00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 272 ـ 356 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بحث تاريخي)

 ننظر فيه نظرا إجماليا في تاريخ التفكير الاسلامي والطريق الذى سلكته الامة الاسلامية على اختلاف طوائفها ومذاهبها، ولا نلوى فيه إلى مذهب من المذاهب بإحقاق أو إبطال، وإنما نعرض الحوادث الواقعة على منطق القرآن ونحكمه في الموافقة والمخالفة، وأما ما باهى به موافق وما اعتذر به مخالف فلا شأن لنا في الغور في أصوله وجذوره، فإنما ذلك طريق آخر من البحث مذهبي أو غيره. القرآن الكريم يتعرض بمنطقه في سنته المشروعة لجميع شؤون الحياة الانسانية من غير أن تتقيد بقيد أو تشترط بشرط، يحكم على الانسان منفردا أو مجتمعا، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، على الابيض والاسود، والعربي والعجمي، والحاضر والبادى، والعالم والجاهل، والشاهد والغائب، في أي زمان كان وفي أي مكان كان ويداخل كل شأن من شؤنه من اعتقاد أو خلق أو عمل من غير شك. فللقرآن اصطكاك مع جميع العلوم والصناعات المتعلقة بأطراف الحياة الانسانية ومن الواضح اللائح من خلال آياته النادبة إلى التدبر والتفكر والتذكر والتعقل أنه يحث حثا بالغا على تعاطى العلم ورفض الجهل في جميع ما يتعلق بالسماويات والارضيات والنبات والحيوان والانسان، من أجزاء عالمنا وما وراءه من الملائكة والشياطين واللوح والقلم وغير ذلك ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه، وما يتعلق نحوا من التعلق بسعادة

[ 272 ]

الحياة الانسانية الاجتماعية من الاخلاق والشرائع والحقوق وأحكام الاجتماع. وقد عرفت أنه يؤيد الطريق الفطري من التفكر الذى تدعو إليه الفطرة دعوة اضطرارية لا معدل عنها على حق ما تدعو إليه الفطرة من السير المنطقي. والقرآن نفسه يستعمل هذه الصناعات المنطقية من برهان وجدل وموعظة، ويدعو الامة التى يهديها إلى أن يتبعوه في ذلك فيتعاطوا البرهان فيما كان من الواقعيات الخارجة من باب العمل ويستدلوا بالمسلمات في غير ذلك أو بما يعتبر به. وقد اعتبر القرآن في بيان مقاصده السنة النبوية و عين لهم الاسوة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا يحفظون عنه، و يقلدون مشيته العلمية تقليد المتعلم معلمه في السلوك العلمي. كان القوم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ونعنى به أيام إقامته بالمدينة) حديثى عهد بالتعليم الاسلامي، حالهم أشبه بحال الانسان القديم في تدوين العلوم والصناعات، يشتغلون بالابحاث العلمية اشتغالا ساذجا غير فنى على عناية منهم بالتحصيل و التحرير، وقد اهتموا أولا بحفظ القرآن وقراءته وحفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير كتابة، ونقله، وكان لهم بعض المطارحات الكلامية فيما بينهم أنفسهم، واحتجاجات مع بعض أرباب الملل الاجنبية ولا سيما اليهود والنصارى لوجود أجيال منهم في الجزيرة والحبشة والشام، ومن هنا يبتدئ ظهور علم الكلام، وكانوا يشتغلون برواية الشعر وقد كانت سنة عربية لم يهتم بأمرها الاسلام، ولم يمدح الكتاب الشعر والشعراء بكلمة، ولا السنة بالغت في أمره. ثم لما ارتحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من أمر الخلافة ما هو معروف وزاد الاختلاف الحادث عند ذلك بابا على الابواب الموجودة. وجمع القرآن في زمن الخليفة الاول بعد غزوة يمامة وشهادة جماعة من القراء فيها. وكان الامر على هذا في عهد خلافته - وهى سنتان تقريبا - ثم في عهد الخليفة الثاني والاسلام وإن انتشر صيته واتسع نطاقه بما رزق المسلمون من الفتوحات العظيمة في عهده لكن الاشتغال بها كان يعوقهم عن التعمق في إجالة النظر في روابط العلوم والتماس الارتقاء في مدارجها، أو أنهم ما كانوا يرون لما عندهم من المستوى العلمي حاجة إلى التوسع والتبسط.

[ 273 ]

وليس العلم وفضله أمرا محسوسا يعرفه امة من امة اخرى إلا أن يرتبط بالصنعة فيظهر أثره على الحس فيعرفه العامة. وقد أيقظت هذه الفتوحات المتوالية الغزيرة العرب الجاهلية من الغرور والنخوة بعد ما كانت في سكن بالتربية النبوية، فكانت تتسرب فيهم روح الامم المستعلية الجبارة، وتتمكن منهم رويدا، يشهد به شيوع تقسيم الامة المسلمة يومئذ إلى العرب والموالي، وسير معاوية - وهو والى الشام يومذاك - بين المسلمين بسيرة ملوكية قيصرية، وامور اخرى كثيرة ذكرها التاريخ عن جيوش المسلمين، وهذه نفسيات لها تأثير في السير العلمي ولا سيما التعليمات القرآنية. وأما الذى كان عندهم من حاضر السير العلمي فالاشتغال بالقرآن كان على حاله وقد صار مصاحف متعددة تنسب إلى زيد وأبى وابن مسعود وغيرهم. وأما الحديث فقد راج رواجا بينا وكثر النقل والضبط إلى حيث نهى عمر بعض الصحابة عن التحديث لكثرة ما روى، وقد كان عدة من أهل الكتاب دخلوا في الاسلام وأخذ عنهم المحدثون شيئا كثيرا من أخبار كتبهم وقصص أنبيائهم واممهم، فخلطوها بما كان عندهم من الاحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ الوضع والدس يدوران في الاحاديث، ويوجد اليوم في الاحاديث المقطوعة المنقولة عن الصحابة ورواتهم في الصدر الاول شئ كثير من ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه. وجملة السبب في ذلك امور ثلاثة: 1 - المكانة الرفيعة التى كانت تعتقدها الناس لصحبة النبي وحفظ الحديث عنه، وكرامة الصحابة وأصحابهم النقلة عنهم على الناس، وتعظيمهم لامرهم، فدعا ذلك الناس إلى الاخذ والاكثار (حتى عن مسلمى أهل الكتاب) والرقابة الشديدة بين حملة الحديث في حيازة التقدم والفخر. 2 - ان الحرص الشديد منهم على حفظ الحديث ونقله منعهم عن تمحيصه والتدبر في معناه وخاصة في عرضه على كتاب الله وهو الاصل الذى تبتنى عليه بنية الدين وتستمد منه فروعه، وقد وصاهم بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح من قوله: " ستكثر على القالة "

[ 274 ]

الحديث، وغيره. وحصلت بذلك فرصة لان تدور بينهم أحاديث موضوعة في صفات الله وأسمائه وأفعاله، وزلات منسوبة إلى الانبياء الكرام، ومساوئ مشوهة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم و خرافات في الخلق والايجاد، وقصص الامم الماضية، وتحريف القرآن وغير ذلك مما لا تقصر عما تتضمنه التوراة والانجيل من هذا القبيل. واقتسم القرآن والحديث عند ذلك التقدم والعمل: فالتقدم الصوري للقرآن والاخذ والعمل بالحديث ! فلم يلبث القرآن دون أن هجر عملا، ولم تزل تجرى هذه السيرة وهى الصفح عن عرض الحديث على القرآن مستمرة بين الامة عملا حتى اليوم وإن كانت تنكرها قولا " و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " اللهم إلا آحاد بعد آحاد. وهذا التساهل بعينه هو أحد الاسباب في بقاء كثير من الخرافات القومية القديمة بين الامم الاسلامية بعد دخولهم في الاسلام، والداء يجر الداء. 3 - ان ما جرى في أمر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوجب اختلاف آراء عامة المسلمين في أهل بيته فمن عاكف عليهم هائم بهم، ومن معرض عنهم لا يعبأ بأمرهم ومكانتهم من علم القرآن أو مبغض شانئ، لهم وقد وصاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يرتاب في صحته ودلالته مسلم أن يتعلموا منهم ولا يعلموهم وهم أعلم منهم بكتاب الله، وذكر لهم أنهم لن يغلطوا في تفسيره ولن يخطؤوا في فهمه، قال في حديث الثقلين المتواتر: إنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، الحديث. وفي بعض طرقه: لا تعلموهم فإنهم أعلم. منكم وقال في المستفيض من كلامه: " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " وقد تقدم في أبحاث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب. وهذا أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن وطريق التفكر الذى يندب إليه. ومن الشاهد على هذا الاعراض قلة الاحاديث المنقولة عنهم عليهم السلام فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة، وما كان عليه الناس من الولع والحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن على والحسن والحسين، وخاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجبا: أما الصحابة فلم ينقلوا عن على عليه السلام شيئا يذكر، وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوا عنه - إن احصى - مائة رواية في تمام القرآن،

[ 275 ]

وأما الحسن عليه السلام فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشرا، وأما الحسين فلم ينقل عنه شئ يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف (1) حديث من طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجدة في روايات الفقه أيضا (2). فهل هذا لانهم هجروا أهل البيت وأعرضوا عن حديثهم ؟ أو لانهم أخذوا عنهم وأكثروا ثم اخفيت ونسيت في الدولة الاموية لانحراف الامويين عنهم ؟ ما أدرى. غير أن عزلة على وعدم اشتراكه في جمع القرآن أولا وأخيرا وتاريخ حياة الحسن والحسين عليهم السلام يؤيد أول الاحتمالين. وقد آل أمر حديثه إلى أن أنكر بعض كون ما اشتمل عليه كتاب نهج البلاغة من غرر خطبه من كلامه، وأما أمثال الخطبة البتراء لزياد بن أبيه وخمريات يزيد فلا يكاد يختلف فيها اثنان !. ولم يزل أهل البيت مضطهدين، مهجورا حديثهم إلى أن انتهض الامامان: محمد بن على الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام في برهة كالهدنة بين الدولة الاموية والدولة العباسية فبينا ما ضاعت من أحاديث آبائهم، وجددا ما اندرست وعفيت من آثارهم. غير أن حديثهما وغيرهما من آبائهما وأبنائهما من أئمة أهل البيت أيضا لم يسلم من الدخيل، ولم يخلص من الدس والوضع كحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرا ذلك في الصريح من كلامهما، وعدا رجالا من الوضاعين كمغيرة بن سعيد وابن أبى الخطاب وغيرهما، وأنكر بعض الائمة روايات كثيرة مروية عنهم وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمروا أصحابهم وشيعتهم بعرض الاحاديث المنقولة عنهم على القرآن وأخذ ما وافقه وترك ما خالفه. ولكن القوم (إلا آحاد منهم) لم يجروا عليها عملا في أحاديث أهل البيت عليهم السلام وخاصة في غير الفقه، وكان السبيل الذى سلكوه في ذلك هو السبيل الذى سلكه الجمهور في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

______________________________

(1) ذكر السيوطي في الاتقان، وذكر عدد الروايات في تفسيره المسمى بترجمان القرآن وتلخيصه المسمى بالدر المنثور. (2) ذكر بعض المتتبعين انه عثر على حديثين مرويين عن الحسين عليه السلام في الروايات الفقهية. (*)

[ 276 ]

وقد افرط في الامر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجية ظواهر الكتاب وحجية مثل مصباح الشريعة وفقه الرضا وجامع الاخبار ! وبلغ الافراط إلى حيث ذكر بعضهم أن الحديث يفسر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، وهذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور: أن الخبر ينسخ الكتاب. ولعل المتراءى من أمر الامة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم: " أن أهل السنة أخذوا بالكتاب وتركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " انهما لن يفترقا " وأن الشيعأ أخذوا بالعترة وتركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " انهما لن يفترقا " فقد تركت الامة القرآن والعترة (الكتاب والسنة) معا ". وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التى عملت في انقطاع رابطة العلوم الاسلامية وهى العلوم الدينية والادبية عن القرآن مع أن الجميع كالفروع والثمرات من هذه الشجرة الطيبة التى أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها، وذلك أنك إن تبصرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نظمت تنظيما لا حاجة لها إلى القرآن أصلا حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعا: الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والاصول فيأتى آخرها، ثم يتضلع بها ثم يجتهد ويتمهر فيها وهو لم يقرء القرآن، ولم يمس مصحفا قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للاولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان ! فاعتبر ان كنت من أهله. ولنرجع إلى ما كنا فيه: كان حال البحث عن القرآن والحديث في عهد عمر ما سمعته، وقد اتسع نطاق المباحث الكلامية في هذا العهد لما أن الفتوحات الوسيعة أفضت بالطبع إلى اختلاط المسلمين بغيرهم من الامم وأرباب الملل والنحل وفيهم العلماء والاحبار والاساقفة والبطارقة الباحثون في الاديان والمذاهب فارتفع منار الكلام لكن لم يدون بعد تدوينا، فإن ما عد من التآليف فيه انما ذكر في ترجمات من هو بعد هذا العصر. ثم كان الامر على ذلك في عهد عثمان على ما فيه من انقلاب الناس على الخلافة، وإنما وفق لجمع المصاحف، والاتفاق على مصحف واحد. ثم كان الامر على ذلك في خلافة على عليه السلام وشغله إصلاح ما فسد من مجتمع المسلمين

[ 277 ]

بالاختلافات الداخلية ووقع حروب متوالية في إثر ذلك. غير أنه عليه السلام وضع علم النحو وأملا كلياته أبا الاسود الدئلى من أصحابه وأمره بجمع جزئيات قواعده، ولم يتأت له وراء ذلك إلا أن ألقى بيانات من خطب وأحاديث فيها جوامع مواد المعارف الدينية وأنفس الاسرار القرآنية، وله مع ذلك احتجاجات كلامية مضبوطة في جوامع الحديث. ثم كان الامر على ذلك في خصوص القرآن والحديث في عهد معاوية ومن بعده من الامويين والعباسيين إلى أوائل القرن الرابع من الهجرة تقريبا وهو آخر عهد الائمة الاثنى پعشر عند الشيعة، فلم يحدث في طريق البحث عن القرآن والحديث أمر مهم غير ما كان في عهد معاوية من بذل الجهد في إماتة ذكر أهل البيت عليهم السلام وإعفاء أثرهم، ووضع الاحاديث، وقد انقلبت الحكومة الدينية إلى سلطنة استبدادية، وتغيرت السنة الاسلامية، إلى سيطرة إمبراطورية، وما كان في عهد عمر بن عبد العزيز من أمره بكتابة الحديث، وقد كان المحدثون يتعاطون الحديث إلى هذه الغاية بالاخذ والحفظ من غير تقييد بالكتابة. وفي هذه البرهة راج الادب العربي غاية رواجه، شرع ذلك من زمن معاوية فقد كان يبالغ في ترويج الشعر ثم الذين يلونه من الامويين ثم العباسيين، وكان ربما يبذل بازاء بيت من الشعر أو نكتة أدبية المئات والالوف من الدنانير، وانكب الناس على الشعر وروايته، وأخبار العرب وأيامهم، وكانوا يكتسبون بذلك الاموال الخطيرة، وكانت الامويون ينتفعون برواجه وبذل الاموال بحذائه لتحكيم موقعهم تجاه بنى هاشم ثم العباسيون تجاه بنى فاطمة كما كانوا يبالغون في إكرام العلماء ليظهروا بهم على الناس، ويحملوهم ما شاؤوا وتحكموا. وبلغ من نفوذ الشعر والادب في المجتمع العلمي أنك ترى كثيرا من العلماء يتمثلون بشعر شاعر أو مثل سائر في مسائل عقلية أو أبحاث عليمة ثم يكون له القضاء، وكثيرا ما يبنون المقاصد النظرية على مسائل لغوية ولا أقل من البحث اللغوى في اسم الموضوع أولا ثم الورود في البحث ثانيا، وهذه كلها أمور لها آثار عميقة في منطق الباحثين وسيرهم العلمي. وفي تلك الايام راج البحث الكلامي، وكتب فيه الكتب والرسائل، ولم يلبثوا أن

[ 278 ]

تفرقوا فرقتين عظيمتين وهما الاشاعرة والمعتزلة، وكانت أصول أقوالهم موجودة في زمن الخلفاء بل في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على ذلك ما روى من احتجاجات على عليه السلام في الجبر والتفويض والقدر والاستطاعة وغيرها، وما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك (1). وإنما امتازت الطائفتان في هذا الاوان بامتياز المسلكين وهو تحكيم المعتزلة ما يستقل به العقل على الظواهر الدينية كالقول بالحسن والقبح العقليين، وقبح الترجيح من غير مرجح، وقبح التكليف بما لا يطاق، والاستطاعة، والتفويض، وغير ذلك، وتحكيم الاشاعرة الظواهر على حكم العقل بالقول بنفى الحسن والقبح، وجواز الترجيح من غير مرجح، ونفى الاستطاعة، والقول بالجبر، وقدم كلام الله، وغير ذلك مما هو مذكور في كتبهم. ثم رتبوا الفن واصطلحوا الاصطلاحات وزادوا مسائل قابلوا بها الفلاسفة في المباحث المعنوية بالامور العامة، وذلك بعد نقل كتب الفلسفة إلى العربية وانتشار دراستها بين المسلمين، وليس الامر على ما ذكره بعضهم: أن التكلم ظهر أو انشعب في الاسلام إلى الاعتزال والاشعرية بعد انتقال الفلسفة إلى العرب، يدل على ذلك وجود معظم مسائلهم وآرائهم في الروايات قبل ذلك. ولم تزل المعتزلة تتكثر جماعتهم وتزداد شوكتهم وأبهتهم منذ أول الظهور إلى أوائل العهد العباسي (أوائل القرن الثالث الهجرى) ثم رجعوا يسلكون سبيل الانحطاط والسقوط حتى أبادتهم الملوك من بنى أيوب فانقرضوا وقد قتل في عهدهم وبعدهم لجرم الاعتزال من الناس ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وعند ذلك صفى جو البحث الكلامي للاشاعرة من غير معارض فتوغلوا فيه بعد ما كان فقهاؤهم يتأثمون بذلك أولا، ولم يزل الاشعرية رائجة عندهم إلى اليوم. وكان للشيعة قدم في التكلم، كان أول طلوعهم بالتكلم بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان جلهم من الصحابة كسلمان وأبى ذر والمقداد وعمار وعمرو بن الحمق وغيرهم ومن التابعين كرشيد وكميل وميثم وسائر العلويين أبادتهم أيدى الامويين، ثم تأصلوا وقوى أمرهم ثانيا

______________________________

(1) كقوله صلى الله عليه وآله فيما روى عنه: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، وقوله: القدرية مجوس هذه الامة. (*)

[ 279 ]

في زمن الامامين: الباقر والصادق عليهما السلام وأخذوا بالبحث وتأليف الكتب والرسائل، ولم يزالوا يجدون الجد تحت قهر الحكومات واضطهادها حتى رزقوا بعض الامن في الدولة البويهية (1) ثم أخنقوا ثانيا حتى صفى لهم الامر بظهور الدولة الصفوية في إيران (2)، ثم لم يزالوا على ذلك حتى اليوم. وكانت سيماء بحثهم في الكلام أشبه بالمعتزلة منها بالاشاعرة، ولذلك ربما اختلط بعض الاراء كالقول بالحسن والقبح ومسألة الترجيح من غير مرجح ومسألة القدر ومسألة التفويض، ولذلك أيضا اشتبه الامر على بعض الناس فعد الطائفتين أعنى الشيعة والمعتزلة ذواتي طريقة واحدة في البحث الكلامي، كفرسي رهان، وقد أخطأ، فإن الاصول المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وهى المعتبرة عند القوم لا تلائم مذاق المعتزلة في شئ. وعلى الجملة فن الكلام فن شريف يذب عن المعارف الحقة الدينية غير أن المتكلمين من المسلمين أساؤا في طريق البحث فلم يميزوا بين الاحكام العقلية واختلط عندهم الحق بالمقبول على ما سيجئ إيضاحه بعض الايضاح. وفي هذه البرهة من الزمن نقلت علوم الاوائل من المنطق والرياضيات والطبيعيات والالهيات والطب والحكمة العملية إلى العربية، نقل شطر منها في عهد الامويين ثم أكمل في أوائل عهد العباسيين، فقد ترجموا مئات من الكتب من اليونانية والرومية والهندية والفارسية والسريانية إلى العربية، وأقبل الناس يتدارسون مختلف العلوم ولم يلبثوا كثيرا حتى استقلوا بالنظر، وصنفوا فيها كتبا ورسائل، وكان ذلك يغيظ علماء الوقت، ولا سيما ما كانوا يشاهدونه من تظاهر الملاحدة من الدهرية والطبيعية والمانوية وغيرهم على المسائل المسلمة في الدين، وما كان عليه المتفلسفون من المسلمين من الوقعية في الدين وأهله، وتلقى أصول الاسلام ومعالم الشرع الطاهرة بالاهانة والازراء (ولا داء كالجهل). ومن أشد ما كان يغيظهم ما كانوا يسمعونه منهم من القول في المسائل المبتنية على أصول موضوعة مأخوذة من الهيئة والطبيعات كوضع الافلاك البطليموسية، وكونها

______________________________

(1) في القرن الرابع الهجرة تقريبا. (2) في أوائل القرن العاشر من الهجرة. (*)

[ 280 ]

طبيعة خامسة، واستحالة الخرق والالتيام فيها، وقدم الافلاك والفلكيات بالشخص وقدم العناصر بالنوع، وقدم الانواع ونحو ذلك فإنها مسائل مبنية على أصول موضوعة لم يبرهن عليها في الفلسفة لكن الجهلة من المنفلسفين كانوا يظهرونها في زى المسائل المبرهن عليها، وكانت الدهرية وأمثالهم وهم يومئذ منتحلون إليها يضيفون إلى ذلك امورا اخرى من أباطيلهم كالقول بالتناسخ ونفى المعاد ولا سيما المعاد الجسماني، ويطعنون بذلك كله في ظواهر الدين وربما قال القائل منهم: إن الدين مجموع وظائف تقليدية أتى بها الانبياء لتربية العقول الساذجة البسيطة وتكميلها، وأما الفيلسوف المتعاطى للعلوم الحقيقية فهو في غنى عنهم وعما أتوا به، وكانوا ذوى أقدام في طرق الاستدلال. فدعا ذلك الفقهاء والمتكلمين وحملهم على تجبيههم بالانكار والتدمير عليهم بأى وسيلة تيسرت لهم من محاجة ودعوة عليهم وبراءة منهم وتكفير لهم حتى كسروا سورتهم وفرقوا جمعهم وأفنوا كتبهم في زمن المتوكل، وكادت الفلسفة تنقرض بعده حتى جدده ثانيا المعلم الثاني أبو نصر الفارابى المتوفى سنة 339 ثم بعده الشيخ الرئيس أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 428 ثم غيرهما من معاريف الفلسفة كأبى على بن مسكويه وابن رشد الاندلسي وغيرهما، ثم لم تزل الفلسفة تعيش على قلة من متعاطيها وتجول بين ضعف وقوة. وهى وإن انتقلت ابتداء إلى العرب لكن لم يشتهر بها منهم إلا الشاذ النادر كالكندى وابن رشد، وقد استقرت أخيرا في إيران، والمتكلمون من المسلمين وإن خالفوا الفلسفة وأنكروا على أهلها أشد الانكار لكن جمهورهم تلقوا المنطق بالقبول فألفوا فيها الرسائل والكتب لما وجدوه موافقا لطريق الاستدلال الفطري. غير أنهم - كما سمعت - أخطأوا في استعماله فجعلوا حكم الحدود الحقيقية وأجزائها مطردا في المفاهيم الاعتبارية، واستعملوا البرهان في القضايا الاعتبارية التى لا مجرى فيها إلا للقياس الجدلي فتراهم يتكلمون في الموضوعات الكلامية كالحسن والقبح والثواب والعقاب والحبط والفضل في أجناسها وفصولها وحدودها، وأين هي من الحد ؟ ويستدلون في المسائل الاصولية والمسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة والامتناع. وذلك من استخدام الحقائق في الامور الاعتبارية ويبرهنون في امور ترجع إلى الواجب تعالى بأنه يجب عليه كذا ويقبح منه كذا فيحكمون الاعتبارات على الحقائق، ويعدونه برهانا، وليس بحسب

[ 281 ]

الحقيقة إلا من القياس الشعرى. وبلغ الافراط في هذا الباب إلى حد قال قائلهم: إن الله سبحانه أنزه ساحة من أن يدب في حكمه وفعله الاعتبار الذى حقيقته الوهم فكل ما كونه تكوينا أو شرعه تشريعا امور حقيقية واقعية، وقال آخر: إن الله سبحانه أقدر من أن يحكم بحكم ثم لا يستطاع من إقامة البرهان عليه، فالبرهان يشمل التكوينيات والتشريعيات جميعا. إلى غير ذلك من الاقاويل التى هي لعمري من مصائب العلم وأهله، ثم الاضطرار إلى وضعها والبحث عنها في المسفورات العلمية أشد مصيبة. وفي هذه البرهة ظهر التصوف بين المسلمين، وقد كان له أصل في عهد الخلفاء يظهر في لباس الزهد، ثم بان الامر بتظاهر المتصوفة في أوائل عهد بنى العباس بظهور رجال منهم كأبى يزيد والجنيد والشبلى ومعروف وغيرهم. يرى القوم أن السبيل إلى حقيقة الكمال الانساني والحصول على حقائق المعارف هو الورود في الطريقة، وهى نحو ارتياض بالشريعة للحصول على الحقيقة، وينتسب المعظم منهم من الخاصة والعامة إلى على عليه السلام. وإذا كان القوم يدعون امورا من الكرامات، ويتكلمون بامور تناقض ظواهر الدين وحكم العقل مدعين أن لها معاني صحيحة لا ينالها فهم أهل الظاهر ثقل على الفقهاء وعامة المسلمين سماعها فأنكروا ذلك عليهم وقابلوهم بالتبرى والتكفير، فربما أخذوا بالحبس أو الجلد أو القتل أو الصلب أو الطرد أو النفى كل ذلك لخلاعتهم واسترسالهم في أقوال يسمونها أسرار الشريعة ولو كان الامر على ما يدعون وكانت هي لب الحقيقة وكانت الظواهر الدينية كالقشر عليها وكان ينبغى إظهارها والجهر بها لكان مشرع الشرع أحق برعاية حالها وإعلان أمرها كما يعلنون، وإن لم تكن هي الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال. والقوم لم يدلوا في أول أمرهم على آرائهم في الطريقة إلا باللفظ ثم زادوا على ذلك بعد أن أخذوا موضعهم من القلوب قليلا بإنشاء كتب ورسائل بعد القرن الثالث الهجرى، ثم زادوا على ذلك بأن صرحوا بآرائهم في الحقيقة والطريقة جميعا بعد ذلك فانتشر منهم ما أنشاوه نظما ونثرا في أقطار الارض.

[ 282 ]

ولم يزالوا يزيدون عدة وعدة ووقوعا في قلوب العامة ووجاهة حتى بلغوا غاية أوجهم في القرنين السادس والسابع ثم انتكسوا في المسير وضعف أمرهم وأعرض عامة الناس عنهم. وكان السبب في انحطاطهم أولا أن شأنا من الشؤون الحيوية التى لها مساس بحال عامة الناس إذا اشتد إقبال النفوس عليه وتولع القلوب إليه تاقت إلى الاستدرار من طريقه نفوس وجمع من أرباب المطامع فتزيوا بزيه وظهروا في صورة أهله وخاصته فأفسدوا فيه وتعقب ذلك تنفر الناس عنه. وثانيا: أن جماعة من مشائخهم ذكروا أن طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة لم يذكرها مشرع الشريعة فيما شرعه إلا أنها طريقة مرضية ارتضاها الله سبحانه كما ارتضى الرهبانية المبتدعة بين النصارى قال تعالى: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " (الحديد: 27). وتلقاه الجمهور منهم بالقبول فأباح ذلك لهم أن يحدثوا للسلوك رسوما وآدابا لم تعهد في الشريعة، فلم تزل تبتدع سنة جديدة وتترك أخرى شرعية، حتى آل إلى أن صارت الشريعة في جانب، والطريقة في جانب، وآل بالطبع إلى انهماك المحرمات وترك الواجبات من شعائر الدين ورفع التكاليف، وظهور أمثال القلندرية ولم يبق من التصوف إلا التكدى واستعمال الافيون والبنج وهو الفناء. والذى يقضى به في ذلك الكتاب والسنة - وهما يهديان إلى حكم العقل - هو أن القول بأن تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حق، والقول بأن للانسان طريقا إلى نيلها حق، ولكن الطريق انما هو استعمال الظواهر الدينية على ما ينبغى من الاستعمال لا غير، وحاشا أن يكون هناك باطن لا يهدى إليه ظاهر، والظاهر عنوان الباطن وطريقه، وحاشا ان يكون هناك شئ آخر اقرب مما دل عليه شارع الدين غفل عنه أو تساهل في امره أو اضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة وهو القائل عز من قائل: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " (النحل: 89) وبالجملة فهذه طرق ثلاثة في البحث عن الحقائق والكشف عنها: الظواهر الدينية وطريق البحث العقلي وطريق تصفية النفس، أخذ بكل منها طائفة من المسلمين على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع والتدافع، وجمعهم

[ 283 ]

في ذلك كزوايا المثلث كلما زدت في مقدار واحدة منها نقصت من الاخريين وبالعكس. وكان الكلام في التفسير يختلف اختلافا فاحشا بحسب اختلاف مشرب المفسرين بمعنى أن النظر العلمي في غالب الامر كان يحمل على القرآن من غير عكس إلا ما شذ. وقد عرفت أن الكتاب يصدق من كل من الطرق ما هو حق، وحاشا أن يكون هناك باطن حق ولا يوافقه ظاهره، وحاشا أن يكون هناك حق من ظاهر أو باطن والبرهان الحق يدفعه ويناقضه. ولذلك رام جمع من العلماء بما عندهم من بضاعة العلم على اختلاف مشاربهم أن يوفقوا بين الظواهر الدينية و العرفان كابن العربي وعبد الرزاق الكاشانى وابن فهد والشهيد الثاني والفيض الكاشانى. وآخرون أن يوفقوا بين الفلسفة والعرفان كأبى نصر الفارابى والشيخ السهروردى صاحب الاشراف والشيخ صائن الدين محمد تركه. وآخرون أن يوفقوا بين الظواهر الدينية والفلسفة كالقاضي سعيد وغيره. وآخرون أن يوفقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره وكتبه وصدر المتألهين الشيرازي في كتبه ورسائله وعدة ممن تأخر عنه. ومع ذلك كله فالاختلاف العريق على حاله لا تزيد كثرة المساعى في قطع أصله إلا شدة في التعرق، ولا في إخماد ناره إلا اشتعالا:

الفيت كل تميمة لا تنفع

وأنت لا ترى أهل كل فن من هذه الفنون إلا ترمى غيره بجهالة أو زندقة أو سفاهة رأى، والعامة تتبرى منهم جميعا. كل ذلك لما تخلفت الامة في أول يوم عن دعوة الكتاب إلى التفكر الاجتماعي (وأعتصموا بحبل الله جميعا ولا تتفرقوا) والكلام ذو شجون. اللهم اهدنا إلى ما يرضيك عنا واجمع كلمتنا على الحق، وهب لنا من لدنك وليا، وهب لنا من لدنك نصيرا.

[ 284 ]

(بحث روائي)

 في الدر المنثور في قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا " (الاية) أخرج ابن الضريس والنسائي وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم - وصححه - عن ابن عباس قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " قال: فكان الرجم مما أخفوا. أقول: إشارة إلى ما سيجئ في تفسير قوله تعالى: " يا أيها الرسول لا يحزنك " إلى آخر الايات (المائدة: 41) من حديث كتمان اليهود حكم الرجم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكشفه عن ذلك. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " يبين لكم على فترة من الرسل " (الاية) قال: قال: على انقطاع من الرسل. وفي الكافي بإسناده عن أبى حمزة ثابت بن دينار الثمالى وأبى الربيع قال: حججنا مع أبى جعفر عليه السلام في السنة التى حج فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع مولى عمر ابن الخطاب فنظر إلى أبى جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذى تداك عليه الناس ؟ فقال: هذا نبى أهل الكوفة هذا محمد ابن على، فقال: اشهد لاتينه ولا سألنه عن مسائل لا يجيبنى فيها إلا نبى أو وصى نبى قال: فاذهب فاسأله لعلك تخجله. فجاء نافع حتى اتكئ على الناس ثم أشرف على أبى جعفر عليه السلام فقال: يا محمد ابن على إنى قرأت التوراة والانجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبى أو وصى نبى قال: فرفع أبو جعفر عليه السلام رأسه فقال: سل عما بدا لك فقال: أخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة ؟ فقال: أخبرك بقولى أو بقولك ؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا قال: أما في قولى فخمسمائة سنة، وأما في قولك فستمائة سنة. 4 اقول: وقد روى في أسباب نزول الايات أخبار مختلفة كما رواه الطبري عن

[ 285 ]

عكرمة: أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم الرجم فسأل عن أعلمهم فشأروا إلى ابن صوريا فناشده بالله هل يجدون حكم الرجم في كتابهم ؟ فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله: " يا أهل الكتاب إلى قوله - صراط مستقيم ". وما رواه أيضا عن أبن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبى، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدى فكلمهم وكلموه، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد ؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه - كقول النصارى - فأنزل الله فيهم: " وقالت اليهود والنصارى " (إلى آخر الاية). وما رواه أيضا عن ابن عباس قال: دعا رسول الله اليهود إلى الاسلام فرغبهم فيه وحذرهم فأبوا عليه ؟ فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريمل، ووهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، وما انزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا ارسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة " (الاية) وقد رواها في الدر المنثور عنه وعن غيره وروى غير ذلك. ومضامين الروايات كغالب ما ورد في أسباب نظرية إنما هي تطبيقات للقضايا على مضامين الايات ثم قضاء بكونها أسبابا للنزول فهى أسباب نظرية والايات كأنها مطلقة نزولا.

* * *

وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتيكم ما لم يؤت أحدا من العالمين - 20. يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين - 21. قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى

[ 286 ]

يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون - 22. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين - 23. قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون - 24. قال رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين - 25. قال فإنها محرمه عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين - 26.

(بيان)

 الايات غير خالية عن الاتصال بما قبلها فإنها تشتمل على نقضهم بعض المواثيق المأخوذة عليهم وهو الميثاق بالسمع والطاعة لموسى، وتجبيههم موسى عليه السلام بالرد الصريح لما دعاهم إليه وابتلائهم جزاء لذنبهم هذا بالتيه وهو عذاب إلهى. وفي بعض الاخبار ما يشعر أن هذه الايات نزلت قبل غزوة بدر في أوائل الهجرة، على ما ستجئ الاشارة إليها في البحث الروائي التالى إن شاء الله. قوله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم " (إلى آخر الاية) الايات النازلة في قصص موسى تدل على أن هذه القصة - دعوة موسى إياهم إلى دخول الارض المقدسة - إنما كانت بعد خروجهم من مصر، كما أن قوله في هذه الاية: " وجعلكم ملوكا " يدل على ذلك أيضا. ويدل قوله: " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " على سبق عدة من الايات النازلة عليهم كالمن والسلوى وانفجار العيون من الحجارة وإضلال الغمام. ويدل قوله: " القوم الفاسقين " المتكرر مرتين على تحقق المخالفة ومعصية الرسول

[ 287 ]

منهم قبل القصة مرة بعد مرة حتى عادوا بذلك متلبسين بصفة الفسق. فهذه قرائن تدل على وقوع القصة أعنى قصة التيه في الشطر الاخير من زمان مكث موسى عليه السلام فيهم بعد أن بعثة الله تعالى إليهم وأن غالب القصص المقتصة في القرآن عنهم إنما وقعت قبل ذلك. فقول موسى لهم: " اذكروا نعمة الله عليكم " أريد به مجموع النعم التى أنعم الله بها عليهم وحباهم بها، وإنما بدء بذلك مقدمة لما سيندبهم إليه من دخول الارض المقدسة فذكرهم نعم ربهم لينشطوا بذلك لاستزادة النعمة واستتمامها فإن الله قد كان أنعم عليهم ببعثه موسى وهدايتهم إلى دينه، ونجاتهم من آل فرعون، وإنزال التوراة، وتشريع الشريعة فلم يبق لهم من تمام النعمة إلا أن يمتلكوا أرضا مقدسة يستقلون فيها بالقطون والسؤدد. وقد قسم النعمة التى ذكرهم بها ثلاثة أقسام حين التفصيل فقال: " إذ جعل فيكم أنبياء، وهم الانبياء الذين في عمود نسبهم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من الانبياء، أو خصوص الانبياء من بنى إسرائيل كيوسف أو الاسباط وموسى وهارون، والنبوة نعمة أخرى. ثم قال: " وجعلكم ملوكا " أي مستقلين بأنفسكم خارجين من ذل استرقاق الفراعنة وتحكم الجبابرة، وليس الملك إلا من استقل في أمر نفسه وأهله وماله، وقد كان بنو إسرائيل في زمن موسى يسيرون بسنة اجتماعية هي أحسن السنن وهى سنة التوحيد التى تأمرهم بطاعة الله ورسوله، والعدل التام في مجتمعهم، وعدم الاعتداء على غيرهم من الامم من غير ان يتأمر عليهم بعضهم أو يختلف طبقاتهم اختلافا يختل به امر المجتمع، وما عليهم إلا موسى وهو نبى غير سائر سيرة ملك أو رئيس عشيرة يستعلى عليهم بغير الحق. وقيل: المراد بجعلهم ملوكا هو ما قدر الله فيهم من الملك الذى يبتدئ من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم، فالكلام على هذا وعد بالملك إخبارا بالغيب فإن الملك لم يستقر فيهم إلا بعد موسى بزمان. وهذا الوجه لا بأس به لكن لا يلائمه قوله: " وجعلكم ملوكا " ولم يقل: وجعل منكم ملوكا، كما قال: " جعل فيكم أنبياء ". ويمكن أن يكون المراد بالملك مجرد ركوز الحكم عند بعض الجماعة فيشمل سنة

[ 288 ]

الشيخوخة، ويكون على هذا موسى عليه السلام ملكا وبعده يوشع النبي وقد كان يوسف ملكا من قبل، وينتهى إلى الملوك المعروفين طالوت وداود وسليمان وغيرهم. هذا، ويرد على هذا الوجه أيضا ما يرد على سابقه. ثم قال: " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " وهى العنايات والالطاف الالهية التى اقترنت بآيات باهرة قيمة بتعديل حياتهم لو استقاموا على ما قالوا، وداموا على ما واثقوا، وهى الايات البينات التى أحاطت بهم من كل جانب أيام كانوا بمصر، وبعد إذ نجاهم الله من فرعون وقومه، فلم يتوافر ويتواتر من الايات المعجزات والبراهين الساطعات والنعم التى يتنعم بها في الحياة على امة من الامم الماضية المتقدمة على عهد موسى ما توافرت وتواترت على بنى اسرائيل. وعلى هذا فلا وجه لقول بعضهم: ان المراد بالعالمين عالموا زمانهم وذلك أن الاية تنفى أن يكون امة من الامم إلى ذلك الوقت اوتيت من النعم ما اوتى بنو اسرائيل، وهو كذلك. قوله تعالى: " يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " أمرهم بدخول الارض المقدسة، وكان يستنبط من حالهم التمرد والتأبى عن القبول، ولذلك أكد إمره بالنهي عن الارتداد وذكر استتباعه الخسران. والدليل على أنه كان يستنبط منهم الرد توصيفه اياهم بالفاسقين بعد ردهم، فإن الرد وهو فسق واحد لا يصحح اطلاق " الفاسقين " عليهم الدال على نوع من الاستمرار والتكرر. وقد وصف الارض بالمقدس، وقد فسروه بالمطهرة من الشرك لسكون الانبياء والمؤمنين فيها، ولم يرد في القرآن الكريم ما يفسر هذه الكلمة. والذى يمكن أن يستفاد منه ما يقرب من هذا المعنى قوله تعالى: " إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله " (أسرى: 1) وقوله: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التى باركنا فيها " (الاعراف: 137) وليست المباركة في الارض الا جعل الخير الكثير فيها، ومن الخير الكثير اقامة الدين واذهاب قذارة الشرك. وقوله: " كتب الله لكم " ظاهر الايات أن المراد به قضاء توطنهم فيها، ولا ينافيه

[ 289 ]

قوله في آخرها: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة " بل يؤكده فإن قوله: " كتب الله لكم كلام " مجمل أبهم فيه ذكر الوقت وحتى الاشخاص، فإن الخطاب للامة من غير تعرض لحال الافراد والاشخاص كما قيل: ان السامعين لهذا الخطاب الحاضرين المكلفين به ماتوا وفنوا عن آخرهم في التية، ولم يدخل الارض المقدسة الا أبناءهم وأبناء أبنائهم مع يوشع بن نون، وبالجملة لا يخلو قوله: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة " عن اشعار بأنها مكتوبة لهم بعد ذلك. وهذه الكتابة هي التى يدل عليها قوله تعالى: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض " (القصص: 6) وقد كان موسى عليه السلام يرجو لهم ذلك بشرط الاستعانة بالله والصبر حيث يقول: " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا اوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون " (الاعراف: 129). وهذا هو الذى يخبر تعالى عن انجازه بقوله: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التى باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا " (الاعراف: 137) فدلت الاية على أن استيلاءهم على الارض المقدسة وتوطنهم فيها كانت كلمة الهية وكتابا وقضاء مقضيا مشترطا بالصبر على الطاعة وعن المعصية، وفي مر الحوادث. وانما عممنا الصبر لمكان اطلاق الاية، ولان الحوادث الشاقة كانت تتراكم عليهم أيام موسى ومعها الاوامر والنواهي الالهية، وكلما أصروا على المعصية اشتدت عليهم التكاليف الشاقة كما تدل على ذلك أخبارهم المذكورة في القرآن الكريم. وهذا هو الظاهر من القرآن في معنى كتابة الارض المقدسة لهم، والايات مع ذلك مبهمة في زمان الكتابة ومقدارها غير أن قوله تعالى في ذيل آيات سورة الاسراء: " وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " (أسرى: 8) وكذا قول موسى لهم في ذيل الاية السابقة: " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف

[ 290 ]

تعملون " (الاعراف: 129) وقوله أيضا: " وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم - إلى أن قال - وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " إبراهيم: 7) وما يناظرها من الايات تدل على أن هذه الكتابة كتابة مشترطة لا مطلقة غير قابلة للتغير والتبدل. وقد ذكر بعض المفسرين أن مراد موسى في محكى قوله في الاية: " كتب الله لكم " ما وعد الله إبراهيم عليه السلام، ثم ذكر ما في التوراة (1) من وعد الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنه سيعطى الارض لنسلهم، وأطال البحث في ذلك. ولا يهمنا البحث في ذلك على شريطة الكتاب سواء كانت هذه العدات من التوراة الاصلية أو مما لعبت به يد التحريف فإن القرآن لا يفسر بالتوراة. قوله تعالى: " قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " قال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشئ بضرب من القهر يقال: جبرته فانجبر واجتبر. قال: وقد يقال الجبر تارة في الاصلاح المجرد نحو قول على رضى الله عنه: يا جابر كل كسير ويا مسهل كل عسير، ومنه قولهم للخبز: جابر بن حبة، وتارة في القهر المجرد نحو قوله عليه السلام: لا جبر ولا تفويض، قال: والاجبار في الاصل حمل الغير على أن يجبر الاخر لكن تعورف في الاكراه المجرد فقيل: أجبرته على كذا لقولك: أكرهته. قال: والجبار في صفة الانسان يقال لمن يجبر نقيصة بادعاء منزلة من التعالى لا يستحقها، وهذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله عز وجل: " وخاب كل جبار عنيد " وقوله تعالى. " ولم يجعلني جبارا شقيا " وقوله عز وجل: " إن فيها قوما جبارين " قال: ولتصور القهر بالعلو على الاقران قيل: نخله جبارة وناقة جبارة انتهى موضوع الحاجة.

______________________________

(1) كما في سفر التكوين أنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب: " وقال لنسلك اعطى هذه الارض " 12: 7 وفيه ايضا: " في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك اعطى هذه الارض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات) 15: 18 وفي سفر تثنية الاشتراع: (الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلا: كفاكم قعودا في هذا الجبل، تحولوا وارتحلوا وادخلو جبل الامويين وكل ما يليه من القفر والجبا والسهل والجنوب وساحل البحر ارض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. انظروا قد جعلت أمامكم الارض ادخلوا وتملكوا الارض التى اقسم الرب لابائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ان يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم " 1 - 8. (*)

[ 291 ]

فظهر أن المراد بالجبارين هم أولوا السطوة والقوة من الذين يجبرون الناس على ما يريدون. وقوله: " وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " اشتراط منهم خروج القوم الجبارين في دخول الارض، وحقيقته الرد لامر موسى وإن وعدوه ثانيا الدخول على الشرط بقولهم: " فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ". وقد ورد في عدة من الاخبار في صفة هؤلاء الجبارين من العمالقة وعظم أجسامهم وطول قامتهم امور عجيبة لا يستطيع ذو عقل سليم أن يصدقها، ولا يوجد في الاثار الارضية والابحاث الطبيعية ما يؤيدها فليست إلا موضوعة مدسوسة. قوله تعالى: " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " (إلى آخر الاية) ظاهر السياق أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه وأن هناك رجالا كانوا يخافون الله أن يعصوا أمره وأمر نبيه، ومنهم هذان الرجلان اللذان قالا ما قالا، وأنهما كانا يختصان من بين اولئك الذين يخافون بأن الله أنعم عليهما، وقد مر في موارد تقدمت من الكتاب أن النعمة إذا اطلقت في عرف القرآن يراد بها الولاية الالهية فهما كانا من أولياء الله تعالى، وهذا في نفسه قرينة على أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه فإن أولياء الله لا يخشون غيره قال تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (يونس: 62). ويمكن أن يكون متعلق " أنعم " المحذوف أعنى المنعم به هو الخوف فيكون المراد أن الله أنعم عليهما بمخافته، ويكون حذف مفعول " يخافون " للاكتفاء بذكره في قوله: " أنعم الله عليهما " إذ من المعلوم أن مخافتهما لم يكن من اولئك القوم الجبارين والا لم يدعو بنى اسرائيل إلى الدخول بقولهما: " ادخلوا عليهم الباب ". وذكر بعض المفسرين: أن ضمير الجمع في " يخافون " عائد إلى بنى إسرائيل والضمير العائد إلى الموصول محذوف، والمعنى: وقال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم الله على الرجلين بالاسلام، وأيدوه بما نسب إلى ابن جبير من قراءة " يخافون " بضم الياء قالوا. وذلك أن رجلين من العمالقة كانا قد آمنا بموسى، ولحقا بنى إسرائيل ثم قالا لبنى إسرائيل ما قالا إراءة لطريق الظفر على العمالقة والاستيلاء على بلادهم وأرضهم. وكان هذا التفسير باستناد منهم إلى بعض الاخبار الواردة في تفسير الايات لكنه من

[ 292 ]

الاحاد المشتملة على ما لا شاهد له من الكتاب وغيره. وقوله: " ادخلوا عليهم الباب " لعل المراد به أول بلد من بلاد أولئك الجبابرة يلى بنى إسرائيل، وقد كان على ما يقال: " أريحاء، وهذا استعمال شائع أو المراد باب البلدة. وقوله: " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " وعد منهما لهم بالفتح والظفر على العدو، وإنما أخبرا إخبارا بتيا اتكالا منهما بما ذكره موسى عليه السلام أن الله كتب لهم تلك الارض لايمانهما بصدق أخباره، أو أنهما عرفا ذلك بنور الولاية الالهية. وقد ذكر المعظم من مفسري الفريقين: أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما من نقباء بنى إسرائيل الاثنى عشر. ثم دعواهم إلى التوكل على ربهم بقولهما: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " لان الله سبحانه كافى من توكل عليه، وفيه تطييب لنفوسهم وتشجيع لهم. قوله تعالى: " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها " (الاية) تكرارهم قولهم: " إنا لن ندخلها " ثانيا لايئاس موسى عليه السلام من أن يصر على دعوته فيعود إلى الدعوة بعد الدعوة. وفي الكلام وجوه من الاهانة والازراء والتهكم بمقام موسى وما ذكرهم به من أمر ربهم ووعده فقد سرد الكلام سردا عجيبا، فهم أعرضوا عن مخاطبة الرجلين الداعيين إلى دعوة موسى عليه السلام أولا، ثم أوجزوا الكلام مع موسى بعد ما أطنبوا فيه بذكر السبب والخصوصيات في بادئ كلامهم، وفي الايجاز بعد الاطناب في مقام التخاصم والتجاوب دلالة على استملال الكلام وكراهة استماع الحديث أن يمضى عليه المتخاصم الاخر. ثم أكدوا قولهم: " لن ندخلها " ثانيا بقولهم: " أبدا " ثم جراهم الجهالة على ما هو أعظم من ذلك كله، وهو قولهم مفرعين على ردهم الدعوة: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ". وفي الكلام أوضح الدلالة على كونهم مشبهين كالوثنيين، وهو كذلك فإنهم القائلون على ما يحكيه الله سبحانه عنهم في قوله: " وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة قال انكم قوم تجهلون " (الاعراف: 138) ولم يزالوا على التجسيم والتشبيه حتى اليوم على ما يدل عليه كتبهم

[ 293 ]

الدائرة بينهم. قوله تعالى: " قال رب انى لا أملك الا نفسي واخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين السياق يدل على أن قوله: " إنى لا أملك الا نفسي وأخى " كناية عن نفى القدرة على حمل غير نفسه وأخيه على ما أتاهم به من الدعوة. فإنه انما كان في مقدرته حمل نفسه على امضاء ما دعا إليه وحمل أخيه هارون وقد كان نبيا مرسلا وخليفة له في حياته لا يتمرد عن أمر الله سبحانه. أو أن المراد أنه ليس له قدرة الا على نفسه ولا لاخيه قدرة الا كذلك. وليس مراده نفى مطلق القدرة حتى من حيث اجابة المسئول لايمان ونحوه حتى ينافى ظاهر سياق الاية أن الرجلين من الذين يخافون وآخرين غيرهما كانوا مؤمنين به مستجيبين لدعوته فإنه لم يذكر فيمن يملكه حتى أهله وأهل أخيه مع أن الظاهر أنهم ما كانوا ليتخلفوا عن أوامره. وذلك أن المقام لا يقتضى الا ذلك فإنه دعاهم إلى خطب مشروع فأبلغ وأعذر فرد عليه المجتمع الاسرائيلي دعوته أشنع رد وأقبحه، فكان مقتضى هذا الحال أن يقول: رب انى أبلغت وأعذرت ولا أملك في اقامة أمرك الا نفسي وكذلك أخى، وقد قمنا بما علينا من واجب التكليف ولكن القوم واجهونا بأشد الامتناع، ونحن الان آئسان منهم، والسبيل منقطع فاحلل أنت هذه العقدة ومهد بربوبيتك السبيل إلى نيل ما وعدته لهم من تمام النعمة وايراثهم الارض واستخلافهم فيها، واحكم وافصل بيننا وبين هؤلاء الفاسقين. وهذا المورد على خلاف جميع الموارد التى عصوا فيها أمر موسى كمسألة الرؤية وعبادة العجل ودخول الباب وقول حطة وغيرها يختص بالرد الصريح من المجتمع الاسرائيلي لامره من غير أي رفق وملاءمة، ولو تركهم موسى على حالهم، وأغمض عن أمره لبطلت الدعوة من أصلها، ولم يتمش له بعد ذلك أمر ولا نهى وتلاشت بينهم أركان ما أوجده من الوحدة. ويتبين بهذا البيان اولا: أن مقتضى هذا الحال أن يتعرض موسى عليه السلام في شكواه إلى ربه لحال نفسه وأخيه، وهما المبلغان عن الله تعالى، ولا يتعرض لحال غيرهما من المؤمنين وإن كانوا غير متمردين. إذ لا شأن لهم في التبليغ والدعوة، والمقام إنما يقتضى التعرض

[ 294 ]

لحال مبلغ الحكم لا العامل الاخذ به المستجيب له. وثانيا: أن المقام كان يقتضى رجوع موسى عليه السلام إلى ربه بالشكوى وهو في الحقيقة استنصار منه في إجراء الامر الالهى. وثالثا: أن قوله: " وأخى " معطوف على الياء في قوله: " إنى " والمعنى: وأخى مثلى لا يملك إلا نفسه لا على قوله: " نفسي " فإنه خلاف ما يقتضيه السياق وإن كان المعنى صحيحا على جميع التقادير فإن موسى وهارون كما كانا يملك كل منهما من نفسه الطاعة والامتثال كان موسى يملك من نفس هارون الطاعة لكونه خليفته في حياته، وكذا كانا يملكان ممن أخلص لله من المؤمنين السمع والطاعة. ورابعا: أن قوله: " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ليس دعاء منه على بنى إسرائيل بالحكم الفصل المستعقب لنزول العذاب عليهم أو بالتفريق بينهما وبينهم بإخراجهما من بينهم أو بتوفيهما فإنه عليه السلام كان يدعوهم إلى ما كتب الله لهم من تمام النعمة، وكان هو الذى كتب الله المن على بنى إسرائيل بإنجائهم واستخلافهم في الارض بيده كما قال تعالى: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " (القصص: 5). وكان بنو إسرائيل يعلمون ذلك منه كما يستفاد من قولهم على ما حكى الله: " قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " الاية (الاعراف: 129). ويشهد بذلك أيضا قوله تعالى: " فلا تأس على القوم الفاسقين " فإنه يكشف عن أن موسى عليه السلام كان يشفق عليهم من نزول السخط الالهى، وكان من المترقب أن يحزن بسبب حلول نقمة التيه بهم. قوله تعالى: " قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين " الضمير في قوله: " فإنها " راجعة إلى الارض المقدسة، والمراد بالتحريم التحريم التكويني وهو القضاء، والتيه التحير، واللام في " الارض " للعهد، وقوله " فلا تأس " نهى من الاسى وهو الحزن، وقد أمضى الله تعالى قول موسى عليه السلام حيث وصفهم في دعائه بالفاسقين. والمعنى: أن الارض المقدسة أي دخولها وتملكها محرمة عليهم، أي قضينا أن

[ 295 ]

لا يوفقوا لدخولها أربعين سنة يسيرون فيها في الارض متحيرين لاهم مدنيون يستريحون إلى بلد من البلاد، ولا هم بدويون يعيشون عيشة القبائل والبدويين، فلا تحزن على القوم الفاسقين من نزول هذه النقمة عليهم لانهم فاسقون لا ينبغى أن يحزن عليهم إذا أذيقوا وبال أمرهم.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان لاحدهم خادم دابة وامرأة كتب ملكا. وفيه: اخرج أبو داود في مراسله عن زيد بن أسلم في قوله: " وجعلكم ملوكا " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زوجة ومسكن وخادم. أقول: وروى غير هاتين الروايتين روايات أخرى في هذا المعنى غير أن الاية في سياقها لا تلائم هذا التفسير، فإنه وإن كان من الممكن أن يكون من دأب بنى إسرائيل أن يسموا كل من كان له بيت وامرأة وخادم ملكا أو يكتبوه ملكا إلا أن من البديهى أنهم لم يكونوا كلهم حتى الخوادم على هذا النعت ذوى بيوت ونساء وخدام فالكائن منهم على هذه الصفة بعضهم، ويماثلهم في ذلك سائر الامم والاجيال فاتخاذ البيوت والنساء والخدام عادة جارية في جميع الامم لا يخلو عن ذلك أمة عن الامم، وإذا كان كذلك لم يكن أمرا يخص بنى إسرائيل حتى يمتن الله عليهم في كلامه بأنه جعلهم ملوكا، والاية في مقام الامتنان. ولعل التنبه على ذلك أوجب وقوع ما وقع في بعض الروايات كما عن قتادة: أنهم أول من ملك الخدم، والتاريخ لا يصدقه. وفي أمالى المفيد بإسناده عن أبى حمزة عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما انتهى لهم موسى إلى الارض المقدسة قال لهم: " ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " وقد كتبها الله لهم " قالوا إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا

[ 296 ]

إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى انا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون قال رب انى لا أملك الا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " فلما أبوا ان يدخلوها حرمها الله عليهم فتاهوا في أربع فراسخ اربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين. قال أبو عبد الله عليه السلام: كانوا إذا امسوا نادى مناديهم: الرحيل فيرتحلون بالحدا والزجر حتى إذا اسحروا امر الله الارض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذى ارتحلوا منه فيقولون: قد اخطأتم الطريق فمكثوا بهذا اربعين سنة، ونزل عليهم المن والسلوى حتى هلكوا جميعا الا رجلان: يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وابناءهم وكانوا يتيهون في نحو اربع فراسخ فإذا ارادوا ان يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم وخفافهم. قال: وكان معهم حجر إذا انزلوا ضربه موسى بعصاه فانفرجت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر ووضع الحجر على الدابة، الحديث. اقول: والروايات فيما يقرب من هذه المعاني كثيرة من طرق الشيعة واهل السنة وقوله في الرواية: وقال أبو عبد الله (الخ) رواية أخرى، وهذه الروايات وان اشتملت في معنى التيه وغيره على أمور لا يوجد في كلامه تعالى ما تتأيد به لكنها مع ذلك لا تشتمل على شئ مما يخالف الكتاب، وامر بنى اسرائيل في زمن موسى عليه السلام كان عجيبا تحتف بحياتهم خوارق العادة من كل ناحية فلا ضير في ان يكون تيههم على هذا النحو المذكور في الروايات. وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عليه السلام: انه سئل عن قول: " ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم قال: كتبها لهم ثم محاها ثم كتبها لابنائهم فدخلوها والله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. اقول. وروى هذا المعنى ايضا عن اسماعيل الجعفي عنه عليه السلام وعن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام. وقد قاس عليه السلام الكتابة بالنسبة إلى السامعين لخطاب موسى عليه السلم بدخول الارض، والى الداخلين فيها فأنتج البداء في خصوص المكتوب لهم فلا ينافى ذلك ظاهر سياق الاية: ان المكتوب لهم هم الداخلون، وانما حرموا الدخول اربعين سنة ورزقوه بعدها فإن الخطاب في الاية متوجه بحسب المعنى

[ 297 ]

إلى المجتمع الاسرائيلي فيتحد عليه المكتوب لهم الدخول مع الداخلين لكونهم جميعا أمة واحدة كتب لها الدخول اجمالا ثم حرمت الدخول مدة ورزقته بعد ها ولا بداء على هذا وان كان بالنظر إلى خصوص الاشخاص بداء. وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمان بن يزيد عن ابى عبد الله عليخخخم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مات داود النبي يوم السبت مفجوا فأظلته الطير بأجنحتها، ومات موسى كليم الله في التيه فصاح صائح من السماء مات موسى واى نفس لا تموت ؟.

* * *

واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين - 27. لئن بسطت إلى يدك لتقتلى ما أنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنى أخاف الله رب العالمين - 28. إنى أريد أن تبوء بإثمى وأثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين - 29. فطوعت له نفسه قتل أخخيه فقتله فأصبح من الخاسرين - 30. فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوء أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخى فأصبح من الندمين - 31. من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرئيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون - 32.

[ 298 ]

(بيان)

 الايات تبنئ عن قصة ابني آدم، وتبين ان الحد ربما يبلغ بابن آدم إلى حيث يقتل اخاه ظالما فيصبح من الخخاسرين ويندم ندامة لا يستتبع نفعا، وهى بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام على بنى إسرائيل واستنكافهم عن الايمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان اباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن الا حسدا وبغيا، وهذا شأن الحسد يبعث الانسان إلى قتل اخيه ثم يوقعه في ندامة وحسرة لا مخلص عنها ابدا، فلييعتبروا بالقصة ولا يلحوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الالحاح. قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " (الاية) التلاوة من التلو وهى القراءة سميت بها لان القارئ للنبأ يأتي ببعض اجزائه في تلو بعض آخخر. والنبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى ونفع. والقربان ما يتقرب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره، وهو في الاصل مصدر لا يثنى ولا يجمع. والتقبل هو القبول بزيادة عناية واهتمام بالقبول والضمير في قوله " عليهم " لاهل الكتاب لما مر من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام. والمراد بهذا المسمى بآدم الذى بذكر القرآن أنه أبو البشر، وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان رجلا من بنى إسرائيل تنازعع ابناه في قربان قرباه فقتل أحدهما الاخر، وهو قابيل أو قايين قتل هابيل ولذلك قال تعالى بعد سرد القصة: " من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرئيل ". وهو فاسد أما أولا: فان القرآن لم يذكر ممن سمى بآدم إلا الذى يذكر أنه أبو البشر، ولو كان المراد بما في الاية غيره لكان من الازم نصب القرينة على ذلك لئلا يبهم أمر القصة. وأما ثانيا فلان بعض ما ذكر من خصوصيات القصة كقوله: " فبعث الله غرابا " انما يلائم حال الانسان الاولى الذى كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الادراك، يأخخذ باستعداد الجبلى في ادخار المعلومات بالجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئية حادثة بعد حادثة، فالاية ظاهرة في أن القاتل ما كان يدرى أن الميت يمكن أن يستر جسده بمواراته في الارض، وفى الخاصة إنما تناسب حال ابن آدم أبى البشر لاحال رجل

[ 299 ]

من بنى إسرائيل، وقد كانوا أهل حضارة ومدينة بحسب حالهم في قوميتهم لا يخفى على أحدهم أمثال هذه الامور قطعا. وأما ثالثا فلان قوله: ولذلك قال تعالى بعد تمام القصة - من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل، يريد به الجواب عن سؤال اورد على الاية، وهو أنه ما وجه اختصاص الكتابة ببنى إسرائيل مع أن الذى تقتضيه القصة - وهو الذى كتبه الله - يعم حال جميع البشر، من قتل منهم نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحيا منهم نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا ؟. فأجاب القائل بقوله: ولذلك قال تعالى (الخ) أن القاتل والمقتول لم يكونا ابني آدم أبى البشر حتى تكون قصتهما مشتملة على حادثة من الحوادث الاوليه بين النوع الانساني فيكون عبرة يعتبر بها كل من جاء بعدهما، وإنما هما ابنا رجل من بنى إسرائيل، وكان نبأهما من الاخبار القومية الخاصة، ولذلك أخذ عبرة مكتوبة لخصوص بنى إسرائيل. لكن ذلك لا يحسم مادة الاشكال فإن السؤال بعد باق على حاله فإن كون قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع وإحياء الواحد بمنزلة إحياء الجميع معنى يرتبط بكل قتل وقع بين هذا النوع من غير اختصاصه ببعض دون بعض، وقد وقع ما لا يحصى من القتل قبل بنى إسرائيل، وقبل هذا القتل الذى يشير إليه، فما باله رتب على قتل خاص وكتب على قوم خاص ؟. على أن الامر لو كان كما يقول كان الاحسن أن يقال: من قتل منكم نفسا (الخ) ليكون خاصا بهم، ثم يعود السؤال في هذا التخصيص مع عدم استقامته في نفسه. والجواب عن أصل الاشكال ان الذى يشتمل عليه قوله: " أن من قتل نفسا بغير نفس (الاية) حكمة بالغة وليس بحكم مشرع فالمراد بالكتابة عليهم بيان هذه الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم ولغيرهم كالحكم والمواعظ التى بينت في القرآن لامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عدم انحصار فائدتها فيهم. وإنما ذكر في الاية أنه بينه لهم لان الايات مسوقة لعظتهم وتنبيههم وتوبيخهم على ما حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصروا في العناد واشعال نار الفتن والتسبيب إلى القتال ومباشرة الحروب على المسلمين، ولذلك ذيل قوله: " من قتل نفسا " (الخ) بقوله: " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون "

[ 300 ]

على أن أصل القصة على النحو الذى ذكره لا مأخذ له رواية ولا تاريخا. فتبين ان قوله: " نبأ ابني آدم بالحق " يراد به قصة ابني آدم أبى البشر، وتقييد الكلام بقوله: " بالحق " - وهو متعلق بالنبأ أو بقوله " واتل " لا يخلو عن اشعار أو دلالة على ان المعروف الدائر بينهم من النبأ لا يخلو من تحريف وسقط، وهو كذلك فإن القصة موجودة في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة، وليس فيها خبر بعث الغراب وبحثه في الارض، والقصة مع ذلك صريحة في تجسم الرب تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وقوله: " إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر " ظاهر السياق أن كل واحد منهما قدم إلى الرب تعالى شيئا يتقرب به " وإنما لم يثن لفظ القربان لكونه في الاصل مصدرا لا يثنى ولا يجمع. وقوله: " قال لاقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين " القائل الاول هو القاتل والثانى هو المقتول، وسياق الكلام يدل على أنهما علما تقبل قربان أحدهما وعدم تقبله من الاخر، وأما أنهما من أين علما ذلك ؟ أو بأى طريق استدلوا عليه ؟ فالاية ساكته عن ذلك. غير أنه ذكر في موضع من كلامه تعالى: انه كان من المعهود عند الامم السابقة أو عند بنى إسرائيل خاصة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه قال تعالى: " الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين " (آل عمران: 183) والقربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم (1) فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضا على ذلك النحو، وخاصة بالنظر إلى القاء القصة إلى أهل الكتاب المعتقدين لذلك، وكيف كان فالقاتل والمقتول جميعا كانا يعلمان قبوله من أحدهما ورده من الاخر. ثم السياق يدل أيضا على أن القائل " لاقتلنك " هو الذى لم يتقبل قربانه، وأنه

______________________________

(1) القربان عند اليهود أنواع كذبائح الحيوان بالتضحية، وتقدمة الدقيق والزيت واللبان وباكورة الثمار، وعند النصارى ما يقدمونه من الخبز والخمر فيتبدل إلى لحم المسيح ودمه حقيقة في زعمهم. (*)

[ 301 ]

انما قال ذلك حسدا من نفسه إذ لم يكن هناك سبب آخر، ولا أن المقتول كان قد أجرم اجراما باختيار منه حتى يواجه بمثل هذا القول ويهدد بالقتل. فقول القاتل: " لاقتلنك " تهديد بالقتل حسدا لقبول قربان المقتول دون القاتل فقول المقتول: " إنما يتقبل الله من المتقين " إلى آخر ما حكى الله تعالى عنه جواب عما قاله القاتل فيذكر له أولا: أن مسألة قبول القربان وعدم قبوله لا صنع له في ذلك ولااجرام، وانما الاجرام من قبل القاتل حيث لم يتق الله فجازاه الله بعدم قبول قربانه. وثانيا: أن القاتل لو أراد قتله وبسط إليه يده لذلك ما هو بباسط يده إليه ليقتله لتقواه وخوفه من الله سبحانه، وانما يريد على هذا التقدير أن يرجع القاتل وهو يحمل اثم المقتول واثم نفسه فيكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فقوله: " انما يتقبل الله من المتقين " مسوق لقصر الافراد للدلالة على ان التقبل لا يشمل قربان التقى وغير التقى جميعا، أو لقصر القلب كأن القاتل كان يزعم انه سيتقبل قربانه دون قربان المقتول زعما منه ان الامر لا يدور مدار التقوى أو أن الله سبحانه غير عالم بحقيقة الحال، يمكن أن يشتبه عليه الامر كما ربما يشتبه على الانسان. وفى الكلام بيان لحقيقة الامر في تقبل العبادات والقرابين، وموعظة وبلاغ في أمر القتل والظلم والحسد، وثبوت المجازاة الالهية وأن ذلك من لوازم ربوبية رب العالمين فإن الربوبية لا تتم الا بنظام متقن بين أجزاء العالم يؤدى إلى تقدير الاعمال بميزان العدل، وجزاء الظلم بالعذاب الاليم ليرتدع الظالم عن ظلمه أو يجزى بجزائه الذى أعده لنفسه وهو النار. قوله تعالى: " لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدى اليك " (الخ) اللام للقسم، وبسط اليد إليه كناية عن الاخذ بمقدمات القتل واعمال اسبابه، وقد اتى في جواب الشرط بالنفى الوارد على الجملة الاسمية، وبالصفة (بباسط) دون الفعل واكد النفى بالباء ثم الكلام بالقسم، كل ذلك للدلالة على انه بمراحل من البعد من ارادة قتل اخيه، لايهم به ولا يخطر بباله. واكد ذلك كله بتعليل ما ادعاه من قوله: " ما انا بباسط يدى " (الخ) بقوله: " انى اخاف الله رب العالمين " فإن ذكر المتقين لربهم وهو الله رب العالمين الذى يجازى في

[ 302 ]

كل اثم بما يتعقبه من العذاب ينبه في نفوسهم غريزة الخوف من الله تعالى، ولا يخليهم وان يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة. ثم ذكر تأويل قوله: " لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدى " (الخ) بمعنى حقيقة هذا الذى أخبر به، ومحصله أن الامر على هذا التقدير يدور بين أن يقتل هو أخاه فيكون هو الظالم الحامل للاثم الداخل في النار، أو يقتله أخوه فيكون هو كذلك، وليس يختار قتل أخيه الظالم على سعادة نفسه وليس بظالم، بل يختار أن يشقى أخوه الظالم بقتله ويسعد هو وليس بظالم، وهذا هو المراد بقوله: " إنى أريد، الخ " كنى بالارادة عن الاختيار على تقدير دوران الامر. فالاية في كونها تأويلا لقوله: " لئن بسطت إلى يدك " (الخ) كالذى وقع في قصة موسى وصاحبه حين قتل غلاما لقياه فاعترض عليه موسى بقوله: " أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا " فنبأه صاحبه بتأويل ما فعل بقوله: " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما " (الكهف: 81). فقد أراد المقتول أي اختار الموت مع السعادة وإن استلزم شقاء أخيه بسوء اختياره على الحياة مع الشقاء والدخول في حزب الظالمين، كما اختار صاحب موسى موت الغلام مع السعادة وإن استلزم الحزن والاسى من أبويه على حياته وصيرورته طاغيا كافرا يضل بنفسه ويضل أبويه، والله يعوضهما منه من هو خير منه زكاة وأقرب رحما. والرجل أعنى ابن آدم المقتول من المتقين العلماء بالله، أما كونه من المتقين فلقوله: " إنما يتقبل الله من المتقين " المتضمن لدعوى التقوى، وقد أمضاها الله تعالى بنقله من غير رد، وأما كونه من العلماء بالله فلقوله: " إنى أخاف الله رب العالمين " فقد ادعى مخافة الله وأمضاها الله سبحانه منه، وقد قال تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (فاطر: 28) فحكايته تعالى قوله: " إنى أخاف الله رب العالمين " وإمضاؤه له توصيف له بالعلم كما وصف صاحب موسى أيضا بالعلم إذ قال: " وعلمناه من لدنا علما " (الكهف: 65). وكفى له علما ما خاطب به أخاه الباغى عليه من الحكمة البالغة والموعظة الحسنة فإنه بين عن طهارة طينته وصفاء فطرته: أن البشر ستكثر عدتهم ثم تختلف بحسب الطبع البشرى

[ 303 ]

جماعتهم فيكون منهم متقون وآخرون ظالمون، وأن لهم جميعا ولجميع العالمين ربا واحدا يملكهم ويدبر أمرهم، وأن من التدبير المتقن أن يحب ويرتضى العدل والاحسان، ويكره ويسخط الظلم والعدوان ولازمه وجوب التقوى و مخافة الله على الانسان وهو الدين، فهناك طاعات وقربات ومعاصي ومظالم، وأن الطاعات والقربات إنما تتقبل إذا كانت عن تقوى، وأن المعاصي والمظالم آثام يحملها الظالم، ومن لوازمه أن تكون هناك نشأة أخرى فيها الجزاء، وجزاء الظالمين النار. وهذه - كما ترى - أصول المعارف الدينية ومجامع علوم المبدء والمعاد أفاضها هذا العبد الصالح إفاضة ضافية لاخيه الجاهل الذى لم يكن يعرف أن الشئ يمكن أن يتوارى عن الانظار بالدفن حتى تعلمه من الغراب، وهو لم يقل لاخيه حينما كلمه: إنك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك ولم أدافع عن نفسي ولا أتقى القتل، وإنما قال: ما كنت لاقتلك. ولم يقل: إنى أريد أن أقتل بيدك على أي تقدير لتكون ظالما فتكون من أصحاب النار فإن التسبيب إلى ضلال أحد وشقائه في حياته ظلم وضلال في شريعة الفطرة من غير اختصاص بشرع دون شرع، وإنما قال: إنى أريد ذلك وأختاره على تقدير بسطك يدك لقتلى. ومن هنا يظهر اندفاع ما أورد على القصة: أنه كما أن القاتل منهما أفرط بالظلم والتعدى كذلك المقتول قصر بالتفريط والانظلام حيث لم يخاطبه ولم يقابله بالدفاع عن نفسه بل سلم له أمر نفسه وطاوعه في إرادة قتله حيث قال له: " لئن بسطت إلى يدك " (الخ). وجه الاندفاع أنه، لم يقل: إنى لا أدافع عن نفسي وأدعك وما تريد منى وإنما قال: لست أريد قتلك، ولم يذكر في الاية أنه قتل ولم يدافع عن نفسه على علم منه بالامر فلعله قتله غيلة أو قتله وهو يدافع أو يحترز. وكذا ما أورد عليها أنه ذكر إرادته تمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب الخالد ليكون هو بذلك سعيدا حيث قال: " إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار " كبعض المتقشفين من أهل العبادة والورع حيث يرى أن الذى عليه هو التزهد والتعبد، وإن ظلمه ظالم أو تعدى عليه متعد حمل الظالم وزر ظلمه، وليس عليه من الدفاع عن حقه إلا الصبر والاحتساب. وهذا من الجهل، فإنه من الاعانة على الاثم،

[ 304 ]

وهى توجب اشتراك المعين والمعان في الاثم جميعا لا انفراد الظالم بحمل الاثنين معا. وجه الاندفاع: أن قوله: " إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك "، قول على تقدير بالمعنى الذى تقدم بيانه. وقد أجيب عن الاشكالين ببعض وجوه سخيفة لا جدوى في ذكرها. قوله تعالى: " إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار " أي ترجع بإثمى وإثمك كما فسره بعضهم، وقال الراغب في مفرداته: أصل البواء مساواة الاجزاء في المكان خلاف النبوة الذى هو منافاة الاجزاء يقال: مكان بواء إذا لم يكن نابئا بنازله، وبوأت له مكانا: سويته فتبوأ - إلى أن قال - وقوله: إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك أي تقيم بهذه الحالة. قال:

(انكرت باطلها وبؤت بحقها)

 انتهى، وعلى هذا فتفسيره بالرجوع تفسير بلازم المعنى. والمراد بقوله: " أن تبوء بإثمى وإثمك " أن ينتقل إثم المقتول ظلما إلى قاتله على إثمه الذى كان له فيجتمع عليه الاثمان، والمقتول يلقى الله سبحانه ولا إثم عليه، فهذا ظاهر قوله: " أن تبوء بإثمى وإثمك " وقد ورد بذلك الروايات والاعتبار العقلي يساعد عليه. وقد تقدم شطر من البحث فيه في الكلام على أحكام الاعمال في الجزء الثاني من الكتاب. والاشكال عليه بأن لازمه جواز مؤاخذة الانسان بذنب غيره، والعقل يحكم بخلافه، وقد قال تعالى: " لا تزر وازرة وزر اخرى " (النجم: 38). مدفوع بأن ذلك ليس من أحكام العقل النظرى حتى يختم عليه باستحالة الوقوع، بل من أحكام العقل العملي التى تتبع مصالح المجتمع الانساني في ثبوتها وتغيرها، ومن الجائز أن يعتبر المجتمع الفعل الصادر عن أحد فعلا صادرا عن غيره ويكتبه عليه ويؤاخذه به، أو الفعل الصادر عنه غير صادر عنه كما إذا قتل إنسانا وللمجتمع على المقتول حقوق كان يجب أن يستوفيها منه، فمن الجائز أن يستوفى المجتمع حقوقه من القاتل، وكما إذا بغى على المجتمع بالخروج والافساد والاخلال بالامن العام فإن للمجتمع أن يعتبر جميع الحسنات الباغى كأن لم تكن، إلى غير ذلك. ففى هذه الموارد وأمثالها لا يرى المجتمع السيئات التى صدرت من المظلوم إلا أوزارا

[ 305 ]

للظالم، وإنما تزر وازرته وزر نفسها لا وزر غيرها، لانها تملكتها من الغير بما أوقعته عليه من الظلم والشر نظير ما يبتاع الانسان ما يملكه غيره بثمن، فكما أن تصرفات المالك الجديد لا تمنع لكون المالك الاول مالكا للعين زمانا لانتقالها إلى غيره ملكا، كذلك لا يمنع قوله: " لا تزر وازرة وزر أخرى " مؤاخذة النفس القاتلة بسيئة بمجرد أن النفس الوازرة كانت غيرها زمانا، ولا أن قوله: " لا تزر وازرة وزر أخرى " يبقى بلا فائدة ولا أثر بسبب جواز انتقال الوزر بسبب جديد كما لا يبقى قوله عليه السلام: " لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه " بلا فائدة بتجويز انتقال الملك ببيع ونحوه. وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بقوله: " بإثمى وإثمك " بإثم قتلى إن قتلتنى وإثمك الذى كنت أثمته قبل ذلك كما نقل عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، أو أن المراد بإثم قتلى وإثمك الذى لم يتقبل من أجله قربانك كما نقل عن الجبائى والزجاج، أو أن معناه بإثم قتلى وإثمك الذى هو قتل جميع الناس كما نقل عن آخرين. وهذه وجوه ذكروها ليس على شئ منها من جهة اللفظ دليل، ولا يساعد عليه اعتبار. على أن المقابلة بين الاثمين مع كونهما جميعا للقاتل ثم تسمية أحدهما بإثم المقتول وغيره بإثم القاتل خالية عن الوجه. قوله تعالى: " فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين " قال الراغب في مفرداته: الطوع الانقياد ويضاده الكره، والطاعة مثله لكن أكثر ما يقال في الايتمار لما أمر والارتسام فيما رسم، وقوله: فطوعت له نفسه نحو أسمحت له قرينته وانقادت له وسولت، وطوعت أبلغ من أطاعت وطوعت له نفسه بإزاء قولهم: تأبت عن كذا نفسه. انتهى ملخصا. وليس مراده أن طوعت مضمن معنى انقادت أو سولت بل يريد ان التطويع يدل على التدريج كالاطاعة على الدفعة، كما هو الغالب في بابى الافعال والتفعيل فالتطويع في الاية اقتراب تدريجي للنفس من الفعل بوسوسة بعد وسوسة وهمامة بعد همامة تنقاد لها حتى تتم لها الطاعة الكاملة فالمعنى: انقادت له نفسه وأطاعت امره إياها بقتل أخيه طاعة تدريجية، فقوله: " قتل أخيه " من وضع المأمور به موضع الامر كقولهم، أطاع كذا في موضع: أطاع الامر بكذا.

[ 306 ]

وربما قيل: إن قوله: طوعت بمعنى زينت فقوله: " قتل أخيه " مفعول به، وقيل: بمعنى طاوعت أي طاوعت له نفسه في قتل أخيه، فالقتل منصوب بنزع الخافض، ومعنى الاية ظاهر. وربما استفيد من قوله: " فأصبح من الخاسرين " أنه إنما قتله ليلا، وفيه كما قيل: أن أصبح - وهو مقابل أمسى - وإن كان بحسب أصل معناه يفيد ذلك لكن عرف العرب يستعمله بمعنى صار من غير رعاية أصل اشتقاقه، وفي القرآن شئ كثير من هذا القبيل كقوله: " فأصبحتم بنعمتة إخوانا " (آل عمران: 103) وقوله: " فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " (المائدة: 52) فلا سبيل إلى إثبات إرادة المعنى الاصلى في المقام. قوله تعالى: " فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه " البحث طلب الشئ في التراب ثم يقال: بحثت عن الامر بحثا كذا في المجمع. والمواراة: الستر، ومنه التوارى للتستر، والوراء لما خلف الشئ. والسوأة ما يتكرهه الانسان. والويل الهلاك. ويا ويلتا كلمة تقال عند الهلكة، والعجز مقابل الاستطاعة. والاية بسياقها تدل على أن القاتل قد كان بقى زمانا على تحير من أمره، وكان يحذر أن يعلم به غيره، ولا يدرى كيف الحيلة إلى أن لا يظفروا بجسده حتى بعث الله الغراب، ولو كان بعث الغراب وبحثه وقتله أخاه متقاربين لم يكن وجه لقوله: " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب. و كذا المستفاد من السياق أن الغراب دفن شيئا في الارض بعد البحث فإن ظاهر الكلام أن الغراب أراد إراءة كيفية، المواراة لا كيفية البحث، ومجرد البحث ما كان يعلمه كيفية المواراة وهو في سذاجة الفهم بحيث لم ينتقل ذهنه بعد إلى معنى البحث، فكيف كان ينتقل من البحث إلى المواراة ولا تلازم بينهما بوجه ؟ فإنما انتقل إلى معنى المواراة بما رأى أن الغراب بحث في الارض ثم دفن فيها شيئا. والغراب من بين الطير من عادته أنه يدخر بعض ما اصطاده لنفسه بدفنه في الارض، وبعض ما يقتات بالحب ونحوه من الطير وإن كان ربما بحث في الارض لكنه للحصول على مثل الحبوب والديدان لا للدفن والادخار. وما تقدم من إرجاع ضمير الفاعل في " ليريه " إلى الغراب هو الظاهر من الكلام

[ 307 ]

لكونه هو المرجع القريب، وربما قيل: " إن الضمير راجع إلى الله سبحانه، ولا بأس به لكنه لا يخلو عن شئ من البعد، والمعنى صحيح على التقديرين، وأما قوله: " قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب "، فإنما قاله لانه استسهل ما رأى من حيلة الغراب للمواراة فإنه وجد نفسه تقدر على إتيان مثل ما أتى به الغراب من البحث ثم التوسل به إلى المواراة لظهور الرابطة بين البحث والمواراة، وعند ذلك تأسف على ما فاته من الفائدة، وندم على إهماله في التفكر في التوسل إلى المواراة حتى يستبين له أن البحث هوالوسيلة القريبة إليه، فأظهر هذه الندامة بقوله: " يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فاوارى سوأة أخى " وهو تخاطب جار بينه وبين نفسه على طريق الاستفهام الانكارى، والتقدير أن يستفهم منكرا: أعجزت أن تكون مثل هذا الغراب فتوارى سوأة أخيك ؟ فيجاب: لا ثم يستفهم ثانيا استفهاما إنكاريا فيقال: فلم غفلت عن ذلك ولم تتوسل إليها بهذه الوسيلة على ظهورها وأشقيت نفسك في هذه المدة من غير سبب ؟ ولا جواب عن هذه المسألة، وفيه الندامة فإن الندامة تأثر روحي خاص من الانسان وتألم باطني يعرضه من مشاهدته إهماله شيئا من الاسباب المؤدية إلى فوت منفعة أو حدوث مضرة، وإن شئت فقل هي تأثر الانسان العارض له من تذكره إهماله في الاستفادة من إمكان من الامكانات. وهذا حال الانسان إذا أتى من المظالم بما يكره أن يطلع عليه الناس فإن هذه أمور لا يقبلها المجتمع بنظامه الجارى فيه، المرتبط بعض أجزائه ببعض فلابد أن يظهر أثر هذه الامور المنافية له وإن خفيت على الناس في أول حدوثها، والانسان الظالم المجرم يريد أن يجبر النظام على قبوله وليس بقابل نظير أن يأكل الانسان أو يشرب شيئا من السم وهو يريد أن يهضمه جهاز هضمه وليس بهاضم، فهو وإن أمكن وروده في باطنه لكن له موعدا لن يخلفه ومرصدا لن يتجاوزه، وإن ربك لبالمرصاد. وعند ذلك يظهر للانسان نقص تدبيره في بعض ما كان يجب عليه مراقبته ورعايته فيندم لذلك، ولو عاد فأصلح هذا الواحد فسد آخر ولا يزال الامر على ذلك حتى يفضحه الله على رؤوس الاشهاد. وقد اتضح بما تقدم من البيان: أن قوله: " فأصبح من النادمين " إشارة إلى ندامته على عدم مواراته سوأة أخيه، وربما أمكن أن يقال: إن المراد به ندمه على أصل القتل،

[ 308 ]

وليس ببعيد.

(كلام في معنى الاحساس والتفكير)

 هذا الشطر من قصة ابني آدم أعنى قوله تعالى: " فبعث الله غرابا " يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فاوارى سوأة أخى فأصبح من النادمين " آية واحدة في القرآن لا نظيره لها من نوعها وهى تمثل حال الانسان في الانتفاع بالحس، وأنه يحصل خواص الاشياء من ناحية الحس، ثم يتوسل بالتفكر فيها إلى أغراضه ومقاصده في الحياة على نحو ما يقضى به البحث العلمي أن علوم الانسان ومعارفه تنتهى إلى الحس خلافا للقائلين بالتذكر والعلم الفطري. وتوضيحه أنك إذا راجعت الانسان فيما عنده من الصور العلمية من تصور أو تصديق جزئي أو كلى وبأى صفة كانت علومه وإدراكاته وجدت عنده وإن كان من اجهل الناس واضعفهم فهما وفكرا صورا كثيرة وعلوما جمة لا تكاد تنالها يد الاحصاء بل لا يحصيها إلا رب العالمين. ومن المشهود من أمرها على كثرتها وخروجها عن طور الاحصاء والتعديد أنها لا تزال تزيد وتنمو مدة الحياة الانسانية في الدنيا، ولو تراجعنا القهقرى وجدناها تنقص ثم تنقص حتى تنتهى إلى الصفر، وعاد الانسان وما عنده شئ من العلم بالفعل قال تعالى: " علم الانسان ما لم يعلم " (العلق: 5). وليس المراد بالاية أنه تعالى يعلمه ما لم يعلم وأما ما علمه فهو فيه في غنى عن تعليم ربه فإن من الضرورى أن العلم في الانسان أيا ما كان هو لهدايته إلى ما يستكمل به في وجوده وينتفع به في حياته، والذى تسير إليه أقسام الاشياء غير الحية بالانبعاثات الطبيعية تسير وتهتدى أقسام الموجودات الحية - ومنها الانسان - إليه بنور العلم فالعلم من مصاديق الهدى. وقد نسب الله سبحانه مطلق الهداية إلى نفسه حيث قال: " الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " (طه: 50) وقال: الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى " (الاعلى: 3) وقال وهو بوجه من الهداية بالحس والفكر: " أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر " (النمل: 63) وقد مر شطر من الكلام في معنى الهداية في بعض المباحث السابقة، وبالجملة

[ 309 ]

لما كان كل علم هداية وكل هداية فهي من الله كان كل علم للانسان بتعليمه تعالى. ويقرب من قوله: " علم الانسان ما لم يعلم " قوله: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة " (النحل: 78). والتأمل في حال الانسان والتدبر في الايات الكريمة يفيدان أن علم الانسان النظرى أعنى العلم بخواص الاشياء وما يستتبعه من المعارف العقلية يبتدئ من الحس فيعلمه الله من طريقه خواص الاشياء كما يدل عليه قوله: " فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه " (الاية) فنسبة بعث الغراب لاراءة كيفية المواراة إلى الله سبحانه نسبة تعليم كيفية المواراة إليه تعالى بعينه فالغراب وإن كان لا يشعر بأن الله سبحانه هو الذى بعثه، وكذلك ابن آدم لم يكن يدرى أن هناك مدبرا يدبر أمر تفكيره وتعلمه، وكانت سببية الغراب وبحثه بالنسبة إلى تعلمه بحسب النظر الظاهرى سببية اتفاقية كسائر الاسباب الاتفاقية التى تعلم الانسان طرق تدبير المعاش والمعاد، لكن الله سبحانه هو الذى خلق الانسان وساقه إلى كمال العلم لغاية حياته، ونظم الكون نوع نظم يؤديه إلى الاستكمال بالعلم بأنواع من التماس والتصاك تقع بينه وبين أجزاء الكون، فيتعلم بها الانسان ما يتوسل به إلى أغراضه ومقاصده من الحياة فالله سبحانه هو الذى يبعث الغراب وغيره إلى عمل يتعلم به الانسان شيئا فهو المعلم للانسان. ولهذا المعنى نظائر في القرآن كقوله تعالى: " وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله " (المائدة: 4) عد ما علموه وعلموه مما علمهم الله وإنما تعلموه من سائر الناس أو ابتكروه بأفكار أنفسهم، وقوله: " واتقوا الله ويعلمكم الله " البقرة: 282) وإنما كانوا يتعلمونه من الرسول، وقوله: " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " (البقرة: 282) وإنما تعلم الكاتب ما علمه بالتعلم من كاتب آخر مثله إلا أن جميع ذلك أمور مقصودة في الخلق والتدبير فما حصل من هذه الاسباب من فائدة العلم الذى يستكمل به الانسان فالله سبحانه هو معلمه بهذه الاسباب كما أن المعلم من الانسان يعلم بالقول والتلقين، والكاتب من الانسان يعلم غيره بالقول والقلم مثلا. وهذا هو السبيل في جميع ما يسند إليه تعالى في عالم الاسباب فالله تعالى هو خالقه،

[ 310 ]

وبينه وبين مخلوقه أسباب هي الاسباب بحسب الظاهر وهى أدوات وآلات لوجود الشئ، وإن شئت فقل: هي من شرائط وجود الشئ الذى تعلق وجوده من جميع جهاته وأطرافه بالاسباب، فمن شرائط وجود زيد " الذى ولده عمرو وهند " أن يتقدمه عمرو وهند وازدواج وتناكح بينهما، وإلا لم يوجد زيد المفروض، ومن شرائط " الابصار بالعين الباصرة " أن تكون قبله عين باصرة، وهكذا. فمن زعم أنه يوحد الله سبحانه بنفى الاسباب وإلغائها، وقدر أن ذلك أبلغ في إثبات قدرته المطلقة ونفى العجز عنه، وزعم أن إثبات ضرورة تخلل الاسباب قول بكونه تعالى مجبرا على سلوك سبيل خاص في الايجاد فاقدا للاختيار فقد ناقض نفسه من حيث لا يشعر. وبالجملة فالله سبحانه هو الذى علم الانسان خواص الاشياء التى تنالها حواسه نوعا من النيل، علمه إياها من طريق الحواس، ثم سخر له ما في الارض والسماء جميعا، قال تعالى: " وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه " (الجاثية: 13). وليس هذا التسخير إلا لان يتوسل بنوع من التصرف فيها إلى بلوغ أغراضه وأمانيه في الحياة أي إنه جعلها مرتبطة بوجوده لينتفع بها، وجعله متفكرا يهتدى إلى كيفية التصرف والاستعمال والتوسل، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجرى في البحر بأمره " (الحج: 65)، وقوله تعالى: " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون " (الزخرف: 12)، وقوله تعالى: " عليها وعلى الفلك تحملون " (غافر: 80) وغير ذلك من الايات المشابهة لها فانظر إلى لسان الايات كيف نسبت جعل الفلك إلى الله سبحانه وهو من صنع الانسان، ثم نسب الحمل إليه تعالى وهو من صنع الفلك والانعام ونسب جريانها في البحر إلى إمره وهو مستند إلى جريان البحر أو هبوب الريح أو البخار ونحوه، وسمى ذلك كله تسخيرا منه للانسان لما أن لارادته نوع حكومة في الفلك وما يناظرها من الانعام وفى الارض والسماء تسوقها إلى الغايات المطلوبة له. وبالجملة هو سبحانه أعطاه الفكر على الحس ليتوسل به إلى كماله المقدر له بسبب علومه الفكرية الجارية في التكوينيات أعنى العلوم النظرية. قال تعالى: " وجعل لكم " السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون " (النحل:

[ 311 ]

78) وأما العلوم العملية وهى التى تجرى فيما ينبغى أن يعمل وما لا ينبغى فانما هي بالهام من الله سبحانه من غير أن يوجدها حس أو عقل نظرى، قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس: 10) وقال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " (الروم: 30) فعد العلم بما ينبغى فعله وهو الحسنة وما لا ينبغى فعله وهو السيئة مما يحصل له بالالهام الالهى وهو القذف في القلب. فجميع ما يحصل للانسان من العلم إنما هي هداية إلهية وبهداية إلهية، غير أنها مختلفة بحسب النوع: فما كان من خواص الاشياء الخارجية فالطريق الذى يهدى به الله سبحانه الانسان هو طريق الحس، وما كان من العلوم الكلية الفكرية فإنما هي بإعطاء وتسخير إلهى من غير أن يبطله وجود الحس أو يستغنى الانسان عنها في حال من الاحوال، وما كان من العلوم العملية المتعلقة بصلاح الاعمال وفسادها وما هو تقوى أو فجور فانما هي بالهام الهى بالقذف في القلوب وقرع باب الفطرة. والقسم الثالث الذى يرجع بحسب الاصل إلى الهام الهى انما ينجح في عمله ويتم في أثره إذا صلح القسم الثاني ونشأ على صحة واستقامة كما أن العقل أيضا أنما يستقيم في عمله إذا استقام الانسان في تقواه ودينه الفطري، قال تعالى: " وما يذكر إلا أولوا الالباب) (آل عمران: 7) وقال تعالى: " وما يتذكر الا من ينيب " (غافر: 13) وقال تعالى: " ونقلب افئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " (الانعام: 110) وقال تعالى: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " (البقرة: 130) أي لا يترك مقتضيات الفطرة إلا من فسد عقله فسلك غير سبيله. والاعتبار يساعد هذا التلازم الذى بين العقل والتقوى، فإن الانسان إذا أصيب في قوته النظرية فلم يدرك الحق حقا أو لم يدرك الباطل باطلا فكيف يلهم بلزوم هذا أو اجتناب ذاك ؟ كمن يرى أن ليس وراء الحياة المادية المعجلة شئ فإنه لا يلهم التقوى الدينى الذى هو خير زاد للعيشة الاخرة. وكذلك الانسان إذا فسد دينه الفطري ولم يتزود من التقوى الدينى لم تعتدل قواه الداخلية المحسة من شهوة أو غضب أو محبة أو كراهة وغيرها، ومع اختلال أمر هذه

[ 312 ]

القوى لا تعمل قوة الادراك النظرية عملها عملا مرضيا. والبيانات القرآنية تجرى في بث المعارف الدينية وتعليم الناس العلم النافع هذا المجرى، وتراعى الطرق المتقدمة التى عينتها للحصول على المعلومات، فما كان من الجزئيات التى لها خواص تقبل الاحساس فانها تصريح فيها إلى الحواس كالايات المشتملة على قوله: " ألم تر، أفلا يرون، أفرأيتم، أفلا تبصرون " وغير ذلك، وما كان من الكليات العقلية مما يتعلق بالامور الكلية المادية أو التى هي وراء عالم الشهادة فانها تعتبر فيها العقل اعتبارا جازما وإن كانت غائبة عن الحس، خارجة عن محيط المادة والماديات، كغالب الايات الراجعة إلى المبدء والمعاد المشتملة على أمثال قوله: " لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لقوم يتذكرون، يفقهون، وغيرها، وما كان من القضايا العملية التى لها مساس بالخير والشر والنافع والضار في العمل والتقوى والفجور فانها تستند فيها إلى الالهام الالهى بذكر ما بتذكره يشعر الانسان بالهامه الباطني كالايات المشتملة على مثل قوله: " ذلكم خير لكم، فانه آثم قلبه، فيهما إثم، والاثم والبغى بغير الحق، إن الله لا يهدى " وغيرها، وعليك بالتدبر فيها. ومن هنا يظهر أولا: أن القرآن الكريم يخطئ طريق الحسيين وهم المعتمدون على الحس والتجربة، النافون للاحكام العقلية الصرفة في الابحاث العلمية، وذلك أن أول ما يهتم القرآن به في بيانه هو أمر توحيد الله عز اسمه، ثم يرجع إليه ويبتنى عليه جميع المعارف الحقيقية التى يبينها ويدعو إليها. ومن المعلوم أن التوحيد أشد المسائل ابتعادا من الحس، وبينونة للمادة وارتباطا بالاحكام العقلية الصرفة. والقرآن يبين أن هذه المعارف الحقيقية من الفطرة قال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " (الروم: 130) أي إن الخلقة الانسانية نوع من الايجاد يستتبع هذه العلوم والادراكات، ولا معنى لتبديل خلق إلا أن يكون نفس التبديل أيضا من الخلق والايجاد، وأما تبديل الايجاد المطلق أي إبطال حكم الواقع فلا يتصور له معنى فلن يستطيع الانسان، وحاشا ذلك ان يبطل علومه الفطرية، ويسلك في الحياة سبيلا آخر غير سبيلها البتة، واما الانحراف المشهود عن احكام الفطرة فليس ابطالا لحكمها بل استعمالا لها في غير ما ينبغى من نحو الاستعمال

[ 313 ]

نظير ما ربما يتفق ان الرامى لا يصيب الهدف في رميته فإن آلة الرمى وسائر شرائطه موضوعة بالطبع للاصابة الا ان الاستعمال يوقعها في الغلط، والسكاكين والمناشير والمثاقب والابر وامثالها إذا عبئت في الماكينات تعبئة معوجة تعمل عملها الذى فطرت عليه بعينه من قطع أو نشر أو ثقب وغير ذلك لكن لا على الوجه المقصود، واما الانحراف عن العمل الفطري كأن يخاط بنشر المنشار، بأن يعوض المنشار فعل الابرة من فعل نفسه، فيضع الخياطة موضع النشر، فمن المحال ذلك. وهذا ظاهر لمن تأمل عامة ما استدل به القوم على صحة طريقهم كقولهم: ان الابحاث العقلية المحضة والقياسات المؤلفة من مقدمات بعيدة من الحس يكثر وقوع الخطأ فيها كما يدل عليه كثرة الاختلافات في المسائل العقلية المحضة فلا ينبغى الاعتماد عليها لعدم اطمينان النفس إليها. وقولهم في الاستدلال على صحة طريق الحس والتجربة: ان الحس آلة لنيل خواص الاشياء بالضرورة، وإذا أحس بأثر في موضوع من الموضوعات على شرائط مخصوصة ثم تكرر مشاهدة الاثر معه مع حفظ تلك الشرائط بعينها من غير تخلف واختلاف كشف ذلك عن أن هذا الاثر خاصة الموضوع من غير اتفاق لان الاتفاق لا يدوم البتة. والدليلان كما ترى سيقا لاثبات وجوب الاعتماد على الحس والتجربة ورفض السلوك العقلي المحض مع كون المقدمات المأخوذة فيهما جميعا مقدمات عقلية خارجة عن الحس والتجربة ثم أريد بالاخذ بهذه المقدمات العقلية إبطال الاخذ بها، وهذا هو الذى تقدم أن الفطرة لن تبطل البتة وإنما يغلط الانسان في كيفية استعمالها !. وأفحش من ذلك استعمال التجربة في تشخيص الاحكام المشرعة والقوانين الموضوعة كأن يوضع حكم ثم يجرى بين الناس يختبر بذلك حسن أثره بإحصاء ونحوه فإن غلب على موارد جريانه حسن النتيجة أخذ حكما ثابتا جاريا وإلا ألقى في جانب وأخذ آخر كذلك وهكذا، ونظيره فيه جعل الحكم بقياس أو استحسان (1). والقرآن يبطل ذلك كله بإثبات أن الاحكام المشرعة فطرية بينة، والتقوى والفجور

______________________________

(1) وأما القياس الفقهى والاستحسان وما يسمى بشم الفقاهة فهى امارات لاستكشاف الحكم لا لجعلها، والبحث عنها موكول إلى فن الاصول. (*)

[ 314 ]

العامين إلهاميان علميان، وأن تفاصيلها مما يجب أخذه من ناحية الوحى، قال تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " (أسرى: 36) وقال: " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " (البقرة: 168) والقرآن يسمى الشريعة المشرعة حقا قال تعالى: " أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " (البقرة: 213) وقال: " وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا " (النجم: 28) وكيف يغنى وفي اتباعه مخافة الوقوع في خطر الباطل وهو الضلال ؟ قال: " فما ذا بعد الحق إلا الضلال " (يونس: 32) وقال: " فإن الله لا يهدى من يضل " (النحل: 37) أي إن الضلال لا يصلح طريقا يوصل الانسان إلى خير وسعادة فمن أراد أن يتوسل بباطل إلى حق أو بظلم إلى عدل أو بسيئة إلى حسنة أو بفجور إلى تقوى فقد أخطأ الطريق، وطمع من الصنع والايجاد الذى هو الاصل للشرائع والقوانين فيما لا يسمح له بذلك البتة، ولو أمكن ذلك لجرى في خواص الاشياء المتضادة، وتكفل أحد الضدين ما هو من شأن الاخر من العمل والاثر. وكذلك القرآن يبطل طريق التذكر الذى فيه إبطال السلوك العلمي الفكري وعزل منطق الفطرة، وقد تقدم الكلام في ذلك. وكذلك القرآن يحظر على الناس التفكر من غير مصاحبة تقوى الله سبحانه، وقد تقدم الكلام فيه أيضا في الجملة ولذلك ترى القرآن فيما يعلم من شرائع الدين يشفع الحكم الذى يبينه بفضائل أخلاقية و خصال حميدة تستيقظ بتذكرها في الانسان غريزة تقواه، فيقوى على فهم الحكم وفقهه، واعتبر ذلك في أمثال قوله تعالى: " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (البقرة: 232) وقوله تعالى: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " (البقرة: 193) وقوله تعالى: " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " (العنكبوت: 45:. قوله تعالى: " من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " في المجمع: الاجل في اللغة الجناية، انتهى. وقال الراغب في المفردات: الاجل الجناية التى يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية وليس كل جناية أجلا. يقال: فعلت ذلك من أجله،

[ 315 ]

انتهى. ثم استعمل للتعليل، يقال: فعلته من أجل كذا أي إن كذا سبب فعلى، ولعل استعمال الكلمة في التعليل إبتدء، أولا في مورد الجناية والجريرة كقولنا: أساء فلان ومن أجل ذلك أدبته بالضرب أي إن ضربي ناش من جنايته وجريرته التى هي إساءته أو من جناية هي اسائته، ثم أرسلت كلمة تعليل فقيل: أزورك من أجل حبى لك ولاجل حبى لك. وظاهر السياق أن الاشارة بقوله: " من اجل ذلك " إلى نبأ ابني آدم المذكور في الايات السابقة أي إن وقوع تلك الحادثة الفجيعة كان سببا لكتابتنا على بنى إسرائيل كذا وكذا، وربما قيل: إن قوله: " من أجل ذلك " متعلق بقوله في الاية السابقة: " فأصبح من النادمين " أي كان ذلك سببا لندامته، وهذا القول وإن كان في نفسه غير بعيد كما في قوله تعالى: " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تتفكرون في الدنيا والاخرة ويسألونك عن اليتامى " الاية (البقرة: 220) إلا أن لازم ذلك كون قوله: " كتبنا على بنى إسرائيل " (الخ) مفتتح الكلام والمعهود من السياقات القرآنية أن يؤتى في مثل ذلك بواو الاستيناف كما في آية البقرة المذكورة آنفا وغيرها. وأما وجه الاشارة في قوله: " من أجل ذلك " إلى قصة ابني آدم فهو أن القصة تدل على أن من طباع هذا النوع الانساني أن يحمله اتباع الهوى والحسد الذى هو الحنق للناس بما ليس في اختيارهم أن يحمله أوهن شئ على منازعة الربوبية وإبطال غرض الخلقة بقتل أحدهم أخاه من نوعه وحتى شقيقه لابيه وامه. فأشخاص الانسان إنما هم أفراد نوع واحد وأشخاص حقيقة فاردة، يحمل الواحد منهم من الانسانية ما يحمله الكثيرون، ويحمل الكل ما يحمله البعض، وإنما أراد الله سبحانه بخلق الافراد وتكثير النسل أن تبقى هذه الحقيقة التى ليس من شأنها أن تعيش إلا زمانا يسيرا، ويدوم بقاؤها فيخلف اللاحق السابق ويعبد الله سبحانه في أرضه، فإفناء الفرد بالقتل إفساد في الخلقة وإبطال لغرض الله سبحانه في الانسانية المستبقاة بتكثير الافراد بطريق الاستخلاف كما أشار إليه ابن آدم المقتول فيما خاطب أخاه: " ما أنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنى أخاف الله رب العالمين " فأشار إلى أن القتل بغير الحق منازعة الربوبية. فلاجل أن من طباع الانسان أن يحمله أي سبب واه على ارتكاب ظلم يؤل بحسب الحقيقة إلى إبطال حكم الربوبية وغرض الخلقة في الانسانية العامة، وكان من شأن بنى

[ 316 ]

إسرائيل ما ذكره الله سبحانه قبل هذه الايات من الحسد والكبر واتباع الهوى وإدحاض الحق وقد قص قصصهم بين الله لهم حقيقة هذا الظلم الفجيع ومنزلته بحسب الدقة، وأخبرهم بأن قتل الواحد عنده بمنزلة قتل الجميع، وبالمقابلة إحياء نفس واحدة عنده بمنزلة إحياء الجميع. وهذه الكتابة وإن لم تشتمل على حكم تكليفي لكنها مع ذلك لا تخلو عن تشديد بحسب المنزلة والاعتبار، وله تأثير في إثارة الغضب والسخط الالهى في دنيا أو آخرة. وبعبارة مختصرة: معنى الجملة أنه لما كان من طباع الانسان أن يندفع بأى سبب واه إلى ارتكاب هذا الظلم العظيم، وكان من أمر بنى إسرائيل ما كان، بينا لهم منزلة قتل النفس لعلهم يكفون عن الاسراف ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنهم بعد ذلك في الارض لمسرفون. وأما قوله: " أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا " استثنى سبحانه قتل النفس بالنفس وهو القود والقصاص وهو قوله تعالى: " كتب عليكم القصاص في القتلى " (البقرة: 178) وقتل النفس بالفساد في الارض، وذلك قوله في الاية التالية: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا " (الاية). وأما المنزلة التى يدل عليها قوله: " فكأنما " (الخ) فقد تقدم بيانه أن الفرد من الانسان من حيث حقيقته المحمولة له التى تحيا وتموت انما يحمل الانسانية التى هي حقيقة واحدة في جميع الافراد والبعض والكل، والفرد الواحد والافراد الكثيرون فيه واحد، ولازم هذا المعنى أن يكون قتل النفس الواحدة بمنزلة قتل نوع الانسان وبالعكس احياء النفس الواحدة بمنزلة احياء الناس جميعا، وهو الذى تفيده الاية الشريفة. وربما أشكل على الاية اولا: بأن هذا التنزيل يفضى إلى نقض الغرض فإن الغرض بيان أهمية قتل النفس وعظمته من حيث الاثم والاثر، ولازمه أن تزيد الاهمية كلما زاد عدد القتل، وتنزيل الواحد منزلة الجميع يوجب أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شئ فإن من قتل عشرا كان الواحدة من هذه المقاتل تعد قتل الجميع، وتبقى الباقي وليس بإزائه شئ. ولا يندفع الاشكال بأن يقال: إن قتل العشرة يعدل عشرة أضعاف قتل الجميع وأن قتل الجميع يعدل قتل الجميع بعدد الجميع لان مرجعه إلى المضاعفة في عدد العقاب، واللفظ لا يفى ببيان ذلك.

[ 317 ]

على أن الجميع مؤلف من آحاد كل واحد منها يعدل الجميع المؤلف من الاحاد كذلك، ويذهب إلى ما لا نهاية له، ولا معنى للجميع بهذا المعنى، إذ لا فرد واحد له فلا جميع من غير آحاد. على أن الله تعالى يقول: " من جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها " (الانعام: 160) وثانيا: بأن كون قتل الواحد يعدل قتل الجميع ان أريد به قتل الجميع الذى يشتمل على هذا الواحد كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه وغيره وهو محال بالبداهة، وان أريد به قتل الجميع باستثناء هذا الواحد كان معناه من قتل نفسا فكأنما قتل غيرها من النفوس، وهو معنى ردئ مفسد للغرض من الكلام وهو بيان غاية اهمية هذا الظلم. على ان اطلاق قوله: " فكأنما قتل الناس جميعا " من غير استثناء يدفع هذا الاحتمال. ولا يندفع هذا الاشكال بمثل قولهم: ان المراد هو المعادلة من حيث العقوبة أو مضاعفة العذاب ونحو ذلك، وهو ظاهر. والجواب عن الاشكالين: أن قوله: " من قتل نفسا - إلى قوله - فكأنما قتل الناس جميعا " كناية عن كون الناس جميعا ذوى حقيقة واحدة إنسانية متحدة فيها، الواحد منهم والجميع فيها سواء، فمن قصد الانسانية التى في الواحد منهم فقد قصد الانسانية التى في الجميع كالماء إذا وزع بين اوانى كثيرة فمن شرب من أحد الانية فقد شرب الماء، وقد قصد الماء من حيث إنه ماء - وما في جميع الانية لا يزيد على الماء من حيث إنه ماء - فكأنه شرب الجميع، فجملة: " من قتل، الخ " كناية في صورة التشبيه، والاشكالان مندفعان، فإن بناءهما على كون التشبيه بسيطا يزيد فيه وجه الشبه على حسب زيادة المشبه عددا إذ لو سوى حينئذ بين الواحد والجميع فسد المعنى وعرض الاشكال كما لو قيل: الواحد من القوم كالواحد من الاسد والواحد منهم كالجميع في البطش والبسالة. وأما قوله تعالى: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " فالكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة، والمراد بالاحياء ما يعد في عرف العقلاء إحياء كإنقاذ الغريق وإطلاق الاسير، وقد عد الله تعالى في كلامه الهداية إلى الحق إحياء قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " (الانعام: 122) فمن دل نفسا إلى الايمان فقد أحياها.

[ 318 ]

وأما قوله تعالى: " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات " فهو معطوف على صدر الاية أي ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات يحذرونهم القتل وكل ما يلحق به من وجوه الفساد في الارض. وأما قوله تعالى: " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون " فهو متمم للكلام، بانضمامه إليه يستنتج الغرض المطلوب من البيان، وهو ظهور أنهم قوم مفسدون مصرون على استكبارهم وعتوهم فلقد بينا لهم منزلة القتل جاءتهم رسلنا فيها وفي غيرها بالبينات، وبينوا لهم وحذروهم وهم مع ذلك لم ينتهوا عن إصرارهم على العتو والاستكبار فأسرفوا في الارض قديما ولا يزالون يسرفون. والاسراف الخروج عن القصد وتجاوز الحد في كل فعل يفعله الانسان، وإن كان يغلب عليه الاستعمال في مورد الانفاق كقوله تعالى: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " (الفرقان: 67) على ما ذكره الراغب في المفردات.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما قرب ابنا آدم القربان فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر - قال: تقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل - دخله من ذلك حسد شديد، وبغى على هابيل، ولم يزل يرصده ويتبع خلوته حتى ظفر به متنحيا من آدم فوثب عليه وقتله، فكان من قصتهما ما قد أنبأ الله في كتابه مما كان بينهما من المحاورة قبل أن يقتله، الحديث. اقول: والرواية من أحسن الروايات الواردة في القصة وهى رواية طويلة يذكر عليه السلام فيها: تولد هبة الله (شيث) لادم بعد ذلك ووصيته له وجريان أمر الوصية بين الانبياء، وسننقلها إنشاء الله في موضع يناسبها، وظاهرها أن قابيل إنما قتل هابيل غيلة من غير أن يمكنه من نفسه، كما هو المناسب للاعتبار، وقد تقدم في البيان المتقدم. واعلم: ان الذى ضبطته الروايات من اسم الابنين: هابيل وقابيل، والذى في التوراة الدائرة: هابيل وقايين. ولا حجة في ذلك لانتهاء سند التوراة إلى واحد مجهول الحال مع ما هي عليه من التحريف الظاهر. وفي تفسير القمى قال: حدثنا أبى عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن

[ 319 ]

أبى حمزة الثمالى، عن ثوير بن أبى فاخته قال: سمعت على بن الحسين عليه السلام يحدث رجالا من قريش قال: لما قربا ابنا آدم القربان قرب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته، وقرب الاخر ضغثا من سنبل فتقبل من صاحب الكبش وهو هابيل، ولم يتقبل من الاخر، فغضب قابيل، فقال لهابيل: والله لاقتلنك، فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنى أخاف الله رب العالمين إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فلم يدر كيف يقتله حتى جاء إبليس فعلمه فقال: ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه فلما قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر الذى بقى في الارض بمخالبه، ودفن فيه صاحبه، قال قابيل: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب - فاوارى سوأة أخى فأصبح من النادمين، فحفر له حفيرة ودفنه فيها فصارت سنة يدفنون الموتى. فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم: أين تركت ابني ؟ قال له قابيل: أرسلتني عليه راعيا ؟ فقال آدم: انطلق معى إلى مكان القربان، وأوجس نفس آدم بالذى فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان له قتله، فلعن آدم الارض التى قبلت دم هابيل، وأمر آدم أن يلعن قابيل، ونودى قابيل من السماء لعنت كما قتلت أخاك، ولذلك لا تشرب الارض الدم. فانصرف آدم يبكى على هابيل أربعين يوما وليلة فلما جزع عليه شكى ذلك إلى الله فأوحى الله إليه إنى واهب لك ذكرا يكون خلفا عن هابيل فولدت حواء غلاما زكيا مباركا فلما كان في اليوم السابع أوحى الله إليه: يا آدم إن هذا الغلام هبة منى لك فسمه هبة الله فسماه آدم هبة الله. اقول: الرواية من أوسط الروايات الواردة في القصة وما يلحق بها وهى مع ذلك لا تخلو عن تشويش في متنها حيث إن ظاهرها ان قابيل اوعد هابيل بالقتل ثم لم يدر كيف يقتل ؟ وهو معنى غير معقول إلا ان يراد انه تحير في أنه أي سبب من اسباب القتل يختاره لقتله ؟ فأشار إليه إبليس - لعنة الله - ان يشدخ رأسه بالحجارة وهناك روايات اخر مروية من طرق اهل السنة والشيعة يقرب مضمونها من مضمون هذه الرواية.

[ 320 ]

واعلم ان في القصة روايات كثيرة مختلفة المضامين عجيبتها كالقائلة: ان الله اخذ كبش هابيل فخزنه في الجنة اربعين خريفا ثم فدى به اسماعيل فذبحه ابراهيم، والقائلة: ان هابيل مكن قابيل من نفسه وانه تحرج ان يبسط يده إلى اخيه، والقائلة ان قابيل لما قتل اخاه عقل الله احدى رجليه إلى فخذها من يوم قتله إلى يوم القيامة وجعل وجهه إلى اليمين حيث دار دارت عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من نار ومعه سبعة املاك كلما ذهب ملك جاء الاخر، والقائلة: انه معذب في جزيرة من جزائر البحر علقه الله منكوسا وهو كذلك إلى يوم القيامة، والقائلة: ان قابيل بن آدم معلق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها وحميمها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة صيره الله إلى النار، والقائلة: ان ابن آدم الذى قتل اخاه كان قابيل الذى ولد في الجنة، والقائلة: ان آدم لما بان له قتل هابيل رثاه بعدة أبيات بالعربية، والقائلة: انه كان من شريعتهم ان الانسان إذا قصده آخر تركه وما يريد من غير ان يمتنع منه، إلى غير ذلك من الروايات. فهذه وامثالها روايات من طرق جلها أو كلها ضعيفة، وهى لا توافق الاعتبار الصحيح ولا الكتاب يوافقها فهى بين موضوعة بينة الوضع وبين محرفة أو مما غلط فيه الرواة من جهة النقل بالمعنى. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة عن عمر قال: قال رسول الله صلى اللع عليه وسلم: يعجز احدكم اتاه الرجل ان يقتله ان يقول هكذا ؟ وقال: بإحدى يديه على الاخرى فيكون كالخير من ابني آدم، وإذا هو في الجنة وإذا قاتله في النار. اقول: وهى من روايات الفتن، وهى كثيرة روى اكثرها السيوطي في الدر المنثور كالذى رواه عن البيهقى عن ابى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اكسروا سيفكم يعنى في الفتنة واقطعوا اوتاركم والزموا اجواف البيوت، وكونوا فيها كالخير من ابني آدم، وما رواه عن ابن جرير وعبد الرزاق عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان ابني آدم ضربا مثلا لهذه الامة فخذوا بالخير منهما، إلى غير ذلك. وهذه روايات لا تلائم بظاهرها الاعتبار الصحيح المؤيد بالاثار الصحيحة الامرة بالدفاع عن النفس والانتصار للحق، وقد قال تعالى: " وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا

[ 321 ]

فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى امر الله " (الحجرات: 9). على انها جميعا تفسر قوله تعالى في القصة حكاية عن هابيل: " لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما انا بباسط يدى إليك لاقتلك " بأن المراد تمكين هابيل لاخيه في قتله وتركه الدفاع، وقد عرفت ما فيه. ومما يوجب سوء الظن بها أنها مروية عن أناس قعدوا في فتنة الدار وفي حروب على عليه السلام مع معاوية والخوارج وطلحة والزبير، فالواجب توجيهها بوجه إن امكن وإلا فالطرح. وفي الدر المنثور: اخرج ابن عساكر عن على: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: بدمشق جبل يقال له: " قاسيون " فيه قتل ابن آدم اخاه. اقول: والرواية لا بأس بها غير ان ابن عساكر روى بطريق عن كعب الاحبار انه قال: إن الدم الذى على جبل قاسيون هو دم ابن آدم، وبطريق آخر عن عمرو بن خبير الشعبانى قال: كنت مع كعب الاحبار على جبل دير المران فرأى لجة سائلة في الجبل فقال: ههنا قتل ابن آدم اخاه، وهذا اثر دمه جعله الله آية للعالمين. والروايتان تدلان على أنه كان هناك أثر ثابت يدعى أنه دم هابيل المقتول، ويشبه أن يكون ذلك من الامور الخرافية التى ربما وضعوها لصرف وجوه الناس إليها بالزيارة وإيتاء النذور وإهداء الهدايا نظير آثار الاكف والاقدام المعمولة على الاحجار وقبر الجدة وغير ذلك. وفي الدر المنثور: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها لانه اول من سن القتل. اقول: وقد روى هذا المعنى من طرق أهل السنة والشيعة بغير هذا الطريق. وفي الكافي بإسناده عن حمران قال: قلت لابي جعفر عليه السلام، ما معنى قول الله عز وجل " من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا " ؟ قال: قلت: وكيف فكأنما قتل الناس جميعا وإنما قتل

[ 322 ]

واحدة قال: يوضع في موضع من جهنم إليه منتهى شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعا كان إنما دخل ذلك المكان، قلت: فإن قتل آخر ؟ قال: يضاعف عليه. اقول: ورواه الصدوق في معاني الاخبار عن حمران مثله. وقوله: " قلت: فإن قتل آخر ؟ " إشارة إلى ما تقدم بيانه من إشكال لزوم تساوى القتل الواحد معه منضما إلى غيره، وقد أجاب عليه السلام عنه بقوله: " يضاعف عليه " ولا يرد عليه أنه رفع اليد عن التسوية التى يشير إليه حديث المنزلة: " من قتل نفسا بغير نفس " (الخ) حيث أن لازم المضاعفة عدم تساوى الواحد والكثير أو الجميع، وجه عدم الورود أن تساوى المنزلة راجع إلى سنخ العذاب وهو كون قاتل الواحد والاثنين والجميع في واد واحد من أودية جهنم، ويشير إليه قوله عليه السلام في الرواية: لو قتل الناس جميعا كان انما دخل ذلك المكان ". ويشهد على ما ذكرنا ما رواه العياشي في تفسيره عن حمران عن أبى عبد الله عليه السلام: في الاية قال عليه السلام منزلة في النار إليها انتهاء شدة عذاب أهل النار جميعا فيجعل فيها، قلت: وان كان قتل اثنين ؟ قال: ألا ترى أنه ليس في النار منزلة أشد عذابا منها ؟ قال: يكون يضاعف عليه بقدر ما عمل، الحديث فإن الجمع بين النفى والاثبات في جوابه عليه السلام ليس الا لما وجهنا به الرواية وهو أن الاتحاد والتساوي في سنخ العذاب، واليه تشير المنزلة، والاختلاف في شخصه ونفس ما يذوقه القاتل فيه. ويشهد عليه أيضا في الجملة ما فيه أيضا عن حنان بن سدير عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: " من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا " قال: واد في جهنم لو قتل الناس جميعا كان فيه، ولو قتل نفسا واحدة كان فيه. اقول: وكأن الاية منقولة فيها بالمعنى. وفي الكافي بإسناده عن فضيل بن يسار قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: قول الله عز وجل في كتابه: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال: من حرق أو غرق قلت: من أخرجها من ضلال إلى هدى ؟ قال ذلك تأويلها الاعظم أقول: ورواه الشيخ في أماليه والبرقي في المحاسن عن فضيل عنه عليه السلام، وروى الحديث عن سماعة وحمران عن أبى عبد الله عليه السلام.

[ 323 ]

والمراد بكون الانقاذ من الضلالة تأويلا أعظم للاية كونه تفسيرا ادق لها، والتأويل كثيرا ما كان يستعمل في صدر الاسلام مرادفا للتفسير. ويؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال سألته عن قول الله: " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا " فقال: له في النار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك العذاب. قال: " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " لم يقتلها أو أنجى من غرق أو حرق، وأعظم من ذلك كلها يخرجها من ضلالة إلى هدى. اقول: وقوله " لم يقتلها " أي لم يقتلها بعد ثبوت القتل لها كما في مورد القصاص. وفيه: عن أبى بصير عن ابى جعفر عليه السلام قال: سألته: " ومن احياها فقد أحيا الناس جميعا " قال: من استخرجها من الكفر إلى الايمان. اقول: وقد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات الواردة من طرق أهل السنة. وفي المجمع: روى عن ابى جعفر عليه السلام: المسرفون الذين يستحلون المحارم ويسفكون الدماء

(بحث علمي وتطبيق)

 في الاصحاح الرابع من سفر التكوين من التوراة ما نصه: (1) وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين وقالت اقتنيت رجلا من عند الرب (2) ثم عادت فولدت أخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم وكان قايين عاملا في الارض (3) وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من اثمار الارض قربانا للرب (4) وقدم هابيل أيضا من ابكار غنمه ومن سمانها فنظر الرب إلى هابيل وقربانه (5) ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر فاغتاظ قايين جدا وسقط وجهه (6) فقال الرب لقايين لما ذا اغتظت ولماذا سقط وجهك (7) إن احسنت افلا رفع وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وانت تسود عليها (8) وكلم قايين هابيل أخاه وحدث إذ كانا في الحقل ان قايين قام على هابيل اخيه وقتله (9) فقال الرب لقايين اين هابيل أخوك فقال لا اعلم احارس انا لاخى (10) فقال ما ذا فعلت صوت دم اخيك صارخ إلى من الارض (11) فالان ملعون انت من الارض

[ 324 ]

التى فتحت فاها لتقبل دم اخيك من يدك (12) متى عملت الارض لا تعود تعطيك قوتها تائها وهاربا تكون في الارض (13) فقال قايين للرب ذنبي اعظم من ان يتحمل (14) إنك قد طردتني اليوم عن وجه الارض ومن وجهك اختفى واكون تائها وهاربا في الارض فيكون كل من وجدني يقتلنى (15) فقال له الرب لذلك كل من قتل قايين فسبعة اضعاف ينتقم منه وجعل الرب لقايين علامة لكى لا يقتله كل من وجده (16) فخرج قايين من لدن الرب وسكن في ارض نود شرقي عدن، انتهى. (1) والذى في القرآن من قصتهما قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر قال لاقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما انا بباسط يدى إليك لاقتلك انى اخاف الله رب العالمين (28) انى أريد ان تبوء بإثمى واثمك فتكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (29) فطوعت له نفسه قتل اخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30) فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوأة اخيه قال يا ويلتا اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فاوارى سوأة اخى فأصبح من النادمين (31) (آية: 27 - 31 من المائدة). (2) وعليك ان تتدبر ما تشتمل عليه القصة على ما قصتها التوراة وعلى ما قصها القرآن ثم تطبق بينهما ثم تقضى ما انت قاض. فأول ما يبدو لك من التوراة انها جعلت الرب تعالى موجودا ارضيا على صورة انسان يعاشر الناس، يحكم لهم وعليهم كما يحكم احد الناس فيهم، ويدنى ويقترب منه ويكلم كما يفعل ذلك احدهم مع غيره ثم يختفى منه بالابتعاد والغيبة فلا يرى البعيد الغائب كما يرى القريب الحاضر، وبالجملة فحاله حال انسان ارضى من جميع الجهات غير انه نافذ الارادة إذا اراد، ماضى الحكم إذا حكم، وعلى هذا الاساس يبتنى جميع تعليمات التوراة والانجيل فيما يبثان من التعليم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولازم القصة التى فيها: ان البشر كان يعيش يومئذ على حال المشافهة والحضور عند الله سبحانه، ثم احتجب عن قايين أو عنه وعن امثاله وبقى الباقون على حالهم مع ان

______________________________

(1) نقل من التوراة العربية المطبوعة في كمبروج سنة 1935. (2) انما اعدنا ذكر الايات ليكون التطبيق اسهل والتنازل اقرب.

[ 325 ]

البراهين القاطعة قائمة على ان الانسان نوع واحد متماثل الافراد عائش في الدنيا عيشة دنيوية مادية وان الله جل شأنه متنزه عن الاتصاف بصفات المادة واحوالها، متقدس عن لحوق عوارض الامكان وطوارق النقص والحدثان، وهو الذى يبينه القرآن. واما القرآن فانه يقص القصة على اساس تماثل الافراد غير انه يذيل قصة القتل بقصة بعث الغراب فيكشف عن حقيقة كون الانسان تدريجي الكمال بانيا استكماله في مدارج الكمال الحيوى على اساس الحس والفكر. ثم يذكر محاورة الاخوين فيقص عن المقتول من غرر المعارف الفطرية الانسانية وأصول المعارف الدينية من التوحيد والنبوة والمعاد، ثم أمر التقوى والظلم وهما الاصلان العاملان في جميع القوانين الالهية والاحكام الشرعية، ثم العدل الالهى في مسألة القبول والرد والمجازاة الاخروية. ثم ندامة القاتل بعد صنعه وخسرانه في الدنيا والاخرة، ثم يبين بعد ذلك كله أن القتل من شامة أمره أن الذى يقع منه على نفس واحدة كالذى يقع منه على الناس جميعا وان من أحيا نفسا فكأنما احيا الناس جميعا.

* * *

إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم - 33. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم - 34. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون - 35. إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيمة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم - 36.

[ 326 ]

يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم - 37. والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم - 38. فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم - 39. ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير - 40.

(بيان)

 الايات غير خالية الارتباط بما قبلها، فان ما تقدمها من قصة قتل ابن آدم أخاه وما كتبه الله سبحانه على بنى إسرائيل من اجله، وان كان من تتمة الكلام على بنى إسرائيل وبيان حالهم من غير أن يشتمل على حد أو حكم بالمطابقة لكنها لا تخلو بحسب لازم مضمونها من مناسبة مع هذه الايات المتعرضة لحد المفسدين في الارض والسراق. قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ". " فسادا " مصدر وضع موضع الحال، ومحاربة الله وإن كانت بعد استحالة معناها الحقيقي وتعين إرادة المعنى المجازى منها ذات معنى وسيع يصدق على مخالفة كل حكم من الاحكام الشرعية وكل ظلم وإسراف لكن ضم الرسول إليه يهدى إلى ان المراد بها بعض ما للرسول فيه دخل، فيكون كالمتعين ان يراد بها ما يرجع إلى إبطال اثر ما للرسول عليه ولاية من جانب الله سبحانه كمحاربة الكفار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم واخلال قطاع الطريق بالامن العام الذى بسطه بولايته على الارض، وتعقب الجملة بقوله: ويسعون في الارض فسادا " يشخص المعنى المراد وهو الافساد في الارض بالاخلال بالامن وقطع الطريق دون مطلق المحاربة مع المسلمين، على ان الضرورة قاضية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعامل المحاربين من الكفار بعد الظهور عليهم والظفر بهم هذه المعاملة من القتل والصلب والمثلة والنفى. على ان الاستثناء في الاية التالية قرينة على كون المراد بالمحاربة هو الافساد المذكور

[ 327 ]

فانه ظاهر في ان التوبة انما هي من المحاربة دون الشرك ونحوه. فالمراد بالمحاربة والافساد على ما هو الظاهر هو الاخلال بالامن العام، والامن العام انما يختل بايجاد الخوف العام وحلوله محله، ولا يكون بحسب الطبع والعادة إلا باستعمال السلاح المهدد بالقتل طبعا ولهذا ورد فيما ورد من السنة تفسير الفساد في الارض بشهر السيف ونحوه، وسيجئ في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " ان يقتلوا أو يصلبوا " (الخ) التقتيل والتصليب والتقطيع تفعيل من القتل والصلب والقطع يفيد شدة في معنى المجرد أو زيادة فيه، ولفظة " أو " إنما تدل على الترديد المقابل للجمع، واما الترتيب أو التخيير بين أطراف الترديد فإنما يستفاد احدهما من قرينة خارجية حالية أو مقالية فالاية غير خالية عن الاجمال من هذه الجهة. وإنما تبينها السنة وسيجئ ان المروى عن ائمة أهل البيت عليهم السلام ان الحدود الاربعة مترتبة بحسب درجات الافساد كمن شهر سيفا فقتل النفس وأخذ المال أو قتل فقط أو أخذ المال فقط أو شهر سيفا فقط على ما سيأتي في البحث الروائي التالى ان شاء الله. وأما قوله: " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " فالمراد بكونه من خلاف أن يأخذ القطع كلا من اليد والرجل من جانب مخالف لجانب الاخرى كاليد اليمنى والرجل اليسرى، وهذا هو القرينة على كون المراد بقطع الايدى والارجل قطع بعضها دون الجميع أي إحدى اليدين وإحدى الرجلين مع مراعاة مخالفة الجانب. وأما قوله: " أو ينفوا من الارض " فالنفي هو الطرد والتغييب وفسر في السنة بطرده من بلد إلى بلد. وفي الاية أبحاث أخر فقهية تطلب من كتب الفقه. قوله تعالى: " ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم " الخزى هو الفضيحة، والمعنى ظاهر. وقد استدل بالاية على أن جريان الحد على المجرم لا يستلزم ارتفاع عذاب الاخرة، وهو حق في الجملة. قوله تعالى: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " (الخ) وأما بعد القبض

[ 328 ]

عليهم وقيام البينة فإن الحد غير ساقط، وأما قوله تعالى: " فاعلموا أن الله غفور رحيم " فهو كناية عن رفع الحد عنهم، والاية من موارد تعلق المغفرة بغير الامر الاخروي. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " (الخ) قال الراغب في المفردات: الوسيلة التوصل إلى الشئ برغبة، وهى أخص من الوسيلة لتضمنها لمعنى الرغبة، قال تعالى: وابتغوا إليه الوسيلة، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحرى مكارم الشريعة، وهى كالقربة وإذ كانت نوعا من التوصل وليس إلا توصلا واتصالا معنويا بما يوصل بين العبد وربه ويربط هذا بذاك، ولا رابط يربط العبد بربه إلا ذلة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلى جنابة تعالى، فهذه هي الوسيلة الرابطة، وأما العلم والعمل فإنما هما من لوازمها وأدواتها كما هو ظاهر إلا أن يطلق العلم والعمل على نفس هذه الحاله. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " وجاهدوا في سبيله " مطلق الجهاد الذى يعم جهاد النفس وجهاد الكفار جميعا إذ لا دليل على تخصيصه بجهاد الكفار مع اتصال الجملة بما تقدمها من حديث ابتغاء الوسيلة، وقد عرفت ما معناه: على أن الايتين التاليتين بما تشتملان عليه من التعليل إنما تناسبان إرادة مطلق الجهاد من قوله: " وجاهدوا في سبيله ". ومع ذلك فمن الممكن أن يكون المراد بالجهاد هو القتال مع الكفار نظرا إلى أن تقييد الجهاد بكونه في سبيل الله إنما وقع في الايات الامرة بالجهاد بمعنى القتال، وأما الاعم فخال عن التقييد كقوله تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين " (العنكبوت: 69) وعلى هذا فالامر بالجهاد في سبيل الله بعد الامر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بشأنه ولعل الامر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الامر بالتقوى أيضا من هذا القبيل. قوله تعالى: " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الارض " (إلى آخر الايتين) ظاهره - كما تقدمت الاشارة إليه - أن يكون تعليلا لمضمون الاية السابقة، والمحصل أنه يجب عليكم أن تتقوا الله وتبتغوا إليه الوسيلة وتجاهدوا في سبيله فإن ذلك أمر يهمكم في صرف عذاب أليم مقيم عن انفسكم، ولا بدل له يحل محله فإن الذين كفروا فلم يتقوا الله ولم يبتغوا إليه الوسيلة ولم يجاهدوا في سبيله لو انهم ملكوا ما في الارض جميعا - وهو اقصى ما يتمناه

[ 329 ]

ابن آدم من الملك الدنيوي عادة - ثم زيد عليه مثله ليكون لهم ضعفا ما في الارض ثم ارادوا ان يفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب اليم يريدون ان يخرجوا من النار وهى العذاب وما هم بخارجين منها لانه عذاب خالد مقيم عليهم لا يفارقهم ابدا. وفى الاية إشارة اولا إلى ان العذاب هو الاصل القريب من الانسان وانما يصرف عنه الايمان والتقوى كما يشير إليه قوله تعالى: " وان منكم الا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " (مريم: 72) وكذا قوله: " ان الانسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (العصر: 3). وثانيا: أن الفطرة الاصلية الانسانية وهى التى تتألم من النار غير باطلة فيهم ولا منتفية عنهم وإلا لم يتألموا ولم يتعذبوا بها ولم يريدوا الخروج منها. قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (الاية) الواو للاستيناف والكلام في مقام التفصيل فهو في معنى: " وأما السارق والسارقة (الخ) ولذلك دخل الفاء في الخبر أعنى قوله: " فاقطعوا أيديهما " لانه في معنى جواب أما، كذا قيل. و أما استعمال الجمع في قوله: " أيديهما " مع أن المراد هو المثنى فقد قيل: إنه استعمال شائع، والوجه فيه: أن بعض الاعضاء أو أكثرها في الانسان مزدوجة كالقرنين والعينين والاذنين واليدين والرجلين والقدمين، وإذا أضيفت هذه إلى المثنى صارت أربعا ولها لفظ الجمع كأعينهما وأيديهما وأرجلهما ونحو ذلك ثم اطرد الجمع في الكلام إذا أضيف عضو إلى المثنى وإن لم يكن العضو من المزدوجات كقولهم: ملات ظهورهما وبطونهما ضربا، قال تعالى: " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " (التحريم: 4) واليد ما دون المنكب والمراد بها في الاية اليمين بتفسير السنة، ويصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها عن البدن بآلة قطاعة. قوله: " جزاء بما كسبا نكالا من الله " الظاهر أنه في موضع الحال من القطع المفهوم من قوله: " فاقطعوا " أي حال كون القطع جزاء بما كسبا نكالا من الله، والنكال هو العقوبة التى يعاقب بها المجرم لينتهى عن إجرامه، و يعتبر بها غيره من الناس. وهذا المعنى أعنى كون القطع نكالا هو المصحح لان يتفرع عليه قوله: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه (الخ) أي لما كان القطع نكالا يراد به رجوع

[ 330 ]

المنكول به عن معصيته فمن تاب من بعد ظلمه توبة ثم أصلح ولم يحم حول السرقة - وهذا أمر يستثبت به معنى التوبة - فإن الله يتوب عليه ويرجع إليه بالمغفرة والرحمة لان الله غفور رحيم، قال تعالى: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما " (النساء: 147). وفى الاية أبحاث أخر كثيرة فقهية للطالب أن يراجع فيها كتب الفقه. قوله تعالى: " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والارض " (الاية) في موضع التعليل لما ذكر في الاية السابقة من قبول توبة السارق والسارقة إذا تابا وأصلحا من بعد ظلمهما فإن الله سبحانه لما كان له ملك السموات والارض، وللملك أن يحكم في مملكته ورعيته بما أحب وأراد من عذاب أو رحمة كان له تعالى أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء على حسب الحكمة والمصلحة فيعذب السارق والسارقة إن لم يتوبا، ويغفر لهما إن تابا. وقوله: " والله على كل شئ قدير " في موضع التعليل لقوله: " له ملك السماوات والارض " فإن الملك (بضم الميم) من شؤن القدرة، كما أن الملك (بكسر الميم) من فروع الخلق والايجاد اعني القيمومة الالهية. بيان ذلك: ان الله تعالى خالق الاشياء وموجدها فما من شئ إلا وما له من نفسه وآثار نفسه لله سبحانه، هو المعطى لما اعطى والمانع لما منع، فله ان يتصرف في كل شئ وهذا هو الملك (بكسر الميم) قال تعالى: " قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار " (الرعد: 16)، وقال: " الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض " (البقرة: 255) وهو تعالى مع ذلك قادر على أي تصرف شاء واراد إذ كلما فرض من شئ فهو منه فله مضى الحكم ونفوذ الارادة وهو الملك (بضم الميم) والسلطنة على كل شئ فهو تعالى مالك لانه قيوم على كل شئ، وملك لانه قادر غير عاجز ولا ممنوع من نفوذ مشيئته وإرادته. (بحث ورائي) في الكافي بإسناده عن ابى صالح، عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم من بنى ضبة مرضى فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم

[ 331 ]

في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها، ويأكلون من ألبانها فلما برأوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الابل فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث إليهم عليا عليه السلام وإذا هم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الاية: " انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف ". اقول: ورواه في التهذيب بإسناده عن ابى صالح عنه عليه السلام، باختلاف يسير، ورواه العياشي في تفسيره عنه عليه السلام وزاد في آخره فاختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يقطع ايديهم وارجلهم من خلاف، والقصة مروية في جوامع اهل السنة ومنها الصحاح الستة بطرق على اختلاف في خصوصياتها، ومنها ما وقع في بعضها ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ان ظفر بهم قطع ايديهم وارجلهم من خلاف وسمل اعينهم، وفى بعضها: فقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم وصلب وقطع وسمل الاعين، وفي بعضها: انه سمل اعينهم لانهم سملوا اعين الرعاة، وفي بعضها: ان الله نهاه عن سمل الاعين، وان الاية نزلت معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امر هذه المثلة، وفي بعضها: انه اراد ان يسمل اعينهم ولم يسمل، إلى غير ذلك. والروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام خالية عن ذكر سمل الاعين. وفي الكافي بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد الله المدائني عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سئل عن قول الله عز وجل: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا " (الاية) فما الذى إذا فعله استوجب واحدة من هذه الاربع ؟ فقال: إذاحارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا فقتل قتل به، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإن شهر السيف فحارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا ولم يقتل ولم يأخذ المال نفى من الارض. قلت كيف ينفى من الارض وما حد نفيه ؟ قال: ينفى من المصر الذى فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنه منفى فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتى تتم السنة، قلت: فإن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها ؟ قال: إن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها.

[ 332 ]

اقول: ورواه الشيخ في التهذيب والعياشي في تفسيره عن أبى إسحاق المدائني عنه صلى الله عليه وآله وسلم والروايات في هذه المعاني مستفيضة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا روى ذلك بعدة طرق من طرق أهل السنة، وفي بعض رواياتهم أن الامام بالخيار إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الايدى والارجل من خلاف وإن شاء نفى، ونظيره ما وقع في بعض روايات الخاصة من كون الامام بالخيار كالذى رواه في الكافي مسندا عن جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام: في الاية قال: فقلت: أي شئ عليهم من هذه الحدود التى سمى الله عز وجل ؟ قال: ذلك إلى الامام إن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب، وإن شاء قتل: قلت: النفى إلى أين ؟ قال عليه السلام ينفى من مصر إلى آخر، وقال ان عليا عليه السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة. وتمام الكلام في الفقه غير أن الاية لا تخلو عن اشعار بالترتيب بين الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد فإن الترديد بين القتل والصلب والقطع والنفى - وهى أمور غير متعادلة ولا متوازنة بل مختلفة من حيث الشدة والضعف - قرينة عقلية على ذلك. كما ان ظاهر الاية انها حدود للمحاربة والفساد فمن شهر سيفا وسعى في الارض فسادا أو قتل نفسا فإنما يقتل لانه محارب مفسد وليس ذلك قصاصا يقتص منه لقتل النفس المحترمة فلا يسقط القتل لو رضى أولياء المقتول بالدية كما رواه العياشي في تفسيره عن محمد ابن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام، وفيه: قال أبو عبيدة أصلحك الله أرايت إن عفى عنه أولياء المقتول ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: إن عفوا عنه فعلى الامام أن يقتله لانه قد حارب وقتل وسرق، فقال أبو عبيدة: فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه ألهم ذلك ؟ قال: لاة عليه القتل. وفى الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن أبى الدنيا في كتاب الاشراف وابن جرير وابن أبى حاتم عن الشعبى قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة قد أفسد في الارض وحارب وكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد ابن قيس الهمداني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبواأو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدورا عليهم. فقال سعيد: وان كان حارثة بن بدر، فقال سعيد: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا

[ 333 ]

فهو آمن ؟ قال: نعم، قال: فجاء به إليه فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له امانا. اقول: قول سعيد في الرواية: " وان كان حارثة بن بدر " ضميمة ضمها إلى الاية لابانة اطلاقها لكل تائب بعد المحاربة والافساد وهذا كثير في الكلام. وفى الكافي بإسناده عن سورة بنى كليب قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام " رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه ؟ قال: أي شئ يقول فيه من قبلكم ؟ قلت يقولون: هذه ذعارة معلنة وانما المحارب في قرى مشركة، فقال: ايها اعظم حرمة: دار الاسلام أو دار الشرك ؟ قال: فقلت: دار الاسلام فقال: هؤلاء من أهل هذه الاية: " انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " (إلى آخر الاية) اقول: ما أشار إليه الراوى من قول القوم هو الذى وقع في بعض روايات الجمهور كما في بعض روايات سبب النزول عن الضحاك قال: نزلت هذه الاية في المشركين، وما في تفسير الطبري: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى انس يسأله عن هذه الاية فكتب إليه انس يخبره: ان هذه الاية نزلت في اولئك النفر من العرنيين وهم من بجيلة، قال انس: فارتدوا عن الاسلام وقتلوا الراعى، واستاقوا الابل، واخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق واخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه، إلى غير ذلك من الروايات. والاية بإطلاقها يؤيد ما في خبر الكافي، ومن المعلوم ان سبب النزول لا يوجب تقيد ظاهر الاية. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " (الاية) قال: فقال: تقربوا إليه بالامام. اقول: أي بطاعته فهو من قبيل الجرى والانطباق على المصداق، ونظيره ما عن ابن شهر آشوب قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في قوله تعالى: " وابتغوا إليه الوسيلة " أنا وسيلته. وقريب منه ما في بصائر الدرجات بإسناده عن سلمان عن على عليه السلام، ويمكن أن يكون الروايتان من قبيل التأويل فتدبر فيهما. وفي المجمع: روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سلوا الله لى الوسيلة فانها درجة في الجنة لا ينالها

[ 334 ]

إلا عبد واحد وأرجو أن اكون أنا هو. وفي المعاني بإسناده عن ابى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سألتم الله فاسألوا لى الوسيلة، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوسيلة، فقال: هي درجتي في الجنة (الحديث) وهو طويل معروف بحديث الوسيلة. وانت إذا تدبرت الحديث، وانطباق معنى الاية عليه وجدت ان الوسيلة هي مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ربه الذى به يتقرب هو إليه تعالى، ويلحق به آله الطاهرون ثم الصالحون من أمته، وقد ورد في بعض الروايات عنهم عليهم السلام: أن رسول الله آخذ بحجزة ربه ونحن آخذون بحجزته، وانتم آخذون بحجزتنا. وإلى ذلك يرجع ما ذكرناه في روايتي القمى وابن شهر آشوب ان من المحتمل أن تكونا من التأويل، ولعلنا نوفق لشرح هذا المعنى في موضع يناسبه مما سيأتي. ومن الملحق بهذه الروايات ما رواه العياشي عن ابى بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: عدو على هم المخلدون في النار قال الله: " وما هم بخارجين منها ". وفي البرهان: في قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (الاية) عن التهذيب باسناده عن أبى ابراهيم عليه السلام قال: تقطع يد السارق ويترك إبهامه وراحته، وتقطع رجله ويترك عقبه يمشى عليها. وفي التهذيب ايضا باسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: في كم تقطع يد السارق ؟ فقال: في ربع دينار. قال: قلت له: في درهمين ؟ فقال: في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ. قال فقلت له: أرأيت من سرق اقل من ربع الدينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق ؟ وهل هو عند الله سارق في تلك الحال ؟ فقال: كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق، وهو عند الله سارق ولكن لا تقطع إلا في ربع دينار أو اكثر، ولو قطعت يد السارق فيما هو أقل من ربع دينار لالفيت عامة الناس مقطعين. اقول: يريد عليه السلام بقوله: ولو قطعت يد السارق (الخ) أن في حكم القطع تخفيفا من الله رحمة منه لعباده، وهذا المعنى اعني اختصاص الحكم بسرقة ربع دينار أو اكثر مروى ببعض طرق الجمهور ايضا ففى صحيحي البخاري ومسلم باسنادهما عن عائشة أن

[ 335 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقطع يد السارق الا في ربع دينار فصاعدا. وفي تفسير العياشي عن سماعة عن أبى عبد الله عليه السلام: أنه قال: إذا أخذ السارق فقطع وسط الكف فان عاد قطعت رجله من وسط القدم فان عاد استودع السجن فان سرق في السجن قتل. وفيه: عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام: عن رجل سرق وقطعت يده اليمنى ثم سرق فقطعت رجله اليسرى ثم سرق الثالثة ؟ قال: كان امير المؤمنين عليه السلام يخلده في السجن ويقول: انى لاستحيى من ربى ان أدعه بلا يد يستنظف بها ولا رجل يمشى بها إلى حاجته. قال: فكان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل، وإذا قطع الرجل قطعها دون الكعبين قال: وكان لا يرى ان يغفل عن شئ من الحدود. وفيه: عن زرقان صاحب ابن ابى دواد وصديقه بشدة قال: رجع ابن ابى دواد ذات يوم من عند المعتصم، وهو مغتم فقلت له في ذلك فقال. وددت اليوم انى قدمت منذ عشرين سنة قال: قلت له: ولم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الاسود أبا جعفر محمد بن على بن موسى اليوم بين يدى امير المؤمنين المعتصم قال: قلت: وكيف كان ذلك ؟ قال: ان سارقا أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمد بن على فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع ؟ قال: فقلت: من الكرسوع لقول الله في التيمم: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " واتفق معى على ذلك قوم. وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق قال: وما الدليل على ذلك قالوا: لان الله لما قال: " وايديكم إلى المرافق " في الغسل دل على ذلك أن حد اليد هوالمرفق. قال: فالتفت إلى محمد بن على فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال: قد تكلم القوم فيه يا امير المؤمنين قال: دعني بما تكلموا به أي شئ عندك ؟ قال: اعفنى عن هذا يا أمير المؤمنين قال: اقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه، فقال. أما إذا أقسمت على بالله إنى اقول: انهم اخطأوا فيه السنة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الاصابع - فتترك الكف، قال: وما الحجة في ذلك ؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السجود على سبعة اعضاء: الوجه، واليدين، والركبتين، والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع

[ 336 ]

أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك و تعالى: " وأن المساجد لله " يعنى هذه الاعضاء السبعة التى يسجد عليها " فلا تدعوا مع الله أحدا " وما كان لله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الاصابع دون الكف. قال ابن أبى دواد: قامت قيامتي وتمنيت أنى لم أك حيا. قال ابن أبى زرقان: إن ابن أبى دواد قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين على واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أنى ادخل به النار قال: وما هو ؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لامر واقع من أمور الدين فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر المجلس بنوه وقواده ووزراؤه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الامة بامامته، ويدعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء ؟ قال: فتغير لونه، وانتبه لما نبهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيرا. قال: فأمر اليوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه فأبى ان يجيبه، وقال: قد علمت انى لا أحضر مجالسكم فقال: إنى انما أدعوك إلى الطعام وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك وقد: أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقائك فصار إليه فلما أطعم منها أحس مآلم السم فدعا بدابته فسأله رب المنزل ان يقيم قال: خروجي من دارك خير لك، فلم يزل يومه ذلك وليلته في خلفه حى قبض. اقول: ورويت القصة بغيره من الطرق، وإنما أوردنا الرواية بطولها كبعض ما تقدمها من الروايات المتكررة لاشتمالها على ابحاث قرآنية دقيقة يستعان بها على فهم الايات. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير وابن أبى حاتم عن عبد الله بن عمر: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت: هل لى من توبة يا رسول الله ؟ قال: نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فنزل الله في سورة المائدة،: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ". اقول: الرواية من قبيل التطبيق واتصال الاية بما قبلها، ونزولهما معا ظاهر.

[ 337 ]

يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم - 41. سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين - 42. وكيف يحكمونك وعندهم التورية فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - 43. إنا أنزلنا التورية فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - 44. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم

[ 338 ]

بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون - 45. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التورية وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التورية وهدى وموعظة للمتقين - 46. وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون - 47. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتيكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون - 48. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون - 49. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون - 50. (بيان) الايات متصلة الاجزاء يرتبط بعضها ببعض ذات سياق واحد يلوح منه أنها نزلت في طائفة من أهل الكتاب حكموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض احكام التوراة وهم يرجون أن يحكم فيهم بخلاف ما حكمت به التوراة فيستريحوا إليه فرارا من حكمها قائلين بعضهم لبعض: " إن أوتيتم هذا - أي ما يوافق هواهم - فخذوه وان لم تؤتوه - أي أوتيتم حكم التوراة - فاحذروا ".

[ 339 ]

وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أرجعهم إلى حكم التوراة فتولوا عنه، وانه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون إلى مثل ما يميل إليه أولئك المحكمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحكم بينهم على الهوى ورعاية جانب الاقوياء وهو حكم الجاهلية، ومن احسن حكما من الله لقوم يوقنون ؟ وبذلك يتأيد ما ورد في اسباب النزول ان الايات نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم، وأراد أحبارهم ان يبدلوا حكم الرجم الذى في التوراة الجلد، فبعثوا من يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم زنا المحصن، ووصوهم إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه، وان حكم بالرجم أن يردوه فحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجم فتولوا عنه فسأل صلى الله عليه وآله وسلم ابن صوريا عن حكم التوراة في ذلك وأقسمه بالله وآياته ان لا يكتم ما يعلمه من الحق فصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن حكم الرجم موجود في التوراة (القصة) وسيجئ في البحث الروائي الاتى إنشاء الله تعالى. والايات مع ذلك مستقلة في بيانها غير مقيدة فيما أفادها بسبب النزول، وهذا شأن الايات القرآنية مما نزلت لاسباب خاصة من الحوادث الواقعة، ليس لاسباب نزولها منها إلا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم، وليس إلا لان القرآن كتاب عام دائم لا يتقيد بزمان أو مكان، ولا يختص بقوم أو حادثة خاصة، وقال تعالى: " ان هو إلا ذكر للعالمين " (يوسف: 104) وقال تعالى: " تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " (الفرقان: 1) وقال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (فصلت: 42). قوله تعالى: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه مما لقى من هؤلاء المذكورين في الاية، وهم الذين يسارعون في الكفراى يمشون فيه المشيه السريعة، ويسيرون فيه السير الحثيث، تظهر من افعالهم واقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم والمسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر. وقوله: " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " بيان لهؤلاء الذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين، وفى وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهى كما ان الاخذ بالوصف السابق اعني قوله: " الذين يسارعون في الكفر " للاشارة إلى علة المنهى عنه، والمعنى - والله أعلم -: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فانهم

[ 340 ]

إنما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم وما أولئك بالمؤمنين، وكذلك اليهود الذين جاؤك وقالوا ما قالوا وقوله: " ومن الذين هادوا " عطف على قوله: " من الذين قالوا آمنا " (الخ) على ما يفيده السياق، وليس من الاستيناف في شئ وعلى هذا فقوله: " سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " خبر لمبتدأ محذوف أي هم سماعون (الخ). وهذه الجمل المتسقة بيان حال الذين هادوا، وأما المنافقون المذكورون في صدر الاية فحالهم لا يوافق هذه الاوصاف كما هو ظاهر. فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سماعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع العلم بأنه كذب، وإلا لم يكن صفة ذم، وهم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك، يقبلون منهم كل ما ألقوه إليهم ويطيعونهم في كل ما أرادوه منهم، واختلاف معنى السمع هو الذى أوجب تكرار قوله: " سماعون فإن الاول يفيد معنى الاصغاء والثانية معنى القبول. وقوله: " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي بعد استقرارها في مستقرها والجملة صفة لقوله: " لقوم آخرين " وكذا قوله: " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا. ويتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم، لها حكم إلهى عندهم لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمروهم أن يحكموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرف فليأخذوه وإن حكم بغير ذلك فليحذروا. وقوله: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " الظاهر أنه معترضة يبين بها أنهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهية، فلتطب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الامر من الله واليه وليس يملك منه تعالى شئ في ذلك، ولا موجب للتحزن فيما لا سبيل إلى التخلص منه. وقوله: " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " فقلوبهم باقية على قذارتها الاولية لما تكرر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلهم الله به، وما يضل به إلا الفاسقين. وقوله: " لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم " إيعاد لهم بالخزى في الدنيا وقد فعل بهم، وبالعذاب العظيم في الاخرة. قوله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " قال الراغب في المفردات: السحت

[ 341 ]

القشر الذى يستأصل قال تعالى: " فيسحتكم بعذاب " وقرئ: فيسحتكم (أي بفتح الياء) يقال: سحته وأسحته ومنه السحت للمحظور الذى يلزم صاحبه العار كأنه يسحت دينه ومروءته، قال تعالى: " أكالون للسحت " أي لما يسحت دينهم، وقال عليه السلام كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، وسمى الرشوة سحتا. انتهى. فكل مال اكتسب من حرام فهو سحت، والسياق يدل على أن المراد بالسحت في الاية هو الرشا ويتبين من إيراد هذا الوصف في المقام أن علماءهم الذين بعثوا طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا قد أخذوا في الواقعة رشوة لتحريف حكم الله فقد كان الحكم مما يمكن أن يتضرر به بعضه فسد الباب بالرشوة، فأخذوا الرشوة وغيروا حكم الله تعالى. ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " باعتبار المجموع وصف لمجموع القوم، وأما بحسب التوزيع فقوله: " سماعون للكذب " وصف لقوله: " الذين هادوا وهم المبعوثون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن في حكمهم من التابعين، وقوله: " أكالون للسحت " وصف لقوم آخرين، والمحصل أن اليهود منهم علماء يأكلون الرشى، وعامة مقلدون سماعون لاكاذبيهم. قوله تعالى: " فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (إلى آخر الاية) تخيير للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بين أن يحكم بينهم إذا حكموه أو يعرض عنهم، ومن المعلوم أن اختيار أحد الامرين لم يكن يصدر منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا لمصلحة داعية فيؤول إلى إرجاع الامر إلى نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورأية. ثم قرر تعالى هذا التخيير بأنه ليس عليه صلى الله عليه وآله وسلم ضرر لو ترك الحكم فيهم وأعرض عنهم وبين له أنه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلا بالقسط والعدل. فيعود المضمون بالاخرة إلى أن الله سبحانه لا يرضى أن يجرى بينهم إلا حكمه فإما أن يجرى فيهم ذلك أو يهمل أمرهم فلا يجرى من قبله صلى الله عليه وآله وسلم حكم آخر. قوله تعالى: " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين " تعجيب من فعالهم أنهم أمة ذات كتاب وشريعة وهم منكرون لنبوتك وكتابك وشريعتك ثم يبتلون بواقعة في كتابهم حكم الله فيها، ثم يتولون بعد ما عندهم التوراة فيها حكم الله والحال أن أولئك المبتعدين من الكتاب وحكمه ليسوا

[ 342 ]

بالذين يؤمنون بذلك. وعلى هذا المعنى فقوله: ثم " يتولون من بعد ذلك " أي عن حكم الواقعة مع كون التوراة عندهم وفيها حكم الله، وقوله وما أولئك بالمؤمنين " أي بالذين يؤمنون بالتوراة وحكمها فهم تحولوا من الايمان بها وبحكمها إلى الكفر. ويمكن أن يفهم من قوله: " ثم يتولون " التولى عما حكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن قوله: " وما أولئك بالمؤمنين " نفى الايمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما كان يظهر من رجوعهم إليه وتحكيمهم إياه، أو نفى الايمان بالتوراة وبالنبى صلى الله عليه وآله وسلم جميعا، لكن ما تقدم من المعنى أنسب لسياق الايات. وفي الاية تصديق ما للتوراة التى عند اليهود اليوم، وهى التى جمعها لهم عزراء بإذن " كورش " ملك إيران بعد ما فتح بابل، وأطلق بنى إسرائيل من أسر البابليين وأذن لهم في الرجوع إلى فلسطين وتعمير الهيكل، وهى التى كانت بيدهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهى التى بيدهم اليوم، فالقرآن يصدق أن فيها حكم الله، وهو أيضا يذكر أن فيها تحريفا وتغييرا. ويستنتج من الجميع: أن التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شئ من التوراة الاصلية النازلة على موسى عليه السلام وأمور حرفت وغيرت اما بزيادة أو نقصان أو تغيير لفظ أو محل أو غير ذلك، وهذا هو الذى يراه القرآن في أمر التوراة، والبحث الوافى عنها أيضا يهدى إلى ذلك. قوله تعالى: " انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون " (الخ) بمنزلة التعليل لما ذكر في الاية السابقة، وهى وما بعدها من الايات تبين أن الله سبحانه شرع لهذه الامم على اختلاف عهودهم شرائع، وأودعها في كتب انزلها إليهم ليهتدوا بها ويتبصروا بسببها، ويرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه، وامر الانبياء والعلماء منهم ان يحكموا بها، ويتحفظوا عليها ويقوها من التغيير والتحريف، ولا يطلبوا في الحكم ثمنا ليس الا قليلا، ولا يخافوا فيها الا الله سبحانه ولا يخشوا غيره. وأكد ذلك عليهم وحذرهم اتباع الهوى، وتفتين أبناء الدنيا، وإنما شرع من الاحكام مختلفا باختلاف الامم و الازمان ليتم الامتحان الالهى فإن استعداد الازمان مختلف بمرور

[ 343 ]

الدهور، ولا يستكمل المختلفان في الاستعداد شدة وضعفا بمكمل واحد من التربية العلمية والعملية على وتيرة واحدة فقوله: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " أي شئ من الهداية يهتدى بها، وشئ من النور يتبصر به من المعارف والاحكام على حسب حال بنى إسرائيل، ومبلغ استعدادهم، وقد بين الله سبحانه في كتابه عامة أخلاقهم، وخصوصيات أحوال شعبهم ومبلغ فهمهم، فلم ينزل إليهم من الهداية إلا بعضها ومن النور إلا بعضه لسبق عهدهم وقدمة أمتهم، وقلة استعداد، هم قال تعالى: " وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " (الاعراف: 145). وقوله: " يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا " إنما وصف النبيين بالاسلام وهو التسليم لله، الذى هو الدين عند الله سبحانه للاشارة إلى أن الدين واحد، وهو الاسلام لله وعدم الاستنكاف عن عبادته، وليس لمؤمن بالله - وهو مسلم له - أن يستكبر عن قبول شئ من أحكامه وشرائعه. " وقوله والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء المنقطعون إلى الله علما وعملا، أو الذين إليهم تربية الناس بعلومهم بناء على اشتقاق اللفظ من الرب أو التربية، والاحبار وهم الخبراء من علمائهم يحكمون بما أمرهم الله به وأراده منهم أن يحفظوه من كتاب الله، وكانوا من جهة حفظهم له وتحملهم إياه شهداء عليه لا يتطرق إليه تغيير وتحريف لحفظهم له في قلوبهم، فقوله: " وكانوا عليه شهداء " بمنزلة النتيجة لقوله: " بما استحفظوا " (الخ) أي أمروا بحفظه فكانوا حافظين له بشهادتهم عليه. وما ذكرناه من معنى الشهادة هو الذى يلوح من سياق الاية، وربما قيل: إن المراد بها الشهادة على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرجم أنه ثابت في التوراة وقيل: إن المراد الشهادة على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له، ولا شاهد من جهة السياق يشهد على شئ من هذين المعنيين. وأما قوله تعالى: " فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا " فهو متفرع على قوله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها " أي لما كانت التوراة منزلة من عندنا مشتملة على شريعة يقضى بها النبيون والربانيون والاحبار بينكم فلا تكتموا شيئا

[ 344 ]

منها ولا تغيروها خوفا أو طمعا، أما خوفا فبأن تخشوا الناس وتنسوا ربكم بل الله فاخشوا حتى لا تخشوا الناس، وأما طمعا فبأن تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا هو مال أو جاه دنيوى زائل باطل. ويمكن أن يكون متفرعا على قوله: " بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " بحسب المعنى لانه في معنى أخذ الميثاق على الحفظ أي أخذنا منهم الميثاق على حفظ الكتاب وأشهدناهم عليه أن لا يغيروه ولا يخشوا في إظهاره غيرى، ولا يشتروا بآياتى ثمنا قليلا، قال تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا " (آل عمران: 187) وقال تعالى: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " (الاعراف: 170). وهذا المعنى الثاني لعله أنسب وأوفق لما يتلوه من التأكيد والتشديد بقوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون ". قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله - والجروح قصاص " السياق وخاصة بالنظر إلى قوله: " والجروح قصاص " يدل على أن المراد به بيان حكم القصاص في أقسام الجنايات من القتل والقطع والجرح، فالمقابلة الواقعة في قوله: " النفس بالنفس " وغيره إنما وقعت بين المقتص له والمقتص به والمراد به أن النفس تعادل النفس في باب القصاص، والعين تقابل العين والانف الانف وهكذا والباء للمقابلة كما في قولك: بعت هذا بهذا. فيؤول معنى الجمل المتسقة إلى ان النفس تقتل بالنفس، والعين تفقا بالعين والانف تجدع بالانف، والاذن تصلم بالاذن، والسن تقلع بالسن والجروح ذوات قصاص، وبالجملة إن كلا من النفس واعضاء الانسان مقتص بمثله. ولعل هذا هو مراد من قدر في قوله: " النفس بالنفس " ان النفس مقتصة أو مقتولة بالنفس وهكذا وإلا فالتقدير بمعزل عن الحاجة، والجمل تامة من دونه والظرف لغو. والاية لا تخلو من إشعار بأن هذا الحكم غير الحكم الذى حكموا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتذكره

[ 345 ]

الايات السابقة فإن السياق قد تجدد بقوله: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ". والحكم موجود في التوراة الدائرة على ما سيجئ نقله في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " فمن تصدق به فهو كفارة له " أي فمن عفى من أولياء القصاص كولى المقتول أو نفس المجني عليه والمجروح عن الجاني، ووهبه ما يملكه من القصاص فهو أي العفو كفارة لذنوب المتصدق أو كفارة عن الجاني في جنايته. والظاهر من السياق ان الكلام في تقدير قولنا: فإن تصدق به من له القصاص فهو كفارة له، وإن لم يتصدق فليحكم صاحب الحكم بما انزله الله من القصاص، ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون. وبذلك يظهر أولا: أن الواو في قوله: " ومن لم يحكم " للعطف على قوله: " من تصدق " لا للاستيناف كما ان الفاء في قوله: " فمن تصدق " للتفريع: تفريع المفصل على المجمل، نظير قوله تعالى في آية القصاص: " فمن عفى له من اخيه شئ فاتباع بالمعروف واداء إليه بإحسان " (البقرة: 178). وثانيا: ان قوله: " ومن لم يحكم " من قبيل وضع العلة موضع معلولها والتقدير: وان لم يتصدق فليحكم بما انزل الله فإن من لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون. قوله تعالى: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة " التقفية جعل الشئ خلف الشئ وهو مأخوذ من القفا، والاثار جمع أثرو هو ما يحصل من الشئ مما يدل عليه، ويغلب استعماله في الشكل الحاصل من القدم ممن يضرب في الارض، والضمير في " آثارهم " للانبياء. فقوله: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم " استعارة بالكناية أريد بها الدلالة على أنه سلك به عليه السلام المسلك الذى سلكه من قبله من الانبياء، وهو طريق الدعوة إلى التوحيد والاسلام لله. وقوله: " مصدقا لما بين يديه من التوراة " تبيين لما تقدمه من الجملة وإشارة إلى أن دعوة عيسى هي دعوة موسى عليهما السلام من غير بينونة بينهما أصلا. قوله تعالى: " وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة

[ 346 ]

(الخ) سياق الايات من جهة تعرضها لحال شريعة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهما ونزولها في حق كتبهم يقضى بانطباق بعضها على بعض ولازم ذلك: اولا: أن الانجيل المذكور في الاية - ومعناها البشارة - كان كتابا نازلا على المسيح عليه السلام لا مجرد البشارة من غير كتاب غير أن الله سبحانه لم يفصل القول في كلامه في كيفية نزوله على عيسى كما فصله في خصوص التوراة والقرآن قال تعالى في حق التوراة: " قال يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " (الاعراف: 145) وقال: " أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " (الاعراف: 154). وقال في خصوص القرآن: " نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " (الشعراء: 195) وقال: " نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " (الشعراء: 195) وقال: " إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين " (التكوير: 21) وقال: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة " (عبس: 16) وهو سبحانه لم يذكر في تفصيل نزول الانجيل ومشخصاته شيئا، لكن ذكره نزوله على عيسى في الاية محاذيا لذكر نزول التوراة على موسى في الاية السابقة ونزول القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وعليهما يدل على كونه كتابا في عرض الكتابين. وثانيا: أن قوله تعالى في وصف الانجيل: " فيه هدى ونور " محاذاة لقوله في وصف التوراة " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " يراد به ما يشتمل عليه الكتاب من المعارف والاحكام غير أن قوله تعالى في هذه الاية ثانيا: " وهدى وموعظة للمتقين " يدل على أن الهدى المذكور أولا غير الهدى الذى تفسيره الموعظة فالهدى المذكور أولا هو نوع المعارف التى يحصل بها الاهتداء في باب الاعتقادات، وأما ما يهدى من المعارف إلى التقوى في الدين فهو الذى يراد بالهدى المذكور ثانيا. وعلى هذا لا يبقى لقوله: " ونور " من المصداق إلا الاحكام والشرائع، والتدبر ربما ساعد على ذلك فإنها امور يستضاء بها ويسلك في ضوئها وتنورها مسلك الحيا، وقد قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " (الانعام: 122). وقد ظهر بذلك: ان المراد بالهدى في وصف التوراة وفي وصف الانجيل اولا هو نوع المعارف الاعتقادية كالتوحيد والمعاد، وبالنور في الموضعين نوع الشرائع والاحكام،

[ 347 ]

وبالهدى ثانيا في وصف الانجيل هو نوع المواعظ و النصائح، والله أعلم. وظهر ايضا وجه تكرار الهدى في الاية فالهدى المذكور ثانيا غير الهدى المذكور اولا وأن قوله " وموعظة " من قبيل عطف التفسير والله أعلم. وثالثا: أن قوله ثانيا في وصف الانجيل: " ومصدقا لما بين يديه من التوراة " ليس من قبيل التكرار لتأكيد ونحوه بل المراد به تبعية الانجيل لشريعة التوراة فلم يكن في الانجيل إلا الامضاء لشريعة التوراة والدعوة إليها إلا ما استثناه عيسى المسيح على ما حكاه الله تعالى من قوله: " ولاحل لكم بعض الذى حرم عليكم " (آل عمران: 50). والدليل على ذلك قوله تعالى في الاية الاتية في وصف القرآن: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " على ما سيجئ من البيان. قوله تعالى: " وهدى وموعظة للمتقين " قد مر توضيحه، والاية تدل على أن في الانجيل النازل على المسيح عناية خاصة بالتقوى في الدين مضافا إلى ما يشتمل عليه التوراة من المعارف الاعتقادية والاحكام العملية، والتوراة الدائرة بينهم اليوم وإن لم يصدقها القرآن كل التصديق، وكذا الاناجيل الاربعة المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا وإن كانت غير ما يذكره القرآن من الانجيل النازل على المسيح نفسه لكنها مع ذلك كله تصدق هذا المعنى كما سيجئ إن شاء الله الاشارة إليه. قوله تعالى: " وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه " (الخ) وقد أنزل فيه تصديق التوراة في شرائعها إلا ما استثنى من الاحكام المنسوخة التى ذكرت في الانجيل النازل على عيسى عليه السلام فان الانجيل لما صدق التوراة فيما شرعته، وأحل بعض ما حرم فيها كان العمل بما في التوراة في غير ما أحلها الانجيل من المحرمات عملا بما أنزل الله في الانجيل وهو ظاهر. ومن هنا يظهر ضعف ما استدل بعض المفسرين بالاية على أن الانجيل مشتمل على صرائع مفصلة كما اشتملت عليه التوراة، ووجه الضعف ظاهر. وأما قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون " فهو تشديد في الامر المدلول عليه بقوله: " وليحكم "، وقد كرر الله سبحانه هذه الكلمة للتشديد ثلاث مرات: مرتين في أمر اليهود ومرة في أمر النصارى باختلاف يسير فقال: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون، فاولئك هم الظالمون، فاولئك هم الفاسقون " فسجل عليهم

[ 348 ]

الكفر والظلم والفسق. ولعل الوجه في ذكر الفسق عند التعرض لما يرجع إلى النصارى، والكفر والظلم فيما يعود إلى اليهود أن النصارى بدلوا التوحيد تثليثا ورفضوا أحكام التوراة بأخذ بولس دين المسيح دينا مستقلا منفصلا عن دين موسى مرفوعا فيه الاحكام بالتفدية فخرجت النصارى بذلك عن التوحيد وشريعته بتأول ففسقوا عن دين الله الحق، والفسق خروج الشئ من مستقره كخروج لب التمرة عن قشرها. وأما اليهود فلم يشتبه عليهم الامر فيما عندهم من دين موسى عليه السلام وإنما ردوا الاحكام والمعارف التى كانوا على علم منها وهو الكفر بآيات الله والظلم لها. والايات الثلاث أعنى قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون، فاولئك هم الظالمون، فاولئك هم الفاسقون " آيات مطلقة لا تختص بقوم دون قوم، وإن انطبقت على أهل الكتاب في هذا المقام. وقد اختلف المفسرون في معنى كفر من لم يحكم بما أنزل الله كالقاضي يقضى بغير ما أنزل الله والحاكم يحكم على خلاف ما أنزل الله، والمبتدع يستن بغير السنة وهى مسألة فقهية الحق فيها أن المخالفة لحكم شرعى أو لاى أمر ثابت في الدين في صورة العلم بثبوته والرد له توجب الكفر، وفي صورة العلم بثبوته مع عدم الرد له توجب الفسق، وفي صورة عدم العلم بثبوته مع الرد له لا توجب كفرا ولا فسقا لكونه قصورا يعذر فيه إلا أن يكون قصر في شئ من مقدماته وليراجع في ذلك كتب الفقه. قوله تعالى: " وانزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " هيمنة الشئ على الشئ - على ما يتحصل من معناها - كون الشئ ذا سلطة على الشئ في حفظه ومراقبته وانواع التصرف فيه، وهذا حال القرآن الذى وصفه الله تعالى بأنه تبيان كل شئ بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية: يحفظ منها الاصول الثابتة غير المتغيرة وينسخ منها ما ينبغى ان ينسخ من الفروع التى يمكن أن يتطرق إليها التغير والتبدل حتى يناسب حال الانسان بحسب سلوكه صراط الترقي والتكامل بمرور الزمان قال تعالى: " ان هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم " (أسرى: 9) وقال: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " (البقرة: 106) وقال: " الذين يتبعون النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم

[ 349 ]

الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون " (الاعراف: 157). فهذه الجملة أعنى قوله: ومهيمنا عليه " متممة لقول: " ومصدقا لما بين يديه من الكتاب " تتميم إيضاح إذ لولاها لامكن ان يتوهم من تصديق القرآن للتوراة والانجيل أنه يصدق ما فيهما من الشرائع والاحكام تصديق إبقاء من غير تغيير وتبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبين ان تصديقه لها تصديق أنها معارف وشرائع حقه من عند الله ولله ان يتصرف منها فيما يشاء بالنسخ والتكميل كما يشير إليه قوله ذيلا: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ". فقول: " مصدقا لما بين يديه " معناه تقرير ما فيها من المعارف والاحكام بما يناسب حال هذه الامة فلا ينافيه ما تطرق إليها من النسخ والتكميل والزيادة كما كان المسيح عليه السلام أو انجيله مصدقا للتوراة مع إحلاله بعض ما فيها من المحرمات كما حكاه الله عنه في قوله: " ومصدقا لما بين يدى من التوراة ولاحل لكم بعض الذى حرم عليكم " (آل عمران: 50). قوله تعالى: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " أي إذا كانت الشريعه النازلة إليك المودعة في الكتاب حقا وهو حق فيما وافق ما بين يديه من الكتب وحق فيما خالفه لكونه مهيمنا عليه فليس لك الا أن تحكم بين أهل الكتاب - كما يؤيده ظاهر الايات السابقة - أو بين الناس - كما تؤيده الايات اللاحقة - بما أنزل الله إليك ولا تتبع أهواءهم بالاعراض والعدول عما جاءك من الحق. ومن هنا يظهر جواز أن يراد بقوله: " فاحكم بينهم " الحكم بين أهل الكتاب أو الحكم بين الناس، لكن تبعد المعنى الاول حاجته إلى تقدير كقولنا فاحكم بينهم ان حكمت، فان الله سبحانه لم يوجب عليه صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بينهم بل خيره بين الحكم والاعراض بقوله: " فان جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (الاية) على ان الله سبحانه ذكر المنافقين مع اليهود في اول الايات فلا موجب لاختصاص اليهود برجوع الضمير إليهم لسبق الذكر وقد ذكر معهم غيرهم فالانسب أن يرجع الضمير إلى الناس لدلالة المقام. ويظهر ايضا ان قوله: " عما جاءك " متعلق بقوله: " ولا تتبع " بإشرابه معنى العدول أو الاعراض. قوله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال الراغب في المفردات:

[ 350 ]

الشرع نهج الطريق الواضح يقال: شرعت له طريقا والشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له: شرع وشرع وشريعة، واستعير ذلك للطريقة الالهية قال: " شرعة ومنهاجا " - إلى ان قال - قال بعضهم: سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء انتهى. ولعل الشريعة بالمعنى الثاني مأخوذ من المعنى الاول لوضوح طريق الماء عندهم بكثرة الورود والصدور وقال: النهج (بالفتح فالسكون): الطريق الواضح، ونهج الامر وأنهج وضح، ومنهج الطريق ومنهاجه. (كلام في معنى الشريعة) (والفرق بينها وبين الدين والملة في عرف القرآن) معنى الشريعة كما عرفت هو الطريقة، والدين وكذلك الملة طريقة متخذة لكن الظاهر من القرآن انه يستعمل الشريعة في معنى أخص من الدين كما يدل عليه قوله تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " (آل عمران: 19)، وقوله تعالى: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين " (آل عمران: 85) إذا انضما إلى قوله: " لكل جعلنا منكم شرعة وومنهاجا " (الاية) وقوله: " ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها " (الجاثية: 18). فكان الشريعة هي الطريقة الممهدة لامة من الامم أو لنبى من الانبياء الذين بعثوا بها كشريعة نوح وشريعة إبراهيم وشريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والدين هو السنة والطريقة الالهية العامة لجميع الامم فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع. وهناك فرق آخر وهو ان الدين ينسب إلى الواحد والجماعة كيفما كانا، ولكن الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلا إذا كان واضعها أو القائم بأمر ها يقال: دين المسلمين ودين اليهود وشريعتهم، ويقال: دين الله وشريعته ودين محمد وشريعته، ويقال: دين زيد وعمرو، ولا يقال: شريعة زيد وعمرو، و لعل ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثى وهو تمهيد الطريق و نصبه فمن الجائز ان يقال: الطريقة التى مهدها الله أو الطريقة التى مهدت للنبى أو للامة الفلانية دون ان يقال: الطريقة التى مهدت لزيد إذ لا اختصاص له بشئ. وكيف كان فالمستفاد منها ان الشريعة أخص معنى من الدين، واما قوله تعالى:

[ 351 ]

" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى " (الشورى: 13) فلا ينافى ذلك إذ الاية انما تدل على ان شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشروعة لامته هي مجموع وصايا الله سبحانه لنوح وابراهيم وموسى وعيسى مضافا إليها ما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وآله وعليهم، وهو كناية اما عن كون الاسلام جامعا لمزايا جميع الشرائع السابقة وزيادة، أو عن كون الشرائع جميعا ذات حقيقة واحدة بحسب اللب وان كانت مختلفة بحسب اختلاف الامم في الاستعداد كما يشعر به أو يدل عليه قوله بعده. ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " (الشورى: 13). فنسبة الشرائع الخاصة إلى الدين - - وهو واحد والشرائع تنسخ بعضها بعضا - كنسبة الاحكام الجزئية في الاسلام فيها ناسخ ومنسوخ إلى أصل الدين، فالله سبحانه لم يتعبد عباده إلا لدين واحد وهو الاسلام له إلا أنه سلك بهم لنيل ذلك مسالك مختلفة وسن لهم سننا متنوعة على حسب اختلاف استعداداتهم وتنوعها، وهى شرائع نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم كما انه تعالى ربما نسخ في شريعة واحدة بعض الاحكام ببعض لانقضاء مصلحة الحكم المنسوخ وظهور مصلحة الحكم الناسخ كنسخ الحبس المخلد في زنا النساء بالجلد والرجم وغير ذلك، ويدل على ذلك قوله تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " (الاية). وأما الملة فكان المراد بها السنة الحيوية المسلوكة بين الناس، وكان فيها معنى الاملال والاملاء فيكون هي الطريقة المأخوذة من الغير، وليس الاصل في معناه واضحا ذاك الوضوح، فالاشبه ان تكون مرادفة للشريعة بمعنى أن الملة كالشريعة هي الطريقة الخاصة بخلاف الدين، وإن كان بينهما فرق من حيث ان الشريعة تستعمل فيها بعناية أنها سبيل مهده الله تعالى لسلوك الناس إليه، والملة انما تطلق عليها لكونها مأخوذة عن الغير بالاتباع العملي، ولعله لذلك لا تضاف إلى الله سبحانه كما يضاف الدين والشريعة، يقال: دين الله وشريعة الله، ولا يقال: ملة الله. بل انما تضاف إلى النبي مثلا من حيث إنها سيرته وسنته أو إلى الامة من جهة انهم سائرون مستنون به، قال تعالى: " ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " (البقرة: 135) وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: " إنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسحاق ويعقوب " (يوسف: 38) وقال

[ 352 ]

تعالى حكاية عن الكفار في قولهم لانبيائهم: " لنخرجنكم من ارضنا أو لتعودن في ملتنا " (ابراهيم: 13). فقد تلخص ان الدين في عرف القرآن أعم من الشريعة والملة وهما كالمترادفين مع فرق ما من حيث العناية اللفظية قوله تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " بيان لسبب اختلاف الشرائع، وليس المراد بجعلهم أمة واحدة الجعل التكويني بمعنى النوعية الواحدة فإن الناس أفراد نوع واحد يعيشون على نسق واحد كما يدل عليه قوله تعالى: " ولو لا ان يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون " (الزخرف: 33). بل المراد اخذهم بحسب الاعتبار امة واحدة على مستوى واحد من الاستعداد والتهيؤ حتى تشرع لهم شريعة واحدة لتقارب درجاتهم الملحوظة فقوله: " ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة " من قبيل وضع علة الشرط موضع الشرط ليتضح باستحضارها معنى الجزاء أعنى قوله: " ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " أي ليمتحنكم فيما اعطاكم وانعم عليكم، ولا محالة هذه العطايا المشار إليها في الاية مختلفة في الامم، وليست هي الاختلافات بحسب المساكن والالسنة والالوان فان الله لم يشرع شريعتين أو اكثر في زمان واحد قط بل هي الاختلافات بحسب مرور الزمان، وارتقاء الانسان في مدارج الاستعداد والتهيؤ وليست التكاليف الالهية والاحكام المشرعة إلا امتحانا إلهيا للانسان في مختلف مواقف الحياة وان شئت فقل: اخراجا له من القوة إلى الفعل في جانبى السعادة والشقاوة، وان شئت فقل: تمييزا لحزب الرحمان وعباده من حزب الشيطان فقد اختلف التعبير عنه في الكتاب العزيز، ومآل الجميع إلى معنى واحد، قال تعالى جريا على مسلك الامتحان: " وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " (آل عمران: 142) إلى غير ذلك من الايات. وقال جريا على المسلك الثاني: " فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " (طه: 124). وقال جريا على المسلك الثالث: " وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا - إلى أن

[ 353 ]

قال - قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " (الحجر: 43) إلى غير ذلك من الايات. وبالجملة لما كانت العطايا الالهية لنوع الانسان من الاستعداد والتهيؤ مختلفة باختلاف الازمان، وكانت الشريعة والسنة الالهية الواجب اجراؤها بينهم لتتميم سعادة حياتهم وهى الامتحانات الالهية تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات وتنوعها أنتج ذلك لزوم اختلاف الشرائع، ولذلك علل تعالى ما ذكره من اختلاف الشرعة والمنهاج بأن ارادته تعلقت ببلائكم وامتحانكم فيما أنعم عليكم فقال: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ". فمعنى الاية - والله أعلم - لكل أمة جعلنا منكم (جعلا تشريعيا) شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لاخذكم أمة واحدة وشرع لكم شريعة واحدة، ولكن جعل لكم شرائع مختلفة ليمتحنكم فيما آتاكم من النعم المختلفة، واختلاف النعم كان يستدعى اختلاف الامتحان الذى هو عنوان التكاليف والاحكام المجعولة فلا محالة ألقى الاختلاف بين الشرائع. وهذه الامم المختلف هي أمم نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم كما يدل عليه ما يمتن الله به على هذه الامة بقوله: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى (الشورى: 13). قوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا " (الخ) الاستباق أخذ السبق، والمرجع مصدر ميمى من الرجوع، والكلام متفرع على قوله: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " بما له من لازم المعنى أي وجعلنا هذه الشريعة الحقة المهيمنة على سائر الشرائع شريعة لكم، وفيه خيركم وصلاحكم لا محالة فاستبقوا الخيرات وهى الاحكام والتكاليف، ولا تشتغلوا بأمر هذه الاختلافات التى بينكم وبين غيركم فإن مرجعكم جميعا إلى ربكم تعالى فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون، ويحكم بينكم حكما فصلا، ويقضى قضاء عدلا. قوله تعالى: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع "، هذا الصدر يتحد مع ما في الاية السابقة من قوله: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم "، ثم يختلفان فيما فرع على كل منهما، ويعلم منه أن التكرار لحيازة هذه الفائدة فالاية الاولى تأمر بالحكم بما أنزل الله وتحذر اتباع أهواء الناس لان هذا الذى أنزله الله هي الشريعة المجعولة للنبى

[ 354 ]

صلى الله عليه وآله وسلم ولامته فالواجب عليهم أن يستبقوا هذه الخيرات، والاية الثانية تأمر بالحكم بما أنزل الله، وتحذر اتباع أهواء الناس وتبين أن توليهم ان تولوا عما أنزل الله كاشف عن اضلال الهى لهم لفسقهم وقد قال الله تعالى: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين " (البقرة: 26). فيتحصل مما تقدم أن هذه الاية بمنزلة البيان لبعض ما تتضمنه الاية السابقة من المعاني المفتقرة إلى البيان، وهو أن اعراض أرباب الاهواء عن اتباع ما انزل الله بالحق انما هو لكونهم فاسقين، وقد اراد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم الموجبة لفسقهم، والاصابة هو الاضلال ظاهرا، فقوله: " وان احكم بينهم بما انزل الله " عطف على الكتاب في قوله: " وانزلنا اليك الكتاب " كما قيل، والانسب حينئذ ان يكون اللام فيه مشعرة بالتلميح إلى المعنى الحدثى، ويصير المعنى: وانزلنا اليك ما كتب عليهم من الاحكام وان احكم بينهم بما انزل الله (الخ). وقوله: " واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك " امره تعالى نبيه بالحذر عن فتنتهم مع كونه صلى الله عليه وآله وسلم معصوما بعصمة الله انما هو من جهة ان قوة العصمة لا توجب بطلان الاختيار وسقوط التكاليف المبنية عليه فإنها من سنخ الملكات العلمية، والعلوم والادراكات لا تخرج القوى العاملة والمحركة في الاعضاء والاعضاء الحاملة لها عن استواء نسبة الفعل والترك إليها. كما ان العلم الجازم بكون الغذاء مسموما يعصم الانسان عن تناوله واكله، لكن الاعضاء المستخدمة للتغذي كاليد والفم واللسان والاسنان من شأنها ان تعمل عملها في هذا الاكل وتتغذى به، ومن شأنها ان تسكن فلا تعمل شيئا مع امكان العمل لها فالفعل اختياري وان كان كالمستحيل صدوره ما دام هذا العلم. وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في الكلام على قوله تعالى: " وما يضرونك من شئ وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " (النساء: 113). وقوله: " فإن تولوا فاعلم انما يريد الله ان يصيبهم ببعض ذنوبهم " بيان لامر اضلالهم اثر فسقهم كما تقدم، وفيه رجوع إلى بدء الكلام في هذه الايات: " يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " (الخ) ففيه تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وتطييب لنفسه، وتعليم له

[ 355 ]

ما لا يدب معه الحزن في قلبه، وهكذا فعل الله سبحانه في جل الموارد التى نهى فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ان يحزن على توليهم عن الدعوة الحقة واستنكافهم عن قبول ما يرشدهم إلى سبيل الرشاد والفلاح فبين له صلى الله عليه وآله وسلم انهم ليسوا بمعجزين لله في ملكه ولا غالبين عليه بل الله غالب على امره، وهو الذى يضلهم بسبب فسقهم، ويزيغ قلوبهم عن زيغ منهم، ويجعل الرجس عليهم بسلب توفيقه عنهم واستدراجه إياهم، قال تعالى: " ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون " (الانفال: 59) وإذا كان الامر إلى الله سبحانه، وهو الذى يذب عن ساحة دينه الطاهرة كل رجس نجس فلم يفته شئ مما أراده ولا وجه للحزن إذا لم يكن فائت. ولعله إلى ذلك الاشارة بقوله: " فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله " (الخ) دون أن يقال: فإن تولوا فإنما يريد الله (الخ) أو ما يؤدى معناه فيؤول المعنى إلى تعليم أن توليهم إنما هو بتسخير إلهى فلا ينبغى أن يحزن ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه رسول داع إلى سبيل ربه إن أحزنه شئ فإنما ينبغى أن يحزنه لغلبته إرادة الله في أمر الدعوة الدينية، وإذا كان الله سبحانه لا يعجزه شئ بل هو الذى يسوقهم إلى هنا وهناك بتسخير إلهى وتوفيق ومكر فلا موجب للحزن. وقد بين تعالى هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: " ولعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث سفا إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " (الكهف: 8) فبين أن الله تعالى لم يرد بإرسال الرسل والانذار والتبشير الدينى إيمان الناس جميعا على حد ما يريده الانسان في حوائجه ومآربه وإنما ذلك كله امتحان وابتلاء يبتلى به الناس ليمتاز به من هو أحسن عملا، وإلا فالدنيا وما فيها ستبطل وتفنى فلا يبقى إلا الصعيد العارى من هؤلاء الكفار المعرضين عن الحديث الحق، ومن كل ما يتعلق به قلوبهم فلا موجب للاسف إذ لا يجر ذلك خيبة إلى سعينا ولا بطلانا لقدرتنا وكلالا لارادتنا. وقوله: " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " في محل التعليل لقوله: " إنما يريد الله أن يصيبهم " (الخ) على ما تقدم بيانه. قوله تعالى: " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " تفريع بنحو الاستفهام على ما بين في الاية السابقة من توليهم مع كون ما يتولون عنه هو حكم

[ 356 ]

الله النازل إليهم والحق الذى علموا أنه حق ويمكن أن يكون في مقام النتيجة اللازمة لما بين في جميع الايات السابقة. والمعنى: " وإذا كانت هذه الاحكام والشرائع حقة نازلة من عند الله ولم يكن وراءها حكم حق لا يكون دونها الا حكم الجاهلية الناشئة عن اتباع الهوى فهؤلاء الذين يتولون عن الحكم الحق ما ذا يريدون بتوليهم وليس هناك الا حكم الجاهلية ؟ أفحكم الجاهلية يبغون والحال أنه ليس أحد أحسن حكما من الله لهؤلاء المدعين للايمان ؟. فقوله: " أفحكم الجاهلية يبغون " استفهام توبيخي، وقوله: " ومن أحسن من الله حكما " استفهام انكاري أي لا أحد أحسن حكما من الله، وإنما يتبع الحكم لحسنه، وقوله: " لقوم يوقنون " في أخذ وصف اليقين تعريض لهم بأنهم ان صدقوا في دعواهم الايمان بالله فهم يوقنون بآياته، والذين يوقنون بآيات الله ينكرون أن يكون أحد أحسن حكما من الله سبحانه. واعلم أن في الايات موارد من الالتفات من التكلم وحده أو مع الغير إلى الغيبة وبالعكس كقوله: " ان الله يحب المقسطين " ثم قوله " انا أنزلنا التوراة " ثم قوله: " بما استحفظوا من كتاب الله " ثم قوله: " واخشون " وهكذا، فما كان منها يختار فيه الغيبة بلفظ الجلالة فإنما يراد به تعظيم الامر بتعظيم صاحبه. وما كان منها بلفظ المتكلم وحده فيراد به أن الامر إلى الله وحده لا يداخله ولى ولا يشفع فيه شفيع، فإذا كان ترغيبا أو وعدا فإنما القائم به هو الله سبحانه، وهو أكرم من يفى بوعده، وإذا كان تحذيرا أو ايعادا فهو أشد وأشق ولا يصرف عن الانسان بشفيع ولا ولى إذ الامر إلى الله نفسه وقد نفى كل واسطة ورفع كل سبب متخلل فافهم ذلك، وقد مر بعض الكلام فيه في بعض المباحث السابقة.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338296

  • التاريخ : 29/03/2024 - 09:59

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net