00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الزمر من آية 56 ـ آخر السورة من ( ص127 ـ 171 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[127]

الآيات

أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنْبِ اللهِ وَإِن كُنْتُ لَمِنَ السَّـخِرِينَ( 56 ) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ( 57 ) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ( 58 ) بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكَـفِرِينَ( 59 )

 

التّفسير

الندم لا ينفع في ذلك اليوم:

الآيات السابقة أكّدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة، وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرق لذلك الموضوع، ففي البداية تقول: (أن تقول نفس يا حسرتا على مافرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين)(1).

«يا حسرتا»: هي في الأصل (يا حسرتي)، (حسرة أضيفت إليها ياء

____________________________________

1 ـ في بداية الآية عبارة تتعلق بالآيات السابقة، ويكون التقدير (لئلا تقول نفس) أو (حذراً أن تقول نفس) وفي الحالة الثانية تكون مفعولا له لعبارة (أنيبوا واسلموا واتبعوا) . (إن) في عبارة (وإن كنت لمن الساخرين) مخففة من الثقيلة إذ أنّها كانت في الأصل، (إنّي كنت من الساخرين) .

[128]

المتكلم)، والتحسر معناه الحزن ممّا فات وقته لا نحساره ممّا لا يمكن استدراكه.

ويرى الراغب في مفرداته (يا حسرتا) من مادة (حسر) على وزن (حبس) وتعني التعري والتجرد من الملابس، وبما أن الندم والحزن على ما مضى بمنزلة زوال حجب الجهل، فلا اطلاق على هذه الموارد.

نعم، فعندما يرد الانسان إلى ساحة المحشر، ويرى بأُمّ عينيه نتائج إفراطه وإسرافه ومخالفته واتخاذه الأمور الجدية هزواً ولعباً، يصرخ فجأة (واحسرتاه) إذ يمتلىء قلبه في تلك اللحظات بغمّ كبير مصحوب بندم عميق، وهذه الحالة النفسية التي وردت في الآيات المذكورة.

أما فيما يخصّ معنى (جنب الله) هنا؟ فإنّ المفسّرين ذكروا تفاسير ومعاني كثيرة لها. وكلمة (جنب) تعني في اللغة «الخاصرة»، كما تطلق على كلّ شيء يستقر إلى جانب شيء آخر، مثلما أن اليمين واليسار يعنيان الطرف الأيمن والأيسر للجسم، ثمّ يقال لكل شيء في يسار أو يمين الجسم، وهنا (جنب الله)تعني أن الأُمور ترجع إلى جانب الله، فأوامره وإطاعته والتقرب إليه، والكتب السماوية كلها نزلت من جانبه، وكلها مجموعة في هذا المعنى.

وبهذا الترتيب فإنّ المذنبين يكشفون في ذلك اليوم عن ندامتهم وحسرتهم وأسفهم على تقصيرهم وتفريطهم تجاه الله سبحانه وتعالى، خاصة فيما يتعلق بسخريتهم واستهزائهم بآيات الله ورسله، لأنّ السبب الرئيسي لتفريطهم هو العبث والسخرية من هذه الحقائق الكبيرة بدافع الجهل والغرور والتعصب.

ثمّ تضيف الآية (أو تقول لو أنّ الله هداني لكنت من المتقين).

يبدو أنّ هذا الكلام يقوله الكافر عندما يوقف أمام ميزان الحساب، حيث يرى البعض يقادون إلى الجنّة وهم محملون بأعمالهم الحسنة، وهنا يتمنى الكافر لو أنّه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنّة الخلد.

وتضيف الآية مرّة اُخرى (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من

[129]

المحسنين).

وهذا ما يقوله الكافر ـ أيضاًـ حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنّار نحو جهنم، وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها، وهنا يتأوه من أعماق قلبه ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرّة اُخرى إلى الحياة الدنيا ليطهر نفسه من الأعمال السيئة والقبيحة بأعمال صالحة تهيئه وتعده للوقوف في صفوف المحسنين والصالحين.

والملاحظ أنّ كلّ عبارة من هذه العبارات الثلاث يقولها المجرمون عند مشاهدة مشهد معين من عذاب يوم القيامة الرهيب.

حيث أنّهم يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله فور دخولهم ساحة المحشر.

ويتمنون لو أنّهم فازوا بما فاز به المتقين، عندما يرون الثواب الجزيل الذي أغدقه الباريء عزّوجلّ على عباده المتقين.

ويتوسلون إلى الباريء عزّوجلّ ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ليصلحوا ماضيهم الفاسد، عندما يرون العذاب الإلهي الأليم.

القرآن المجيد يردّ على القول الثّاني من بين الأقوال الثلاثة إذ يقول: (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين)(1).

إنّ قولك: لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين، فما هي الهداية الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل الله، وآياته وعلاماته الصادقة في الآفاق والأنفس؟! إنّك سمعت بأذنيك وشاهدت بعينيك كلّ هذه الآيات، فما كان ردّ فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبر والكفر!

____________________________________

1 ـ رغم أنّ المتحدّث هي النفس وهي مؤنث، وأنّ القرآن أورد أوصافها وأفعالها بصيغة المؤنث في آياته،ولكن في هذه الآية ورد ضمير (كذبت) وما بعدها بصيغة المذكر، وذلك لأنّ المقصود هنا هو الإنسان، وقد قال البعض: إنّ (النفس) يمكن أن تأتي بصيغتي المذكر والمؤنث.

[130]

فهل يمكن أن يعاقب الباريء عزّوجلّ أحداً من دون أن يتمّ حجّته عليه؟ وهل كان هناك فرق بينك وبين الذين اهتدوا إلى طريق الحق من حيث المناهج التربوية الإلهية التي أُعدّت لكم ولهم؟ لهذا فأنت المقصر الرئيسي، وأنت بنفسك جلبت اللعنة إليك!

فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي، ومن بعد يأتي التكذيب بآيات الله، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان.

ولكن لماذا لم يجيب القرآن على القول الأول؟

الجواب: لأنّ هناك حقيقة لا مناص منها، وهي أنّهم يجب أن يتحسروا ويغرقوا في الغم والهم.

وأما بشأن قولهم الثّالث الذي يتوسلون فيه إلى الباريء عزّوجلّ كي يسمح لهم بالعودة إلى الحياة الدنيا، فإنّ القرآن الكريم يجيبهم في عدّة آيات منها الآية (28) من سوة الأنعام: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون) والآية (100) من سورة المؤمنون، ولا حاجة لتكرار تلك الأجوية.

والملاحظ هنا أنّ الرد على قولهم الثّاني، يمكن أن يكون في الوقت نفسه إجابة على السؤال الثّالث أيضاً، لأنّهم ماذا يهدفون من عودتهم إلى الحياة الدنيا؟ هل أنّه أمر آخر غير إتمام الحجة، في حين أنّ الباريء عزّوجلّ أتمّ الحجة عليهم بصورة كاملة لا نقص فيها، فانتباه المجرمين من غفلتهم فور مشاهدتهم للعذاب، إنّما هو نوع من اليقظة الإضطرارية التي لا يبقى لها أي أثر عندمايعودون إلى حالتهم الطبيعية. حقاً إنّه نفس الموضوع الذي يشير إليه القرآن الكريم بشأن الكافرين والمشركين الذين يدعون الله مخلصين له الدين عندما يبتلون بخطر ما في وسط البحر المتلاطم الأمواج، ثمّ ينسون الله بمجرّد أن ينجيهم ويوصلهم بسلام إلى ساحل النجاة (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فما نجاهم

[131]

إلى البر إذاهم يشركون)(1).

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ التفريط في جنب الله

قلنا: إنّ (جنب الله) التي وردت في آيات بحثنا لها معان واسعة، تشمل كلّ ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى، وبهذا الشكل فإنّ التفريط في جنب الله يشمل كلّ أنواع التفريط في طاعة أوامر الله، واتباع ما جاء في الكتب السماوية، والتأسي بالأنبياء والأولياء.

ولهذا السبب ورد في العديد من روايات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الأئمّة الأطهار هم المقصودون بـ (جنب الله)، ومن تلك الروايات ما ورد في أصول الكافي نقلا عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) إذ قال في تفسير: (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله): «جنب الله أمير المؤمنين وكذلك من كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم»(2).

كما نقرأ في تفسير علىّ بن إبراهيم نقلا عن الإمام الصادق(عليه السلام): «نحن جنب الله»(3).

والمعنى ذاته ورد في روايات اُخرى لأئمّة أهل البيت الأطهار(عليهم السلام).

وكما قلنا مراراً فإنّ هذه التفاسير إنّما هي من قبيل بيان المصاديق الواضحة، لأنّ من المسلّم أنّ اتباع نهج الأئمّة إنّما هو اتباع للرسول وطاعة لله، إذ أنّ الأئمة عليهم السلام لا ينطقون بشيء من عندهم.

____________________________________

1 ـ سورة العنكبوت، الآية 65.

2 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، الصحفحة 495.

3 ـ تفسير نور الثقلين المجلد الرابع الصفحة 495.

[132]

وفي حديث آخر تمّ تعريف العلماء غير العالمين بأنّهم مصداق واضح للمتحسرين، حيث ورد في كتاب (المحاسن) حديث للإمام الباقر(عليه السلام)، جاء فيه: «إن أشد الناس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا بالعدل ثمّ خالفوه، وهو قول الله عزّوجلّ أن تقول نفس يا حسرتا على مافرطت في جنب الله»(1).

 

2 ـ على أعتاب الموت أو القيامة؟

هل أنّ تلك الأقوال الثلاثة قالها المجرمون عندما شاهدوا العذاب الإلهي في الدنيا وهو عذاب الاستئصال والهلاك في نهاية أعمارهم؟ أم عن زمان دخولهم ساحة القيامة؟

المعنى الثّاني أنسب، لأنّ الآيات السابقة تتحدث عن عذاب الاستئصال والآية التالية تتحدث عن يوم القيامة، والشاهد على هذا القول هو الآية (31) من سورة الأنعام التي تقول: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها).

والروايات المذكورة أعلاه خير شاهد على هذا المعنى.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ المصدر السابق، ص 496.

[133]

الآيات

وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوىً لِّلْمُتَكَبِّرِينَ( 60 ) وَ يُنَجِّى اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( 61 ) اللهُ خَـلِقُ كُلِّ شَىْء وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء وَكِيلٌ( 62 ) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَـتِ اللهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُون( 63 ) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَـهِلُونَ( 64 )

 

التّفسير

الله خالق كلّ شيء وحافظه:

الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذابين والمستكبرين الذين يندمون يوم القيامة على ما قدمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا، ولكن هيهات أن يستجاب لهم طلبهم، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر، إذ تقول: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة).

ثم تضيف (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين).

لا شكّ أن عبارة (كذبوا على الله) لها مفاهيم ومعان واسعة وعميقة، لكن

[134]

الآية ـ هناـ تستهدف أُولئك الذين قالوا بوجود شريك لله، أو باتخاذ الله ولداً من الملائكة أو الذين يزعمون أنّ المسيح(عليه السلام) هو ابن الله، وأمثال هذه المزاعم والإدعاءات.

و كلمة «مستكبر» تطلق دائماً على أُولئك الذين يرون أنفسهم ذات شأن وقدر كبير، ولكن المراد منها ـ هناـ أُولئك الذين يستكبرون على الأنبياء، والذين يتركون اتباع الشريعة الحقة، ويرفضون قبولها واتباعها.

اسوداد وجوه الكاذبين يوم القيامة دليل على ذلتهم وهوانهم وافتضاحهم، وكما هو معروف فإن ساحة القيامة هي ساحة ظهور الأسرار والخفايا وتجسيد أعمال وأفكار الإنسان، فالذين كانت قلوبهم سوداء ومظلمة في الدنيا، وأعمالهم وأفكارهم سوداء ومظلمة أيضاً، يخرج هذا السواد والظلام من أعماقهم إلى خارجهم في يوم القيامة ليطفح على وجوههم التي تكون في ذلك اليوم مسودّة ومظلمة.

وبعبارة اُخرى فإنّ ظاهر الإنسان يطابق باطنه يوم القيامة، ولون الوجه يكون بلون القلب، فالذي قلبه أسود ومظلم، يكون وجهه مظلماً وأسود، والذي قلبه ساطع بالنور يكون وجهه كذلك ساطعاً بالنور.

وهو ما ورد في الآيتين (106) و (107) من سورة آل عمران (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأمّا الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين إبيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).

والملفت للنظر أنّه قد ورد في بعض الروايات أهل البيت عليهم السلام، أن الكذب على الله، الذي هو أحد أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة، له معان واسعة تشمل حتى الادعاء بالإمامة والقيادة كذباً، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق في كتاب (الاعتقادات) نقلا عن الإمام الصادق(عليه السلام) عندما أجاب الإمام على سؤال

[135]

يتعلق بتفسير هذه الآية، وقال: «من زعم أنّه إمام وليس بإمام، قيل: و إن كان علوياً فاطمياً؟ قال: و إن كان علوياً فاطمياً»(1).

وهذا في الحقيقة بيان لمصداق بارز، لأنّ الإدعاء المزيف بالإمامة والقيادة الإلهية هو أوضح مصاديق الكذب على الله.

وكذلك فإنّ من نسب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أو إلى الإمام المعصوم حديثاً مختلقاً، اعتبر كاذباً على الله، لأنّهم لا ينطقون عن الهوى.

لهذا فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): «من تحدث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوماً فإن صدق علينا فإنّما يصدق على الله وعلى رسوله، وإن كذب علينا فإنّه يكذب على الله ورسوله، لأنّا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال فلان، إنّما نقول قال الله وقال رسوله ثمّ تلا هذه الآية (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة...)(2).

الحديث المذكور يبيّن بصورة واضحة أنّ أئمة أهل البيت الأطهار، لم يقولوا شيئاً من عندهم، وإن كلّ الأحاديث التي وردت عنهم صحيحة وموثوقة، لأنّها تعود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الحقيقة مهمّة جداً، وعلى علماء الإسلام أن يلتفتوا إليها، فالذين لا يقبلون بإمامة أهل البيت عليهم السلام، عليهم أن يقبلوا بأن الأحاديث التي يرويها أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، إنّما هي منقولة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وبهذا الشأن ورد في كتاب الكافي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام):

«حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزّوجلّ»(3).

____________________________________

1 ـ الإعتقادات الإمامية، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 496، ونفس المعنى نقل عن تفسير علي بن إبراهيم وكتاب الكافي (يراجع المجلد الأوّل من كتاب الكافي (باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل) الحديث الأوّل والثّالث).

2 ـ مجمع البيان ذيل آية البحث.

3 ـ أصول الكافي، المجلد 1، صفحة 51 (باب رواية الكتب والأحاديث) الحديث 14.

[136]

هذا الكلام يدعو إلى الإمعان والتأمل أكثر في آيات القرآن المجيد، لأن التكبر هو المصدر الرئيسي للكفر، كما نقرأ ذلك بشأن الشيطان (أبى واستكبر وكان من الكافرين)(1). و لهذا السبب فلا يمكن أن يكون للمستكبرين مكان آخر غير جهنم ليحترقوا بنارها، وقد ورد في حديث لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):

«إنّ في جهنم لواد للمتكبرين يقال له سقر، شكى إلى الله عزّوجلّ شدة حرّه، وسأله أن يتنفس فأذن له فتنفس فاحرق جهنم»(2).

الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة، حيث تتحدث عن المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة، إذ تقول: (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم)(3).

ثم توضح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني،(لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون).

نعم، إنّهم يعيشون في عالم لا يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور، وهذه العبارة القصيرة جمعت ـ حقّاً ـ كلّ الهبات الإلهية فيها.

الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة التوحيد والجهاد ضدّ الشرك، وتواصل مجادلة المشركين، حيث تقول: (الله خالق كلّ شيء وهو على كل شيء وكيل).

العبارة الأولى في هذه الآية تشير إلى (توحد الله في الخلق) والثانية تشير إلى (توحده في الربوبية).

فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون، كما ورد

____________________________________

1 ـ البقرة، 34.

2 ـ تفسير علي بن إبراهيم، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 496، كما ورد نفس المعنى في تفسير الصافي في ذيل آيات البحث.

3 ـ «مفازة»: مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر، و(الباء) في (بمفازتهم) للملابسة أو السببة، و بالنسبة إلى الحالة الأولى يكون المعنى إن الله يعطيهم النجاة المقترنة بالاخلاص والفلاح، أمّا بالنسبة إلى الحالة الثانية فالمعنى يكون (إن الله أنقذهم ونجاهم بسبب إخلاصهم) كناية عن الأعمال الصالحة والإيمان ـ .

[137]

في الآية (38) من السورة هذه (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله).

ولكنّهم ابتلوا بالإنحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية)، ففي بعض الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبر أمرهم، وكانوا يلجؤون إليها عندما يواجهون أي مشكلة. والقرآن المجيد ـ من خلال الآية المذكورة أعلاه ـ يشير إلى حقيقة أنّ تدبير أُمور الكون وحفظه هي بيد خالقه، وليس بيد أحد آخر، ولهذا يجب اللجوء إليه دائماً.

وقد ذكر «ابن منظور» في كتاب (لسان العرب) معاني متعددة لكلمة (وكيل) منها: الكفيل، والحافظ، والمدبر للأمر.

ومن هنا يتضح أنّ الأصنام ليست مصدر خير أو شر، وأنّها عاجزة عن حل أبسط عقدة، حيث أنّها موجودات ضعيفة وعاجزة، ولا يمكن أن تقدم أدنى فائدة للإنسان.

وقد عمد بعض المؤيدين للمذهب الجبري إلى الاستدلال على بعض الأمور من عبارة (الله خالق كلّ شيء) لتأكيد ما جاء في معتقداتهم المنحرفة، إذ قالوا: إنّ هذه الآية تشمل الأعمال أيضاً، ولهذا فإنّ أعمالنا تعد من خلق الله، رغم أنّ أعضاءنا هي التي تقوم بها.

إنّ خطأ أُولئك هو أنّهم لم يدركوا هذه الحقيقة جيداً، وهي أنّ خالقية الله سبحانه وتعالى لا يوجد فيها أي تعارض مع حرية الإرادة والإختيار لدينا، لأنّ التناسب فيما بينهما طولي وليس عرضي.

فأعمالنا تتعلق بالله، وتتعلق بنا أيضاً، لأنّه لا يوجد هناك شيء في هذا الكون يمكن أن يكون خارج إطار سلطة الباريء عزّوجلّ، وعلى هذا الأساس فإن أعمالنا هي من خلقه، وإنه أعطانا القدرة والعقل والإختيار والإرادة وحرية العمل، ومن هذه الناحية يمكن أن ننسب أعمالنا إليه، حيث أنّه أراد أن نكون

[138]

أحراراً وننفذ الأعمال بأختيارنا، كما أنّه وضع كلّ ما نحتاجه تحت تصرفنا.

لكننا في الحال ذاته أحرار مخيرون في تنفيذ الأعمال، وعلى ذلك فإنّ أفعالنا منسوبة إلينا ونحن المسؤولون عنها.

فإذا قال أحد: إنّ الإنسان يخلق أعماله، ولا دخل لله عزّوجلّ فيها، فإنّه قد أشرك لأنّه في هذه الحالة يعتقد بوجود خالقين، خالق كبير وخالق صغير، وإذا قال آخر: إنّ أعمالنا هي من خلق الله ولا دخل لنا فيها، فقد انحرف، لأنّه أنكر بقوله هذا حكمة وعدالة الله، إذ لا يصح أن يجبرنا في الأعمال، ثمّ يحمّلنا مسؤوليتها! لأنّ في هذه الحالة، يصبح الجزاء والثواب والحساب والمعاد والتكليف والمسؤولية كلّها عبثاً.

لذا فإن الاعتقاد الإسلامي الصحيح والذي يمكن أن يستشف من مجموع آيات القرآن المجيد، هو أن كلّ أعمالنا منسوبة لله وإلينا، وهذه النسبة لا يوجد فيها أي تعارض، لأنّها طولية وليست عرضية.

أمّا الآية التالية فقد تطرقت (توحيد الله في المالكية) لتكمل بحث التوحيد الذي ورد في الآيات السابقة، إذ تقول: (له مقاليد السماوات و الأرض).

«مقاليد»: كما يقول أغلب اللغوين، جمع (مقليد) (مع أن الزمخشري يقول في الكشاف: إن هذه الكلمة ليس لها مفرد من لفظها) و (مقليد) و (إقليد) كلاهما تعني المفتاح، وعلى حدّ قول صاحب كتاب (لسان العرب) وآخرين غيره فإن كلمة (مقليد) مأخوذة من (كليد) الفارسية الأصل، ومن العربية تستعمل بنفس المعنى، ولذا فإن (مقاليد السماوات والأرض) تعني مفاتيح السماوات والأرض.

هذه العبارة تستخدم ككناية عن امتلاك شيء ما أو التسلط عليه كأنّ يقول أحد: مفتاح هذا العمل بيد فلان. لذا فإنّ الآية المذكورة أعلاه يمكن أن تشير إلى (وحدانية الله في الملك) وفي نفس الوقت تشير إلى وحدانيته في التدبير والربوبية والحاكمية على هذا العالم الكوني.

[139]

ولهذا السبب أوردت الآية المذكورة بمثابة استنتاج (والذين كفروا بآيات الله أُولئك هم الخاسرون).

لأنّهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات وتاهوا في صحاري الضلال عندما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح السماوات والأرض، وتوجهوا نحو موجودات عاجزة تماماً عن تقديم أدنى عمل لهم.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه طلب من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)توضيح معنى كلمة (مقاليد) فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا علي، لقد سئلت عن عظيم المقاليد، هو أن تقول عشراً إذا أصبحت، وعشراً اذا أمسيت، لا إله الاّ الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله (هو) الأوّل والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد (يحيي و يميت) بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير»(1).

ثم أضاف: «من قالها عشراً إذا أصبح، وعشراً إذا أمسى، أعطاه الله خصالا ستاً... أوّلها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان».

أمّا من ردد هذه الكلمات بصورة سطحية فإنّه ـ حتماًـ لا يستحق كل، هذه المكافآت، فيجب الإيمان بمحتواها والتخلق بها.

هذا الحديث يمكن أن يشير إلى أسماء الله الحسنى التي هي أصل الحاكمية والمالكية لهذا العالم الكوني.

من مجموع كلّ الأُمور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد، يمكن الحصول على نتيجة جيدة، وهي أنّ التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن نكرانها وعلى كلّ إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام، ولهذا فإن

____________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5719، وتفسير أبو الفتوح الرازي، المجلد 9، الصفحة 417 ذيل آيات البحث (مع اختصار ذيل الحديث).

[140]

البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة (قل أفغير الله تأمرونّي أعبد أيّها الجاهلون).

هذه الآية ـ وبالنظر الى أنّ المشركين والكفرة كانوا أحياناً يدعون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى احترام آلهتهم وعبادتها، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو النهي عن عبادتها، ـ أعلنت وبمنتهى الصراحة أنّ مسألة توحيد الله وعدم الإشراك به هي مسألة لا تقبل المساومة والإستسلام أبداً، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك وتمحى من على وجه الأرض.

فالآية تعني أنّ عبدة الأصنام على العموم هم أناس جهلة، لأنّهم لا يجهلون فقط الباريء عزّوجلّ، بل يجهلون حتى مرتبة الإنسان الرفيعة.

إنّ التعبير بـ «تأمروني»، الذي ورد ـ في الآية الآنفة ـ يشير إلى أنّ الجهلة كانوا يأمرون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعبد أصنامهم بدون أيّ دليل منطقي، وهذا الموقف ليس بعجيب من أفراد جهلة.

أليس من الجهل والغباء أن يترك الإنسان عبادة الباريء عزّوجلّ رغم مشاهدته للكثير من الأدلّة في هذا العالم والتي تدلّ على علمه وقدرته وتدبيره وحكمته، ثمّ يتمسّك بعبادة موجودات تافهة لا قيمة لها وعاجزة عن تقديم أدنى مساعدة وعون لعبدتها.

* * *

 

[141]

الآيات

وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـسِرِينَ( 65 ) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِّنَ الشَّـكِرِينَ( 66 ) وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَالسَّـمَوتُ مَطْوِيَّـتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( 67 )

 

التّفسير

الشرك محبط للاعمال:

آيات بحثنا تواصل التطرق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت قد استعرضت في الآيات السابقة أيضاً.

الآية الأولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك، وتقول:

(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين).

وبهذا الترتيب، فإنّ للشرك نتيجتين خطيرتين، تشملان حتى أنبياء الله في مالو أصبحوا مشركين ـ على فرض المحال ـ

[142]

النتيجة الأولى: إحباط الأعمال، والثانية: الخسران والضياع.

وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة، وذلك بعد كفره وشركه بالله، لأنّ شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد، ولا يقبل أي عمل بدون هذا الاعتقاد.

فالشرك هو النّار التي تحرق شجرة أعمال الإنسان.

والشرك هو الصاعقة التي تهلك كلّ ما جمعه الإنسان خلال فترة حياته.

والشرك هو عاصفة هوجاء تدمر كلّ أعمال الإنسان وتأخذها معها، كما ورد في الآية (18) من سورة إبراهيم (مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد إشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون ممّا كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد).

لذا ورد في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله تعالى يحاسب كلّ خلق إلاّ من أشرك بالله فإنّه لا يحاسب و يؤمر به إلى النّار»(1).

وأمّا خسارتهم فإنّها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها، ألا وهي العقل والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها.

وهنا يطرح هذا السؤال: هل من الممكن أن يسير الأنبياء العظام في طريق الشرك حتى تخاطبهم الآية الآنفة بهذه اللهجة؟

الجواب على هذا السؤال واضح، وهو أنّ الأنبياء لم يشركوا قطّ، مع أنّهم يمتلكون القدرة والإختيار الكاملين في هذا الأمر، ومعصوميتهم لا تعني سلب القدرة والإختيار منهم، إلاّ أنّ علمهم الغزير وإرتباطهم المباشر والمستمر مع الباريء عزّوجلّ يمنعهم حتى من التفكير ولو للحظة واحدة بالشرك، فهل يمكن أن ينتاول السمّ طبيب عالم وحاذق ومطلع بصورة جيدة على تأثير تلك المادة السامة والخطرة، وهو في حالة طبيعية؟!

الهدف هو إطلاع الجميع على خطر الشرك، فعندما يخاطب الباريء عزّوجلّ

____________________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد 49، الصفحة 497.

[143]

أنبياء العظام بهذه اللهجة الشديدة، فعلى الأمة أن تحسب حسابها، هذا الأسلوب من قبيل ما نصّ عليه المثل المعروف (إيّاك أعني واسمعي يا جارة).

ونفس المعنى ورد في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أثناء إجابته على سؤال وجهه إليه المأمون، إذ قال: يابن رسول الله أليس من قولك أن الإنبياء معصومون؟ قال (عليه السلام): «بلى» قال: فما معنى قول الله إلى أن قال: فأخبرني عن قول الله: (عفى الله عنك لم أذنت لهم).

قال الرضا(عليه السلام): «هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله بذلك نبيّه وأراد به أمته» وكذلك قوله: (لئن اشركت ليحبطن عملك ... ) وقوله تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا) قال: صدقت يابن رسول الله(1).

الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)(2).

تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر، وذلك يعني أن ذات الله المنزهة يجب أن تكون معبودك الوحيد، ثمّ تأمر الآية بالشكر، لأن الشكر على النعم التي أُغدقت على الإنسان هي سلم يؤدي إلى معرفة الله، ونفي كلّ أشكال الشرك، فالشكر على النعم من الأمور الفطرية عند الإنسان، وقبل الشكر يجب معرفة المنعم، وهنا فإن خط الشكر يؤدي إلى خط التوحيد، وينكشف بطلان عبادة الاصنام التي لا تهب للانسان آية نعمة .

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم، وتقول: (وما قدروا الله حق قدره). ولهذا تنزلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفاً للاوثان!!

____________________________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ (الفاء) في (فاعبد) زائدة للتأكيد على ما قيل، وقال البعض: إنّها (فاء) الجزاء وقد حذف شرطه والتقدير (إن كنت عابداً فاعبد الله) ، ثمّ حذف الشرط، وقدم المفعول مكانه .

[144]

نعم، فمصدر الشرك هو عدم معرفة الباريء عزّوجلّ بصورة صحيحة، فالذي يعلم:

أوّلا: أنّ الله مطلق وغير محدود من جميع النواحي.

وثانياً: أنّه خالق كلّ الموجودات التي تحتاج إليه في كلّ لحظة من لحظات وجودها.

وثالثاً: أنّه يدير الكون ويحل كلّ عقد المشاكل، وأنّ الأرزاق بيده، وحتى الشفاعة إنّما تتمّ بإذنه وأمره، فما معنى توجه من يعلم بكلّ هذه الحقائق إلى غير الله.

وأساساً فإنّ وجود مثل هذه الصفات في موجودين اثنين أمر محال، لأنّه من غير الممكن عقلا وجود موجودين مطلقين من جميع الجهات.

ثمّ يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة، وذلك لبيان عظمة وقدرة الباريء عزّوجلّ، إذ يقول كلام الله المجيد: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه).

«القبضة»: الشيء الذي يقبض عليه بجميع الكف، تستخدم ـ عادة ـ للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام، مثلما نقول في الإصطلاحات اليومية الدارجة: إن المدينة الفلانية هي بيدي، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي.

«مطويات»: من مادة (طي) وتعني الثني، والتي تستعمل أحياناً كناية عن الوفاة وانقضاء العمر، أو عن عبور شيء ما.

والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في الآية (104) من سورة الأنبياء (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب).

فالذي يثني طوماراً ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر.

[145]

خلاصة الكلام، أنّ كلّ هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة الله المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم.

ولكن هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم الحديث عن الآخرة؟

الجواب: إنّ قدرة الباريء عزّوجلّ تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي، وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شيء هو من عند الله وتحت تصرفه. إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير الله بذريعة أنّ أُولئك سينقذونه يوم القيامة، كما فعل المسيحيون، إذ أنّهم يعبدون عيسى(عليه السلام)متصورين أنّه سينقذهم يوم القيامة، وطبقاً لهذا فمن المناسب التحدث عن قدرة الباريء عزّوجلّ في يوم القيامة.

ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات، وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قوالب هذه الألفاظ البسيطة، ولا يرد إمكانية تجسيم الباريء عزّوجلّ من خلالها، إلاّ إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّاً، حيث نفتقد ألفاظاً تبيّن مقام عظمة الباريء عزّوجلّ بصورة واضحة، إذن فيجب الإستفادة بأقصى مايمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة.

على أية حال، فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفاً، يعطي الباريء عزّوجلّ في آخر الآية نتيجة مركزة وظاهرية، إذ يقول: (سبحانه وتعالى عما يشركون).

فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات الله المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام.

* * *

[146]

ملاحظتان

1 ـ مسألة إحباط الأعمال

هل يمكن حقّاً أن تحبط الأعمال الصالحة للإنسان بسبب أعمال سيئة يرتكبها؟ وهل أنّ هذه المسألة لا تتعارض مع عدالة الباريء عزّوجلّ من جهة، ومع ظواهر الآيات التي تقول: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)؟.

البحث في هذه المسألة طويل وعريض سواء من حيث الادلة العقلية أو النقلية، وقد أوردنا جزءاً منه في ذيل الآية (217) من سورة البقرة، وسندكره في نهاية بعض الآيات التي تتناسب مع الموضوع في المجلدات القادمة ان شاء الله.

وممّا تجب الإشارة إليه هنا هو: إذا كان هناك شك في مسألة (إحباط الأعمال) بسبب المعاصي، فإنّه لا ينبغي أن يشكّ أبداً في تأثير الشرك على إحباط الأعمال، لأن آيات كثيرة في القرآن المجيد أشير إلى بعضها آنفاً ـ تقول وبصراحة (إنّ الوفاة على الإيمان) هي شرط قبول الأعمال، وبدونها لا يقبل من الإنسان أي عمل.

فقلب المشرك كالأرض السبخة التي مهما بذرت فيها أنواع بذور الورد، ومهما هطل عليها المطر الذي هو مصدر الحياة، فإن تلك البذور سوف لن تنبت أبداً.

 

2 ـ هل عرف المؤمنون الله؟

قرأنا في الآيات الآنفة أنّ المشركين لم يعرفوا الله حق معرفته، إذ أنّهم لو عرفوه لما ساروا في طريق الشرك ومعنى هذا الكلام أن المؤمنين الموحدين هم وحدهم الذين عرفوا الله حق معرفته.

وهنا يطرح هذا السؤال وهو: كيف يتلاءم هذا الكلام مع الحديث المشهور

[147]

لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والذي يقول فيه: «ما عرفناك حق معرفتك، وما عبدناك حق عبادتك».

وللجواب على هذا السؤال يجب القول: إنّ للمعرفة مراحل، أعلاها هي تلك المعرفة التي تخص ذات الله المقدسة، والتي لا يمكن لأي أحد أن يعرفها أو يطلع عليها غير ذاته المقدسة التي تعرف كنه ذاته المقدسة، والحديث الشريف المذكور يشير إلى هذا المعنى.

أمّا بقية المراحل التي تأتي بعد هذه المرحلة والتي يمكن للعقل البشري أن يتعرف عليها، هي مرحلة معرفة صفات الله بصورة عامة ومعرفة أفعاله بصورة مفصلة، وهذه المرحلة كما ذكرنا ممكنة بالنسبة للإنسان، والمراد من معرفة الله الوصول إلى هذه المرحلة، والآية مورد بحثنا تحدثت عن هذه المرحلة، حيث أن المشركين يجهلون هذا المقدار من المعرفة أيضاً.

 

* * *

 

[148]

الآية

وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ اُخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ( 68 )

 

التّفسير

(النفخ في الصور) وموت وإحياء جميع العباد:

الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة، وآية بحثنا الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له، إذ تبدأ الحديث بنهاية الحياة في الدنيا، وتقول: (ونفخ في الصور من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله).

يتّضح بصورة جيدة من هذه الآية أنّ حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند البعث، في الحادثة الأولى يموت الأحياء فوراً، وفي الحادثة الثانية ـ التي تقع بعد فترة من وقوع الحادثة الأولى ـ يعود كلّ الناس إلى الحياة مرّة اُخرى، و يقفون بانتظار الحساب.

القرآن المجيد عبّر عن هاتين الحادثتين بـ «النفخ في الصور»، وهذا التعبير كناية عن الحوادث المفاجئة والمتزامنة التي ستقع و «الصور» بمعنى البوق الذي يتخذ من قرن الثور ويكون مجوفاً عادة حيث يستخدم مثل هذا البوق في حركة

[149]

القوافل أو الجيش وتوقفها، وطبعاً هناك تفاوت بين النفخة للتحركة والنفخة للتوقف.

كما يبيّن هذا التعبير سهولة الأمر ويوضح كيف أن الباريء عزّوجلّ ـ من خلال أمر بسيط وهو النفخ في الصور ـ يميت كلّ من في السماء والأرض، وكيف أنّه يبعثهم من جديد بنفخة صور اُخرى.

وقلنا سابقاً إنّ الألفاظ التي نستخدمها في حياتنا اليومية عاجزة عن توضيح الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة أو نهاية العالم وبدء عالم آخر بدقّة، ولهذا السبب يجب الاستفادة من أوسع معاني الألفاظ الدارجة والمتداولة مع الإلتفات إلى القرائن الموجودة.

توضيح: لقد وردت تعبيرات مختلفة في القرآن المجيد عن نهاية الحياة في هذا العالم وبدء حياة اُخرى في عالم آخر، حيث ورد الحديث عن (النفخ في الصور) في أكثر من عشر آيات(1).

في إحداها استخدمت عبارة النفر في الناقور (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير)(2).

وفي بعضها استخدمت عبارة (القارعة) كما في الآيات (1 و2 و3 من سورة القارعة) (القارعة، ما القارعة، وما أدراك ما القارعة).

وأخيراً استخدمت في بعضها عبارة «صحيحة» والتي تعني الصوت العظيم، كما ورد ذلك في الآية (49) من سورة يس (ماينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) التي تتحدث عن الصيحة التي تقع في نهاية العالم وتفاجىء كل بني آدم.

____________________________________

1 ـ الآيات التي ورد فيها ما يشير إلى النفخ في الصور هي: (الكهف ـ 99) و (المؤمنون ـ (101)، (يس ـ 51)، (الزمر ـ 68)، (ق ـ 20)، (الحاقة ـ 13)، (الأنعام ـ 73)، (طه ـ 102)، (النمل ـ 87)، (النبأ ـ 18).

2 ـ المدثر، الآية 8.

[150]

أمّا الآية (53) من سورة يس (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) فإنّها تتحدث عن صيحة (الإحياء) التي تبعث الناس من جديد وتحضرهم إلى محكمة العدل الإلهية.

من مجموع هذه الآيات يمكن أن يستشف بأن نهاية أهل السموات والأرض تتمّ بعد صيحة عظيمة وهي (صيحة الموت) وأنّهم يبعثون من جديد وهم قيام بصيحة عظيمة أيضاً، وهذه هي (صيحة بعث الحياة).

وأمّا كيف تكون هاتان الصيحتان؟

وما هي آثار الصيحة الأولى وتأثير الصيحة الثانية؟ فلا علم لأحد بهما إلاّ الله سبحانه وتعالى، ولذا ورد في بعض الرّوايات التي تصف (الصور) الذي ينفخ فيه «إسرافيل» في نهاية العالم، عن علي بن الحسين(عليه السلام): ـ «وللصور رأس واحد وطرفان، وبين طرف رأس كلّ منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض …» قال: فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي بلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلاّ صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي بلي السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ صعق ومات إلاّ إسرافيل، قال: فيقول الله لإسرافيل: يا إسرافيل، مت، فيموت إسرافيل...»(1).

على أية حال، فإنّ أكثر المفسّرين اعتبروا (النفخ في الصور) كناية لطيفة عن كيفية نهاية العالم وبدء البعث، ولكن مجموعة قليلة من المفسّرين قالوا: إن (صور) هي جمع (صورة) وطبقاً لهذا القول، فقد اعتبروا النفخ في الصور يعني النفخ في الوجه، مثل نفخ الروح في بدون الإنسان، ووفق هذا التّفسير ينفخ مرّة واحدة في وجوه بني آدم فيموتون جميعاً، وينفخ مرة اُخرى فيبعثون جميعاً(2).

هذا التّفسير إضافة إلى كونه لا يتطابق مع ما جاء في الروايات، فإنّه

____________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 502.

2 ـ يرجى الإنتباه إلى أنّ (صور) هي على وزن (نور)، و(صُوَر) هي على وزن (زحل) هما جمع (الصورة).

[151]

 لا يتطابق أيضاً مع الآية مورد بحثنا، لأنّ الضمير في عبارة (ثم نفخ فيه اُخرى)مفرد مذكر يعود على الصور، في حين لو كان يراد منه المعنى الثّاني لكان يجب استعمال ضمير المفرد المؤنث في العبارة لتصبح (نفخ فيها).

إنّ النفخ في الوجه في مجال إحياء الأموات يعد أمراً مناسباً (كما في معجزات عيسى (عليه السلام)) إلاّ أنّ هذا التعبير لا يمكن استخدامه في مجال قبض الأرواح.

* * *

 

بحوث

1 ـ هل أنّ النفخ في الصور يتمّ مرتين، أو أكثر؟

المشهور بين علماء المسلمين أنّه يتمّ مرّتين فقط، وظاهر الآية يوضّح هذا أيضأ، كما أنّ مراجعة آيات القرآن الأُخرى تبيّن أنّ هناك نفختين فقط، لكن البعض قال: إنّها ثلاث نفخات، والبعض الآخر قال: إنّها أربع.

وبهذا الشكل فالنفخة الأولى يقال لها نفخة (الفزع)، وهذه العبارة وردت في الآية (87) من سورة النمل (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض).

والنفختان الثانية والثّالثة يعتبرونها للإماتة والإحياء، والتي أشير إليها في آيات بحثنا وفي آيات قرآنية اُخرى، أولاهما يطلقون عليها نفخة (الصعق) (الصعق تعني فقدان الإنسان حالة الشعور، أي يغشى عليه، وتعني أيضاً الموت) والثانية يطلق عليها نفخة (القيام).

أمّا الذين احتملوا أن النفخات أربع، فيبدو أنّهم استشفوا ذلك من الآية (53) من سورة يس والتي تقول بعد نفخة الإحياء( إن كانت صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) وهذه النفخة هي (لجمعهم وإحضارهم).

[152]

والحقيقة أنّه ليس هناك أكثر من نفختين، ومسألة الفزع والرعب العام في الواقع هي مقدمة لموت جميع البشر والذي يتم بعد النفخة الأُولى أو الصيحة الأولى، كما أن نفخة الجمع هي تتمة لنفخة الإحياء والبعث، وبهذا الشكل فلا يوجد أكثر من نفختين (نفخة الموت) و (نفخة الإحياء)، وهناك شاهد آخر على هذا القول وهو الآيتان (6 و 7) من سورة النازعات، اللتان تقولان: (يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة).

 

2 ـ ما هو صور إسرافيل:

هناك سؤال يتبادر إلى الذهن، وهو: كيف تملأه أمواج الصور الصوتية كلّ العالم في نفس اللحظة؟ رغم أنّنا نعلم أنّ سرعة الأمواج الصوتية بطيئة ولا تتجاوز الـ (240) متراً في الثانية، في حين أنّ سرعة الضوء هي أكثر بمليون مرة من هذه السرعة إذ تبلغ (300) ألف كيلومتر في الثانية.

يجب الاعتراف في البداية بأنّ معلوماتنا بشأن هذا الموضوع هي كمعلوماتنا بشأن الكثير من المسائل المتعلقة بيوم القيامة، فهي معلومات عامة لا أكثر، إذ نجهل الكثير من تفاصيل ذلك اليوم كما قلنا.

والتدقيق في الروايات الواردة في المصادر الإسلامية بشأن تفسير كلمة (الصور) تبيّن عكس ما يتصور البعض من أنّ (الصور) هو (زمارة) أو (مزمار) أو (بوق) اعتيادي.

وقد جاء في رواية عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى الذي يلي السماء مثل تخوم الأرضين إلى فوق السماء السابعة، فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق»(1).

____________________________________

1 ـ لئالي الأخبار، الصفحة 453.

[153]

وفي حديث ورد عن رسول الله، جاء فيه: «الصور قرن من نور فيه أثقاب على عدد أرواح العباد»(1).

طرح مسألة النور هنا بمثابة جواب على السؤال الثّاني المذكور أعلاه، ويوضح أن الصيحة العظيمة ليست من قبيل الأمواج الصوتية الإعتيادية، وإنّما هي صيحة أعظم وأعظم، وتكون أمواجها ذات سرعة فائقة وغير طبيعية حتى أنّها أسرع من الضوء الذي يجتاز السماء والأرض بفترة زمنية قصيرة جدّاً، ففي المرّة الأولى تكون مميتة، في المرة الثانية تكون باعثة للأموات.

أمّا كيف يتسبب مثل هذا الصوت في إماتة العالمين، فإنّ كان هذا الأمر عجيباً في السابق، فإنه غير عجيب اليوم، لأننا سمعنا كثيراً بأن الأمواج الإنفجارية تسببت في تمزق أجساد البعض وإصابة آخرين بالصميم، ورمي آخرين إلى مسافة بعيدة عن مكانهم، وتسببت في تدمير البيوت أيضاً، كما شاهد الكثير منّا كيف أنّ زيادة سرعة الطائرة وبعبارة اُخرى (اختراق حاجز الصوت) يولّد صوتاً مرعباً وأمواجاً مدمّرة، قد تحطم زجاج نوافذ الكثير من العمارات والبيوت.

فإذا كانت الأمواج الصوتية الصغيرة التي هي من صنع الإنسان تحدث مثل هذا التأثير، فما هي الآثار التي تتركها الصيحة الإلهية العظيمة، هي بلا شكّ انفجار عالمي كبير.

ولهذا السبب لا عجب أيضاً إن قلنا بوجود أمواج تقابل تلك الأمواج، وأنّها تهز الإنسان وتوقظه وتحييه، رغم أنّه من العسير علينا تصور هذا المعنى، ولكننا نرى دائماً كيف يوقظ النائم من نومه بواسطة الصوت، وكيف يعود الإنسان المغمى عليه إلى حالته الطبيعية بواسطة عدّة صعقات شديدة، ونكرر القول مرّة اُخرى، ونقول: إنّ علمنا المحدود لا يمكنه إدراك سوى ظلّ هذه الأُمور ومن بعيد.

 

____________________________________

1 ـ علم اليقين، الصفحة 892.

[154]

3 ـ من هم المستثنون؟

كما مرّ علينا في الآية المبحوثة عنها فإنّ كلّ أهل السموات والأرض يموتون سوى مجموعة واحدة (إلا من شاء الله) فمن هي هذه المجموعة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين بشأن هذا الأمر:

فمجموعة من المفسّرين قالوا: إنّهم ملائكة الله الكبار، كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقد أشارت رواية إلى هذا المعنى(1).

البعض أضاف إلى أولئك الملائكة الكبار حملة عرش الله (كما وردت في رواية اُخرى)(2).

ومجموعة اُخرى قالت: إنّ أرواح الشهداء مستثناة من الموت، وفقاً لما جاء في آيات القرآن المجيد (أحياء عند ربهم يرزقون) كما ورد في رواية تشير إلى هذا المعنى(3).

وبالطبع فإنّ هذه الروايات لا تتعارض مع بعضها البعض، ولكن في كلّ الصور فإنّ هذه المجموعة المتبقية تموت في نهاية الأمر، كما أوضحته تلك الرّوايات، ولا يبقى أحد حياً في هذا العالم سوى الباريء عزّوجلّ إذ هو (حي  لا يموت).

وعن كيفية موت الملائكة وأرواح الشهداء والأنبياء والأولياء، فيحتمل أنّ المراد من موت أُولئك هو قطع إرتباط الروح عن قالبها المثالي، أو تعطيل نشاط الروح المستمر.

 

____________________________________

1 ـ مجمع البيان ذيل آيات البحث.

2 ـ بحار الانوار، المجلد 6، الصفحة 329.

3 ـ نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 503، الحديث 119.

[155]

4 ـ فجائية النفختين:

آيات القرآن الكريم توضح بصورة جيدة أنّ النفختين تقعان بصورة مفاجئة، والنفخة الأولى تكون فجائية بحيث أنّ مجموعة كبيرة من الناس تكون منشغلة بالتجارة والجدال والنقاش في أموالهم وبيعهم وشرائهم، وفجأة يسمعون الصيحة، فيسقطون في أماكنهم ميتين، كما صرحت بذلك الآية (29) في سورة يس (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون).

وأمّا (الصيحة الثانية) فإنّ آيات القرآن الكريم ـ ومنها الآية التي هي مورد بحثناـ تبيّن بأنّها تقع فجأة أيضاً.

 

5 ـ ماهي الفاصلة الزمنية بين النفختين؟

الآيات القرآنية لم تذكر توضيحاً حول هذا الأمر، سوى كلمة (ثم) التي وردت ضمن آية بحثنا والتي تدل على وجود فاصل زمني بين النفختين، إلاّ أنّ بعض الرّوايات ذكرت بأن هذه الفاصلة مقدارها (40) عاماً(1). والمجهول بالنسبة لنا هو معيار هذه السنين، فهل هي سنوات اعتيادية كالتي نعيشها نحن، أم أنّها سنوات وأيّام كسنوات وأيّام القيامة.

على أية حال فالتفكر في نفخة الصور ونهاية العالم، وكذلك بالنفخة الثانية وبدء عالم جديد، ومع ملاحظة الإشارات التي وردت في القرآن المجيد، والتفاصيل الأُخرى في الرّوايات الإسلامية بهذا الشأن، يعطي دروساً تربوبة عميقة للإنسان، وخاصة أنّها توضح هذه الحقيقة، وهي البقاء على استعداد دائم لاستقبال مثل هذا الحادث العظيم والرهيب في كلّ لحظة، لأنّه لم يحدد لوقوعها تاريخ معين، إذ يحتمل وقوعها في أية لحظة، إضافة إلى أنّها تقع من دون مقدمات، لذا ورد في ذيل إحدى الرّوايات الخاصة بنفخ الصور والمذكورة آنفاً أنّ

____________________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 503، الحديث 119.

[156]

الراوي قال، عندما وصل الكلام إلى هذا الأمر «رأيت علي بن الحسين يبكي عند ذلك «بكاء شديداً»، إذ كان قلقاً جدّاً من مسألة نهاية العالم ويوم القيامة، وإحضار الناس للحساب في محكمة العدل الإلهية»(1).

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير الصافي ذيل آية البحث.

[157]

الآيتان

وَ أَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَـبُ وَجِاْىءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( 69 )وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ( 70 )

 

التّفسير

ذلك اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربّها:

آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدّة آيات، وهاتان الآيتان تضمان سبع عبارات منسجمة، كلّ واحدة تتناول أمراً من أُمور المعاد، لتكمل بعضها البعض، أو أنّها تقيم دليلا على ذلك.

في البداية تقول: (وأشرقت الأرض بنور ربّها).

وقد اختلف المفسّرون في معنى إشراق الأرض بنور ربها، إذ ذكروا تفسيرات عديدة، اخترنا ثلاثاً منها، وهي :

1 ـ قالت مجموعة: إنّ المراد من نور الرب هما الحق والعدالة، الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم، حيث قال العلامة المجلسي في بحارالأنوار: «أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة، لأن نور الأرض

[158]

بالعدل»(1).

والبعض الآخر اعتبر الحديث النبوي (الظلم ظلمات يوم القيامة) شاهداً على هذا المعنى(2).

فيما قال «الزمخشري» في تفسيره الكشاف: (وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات).

2 ـ البعض الآخر يعتقد أنّه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر، يخلقه الله في ذلك اليوم خاصة.

3 ـ أمّا المفسّر الكبير العلاّمة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف صاحب تفسير الميزان فقد قال: إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هو ما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين. وقد استدل العلاّمة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية (22) من سورة (ق) (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). وهذا الإشراق ـ وإن كان عاماً لكل شيء يسعه النور ـ لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذ من الشأن خصها بالبيان.

وبالطبع فإن هذه التفاسير لا تتعارض فيما بينها، ويمكن القول بصحتها جميعاً، مع أن التّفسيرين الأوّل والثّالث أنسب من غيرهما.

ومن دون شك فإنّ هذه الآية تتعلق بيوم القيامة، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه،

____________________________________

1 ـ بحار الانوار، المجلد 6، الصفحة 321.

2 ـ روح المعاني و روح البيان ذيل آية البحث.

[159]

وتأكيد لهذا المعنى، وهو عند ظهور المهدي (عج) تصبح الدنيا نموذجاً حياً من مشاهد القيامة، إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرّسول الأكرم وخليفة الله الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا.

ونقل (المفضل بن عمر) عن الإمام الصادق (عليه السلام) «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة»(1).

العبارة الثّانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال، إذ تقول: (ووضع الكتاب).

الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان، وكما يقول القرآن المجيد في الآية (49) من سورة الكهف (لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها).

وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود (وجيء بالنّبيين والشهداء).

فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة، كما ورد في الآية (6) من سورة الأعراف (ولنسألن المرسلين).

كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم، صحيح أن الباريء عزّوجلّ مطلع على كلّ الأُمور، ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة.

ذكر المفسّرون آراء عديدة بشأن أولئك الشهداء على الأعمال، حيث قال البعض: إنّهم الصالحون والطاهرون والعادلون في الأمّة، الذين يشهدون على أداء الأنبياء لرسالتهم، وعلى أعمال الناس الذين كانوا يعاصرونهم، و(الأئمة المعصومون) هم في طليعة شهداء الأعمال.

____________________________________

1 ـ إرشاد المفيد والخبر ذاته في تفسير الصافي ونور الثقلين في ذيل آيات البحث، ونفس المعنى، ورد في المجلد الثّاني والخمسين الصفحة 330 من بحار الأنوار للمرحوم العلاّمة المجلسي، مع شيء من الإختصار.

[160]

في حين يعتقد البعض الآخر بأنّ الملائكة هم الشهداء على أعمال الإنسان، والآية (21) في سورة (ق) تعطي الدليل على هذا المعنى (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد).

وقال البعض: إن أعضاء بدن الإنسان ومكان وزمان الطاعة والمعصية هم الذين يشهدون على الإنسان يوم القيامة.

ويبدو أن كلمة (شهداء) لها معان واسعة، أشار كلّ مفسر إلى جانب منها في تفسيره.

و احتمل البعض أنّها تخص «الشهداء» الذين قتلوا في سبيل الله، ولكن هذا الأحتمال غير وارد وبعيد، لأن الحديث هو عن شهداء محكمة العدل الإلهي، وليس عن شهداء طريق الحق، مع إمكانية انضمامهم إلى صفوف الشهود.

العبارة الرّابعة تقول: (وقضى بينهم بالحق).

والخامسة تضيف: (وهم لا يظلمون).

فمن البديهيات، عندما يكون الحاكم هو الباريء عزّوجلّ، وتشرق الأرض بنور عدالته، وتعرض صحائف أعمال الإنسان التي تبيّن كلّ صغيرة وكبيرة بدقّة، ويحضر الأنبياء والشهود والعدول، فلا يحكم الباريء عزّوجلّ إلا بالحق، وفي مثل هذا المحاكم لا وجود للظالم والاستبداد مطلقاً.

العبارة السادسة في الآية التالية أكملت الحديث بالقول: (ووفيت كلّ نفس ما عملت).

إنّ جزاء الأعمال وعواقبها سترد إليهم، وهل هناك مكافأة ومجازاة أعلى من أن يرد عمل الإنسان بصورة كاملة إلى الإنسان نفسه (نلفت الإنتباه إلى أن كلمة (وفيت) تعني الأداء بصورة كاملة) ويبقى مرافقاً له إلى الأبد.

فالذي يتمكن من تنفيذ مثل هذه المناهج العادلة بدقّة، هو الذي أحاط علمه

[161]

بكل شيء، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول: (وهو أعلم بما يفعلون).

إذن فلا حاجة حتى للشهود، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة، فليستعد الجميع لذلك اليوم.

 

* * *

 

[162]

الآيتان

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ بَلَى وَلَـكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـفِرِينَ( 71 ) قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَبَ جَهَنَّمَ خَـلِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ( 72 )

 

التّفسير

الذين يدخلون جهنم زمراً:

تواصل الآيات هنا بحث المعاد، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ بأهل جهنم، إذ تقول: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً).

فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟

كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (21) من سورة (ق)، إذ تقول: (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد).

[163]

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و«سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على اسير).

ثم تضيف ( حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربّكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا)(1).

يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أُولئك الكفرة، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم، وهذا لحدث المفاجيء يوجد رعباً ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ، الذين يقولون استهجاناً وتوبيخاً لهم: لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار، ومعهم معجزات من خالقكم، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله (2)؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

حقّاً إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.

على أية حال، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات، قائلين: (قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين).

مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا (كلمة العذاب) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم، كما ورد في الآية (39) من سورة البقرة (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون).

____________________________________

1 ـ «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء، و(خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

2 ـ «يتلون» و«ينذرون»: كليهما فعل مضارع ودليل على الإستمرارية.

[164]

و حينما قال الشيطان: لأغوينهم جميعاً إلاّ عبادك المخلصين، فأجابه الباريء عزّوجلّ (لأملأن جهنم من الجنّة والناس أجمعين)(1).

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وانكروا آيات الله، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

كما يوجد احتمال في أنّ المراد من (حقّت كلمة العذاب) هو ما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس) (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون).

وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحياناً ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة، وفي هذه الحالة يصبح مستحقاً تماماً للعذاب.

وعلى أيّة حال، فإن مصدر كلّ هذه الأُمور هو عمل الإنسان ذاته، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين).

فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة»(2).

والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الإنصياع والإستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

____________________________________

1 ـ الم السجدة، 13.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة (27).

[165]

للكفر والإنحراف وإرتكاب الذنب.

نعم، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة، ولهذا نقرأ في رواية عن الأمامين المعصومين الباقر و الصادق عليهما السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(1).

* * *

 

____________________________________

1 ـ الكافي، المجلد الثّاني، باب الكبر الحديث 6.

[166]

الآيات

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـلِدِينَ( 73 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاَْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـمِلِينَ ( 74 )وَتَرَى الْمَلَـئِكَةَ حَآفِينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَـلَمِينِ( 75 )

 

التّفسير

المتقون يدخلون الجنّة افواجاً!!

هذه الآيات ـ التي هي آخر آيات سورة (الزمر) ـ تواصل بحثها حول موضوع المعاد، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنّة، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم، لتتوضح الأُمور أكثر من خلال هذه المقارنة.

في البداية تقول: (وسيق الذين اتقوا إلى الجنّة زمراً).

استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني الحث على السير). أثار التساؤل، كما لفت أنظار الكثير من المفسّرين، لأنّ هذا

[167]

التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنّة الذين يتوجهون إلى الجنّة بتلهف واشتياق؟

قال البعض: إنّ هذه العبارة استعملت هنا لأنّ الكثير من أهل الجنّة ينتظرون أصدقاءهم.

والبعض الآخر قال: إنّ تلهف وشوق المتقين للقاء الباريء عزّوجلّ يجعلهم يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتّى بالجنّة.

فيما قال البعض: إنّ هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنّة.

مع أن هذه التّفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينها، إلاّ أنّ هناك نقطة اُخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أُولئك عليهم، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنّة.

والملاحظ أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة، وتبيّن أن أهل الجنّة يساقون إلى الجنّة على شكل مجموعات مجموعات كلّ حسب مقامه.

ثم تضيف الآية (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)(1).

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم: إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب، ويقول بشأن أهل الجنّة، إن أبواب الجنّة مفتحة لهم

____________________________________

1 ـ ماهو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها) ؟ ذكر المفسّرون آراء متعددة، أنسبها الذي يقول: إن عبارة (قال لهم خزنتها) جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف، والتقدير (سلام من الله عليكم) ، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها، والبعض قال: (فتمت) هي الجواب و(الواو) زائدة.

[168]

من قبل، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم، ويقف عند الباب بانتظارهم.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين، عندما يقولون لهم: قد هيئت لكم أسباب الهداية، فلم تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟

أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنّة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل، ومن ثمّ تدعوهم إلى دخو ل الجنّة.

عبارة «طبتم» من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة، ولأنّها جاءت بعد السلام والتحية، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوماً إنشائياً، وتعني: لتكونوا طاهرين مطهرين و نتمنى لكم السعادة والسرور.

وبعبارة اُخرى: طابت لكم هذه النعم الطاهرة، يا أصحاب القلوب الطاهرة.

ولكن الكثير من المفسّرين ذكروا لهذه الجملة معنىً خبرياً عند تفسيرها، وقالوا: إنّ الملائكة تخاطبهم بأنّكم تطهرتم من كلّ لوث وخبث، وقد طهرتم بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي، ونقل البعض رواية تقول: إنّ هناك شجرة عند باب الجنّة، تفيض من تحتها عينا ماء صافيتان، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم، ويغتسلون بماء العين الأُخرى فيتطهر ظاهرهم، وهنا يقول خزنة الجنّة لهم: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)(1).

الملاحظ أن «الخلود» استخدم بشأن كلّ من أهل الجنّة وأهل النّار، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنّة من زوال النعم الإلهية، ولكي يعلم أهل النّار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النّار.

____________________________________

1 ـ تفسير القرطبي المجلد (8) الصفحة 5730.

[169]

الآية التّالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنّة السعادة والفرح اللذين غمراهم، حيث تقول: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده).

وتضيف في العبارة التالية(وأورثنا الأرض).

المراد من الأرض هنا أرض الجنّة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كلّ هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه، إذ ـ كما هو معروف ـ فإن الميراث هو الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.

أو أنّها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنّة وآخر في جهنم، فإن ارتكب عملا استحق به جهنم فإن مكانه في الجنّة سوف يمنح لغيره، وإن عمل عملا صالحاً استحق به الجنّة، فيمنح مكاناً في الجنّة ويترك مكانه في جهنم لغيره.

أو تعني أنّهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الأرث، كالميراث الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حراً في استخدامه.

هذه العبارة ـ في الواقع ـ تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (63) من سورة مريم (تلك الجنّة التي نورث من عبادنا من كان تقياً).

العبارة الثّالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنّة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنّة الواسعة، إذ تقول: (نتبوأ من الجنّة حيث نشاء).

يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنّة الكثير من البساتين والحدائق وقد أطلقت عليها في الآية (72) من سورة التوبة عبارة (جنات عدن) وأهل الجنّة وفقاً لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك الحدائق والبساتين في الجنّة.

أمّا العبارة الآخيرة فتقول: (فنعم أجر العالمين).

وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعاً) ليكون صاحبه لائقاً ومستحقاً لنيل مثل هذه النعم.

[170]

وهنا يطرح هذه السؤال وهو: هل أنّ هذا القول صادر عن أهل الجنّة، أم أنّه كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنّة؟

المفسّرون وافقوا الرأيين، ولكنّهم رجحوا المعنى الأوّل الذي يقول: إنّه كلام أهل الجنّة ويرتبط بالعبارات الأُخرى في الآية.

وفي النهاية تخاطب الآية ـ مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر ـ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: (وترى الملائكة حافين من حول العرش) يسبحون الله ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله، أو أنّها تعبر عن استعداد أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية، أو أنّها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك اليوم للخواص والمقرّبين من العرش الإلهي، مع أنّه لا يوجد أي تعارض بين المعاني الثلاثة، إلا أن المعنى الأوّل أنسب.

ولهذا تقول العبارة التالية (وقضى بينهم بالحق).

وباعتبار هذه الأُمور هي دلائل على ربوبية الباريء عزّوجلّ واستحقاق ذاته المقدسة والمنزّهة لكل أشكال الحمد والثناء، فإنّ الجملة الأخيرة تقول: (وقيل الحمدلله ربّ العالمين).

وهنا يطرح هذا السؤال: هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة، أم عن أهل الجنّة المتقين، أم أنّه صادر عن الاثنين؟

المعنى الأخير أنسب من غيره، لأنّ الحمد والثناء على الله هو منهاج كلّ أولي الألباب، ومنهاج كلّ الخواص والمقربين، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني للمجهول يؤيد ذلك.

نهاية سورة الزّمر

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337734

  • التاريخ : 29/03/2024 - 05:47

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net