00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 357 ـ آخر الكتاب )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بحث روائي)

 في المجمع في قوله تعالى: " يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " (الاية) عن الباقر عليه السلام: أن امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الاشرف وكعب ابن أسيد وشعبة بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبى الحقيق وغيرهم فقالوا: يا محمد

[ 357 ]

أخبرنا عن الزانى والزانية إذا أحصنا ما حدهما ؟ فقال: وهل ترضون بقضائي في ذلك ؟ قالوا: نعم، فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبرائيل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له. فقال النبي: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له: ابن صوريا ؟ قالوا: نعم، قال: فأى رجل هو فيكم ؟ قالوا: أعلم يهودى بقى على ظهر الارض بما أنزل الله على موسى، قال: فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم عبد الله بن صوريا. فقال له النبي: إنى أنشدك الله الذى لا إله إلا هو الذى أنزل التوراة على موسى، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟ قال ابن صوريا: نعم والذى ذكرتني به لولا خشية أن يحرقنى رب التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك، ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمد ؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، قال ابن صوريا: هكذا أنزل الله في التوراة على موسى. فقال له النبي: فما ذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله ؟ قال: كنا إذا زنى الشريف تركناه، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه، ثم زنا رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه: لا، حتى ترجم فلانا - يعنون ابن عمه - فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع، فوضعنا الجلد والتحميم، وهو أن يجلدا أربعين جلدة ثم يسود وجوههما ثم يحملان على حمارين، ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم. فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به ! وما كنت لما أتينا عليك بأهل، ولكنك كنت غائبا فكرهنا ان نغتابك فقال: انه انشدني بالتوراة، ولو لا ذلك لما اخبرته به، فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده، وقال: انا اول من احيا امرك إذا اماتوه فأنزل الله فيه: " يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير " فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال: هذا مقام العائذ بالله وبك ان تذكر لنا الكثير الذى أمرت ان تعفو عنه فأعرض النبي عن ذلك. ثم سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناى ولا ينام قلبى، فقال: صدقت،

[ 358 ]

واخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمه شئ أو بامه ليس فيه من شبه ابيه شئ، فقال: ايهما علا وسبق ماء صاحبه كان الشبه له قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه ؟ قال: فاغمى على رسول الله طويلا ثم خلى عنه محمرا وجهه يفيض عرقا فقال: اللحم والدم والظفر والشحم للمرأة، والعظم والعصب والعروق للرجل قال له: صدقت، أمرك أمر نبى. فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة ؟ قال: جبرائيل قال: صفة لى فوصفه النبي فقال: أشهد أنه في التوراة كما قلت: وأنك رسول الله حقا. فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببنى النضير فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد إذا قتلوا منا قتيلا لم يقد، وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر، وإذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر، وإن كان القتيل امرأة قتلوا به الرجل منا، وبالرجل منهم رجلين منا، وبالعبد الحرمنا، و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم فأنزل الله في الرجم والقصاص الايات. اقول: وأسند الطبرسي في المجمع إلى رواية جماعة من المفسرين مضافا إلى روايته عن الباقر عليه السلام، وروى ما يقرب من صدر القصة في جوامع أهل السنة وتفاسيرهم بعدة طرق عن أبى هريرة وبراء بن عازب وعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم، والروايات متقاربة، وروى ذيل القصة في الدر المنثور عن عبد بن حميد وأبى الشيخ عن قتادة، وعن ابن جرير وابن اسحاق والطبراني وابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس. أما ما وقع في الرواية من تصديق ابن صوريا وجود حكم الرجم في التوراة وأنه المراد بقوله: " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " (الاية) فيؤيده أيضا وجود الحكم في التوراة الدائرة اليوم بنحو يقرب مما في الحديث. ففى الاصحاح (1) الثاني والعشرين من سفر التثنية من التوراة ما هذا نصه: ] (22) إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة فتنزع الشر من إسرائيل (23) إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها (24) فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وأرجموهما بالحجارة

______________________________

(1) منقول من التوراة العربية المطبوعة في كمبروج سنة 1935. (*)

[ 359 ]

حتى يموتا: الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه فتنزع الشر من وسطك }. وهذا كما ترى يخض الرجم ببعض الصور. وأما ما وقع في الرواية من سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم الدية مضافا إلى سؤالهم عن حكم زنا المحصن فقد تقدم أن الايات لا تخلو عن تأييد لذلك، والذى ذكرته الاية في حكم القصاص في القتل والجرح أنه مكتوب في التوراة فهو موجود في التوراة الدائرة اليوم: في الاصحاح (1) الحادى والعشرين من سفر الخروج من التوراة ما نصه: ] (12) من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا (13) ولكن الذى لم يتعمد بل أوقع الله في يد فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه... (23) وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس (24) وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل (25) وكيا بكى وجرحا بجرح ورضا برض } وفي الاصحاح الرابع والعشرين من سفر اللاويين ما نصه: ] (17) وإذا أمات إحد إنسانا فإنه يقتل (18) ومن أمات بهيمة فإنه يعوض عنها نفسا بنفس (19) وإذا أحدث إنسان في قرينه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به (20) كسر بكسر وعين بعين وسن بسن كما أحدث عيبا في الانسان كذلك يحدث فيه }. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو داود ابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: ان الله أنزل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون، الظالمون، الفاسقون " أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت احداهما الاخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لم يظهر عليهم فقامت الذليلة فقالت: وهل كان هذا في حيين قط: دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، ودية بعضهم نصف دية بعض ؟ انما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم فأما، إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك فكادت الحرب تهيج بينهم ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ففكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا الا ضيما وقهرا لهم، فدسوا إلى رسول الله

______________________________

(2) في المصدر السابق الذكر. (*)

[ 360 ]

صلى الله عليه وسلم فأخبر الله رسوله بأمرهم كله وما ذا أرادوا فأنزل الله: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر - إلى قوله - ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون " ثم قال: فيهم والله أنزلت. اقول: وروى القصة القمى في تفسيره في حديث طويل وفيه: أن عبد الله بن أبى هو الذى كان يتكلم عن بنى النضير - وهى العزيزة - ويخوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم، وأنه كان هو القائل: " ان أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا. والرواية الاولى أصدق متنا من هذه لان مضمونها أوفق واكثر انطباقا على سياق الايات فإن اوائل الايات وخاصة الايتين الاوليين لا تنطبق سياقا على ما ذكر من قصة الدية بين بنى النضير وبنى قريظة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، وليس من البعيد ان يكون الرواية من قبيل تطبيق القصة على القرآن على حد كثير من روايات اسباب النزول، فكأن الراوى وجد القصة تنطبق على مثل قوله: " وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس " (الاية) وما قبلها، ثم رأى اتصال الايات بادئة من قوله: " يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " (الاية) فأخذ جميع الايات نازلة في هذه القصة، وقد غفل عن قصة الرجم. والله أعلم. وفى تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ان الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء، وفتح مسامع قلبه، ووكل به ملكا يسدده، وإذا أراد الله بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء، وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله. ثم تلا هذه الاية: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا " (الاية) وقال: " ان الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون " وقال: " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ". وفى الكافي بإسناده عن السكوني عن أبى عبد الله قال: السحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغى والرشوة في الحكم وأجر الكاهن. اقول: ما ذكره في الرواية إنما هو تعداد من غير حصر، واقسام السحت كثيرة كما في الروايات، وفى هذا المعنى وما يقرب منه روايات كثيرة من طرق ائمة اهل البيت عليهم السلام. وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد عن على بن ابى طالب انه سئل عن السحت

[ 361 ]

فقال: الرشا. فقيل له: في الحكم ؟ قال: ذاك الكفر. أقول: قوله: " ذاك الكفر " كأنه إشارة إلى ما وقع بين الايات المبحوث عنها من قوله تعالى في سياق ذم السحت والارتشاء في الحكم: " ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون " وقد تكرر في الروايات عن الباقر والصادق عليهما السلام أنهما قالا: وأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله وبرسوله، والروايات في تفسير السحت وحرمته كثيرة مروية من طرق الشيعة وأهل السنة مودعة في جوامعهم. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " فإن جاؤك فاحكم بينهم " (الاية) أخرج ابن أبى حاتم والنحاس في ناسخه والطبراني والحاكم - وصححه - وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من هذه السورة - يعنى من المائدة -: آية القلائد وقوله: " فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا. وفيه أخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " قال: نسختها هذه الاية: " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ". اقول: وروى أيضا عن عبد الرزاق عن عكرمة مثله، والمتحصل من مضمون الايات لا يوافق هذا النسخ فان الاتصال الظاهر من سياق الايات يقضى بنزولها دفعة واحدة ولا معنى حينئذ لنسخ بعضها بعضا، على أن قوله تعالى: " وأ احكم بينهم بما أنزل الله " آية غير مستقلة في معناها بل مرتبطة بما تقدمها ولا وجه على هذا لكونها ناسخة، ولو صح النسخ مع ذلك كان ما قبلها أعنى قوله: " فاحكم بينهم بما أنزل الله "، في الاية السابقة أحق بالنسخ منها. على أنك قد عرفت أن الاظهر رجوع الضمير في قوله تعالى: " بينهم " إلى الناس مطلقا دون أهل الكتاب أو اليهود خاصة، على أنه قد تقدم في أوائل الكلام على السورة: أن سورة المائدة ناسخة غير منسوخة. وفى تفسير العياشي في قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " (الاية) عن أبى عمرو الزبيري عن أبى عبد الله عليه السلام: أن مما استحقت به الامامة: التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التى توجب النار ثم العلم المنور - وفي نسخة: المكنون - بجميع ما يحتاج إليه الامة من حلالها وحرامها، والعلم بكتابها خاصه وعامه، والمحكم والمتشابه

[ 362 ]

ودقائق علمه، وغرائب تأويله، وناسخه ومنسوخه. قلت: وما الحجة بأن الامام لا يكون إلا عالما بهذه الاشياء التى ذكرت ؟ قال: قول الله فيمن أذن الله لهم في الحكومة وجعلهم أهلها: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار " فهذه الائمة دون الانبياء الذين يربون الناس بعلمهم، وأما الاحبار فهم العلماء دون الربانيين، ثم أخبر فقال: " بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " ولم يقل: بما حملوا منه. اقول: وهذا استدلال لطيف منه عليه السلام يظهر به عجيب معنى الاية وهو معنى أدق مما تقدم بيانه ومحصله: أن الترتيب الذى اتخذته الاية في العد فذكرت الانبياء ثم الربانيين ثم الاحبار يدل على ترتبهم بحسب الفضل والكمال: فالربانيون دون الانبياء وفوق الاحبار، والاحبار هم علماء الدين الذين حملوا علمه بالتعليم والتعلم. وقد أخبر الله سبحانه عن نحو علم الربانيين بقوله: " بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " ولو كان المراد بذلك نحو علم العلماء لقيل: بما حملوا كما قال: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها " الاية (الجمعة: 5) فإن الاستحفاظ هو سؤال الحفظ، ومعناه التكليف بالحفظ نظير قوله: " ليسأل الصادقين عن صدقهم " (الاحزاب: 8) أي ليكلفهم بأن يظهروا ما كمن في نفوسهم من صفة الصدق وهذا الحفظ ثم الشهادة على الكتاب لا يتمان إلا مع عصمة ليست من شأن غير الامام المعصوم من قبل الله سبحانه فإن الله سبحانه بنى إذنه لهم في الحكم على حفظهم للكتاب، واعتبر شهادتهم بانيا ذلك عليه، ومن المحال أن يعتبر شهادتهم على الكتاب، وهى التى يثبت بها الكتاب مع جواز الخطأ والغلط عليهم. فهذا الحفظ والشهادة غير الحفظ والشهادة اللذين بيننا معاشر الناس، بل من قبيل حفظ الاعمال والشهادة التى تقدم في قوله تعالى: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " (البقرة: 143) وقد مر في الجزء الاول من الكتاب. ونسبة هذا الحفظ والشهادة إلى الجميع مع كون القائم بهما البعض كنسبة الشهادة على الاعمال إلى جميع الامة مع كون القائم بها بعضهم، وهو استعمال شائع في القرآن نظير قوله تعالى: " ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " (الجاثية: 16). وهذا لا ينافى تكليف الاحبار بالحفظ والشهادة وأخذ الميثاق منهم بذلك لانه ثبوت شرعى اعتباري غير الثبوت الحقيقي الذى يتوقف على حفظ حقيقي خال عن الغلط

[ 363 ]

والخطأ، والدين الالهى كما لا يتم من دون هذا لا يتم من دون ذاك. فثبت ان هناك منزلة بين منزلتي الانبياء والاحبار، وهى منزلة الائمة وقد أخبر به الله سبحانه في قوله: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " (السجدة: 24) ولا ينافيه قوله: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " (الانبياء: 73) فإن اجتماع النبوة والامامة في جماعة لا ينافى افتراقهما في غيرهم، وقد تقدم شطر من الكلام في الامامة في قوله تعالى: " واذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " الاية (البقرة: 124) في الجزء الاول من الكتاب. وبالجملة للربانيين والائمة وهم البرازخ بين الانبياء والاحبار العلم بحق الكتاب والشهادة عليه بحق الشهادة. وهذا في الربانيين والائمة من بنى إسرائيل لكن الاية تدل على أن ذلك لكون التوراة كتابا منزلا من عند الله سبحانه مشتملا على هدى ونور أي المعارف الاعتقادية والعملية التى تحتاج إليها الامة، وإذا كان ذلك هو المستدعى لهذا الاستحفاظ والشهادة للذين لا يقوم بهما إلا الربانيون والائمة كان هذا حال كل كتاب منزل من عند الله مشتمل على معارف إلهية وأحكام عملية وبذلك يثبت المطلوب. فقوله عليه السلام: " فهذه الائمة دون الانبياء " أي هم أخفض منزلة من الانبياء بحسب الترتيب المأخوذ في الاية كما أن الاحبار - وهم العلماء - دون الربانيين، وقوله: " يربون الناس بعلمهم " ظاهر في أنه عليه السلام أخذ لفظ الربانى من مادة التربية دون الربوبية، وقد اتضح معاني بقية فقرات الرواية بما قدمناه من محصل المعنى. ولعل هذا المعنى هو مراده عليه السلام فيما رواه العياشي ايضا عن مالك الجهنى قال: قال أبو جعفر عليه السلام: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور - إلى قوله - بما استحفظوا من كتاب الله " قال: فينا نزلت. وفي تفسير البرهان في قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون " عن الكافي بإسناده عن عبد الله بن مسكان رفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من حكم في درهمين بحكم جورثم جبر عليه كان من أهل هذه الاية: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون " فقلت: وكيف يجبر عليه ؟ فقال: يكون له سوط وسجن فيحكم عليه فإن رضى بحكمه وإلا ضربه بسوطه وحبسه في سجنه.

[ 364 ]

اقول: ورواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن ابن مسكان مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواه العياشي في تفسيره مرسلا عنه. ومعنى صدر الحديث مروى بطرق أخرى أيضا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. والمراد بتقييد الحكم بالجبر إفادة أن يكون الحكم مما يترتب عليه الاثر فيكون حكما فصلا بحسب نفسه بالطبع وإلا فمجرد الانشاء لا يسمى حكما. وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون، والظالمون، والفاسقون " في اليهود خاصة. اقول: فيه: أن الايات الثلاث مطلقة لا دليل على تقييدها، والمورد لا يوجب التصرف في إطلاق اللفظ، على أن مورد الاية الثالثة النصارى دون اليهود، على أن ابن عباس قد روى عنه ما يناقض ذلك. وفيه: أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الايات في المائدة قلت: زعم قوم أنها نزلت على بنى إسرائيل ولم تنزل علينا قال: اقرء ما قبلها وما بعدها فقرأت عليه فقال: لا بل نزلت علينا، ثم لقيت مقسما - مولى ابن عباس فسألته عن هؤلاء الايات التى في المائدة قلت: زعم قوم أنها نزلت على بنى إسرائيل ولم ينزل علينا قال: إنه نزل على بنى إسرائيل ونزل علينا، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم. ثم دخلت على على بن الحسين فسألته عن هذه الايات التى في المائدة وحدثته أنى سألت عنها سعيد بن جبير ومقسما قال: فما قال مقسم ؟ فأخبرته بها، قال قال: صدق ولكنه كفر ليس ككفر الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال فقال سعيد بن جبير لابنه: كيف رأيته ؟ (1) لقد وجدت له فضلا عليك وعلى مقسم. اقول: قد ظهر انطباق الرواية على ما يظهر من الاية فيما تقدم من البيان. وفى الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عنه عليه السلام في قوله تعالى: " فمن تصدق به فهو كفارة له " الاية قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفى من جراح أو غيره.

______________________________

(1) قال ظ.

[ 365 ]

وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن رجل من الانصار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " فمن تصدق به فهو كفارة له " قال: الرجل تكسر سنه أو تقطع يده أو يقطع الشئ أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك فيحط عنه قدر خطاياه فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان الثلث فثلث خطاياه، وان كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك. اقول: وروى مثله أيضا عن الديلمى عن ابن عمر، ولعل ما وقع في هذه الرواية والرواية السابقة عليها من انقسام التكفير بحسب انقسام العفو مستفاد من تنزيل الدية شرعا - وهى منقسمة - منزلة القصاص ثم توزين القصاص والدية جميعا بمغفرة الذنوب وهى أيضا منقسمة فينطبق البعض على البعض كما انطبق الكل على الكل. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال: لكل نبى شريعة وطريق. وفى تفسير البرهان في قوله تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون " عن الكافي بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه رفعه عن أبى عبد الله عليه السلام قال القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل يقضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة. وقال عليه السلام: الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية. اقول: وفى المعنيين جميعا أخبار كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة مودعة في أخبار القضاء والشهادات، والاية تشعر بل تدل على المعنيين جميعا. أما بالنسبة إلى المعنى الاول فلان الحكم بالجور سواء علم به أو حكم بغير علم فكان جورا بالمصادفة وكذا الحكم بالحق من غير علم كل ذلك من اتباع الهوى وقد نهى الله عنه بقوله: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " فحذر اتباع الهوى في الحكم وقابل به الحكم بالحق فعلم بذلك أن العلم بالحق شرط في جواز الحكم وإلا لم يجز لان فيه اتباع الهوى. على أنه يصدق عليه حكم الجاهلية المقابل لحكم الله تعالى. وأما المعنى الثاني وهو كون الحكم منقسما إلى حكم الجاهلية وحكم الله فهو مستفاد من ظاهر قوله تعالى: " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما " من حيث

[ 366 ]

المقابلة الواقعة بين الحكمين، والله أعلم. وفى تفسير الطبري عن قتادة: في قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار " قال: أما الربانيون ففقهاء اليهود وأما الاحبار فعلماؤهم، قال وذكر لنا أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال - لما أنزلت هذه الاية: نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من اهل الاديان. اقول: ورواه السيوطي أيضا في قوله تعالى: " إنا أنزلنا التوراة " (الاية) عن عبد بن حميد وعن ابن جرير عن قتادة. وظاهر الرواية أن المنقول من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعلق بالاية أي أن الاية هي الحجة في ذلك فيشكل بأن الاية لا تدل إلا على الحكم بالتوراة على اليهود لقوله تعالى: " للذين هادوا " لا على غير اليهود ولا على الحكم بغير التوراة كما هو ظاهر الرواية إلا أن يراد بقوله: " نحن نحكم " أن الانبياء يحكمون كذا وكذا وهو مع كونه معنى سخيفا لا يرتبط بالاية. والظاهر أن بعض الرواة غلط في نقل الاية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما قاله بعد نزول قوله تعالى: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق فاحكم بينهم بما أنزل الله " (الايات) وينطبق على ما تقدم أن ظاهر الاية رجوع الضمير في قوله: " بينهم " إلى الناس دون اليهود خاصة. فأخذ الراوى الاية مكان الاية. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين - 51. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين - 52. ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين - 53. يا أيها الذين آمنوا من

[ 367 ]

يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم - 54. (بيان) السير الاجمالي في هذه الايات يوجب التوقف في اتصال هذه الايات بما قبلها، وكذا في اتصال ما بعدها كقوله تعالى: " انما وليكم الله ورسوله " (إلى آخر الايتين) ثم اتصال قوله بعدهما: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا " إلى تمام عدة آيات ثم في اتصال قوله: " يا أيها الرسول بلغ " (الاية). أما هذه الايات الاربع فإنها تذكر اليهود والنصارى، والقرآن لم يكن ليذكر أمرهم في آياته المكية لعدم مسيس الحاجة إليه يومئذ بل إنما يتعرض لحالهم في المدينة من الايات، ولا فيما نزلت منها في أوائل الهجرة فإن المسلمين إنما كانوا مبتلين يومئذ بمخالطة اليهود ومعاشرتهم أو موادعتهم أو دفع كيدهم ومكرهم خاصة دون النصارى إلا في النصف الاخير من زمن إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فلعل الايات الاربع نزلت فيه، ولعل المراد بالفتح فيها فتح مكة. لكن تقدم أن الاعتماد على نزول سورة المائدة في سنة حجة الوداع وقد فتحت مكة فهل المراد بالفتح فتح آخر غير فتح مكة ؟ أو أن هذه الايات نزلت قبل فتح مكة وقبل نزول السورة جميعا ؟. ثم ان الاية الاخيرة أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم " (الاية) هل هي متصلة بالايات الثلاث المتقدمة عليها ؟ ومن المراد بهؤلاء القوم الذين تتوقع ردتهم ؟ ومن هؤلاء الاخرون الذين وعد الله انه سيأتي بهم ؟ كل واحد منها أمر يزيد إبهاما على إبهام، وقد تشتت ما ورد من أسباب النزول وليست إلا أنظار المسفرين من السلف كغالب أسباب النزول المنقولة في الايات، وهذا الاختلاف الفاحش أيضا مما يشوش الذهن في تفهم المعنى، أضف إلى ذلك كله مخالطة التعصبات المذهبية الانظار القاضية فيها كما سيمر بك شواهد تشهد على ذلك من الروايات وأقوال المفسرين من السلف والخلف.

[ 368 ]

والذى يعطيه التدبر في الايات: أن هذه الايات الاربع على ما نقلناها متصلة الاجزاء منقطعة عما قبلها وما بعدها، وأن الاية الرابعة من متممات الغرض المقصود بيانه فيها غير أنه يجب التحرز في فهم معناها عن المساهلات والمسامحات التى جوزتها انظار الباحثين من المفسرين في الايات وخاصة فيما ذكر فيها من الاوصاف والنعوت على ما سيجئ. وإجمال ما يتحصل من الايات أن الله سبحانه يحذر المؤمنين فيها اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، ويهددهم في ذلك أشد التهديد، ويشير في ملحمة قرآنية إلى ما يؤول إليه أمر هذه الموالاة من انهدام بنية السيرة الدينية وأن الله سيبعث قوما يقومون بالامر ويعيدون بينة الدين إلى عمارتها الاصلية. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض قال " في المجمع: الاتخاذ هو الاعتماد على الشئ لاعداده لامر، وهو افتعال من الاخذ وأصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاء، وأدغمتها في التاء التى بعدها ومثله الاتعاد من الوعد، والاخذ يكون على وجوه تقول: أخذ الكتاب إذا تناوله، وأخذ القربان إذا تقبله، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه، وأصله جواز الشئ من جهة إلى جهة من الجهات. انتهى. وقال الراغب في المفردات: الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد (انتهى موضع الحاجة) وسيأتى استيفاء البحث في معنى الولاية. وبالجملة الولاية نوع اقتراب من الشئ يوجب ارتفاع الموانع والحجب بينهما من حيث ما اقترب منه لاجله فإن كان من جهة التقوى والانتصار فالولى هو الناصر الذى لا يمنعه عن نصرة من اقترب منه شئ، وإن كان من جهة الالتيام في المعاشرة والمحبة التى هي الانجذاب الروحي فالولى هو المحبوب الذى لا يملك الانسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته، ويعطيه فيما يهواه، وان كان من جهة النسب فالولى هو الذى يرثه مثلا من غير مانع يمنعه، وإن كان من جهة الطاعة فالولى هو الذى يحكم في أمره بما يشاء. ولم يقيد الله سبحانه في قوله: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) الولاية بشئ من الخصوصيات والقيود فهى مطلقة غير أن قوله تعالى في الاية التالية: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة)، يدل على أن المراد بالولاية نوع من القرب والاتصال يناسب هذا الذى اعتذروا به بقولهم: (نخشى أن تصيبنا دائرة)

[ 369 ]

وهى الدولة تدور عليهم، وكما أن الدائرة من الجائز أن تصيبهم من غير اليهود والنصارى فيتأيدوا بنصرة الطائفتين بأخذهما أولياء النصرة كذلك يجوز أن تصيبهم من نفس اليهود والنصارى فينجوا منها باتخاذهما أولياء المحبة والخلطة. والولاية بمعنى قرب المحبة والخلطة تجمع الفائدتين جميعا أعنى فائدة النصرة والامتزاج الروحي فهو المراد بالاية، وسيجئ ما في القيود والصفات المأخوذة في الاية الاخيرة: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه "، من الدلالة على أن المراد بالولاية هاهنا ولاية المحبة لا غير. وقد أصر بعض المفسرين على أن المراد بالولاية ولاية النصرة وهى التى تجرى بين إنسانين أو قومين من الحلف أو العهد على نصرة أحد الوليين الاخر عند الحاجة، واستدل على ذلك بما محصله أن الايات - كما يلوح من ظاهرها - منزلة قبل حجة الوداع في أوائل الهجرة أيام كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون لم يفرغوا من أمر يهود المدينة ومن حولهم من يهود فدك وخيبر وغيرهم، ومن ورائهم النصارى وكان بين طوائف من العرب وبينهم عقود من ولاية النصرة والحلف، وربما انطبق على ما ورد في أسباب النزول أن عبادة بن الصامت من بنى عوف ابن الخزرج تبرأ من بنى قينقاع لما حاربت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان بينه وبينهم ولاية حلف، لكن عبد الله بن أبى رأس المنافقين لم يتبرء منهم وسارع فيهم قائلا: نخشى أن تصيبنا دائرة. أو ما ورد في قصة أبى لبابة لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج بنى قريظة من حصنهم وينزلهم على حكمه، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: أنه الذبح. أو ما ورد أن بعضهم كان يكاتب نصارى الشام بأخبار المدينة، وبعضهم كان يكاتب يهود المدينة لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض. أو ما ورد أن بعضهم قال: إنه يلحق بفلان اليهودي أو بفلان النصراني إثر ما نزل بهم يوم أحد من القتل والهزيمة. وهؤلاء الروايات كالمتفقة في أن القائلين: " نخشى أن تصيبنا دائرة " كانوا هم المنافقين، وبالجملة فالايات إنما تنهى عن المخالفة وولاية النصرة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى. وقد أكد ذلك بعضهم حتى ادعى أن كون الولاية في الاية بمعنى ولاية المحبة والاعتماد مما تتبرء منه لغة الاية في مفرداتها وسياقها كما يتبرء منه سبب النزول والحالة العامة التى كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل.

[ 370 ]

وكيف يصح حمل الاية على النهى عن معاشرتهم والاختلاط بهم وإن كانوا ذوى ذمة أو عهد، وقد كان اليهود يقيمون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع الصحابة في المدينة، وكانوا يعاملونهم بالمساواة التامة (انتهى ما ذكره ملخصا). وهذا كله من التساهل في تحصيل معنى الاية أما ما ذكروه من كون الايات نازلة قبل عام حجة الوداع وهى سنة نزول سورة المائدة فمما ليس فيه كثير إشكال لكنه لا يوجب كون الولاية بمعنى المحالفة دون ولاية المحبة. وأما ما ذكروه من أسباب النزول ودلالتها على كون الايات نازلة في خصوص المحالفة وولاية النصرة التى كانت بين أقوام من العرب وبين اليهود والنصارى. ففيه (أولا) أن أسباب النزول في نفسها متعارضة لا ترجع إلى معنى واحد يوثق ويعتمد عليه، و (ثانيا) انها لا توجه ولاية النصارى وإن وجهت ولاية اليهود بوجه إذ لم يكن بين العرب من المسلمين وبين النصارى ولاية الحلف يومئذ، و (ثالثا) أنا نصدق أسباب النزول فيما تقتضيها إلا أنك قد عرفت فيما مر أن حل الروايات الواردة في أسباب النزول على ضعفها متضمنة لتطبيق الحوادث المنقولة تاريخا على الايات القرآنية المناسبة لها، وهذا أيضا لا بأس به. وأما الحكم بأن الوقائع المذكورة فيها تخصص عموم آية من الايات القرآنية أو تقيد إطلاقها بحسب اللفظ فمما لا ينبغى التفوه به، ولا أن الظاهر المتفاهم يساعده. ولو تخصص أو تقيد ظاهر الايات بخصوصية في سبب النزول غير مأخوذة في لفظ الاية لمات القرآن بموت من نزل فيهم، وانقطع الحجاج به في واقعة من الوقائع التى بعد عصر التنزيل، ولا يوافقه كتاب ولا سنة ولا عقل سليم. وأما ما ذكره بعضهم: " أن أخذ الولاية بمعنى المحبة والاعتماد خطأ تتبرء منه لغة الاية في مفرداتها وسياقها كما يتبرء منه أسباب النزول والحالة العامة التى كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل " فمما لا يرجع إلى معنى محصل بعد التأمل فيه فإن ما ذكره من تبرى أسباب النزول وما ذكره من الحالة العامة أن تشمل الايات ذلك وتصدق عليه إذا لم يأب ظهور الاية من الانطباق عليه، وأما قصر الدلالة على مورد النزول والحالة العامة الموجودة وقتئذ فقد عرفت أنه لا دليل عليه بل الدليل - وهو حجية الاية في ظهورها المطلق - على خلافه فقد عرفت أن الاية مطلقة من غير دليل على تقييدها فتكون حجة في المعنى المطلق، وهو الولاية بمعنى المحبة.

[ 371 ]

وما ذكره من تبرى الاية بمفرداتها وسياقها من ذلك من عجيب الكلام، وليت شعرى ما الذى قصده من هذا التبرى الذى وصفه وحمله على مفردات الاية ولم يقنع بذلك دون أن عطف عليها سياقها. وكيف تتبرء من ذلك مفردات الاية أو سياقها وقد وقع فيها بعد قوله: " لا تتخذوا اليهود والنصارى " أولياء قوله تعالى: " بعضهم أولياء بعض " ولا ريب في أن المراد بهذه الولاية ولاية المحبة والاتحاد والمودة، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لان يقال: لا تحالفوا اليهود والنصارى بعضهم حلفاء بعض، وإنما كان ما يكون الوحدة بين اليهود ويرد بعضهم إلى بعض هو ولاية المحبة القومية، وكذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد إلا مجرد المحبة والمودة من جهة الدين. وكذا قوله تعالى بعد ذلك: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فإن الاعتبار الذى يوجب كون موالى جماعة من تلك الجماعة هو أن المحبة والمودة تجمع المتفرقات وتوحد الارواح المختلفة وتتوحد بذلك الادراكات، وترتبط به الاخلاق، وتتشابه الافعال، وترى المتحابين بعد استقرار ولاية المحبة كأنهما شخص واحد ذو نفسية واحدة، وإرادة واحدة، وفعل واحد لا يخطئ أحدهما الاخرة في مسير الحياة، ومستوى العشرة. فهذا هو الذى يوجب كون من تولى قوما منهم ولحوقه بهم، وقد قيل: من أحب قوما فهو منهم، والمرء مع من أحب، وقد قال تعالى في نظيره نهيا عن موالاة المشركين: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم اولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق - إلى ان قال بعد عدة آيات - ومن يتولهم منكم فاولئك هم الظالمون " (الممتحنة: 9) وقال تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم " (المجادلة: 22)، وقال تعالى في تولى الكافرين - واللفظ عام يشمل اليهود والنصارى والمشركين جميعا -: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه " (آل عمران: 28) والاية صريحة في ولاية المودة والمحبة دون الحلف والعهد، وقد كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين اليهود، وكذا بينه وبين المشركين يومئذ أعنى زمان نزول سورة آل عمران معاهدات وموادعات. وبالجملة الولاية التى تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية، المحبة والمودة

[ 372 ]

دون الحلف والنصرة وهو ظاهر، ولو كان المراد بقوله: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " أن من حالفهم على النصرة بعد هذا النهى فإنه لمعصيته النهى ظالم ملحق باولئك الظالمين في الظلم كان معنى - على ابتذاله - بعيدا من اللفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام. ومن دأب القرآن في كل ما ينهى عن أمر كان جائزا سائغا قبل النهى أن يشير إليه رعاية لجانب الحكم المشروع سابقا، واحتراما للسيرة النبوية الجارية قبله كقوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (التوبة: 28) وقوله: " فالان باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا وشربوا " الاية (البقرة:: 187) وقوله: " لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج " (الاحزاب: 52) إلى غير ذلك. فقد تبين أن لغة الاية في مفرداتها وسياقها لا تتبرء من كون المراد بالولاية ولاية المحبة والمودة، بل إن تبرأت فإنما تتبرء من غيرها. وأما قولهم: إن المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجئ أن السياق لا يساعده فالمراد بقوله: " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " النهى عن موادتهم الموجب لتجاذب الارواح والنفوس الذى يفضى إلى التأثير والتأثر الاخلاقيين فإن ذلك يقلب حال مجتمعهم من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية. وإنما عبر عنهم باليهود والنصارى، ولم يعبر بأهل الكتاب كما عبر بمثله في الاية الاتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الاشعار بقربهم من المسلمين نوعا من القرب يوجب إثارة المحبة فلا يناسب النهى عن اتخاذهم أولياء، وأما ما في الاية الاتية: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهى عن اتخاذهم أولياء فتوصيفهم باتخاذ دين الله هزوا ولعبا يقلب حال ذلك الوصف - أعنى كونهم ذوى كتاب - من المدح إلى الذم فإن من أوتى الكتاب الداعي إلى الحق والمبين له ثم جعل يستهزء بدين الحق ويلعب به أحق وأحرى به أن لا يتخذ وليا، وتجتنب معاشرته ومخالطته وموادته. وأما قوله تعالى: " بعضهم أولياء بعض " فالمراد بالولاية - كما تقدم - ولاية المحبة المستلزمة لتقارب نفوسهم، وتجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى، والاستكبار عن الحق وقبوله، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، وتناصرهم على النبي

[ 373 ]

صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة من الملية لكن يبعث القوم على الاتفاق، ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الاسلام يدعوهم إلى الحق، ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى، والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا. فهذا هو الذى جعل الطائفتين: اليهود والنصارى - على ما بينهما من الشقاق والعداوة الشديدة - مجتمعا واحد يقترب بعضه من بعض، ويرتد بعضه إلى بعض، يتولى اليهود النصارى وبالعكس، ويتولى بعض اليهود بعضا، وبعض النصارى بعضا، وهذا معنى إبهام الجملة: " بعضهم أولياء بعض " في مفرداتها، والجملة في موضع التعليل لقوله: " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " والمعنى لا تتخذوهم أولياء لانهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة. وربما أمكن أن يستفاد من قوله: " بعضهم أولياء بعض " معنى آخر، وهو أن لا تتخذوهم أولياء لانكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذى هم أولياؤكم على البعض الاخر، ولا ينفعكم ذلك فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم. قوله تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين " التولى اتخاذ الولى، و " من " تبعيضية والمعنى أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم، وهذا إلحاق تنزيلي يصير به بعض المؤمنين بعضا من اليهود والنصارى، ويؤل الامر إلى أن الايمان حقيقة ذات مراتب مختلفة من حيث الشوب والخلوص، والكدورة والصفاء كما يستفاد ذلك من الايات القرآنية قال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " (يوسف: 106 (وهذا الشوب والكدر هو الذى يعبر تعالى عنه بمرض القلوب فيما سيأتي من قوله: " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ". فهؤلاء الموالون لاولئك أقوام عدهم الله تعالى من اليهود والنصارى وإن كانوا من المؤمنين ظاهرا، وأقل ما في ذلك أنهم غير سالكين سبيل الهداية الذى هو الايمان بل سالكو سبيل اتخذه اولئك سبيلا يسوقه إلى حيث يسوقهم وينتهى به إلى حيث ينتهى بهم. ولذلك علل الله سبحانه لحوقه بهم بقوله: " إن الله لا يهدى القوم الظالمين " فالكلام في معنى: أن هذا الذى يتولاهم منكم هو منهم غير سالك سبيلكم لان سبيل الايمان هو سبيل الهداية الالهية، وهذا المتولي لهم ظالم مثلهم، والله لا يهدى القوم الظالمين. والاية - كما ترى - تشتمل على أصل التنزيل أعنى تنزيل من تولاهم من المؤمنين

[ 374 ]

منزلتهم من غير تعرض لشئ من آثاره الفرعية، واللفظ وإن لم يتقيد بقيد لكنه لما كان من قبيل بيان الملاك - نظير قوله: " وإن تصوموا خير لكم " (البقرة: 184) وقوله: " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " (العنكبوت: 45) إلى غير ذلك - لم يكن إلا مهملا يحتاج التمسك به في اثبات حكم فرعى إلى بيان السنة، والمرجع في البحث عن ذلك فن الفقه. قوله تعالى: " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم " تفريع على قوله في الاية السابقة: " ان الله لا يهدى القوم الظالمين " فمن عدم شمول الهداية الالهية لحالهم - وهو الضلال - مسارعتهم فيهم واعتذارهم في ذلك بما لا يسمع من القول، وقد قال تعالى: " يسارعون فيهم " ولم يقل: يسارعون إليهم، فهم منهم وحالون في الضلال محلهم، فهؤلاء يسارعون فيهم لا لخشية اصابة دائرة عليهم فليسوا يخافون ذلك، وانما هي معذرة يختلقونها لانفسهم لدفع ما يتوجه إليهم من ناحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من اللوم والتوبيخ بل انما يحملهم على تلك المسارعة توليهم أولئك (اليهود والنصارى). ولما كان من شأن كل ظلم وباطل أن يزهق يوما ويظهر للملا فضيحته، وينقطع رجاء من توسل إلى أغراض باطلة بوسائل صورتها صورة الحق كما قال تعالى: " ان الله لا يهدى القوم الظالمين " كان من المرجو قطعا أن يأتي الله بفتح أو أمر من عنده فيندموا على فعالهم، ويظهر للمؤمنين كذبهم فيما كانوا يظهرونه. وبهذا البيان يظهر وجه تفرع قوله: " فترى الذين " (الخ) على قوله: " ان الله لا يهدى القوم الظالمين " وقد تقدم كلام في معنى عدم اهتداء الظالمين في ظلمهم. فهؤلاء القوم منافقون من جهة اظهارهم للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ما ليس في قلوبهم حيث يعنونون مسارعتهم في اليهود والنصارى بعنوان الخشية من اصابة الدائرة، وعنوانه الحقيقي الموافق لما في قلوبهم هو تولى أعداء الله فهذا هو وجه نفاقهم، وأما كونهم منافقين بمعنى الكافرين المظهرين للايمان فسياق الايات لا يوافقه. وقد ذكر جماعة من المفسرين أنهم المنافقون كعبد الله بن أبى وأصحابه على ما يؤيده أسباب النزول الواردة فإن هؤلاء المنافقين كانوا يشاركون المؤمنين في مجتمعهم ويجاملونهم من جانب، ومن الجانب الاخر كانوا يتولون اليهود والنصارى بالحلف والعهد على النصرة استدرارا للفئتين، وأخذا بالاحتياط في رعاية مصالح أنفسهم ليغتبطوا على أي حال،

[ 375 ]

ويكونوا في مأمن من اصابة الدائرة على أي واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت. وما ذكروه لا يلائم سياق الايات فإنها تتضمن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من عنده، والفتح فتح مكة أو فتح قلاع اليهود وبلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا ولا وجه لندمهم على هذا التقدير فإنهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين، ولا ندامة في الاحتياط، وإنما كان يصح الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرة واتصلوا باليهود والنصارى ثم دارت الدائرة عليهم، وكذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم وصيرورتهم خاسرين بقوله: " حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين " لا يلائم كونهم هم المنافقين الاخذين بالحائطة لمنافعهم ومطالبهم إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتقاء من مكروه يخافه على نفسه ثم صادف أن لم يقع ما كان يخاف وقوعه، والاحتياط في العمل من الطرق العقلائية التى لا تستتبع لوما ولا ذما. إلا أن يقال: إن الذم إنما لحقهم لانهم عصوا النهى الالهى ولم تطمئن قلوبهم بما وعده الله من الفتح، وهذا وإن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الاية. قوله تعالى: " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " لفظة " عسى " وإن كان في كلامه تعالى للترجي كسائر الكلام - على ما قدمنا أنه للترجي العائد إلى السامع أو إلى المقام - لكن القرينة قائمة على أنه مما سيقع قطعا فإن الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله: " إن الله لا يهدى القوم الظالمين " وتثبيت صدقه، فما يشتمل عليه واقع لا محالة. والذى ذكره الله تعالى من الفتح - وقد ردد بينه وبين أمر من عنده غير بين المصداق بل الترديد بينه وبين أمر مجهول لنا - لعله يؤيد كون اللام في " الفتح " للجنس لا للعهد حتى يكون المراد به فتح مكة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى: " إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " (القصص: 85) وقوله: " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " (الفتح: 27) وغير ذلك. والفتح الواقع في القرآن وإن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكة لكن بعض الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى: " ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون " (السجدة: 30) فإنه تعالى وصف هذا الفتح بأنه لا ينفع عنده الايمان لمن كان كافرا قبله، وأن الكفار ينتظرونه، وأنت تعلم انه لا ينطبق على فتح مكة ولا على سائر الفتوحات التى

[ 376 ]

نالها المسلمون حتى اليوم فإن عد نفع الايمان وهو التوبة إنما يتصور لاحد أمرين - كما تقدم بيانه في الكلام على التوبة (1). -: إما بتبدل نشأة الحياة وارتفاع الاختيار لتبدل الدنيا بالاخرة، وإما بتكون أخلاق وملكات في الانسان يقسو بها القلب قسوه لا رجاء معها للتوبة والرجوع إلى الله سبحانه قال تعالى: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " (الانعام: 158) وقال تعالى: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفار " (النساء: 18). وكيف كان فإن كان المراد بالفتح أحد فتوحات المسلمين كفتح مكة أو فتح قلاع اليهود أو فتح بلاد النصارى فهو، إلا أن في انطباق ما ذكره الله تعالى بقوله: " فيصبحوا على ما أسروا " (الخ) وقوله: " ويقول الذين " (الخ) عليه خفاء تقدم وجهه. وإن كان المراد به الفتح بمعنى القضاء للاسلام على الكفر والحكم الفصل بين الرسول وقومه فهو من الملاحم القرآنية التى ينبئ تعالى فيها عما سيستقبل هذه الامة من الحوادث، وينطبق على ما ذكره الله في سورة يونس من قوله: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم " إلى آخر الايات (يونس: 47 - 56). وأما قوله: " فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " فإن الندامة إنما تحصل عند فعل ما لم يكن ينبغى أن يفعل أو ترك ما لم يكن ينبغى أن يترك، وقد فعلوا شيئا، والله سبحانه يذكر في الاية التالية حبط أعمالهم وخسرانهم في صفقتهم فإنما أسروا في أنفسهم تولى اليهود والنصارى لينالوا به وبالمسارعة فيهم ما كانت اليهود والنصارى يريدونه من انطفاء نور الله والتسلط على شهوات الدنيا من غير مانع من الدين. فهذا - لعله - هو الذى أسروه في أنفسهم، وسارعوا لاجله فيهم، وسوف يندمون على بطلان سعيهم إذا فتح الله للحق. قوله تعالى: " ويقول الذين آمنوا " (إلى آخر الاية) وقرء " يقول " بالنصب عطفا على قوله: " يصبحوا " وهى أرجح لكونها أوفق بالسياق فإن ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم وقول المؤمنين: " أهؤلاء " (الخ) جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم ومسارعتهم في اليهود والنصارى، وقوله: " هؤلاء " إشارة إلى اليهود والنصارى، وقوله: " معكم " خطاب

______________________________

(1) في الكلام على قوله تعالى: " إنما التوبة على الله، الايتين النساء 17: 18 في الجزء الرابع من الكتاب. (*)

[ 377 ]

للذين في قلوبهم مرض ويمكن العكس، وكذا الضمير في قوله: " حبطت أعمالهم فأصبحوا "، يمكن رجوعه إلى اليهود والنصارى، وإلى الذين في قلوبهم مرض. لكن الظاهر من السياق أن الخطاب للذين في قلوبهم مرض، والاشارة إلى اليهود والنصارى، وقوله: " حبطت أعمالهم "، كالجواب لسؤال مقدر، والمعنى: وعسى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيقول الذين آمنوا لهؤلاء الضعفاء الايمان عند حلول السخط الالهى بهم: أهؤلاء اليهود والنصارى هم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي أيمانهم التى بالغوا وجهدوا فيها جهدا أنهم لمعكم فلما ذا لا ينفعونكم ؟ ! ثم كأنه سئل فقيل: فإلى م انتهى أمر هؤلاء الموالين ؟ فقيل في جوابه: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.

(كلام في معنى مرض القلب)

 وفي قوله تعالى: " في قلوبهم مرض " دلالة على أن للقلوب مرضا فلها لا محالة صحة إذ الصحة والمرض متقابلان لا يتحقق أحدهما في محل إلا بعد إمكان تلبسه بالاخر كالبصر والعمى ألا ترى أن الجدار مثلا لا يتصف بأنه مريض لعدم جواز اتصافه بالصحة والسلامة. وجميع الموارد التى أثبت الله سبحانه فيها للقلوب مرضا في كلامه يذكر فيها من أحوال تلك القلوب وآثارها أمورا تدل على خروجها من استقامة الفطرة، وانحرافها عن مستوى الطريقة كقوله تعالى: " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " (الاحزاب: 12) وقوله تعالى: " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم " (الانفال: 49) وقوله تعالى: " ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم " (الحج: 53) إلى غير ذلك. وجملة الامر أن مرض القلب تلبسه بنوع من الارتياب والشك يكدر أمر الايمان بالله والطمأنينة إلى آياته، وهو اختلاط من الايمان بالشرك، ولذلك يرد على مثل هذا القلب من الاحوال، ويصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الاعمال والافعال ما يناسب الكفر بالله وبآياته. وبالمقابلة تكون سلامة القلب وصحته هي استقراره في استقامة الفطرة ولزومه مستوى الطريقة، ويؤل إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه وركونه إليه عن كل شئ يتعلق به هوى الانسان، قال تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " (الشعراء: 89). ومن هنا يظهر أن الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين كما لا يخلو تعبير القرآن عنهما

[ 378 ]

بمثل قوله: " المنافقون والذين في قلوبهم مرض " في غالب الموارد عن إشعار ما بذلك، وذلك أن المنافقين هم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، والكفر الخاص موت للقلب لا مرض فيه قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " (الانعام: 122) وقال: " إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله " (الانعام: 36). فالظاهر أن مرض القلب في عرف القرآن هو الشك والريب المستولي على إدراك الانسان فيما يتعلق بالله وآياته، وعدم تمكن القلب من العقد على عقيدة دينية. فالذين في قلوبهم مرض بحسب طبع المعنى هم ضعفاء الايمان الذين، يصغون إلى كل ناعق، ويميلون مع كل ريح، دون المنافقين الذين أظهروا الايمان واستبطنوا الكفر رعاية لمصالحهم الدنيوية ليستدروا المؤمنين بظاهر إيمانهم والكفار بباطن كفرهم. نعم ربما أطلق عليهم المنافقون في القرآن تحليلا لكونهم يشاركونهم في عدم اشتمال باطنهم على لطيفة الايمان، وهذا غير إطلاق الذين في قلوبهم مرض على من هو كافر لم يؤمن إلا ظاهرا قال تعالى: " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " (النساء: 140) وأما قوله تعالى في سورة البقرة: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين - إلى أن قال -: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا - إلى أن قال -: وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء الايات (البقرة: 7 - 20) فإنما هو بيان لسلوك قلوبهم من الشك في الحق إلى إنكاره، وأنهم كانوا في بادئ حالهم مرضى بسبب كذبهم في الاخبار عن إيمانهم وكانوا مرتابين لم يؤمنوا بعد، فزادهم الله مرضا حتى هلكوا بإنكارهم الحق واستهزائهم له. وقد ذكر الله سبحانه أن مرض القلب على حد الامراض الجسمانية ربما أخذ في الزيادة حتى أزمن وانجر الامر إلى الهلاك وذلك إمداده بما يضر طبع المريض في مرضه، وليس إلا المعصية قال تعالى: " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " (البقرة: 10) وقال تعالى " وإذا ما أنزلت سورة - إلى أن قال -: وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى

[ 379 ]

رجسهم وماتوا وهم كافرون أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون " (التوبة: 126) وقال تعالى - وهو بيان عام -: " ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن " (الروم: 10). ثم ذكر تعالى في علاجه الايمان به قال - تعالى - وهو بيان عام -: " يهديهم ربهم بإيمانهم " (يونس: 9) وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " (فاطر: 10) فعلى مريض القلب - إن أراد مداواة مرضه - أن يتوب إلى الله، وهو الايمان به وأن يتذكر بصالح الفكر وصالح العمل كما يشير إليه الاية السابقة الذكر: " ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون " (التوبة: 126). وقال سبحانه وهو قول جامع في هذا الباب: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فاولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما " (النساء: 146) وقد تقدم أن المراد بذلك الرجوع إلى الله بالايمان والاستقامة عليه والاخذ بالكتاب والسنة ثم الاخلاص. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " ارتد عن دينه رجع عنه، وهو في اصطلاح أهل الدين الرجوع من الايمان إلى الكفر سواء كان إيمانه مسبوقا بكفر آخر كالكافر يؤمن ثم يرتد أو لم يكن، وهما المسميان بالارتداد الملى والفطري (حقيقة شرعية أو متشرعية. ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بالارتداد في الاية هو ما اصطلح عليه أهل الدين، ويكون الاية على هذا غير متصلة بما قبلها، وإنما هي آية مستقلة تحكى عن نحو استغناء من الله سبحانه عن إيمان طائفة من المؤمنين بإيمان آخرين. لكن التدبر في الاية وما تقدم عليها من الايات يدفع هذا الاحتمال فإن الاية على هذا تذكر المؤمنين بقدرة الله سبحانه على أن يعبد في أرضه، وأنه سوف يأتي بأقوام لا يرتدون عن دينه بل يلازمونه كقوله تعالى: " فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " (الانعام: 89) أو كقوله تعالى: " ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين " (آل عمران: 97) وقوله تعالى: " إن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فإن الله لغنى

[ 380 ]

حميد " (إبراهيم: 8). والمقام الذى هذه صفته لا يقتضى أزيد من التعرض لاصل الغرض، وهو الاخبار بالايتان بقوم مؤمنين لا يرتدون عن دين الله، وأما أنهم يحبون الله ويحبهم، وأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين إلى آخر ما ذكر في الاية من الاوصاف فهى أمور زائدة يحتاج التعرض لها إلى اقتضاء زائد من المقام والحال. ومن جهة أخرى نجد أن ما ذكر في الاية من الاوصاف أمور لا تخلو من الارتباط بما ذكر في الايات السابقة من تولى اليهود والنصارى فإن اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين لا يخلو من تعلق القلب بهم تعلق المحبة والمودة، وكيف يحتوى قلب هذا شأنه على محبة الله سبحانه وقد قال تعالى: " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " (الاحزاب: 4) ومن لوازم هذا التولى أن يتذلل المؤمن لهؤلاء الكفار، وأن يتعزز على المؤمنين ويترفع عنهم كما قال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " (النساء: 139). ومن لوازم هذا التولى المساهلة في الجهاد عليهم والانقباض عن مقاتلتهم، والتحرج من الصبر على كل حرمان، والتحمل لكل لائمة في قطع الروابط الاجتماعية معهم كما قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق - إلى أن قال - إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلى وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة " (الممتحنة: 1) وقال تعالى: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " (الممتحنة: 4). وكذلك الارتداد بمعناه اللغوى أو بالعناية التحليلية صادق على تولى الكفار كما قال تعالى في الاية السابقة (آية: 51): " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " وقال أيضا: ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ " (آل عمران: 28) وقال تعالى: " إنكم إذا مثلهم " (النساء: 140). فقد تبين بهذا البيان أن للاية اتصالا بما قبلها من الايات وأن الاية مسوقة لاظهار أن دين الله في غنى عن أولئك الذين يخاف عليهم الوقوع في ورطة المخالفة وتولى اليهود والنصارى لدبيب النفاق في جماعتهم، واشتمالها على عدة مرضى القلوب لا يبالون باشتراء الدنيا بالدين، وإيثار ما عند أعداء الدين من العزة الكاذبة والمكانة الحيوية الفانية على حقيقة

[ 381 ]

العزة التى هي لله ولرسوله وللمؤمنين والسعادة الواقعية الشاملة على حياة الدنيا والاخرة. وإنما أظهرت الاية ذلك بالانباء عن ملحمة غيبية أن الله سبحانه في قبال ما يلقاه الدين من تلون هؤلاء الضعفاء الايمان، واختيارهم محبة غير الله على محبته، وابتغاء العزة عند أعدائه ومساهلتهم في الجهاد في سبيله، والخوف من كل لومة وتوبيخ سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم. وكثير من المفسرين وإن تنبهوا على اشتمال الاية على الملحمة وأطالوا في البحث عمن تنطبق عليه الاية مصداقا غير أنهم تساهلوا في تفسير مفرداتها فلم يعطوا ما ذكر فيها من الاوصاف حق معناها فآل الامر إلى معاملتهم كلام الله سبحانه معاملة كلام غيره وتجويز وقوع المسامحات والمساهلات العرفية فيه كما في غيره. فالقرآن وإن لم يسلك في بلاغته مسلكا بدعا، ولم يتخذ نهجا مخترعا جديدا في استعمال الالفاظ وتركيب الجمل، ووضع الكلمات بحذاء معانيها بل جرى في ذلك مجرى غيره من الكلام. ولكنه يفارق سائر الكلام في أمر آخر، وهو أنا معاشر المتكلمين من البليغ وغيره إنما نبنى الكلام على أساس ما نعقله من المعاني، والمدرك لنا من المعاني إنما يدرك بفهم مكتسب من الحياة الاجتماعية التى اختلقناها بفطرتنا الانسانية الاجتماعية، ومن شأنها الحكم بالقياس، وعند ذلك ينفتح باب المسامحة والمساهلة على أذهاننا فنأخذ الكثير مكان الجميع، والغالب موضع الدائم، ونفرض كل أمر قياس أمرا مطلقا، ونلحق كل نادر بالمعدوم، ونجرى كل أمر يسير مجرى ما ليس بموجود يقول قائلنا: كذا حسن أو قبيح، وكذا محبوب أو مبغوض، وكذا محمود أو مذموم، وكذا نافع أو ضار، وفلان خير أو شرير، إلى غير ذلك فنطلق القوم في ذلك، وإنما هو كذلك في بعض حالاته وعلى بعض التقادير، وعند بعض الناس، وبالقياس إلى بعض الاشياء لا مطلقا، لكن القائل إنما يلحق بعض التقادير المخالفة بالعدم تسامحا في إدراكه وحكمه، هذا فيما أدركه من جهات الواقع الخارج، وأما ما يغفل عنه لمحدودية إدراكه من جهات الكون المربوطة فهو أكثر، فما يخبر به الانسان و يحدثه عن الخارج وخيلت له الاحاطة بالواقع إدراكا وكشفا فإنما هو مبنى على التسامح في بعض الجهات، والجهل في بعض آخر، وهو من الهزل إن قدرنا على أن نحيط بالواقع ثم نطبق كلامه عليه، فافهم ذلك.

[ 382 ]

فهذا حال كلام الانسان المبنى على ما يحصل عنده من العلم، وأما كلام الله سبحانه فمن الواجب أن نجله عن هذه النقيصة، وهو المحيط بكل شئ علما وقد قال تعالى في صفة كلامه: " انه لقول فصل وما هو بالهزل ". وهذا من وجوه الاخذ بإطلاق كلامه تعالى فيما كان بظاهره مطلقا لم يعقب بقيد متصل أو منفصل، ومن وجوه إشعار الوصف في كلامه بالعلية فإذا قال: " يحبهم " فليس يبغضهم في شئ والا لاستثنى، وإذا وصف قوما بأنهم أذلة على المؤمنين كان من الواجب أن يكونوا أذلاء لهم بما هم مؤمنون أي لصفة أيمانهم بالله سبحانه، وأن يكونوا أذلاء في جميع أحوالهم وعلى جميع التقادير، والا لم يكن القول فصلا. نعم هناك معان تنسب إلى غير صاحبها إذا جمعها جامع يصحح ذلك كما في قوله: " ولقد آتينا بنى اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين " (الجاثية: 16)، وقوله: " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " (الحج: 78)، وقوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " (آل عمران: 110)، وقوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " (البقرة: 143)، وقوله: " وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " (الفرقان: 30) إلى غير ذلك من الايات المشتملة على أوصاف اجتماعية يتصف بها الفرد والمجتمع وليس شئ من ذلك جاريا مجرى التسامح والتساهل بل هي أوصاف يتصف بها الجزء والكل، والفرد والمجتمع لعناية متعلقة بذلك كمثل حفنة من تراب مشتملة على جوهرة يقبض عليها لاجل الجوهرة فالتراب مقبوض والجوهرة مقبوضة والاصل في ذلك الجوهرة، ولنرجع إلى ما كنا فيه: أما قوله: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " فالمراد بالارتداد والرجوع عن الدين بناء على ما مر هو موالاة اليهود والنصارى، وخص الخطاب فيه بالمؤمنين لكون الخطاب السابق أيضا متوجها إليهم، والمقام مقام بيان أن الدين الحق في غنى عن إيمانهم المشوب بموالاة أعداء الله، وقد عده الله سبحانه كفرا وشركا حيث قال: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " لما أن الله سبحانه هو ولى دينه وناصره، ومن نصرته لدينه أنه سوف يأتي بقوم برآء من أعدائه يتولون أولياءه ولا يحبون إلا إياه. وأما قوله: " فسوف يأتي الله بقوم " نسب الاتيان إلى نفسه ليقرر معنى نصره لدينه

[ 383 ]

المفهوم من السياق المشعر بأن لهذا الدين ناصرا لا يحتاج معه إلى نصرة غيره، وهو الله عز اسمه. وكون الكلام مسوقا لبيان انتصار الدين بهؤلاء القوم تجاه من يقصده هؤلاء الموالون لاعدائه من الانتصار القومي، وكذا التعبير بالقوم والاتيان بالاوصاف والافعال بصيغة الجمع كل ذلك مشعر بأن القوم الموعود إيتاؤهم إنما يبعثون جماعة مجتمعين لا فرادى ولا مثنى كأن يأتي الله سبحانه في كل زمان برجل يحب الله ويحبه الله ذليل على المؤمنين عزيز على الكافرين يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم. وإتيان هذه القوم في عين أنه منسوب إليهم منسوب إليه تعالى وهو الاتى بهم لا بمعنى أنه خالقهم إذ لا خالق إلا الله سبحانه قال: " الله خالق كل شئ " (الزمر: 62) بل بمعنى أنه الباعث لهم فيما ينتهزون إليه من نصرة الدين، والمكرم لهم بحبه لهم وحبهم له، والموفق لهم بالتذلل لاوليائه، والتعزز لاعدائه، والجهاد في سبيله، والاعراض عن كل لائمة، فنصرتهم للدين هي نصرته تعالى له بسببهم ومن طريقهم، وقريب الزمان وبعيده عند الله واحد، وإن كانت أنظارنا لقصورها تفرق في ذلك. وأما قوله تعالى: " يحبهم ويحبونه " فالحب مطلق معلق على الذات من غير تقييده بوصف أو غير ذلك، أما حبهم لله فلازمه إيثارهم ربهم على كل شئ سواه مما يتعلق به نفس الانسان من مال أو جاه أو عشيرة أو غيرها، فهؤلاء لا يوالون أحدا من أعداء الله سبحانه، وإن والوا أحدا فإنما يوالون أولياء الله بولاية الله تعالى. وأما حبه تعالى لهم فلازمه برأتهم من كل ظلم، وطهارتهم من كل قذارة معنوية من الكفر والفسق بعصمة، أو مغفرة إلهية عن توبة، وذلك أن جمل المظالم والمعاصي غير محبوبة لله كما قال تعالى: " فإن الله لا يحب الكافرين " (آل عمران: 32) وقال: " والله لا يحب الظالمين " (آل عمران: 57) وقال: " انه لا يحب المسرفين " (الانعام: 41) وقال: " والله لا يحب المفسدين " (المائدة: 64) وقال: " إن الله لا يحب المعتدين " (البقرة: 190) وقال: " إنه لا يحب المستكبرين " (النحل: 23) وقال: " إن الله لا يحب الخائنين " (الانفال: 58) إلى غير ذلك من الايات. وفى هذه الايات جماع الرذائل الانسانية، وإذا ارتفعت عن إنسان بشهادة محبة الله له اتصف بما يقابلها من الفضائل لان الانسان لا مخلص له عن أحد طرفي الفضيلة والرذيلة إذا تخلق بخلق. فهؤلاء هم المؤمنون بالله حقا غير مشوب إيمانهم بظلم وقد قال تعالى: " الذين آمنوا

[ 384 ]

ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون " (الانعام: 82) فهم مأمون من الضلال وقد قال تعالى: " فإن الله لا يهدى من يضل " (النحل: 37) فهم في أمن إلهى من كل ضلالة، وعلى اهتداء إلهى إلى صراط المستقيم، وهم بإيمانهم الذى صدقهم الله فيه مهديون إلى اتباع الرسول والتسليم التام له كتسليم لله سبحانه قال تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء: 65). وعند ذلك يتم أنهم من مصاديق قوله تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " (آل عمران: 31) وبه يظهر أن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحبة الله متلازمان فمن اتبع النبي أحبه الله ولا يحب الله عبدا إلا إذا كان متبعا لبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا اتبعوا الرسول اتصفوا بكل حسنة يحبهاالله ويرضاها كالتقوى والعدل والاحسان والصبر والثبات والتوكل والتوبة والتطهر وغير ذلك قال تعالى: " فإن الله يحب المتقين " (آل عمران: 76) وقال: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " (الصف: 4) وقال: " إن الله يحب المتوكلين " (آل عمران: 159) وقال: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " (البقرة: 222) إلى غير ذلك من الايات. وإذا تتبعت الايات الشارحة الاثار هذه الاوصاف وفضائل تتعقبها عثرت على أمور جمة من الخصال الحسنة، ووجدت أن جميعها تنتهى إلى أصحابها هم الوارثون الذين يرثون الارض،. أن لهم عاقبة الدار كما يومى إليه الاية المبحوث عنها: " يا أيها الذين آمنومن يرتد منكم عن دينه ". قد قال تعالى - وهى كلمة جامعة -: " والعاقبة للتقوى " - طه: 132) وسنشرع معنى كون العاقبة للتقوى فيما يناسبه من الموارد ان شاء الله العزيز. قوله تعالى: " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " الاذلة والاعزة جمعا الذليل والعزيز، وهما كنايتان عن خفضهم الجناح للمؤمنين تعظيما لله الذى هو وليهم وهم أولياؤه، وعن ترفعهم من الاعتناء بما عند الكافرين من العزة الكاذبة التى لا يعبأ بأمرها الدين كما أدب بذلك نبيه في قوله: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين " (الحجر: 88) ولعل تعدية " أذلة " بعلى لتضمينه معنى الحنان أو الحنو كما قيل.

[ 385 ]

قوله تعالى: " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " أما قوله: " يجاهدون في سبيل الله " فقد اختص بالذكر من بين مناقبهم الجمة لكون الحاجة تمس إليه في المقام لبيان أن الله ينتصر لدينه بهم، وأما قوله: " ولا يخافون لومة لائم فالظاهر أنه حال متعلق بالجمل المتقدمة لا بالجملة الاخيرة فقط - وإن كانت هي المتيقنة في أمثال هذه التركيبات - وذلك لان نصرة الدين بالجهاد في سبيل الله كما يزاحمها لومة اللائمين الذين يحذرونهم تضييع الاموال وإتلاف النفوس وتحمل الشدائد والمكاره كذلك التذلل للمؤمنين والتعزز على الكافرين وعندهم من زخارف الدنيا ومبتغيات الشهوة، وأمتعة الحياة ما ليس عند المؤمنين هما مما يمانعه لومة اللائم، وفى الاية ملحمة غيبية سنبحث عنها في كلام مختلط من القرآن والحديث ان شاء الله تعالى.

(بحث روائي)

 وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود " (الاية) أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع. رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبد الله بن أبى بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى اللع عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بنى عوف ابن الخزرج، وله من حلفهم مثل الذى كان لهم من عبد الله بن أبى فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرء إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. وفيه: وفى عبد الله بن أبى نزلت الايات في المائدة: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض - إلى قوله - فإن حزب الله هم الغالبون ". وفيه أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بنى الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لى موالى من يهود كثير عددهم، وإنى أبرء إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبى: إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرء من ولاية موالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أبى: يا أبا الحباب أرأيت الذى نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه ؟ قال: إذن أقبل فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود

[ 386 ]

والنصارى أولياء بعضهم اولياء بعض - إلى أن بلغ إلى قوله - والله يعصمك من الناس ". وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: آمن عبد الله بن أبى بن سلول قال: إن بينى وبين بنى قريظة والنضير حلفا، وانى اخاف الدوائر فارتد كافرا، وقال عبادة بن الصامت: أبرء إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله والمؤمنين. فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء - إلى قوله - فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم " يعنى عبد الله بن أبى وقوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " يعنى عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ". اقول: ورويت القصة بغير هذه الطرق، وقد تقدم أن هذه الاسباب أسباب تطبيقة اجتهادية، وفيها امارات تدل على ذلك، كيف والايات تذكر النصارى مع اليهود، ولم يكن في قصة بنى قينقاع وما جرى بين المسلمين وبين بنى قريظة والنضير للنصارى إصبع، ولا للمسلمين معهم شأن ؟ ومجرد ذكرهم تطفلا واطرادا مما لا وجه له، وفى القرآن آيات متعرضة لحال اليهود في الوقائع التى جرت بينهم وبين المسلمين وما داخل فيه المنافقون من أعمالهم خص فيه اليهود بالذكر ولم يذكر فيه النصارى كما في سورة الحشر وغيرها، فما بال الاطراد والتطفل يجرى حكمهما ههنا ولا يجرى هناك. على أن الرواية تذكر الايات النازلة في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبى سبع عشرة آية (آية: 51 - 67) ولا اتصال بينها حتى تنزل دفعة (أولا)، وفيها آية: " إنما وليكم الله ورسوله " وقد تواترت روايات الخاصة والعامة على أنها نزلت في على عليه السلام (ثانيا)، وفيها آية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " ولا ارتباط لها مع القصة البتة (ثالثا). فليس إلا أن الراوى أخذ قصة عبادة وعبد الله ثم وجد الايات تناسبها بعض المناسبة فطبقها عليها ثم لم يحسن التطبيق فوضع سبع عشرة آية مكان ثلاث آيات بمناسبة تعرضها لحال أهل الكتاب. وفى الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " في بنى قريظة إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم إلى أبى سفيان بن حرب يدعونهم وقريشا

[ 387 ]

ليدخلوهم حصونهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم أن يستنزلهم من حصونهم فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح. وكان طلحة والزبير يكاتبان النصارى وأهل الشام، وبلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون العوز والفاقة فيكاتبون اليهود من بنى قريظة والنضير فيدسون إليهم الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون عندهم القرض والنفع فنهوا عن ذلك. اقول: والرواية لا بأس بها وهى تفسر الولاية في الايات بولاية المحبة والمودة وقد تقدم تأييد ذلك، وهى إن كانت سببا للنزول حقيقيا فالايات مطلقة تجرى في غير القصة كما نزلت وجرت فيها، وإن كانت من الجرى والتطبيق فالامر أوضح. وفى المجمع في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه - فسوف يأتي الله بقوم " (الاية) قال: وقيل: هم امير المؤمنين على عليه السلام واصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين، وروى ذلك عن عمار وحذيفة وابن عباس، وهو المروى عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. اقول: قال في المجمع بعد ذكر الرواية: ويؤيد هذا القول أن النبي وصفه بهذه الصفات المذكورة في الاية فقال فيه وقد ندبه لفتح خيبر بعد أن رد عنها حامل الراية ليه مرة بعد أخرى وهو يجبن الناس ويجبنونه -: " لاعطين الراية غدا رجلا - يحب الله ورسوله ويحب الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يده " ثم أعطاها إياه. فأما الوصف باللين على أهل الايمان، والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع أنه لا يخاف فيه لومة لائم فمما لا يمكن أحدا دفع على عليه السلام عن استحقاق ذلك لما ظهر من شدته على أهل الشرك والكفر ونكايته فيهم، ومقاماته المشهورة في تشييد المل، ونصرة الدين، والرأفة بالمؤمنين. ويؤيد ذلك أيضا إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا بقتال على عليه السلام لهم من بعده حيث جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا: يا محمد إن أرقائنا لحقوا بك فارددهم إلينا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لتنتهن يا معاشر قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله، فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول الله ؟ أبو بكر ؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة، وكان على عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروى عن على عليه السلام أنه قال يوم البصرة: والله ما قوتل اهل هذه الاية حتى اليوم،

[ 388 ]

وتلا هذه الاية. وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالاسناد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرد إلى قوم من أصحابي يوم القيامة فيحلون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي، أصحابي فيقال: إنك لا تدرى بما أحدثوا من بعدك إنهم ارتدوا على ادبارهم القهقرى، انتهى. وهذا الذى ذكره إنما يتم فيه عليه السلام ولا ريب في انه افضل مصداق لما سرد في الاية من الاوصاف لكن الشأن في انطباق الاية على عامة من معه من اهل الجمل وصفين وقد غير كثير منهم بعد ذلك، وقد وقع قوله تعالى: " يحبهم ويحبونه " (الخ) في الاية بغير استثناء، وقد عرفت معناه. وفيه أيضا: وروى ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الاية فضرب بيده على عاتق سلمان فقال: هذا وذووه، ثم قال: لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله رجال من ابناء فارس. اقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه إلا ان يراد انهم سوف يبعثون من قومه. وفيه: وقيل: هم اهل اليمن هم ألين قلوبا، وأرق أفئدة، الايمان يمانى، والحكمة يمانية، وقال عياض بن غنم الاشعري: لما نزلت هذه الاية أوما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى موسى الاشعري - فقال: هم قوم هذا. اقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور بعدة طرق، والكلام فيه كالكلام في سابقه. وفى تفسير الطبري بإسناده عن قتادة قال: أنزل الله هذه الاية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الاسلام إلا ثلاثة مساجد أهل المدينة، وأهل مكة وأهل البحرين قالوا: نصلى ولا نزكي والله لا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك فقيل لهم: (1) إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها فقال: لا والله لا أفرق بين شئ جمع الله بينه، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبى بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبى الله صلى الله عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الاسلام ومنعوا الزكاة فقاتلهم حتى أقروا بالماعون - وهى الزكاة - صغرة أقمياء، الحديث. اقول: ورواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبى الشيخ

[ 389 ]

والبيهقي وابن عساكر عن قتادة، ورواه أيضا عن الضحاك والحسن. ولفظ الحديث أوضح شاهد على أنه من قبيل التطبيق النظرى، وحينئذ يتوجه إليه ما توجه إلى ما تقدمه من الروايات فإن هذه الوقائع والغزوات تشتمل على حوادث وأمور وقد قاتل فيها رجال كخالد ومغيرة بن شعبة وبسر بن الارطاة وسمرة بن جندب يذكر التاريخ عنهم فيها وبعد ذلك مظالم وآثاما لا تدع الاية: (يحبهم ويحبونه، الخ) أن تصدق فيهم وتنطبق عليهم، فعليك بالرجوع إلى التاريخ ثم التأمل فيما قدمناه من معنى الاية. وقد بلغ من إفراط بعض المفسرين أن استغرب قول بعضهم: " أن الاية أوضح انطباقا على الاشعريين من أهل اليمن منها على هؤلاء الذين قاتلوا اهل الردة " قائلا: إن الاية عامة تشمل كل من نصر الدين ممن اتصف بمضمونها من خيار المسلمين من مؤمنى عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن جاء بعد ذلك من المؤمنين، وتنطبق على جميع ما تقدم من الاخبار كالخبر الدال على أنهم سلمان وقومه - على ضعفه - والخبر الدال على أنه أبو موسى الاشعري وقومه، والخبر الدال على أنه أبو بكر واصحابه إلا ما دل على أنه على - عليه السلام فإن لفظ الاية لا ينطبق عليه لان لفظ القوم - المأخوذ في الاية - لا يجرى على الواحد لانه نص في الجماعة. هذا محصل كلامه، وليس إلا أنه عامل كلامه تعالى فيما ذكره من الثناء على القوم ومدحهم معاملة الشعر الذى يبنى المدح على التخيل، فما قدر عليه خيال الشاعر حمله على ممدوحه من غير أن يعتنى بأمر الصدق والكذب، وقد قال تعالى: " ومن أصدق من الله قيلا " (النساء: 122) أو على المتعارف من الكلام الدائر بيننا الذى لا يعتمد في إلقائه إلا على الافهام البانية على التسامح والتساهل في التلقى والالقاء، والاعتذار بالمسامحة في كل ما أشكل عليها في شئ وقد قال تعالى: " إنه لقول فصل وما هو بالهزل " (الطارق: 14) وقد عرفت فيما تقدم أن الاية لو أعطيت حق معناها فيما تتضمنه من الصفات تبين أن مصداقها لم يتحقق بعد إلى هذا الحين فراجع وتأمل ثم اقض ما أنت قاض. ومن العجيب ما ذكره في آخر كلامه، فإن من ذكر نزول الاية في على عليه السلام إنما ذكر عليا وأصحابه كما ذكرآخرون: سلمان وذويه، وآخرون: أبا موسى وقومه، وآخرون: أبا بكر وأصحابه، وكذا ما ورد من الروايات - وقد تقدم بعضها - إنما ورد في على وأصحابه، ولم يذكر نزول الاية في على عليه السلام وحده حتى يرد بأن لفظ الاية نص في الجماعة لا ينطبق على المفرد.

[ 390 ]

نعم ورد في تفسير الثعلبي أنها نزلت في على وأيضا في نهج البيان للشيباني عن الباقر والصادق عليهما السلام أنها نزلت في على عليه السلام، والمراد به بقرينة الروايات الاخر نزوله فيه وفى أصحابه من جهة قيامهم بنصرة الدين في غزوة الجمل وصفين والخوارج. مع أنه سيأتي أن الروايات من طرق الجمهور متكاثرة في نزول آية: " إنما وليكم الله ورسوله " في على عليه السلام ولفظ الاية جمع. على أن في الرواية - رواية قتادة والضحاك والحسن - إشكالا آخر وهو أن قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " (الخ) ظاهر ظهورا لا مرية فيه في معنى التبديل والاستغناء سواء كان الخطاب للموجودين في يوم النزول أو لمجموع الموجودين والمعدومين، والمقصود خطاب الجماعة من المؤمنين بأنهم كلهم أو بعضهم إن ارتدوا عن دينهم فسوف يبدلهم الله من قوم يحبهم ويحبونه - وهو لا يجب المرتدين ولا يحبونه - ولهم كذا وكذا من الصفات ينصرون دينه. وهذا صريح في أن القوم المأتى بهم جماعة من المؤمنين غير الجماعة الموجودين في أوان النزول، والمقاتلون أهل الردة بعيد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا موجودين حين النزول مخاطبين بقوله: " يا أيها الذين آمنوا " (الخ) فهم غير مقصودين بقوله: " فسوف يأتي الله بقوم " (الخ). والاية جارية مجرى قوله تعالى: " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " (محمد: 38). وفى تفسير النعماني بإسناده عن سليمان بن هارون العجلى قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن صاحب هذا الامر محفوظ له، لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه، وهم الذين قال الله: عز وجل: " فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " وهم الذين قال الله: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ". اقول: وروى هذا المعنى العياشي والقمى في تفسيريهما.

(كلام وبحث مختلط من القرآن والحديث)

 مما تقدم في الابحاث السابقة مرارا التلويح إلى أن الخطابات القرآنية التى يهتم القرآن بأمرها، ويبالغ في تأكيدها وتشديد القول فيها لا يخلو لحن القول فيها من دلالة على أن

[ 391 ]

العوامل والاسباب الموجودة متعاضدة على أن تسوقهم إلى مهابط السقوط ودركات الردى، والابتلاء بسخط الله كما في آيات الربا وآية مودة القربى وغيرهما. ومن طبع الخطاب ذلك فإن المتكلم الحكيم إذا أمر بأمر حقير يسير ثم بالغ في تأكيده والالحاح عليه بما ليس شأنه ذلك، أو خاطب أحدا بخطاب ليس من شأن ذلك المخاطب أن يوجه إلى مثله ذلك الخطاب كنهى عالم ربانى ذى قدم صدق في الزهد والعبادة عن ارتكاب أفضح الفجور على رؤوس الاشهاد دل ذلك على أن المورد لا يخلو عن شئ وأن هناك خطبا جليلا ومهلكة خطيرة مشرفة. والخطابات القرآنية التى هذا شأنها تعقبت حوادث صدقتها في ما كانت تلوح إليه بل تدل عليه، وإن كان السامعون (لعلهم) ما كانوا يتنبهون في أول ما سمعوها يوم النزول على ما تتضمنه من الاشارات والدلالات. فقد أمر القرآن بمودة قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالغ فيها حتى عدها أجر الرسالة والسبيل إلى الله سبحانه ثم وقع أن استباحت الامة في أهل بيته من فجائع المظالم مالو أمروا به لم يكونوا ليزيدوا على ما أتوا به فيهم. ونهى القرآن عن الاختلاف وبالغ فيه بما لا مزيد عليه ثم وقع أن تفرقت الامة تفرقا وانشعبت انشعابات زادت على ما عند اليهود والنصارى، وكانت اليهود إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة فأتى المسلمون بثلاث وسبعين فرقة هذا في مذاهبهم في معارف الدين العلمية وأما مذاهبهم في السنن الاجتماعية وتأسيس الحكومات وغيرها فلا تقف على حد حاصر. ونهى القرآن عن الحكم بغير ما أنزل الله، ونهى عن إلقاء الاختلاف بين الطبقات ونهى عن الطغيان واتباع الهوى إلى غير ذلك وشدد فيها ثم وقع ما وقع. والامر في النهى عن ولاية الكفار وأهل الكتاب نظير غيره من النواهي المؤكدة الواردة في القرآن الكريم بل ليس من البعيد أن يدعى أن التشديد الواقع في النهى عن ولاية الكفار وأهل الكتاب لا يعدله أي تشديد واقع في سائر النواهي الفرعية. فقد بلغ الامر فيه إلى أن عد الله سبحانه الموالين لاهل الكتاب والكفار منهم: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ونفاهم من نفسه إذ قال: " ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ (آل عمران: 28) وحذرهم منتهى التحذير فقال مرة بعد أخرى: " ويحذركم

[ 392 ]

الله نفسه " (آل عمران: 28 - 30) وقد مر في الكلام على الاية أن مدلولها وقوع المحذور لا محالة قضاء حتما لا مبدل له ولا محول. وإن شئت مزيد وضوح لذلك فتدبر في قوله تعالى: " وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم - وقد ذكر قبل الاية قصص أمم نوح وهود وصالح وغير هم ثم اختلاف اليهود في كتابهم - إنه بما تعملون خبير فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا - والخطاب كما ترى خطاب اجتماعي - إنه بما تعملون بصير " (هود: 112) ثم تدبر في قوله تعالى بعده: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون " (هود: 113). وقد بين الله سبحانه معنى مسيس هذه النار في الدنيا قبل الاخرة - والاية مطلقة وهو الذى توعد به في قوله: " ويحذركم الله نفسه " بقوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " (المائدة: 3) فبين فيه أن الذى كان يخشاه المؤمنون على دينهم من الذين كفروا وهم المشركون وأهل الكتاب - كما تبين سابقا - إلى يوم نزول الاية فهم اليوم في أمن منه فلا ينبغى لهم أن يخشوهم فيه بل يجب عليهم أن يخشوا فيه ربهم، والذى كانوا يخشونهم فيه على دينهم هو أن الكفار لم يكن لهم هم فيهم إلا إطفاء نور الدين، وسلب هذه السلعة النفيسة من أيديهم بأى وسيلة قدروا عليها. فهذا هو الذى كانوا يخشونه قبل اليوم، وبنزول سورة المائدة أمنوا ذلك واطمأنت أنفسهم غير أنه يجب عليهم أن يخشوا في ذلك ربهم أن لا يذهب بنورهم ولا يسلبهم دينه. ومن المعلوم أن الله سبحانه لا يفاجئ قوما بنقمة أو عذاب من غير أن يستحقوه قال تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الانفال: 53) فبين أن تغييره النعمة لا يكون إلا عن استحقاق، وأنه يتبع تغيير الناس ما بأنفسهم، وقد سمى الدين أو الولاية الدينية كما تقدم نعمة حيث قال بعده: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " (المائدة: 3). فتغيير هذه النعمة من قبلهم، والتخطى عن ولاية الله بقطع الرابطة منه، والركون إلى الظالمين، وولاية الكفار وأهل الكتاب هو المتوقع منهم، والواجب عليهم أن يخشوه على أنفسهم فيخشوا الله في سخط لا راد له، وقد أوعدهم فيه بقوله: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (المائدة: 51) فأخبر أنه لا يهديهم إلى سعادتهم

[ 393 ]

فهى التى تتعلق بها الهداى، وسعادتهم في الدنيا إنما هي أن يعيشوا على سنة الدين والسيرة العامة الاسلامية في مجتمعهم. وإذا انهدمت بنية هذه السيرة اختلت مظاهرها الحافظة لمعناها من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وسقطت شعائرة العامة، وحلت محلها سيرة الكفار ولم يزل تستحكم أركانها وتستثبت قواعدها، وهذا هو الذى عليه مجتمع المسلمين اليوم. ولو تدبرت في السيرة الاسلامية العامة التى ينظمها الكتاب والسنة ويقررانها بين المسلمين ثم في هذه السيرة الفاسدة التى حملت اليوم على المسلمين ثم تدبرت في ما يشير إليه بقوله: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم " (المائدة: 54) وجدت أن جميع الرذائل التى تحيط بمجتمعنا معاشر المسلمين وتحكم فينا اليوم - مما اقتبسناها من الكفار ثم نمت ونسلت فينا - إنما هي أضداد ما ذكره الله في وصف من وعد بالاتيان به في الاية أعنى أن جميع رذائلنا الفعلية تتلخص في أن المجتمع اليوم لا يحبون الله ولا يحبهم الله، أذلة على الكافرين، أعزة على المؤمنين، لا يجاهدون في سبيل الله، يخافون كل لومة. وهذا هو الذى تفرسه القرآن في وجه القوم، وإن شئت فقل: هو النبأ الغيبي الذى نبأ به العليم الخبير أن المجتمع الاسلامي سيرتد عن دينه، وليست ردة مصطلحة وإنما هي ردة تنزيلية يبينها قوله تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (المائدة: 51) وقوله: " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون " (المائدة: 81). وقد وعدهم الله النصر إن نصروه، وتضعيف أعدائهم إن لم يقووهم ويؤيدوهم فقال: " إن تنصروا الله ينصركم " (محمد: 7) وقال: " ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " (آل عمران: 112) وليس من البعيد أن يستفاد من قوله: " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " أن لهم أن يخرجوا من الذلة والمسكنة بموالاة الناس لهم وتسليط الله تعالى إياهم على الناس. ثم وعد الله سبحانه المجتمع الاسلامي - وشأنهم هذا الشأن - بالاتيان بقوم يحبهم

[ 394 ]

ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم، والاوصاف المعدودة - لهم كما عرفت - جماع الاوصاف التى يفقدها المجتمع الاسلامي اليوم، ويستفاد بالامعان في التدبر فيها تفاصيل الرذائل التى تنبئ الاية أن المجتمع الاسلامي سيبتلى بها. وقد اشتملت على تعدادها عدة من أخبار ملاحم آخر الزمان المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل بيته عليهم السلام، وهى على كثرتها ومن حيث المجموع وإن كانت لا تسلم من آفة الدس والتحريف إلا أن بينها أخبارا يصدقها جريان الحوادث وتوالى الوقائع الخارجية، وهى أخبار مأخوذة من كتب القدماء المؤلفة قبل ما يزيد على ألف سنة من هذا التاريخ أو قريبا منه، وقد صحت نسبتها إلى مؤلفيها وتظافر النقل عنها. على أنها تنطق عن حوادث ووقائع لم تحدث ولم تقع في تلك الاونة ولا كانت مترقبة تتوقعها النفوس التى كانت تعيش في تلك الازمنة فلا يسعنا إلا الاعتراف بصحتها وصدورها عن منبع الوحى. كما رواه القمى في تفسيره عن أبيه، عن سليمان بن مسلم الخشاب، عن عبد الله بن جريح المكى، عن عطاء بن أبى رياح، عن عبد الله بن عباس قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع فأخذ باب الكعبة ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ألا أخبركم بأشراط الساعة ؟ وكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رضى الله عنه فقال: بلى يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن من اشراط القيامة إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات، والميل مع الاهواء، وتعظيم المال، وبيع الدين بالدنيا فعندها يذاب قلب المؤمن وجوفه كما يذوب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذى نفسي بيده يا سلمان إن عندها يليهم أمراء جورة، ووزراء فسقة، وعرفاء ظلمة، وأمناء خونة. فقال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان إن عندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا، وائتمن الخائن، ويخون الامين، ويصدق الكاذب، ويكذب الصادق. قال سلمان، وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان فعندها إمارة النساء، ومشاورة الاماء، وقعود الصبيان على المنابرة ويكون

[ 395 ]

الكذب طرفا والزكاة مغرما، والفئ، مغنما، ويجفو الرجل والديه، ويبر صديقه، ويطلع الكوكب المذنب. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة، ويكون المطر قيظا، ويغيظ الكرام غيظا، ويحتقر الرجل المعسر، فعندها يقارب الاسواق إذا قال هذا: لم أبع شيئا وقال هذا: لم أربح شيئا فلا ترى إلا ذاما لله. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلموا قتلوهم، وان سكتوا استباحوهم ليستأثروا بفيئهم وليطؤن حرمتهم، وليسفكن دماءهم وليملؤن قلوبهم رعبا فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان ان عندها يؤتى بشئ من المشرق وشئ من المغرب يلون امتى، فالويل لضعفاء امتى منهم، والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيرا، ولا يوقرون كبيرا، ولا يتجاوزون عن مسئ أخبارهم خناء، جثتهم جثة الادميين، وقلوبهم قلوب الشياطين. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان وعندها يكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ويركبن ذوات الفروج السروج فعليهن من امتى لعنة الله. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان ان عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس، وتحلى المصاحف وتطول المنارات وتكثر الصفوف بقلوب متباغضة وألسن مختلفة. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم أي والذى نفسي بيده وعندها تحلى ذكور أمتى بالذهب، ويلبسون الحرير والديباج ويتخذون جلود النمور صفاقا. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم أي والذى نفسي بيده يا سلمان وعندها يظهر الربا، ويتعاملون بالغيبة والرشى، ويوضع الدين ويرفع الدنيا. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده

[ 396 ]

يا سلمان وعندها يكثر الطلاق فلا يقام لله حد، ولن يضر الله شيئا. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان وعندها تظهر القينات والمعازف ويليهم أشرار أمتى. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان وعندها يحج أغنياء أمتى للنزهة، ويحج أوساطها للتجارة، ويحج فقراؤهم للرئاء والسمعة فعندها يكون اقوام يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه مزامير، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله، ويكثر أولاد الزنا، ويتغنون بالقرآن، ويتهافتون بالدنيا. قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أي والذى نفسي بيده يا سلمان ذاك إذا انتهك المحارم، واكتسبت المآثم، وسلط الاشرار على الاخيار، ويفشو الكذب، وتظهر اللجاجة، وتفشو الفاقة ويتباهون في اللباس، ويمطرون في غير أوان المطر، ويستحسنون الكوبة والمعازف، وينكرون الامر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من في الامة، ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاؤم، فاولئك يدعون في ملكوت السماوات: الارجاس والانجاس. قال سلمان: وإن هذه لكائن يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان فعندها لا يخشى الغنى إلا الفقر حتى أن السائل ليسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع في يده شيئا. قال سلمان: وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إى والذى نفسي بيده يا سلمان عندها يتكلم الرويبضة، فقال: وما الرويبضة يا رسول الله فداك أبى وأمى ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: يتكلم في أمر العامة من لم يكن يتكلم فلم يلبثوا إلا قليلا حتى تخور الارض خورة فلا يظن كل قوم إلا أنها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء الله ثم ينكتون في مكثهم فتلقى لهم الارض أفلاذ كبدها، قال: ذهب وفضة ثم أومأ بيده إلى الاساطين فقال: مثل هذا فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة فهذا معنى قوله: " فقد جاء اشراطها ". وفى روضة الكافي عن محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن بعض اصحابه، وعلى ابن إبراهيم عن ابيه، عن ابن ابى عمير جميعا عن محمد بن ابى حمزة، عن حمران قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: وذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم فقال -: إنى سرت مع أبى جعفر المنصور وهو في موكبه، وهو على فرس وبين يديه خيل، ومن خلفه خيل، وأنا على

[ 397 ]

حمار إلى جانبه فقال لى: يا أبا عبد الله قد كان ينبغى لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة، وفتح لنا من العز، ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الامر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم. قال: فقلت: ومن رفع هذا إليك عنى فقد كذب فقال لى: أتحلف على ما تقول ؟ قال: فقلت: إن الناس سحرة يعنى يحبون ان يفسدوا قلبك على فلا تمكنهم من سمعك فإنا إليك أحوج منك إلينا، فقال لى: تذكر يوم سألتك: هل لنا ملك ؟ فقلت: نعم طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم، وفسحة من دنياكم حتى تصيبوا منادما حراما في شهر حرام في بلد حرام ؟ فعرفت أنه قد حفظ الحديث فقلت: لعل الله عز وجل ان يكفيك فإنى لم أخصك بهذا وإنما هو حديث رويته، ثم لعل غيرك من أهل بيتك أن يتولى ذلك، فسكت عنى. فلما رجعت إلى منزلي أتانى بعض موالينا فقال، جعلت فداك والله لقد رأيتك في موكب أبى جعفر، وأنت على حمار وهو على فرس، وقد أشرف عليك يكلمك كأنك تحته فقلت بينى وبين نفسي: هذا حجة الله على الخلق، وصاحب هذا الامر الذى يقتدى به، وهذا الاخر يعمل بالجور، ويقتل أولاد الانبياء ويسفك الدماء في الارض بما لا يحب الله، وهو في موكبه وأنت على حمار ! فدخلني من ذلك شك حتى خفت على دينى ونفسي. قال عليه السلام: فقلت: لو رأيت من كان حولي وبين يدى ومن خلفي وعن يمينى وعن شمالى من الملائكة لاحتقرته واحتقرت ما هو فيه فقال: الان سكن قلبى. ثم قال: إلى متى هؤلاء يملكون أو متى الراحة منهم ؟ فقلت: اليس تعلم ان لكل شئ مدة ؟ قال: بلى، فقلت: هل ينفعك علمك أن هذا الامر إذا جاء كان أسرع من طرفة العين ؟ انك لو تعلم حالهم عند الله عز وجل، وكيف هي كنت لهم أشد بغضا ولو جهدت وجهد أهل الارض أن يدخلوهم في أشد ما هم فيه من الاثم لم يقدروا، فلا يستفزنك الشيطان فان العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، ألا تعلم أن من انتظر أمرنا، وصبر على ما يرى من الاذى والخوف هو غدا في زمرتنا ؟ فإذا رأيت الحق قد مات وذهب أهله ورأيت الجور قد شمل البلاد، ورأيت القرآن قد خلق واحدث فيه ما ليس فيه ووجه على الاهواء، ورأيت الدين قد انكفا كما ينكفئ الاناء (1) ورأيت اهل

______________________________

(1) الماء. (*)

[ 398 ]

الباطل قد استعلوا على اهل الحق، ورأيت الشر ظاهرا لا ينهى عنه ويعذر اصحابه، ورأيت الفسق قد ظهر واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ورأيت المؤمن صامتا لا يقبل قوله، ورأيت الفاسق يكذب ولا يرد عليه كذبه وفريته، ورأيت الصغير يستحقر بالكبير، ورأيت الارحام قد تقطعت، ورأيت من يمتدح بالفسق يضحك منه ولا يرد عليه قوله -، و رأيت الغلام يعطى ما تعطى المرأة، ورأيت النساء يتزوجن بالنساء، ورأيت الثناء قد كثر، ورأيت الرجل ينفق المال في غير طاعة الله فلا ينهى ولا يؤخذ على يديه، ورأيت الناظر يتعوذ بالله مما يرى المؤمن فيه من الاجتهاد، ورأيت الجار يؤذى جاره وليس له مانع، ورأيت الكافر فرحا لما يرى في المؤمن، مرحا لما يرى في الارض من الفساد، ورأيت الخمور تشرب علانية ويجتمع عليها من لا يخاف الله عز وجل، ورأيت الامر بالمعروف ذليلا، ورأيت الفاسق فيما لا يحب الله قويا محمودا، ورأيت اصحاب الايات (1) يحقرون ويحقر من يحبهم، ورأيت سبيل الخير منقطعا وسبيل الشر مسلوكا، ورأيت بيت الله قد عطل ويؤمر بتركه ورأيت الرجل يقول ما لا يفعله، ورأيت الرجال يتمنون للرجال والنساء للنساء، ورأيت الرجل معيشته من دبره ومعيشة المرأة من فرجها، ورأيت النساء يتخذن المجالس كما يتخذها الرجال، ورأيت التأنيث في ولد العباس قد ظهر وأظهروا الخضاب وامتشطوا كما تمشط المرأة لزوجها، وأعطوا الرجال الاموال على فروجهم، وتنوفس في الرجل، وتغاير عليه الرجال، وكان صاحب المال اعز من المؤمن، و كان الربا ظاهرا لا يعير، وكان الزنا تمتدح به النساء، ورأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال، ورأيت أكثر الناس وخير بيت من يساعد النساء على فسقهن، ورأيت المؤمن محزونا محتقرا ذليلا ورأيت البدع والزنا قد ظهر، ورأيت الناس يعتدون بشاهد الزور، ورأيت الحرام يحلل، والحلال يحرم، ورأيت الدين بالرأى وعطل الكتاب واحكامه، ورأيت الليل لا يستخفى به من الجرأة على الله، ورأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلا بقلبه ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط الله عز وجل، ورأيت الولاة يقربون اهل الكفر ويباعدون اهل الخير، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم، ورأيت الولاية قبالة لمن زاد، ورأيت ذوات الارحام ينكحن ويكتفى بهن، ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة، ويتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه وماله، ورأيت الرجل يعير على إتيان النساء، ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور

______________________________

(1) الانار. (*)

[ 399 ]

يعلم ذلك ويقيم عليه، ورأيت المرأة تقهر زوجها وتعمل ما لا يشتهى وتنفق على زوجها ورأيت الرجل يكرى امرأته وجاريته ويرضى بالدنى، من الطعام والشراب، ورأيت الايمان بالله عز وجل كثيرة على الزور، ورأيت القمار قد ظهر، ورأيت الشراب يباع ظاهرا ليس له مانع، ورأيت النساء يبذلن انفسهن لاهل الكفر، ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها لا يمنعها احد احدا ولا يجترئ احد على منعها، ورأيت الشريف يستذله الذى يخاف سلطانه، ورأيت اقرب الناس من الولاة، من يمتدح بشتمنا أهل البيت، ورأيت من يحبنا يزور ولا تقبل شهادته، ورأيت الزور من القول يتنافس فيه، ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه وخف على الناس استماع الباطل، ورأيت الجار يكرم الجار خوفا من لسانه، ورأيت الحدود قد عطلت وعمل فيها بالاهواء، ورأيت المساجد قد زخرفت، ورأيت اصدق الناس عند الناس المفترى الكذب، ورأيت الشر قد ظهر والسعى بالنميمة، ورأيت البغى قد فشا، ورأيت الغيبة تستملح ويبشر بها الناس بعضهم بعضا، ورأيت طلب الحج والجهاد لغير الله ورأيت السلطان يذل للكافر المؤمن، ورأيت الخراب قد اديل من العمران، ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان، ورأيت سفك الدماء يستخف بها، ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لغرض الدنيا ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقى وتستند إليه الامور، ورأيت الصلاة قد استخف بها، ورأيت الرجل عنده المال الكثير لم يزكه منذ ملكه، ورأيت الميت ينشر من قبره ويؤذى وتباع اكفانه، ورأيت الهرج قد كثر، ورأيت الرجل يمسى نشوان ويصبح سكران لا يهتم بما الناس فيه، ورأيت البهائم تنكح، ورأيت البهائم تفرس بعضها بعضا، ورأيت الرجل يخرج إلى مصلاه ويرجع وليس عليه شئ من ثيابه، ورأيت قلوب الناس قد قست وجمدت اعينهم وثقل الذكر عليهم، ورأيت السحت قد ظهر يتنافس فيه، ورأيت المصلى إنما يصلى ليراه الناس، ورأيت الفقيه يتفقه لغير الدين يطلب الدنيا والرئاسة، ورأيت الناس مع من غلب، ورأيت طالب الحلال يذم ويعير وطالب الحرام يمدح ويعظم، ورأيت الحرمين يعمل فيها بما لا يحب الله لا يمنعهم مانع ولا يحول بينهم وبين العمل القبيح احد، ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين، ورأيت الرجل يتكلم بشئ من الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه فيقول: هذا عنك موضوع، ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشر، ورأيت مسلك الخير وطريقه خاليا لا يسلكه احد، ورأيت الميت يهزبه فلا يفزع له احد، ورأيت كل عام يحدث فيه من البدعة

[ 400 ]

والشر اكثر مما كان، ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلا الاغنياء، ورأيت المحتاج يعطى على الضحك به ويرحم لغير وجه الله، ورأيت الايات في السماء لا يفزع لها احد ورأيت الناس يتسافدون كما تسافد البهائم لا ينكر احد منكرا تخوفا من الناس، ورأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة الله ويمنع اليسير في طاعة الله، ورأيت العقوق قد ظهر واستخف بالوالدين وكانا من اسوء الناس حالا عند الولد ويفرح بأن يفترى عليهما، ورأيت النساء وقد غلبن على الملك وغلبن على كل امر لا يؤتى إلا ما لهن فيه هوى، ورأيت ابن الرجل يفترى على ابيه ويدعو على والديه ويفرح بموتهما، ورأيت الرجل إذا مر به يوم ولم يكسب فيه الذنب العظيم من فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام أو شرب مسكر كئيبا حزينا يحسب ان ذلك اليوم عليه وضيعة من عمره، ورايت السلطان يحتكر الطعام، ورايت اموال ذوى القربى تقسم في الزور ويتقامر بها وتشرب بها الخمور، ورايت الخمر يتداوى بها ويوصف للمريض ويستشفى بها، ورايت الناس قد استووا في ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وترك التدين به، ورايت رياح المنافقين واهل النفاق قائمة ورياح اهل الحق لا تحرك، ورأيت الاذان بالاجر والصلاة بالاجر، ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف الله مجتمعون فيها للغيبة وأكل لحوم اهل الحق ويتواصفون فيها شراب المسكر، ورايت السكران يصلى بالناس وهو لا يعقل ولا يشان بالسكر وإذا سكر اكرم واتقى وخيف وترك لا يعاقب ويعذر بسكره، ورايت من اكل اموال اليتامى يحمد بصلاحه، ورايت القضاة يقضون بخلاف ما امر الله، ورايت الولاة يأتمنون الخونة للطمع، ورايت الميراث قد وضعته الولاة لاهل الفسوق والجراة على الله يأخذون منهم ويخلونهم وما يشتهون، ورايت المنابر يؤمر عليها بالتقوى ولا يعمل القائل بما يأمر، ورايت الصلاة قد استخف بأوقاتها، ورايت الصدقة بالشفاعة ولا يراد بها وجه الله ويعطى لطلب الناس، ورايت الناس همهم بطونهم وفروجهم لا يبالون بما اكلوا وما نكحوا، ورايت الدنيا مقبلة عليهم، ورايت اعلام الحق قد درست فكن على حذر واطلب إلى الله عز وجل النجاة، واعلم ان الناس في سخط الله عز وجل وانما يمهلهم لامر يراد بهم فكن مترقبا واجتهد ليراك الله عز وجل في خلاف ما هم عليه فان نزل بهم العذاب وكنت فيهم عجلت إلى رحمة الله، وإن أخرت ابتلوا - وكنت قد خرجت مما هم فيه من الجراة على الله عز وجل واعلم ان الله لا يضيع اجر المحسنين، وان رحمة الله قريب من المحسنين. اقول: وهناك اخبار مأثورة عن النبي والائمة من اهل بيته عليهم الصلاة والسلام كثيرة

[ 401 ]

في هذه المعاني، وما نقلناه من الحديثين من اجمعها معنى، والاحاديث (اخبار آخر الزمان) كالتفصيل لما يدل عليه الاية الكريمة اعني قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم) (الاية) والله اعلم. تم والحمد لله

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21400152

  • التاريخ : 18/04/2024 - 20:18

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net