80 - سورة عبس
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي أثنتان واربعون آية في الكوفي والمدنيين واحدى وأربعون في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
(عبس وتولى(1) أن جاءه الأعمى(2) وما يدريك لعله يزّكى(3) أو يذّكّر فتنفعه الذكرى(4) أما من استغنى(5) فأنت له تصدى(6) وما عليك ألا يزكى(7) وأما من جاءك يسعى(8) وهو يخشى(9) فأنت عنه تلهى(10))
عشر آيات.
قرأ عاصم وحده (فتنفعه الذكرى) بالنصب على أنه جواب (لعل) فجرى مجرى جواب الامر والنهي، لان (لعل) للترجمي فهي غير واجبة، كما أن الامر غير واجب في حصول ما تضمنه. الباقون بالرفع عطفا على (يذكر).
وقرأ نافع وابن كثير (تصدى) مشددة الصاد على أن معناه تتصدى فأدغم، أحدى التائين في الصاد لقرب مخرجهما. الباقون (تصدى) بتخفيف الصاد باسقاط أحدى التائين.
وقرأ ابن ابي بزة وابن فليح عن ابن كثير (تلهى) بتشديد اللام بمعنى تتلهي، فأدغم احدى التائين في اللام. الباقون بتخفيف اللام وحذف احدى التائين
[268]
يقول الله تعالى (عبس وتولى) ومعناه قبض وجهه وأعرض، فالعبوس تقبض الوجه عن تكره، والعبوس البسور وهو التقطيب وعبس فلان في وجه فلان مثل كلح، ومنه اشتق اسم عباس، ومعنى (تولى) أعرض وذهب بوجهه عنه فصرفه عن ان يليه يقال: تولى عنه بمعنى أعرض عنه، وتولاه بخلاف تولى عنه، فان تولاه بمعنى عقد على نصرته، وتولى عنه أعرض.
وقوله (أن جاءه الاعمى) معناه عبس لان جاءه الاعمى، وقال ابن خالويه: تقديره إذ جاءه الاعمى المراد به عبدالله بن أم مكتوم - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد - وقال الفراء: كانت أم مكتوم أم ابيه.
وقال غيره: كانت أمه.
وقال ابن خالويه ابوه يكنى أبا السرج.
واختلفوا فيمن وصفه الله تعالى بذلك، فقال كثير من المفسرين وأهل الحشو: إن المراد به النبي صلى الله عليه واله قالوا وذلك أن النبي صلى الله عليه واله كان معه جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم قد خلابهم فاقبل ابن أم مكتوم ليسلم فأعرض النبي صلى الله عليه واله عنه كراهية أن تكره القوم إقباله عليه فعاتبه الله على ذلك.
وقيل: إن ابن أم مكتوم كان مسلما، وإنما كان يخاطب النبي صلى الله عليه واله وهو لا يعلم أن رسول الله مشغول بكلام قوم، فيقول يا رسول الله. وهذا فاسد، لان النبي صلى الله عليه واله قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب، وقد وصفه بأنه (على خلق عظيم)(1) وقال (ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك)(2) وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)(3) ومن عرف النبي صلى الله عليه واله وحسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الاخلاق وحسن
___________________________________
(1) سورة 68 القلم آية 4.
(2) سورة 3 آل عمران آية 159.
(3) سورة 6 الانعام آية 52
[269]
الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح احدا قط فينزع يده من يده، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده. فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب الاسلام، على أن الانبياء عليهم السلام منزهون عن مثل هذه الاخلاق وعما هو دونها لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والاصغاء إل دعائهم، ولا يجوز مثل هذا على الانبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم.
وقال قوم: إن هذه الايات نزلت في رجل من بني أمية كان واقفا مع النبي صلى الله عليه واله، فلما اقبل ابن أم مكتوم تنفر منه، وجمع نفسه وعبس في وجهه وأعرض بوجهه عنه فحكى الله تعالى ذلك وانكره معاتبة على ذلك.
وقوله (وما يدريك) خطاب للنبي صلى الله عليه واله وتقديره (قل) يا محمد (وما يدريك لعله يزكى) وإنما اضاف العبوس إلى النبي صلى الله عليه واله من أضاف (وما يدريك) أنه رآه متوجها اليه ظن انه عتب له دون أن يكون متوجها اليه على أن يقول لمن فعل ذلك ويوبخه عليه. ومعنى قوله (يزكى) أي يتزكي بالعمل الصالح، فأدغم التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله (يذكر) ومعناه يتذكر، ولا يجوز وإدغام الزاي في التاء، لانها من حروف الصفير، وهي الصاد والسين والزاي.
وقوله (او يذكر) معناه أو يتذكر ما أمره الله تعالى به، ويفكر فيما أمره بالفكر فيه. وقد حث الله تعالى على التذكير في غير موضع من القرآن فقال) وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين)(1) وقال (إنما يتذكر أولو الالباب)(2) وينبغي للانسان أن يستكثر من ذكر ما يدعو إلى الحق ويصرف عن الباطل. ثم بين انه متى يذكر (فتنفعه الذكرى) أي الفكر فيما أمره الله به من القرآن وغيره من الادلة.
___________________________________
(1) سورة 51 الذاريات آية 55.
(2) سورة 23 الرعد آية 21 وسورة الزمر آية 9
[270]
وقوله (أما من استغنى) معناه أما من كان غنيا أو وجدته موسرا، فالاستغناء الاكتفاء بالامر فيما ينفي الضرر وقد يكتفى الاناء في ملئه بما فيه، فلا يستغني استغناء في الحقيقة.
وقوله (فانت له تصدي) فالتصدى هو التعرض للشئ كتعرض العطشان للماء. وأصله الصدى، وهو العطش. ورجل صديان أي عطشان والصدى الصوت الذي يرده الجبل أو الحمام ونحوهما، قال مجاهد: المراد ب (من استغنى) عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة.
وقال سفيان: نزلت في العباس، فقال الله تعالى (وما عليك ألا يتزكى) أي قل له وما عليك ألا يتزكى، فالتزكي هو التطهر من الذنوب، واصله الزكاء وهو النماء، فلما كان الخير ينمي للانسان بالتطهر من الذنوب كان تزكيا.
ثم قال (وأما من جاءك يسعى وهو يخشى) يعني عبدالله بن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه اله، وهو يخشى معصية الله والكفر، والخشية هي الحذر من مواقعة المعصية خوفا من عقاب الله تعالى (فانت عنه تلهى) أي تعرض عنه فالتلهي عن الشئ هو التروح بالاعراض عنه والتلهي به التروح والاقبال عليه ومنه قولهم إذا استأثر الله بشئ فاله عنه أي اتركه وأعرض عنه.
[271]
قوله تعالى: (كلا إنها تذكرة(11) فمن شاء ذكره(12) في صحف مكرمة(13) مرفوعة مطهرة(14) بأيدي سفرة(15) كرام بررة(16) قتل الانسان ما أكفره(17) من أي شئ خلقه(18) من نطفة خلقه فقدره(19) ثم السبيل يسره(20) ثم أماته فأقبره(21) ثم إذا شاء أنشره(22) كلا لما يقض ماأمره(23))
ثلا ث عشرة آية.
يقول الله تعالى (كلا) أي ليس الامر ينبغي أن يكون على هذا، وقوله (إنها تذكرة) أي كلا إن السورة تذكرة (فمن شاء ذكره) أي التنزيل أو الوعظ.
وقال قوم: الهاء عماد، والمبتدأ محذوف وتقديره إنها هي تذكرة.
والتذكرة حضور الموعظة ففيها أعظم الفائدة وفي الغفلة اكبر الافة.
والفرق بين التذكرة والمعرفة أن التذكرة ضد الغفلة والمعرفة تضاد الجهل والسهو، فكلاهما يتعاقبان على حال الذكر دون السهو، كتعاقب العلم وأضداده على حال الذكر دون السهو، والذكر معظم، لانه طريق إلى العلم بالحق من الباطل والصحيح من الفاسد.
وقيل: إن قوله (كلا) دال على أنه ليس له ان يفعل ذلك في ما يستأنف. فاما الماضي فلم يدل على انه معصية، لانه لم يتقدم النهي عنه.
وقوله (فمن شاء ذكره) دليل على بطلان مذهب المجبرة في أن القدرة مع الفعل، وأن المؤمن لا قدرة له على الكفر، وأن الكافر لا يقدر على الايمان، لانه تعالى: بين أن من شاء ان يذكره ذكره لانه قادر عليه.
وقوله (في صحف مكرمة) أي ما ذكرناه تذكرة في صحف مكرمة أي معظمة مبجلة، ووصفت الصحف بأنها مكرمة تعظيما لما تضمنته على الحكمة.
وقوله (مرفوعة مطهرة) أي مصونة عن ان تنالها أيدي الكفار الانجاس.
وقال الحسن: مطهرة من كل دنس.
وقوله (مرفوعة مطهرة) أي رفعها الله عن دنس الانجاس ونزهها عن ذلك.
وقوله (بأيدي سفرة) قيل السفرة ملائكة موكلون بالاسفار من كتب الله. والسفرة الكتبة لاسفار الحكمة، واحدهم سافر، كقولك كاتب
[272]
وكتبة، وواحد الاسفار سفر. وأصله الكشف من الامر، سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها، فالكاتب يسفر بالكتاب عما في النفس.
وقال ابن عباس: السفرة الكتبة، وفي رواية أخرى عنه إنها الملائكة.
وقال قتادة: هم القراء: وقيل: هم الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله، وسفير القوم الذي يسفر بينهم في الصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم، قال الشاعر:
ولم أدع السفارة بين قومي * وما أمشي بغش إن مشيت(1)
واسفر الصبح إذا أضاء.
وقوله (كرام بررة) من صفة السفرة، وصفهم الله بأنهم كرام، وهو جمع كريم، وهو الذي من شأنه أن يأتي بالخير من جهته مهنا من غير شائب يكدره. وهي صفة مدح ومنه أخذت الكرمة لشرف ثمرتها، والكرم يتعاظم فالنبي أكرم ممن ليس بنبي، والمؤمن اكرم ممن ليس بمؤمن.
و (البررة) جمع بار، تقول بر فلان فلانا يبره فهو بار إذا أحسن اليه ونفعه. والبر فعل النفع اجتلابا للمودة.
والبار فاعل البر، وجمعه بررة مثل كاتب وكتبة.
وأصله اتساع النفع منه ومنه البر سمي به تفاؤلا باتساع النفع به، ومنه البر لاتساع النفع به.
ورجل بر، وامرأة برة والجمع بررة ولا يجمع الا على هذا استغنا به.
وقوله (قتل الانسان ما اكفره) معناه لعن الانسان، قال مجاهد: وهو الكافر.
وقيل: معناه إنه حل محل من يدعى عليه بالقتل في ما له بقبح الفعل، فيخرجه مخرج الدعاء عليه ولا يقال: إن الله دعا عليه بالقتل لقبح اللفظ بذلك لما يوهم من تمني المدعو به.
ومعنى (ما اكفره) أي شئ اكفره؟ ! على وجه التقريع له والتوبيخ.
وقيل معناه النفي، وتقديره ما أجحده لنعم الله مع ظهورها (من أى
___________________________________
(1) الطبرى 30 / 30 والقرطبي 19 / 214
[273]
شئ خلقه) تعجيبا له، لانه يعلم أن الله خلقه من نطفة، ثم بين تعالى مماذا خلقه فقال (من نطفة خلقه فقدره) فالتقدير جعل الشئ على مقدار غيره، فلما كان الانسان قد جعل على مقدار ما تقتضيه الحكمة في أمره من غير زيادة ولا نقصان كان قد قدر أحسن التقدير، ودبر أحسن التدبير (ثم السبيل يسره) أي سهل له سبيل الخير في دينه ودنياه بأن بينه له وأرشده اليه ورغبه فيه، فهو يكفر هذا كله ويجحده ويضيع حق الله عليه في ذلك من الشكر وإخلاص العبادة.
وقال ابن عباس وقتادة والسدي: يسر خروجه من بطن أمه.
وقال مجاهد: سهل له طريق الخير والشر، كقوله (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)(1).
وقال الحسن: سبيل الخير، وقال ابن زيد: سبيل الثواب، وقال الحسن (يسره) معناه بصره طريق الهدى والضلال. وقيل يسر خروجه من بطن أمه، فانه كان رأسه إلى رأس أمه ورجلاه إلى رجليها، فقلبه الله عند الولادة ليسهل خروجه منها.
وقالوا: يسرى ويسراة جمعوه على (فعلة) وأجروه مجرى (فاعل) من الصحيح.
وقوله (ثم اماته فاقبره) فالاماتة أحداث الموت. وفي الناس من قال: الاماتة عرض يضاد الحياة مضادة المعاقبة على الحال الواحدة، وهي حال تعديل البنية الحيوانية، وذلك أن ما لا يصح أن تحله حياة لا يصح أن يحله موت.
وقال قوم: الموت عبارة عن نقض البنية الحيوانية أو فعل ما ينافي ما تحتاج اليه الحياة من الرطوبات والمعاني.
وقوله (فاقبره) الاقبار جعل القبر لدفن الميت فيه، يقال: أقبره إقبارا، والقبر الحفر المهيأ للمدفن فيه، ويقال: أقبرني فلانا أي جعلني اقبره فالمقبر هو الله تعالى يأمر عباده أن يقبروا الناس إذا ماتوا، والقابر الدافن للميت
___________________________________
(1) سورة 76 الانسان آية 3
[274]
بيده قال الاعشى:
لو اسندت ميتا إلى نحرها * عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر(1)
وقوله (ثم إذا شاء انشره) فالانشار الاحياء للتصرف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطي انشر الله الموتى فنشروا كقولهم احياهم فحيوا، والمشيئة هي الارادة والمعنى إذا شاء الله تعالى أن يحيي الميت احياه - وهو قول الحسن - للجزاء بالثواب والعقاب.
وقوله (كلا لما يقض ما أمره) معناه كلا لما لم يقض ما عليه مما أمره الله به، لانه قد أمره بأشياء واجبة فلم يفعلها: من إخلاص عبادته وشكره بحسب مقتضى نعمه.
وقال مجاهد: لا يقضي أحد أبدا كل ما افترض الله عليه.
قوله تعالى: (فلينظر الانسان إلى طعامه(24) أنا صببنا الماء صبا(25) ثم شققنا الارض شقّا(26) فأنبتنا فيها حبّا(27) وعنبا وقضبا(28) وزيتونا ونخلا(29) وحدائق غلبا(30) وفاكهة وأبا(31) متاعا لكم ولانعامكم(32))
تسع آيات.
قرأ اهل الكوفة (أنا صببنا) بفتح الالف على البدل من) طعامه) أو على انه خبر مبتدإ محذوف. الباقون بالكسر على الاستئناف.
يقول الله تعالى لخلقه منبها لهم على قدرته على احياء الخلق بعد موتهم ونشرهم
___________________________________
(1) قد مر في 4 / 460 و 7 / 496 وهو في ديوانه 93
[275]
ومجازاتهم بأن أمره ان ينظر إلى طعامه الذي يأكله ويتقوته، ويفكر كيف يخلقه الله ويوصله اليه ويمكنه من الانتفاع به. وبين كيفية ذلك فقال (إنا صببنا الماء صبا) أي انزلنا الغيث إنزالا (ثم شققنا الارض شقا) فالشق قطع الشئ طولا ومثله الصدع والفرج والفطر، ومن ذلك شق الارض وشق الخشبة وشق الشعرة فأما قطع الليطة، وقطع الشجر، فعلى خلاف ذلك، فبين تعالى أنه يشق الارض ويخرج منها ما أنبته من أنواع النبات.
ومن فتح (أنا) على البدل، فعلى انه بدل اشتمال، ويكون موضعه جرا فتقديره فلينظر إلى أنا صببنا.
وقال آخرون: موضعه نصب، لان الاصل ب (أنا) و (لانا) فلما أسقط الخافض نصب على المعنى، فتقديره فلينظر الانسان إلى حدوث طعامه او نبات طعامه، لانه موضع الاعتبار.
وقال المبرد: تقديره فلينظر الانسان إلى طعامه، لانا صببنا فأخرجنا أي لهذه العلة كان طعامه، لان قوله (إنا صببنا) ليس من الطعام في شئ، وقال ابوعلي: وهو بدل الاشتمال، لان ما ذكره يشتمل على الطعام فهو بمنزلة قوله (قتل اصحاب الاخدود النار)(1).
وقوله (فانبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا...) فالانبات إخراج النامي حالا بعد حال، يقال أنبته الله انباتا فنبت نباتا، ففاعل النبات والانبات واحد إلا أن الانبات يؤخذ منه صفة المنبت، والنبات يؤخذ منه النابت. وليس النبات فاعلا لكنه الصائر على تلك الصفة بتصيير غيره، غير انه لما أسند الفعل اليه اشتق له منه اسم الفاعل. والحب جمع الحبة مثل الشعير والحنطة والسمسم والدخن والارز وغير ذلك، وكذلك يسمى حب اللؤلؤ تشبيها بذلك في تدويره.
والقضب الرطبة - في قول الضحاك، والفراء - وأهل مكة يسمون القث قضبا. وأصله فيما يقطع رطبا من
___________________________________
(1) سورة 85 البروج آية 4 - 5
[276]
قولهم: قضبته وأقضبته قضبا إذا قطعته رطبا، ومنه القضيب والمقتضب.
والزيتون معروف. وإنما ذكره الله تعالى لعظم النفع به والدهن الذي يكون منه (ونخلا) أي وانبتنا من الارض نخلا وهو شجر الرطب والتمر (وحدائق غلبا) فالحديقة البستان المحوط وجمعه حدائق، ومنه أحدق به القوم إذا أحاطوا به، ومنه الحدقة لمااحاط بها من جفنها.
والغلب جمع أغلب وغلبا، وهي الغلاظ بعظم الاشجار، وشجرة غلباء إذا كانت غليظة قال الفرزدق:
عوى فاثار اغلب ضيغميا * فويل ابن المراغة ما استثارا(1)
وقوله (وفاكهة وأبا) يعني ثمر الاشجار التي فيها النفع والالذاذ، يقال تفكه بكذا إذا استعمله للاستمتاع به والفاكهة تكون رطبة ويابسة. والاب المرعى من الحشيش وسائر النبات الذي ترعاه الانعام والدواب، ويقال أبا إلي سيفه فاستله كقولك هب اليه وبدر اليه، فيكون كبدور المرعى بالخروج قال الشاعر:
جدنا قيس ونجد دارنا * ولنا الاب بها والمكرع(2)
وقوله (متاعا لكم ولانعامكم) فالمتاع كل شئ فيه الذاذ الامساس من مأكل او منظر أومشمم أو ملمس، وأصله المصدر من قولهم: امتعته امتاعا ومتاعا ومتع النهار إذا ارتفع، لان ارتفاعه يستمتع به. فبين تعالى انه خلق ما خلق وانبت ما انبت من الارض لامتاع الخلق به من المكلفين وأنعامهم التي ينتفعون بها. والانعام الماشية بنعمة المشي من الابل والبقر والغنم بخلاف الحافر بشدة وطئه بحافره من الخيل والبغال والحمير.
___________________________________
(1) ديوانه 2 / 443.
(2) القرطبي 19 / 220
[277]
قوله تعالى: (فاذا جاءت الصاخة(33) يوم يفر المرء من أخيه(34) وأمه وأبيه(35) وصاحبته وبنيه(36) لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه(37) وجوه يومئذ مسفرة(38) ضاحكة مستبشرة(39) ووجوه يومئذ عليها غبرة(40) ترهقها قترة(41) أولئك هم الكفرة الفجرة(42))
عشر آيات.
قوله (فاذا جاءت الصاخة) قال ابن عباس: هي القيامة.
وقيل: هي النفخة الثانية التي يحيا عندها الناس.
وقال الحسن: الصاخة هي التي يصيخ لها الخلق، وهي النفخة الثانية.
والصاخة هي الصاكة بشدة صوتها الاذان فتصمها، صخ يصخ صيخا، فهو صاخ.
وقد قلبها المضاعف باكراهه التضعيف، فقال: أصاخ يصيخ اصاخة قال الشاعر:
يصيخ للنبأة أسماعه * إصاخة الناشد للمنشد(1)
ومثله تظنيت، والاصل تظننت.
ثم بين شدة أهوال ذلك اليوم فقال (يوم يفر المرء من أخيه و) من (أمه وابيه و) من (صاحبته) التي هي زوجته في الدنيا (وبنيه) يعني أولاده الذكور نفر من هؤلاء حذرا، من مظلمة تكون عليه.
وقيل: لئلا يرى ما ينزل به من الهوان والذل والعقاب.
وقيل: نفر منه ضجرا به لعظم ما هو فيه.
وقيل: لانه لا يمكنه ان ينفعه بشئ ولا ينتفع منه بشئ وقوله (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) فالمراد به الذكر من الناس وتأنيثه امرأة، فالمعنى إن كل انسان مكلف مشغول بنفسه لا يلتفت إلى غيره، من صعوبة الامر وشدة أهواله.
والشأن الامر العظيم، يقال: لفلان شأن من
___________________________________
(1) القرطبي 19 / 222
[278]
الشأن أي له أمر عظيم، وأصله الواحد من شؤن الرأس، وهو موضع الوصل من متقابلاته التي بها قوام أمره.
ومعنى (يغنيه) أي يكفيه من زيادة عليه أي ليس فيه فضل لغيره لما هو فيه من الامر الذي قد اكتنفه وملا صدره، فصار كالغني عن الشئ في أمر نفسه لا تنازع اليه.
ثم قسم تعالى احوال العصاة والمؤمنين، فقال (وجوه يومئذ مسفرة) أي مكشوفة مضيئة، فالاسفار الكشف عن ضياء من قولهم: أسفر الصبح إذا أضاء، وسفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها، ومنه السفر، لانه يكشف عن أمور تظهر به، قال توبة الحميري.
وكنت إذا فاجأت ليلى تبرقعت * فقد رابني منها الغداة سفورها(1)
أي كشفها قناعها.
وقوله (ضاحكة مستبشرة) أي من فرحها بما اعددنا لها من الثواب تكون ضاحكة مسرورة. والضحك الاستبشار وإن إضيف إلى الوجه، فالمراد به أصحاب الوجوه، فأما الاسفار والاشراف فيجوز ان يكون للوجوه خاصة بما جعل الله فيها من النور، لتفرق الملائكة بين المؤمنين والكفار.
ثم قال (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) أي يكون على تلك الوجوه غبار وجمعه غبرة (ترهقها) أي تغشاها (قترة) وهي ظلمة الدخان، ومنه قترة الصائد موضعه الذي يدخن فيه للتدفي به. ثم اخبر أن من كان على وجهه الغبرة التي تغشاها القترة (هم الكفرة) جمع كافر (الفجرة) جمع فاجر، كما أن كاتبا يجمع كتبة، وساحرا يجمع سحرة. وليس في ذلك ما يدل على مذهب الخوارج من ان من ليس بمؤمن لابد أن يكون كافرا من حيث أن الله قسم الوجوه هذين القسمين. وذلك انه تعالى ذكر قسمين من
___________________________________
(1) الطبري 30 / 34
[279]
الوجوه متقابلين، وجوه المؤمنين ووجوه الكفار، ولم يذكر وجوه الفساق من أهل الملة. ويجوز ان يكون ثم صفة اخرى بخلاف ما لهذين، بان يكون عليها غبرة لا يغشاها قترة او يكون عليها صفرة، ولو دل ذلك على ما قالوه لوجب أن يدل قوله (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)(1) على أن كل من لا يبيض وجهه من المؤمنين يجب ان يكون مرتدا، لانه تعالى قال لهم (اكفرتم بعد إيمانكم)(2) والخوارج لا تقول ذلك، لان من المعلوم ان - ههنا - كفارا في الاصل ليسوا مرتدين عن الايمان.
|