للفتنة من طريقين: أحدهما طريق المناقضة وهو أنهم مؤمنون بالتوراة وأنها كتاب جاء به موسى عليه السلام نورا وهدى للناس ويناقضه قولهم: (ما أنزل الله على بشر من شئ) ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها ويخفون كثيرا. وثانيهما: أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب ولا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه وذلك كالمعارف الالهية والاخلاق الفاضلة والشرائع والقوانين الناظمة للاجتماع والمعدلة له أحسن نظم وتعديل الحاسمة لاعراق الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها وخاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما ينال بالا كتساب، والتى تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الالهية من التوحيد والنبوة والمعاد والاخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفى مجرد ذلك في استقرارها في المجتمع الانساني، فمجرد العلم بشئ غير دخوله في مرحلة العمل واستقراره في المستوى العام الاجتماعي، فحب التمتع من لذائذ المادة وغريزة استخدام كل شئ في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس والتسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالا للانسان يبحث فيه عن كنوز المعارف والحقائق المدفونة في فطرته ثم يبنى ويدوم عليها وفي مسيرحياته وخاصة إذا استولت هذه المادية على المجتمع واستقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات المادية لا ينفذ في شئ من أقطاره شئ من الفضائل الانسانية ولا يزال ينسى فيه ما بقى من إثاره الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعا حيوانيا ساذجا كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية واستسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها وصرفهم عن الاخرة إلى الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال
[ 277 ]
بالمعنويات ومنعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة. ولم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الامم والملل رجلا من رجال السياسة والحكومة كان يدعو إلى فضائل الاخلاق الانسانية والمعارف الطاهرة الالهية وطريق التقوى والعبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية - هو أن يتمهد الامر لبقاء سلطتها واستقامة الامر لها، وغاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية - الديمقراطية وما يشابهها - أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية الافراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل المعنوية والكمالات والمقاصد العالية الانسانية التى بقيت أسماؤها عندهم وألجاتهم الفطرة إلى إعظامها والاحترام لها كالعدل والعفة والصدق وحب الخير ونصح النوع الانساني والرأفة بالضعيف وغير ذلك فسروها بما يوافق جارى عملهم والدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم. وبالجملة فالعقل الاجتماعي والشعور المادى الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل الانسان إلى هذه المعارف الالهية والفضائل المعنوية التى لا تزال المجتمعات الانسانية على تنوعها وتطورها تتضمن أسماء كثيرة منها واحترام معانيها وأين الاخلاد إلى الارض من الترفع عن المادة والماديات. فليست إلا آثارا وبقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الانبياء ومجاهداتهم في نشر كلمة الحق وبث دين التوحيد وهداية النوع الانساني إلى سعادته الحقيقية في حياته الدنيوية والاخروية جميعا فهى منتهية إلى تعليم إلهى من طريق الوحى وإنزال الكتب السماوية. فقوله تعالى: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) احتجاج على اليهود في رد قول القائل منهم: (ما أنزل الله على بشر من شئ) بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم ولا ناله ولا ورثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق وهو طريق إنزال الكتاب والوحى من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه وهو المعارف الحقة وشرائع الدين، وقد كان عند اليهود من هذا القبيل شئ كثير ورثوه من أنبيائهم وبثه فيهم كتاب موسى.
[ 278 ]
وقد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله: (وعلمتم ما لم تعلموا) مطلق ما ينتهى من المعارف والشرائع إلى الوحى والكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى عليه السلام وإن كان الذى منه عند اليهود هو معارف التوراة وشرائعه خلافا لبعض المفسرين. وذلك أن لفظ الاية لا يلائم التخصيص فقد قيل: (وعلمتم ما لم تعلموا) الخ، ولم يقل وعلمتم به أو وعلمكم الله به. وقد قيل: (وعلمتم) الخ، من غير فاعل التعليم لان ذلك هو الانسب بسياق الاستدلال لان ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل: إن فيما عندكم علوما لا ينتهى إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذى علمكم ذلك ؟ ثم أجيب عن مجموع السؤالين بقوله: الله عز اسمه. قوله تعالى: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) لما كان الجواب واضحا بينا لا يداخله ريب، والجواب الذى هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه ولا ينتظر المسؤول المحتج عليه، أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصدى هو الجواب فقال: (قل الله) أي الذى أنزل الكتاب الذى جاء به موسى والذى علمكم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم هو الله. ولما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول وهزله الذى لا يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق وخاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى والمباهين بالعلم والكتاب أمره بأن يدعهم وشأنهم فقال: (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون). قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه ولتنذر ام القرى ومن حولها) لما نبه على أن من لوازم الالوهية أن ينزل الوحى على جماعة من البشر هم الانبياء عليه السلام، وأن هناك كتابا حقا كالتوراة التى جاء بها موسى، وامورا اخرى علمها البشر لا تنتهى إلا إلى وحى إلهى وتعليم غيبي، ذكر أن هذا القرآن أيضا كتاب إلهى منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية، ومن الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه. ومن هنا يظهرأولا: أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى دون من نزل عليه، ولذا قال: كتاب أنزلناه ولم يقل أنزلناه إليك على خلاف موارد أخر كقوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) (ص: 29) وغيره
[ 279 ]
وثانيا أن الاوصاف المذكورة للكتاب بقوله: مبارك مصدق الخ، بمنزلة الادلة على كونه نازلا من الله وليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع الله فيه البركة والخير الكثير والخير الكثير يهدى الناس للتى هي أقوم، يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم، وقوة جمعهم، ووحدة كلمتهم، وزوال الشح من نفوسهم، والضغائن من قلوبهم، وفشوا الامن والسلام، ورغد عيشهم، وطيب حياتهم وانجلاء الجهل وكل رذيلة عن ساحتهم، واستظلالهم بمظلة سعادتهم، وينتفعون به في أخراهم بالاجر العظيم والنعيم المقيم. ولو لم كان يكن من عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس فيصطادون أو كان تزويقا نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذى جاء به أنه وحى سماوي من عند الله وليس من عنده لم تستقر فيه ولا ترتب عليه هذه البركات الالهية والخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدى سالكه إلا إلى الشر ولن ينتج فساد صلاحا، وقد قال تعالى: (فإن الله لا يهدى من يضل) (النحل: 37) وقال: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) (الصف: 5) وقال: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا) (الاعراف: 58). ومن امارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من عند الله. ومن أمارات ذلك أنه يفى بالغرض الالهى من خلقه وهو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا والاخرة بالانذار بوسيلة الوحى المنزل من عنده، وهذا هو الذى يدل عليه قوله: (ولتنذر أم القرى ومن حولها) فام القرى هي مكة المشرفة، والمراد أهلها بدليل قوله: (ومن حولها) والمراد بما حولها سائر بلاد الارض التى يحيط بها أو التى تجاورها كما قيل، والكلام يدل على عناية الهية بام القرى وهى الحرم الالهى منه بدئ بالدعوة وانتشرت الكلمة. ومن هذا البيان يظهر: أن الانسب بالسياق أن يكون قوله: (ولتنذر أم القرى) وخاصة على قراءة (لينذر) بصيغة الغيبة معطوفا على قوله: (مصدق) بما يشتمل عليه من معنى الغاية، والتقدير: ليصدق ما بين يديه ولتنذر ام القرى على ما ذكره
[ 280 ]
الزمخشري، وقيل: أنه معطوف على قوله: (مبارك) والتقدير: أنزلناه لتنذر أم القرى ومن حولها. قوله تعالى: (والذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون) الخ، كأنه تفريع لما عده الله سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الذى أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذى أنزلناه مباركا ومصدقا لما بين يديه نازلا لغاية إنذار أهل الارض فالمؤمنون بالاخرة يؤمنون به لانه يدعو إلى أمن أخروى دائم ويحذرهم من عذاب خالد. ثم عرف تعالى هؤلاء المؤمنين بالاخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين وهو أنهم على صلاتهم وهى عبادتهم التى يذكرون فيها ربهم يحافظون، وهذه هي الصفة التى ختم الله به صفات المؤمنين التى وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال: (الذين هم على صلواتهم يحافظون) (المؤمنون: 9)، كما بدأ بمعناها في أولها فقال (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون: 2). وهذا هو الذى يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الاية هو الخشوع في الصلاة وهو نحو تذلل وتأثر باطني العظمة الالهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن المعروف من تفسيره أن المراد بالمحافظة على الصلوة المحافظة على وقتها.
(كلام في معنى البركة في القرآن)
ذكر الراغب في المفردات: أن أصل البرك - بفتح الباء - صدر البعير وإن استعمل في غيره ويقال له بركة - بكسر الباء - وبرك البعير ألقى ركبه، واعتبر منه معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا موضع الحرب، وبراكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذى يلزمه الابطال، وابتركت الدابة وقفت وقوفا كالبروك، وسمى محبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الالهى في الشئ، قال تعالى: لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، على ذلك: هذا ذكر مبارك أنزلناه. قال: ولما كان الخير الالهى يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، وإلى هذه
[ 281 ]
الزيادة أشير بما روى: أنه لا ينقص مال من صدقة، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال: بينى وبينك الميزان. ثم ذكر: أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات، انتهى. فالبركة بالحقيقة هي الخير المستقر في الشئ اللازم له كالبركة في النسل وهى كثرة الاعقاب أو بقاء الذكر بهم خالدا، والبركة في الطعا أن يشبع به خلق كثير مثلا، والبركة في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه. غير أن المقاصد والمآرب الدينية لما كانت مقصورة في السعادات المعنوية أو الحسية التى تنتهى إليها بالاخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر التى فيها هو الخير المعنوي أو ينتهى إليه كما أن مباركته تعالى الواقعة في قول الملائكة النازلين على إبراهيم عليه السلام: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) (هود: 73) خيرات متنوعة معنوية كالدين والقرب وغيرهما وحسية كالمال وكثرة النسل وبقاء الذكر وغيرها وجميعها مربوطة بخيرات معنوية. وعلى هذا فالبركة أعنى كون الشئ مشتملا على الخير المطلوب كالامر النسبى يختلف باختلاف الاغراض لان خيرية الشئ إنما هي بحسب الغرض المتعلق به فالغرض من الطعام ربما كان إشباعه الجائع أو أن لا يضر آكله أو أن يؤدى إلى شفاء واستقامة مزاج أو يكون نورا في الباطن يتقوى به الانسان على عبادة الله ونحو ذلك كانت البركة فيه استقرار شئ من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين الاسباب والعوامل المتعلقة به ورفعه الموانع. ومن هنا يظهر أن نزول البركة الالهية على شئ واستقرار الخير فيه لا ينافى عمل سائر العوامل فيه واجتماع الاسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفه أو حالة في شئ أن يبطل سائر الاسباب والعلل المقتضية له - وقد مر كرارا في أبحاثنا السابقة - فإنما الارادة الالهية سبب في طول الاسباب الاخر لا في عرضها. فإنزاله تعالى بركته على طعام مثلا هو أن يوفق بين الاسباب المختلفة الموجودة في أن لا تقتضي في الانسان كيفية مزاجية يضره معها هذا الطعام، وأن لا تقتضي فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو نحو ذلك، وليس معناه أن يبطل الله سائر الاسباب ويتكفل هو تعالى إيجاد الخير فيهم
[ 282 ]
من غير توسيطها فافهم ذلك. والبركة كثيرة الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في آيات كثيرة بألفاظ مختلفة وكذا ورودها في السنة، وقد تكرر ذكر البركة أيضا في العهدين في موارد كثيرة يذكر فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبى الفلاني أو إعطاء الكهنة البركة لغيرهم وقد كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنة الجارية. وقد ظهر مما تقدم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما تقدم من عبارته فقد زعموا أن عمل الاسباب الطبيعية في الاشياء لا يدع مجالا لسبب آخر يعمل فيه أو يبطل أثرها وقد ذهب عنهم أن تأثيره تعالى في الاشياء في طول سائر الا سباب لا في عرضها حتى يؤل الامر إلى تزاحم أو إبطال ونحوهما. قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا إلى قوله - ما أنزل الله) عدالله سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشد مراتبه التى لا يرتاب العقل العادى في شناعتها وفظاعتها، ولذا أوردها في سياق السؤال. والغرض من ذلك الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم والاخذ بالنصفة وخفض الجناح لصريح الحق فكأنه يقول: قل لهم: يجب على وعليكم أن لا نستكبر عن الحق ولا نستعلى على الله تعالى بارتكاب ما هو من أشد الظلم وأشنعه وهو الظلم في جنب الله فكيف يصح لكم أن تفتروا على الله كذبا وتدعوا له شركاء تتخذونها شفعاء ؟ وكيف يسوغ لى أن أدعى النبوة وأقول: أوحى إلى إن كنت لست بنبى يوحى إليه ؟ وكيف يجوزأ لقائل أن يقول: سأنزل مثل ما أنزل الله، فيسخر بحكم الله ويستهزئ بآياته ؟. ونتيجة هذه الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوة فإنهم إذا اجتنبوا الافتراء على الله بالشرك، وكف القائل (سأنزل مثل ما أنزل الله) عن مقاله، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم يصر على الوحى بقيت نبوته بلا معارض. وافتراء الكذب على الله سبحانه وهو أول المظالم المعدودة وإن كان أعم بالنسبة إلى دعوى الوحى إذا لم يوح إليه وهو ثانى المظالم المعدودة، ولذا قيل: إن ذكر الثاني بعد الاول من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأن الوحى وإعظاما لامره، لكن التأمل في سياق الكلام ووجهه إلى المشركين يعطى أن المراد بالافتراء المذكور هو اتخاذ
[ 283 ]
الشريك لله سبحانه، وإنما لم يصرح بذلك ليرتفع به غائلة ذكر الخاص بعد العام لان الغرض في المقام - كما تقدم - هو الدعوة إلى الاخذ بالنصفة والتجافى عن عصبية الجاهلية فلم يصرح بالمقصود وإنما أبهم إبهاما لئلا يتحرك بذلك عرق العصبية ولا يتنبة داعى النخوة. فقوله: (ممن افترى على الله كذبا) وقوله أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه) متبائنان من حيث المراد وإن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى منهما أعم وأخص. ويدل على ما ذكرنا ما في ذيل الاية من حديث التهديد بالعذاب والسؤال عن الشركاء والشفعاء. وأما ما قيل: أن قوله: (أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ) نزل في مسيلمة حيث ادعى النبوة فسياق الايات كما عرفت لا يلائمه بل ظاهره أن المراد به نفسه وإن كان الكلام مع الغض عن ذلك أعم. على أن سورة الانعام مكية ودعواه النبوة من الحوادث التى وقعت بعد الهجرة إلا أن هؤلاء يرون أن الاية مدنية غير مكية وسيأتى الكلام في ذلك في البحث الروائي التالى إن شاء الله. وأما قوله: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) فظاهره أنه حكاية قول واقع، وأن هناك من قال: سأنزل مثل ما أنزل الله، وأنه إنما قاله استهزاء بالقرآن الكريم حيث نسبه إلى الله سبحانه بالنزول ثم وعد الناس مثله بالانزال، ولم يقل: سأقول مثل ما قاله محمد أو سأتيكم بمثل ما أتاكم به. ولذا ذكر بعض المفسرين أنه إشارة إلى قول من قال من المشركين ل: (ونشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الاولين. وقال آخرون: إن الاية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبى سرح: إنى أنزل مثل ما أنزل الله والاية مدنية، ومنهم من قال غير ذلك كما سيجئ أن شاء الله في البحث الروائي، والاية ليست ظاهرة الانطباق على شئ من ذلك فإنها تتضمن الوعد بأمر مستقبل، وقولهم: لو نشاء لقلنا (الخ) كلام مشروطو كذا قول عبد الله - إن صحت الرواية - إخبار
[ 284 ]
عن أمر حالى جار واقع. وكيف كان فقوله: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) يحكى قولا قال بعض المشركين من العرب استكبارا على آيات الله، وإنما كرر فيه الموصول أعنى قوله: (من) ولم يتكرر في قوله: (أو قال أوحى إلى) (الخ) لان المظالم المعدودة وإن كانت ثلاثة لكنها من نظرة أخرى قسمان فالاول والثانى من الظلم في جنب الله في صورة الخضوع لجانبه والانقياد لامره، والثالث من الظلم في صورة الاستعلاء عليه والاستكبار عن آياته. قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) إلى آخر الآية، الغمر أصله ستر الشئ وإزالة أثره ولذا يطلق الغمرة على الماء الكثير الساتر لما تحته، وعلى الجهل المطبق، وعلى الشدة التى تحيط بصاحبها والغمرات الشدائد، ومنه قوله تعالى: (في غمرات الموت)، والهون والهوان الذلة. وبسط اليد معناه واضح غير ان المراد به معنى كنائى ويختلف باختلاف الموارد فبسط الغنى يده جوده بماله واحسانه لمن يستحقه وبسط الملك يده ادارته امور مملكته من غير أن يزاحمه مزاحم وبسط المأمور الغليظ الشديد يده على المجرم المأخوذ به هو نكاله وايذاؤه بضرب وزجر ونحوه. فبسط الملائكه ايديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين وظاهر السياق ان الذى تفعله الملائكه بهؤلاء الظالمين هو الذى يترجم عنه قوله اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الخ فهذه الجمل محكية عن الملائكة لا من قول الله سبحانه والتقدير: يقول الملائكه لهم اخرجوا انفسكم الخ فهم يعذبونهم بقبض ارواحهم قبضا يذوقون به أليم العذاب وهذا عذابهم حين الموت ولما ينتقلوا من الدنيا إلى ما وراءها ولهم عذاب بعد ذلك ولما تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون: (المؤمنون: 100). وبذلك يظهر ان المراد باليوم في قوله اليوم تجزون هو يوم الموت الذى يجزون فيه العذاب وهو البرزخ كما ظهر ان المراد بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم الثلاثة التى عدها الله سبحانه من اشد الظلم اعني افتراء الكذب على الله ودعوى النبوة كذبا والاستهزاء بايات الله.
[ 285 ]
ويؤيد ذلك ما ذكره الله من اسباب عذابهم من الذنوب وهو قولهم على الله غير الحق كما هو شان المفترى الكذب على الله بنسبه الشريك إليه أو بنسبه حكم تشريعي أو وحى كاذب إليه واستكبارهم عن آيات الله كما هو شان من كان يقول سأنزل مثل ما انزل الله. وكذلك قوله اخرجوا انفسكم امر تكويني لان الموت والوفاه ليس في قدرة الانسان كالحياه حتى يؤمر بذلك قال تعالى وانه هو امات وأحيا (النجم - 44) فالامر تكويني والملائكة من اسبابه والكلمة مصوغه صوغ الاستعاره بالكنايه والاستعارة التخييلية كان النفس الانسانية امر داخل في البدن وبه حياته وبخروجه عن البدن طرو الموت وذلك ان كلامه تعالى ظاهر في ان النفس ليست من جنس البدن ولا من سنخ الامور الماديه الجسمانيه وانما لها سنخ آخر من الوجود يتحد مع البدن ويتعلق به نوعا من الاتحاد والتعلق غير مادى كما تقدم بيانه في بحث علمي في الجزء الاول من الكتاب وسياتى في مواضع تناسبه ان شاء الله فالمراد بقوله اخرجوا انفسكم قطع علقه انفسهم من ابدانهم وهو الموت والقول قول الملائكة على ما يعطيه السياق. والمعنى وليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت وسكراته والملائكة آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لارواحهم وإنبائهم بأنهم واقعون في عالم الموت معذبون فيه بعذاب الهون والذلة جزاء لقولهم على الله غير الحق ولاستكبارهم عن آياته. قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) إلى آخر الاية الفرادى جمع فرد وهو الذى انفصل عن اختلاط غيره نوعا من الاختلاط ويقابله الزوج وهو الذى يختلط بغيره بنحو ويقرب منهما بحسب المعنى الوتر والشفع فالوتر ما لم ينضم إلى غيره والشفع ما انضم إلى غيره، والتخويل إعطاء الخول أي المال ونحوه الذى يقوم الانسان به بالتدبير والتصرف. والمراد بالشفعاء الارباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله فعادوا بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه، والاية تنبئ عن حقيقة الحياة الانسانية التى ستظهر له حينما يقدم على ربه بالتوفى فيشاهد حقيقة أمر نفسه وأنه مدبر بالتدبير الالهى لا غير
[ 286 ]
كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة، وأن المزاعم التى انضمت إلى حياته من التكثر بالاسباب والاعتضاد والانتصار بالاموال والاولاد والازواج والعشائر والجموع، وكذا الاستشفاع بالارباب من دون الله المؤدى إلى الاشراك كل ذلك مزاعم وأفكار باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلا. فالانسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الالهى متوجه إلى الغاية التى غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون، ولا حكومة لشئ من الاشياء في التدبير والتسيير إلالهى إلا أنها اسباب وعلل ينتهى تأثيرها إليه تعالى من غير أن تستقل بشئ من التأثير. غير أن الانسان إذا ركبته يد الخلقة وأو جدته فوقع نظره إلى زينة الحياة والاسباب والشفعاء الظاهرة وجذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها ودعته ذلك إلى التمسك بذيل الاسباب والخضوع لها، وألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الاسباب وفاطرها والذى إليه الامر كله فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية بالخضوع للاسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم والاوهام التى أوقعته فيها نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية، واستوعب حياته اللعب بالباطل والتلهى به عن الحق كما قال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) (العنكبوت: 64). فهذا هو الذى يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الانسان إذا خرج عن زى العبودية نسى ربه فأداه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى: (نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون) (الحشر: 19). لكن الانسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الاسباب والعلل والمعدات المادية التى كانت ترتبط بها من جهة البدن وتتصل بها في هذه النشأة الدنيوية وشاهد عند ذلك بطلان استقلالها واندكاك عظمتها وتأثيرها فوقعت عين بصيرته على أن امره أولا وآخرا إلى ربه لا غير أن لا رب له سواه ولا مؤثر في شأن دونه. فقوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) إشارة إلى حقيقة الامر، وقوله: وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) الخ، بيان لبطلان الاسباب الملهية له عن ربه المتخللة بين أول خلقه وبين يوم يقبض فيه إلى ربه، وقوله: (لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) بيان لسبب انقطاعه من الاسباب وسقوطها عن الاستقلال
[ 287 ]
والتأثير، وان السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم التى كان الانسان يلعب بها طول حياته الدنيا. فيتبين بذلك أن ليس لهذه الاسباب والضمائم في الانسان من النصيب إلا أوهام ومزاعم يتلهى ويلعب بها الانسان. قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) إلى آخر الاية. الفلق هو الشق. لما انتهى الكلام في الاية السابقة إلى نفى استقلال الاسباب في تأثيرها، وبطلان كون أربابهم شفعاء من دون الله المؤدى إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام إلى بيان أن هذه التى يشتغل بها الانسان عن ربه ليست الا مخلوقات لله مدبرة بتدبيره، ولا تؤثر أثرا ولا تعمل عملا في اصلاح حياة الانسان وسوقه إلى غايات خلقته الا بتقدير من الله وتدبير يدبره هو لا غير فهو تعالى الرب دون غيره. فالله سبحانه هو يشق الحب والنوى فينبت منهما النبات والشجر اللذين يرتزق الناس من حبه وثمره، وهو يخرج الحى من الميت والميت من الحى - وقد مر تفسير ذلك في الكلام على الاية 27 من سورة آل عمران - ذلكم الله لا غير فأنى تؤفكون وإلى متى تصرفون من الحق إلى الباطل. قوله تعالى: (فالق الاصباح وجعل الليل سكنا) إلى آخر الاية. الاصباح بكسر الهمزة هو الصبح وهو في الاصل مصدر، والسكن ما يسكن إليه، والحسبان جمع حساب، وقيل: هو مصدر حسب حسابا وحسبانا، وقوله: (وجعل الليل سكنا) عطف على قوله: (فالق الاصباح) ولا ضير في عطف الجملة الفعلية على الاسمية إذا اشتملت على معنى الفعل وقرئ: (وجاعل). وفي فلق الصبح وجعل الليل سكنا يسكن فيه المتحركات عن حركاتها لتجديد القوى ودفع ما عرض لها من التعب والعى والكلال من جهة حركاتها طول النهار، وجعل الشمس والقمر بما يظهر من الليل والنهار والشهور والسنين من حركاتهما في ظاهر الحس حسبانا تقدير عجيب للحركات في هده النشأة المتغيرة المتحولة ينتظم بذلك نظام المعاش الانساني ويستقيم به أمر حياتة، ولذلك ذيلها بقوله: (ذلك تقدير العزيز العليم) فهو العزيز الذى لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئا من تدبيره، والعليم الذى لا يجهل بشئ من
[ 288 ]
مصالح مملكته حتى ينظمه نظما ربما يفسد من نفسه ولا يدوم بطبعه. قوله تعالى: (وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها) إلى آخر الاية. المعنى واضح والمراد بتفصيل الايات اما تفصيلها بحسب الجعل التكويني أو تفصيلها بحسب البيان اللفظى. ولا تنافى بين ارادة مصالح الانسان في حياته وعيشته في هذه النشأة مما يتراءى لظاهر الحس من حركات هذه الاجرام العظيمة العلوية والكرات المتجاذبة السماوية، وبين كون كل من هذه الاجرام مرادا بإرادة إلهية مستقلة ومخلوقة بمشية تتعلق بنفسه وتخص شخصه فإن الجهات مختلفة، وتحقق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقق بعض آخر والارتباط والاتصال حاكم على جميع أجزاء العالم. قوله تعالى: (وهو الذى أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) إلى آخر الاية، قرئ (مستقر) بفتح القاف وكسرها وهو على القراءة الاولى اسم مكان بمعنى محل الاستقرار فيكون (مستودع) أيضا اسم مكان بمعنى محل الاستيداع وهو المكان الذى توضع فيه الوديعة. وقد وقع ذكر المستقر والمستودع في قوله تعالى: (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) (هود: 6) وفي الكلام حذف وإيجاز، والتقدير: فمنكم من هو في مستقر ومنكم من هو في مستودع وعلى القراءة الثانية وهى الرجحى (مستقر) اسم فاعل ويكون المستودع اسم مفعول لا محالة، والتقدير فمنكم مستقر ومنكم مستودع لم والظاهر أن بقوله وهو الذى أنشأكم من نفس واحدة) انتهاء الذرية الانسانية على كثرتها انتشارها إلى آدم الذى يعده القرآن الكريم مبدا للنسل الانساني الموجود، وأن المراد بالمستقر هو البعض الذى تلبس بالولادة من أفراد الانسان فاستقر في الارض التى هي المستقر لهذا النوع كما قال تعالى: (ولكم في الارض مستقر) (البقرة: 36)، والمراد بالمستودع من استودع في الاصلاب والارحام ولم يولد بعد وسيولد بعد حين، فهذا هو المناسب لمقام بيان الاية بإنشاء جميع الافراد النوعية من فرد واحد ومن الممكن أن يؤخذ مستقر ومستودع مصدرين ميميين. وقد عبر بلفظ الانشاء دون الخلق ونحوه وهو ظاهر في الدفعة وما في حكمه دون
[ 289 ]
التدريج، ويؤيد هذا المعنى أيضا ما تقدم من قوله تعالى: (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها) ومستودعها كما لا يخفى أي يعلم ما استقر منها في الارض بفعلية التكون (وما هو في طريق التكون مما لم يتكون بالفعل ولم يستقر في الارض. فالمعنى: وهو الذى أوجدكم معشر الاناسى من نفس واحدة وعمر بكم الارض إلى حين فهى مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقرا فيها وبعضكم مستودع في الاصلاب والارحام أو في الاصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها. وقد أورد المفسرون في الاية معاني أخر كقول بعضهم: إن المراد من إنشائهم من نفس واحدة خلقهم من نوع واحد من النفس وهو النفس الانسانية (أو أن المراد هو الانشاء من نوع واحد من التركيب النفسي والبدنى، وهو الحقيقة الانسانية المؤلفة من نفس وبدن إنسانيين. وكقول بعضهم: إن المراد بالمستقر الارحام وبالمستودع الاصلاب وقول بعض آخر: إن المستقر الارض والمستودع القبر، وقول بعض آخر: إن المستقر هو الرحم والمستودع الارض أو القبر، وقول بعض آخر: إن المستقر هو الروح والمستودع هو البدن، إلى غير ذلك من أقاويلهم التى لا كثير جدوى في التعرض لها. قوله تعالى: (هو الذى أنزل من السماء ماء) إلى آخر الآية. السماء هي جهة العلو فكلما علاك وأظلك فهو سماء، والمراد بقوله: (فأخرجنابه نبات كل شئ) على ما قيل، فأخرجنا بالماء الذى أنزلناه من السماء النبات والنمو الذى في كل شئ نام له قوة النبات من الكمون إلى البروز، أي أنبتنا به كل شئ نباتى كالنجم والشجر والانسان وسائر الحيوان. والخضر هو الاخضر وكأنه مخفف الخاضر، وتراكب الحب انعقاد بعضه فوق بعض كما في السنبلة، والطلع أول ما يبدو من ثمر النخل والقنوان جمع قنو وهو العذق بالكسر وهو من التمر كالعنقود من العنب، والدانية أي القريبة، والمشتبه وغير المتشابه المشاكل وغير المشاكل في النوع والشكل وغيرهما. وينع الثمر نضجه. وقد ذكر الله سبحانه أمورا مما خلقه لينظر فيها من له نظر وبصيرة فيهتدى
[ 290 ]
بالنظر فيها إلى توحيده، وهى أمور أرضية كفلق الحبة والنواة ونحو ذلك، وأمور سماوية كالليل والصبح والشمس والقمر والنجوم، وأمر راجع إلى الانسان نفسه وهو إنشاء نوعه من نفس واحدة فمستقر ومستودع، وأمور مؤلفة من الجميع كإنزال المطرمن السماء وتهيئة الغذاء من نبات وحب وثمر وإنبات ما فيه قوة النمو كالنبات والحيوان والانسان من ذلك. وقد عد النجوم آية خاصة بقوم يعلمون، وإنشاء النفوس الانسانية آية خاصة بقوم يفقهون، وتدبير نظام الانبات آية لقوم يؤمنون والمناسبة ظاهرة فإن النظر في أمر النظام أمر بسيط لا يفتقر إلى مؤونة زائدة بل يناله الفهم العادى بشرط أن يتنور بنصفة الايمان ولا يتلطخ بقذارة العناد واللجاج، وأما النظر في النجوم والاوضاع السماوية فمما لا يتخطى العلماء بهذا الشأن ممن يعرف النجوم ومواقعها وسائر الاوضاع السماوية إلى حد ما ولا يناله الفهم العام العامي إلا بمؤونة: وأما آية الانفس فإن الاطلاع عليها وعلى ما عندها من أسرار الخلقة يحتاج مضافا إلى البحث النظرى إلى مراقبة باطنية وتعمق شديد وتثبت بالغ وهو الفقه. قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم) إلى آخر الاية. الجن إما مفعول لجعلوا ومفعوله الاخر شركاء أو بدل من شركاء، وقوله: (وخلقهم) كأنه حال وإن منعه بعض النحاة وحجتهم غير واضحة. وكيف كان فالكلمة في مقام ردهم، والمعنى وجعلوا له شركاء الجن وهو خلقهم والمخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقامه. والمراد بالجن الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول: بأهرمن ويزدان. ونظيره ما عليه اليزيدية الذين يقولون بالوهية إبليس (الملك طاوس - شاه بريان) أو الجن المعروف بناء على ما نسب إلى قريش أنهم كانوا يقولون: إن الله قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة، وهذا أنسب بسياق قوله: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) وعلى هذا فالبنون والبنات هم جميعا من الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم ونسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه وتعالى عما يشركون. ولو كان المراد من هو أعم من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في سائر الملل غير الاسلام فالبرهمنية والبوذية يقولون بنظير ما قالته النصارى من بنوه المسيح
[ 291 ]
كما تقدم في الجزء الثالث من الكتاب، وسائر الوثنيين القدماء كانوا يثبتون لله سبحانه بنين وبنات من الالهة على ما يدل عليه الاثار المكتشفة ومشركو العرب كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله. قوله تعالى: (بديع السماوات والارض) إلى آخر الاية. جواب عن قولهم بالبنين والبنات، ومحصله أن لا سبيل لتحقق حقيقة الولد إلا اتخاذ الصاحبة ولم يكن له تعالى صاحبة فأنى يكون له ولد ؟. وأيضا هو تعالى الخالق لكل شئ وفاطره، والولد هو الجزء من الشئ يربيه بنوع من اللقاح وجزء الشئ والمماثل له لا يكون مخلوقا له البتة، ويجمع الجميع أنه تعالى بديع السماوات والارض الذى لا يماثله شئ من أجزائها بوجه من الوجوه فكيف يكون له صاحبة يتزوج بها أو بنون وبنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر به الله الذى لا سبيل للجهل إليه فهو بكل شئ عليم، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يؤتيه الله) الخ، (آل عمران: 79) في الجزء الثالث من الكتاب ما ينفع في المقام. قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ) إلى آخر الايتين الجملة الاولى أعنى قوله: (ذلكم الله ربكم) نتيجة متخذة من البيان المورد في الايات السابقة، والمعنى: إذا كان الامر على ما ذكر فالله الذى وصفناه هو ربكم لا غير، وقوله: (لا إله إلا هو) كالتصريح بالتوحيد الضمنى الذى تشتمل عليه الجملة السابقة، وهو مع ذلك يفيد معنى التعليل أي هو الرب ليس دونه رب لانه الله الذى ليس دونه إله وكيف يكون غيره ربا وليس بإله. وقوله: (خالق كل شئ) تعليل لقوله: (لا إله إلا هو) أي إنما انحصرت الالوهية فيه لانه خالق كل شئ من غير استثناء فلا خالق غيره لشئ من الاشياء حتى يشاركه في الالوهية، وكل شئ مخلوق له خاضع له بالعبودية فلا يعادله فيها. وقوله: (فاعبدوه) متفرع كالنتيجة على قوله (ذلكم الله ربكم) أي إذا كان الله سبحانه هو ربكم لا غير فاعبدوه، وقوله: (وهو على كل شئ وكيل) أي هو القائم على كل شئ المدبر لامره الناظم نظام وجوده وحياته وإذا كان كذلك كان من الواجب أن يتقى فلا يتخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله: (فاعبدوه) أي لا تستنكفوا
[ 292 ]
عن عبادته لانه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم. وأما قوله: (لا تدركه الابصار) فهو لدفع الدخل الذى يوهمه قوله: (وهو على كل شئ وكيل) بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة والخطاب معهم، وهو أنه إذا صار وكيلا عليهم كان أمرا جسمانيا كسائر الجسمانيات التى تتصدى الاعمال الجسمانية فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الابصار لتعاليه عن الجسمية ولوازمها، وقوله: (وهو يدرك الابصار) دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين اعتادوا بالتفكر المادى، وأخلدوا إلى الحس والحسوس وهو أنه تعالى إذا ارتفع عن تعلق الابصار به خرج عن حيطة الحس والمحسوس وبطل نوع الاتصال الوجودى الذى هو مناط الشعور والعلم، وانقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشئ كما لا يعلم به شئ، ولا يبصر شيئا كما لا يبصره شئ فأجاب تعالى عنه بقوله: (وهيدرك الابصار) ثم علل هذه الدعوى بقوله: (وهو اللطيف الخبير) واللطيف هو الرقيق النافذ في الشئ، والخبير من له الخبرة، فإذا كان تعالى محيطا بكل شئ بحقيقة معنى الاحاطة كان شاهدا على كل شئ لا يفقده ظاهر شئ من الاشياء ولا باطنه، وهو مع ذلك ذو علم وخبرة كان عالما بظواهر الاشياء وبواطنها من غير أن يشغله شئ عن شئ أو يحتجب عنه شئ بشئ فهو تعالى يدرك البصر والمبصر معا، والبصر لا يدرك إلا المبصر. وقد نسب إدراكه إلى نفس الابصار دون اولى الابصار لان الادراك الموجود فيه تعالى ليس من قبيل إدراكاتنا الحسية حق يتعلق بظواهر الاشياء من أعراضها كالبصر مثلا الذى يتعلق بالاضواء والالوان ويدرك به القرب والبعد والعظم والصغر والحركة والسكون بنحو بل الاغراض وموضوعاتها بظواهرها وبواطنها حاضرة عنده مكشوفة له غير محجوبة عنه ولا غائبة فهو تعالى يجد الابصار بحقائقها وما عندها وليست تناله. ففى الايتين من سطوح البيان وسهولة الطريق وإيجاز القول ما يحير اللب وهما مع ذلك تهديان المتدبر فيهما إلى أسرار دونها أستار.
(كلام في عموم الخلقة وانبساطها على كل شئ)
قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ) ظاهره وعموم الخلقة لكل شئ وانبساط إيجاده تعالى على كل ما له نصيب من الوجود والتحقق، وقد تكرر
[ 293 ]
هذا اللفظ أعنى قوله تعالى: (الله خالق كل شئ) منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى: (قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار) (الرعد: 16) وقال تعالى: (الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل) (الزمر: 62)، وقال تعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) (المؤمن: 62). وقد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها أقاويل مختلفة حتى من المتكلمين والفلاسفة من النصارى واليهود فضلا عن متكلمي الاسلام وفلاسفته، ولا يهمنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم وآرائهم والتكلم معهم، وإنما بحثنا هذا قرآني تفسيرى لا شغل لنا بغير ما يتحصل به الملخص من نظر القرآن الكريم بالتدبر في أطراف آياته الشريفة. نجد القرآن الكريم يسلم ما نتسلمه من أن الموضوعات الخارجية والاشياء الواقعة في دار الوجود كالسماء وكواكبها ونجومها والارض وجبالها ووهادها وسهلها وبحرها وبرها وعناصرها ومعدنياتها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والمطر والبرد والنجم والشجر والحيوان والانسان لها آثار وخواص هي أفعالها وهى تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله والمعلول إلى علته. ونجده يصدق أن للانسان كسائر الانواع الموجودة أفعالا تستند إليه وتقوم به كالاكل والشرب والمشى والقعود وكالصحة والمرض والنمو والفهم والشعور والفرح والسرور من غير أن يفرق بينه وبين غيره من الانواع في شئ من ذلك فهو يخبر عن أعماله ويأمره وينهاه، ولو لا أن له فعلا لم يرجع شئ من ذلك إلى معنى محصل. فالقرآن يزن الواحد من الانسان بعين ما نزنه نحن معشر الانسان في مجتمعنا فنعتقد أن له أفعالا وآثارا منسوبة إليه نؤاخذه في بعض أفعاله التى ترجع بنحو إلى اختياره كالاكل والشرب والمشى ونصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصحة والمرض والشباب والمشيب وغير ذلك. فالقرآن ينظم النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسنا وتؤيده عقولنا بما شفعت به من التجارب، وهو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها وأنواعها فعالة
[ 294 ]
بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها ومن غيرها وبذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود الذى لكل جزء منها ارتباط تام بكل جزء، وهذا هو قانون العلية العام في الاشياء، وهو أن كل ما يجوز له في نفسه أن يوجد وأن لا يوجد فهو إنما يوجد عن غيره فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علته، وقد أمضى القرآن الكريم صحة هذا القانون وعمومه، ولو لم يكن صحيحا أو تخلف في بعض الموارد لم يتم الاستدلال به أصلا وقد استدل القرآن به على وجود الصانع ووحدانيته وقدرته وعلمه وسائر صفاته. وكما أن المعلول من الاشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع وجود علته قضاء لحق الرابطة الوجودية التى بينهما. وقد أنفذه الله سبحانه في كلامه في موارد كثيرة استدل فيها من طريق ما له من الصفات العليا على ثبوت آثارها ومعاليلها كقوله: وهو الواحد القهار وقوله: إن الله عزيز ذو انتقام، إن الله عزيز حكيم، إن الله غفور رحيم وغير ذلك، واستدل أيضا على كثير من الحوادث والامور بثبوت أشياء اخرى يستعقب ثبوتها بعدها كقوله: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (يونس: 74) وغير ذلك مما ذكر من أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين ولو جاز أن يتخلف أثر من مؤثره إذا اجتمعت الشرائط اللازمة وارتفعت الموانع المنافية لم يصح شئ من هذه الحجج والادلة البتة. فالقرآن يسلم حكومة قانون العلية العام في الوجود، وأن لكل شئ من الاشياء الموجودة وعوارضها ولكل حادث من الحوادث الكائنة عله أو مجموع علل بها يجب وجوده وبدونها يمتنع وجوده هذا مما لا ريب فيه في بادئ التدبر. ثم إنا نجد أن الله سبحانه في كلامه يعمم خلقه على كل ما يصدق عليه شئ من أجزاء الكون قال تعالى: (قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار) (الرعد: 16) إلى غير ذلك من الايات المنقولة آنفا، وهذا ببسط عليته وفاعليته تعالى لكل شئ مع جريان العلية والمعلولية الكونية بينها جميعا كما تقدم بيانه. وقال تعالى: (الذى له ملك السماوات والارض - إلى أن قال - وخلق كل شئ فقدره تقديرا) (الفرقان: 2) وقال: (الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه: 50) وقال: (الذى خلق فسوى، والذى قدر فهدى) (الاعلى: 3) إلى غير ذلك من الايات.
[ 295 ]
وفي هذه الايات نوع آخر من البيان أخذت فيه الاشياء منسوبة إلى الخلقة وأعمالها وأنواع آثارها وحركاتها وسكناتها منسوبة إلى التقدير والهداية الالهية فإلى تقديره تعالى تنتهى خصوصيات أعمال الاشياء وآثارها كالانسان يخطو ويمشى في انتقاله المكانى والحوت يسبح والطير يطير بجناحيه قال تعالى: (فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشاء) (النور: 45) والايات في هذا المعنى كثيرة، فخصوصيات أعمال الاشياء وحدودها وأقدارها تنتهى إليه تعالى، وكذلك الغايات التى تقصدها الاشياء على اختلافها، وتشتتها وتفننها إنما تتعين لها وتروم نحوها بالهداية الالهية التى تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره، وينتهى ذلك إلى تقدير العزيز العليم. فالاشياء في جواهرها وذواتها تستند إلى الخلقة الالهية وحدود وجودها وتحولاتها وغاياتها وأهدافها في مسير وجودها وحياتها كل ذلك ينتهى إلى التقدير المنتهى إلى خصوصيات الخلقه الالهية وهناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأن إجزاء الكون متصل بعضه ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبر له إلا الله سبحانه، وهو الذى ربما سمى ببرهان اتصال التدبير. فهذا ما ينتجه التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أخرى ينبغى للباحث المتدبر أن لا يغفل عنها وهى ثلاث: إحداها: أن من الاشياء ما لا يرتاب في قبحه وشناعته كأنواع الظلم والفجور التى ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس والكبرياء والقرآن الكريم أيضا ينزهه تعالى عن كل ظلم وسوء في آيات كثيرة كقوله: (وما ربك بظلام للعبيد) (حم السجدة: 46) وقوله: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (الاعراف: 28) وغير ذلك، وهذا ينافى عموم الخلقة لكل شئ فمن الواجب أن تخصص الاية بهذا المخصص العقلي والشرعي. وينتج ذلك أن الافعال الانسانية مخلوقة للانسان وما وراءه من الاشياء ذواتها وآثارها مخلوقة لله سبحانه. على أن كون الافعال الانسانية مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الانسان، ويبطل بذلك نظام الامر والنهى والطاعة والمعصية والثواب والعقاب وإرسال الرسل
[ 296 ]
وإنزال الكتب وتشريع الشرائع. كذا ذكره جمع من الباحثين. وقد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرقوا بين الامور الحقيقية التى تنال الوجود والتحقق حقيقة، والامور الاعتبارية والجهات الوضعية التى لا ثبوت لها في الواقع، وإنما اضطر الانسان إلى تصورها أو التصديق بها حاجة الحياة، وابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع والتمدن فخلطوا بين الجهات الوجودية والعدمية في الاشياء، وقد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على الجبر والتفويض في الجزء الاول من الكتاب. والذى يناسب المقام من الكلام أن ظاهر قوله: (الله خالق كل شئ) يعمم الخلقة لكل شئ ثم قوله تعالى: (الذى أحسن كل شئ خلقه) (السجدة: 7) يثبت الحسن لكل ما خلقه الله، ويتحصل من الايتين أن كل ما يصدق عليه اسم شئ ما خلا الله فهو مخلوق، وأن كل مخلوق فهو متصف بالحسن فالخلق والحسن متلازمان في الوجود فكل شئ فهو من جهة أنه مخلوق لله أي بتمام واقعيته الخارجية حسن فلو عرض لها عارض السوء والقبح كان من جهة النسب والاضافات وأمور أخرى غير جهة واقعيته ووجوده الحقيقي الذى ينسب به إلى الله سبحانه وإلى فاعله المعروض له. ثم إنا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيئة والظلم والذنب وغيرها ذكر تسليم فلنقض بضمها إلى ما تقدم بأن هذه معان وعناوين غير حقيقيه لا يلحق الشئ من جهة انتسابه إلى الله سبحانه وخلقه له، وإنما يلحق الموضوع الذى يقوم الاثر والعمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية وظلم فإن معه من سنخه ما ليس بمعصية وإنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعي أو عقلي أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الاخر مثاله الزنا والنكاح وهما فعلان متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما ووجودهما النوعى مثلا وإنما يختلفان بالموافقة والمخالفة للشرع الالهى أو السنة الاجتماعية أو مصلحة المجتمع، وتلك أمور وضعية وجهات إضافية، والخلقة والايجاد إنما يتعلق بجهة التكوين والخارج، وأما الجهات الاضافية والعناوين الوضيعية التى تلحق الاشياء بحسب انطباقها على المصالح والمفاسد الاجتماعية المستعقبة للمدح والذم أو الثواب والعقاب بحسب ما يشخصها ويحكم بها العقل العملي والشعور الاجتماعي فإنما هي امور لا تتعدى طور الاجتماع ولا يدخل في دار التكوين أصلا إلا
[ 297 ]
آثارها التى هي أقسام الثواب والعقاب مثلا. فالفعل الكذائي كالظلم بعنوانه الذى هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع ومعصية تستتبع الذم والعقاب عند المجتمعين، وأما بحسب التكوين فليس إلا أثرا أو مجموع آثار من قبيل الحركات العارضة للانسان والعلل الخارجية وخاصة السببية الاولى الالهية إنما تنتج هذه الجهة التى هي جهة التكوين، وأما عنوانه القبيح وما يلحق به فإنما هو مولود النظر التشريع أو العقلائي لا خبر عنه بنظر التكوين كما أن زيدا الرئيس هو بعنوانه الذى هو الرئاسة موضوع اجتماعي عندنا له آثار مترتبة عليه في المجتمع كالاحترام والتقدم ونفوذ الكلمة وإدارة الامور، وأما من حيث التكوين والواقعية فإنما هو فرد من أفراد الانسان لا فرق بينه وبين الفرد المرءوس أصلا، ولا خبر في هذا النظر عن الرئاسة والاثار المرتبة عليها، وكذا الغنى والفقير والسيد والمسود والعزيز والذليل والشريف والخسيس وأمثال ذلك مما لا يحصى. وبالجملة الخلقة في عين أنها تعم كل شئ إنما تتعلق بالموضوعات والافعال الواقعة في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها وواقعيتها الخارجية، وأما ما وراء ذلك من جهات القبح والحسن والمعصية والطاعة وسائر الاوصاف والعناوين الاجتماعية الطارئة على الافعال والموضوعات فالخلق والايجاد لا يتعلق بها، وليس لها ثبوت إلا في ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعي وساحة الاعتبار والوضع. وإذا تبين أن ظرف تحقق الامر والنهى وانتشاء الحسن والقبح والطاعة والمعصية وتعلق الثواب والعقاب وارتباطهما بالفعل وكذا سائر الامور والعناوين الاجتماعية كالمولوية والعبودية والرئاسة والمرءوسية والعزة والذلة ونحو ذلك غير ظرف التكوين وساحة الواقعية الخارجية التى يتعلق بها الخلق والايجاد ظهر أن عموم الخلقة لكل شئ لا يستلزم شيئا من المفاسد التى ذكروها كبطلان نظام الامر والنهى والثواب والعقاب وغير ذلك مما تقدم ذكره. وكيف يسوغ لمن تدبر كلامه تعالى أن يفتى بمثل هذه الثنوية وكلامة مشحون بأنه خالق كل شئ وأنه الله الواحد القهار وأن قضاءه وقدره وهدايته التكوينية وربوبيته وتدبيره شامل لكل شئ لا يشذ عنه شاذ، وأن ملكه وسلطانه وإحاطته وكرسيه وسع
[ 298 ]
كل شئ، وأن له ما في السماوات والارض وما ظهر وما بطن، وكيف يستقيم شئ من هذه التعاليم الالهية المنبئة عن توحيده في ربوبيته مع وجود ما لا يحصى من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته. الثانية: أن القرآن الكريم إذ ينسب خلق كل شئ إليه تعالى ويحصر العلة الفاعلة فيه كان لازمه إبطال رابطة العلية والمعلولية بين الاشياء فلا مؤثر في الوجود إلا الله، وإنما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسميه معلولا عقيب ما نسميه عله من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة فالنار التى تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة والبرودة على السواء، والحرارة نسبتها إلى النار والثلج على السواء غير أن عادة الله جرت أن يخلق الحرارة عقيب النار والبرودة بعد الثلج من غير أن يكون هناك إيجاب واقتضاء بوجه أصلا. وهذا النظر يبطل قانون العلية والمعلولية العام الذى عليه المدار في القضاء العقلي وببطلانه ينسد باب إثبات الصانع ولا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهى يحتج به على بطلان رابطة العلية والمعلولية بين الاشياء، وكيف يسع أن يبطل القرآن الشريف حكما صريحا عقليا ويعزل العقل عن قضائه ؟ وإنما تثبت حقيته وحجيته بالحكم العقلي والقضاء الوجداني، وهو إبطال النتيجة لدليلها الذى لا يؤثر إلا إبطال النتيجة لنفسها. وهؤلاء إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطولية والعرضية وإنما يستحيل توارد العلتين على شئ إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما في طول الاخرى، مثال ذلك أن العلة التامة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك توجب وجود الحرارة ولا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان ولا تعمل فيها علتان تامتان مستقلتان بل علة معلولة لعلة. وبتقريب آخر أدق: منشأ الخطأ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه والفاعل بمعنى ما به ولاستقصاء القول في المسألة محل آخر. الثالثة: وهى قريبة المأخذ من الثانية أنهم لما وجدوا أنه تعالى ينسب خلق كل شئ إلى نفسه، وهو تعالى مع ذلك يسلم وجود رابطة العلية والمعلولية بين الاشياء أنفسها حسبوا أن ما له علة ظاهرة معلومة من الاشياء فهى العلة له دونه تعالى وإلا لزم اجتماع
[ 299 ]
علتين مستقلتين على معلول واحد ولا يبقى لتأثيره تعالى إلا حدوث الاشياء وبدء وجودها ولذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث الاشياء كحدوث الانسان بعد ما لم يكن وحدوث الارض بعد ما لم تكن وحدوث العالم بعد ما لم يكن. ويضيفون إلى ذلك وجود أمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للانسان كالروح وكالحياة في الانسان والحيوان والنبات فإن الانسان لم يظفر بعلل وجودها بعد، والبسطاء منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السحب والثلوج والامطار وذوات الاذناب والزلازل والقحط والغلاء والامراض العامة ونحو ذلك مما لا يظهر عللها الطبيعية للافهام العامية ثم كلما لاح لهم في شئ منها علته الطبيعية انهزموا منه إلى غيره وبدلوا موقفا بآخر أو سلموا للخصم. وهذا بحسب اللسان العلمي هو أن الوجود الممكن إنما يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه، وهو الذى يصر عليه جم غفير من أهل الكلام حتى صرح بعضهم: إنه لو جاز العدم على الواجب لم يضر عدمه وجود العالم تعالى الله وتقدس، وهذا - فيما نحسب - رأى إسرائيلى تسرب في أذهان عدة من الباحثين من المسلمين ومن فروع ذلك قولهم باستحالة البداء والنسخ، والرأى جار سار بين الناس مع ذلك. وكيف كان هو من أردا الاوهام والاحتجاج القرآني يخالفه فإن الله سبحانه يستدل على وجود الصانع ووحدته بالايات المشهودة في العالم وهو النظام الجارى في كل نوع من الخليقة وما يجرى عليه في مسير وجوده وأمد حياته من التغير والتحول والفعل والانفعال والمنافع التى يستدرها من ذلك ويوصلها إلى غيره كالشمس والقمر والنجوم وطلوعها وغروبها وما يستجلبه الناس من منافعها والتحولات الفصلية الطارئة على الارض والبحار والانهار والفلك التى تجرى فيها والسحب والامطار وما ينتفع به الانسان من الحيوان والنبات وما يجرى عليه من الاحوال الطبيعية والتغيرات الكونية من نطفية وجنينية وصباوة وشباب وشيب وهرم وغير ذلك. وجميع ذلك من الجهات الراجعة إلى الاشياء من حيث بقائها وموضوعاتها علل أعراضها وآثارها وكل مجموع منها في حين علة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين، وحوادث اليوم علل حوادث الغد كما أنها معلولة حوادث الامس. ولو كانت الامور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه واستقلت بما يكتنف
[ 300 ]
بها من الحوادث ويطرا عليها من الاثار والاعمال لم يستقم شئ من هذه الحجج الباهرة والبراهين القاهرة وذلك أن احتجاج القرآن بهذه الايات البينات من جهتين: إحداهما من جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: (أفى الله شك فاطر السماوات والارض (إبراهيم: 10) فإن من الضرورى أن شيئا من هذه الموجودات لم يفطر ذاته ولم يوجد نفسه، ولا أوجده شئ آخر مثله فإنه يناظره في الحاجة إلى إيجاد موجد، ولو لم ينته الامر إلى امر موجود بذاته لا يقبل طرو العدم عليه لم يوجد في الخارج شئ من هذه الاشياء فهى موجودة بإيجاد الله الذى هو في نفسه حق لا يقبل بطلانا ولا تغيرا بوجه عما هو عليه. ثم إنها إذا وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شئ شيئا من قبيل تسخين المسخن مثلا حيث تنصب الحرارة بالانفصال من المسخن إلى المتسخن فيعود المتسخن واجدا للوصف بقى المسخن بعد ذلك أو زال، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد الوجود المفاض مستقلا بنفسه واجبا بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة، وهذا هو الذى يعبر عنه الفهم الساذج الفطري بأن الاشياء لو ملكت وجود نفسها واستقلت بوجه عن ربها لم يقبل الهلاك والفساد فإن من المحال أن يستدعى الشئ بطلان نفسه أو شقاءها. وهو الذى يستفاد من أمثال قوله: (كل شئ هالك إلا وجهه) (القصص: 88) وقوله: (ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا لا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) (الفرقان: 3) ويدل على ذلك أيضا الايات الكثيرة الدالة على أن الله سبحانه هو المالك لكل شئ لا مالك غيره، وأن كل شئ مملوك له لا شأن له إلا المملوكية. فالاشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أول كونها وحدوثها كذلك تستفيض منه ذلك في حال بقائها وامتداد كونها و حياتها فلا يزال الشئ موجودا ما يفيض عليه الوجود وإذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. و ثانيتهما: من جهة الغايات كما تشير إليه الايات الواصفة للنظام الجارى في الكون متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الاخر إلى كماله
[ 301 ]
ويتوجه ما وقع في طرف من السلسلة المترتبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها ينتفع فيها الانسان مثلا بالنظام الجارى في الحيوان والنبات، والنبات مثلا بالنظام الجارى في الارض والجو المحيط بها، وتستمد الارضيات بالسماويات والسماويات بالارضيات فيعود الجميع ذا نظام متصل واحد يسوق كل نوع من الانواع إلى ما يسعد به في كونه ويفوز به في وجوده وتأبى الفطرة السليمة والشعور الحى إلا أن يقضى أن ذلك كله من تقدير عزيز عليم وتدبير حكيم خبير. وليس هذا التقدير والتدبير إلا عن فطر ذواتها وإيجاد هوياتها وصوغ أعيانها بضرب كل منها في قالب يقدر له أفعاله ويحصره في ما أريد منه في موطنه وما يؤول إليه في منازل هيئت على امتداد مسيره، والذى يقف عليه آخر ما يقف، وهى في جميع هذه المراحل على مراكب الاسباب بين سائق القدر وقائد القضاء. قال تعالى: (له الخلق والامر) (الاعراف: 54)، وقال: (ألا له الحكم) (الانعام: 62) وقال: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة: 148) وقال: (والله يحكم لا معقب لحكمه) (الرعد: 41) وقال: (هو قائم على كل نفس بما كسبت) (الرعد: 33). وكيف يسع لمتدبر في أمثال هذه الايات أن يعطف واضح معانيها وصريح مضامينها إلى أن الله سبحانه خلق ذوات الاشياء على ما لها من الخصوصيات والشخصيات ثم اعتزلها وما كان يسعه إلا أن يعتزل ويرصد فشرع الاشياء في التفاعل والتناظم بما فيها من روح العلية والمعلولية واستقلت في الفعل والانفعال وخالقها يتأملها في معزلة وينتظر يوم يفنى فيه الكل حتى يجدد لها خلقا جديدا يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الاولى وبعاقب المستكبر المستنكف، وقد صبر على خلافهم طول الزمان غير أنه ربما غضب على بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيتهم، ويمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو المعارضة والممانعة. أي أنه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدى الاسباب والعلل الكونية المستقلة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه، أو لا يؤدى إلى ما يوافق مرضاته فيداخل الاسباب الكونية بإيجاد ما يريده من الحوادث، وليس يداخل شيئا إلا بإبطال قانون العلية الجارى في المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الاسباب والعلل كان التأثير على مزعمتهم
[ 302 ]
للعلل الكونية دونه تعالى، وهذا هو السر في إصرار هؤلاء على أن المعجزات وخوارق العادات ونحوهما إنما تتحقق بالارادة الالهية وحدها ونقض قانون العلية العام، فلا محالة يتم الامر بنقض السببية الكونية وإبطال قانون العلية ويبطل بذلك أصل قولهم: إن الاشياء مفتقرة إليه تعالى في حدوثها غنية عنه في بقائها. فهؤلاء القوم لا يسعهم إلا أن يلتزموا أحد أمرين إما القول بأن العالم على سعته ونظامه الجارى فيه مستقل عن الله سبحانه غير مفتقر إليه أصلا ولا تأثير له تعالى في شئ من أجزائه ولا التحولات الواقعة فيه إلا ما كان من حاجته إليه في أول حدوثه وقد أحدثه فارتفعت الحاجة وانقطعت الخلة. أو القول بأن الله هو الخالق لكل ما يقع عليه إسم شئ والمفيض له الوجود حال الحدوث وفي حال البقاء، ولا غنى عنه تعالى لذات ولا فعل طرفة عين. وقد عرفت أن البحث القرآني يدفع أول القولين لتعاضد الايات على بسط الخلقة والسلطة الغيبية على ظاهر الاشياء وباطنها وأولها وآخرها وذواتها وأفعالها حال حدوثها وحال بقائها جميعا فالمتعين هو الثاني من القولين والبحث العقلي الدقيق يؤيد بحسب النتيجة ما هو المتحصل من الايات الكريمة. فقد ظهر من جميع ما تقدم: أن ما يظهر من قوله: (الله خالق كل شئ) على ظاهرعمومه من غير أن يتخصص بمخصص عقلي أو شرعى. قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها) الخ قال في المجمع: البصيرة البينة والدلالة التى يبصر بها الشئ على ما هو به والبصائر جمعها انتهى. وقيل البصيرة للقلب كالبصر للعين، والاصل في الباب على أي حال هو الادراك بحاسة البصر الذى يعد أقوى الادراكات، ونيلا من خارج الشئ المشهود، والابصار والعمى في الاية هو العلم والجهل أو الايمان والكفر توسعا. وكأنه تعالى يشير بقوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم) إلى ما ذكره في الايات السابقة من الحجج الباهرة على وحدانيته وانتفاء الشريك عنه، والمعنى أن هذه الحجج بصائر قد جاءتكم من جانب الله بالوحى إلى، والخطاب من قبل النبي صلى الله عليه وآله ثم ذكر للمخاطبين وهم المشركون أنهم على خيرة من أمرأنفسهم إن شاءوا أبصروا بها وإن شاءوا
[ 303 ]
عموا عنها غير أن الابصار لانفسهم والعمى عليها. ومن هنا يظهر أن المراد بالحفظ عليهم رجوع أمر نفوسهم وتدبير قلوبهم إليه فهو إنما ينفى كونه حفيظا عليهم تكوينا وإنما هو ناصح لهم. والاية كالمعترضة بين الايات السابقة والاية اللاحقة، وهو خطاب منه تعالى عن لسان نبيه كالرسول يأتي بالرسالة إلى قوم فيؤديها إليهم وفي خلال ما يؤديه يكلمهم من نفسه بما يهيجهم للسمع والطاعة ويحثهم على الانقياد بإظهار النصح ونفى الاغراض الفاسدة عن نفسه. قوله تعالى: (وكذلك نصرف الايات وليقولوا درست) الخ، وقرئ: دارست بالخطاب ودرست بالتأنيث والغيبة، قيل: إن التصريف هو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة، وقوله: (درست) من الدرس وهو التعلم والتعليم من طريق التلاوة، وعلى هذا المعنى قراءة دارست غير أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني وأما قراءة (درست) بالتأنيث والغيبة فهو من الدروس بمعنى تعفى الاثر أي اندرست هذه الاقوال كقولهم: أساطير الاولين. والمعنى: على هذا المثال نصرف الايات ونحولها بيانا لغايات كثيرة ومنها أن يستكمل هؤلاء الاشقياء شقوتهم فيتهموك يا محمد بأنك تعلمتها من بعض أهل الكتاب أو يقولوا: اندرست هذه الاقاويل وانقرض عهدها ولا نفع فيها اليوم، ولنبينه لقوم يعلمون بتطهير قلوبهم وشرح صدورهم به، وهذا كقوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (الاسراء: 82).
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقال في كتابه: (وما قدروا الله حق قدره) فلا يوصف بقدر إلا كان إعظم من ذلك. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: (وما قدروا الله حق قدره) قال: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شئ قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن
[ 304 ]
لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حق قدره. (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) يعنى من بنى إسرائيل قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتابا ؟ ! قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله: قل يا محمد من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس إلى قوله ولا آباؤكم قل الله أنزله. اقول: والمعنى الذى في صدر الرواية تقدم في البيان السابق أنه خلاف ظاهر الاية بل الظاهر أن الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شئ، هم الذين لم يقدروا الله سبحانه حق قدره. وفيه أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن السدى في قوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) قال: قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شئ. اقول: واختلاف الحاكى والمحكى يفسد المعنى، واحتمال النقل بالمعنى مع هذا الاختلاف الفاحش لا مسوغ له. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي: أنشدك بالذى أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة: أن الله يبغض الحبر السمين ؟ وكان حبرا سمينا فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ، فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى ؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شئ، فأنزل الله: (وما قدروا الله حق قدره) الاية. وفيه أخرج ابن مردويه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أم القرى مكة. وفي تفسير العياشي عن على بن أسباط قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: لم سمى النبي الامي ؟ قال نسب إلى مكة وذلك من قوله الله: (لتنذرام القرى ومن حولها) وام القرى مكة، ومن حولها الطائف. أقول: وعلى ما في الرواية يصير قوله: (لتنذر أم القرى ومن حولها) من قبيل قوله: وأنذر عشيرتك الاقربين) (الشعراء: 214) ولا ينافى الامر بإنذار طائفة خاصة عموم الرسالة لجميع الناس كما يدل عليه أمثال قوله: (لانذركم به ومن بلغ) (الانعام: 19) وقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) (الانعام: 90) وقوله: (قل
[ 305 ]
يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) (الاعراف: 158). وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: قل من أنزل الكتاب - إلى قوله - تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) قال: كانوا يكتمون ما شاءوا ويبدون ما شاءوا. قال: وفي رواية أخرى عنه عليه السلام قال: كانوا يكتبونه في القراطيس ثم يبدون ما شاءوا ويخفون ما شاءوا. قال: كل كتاب أنزل فهو عند أهل العلم. أقول: أهل العلم كناية عن أئمه أهل البيت عليه السلام. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى) الاية أخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبد الله بن أبى سرح: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ) الاية، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له. وفيه أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحى إلى ولم يوح إليه شئ) قال: نزلت في مسيلمة فيما كان يسجع ويتكهن به. (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان يكتب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فكان فيما يملى (عزيز حكيم) فيكتب (غفور رحيم) فيغيره ثم يقرأ عليه كذا كذا لما حول فيقول: نعم سواء، فرجع عن الاسلام ولحق بقريش. أقول: وروى هذا المعنى بطرق اخرى أيضا غير ما مر. وفي تفسير القمى قال: حدثنا أبى عن صفوان عن ابن مسكان عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إن عبد الله بن سعد بن أبى السرح كان أخا لعثمان من الرضاعة قدم إلى المدينة وأسلم، وكان له خط حسن، وكان إذا نزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعاه ليكتب ما نزل عليه فكان إذا قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلم: والله سميع بصير يكتب سميع عليم، وإذا قال: والله بما تعملون خبير يكتب بصير وكان يفرق بين التاء والياء، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو واحد. فارتد كافرا ورجع مكه وقال لقريش: والله ما يدرى محمد ما يقول أنا أقول
[ 306 ]
مثل ما يقول فلا ينكر على ذلك فأنا انزل مثل ما أنزل الله فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة أمر بقتله - فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أعاد فقال: هو لك، فلما مر قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: ألم أقل من رآه فليقتله ؟ فقال رجل: كانت عينى إليك يا رسول الله أن تشير إلى فأقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الانبياء لا يقتلون بالاشارة، فكان من الطلقاء. أقول: وروى هذا المعنى في الكافي وتفسير العياشي ومجمع البيان بطرق اخرى عن الباقر والصادق عليهما السلام. وذكر بعض المفسرين بعد إيراد القصة عن روايتي عكرمة والسدى: إن هاتين الروايتين باطلتان فإنه ليس في شئ من السور المكية (سميعا عليما) ولا عليما حكيما) ولا (عزيز حكيم) إلا في سورة لقمان المروى عن ابن عباس انها نزلت بعد سورة الانعام وأن الاية التى ختمت بقوله تعالى (عزيز حكيم) منها وثنتين بعدها مدنيات كما في الاتقان. قال: وما قيل من احتمال نزول هذه الاية بالمدينة لا حاجة إليه والرواية غير صحيحة. قال: وروى: أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن، ولعله قال شيئا مما ذكر في الروايات عنه كذبا وافتراءا فإن السور التى نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها شئ مما روى عنه أنه تصرف فيه كما علمت، وقد رجع إلى الاسلام قبل الفتح ولو تصرف في القرآن تصرفا أقره عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشك في الوحى لاجله لما رجع إلى الاسلام. انتهى. وقد عرفت أن الروايات المعتبرة المروية عن الصادقين عليهما السلام صريحة في وقوع قصه ابن أبى سرح في المدينة بعد الهجرة لا في مكة، والاخبار المروية من طرق أهل السنة والجماعة غير صريحه في وقوعها بمكة لو لم يكن ظهورها في الوقوع بالمدينة، وأما ما استند إليه من رواية ابن عباس في ترتيب نزول السور القرآنية فليس بأقوى اعتبارا مما طرحه. وأما ما ذكره من إسلام ابن أبى سرح قبل الفتح طوعا فقد عرفت ورود الرواية من الطريقين أنه لم يعد إلى الاسلام إلى يوم الفتح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدر دمه
[ 307 ]
يوم الفتح حتى شفع له عثمان فعفا عنه، هذا. لكن يبقى على ظاهر الروايات أن قوله تعالى: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) غير ظاهر الانطباق على قول ابن أبى سرح على ما يحكيه: (فأنا انزل مثل ما أنزل الله). على أن كون قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) نازلا بالمدينة لا يلائم هذا الاتصال الظاهر بينه وبين ما يتلوه إلى آخر الاية الثانية فلو كان نازلا بالمدينة كان الاقرب أن تكون الايتان جميعا مدنيتين. وهناك رواية اخرى تعرب عن سبب للنزول آخر وهو ما رواه عبد بن حميد عن عكرمة قال: لما نزلت: والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا، قال النضر وهو من بنى عبد الدار: والطاحنات طحنا فالعاجنات عجنا وقولا كثيرا فأنزل الله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحى إلى ولم يوح إليه شئ) الاية. وفي تفسير العياشي عن سلام عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: (اليوم تجزون عذاب الهون) قال: العطش يوم القيامة. أقول: ورواه أيضا عن الفضيل عن أبى عبد الله عليه السلام وفيه: قال: العطش. وفي الكافي بإسناده عن إبراهيم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إن الله عزوجل لما أراد أن يخلق آدم بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة بلغت من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وأخذ من كل سماء تربة وقبض قبضة اخرى من الارض السابعة العليا إلى الارض السابعة القصوى فأمر الله عزوجل كلمته فأمسك القبضة الاولى بيمينه والقبضة الاخرى بشماله - ففلق الطين فلقتين فذرا من الارض ذروا ومن السماوات ذروا فقال للذى بيمينه: منك الرسل والانبياء والاوصياء والصديقون والمؤمنون والشهداء ومن اريد كرامته، فوجب لهم ما لهم ما قال كما قال، وقال للذى بشماله: منك الجبارون والمشركون والمنافقون والطواغيت ومن أريد هوانه أو شقوته فوجب لهم ما قال كما قال. ثم إن الطينتين خلطتا جميعا وذلك قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) فالحب طينة المؤمنين التى ألقى الله عليها محبته، والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل
[ 308 ]
خير، وإنما سمى النوى من أجل أنه نأى عن الحق وتباعد منه. وقال الله عزوجل: (يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى) فالحي المؤمن الذى يخرج من طينة الكافر، والميت الذى يخرج من الحى هو الكافر الذى يخرج من طينة المؤمن فالحي المؤمن والميت الكافر وذلك قول الله عزوجل: (أو من كان ميتا فأحييناه) فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر وكان حياته حين فرق الله عزوجل بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عزوجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى (1) النور وذلك قول الله عزوجل: (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين). أقول: الرواية من أخبار الطينة وسيجئ البحث فيها فيما يناسبه من المحل إن شاء الله. وتفسير الحب والنوى بما فيها من المعنى من قبيل الباطن دون الظاهر، وقد وقع هذا المعنى في روايات أخرى غير هذه الرواية. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى (وجعل الليل سكنا) عن الحسن بن على بن بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: إن الله جعل الليل سكنا وجعل النساء سكنا، ومن السنة التزويج بالليل وإطعام الطعام. وفيه عن على بن عقبة عن أبيه عن أبى عبد الله عليه السلام قال تزوجوا بالليل فإن الله جعله سكنا ولا تطلبوا الحوائج بالليل. وفي الكافي بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبى الحسن عليه السلام قال: إن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق المؤمنين على الايمان فلا يكونون إلا مؤمنين وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه. قال: وفيهم جرت (فمستقر ومستودع) وقال: إن فلانا كان مستودعا فلما كذب علينا سلبه الله إيمانه. أقول: وفي تفسير المستقر والمستودع بقسمي الايمان روايات كثيرة مروية عنهم عليهم السلام في تفسيرى العياشي والقمى، وهذه الرواية توجهها بأنها من الجرى والانطباق. وفي تفسير العياشي عن سعد بن سعيد أبى الاصبغ قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
[ 309 ]
في قوله: (فمستقر ومستودع) قال: مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، وقد يكون مستودع الايمان ثم ينزع منه. الحديث. وفيه عن سدير قال: سمعت حمران يسأل أبا جعفر عليه السلام: عن قول الله: (بديع السماوات والارض) فقال له أبو جعفر عليه السلام: ابتدع الاشياء كلها بعلمه على غير مثال كان، وابتدع السماوات والارضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون أما تسمع قوله: (وكان عرشه على الماء) ؟. وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: (لا تدركه الابصار) قال: إحاطة الوهم ألا ترى إلى قوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم، ليس يعنى من البصر بعينه (ومن عمى فعليها) ليس يعنى عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين. أقول: ورواه في التوحيد بطريق آخر عنه عليه السلام وبإسناده عن أبى هاشم الجعفري عن الرضا عليه السلام وفيه بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبى الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لى فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والاحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد فقال أبو قرة: أنا روينا: أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية فقال: أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والانس، لا تدركه الابصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شئ ؟ أليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: بلى. قال كيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الابصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شئ ثم يقول: أنا رأيته بعينى وأحطت به علما وهو على صورة البشر أما تستحون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشئ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة: فإنه يقول. (ولقد رآه نزلة أخرى) فقال أبو الحسن عليه السلام: إن بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى حيث قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) يقول:
[ 310 ]
ما كذب فؤاد محمد ما رأته عيناه ثم اخبر بما رأى فقال: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) فآيات الله غير الله وقد قال الله: (ولا يحيطون به علما) فإذا رأته الابصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات ؟ فقال الرضا عليه السلام: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما، ولا تدركه الابصار، وليس كمثله شئ. أقول: وهذا المعنى وارد في أخبار أخر مروى. ة عنهم عليه السلام، وهناك روايات أخر تثبت الرؤية بمعنى آخر أدق يليق بساحة قدسه تعالى سنوردها إن شاء الله في تفسير سورة الاعراف، وإنما شدد النكير على الرؤية في هذه الرواية لما أن المشهور من إثبات الرؤية في عصرهم كان هو إثبات الرؤية الجسمانية بالبصر الجسماني التى ينفيها صريح العقل ونص الكتاب ففى تفسير الطبري عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه فقال له رجل عند ذلك أليس قال الله: لا تدركه الابصار ؟ فقال له عكرمة: ألست ترى السماء ؟ قال بلى، قال: فكلها ترى ؟ إلى غير ذلك من الاخبار. والذى تثبته من الرؤية صريح الرؤية الجسمانية بالعضو الباصر، وقد نفاها العقل والنقل، وقد فات عكرمة أن لو كان المراد بقوله (لا تدركه الابصار) هو نفى الاحاطة بجميع أقطار الشئ لم يكن وجه لاختصاصه به تعالى فإن شيئا من الاشياء الجسمانية ولها سطوح مختلفة الجهات كالانسان والحيوان وسائر الاجسام الارضية والاجرام السماوية لا يمس الحس الباصر منها إلا ما يواجه الشعاع الدائر بين الباصر والمبصر على ما تعينه قوانين الابصار المدونة في أبحاث المناظر والمرايا. فإنا إذا أبصرنا إنسانا مثلا فإنما نبصر منه بعض السطوح الكثيرة المحيطة ببدنه من فوق وتحت والقدام والخلف واليمين واليسار مثلا، ومن المحال أن يقع البصر على جميع ما يحيط به من مختلف السطوح فلو كان المراد من قوله: (لا تدركه الابصار) نفى هذا السنخ من الادراك البصري المحال فيه وفي غيره كان كلاما لا محصل له. وفى توحيد بإسناده عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد ؟ فقال: سبحان الله وتعالى
[ 311 ]
عن ذلك علوا كبيرا يا بن الفضل إن الابصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية، والله خالق الالوان والكيفيات.
* * *
اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين - 106. ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل - 107. ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون - 108. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الايات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون - 109. ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون - 110. ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون - 111. وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون - 112. ولتصغى إليه أفئده الذين لا يؤمنون بالاخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون - 113.
|