00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الزمر من آية 21 ـ 55 من ( ص 56 ـ 126)  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[56]

الآيتان

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهََ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءِ فَسَلَكَهُ يَنَـبِيعَ فِى الاْرَضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَنُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَمَـاً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاُِوْلِى الاَْلْبَـب( 21 ) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهَُ صَدْرَهُ لِلاِْسْلَـمِ فَهُوَ عَلَى نُور مِّنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَـسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهَِ أُوْلَـئِكَ فِى ظَلَـل مُّبِين( 22 )

 

التّفسير

الذين هم على مركب من نور!!

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة اُخرى دلائل التوحيد والمعاد، ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة. إذ تشرح أحد آثار عظمة وربوبية الباريء عزّوجلّ في نظام عالم الكون، وذلك عندما تشير إلى مسألة (نزول المطر) من السماء، ثمّ إلى نمو آلاف الأنواع من الزرع بمختلف الألوان بعد أن تسقى من ماء عديم اللون، وإلى مراحل نموها حتى وصولها إلى المرحلة النهائية وتقول موجهة الخطاب الى النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)باعتباره القدوة لجميع المؤمنين (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع

[57]

في الأرض)(1).

قطرات المطر التي تبعث الحياة حينماتنزل من السماء تمتصها الطبقة الأولى من طبقات الأرض، وعندما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة اُخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها، لتبعث مرّة اُخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون و قنوت و آبار.

كلمة (سكله) تعني (نفوذ مياه الأمطار في داخل قشرة الأرض) وهذه إشارة مختصرة لما ذكرناه آنفاً.

«ينابيع» هي جمع (ينبوع) مشتقّة من (نبع) وتعني فوران الماء من داخل الأرض. ولو كانت للأرض قشرة واحدة لا تمتلك القابلية على الإمتصاص، فإنّ مياه الأمطار النازلة سوف تتجه بأكملها بعد هطولها إلى البحار لتصب فيها من دون أن تخزن داخل قشرة الأرض، وفي هذه الحالة ينعدم وجود العيون والقنوات والآبار. وإذا كانت الأرض ذات قشرة واحدة نفوذية تماماً، فإنّ كلّ مياه الأمطار تتجه نحو أعمق مناطق باطن الأرض، وفي تلك الحالة يستحيل الوصول إليها واستخراجها، فتنظيم قشرة الأرض بحيث توجد طبقتان إحداها نفوذية والأُخرى غير نفوذية، وبدرجات معينة، كلّ ذلك ثمّ وفق حسابات خاصة، تبيّن قدرة الباريء عزّوجلّ.

والملفت للنظر أنّ قشرة الأرض تكون أحياناً ذات طبقات متعددة، بعضها نفوذي والبعض الأخر غير نفوذي، ومرتبة الواحدة فوق الأُخرى ويستفاد منها في عمليات حفر الآبار (السطحية) و (العميقة) و (نصف العميقة).

وتضيف الآية فيما بعد: (ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه) ذات الأشكال المختلفة.

____________________________________

1 ـ «ينابع» على ما هو المشهور يكون منصوباً بنزع الخافض، و هو جمع ينبوع من نبع الماء (راجع تفسير روح المعاني، ج23، ص256; روح البيان، ج8، ص93.

[58]

أي مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والزر والذرة، ذات الأشكال المختلفة و الألوان الظاهرية المتعددة، فمنها الأخضر الغامق، والأخضر الفاتح، وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة.

وممّا يذكر أن كلمة (زرع) تطلق على النباتات ذات الساق الدقيق، فيما تطلق كلمة (شجر)على الأشجار ذات السيقان القوية، وكلمة (زرع) ذات معان كثيرة تشمل النباتات الطبيعية التي لا يمكن الإستفادة منها للغذاء، وأنواع الورد ونباتات الزينة والأعشاب الطبية التي يؤخذ منها الدواء، وأحياناً نرى في غصن واحد، ولربّما فيوردة واحدة عدّة ألوان جميلة جذابة، تسبح وتوحد الباريء عزّوجلّ بلسان صامت.

ثمّ تنتقل الآية إلى مرحلة اُخرى من مراحل حياة هذه النباتات، إذ تقول: (ثم يهيج فتراه مصفراً)(1) حيث تعصف به الرياح من كلّ جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه ويضيف تعالى: (ثم يجعله حطاماً).

نعم، إن في هذا لذكرى لأصحاب العقول وأهل العلم (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب).

هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه الباريء عزّوجلّ لعالم الوجود، وإنّه تذكير بنهاية الحياة وانطفاء شعلتها، ومن ثمّ بمسألة البعث و عودة الأموات إلى الحياة. فرغم أنّ هذا المشهد يتعلّق بعالم النبات، إلاّ أنّه ينبّه الإنسان إلى أن مثل هذا الأمر سوف يتكرر في حياته وعمره هو أيضاً مع وجود بعض الإختلاف في مدّة الأعمار، ولكن الأساس واحد إذ يبدأ بالولادة يتدرج إلى النشاط و الشباب، ومن ثمّ الذبول والكهولة، وفي النهاية الموت.

و كتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد، تنتقل الآيات إلى المقارنة

____________________________________

1 ـ «يهيج» من مادة (هيجان) و لها معنيان في اللغة، الأوّل هو جاف النبات و اصفراره، و الثّاني هو التحرك و الإنتفاض، و من الممكن أو يعود المعنيان إلى أصل واحد، لأنّ النبات حينما يجفّ فإنه يستعد للانفصال و الأنتشار و التحرك و الهيجان.

[59]

بين المؤمنين و الكافرين، كي توضح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي تهطل على الأرض، وكما أنّ الأرض التي لها الإستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف الله، هي ـ فقط ـ التي تستفيد من آيات الله، وذلك طبقاً لقوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه)(1) كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور!!

أمّا القاسية قلوبهم، فهم الذين لا تؤثر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى، ولا الآيات القرآنية المؤثرة، ولا ينمي مطر الوحي الباعث للحياة عندهم ثمار التقوى والفضيلة، وبصورة موجزة يمكن القول بأنّهم كالنباتات التي لا طراوة فيها ولا أوراق ولا ثمار ولا ظلّ.

نعم (أولئك في ظلال مبين).

«القاسية» مشتقّة من (قسوة)وتعني الخشونة والصلابة والتحجر، لذلك تطلق صفة (قاسية) على الأحجار الصلبة، و يقال للقلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور الحق والهداية، ولا تلين ولا تستسلم لها، ولا تسمح بنفوذ نور الحقّ والهداية إليها (قلوب قاسية).

على أية حال، فإنّ هذه العبارة جاءت في مقابل (انشراح الصدر) وسعة الروح، لأنّ الرحابة والإتساع كناية عن الإستعداد للإستقبال، فالشارع والبيت الواسع يمكنهما أن يضمّا أناساً كثيرين، وكذلك الصدر الواسع والروح المنشرحة، فإنّها مستعدّة لتقبّل حقائق أكثر.

ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ ابن مسعود قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير هذه الآية: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)

____________________________________

1 ـ هذه الآية تتضمّن جملة محذوفة تتضح من خلال الجملة التي تليهاو عند تقديرها تصبح الآية (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور).

[60]

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح».

ثم قلنا: يا رسول الله ما هي علامات انشراح الصدر؟ فقال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجا في عن دار الغرور، والإستعداد للموت قبل نزوله»(1).

أمّا علي بن إبراهيم فيقول في تفسيره أن عبارة: (أفمن شرح الله صدره للإسلام) نزلت في حقّ أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب(عليه السلام). وقد ورد في تفاسير اُخرى أنّ عبارة: (فويل للقاسية قلوبهم) نزلت بحقّ (أبي لهب وأبنائه)(2).

ومن الواضح أنّ أسباب النّزول هنا هي في الحقيقة من باب تطبيق المفهوم العام على المصاديق الواضحة.

إنّ ما يلفت النظر في عبارة: (فهو على نور من ربه) أنّ النور والضياء جعل هنا بمثابه مركبة يركبها المؤمنون تفسير بهم بسرعة عجيبة ومسير واضح وقدرة على طواف العالم كلّه.

* * *

 بحث

عوامل (شرح الصدر) و (قسوة القلب)

الناس ليسوا على وتبرة واحدة من حيث قبول الحق وإدراك الأُمور، فالبعض يتمكّن من إدارك الحقيقة بمجرّد إشارة واحدة أو جملة قصيرة، وهذا يعني أنّ تذكيراً واحداً يكفي لإيقاظهم فوراً، وموعظة واحدة قادرة على إحداث صيحات في أرواحهم وفي حين أنّ البعض الآخر لا يتأثّر بأبلغ الكلمات وأوضح الأدلّة و أقوى العبارات، وهذه المسألة ليست بالأمر السهل أو الهيّن.

____________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5691 (تفسير سوة الزمر ذيل آيات البحث) نقل هذا الحديث مع اختلاف جزئي عن (روضة الواعظين) للشيخ المفيد.

2 ـ تفسير الصافي ذيل آيات البحث.

[61]

وكم هي جميلة التعابير القرآنية في هذا المجال، وذلك عندما تصف البعض بأنّهم ذوو صدور منشرحة وأرواح واسعة، وتصف البعض الآخر بأنّهم ذوو صدور ضيفة، كما ورد في الآية (125) من سورة الأنعام: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنّما يصعد في السماء).

هذا الموضوع يتّضح بصورة كاملة في حالة دراسة أوضاع وأحوال الأشخاص، فالبعض لهم صدور منشرحة رحبة تتسع لإستيعاب أيّ مقدار من الحقائق، في حين أنّ البعض الآخر على العكس، إذ أنّ صدورهم ضيقة وأفكارهم محدودة لا يمكنها أحياناً استيعاب أيّ حقيقة، وكأن عقولهم محاطة بجدران فولاذية لا يمكن اختراقها. وبالطبع لكلّ واحد منهما أسبابه.

فالدراسة الدائمة والمستمرة والإتصال بالعلماء والحكماء الصالحين، وبناء الذات وتهذيب النفس، واجتناب الذنوب وخاصة أكل الطعام الحرام، وذكر الله دائماً، كلها أسباب وعوامل لإنشراح الصدر، وعلى العكس فإنّ الجهل والذنب والعناد والجدل والرياء، ومجالسة أصحاب السوء والفجار والمجرمين وعبيد الدنيا والشهوات، كلّها تؤدّي إلى ضيق الصدر وقساوة القلب.

فعندما يقول القرآن الكريم: (فمن يرد الله يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً). فهذه الإرادة وعدم الارادة ليست اعتباطية وبدون دليل. بل هي نابعة من اعماقنا وذواتنا في البداية.

وقد ورد حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه: «أوحى الله عزّوجلّ إلى موسى: يا موسى لا تفرح بكثره المال، ولا تدع ذكري على كلّ حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وإن ترك ذكري يقسي القلوب »(1).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، جاء فيه: «ما جفت الدموع إلاّ

____________________________________

1 ـ بحار الانوار، المجلد 70، الصفحة 55، الحديث 23.

[62]

لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب»(1).

كما ورد في حديث ثالث أنّ من جملة كلام الله سبحانه وتعالى مع موسى (عليه السلام)«يا موسى لا تطول في الدنيا أملك، فيقسو قلبك، والقاسي القلب مني بعيد»(2).

وأخيراً، ورد حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) جاء فيه: «لمتان: لمة من الشيطان ولمة من الملك، فلمّة الملك الرقة والفهم، ولمّة الشيطان السهو والقسوة»(3).

على أية حال، فإن من يريد انشراح صدره وإزالة القساوة من قلبه، عليه أن يتوجه نحو الباريء عزّوجلّ كي يبعث الأنوار الإلهية في قلبه كما وعد بذلك الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وعليه أن يصقل مرآة قلبه من صدأ الذنوب، ويطهّر روحه من أوساخ هوى النفس والوساوس الشيطانية، استعداداً لإستقبال المعشوق، وأن يسكب الدموع خوفاً من الله وحباً له، فإنّ في ذلك تأثيراً عجيباً لا نظير له على رقّة ولين القلب ورحابة الروح، وفي المقابل فان جمود العين هو إحدى علامات القلب المتحجر.

 * * *

____________________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلد 70، الصفحة 55، الحديث 24.

2 ـ الكافي، المجلد الثّاني، باب القسوة الحديث (1).

3 ـ نفس المصدر السابق الحديث (3).

[63]

الآيات

اللهَُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـباً مُتَشَـبِهاً مَّثَانِى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهَِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَآءُ وَ مَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد( 23 ) أَفَمَنْ يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَ قِيلَ لِلظَّـلِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ( 24 ) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَـهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ( 25 ) فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَـوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( 26 )

 

سبب النّزول

نقل بعض المفسّرين عن (عبد الله بن مسعود) أنّ جمعاً من الصحابة ملّوا وتضجّروا، فقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حدّثنا حديثاً يزيل السأم من نفوسنا والملل من قلوبنا، فنزلت أول آية من الآيات المذكورة أعلاه معرّفة القرآن بـ (أحسن الحديث)(1).

____________________________________

1 ـ سبب النّزول ورد باختلاف يسير في تفسير (الكشاف) المجلد الرابع ص 123 و في تفسير (القرطبي) و (الآلوبسي) و (أبو الفتوح الرازي) و غيرها، و ذلك في ذيل آيات البحث.

[64]

التّفسير

الآيات السابقة تحدثت عن العباد الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه، كما تحدثت عن الصدور الرحبة المستعدة لتقبل الحقّ.

الآيات التي يدور حولها البحث تواصل التطرق إلى هذا الأمر، كي تكمل حلقات البحوث السابقة الخاصة بالتوحيد والمعاد مع ذكر بعض دلائل النبوّة، إذ تقول الفقرة الأُولى من الآية: (الله نزّل أحسن الحديث).

ثم تستعرض خصائص القرآن الكريم، حيث تشرح الخصائص المهمّة للقرآن من خلال بيان ثلاث صفات له:

 أمّا الخاصية الاُولى فهي(كتاباً متشابهاً)

المقصود من (متشابه) هنا هو الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه ويشبه بعضه البعض، فلا تعارض فيه ولا تضادّ، وكلّ آية فيه أفضل من الأُخرى والمتماثل من حيث اللطف والجما ل والعمق في البيان.

وهذا بالضبط على عكس العبارات التي يصوغها الإنسان، والتي مهما اعتنى بصياغته فإنّها لن تخلو من الاخطاء والإختلافات والتناقضات، خصوصاً عندما يتسع مجالها وتأخذ أبعاداً أوسع، إذ تلاحظ أنّ بعضها في قمّة البلاغة، والبعض الآخر عادي وطبيعي، ودراسة آثار الكتّاب الكبار المعروفين في مجالي النثر والشعر هي خير شاهد على هذا الموضوع.

أمّا كلام الله المجيد فليس كذلك، إذ نرى فيه انسجاماً خارقاً، وتناسقاً لا نظير له في المفاهيم والفصاحة والبلاغة، وهذا بحدّ ذاته يجعل آيات القرآن تحكم وتشهد بأنّه ليس من كلام البشر.

 

[65]

أما الخاصية الثّانية فهي (مثاني) ـ أي المكرر ـ

وهذه الكلمة تشير إلى تكرار بحوثه المختلفة وقصصه ومواعظه، التكرار الذي لا يملّ منه الإنسان، وإنّما على العكس من ذلك، إذ يتشوق لتلاوته أكثر، وهذه إحدى أُسس الفصاحة، إذ يعمد الإنسان أحياناً إلى التكرار وبصور مختلفة وأساليب متنوعة، وذلك إذا أراد التأكيد على أمر ما وجلب الإنتباه إليه والتأثّر به، كي لا يملّ السامع أو يضجر منه.

إضافة إلى أنّ مواضيع القرآن المكررة تفسّر إحداها الأُخرى، وتحل الكثير من ألغازه عن هذا الطريق.

بعضهم اعتبرها إشارة إلى تكرار تلاوة القرآن وبقائه غضاً طرياً من جراء تكرار تلاوته.

والبعض الآخر اعتبرها إشارة إلى تكرار نزول القرآن، فمرّة نزل دفعة واحدة على صدر الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك في ليلة القدر، ومرّة اُخرى بصورة تدريجية استمرت لفترة (23) عاماً.

ومن المحتمل أن يكون المراد من التكرار هو ملاءمة القرآن لكلّ زمان، وانكشاف بعض الأُمور الغيبية فيه بمرور السنوات.

والتّفسير الأوّل أنسب من بقية التفاسير، رغم عدم وجود أيّ تعارض بين الجميع، بل من الممكن أن تكون جميعها صحيحة(1).

 

أمّا الخاصية الثّالثة فهي (تقشعر منه الجلود)

وهذه الخاصية للقرآن فهي مسألة نفوذه وتأثيره العميقين والخارقين (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله).

____________________________________

1 ـ قال الزمخشري في الكشاف: إن (مثاني) يمكن أن تكون جمع (مثنى) على وزن (مصلّى) و تعني المكرّر، و يمكن أن تكون جمع (مثنى) على وزن (مبنى) من التثنية بمعنى التكرار، الكشاف، المجلد الرابع، الصفحة 123.

[66]

إنّه لوصف وتجسيد لطيف وجميل لنفوذ آيات القرآن العجيب إلى أعماق القلوب، إذ أنّه في بداية الأمر يبعث في القلب شيئاً من الخوف والرهبة، الخوف الذي يكون أساساً للصحوة ولبدء الحركة، والرهبة التي تجعل الإنسان يتحسس مسؤولياته المختلفة. ثمّ تأتي مرحلة الهدوء وقبول آيات الله وتتبعها السكينة والإستقرار.

هذه الحالة التدريجية التي تبيّن مراحل (السلوك إلى الله) المختلفة، يمكن إدراكها بسهولة، فالقلوب تقشعر فور ما تسمع آيات التهديد والتحذير النازلة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ تهدأ فور ما تسمع آيات الرحمة.

التفكير بذات الله ومسألة أبديته وأزليته وعدم محدوديته يوجد عند الإنسان حالة من الرهبة في كيفية معرفة الله، إلاّ أنّ دراسة آثار ودلائل ذاته المقدسة في الآفاق والأنفس تمنح الإنسان نوعاً من الإرتياح والهدوء(1).

والتأريخ الإسلامي مليء بالشواهد على التأثير العجيب للقرآن في قلوب المؤمنين، وحتى غير المؤمنين من أصحاب القلوب المستعدة لتقبل الإيمان، فالجاذبية أو النفوذ الخارق للقرآن دليل واضح على أنّ القرآن كتاب نزل من السماء بواسطة الوحي.

وقد ورد حديث عن (أسماء)، جاء فيه (كان أصحاب النّبي حقاً إذا قرىء عليهم القرآن ـ كما نعتهم الله ـ تدمع أعينهم و تقشعر جلودهم)(2).

أمير المؤمنين (عليه السلام) وصف هذه الحقيقة بأفضل وجه في الخطبة الخاصة بالمتقين، إذ قال: «أمّا الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا،

____________________________________

1 ـ (تقشعر) من مادة (قشعريرة) و قد ذكر اللغويون والمفسّرون معاني مختلفة و متقاربة بعض الشيء، فالبعض قال: إنّها تعني انكماش جلد البدن (حالة تصيب الإنسان أثناء خوفه) و البعض قال: إنّها الرجفة التي تصيب الإنسان في حالة الخوف، و البعض الآخر قال: إنّها تعني وقوف شعر البدن، و في الحقيقة فإنّ كلّ حالة من هذه الحالات ملازمة للاُخرى.

2 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثامن، الصفحة 5693، عن التأثير العميق و الخارق لآيات القرآن، أوردنا روايات عديدة في ذيل الآية 92 من سورة آل عمران.

[67]

يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم».

وفي نهاية الآية يقول تعالى بعد أن بيّن تلك الخصائص: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء).

حقاً إنّ القرآن نزل لهداية الجميع، لكن المتقين وطلاب الحقّ والحقيقة هم المستفيدون ـ فقط ـ من نوره، أمّا أُولئك الذين تعمدوا إغلاق كافة نوافذ قلوبهم أمام نور القرآن الكريم، و الذين تتحكم بأرواحهم ظلمات التعصب والعناد فقط  لا يستفيدون من نور القرآن، وإنّما يزدادون ضلالة من جراء عنادهم وعدائهم، لذلك فإن تتمة الآية تقول: (ومن يضلل الله فما له من هاد).

فهذه الضلالة هي التي يضع الإنسان حجر أساسها بيده، ويحكم بناء أساسها بواسطة أعماله الخاطئة والسيئة، ولذلك لا تتنافى اطلاقاً مع إرادة الإنسان وحريته.

الآية التالية تقارن بين مجموعة من الظالمين والمجرمين، ومجموعة من المؤمنين الذين استتعرضت أوضاعهم فيما قبل، وذلك كي تجعل الحقيقة أكثر وضوحاً في هذه المقارنة، إذ تقول: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة)(1)كمن هو آمن في ذلك اليوم ولا تمسّه النّار أبداً؟!.

الملاحظة التي ينبغي الإلتفات إليها، هي قوله تعالى: (يتقي بوجه سوء العذاب) وكما هو معروف فإنّ الوجه أشرف أعضاء جسم الإنسان، لأنّ فيه (العينان والفم والأذنان) التي هي أهم حواسّ الإنسان، وأساساً فإنّ تشخيص الإنسان إنّما يتمّ عن طريق وجهه، ولهذاه الخصائص الموجودة في الوجه، فإنّ

____________________________________

1 ـ هذه العبارة فيها محذوف، التقدير (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن لا تمسه النار).

[68]

الإنسان عندما يحسّ أنّ هناك خطراً سيصيب وجهه، فإنّه يضع يديه وما يمكن من أعضاء جسمه أمام وجهه كدرع لدرء ذلك الخطر.

إلا أن أوضاع الظالمين في جهنم في ذلك اليوم تجبرهم على استخدم وجوههم كوسيلة دفاعية، لأنّ أيديهم وأرجلهم مقيدة بالسلاسل، كما ورد في الآية (8) من سورة يس: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون).

قال البعض: بما أنّ أهل جهنم يرمون على وجوههم في النّار، لذا فإنّ الوجه هو أوّل عضو من أعضا الجسم يحترق في نار جهنم، كما ورد في الآية (90) من سورة النمل: (من جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار).

والبعض الآخر قال: إنّ هذه العبارة كناية عن عجز أهل جهنم من الدفاع عن أنفسهم مقابل نار جهنم.

التفاسير الثلاثة ـ هذه ـ لا تتعارض مع بعضها، ويمكن أن تعطي جميعها مفهوم الآية.

ثم تضيف نهاية الآية: (وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون).

نعم، إنّ ملائكة العذاب هي التي توضح لهم هذه الحقيقة المرّة والمؤلمة، إذ يقولون لهم: إنّ أعمالكم ستبقى معكم وستعذبكم، وهذا التوضيح هو تعذيب روحي آخر لهؤلاء.

وممّآ يلفت النظر أنّ هذه العبارة لا تقول: ذوقوا عقاب ما كنتم تكسبون، وإنّما تقول لهم: ذوقوا ما كنتم تكسبون، وهذا شاهد آخر على مسألة تجسيد الأعمال يوم القيامة.

إنّ ما قيل لحدّ الآن هو إشارة بسيطة لعذابهم الأليم في يوم القيامة، و الآية التالية تتحدّث عن العذاب الدنيوي لهؤلاء، كي لا يتصور أحد أنّه يعيش في أمان بهذه الدنيا، قال تعالى: (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث

[69]

 لا يشعرون).

فالإنسان لا يتألم كثيراً إن أُصيب بضربة كان يتوقعها، إلاّ أنّه يتألم كثيراً إن وجهت إليه ضربة من طرف لم يتوقع أن تصدر منه، كأن تصدر عن أقرب أصدقائه، أو يلحق به أذى من أُمور حيوية جداً ومحبوبة له كالماء الذي هو مصدر حياة الإنسان، أو من نفحة النسيم التي هي مصدر نشاطه، أو من الأرض الهادئة التي هي مقر استراحته وأمنه.

نعم، إنّ نزول العذاب الإلهي بواسطة هذه الطرق يعدّ أمراً مؤلماً جدّاً، كالذي أصاب قوم نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون وقارون وأمثالهم، إذ لم يكن أي أحد منهم يتوقع أن يصيبه العذاب بواسطة إحدى الطرق المذكورة أعلاه.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تبيّن أنّ عذاب هؤلاء الدنيوي لا يقتصر على العذاب الجسدي، وإنّما يشتمل أيضاً على عقوبات نفسية: (فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا)(1).

نعم، فإن أُصيب الإنسان بمصيبة في هذه الدنيا، ثمّ خرج منها مرفوع الرأس حافظاً لماء وجهه، فهذه الحالة ليست بعار وخزي على الإنسان، إنّما العار والخزي للإنسان الذي يخرج من هذه الدنيا رذيلا وذليلا، ومبتلىً بعذاب فاضح يريق ماء وجهه، (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).

كلمة (أكبر) كناية عن شدّة العذاب وقسوته.

* * *

 بحث

وردت عدّة روايات في ذيل الايات مورد البحث تجسّم أمامنا آفاقاً أوسع مهما يفهم من الآية.

____________________________________

1 ـ كلمة (خزي) تعني الذلّ و الهوان كما تعني الفضيحة (يراجع لسان العرب).

[70]

إذ نقل العباس عم النّبي، حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)جاء فى، «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها»(1). ومن الواضح أن الشخص الذي يخشى الله ويتأثر من ذلك الى هذه الدرجة لابدّ أن تتوفر فيه حالة التوبة والانابة، ومثل هذا الشخص سيكون مورداً لعفو الله ومغفرته حتماً.

وروي عن (أسماء) إذ قالت عندما سئلت عن أصحاب رسول الله فقالت: (كان أصحاب النّبي حقاً إذا قرىء عليهم القرآن ـ كما نعتهم الله ـ تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم). وأضاف الراوي: سئلت أسماء: هل عندنا أحد يغمى عليه أو يفقد الوعي عندما يسمع آيات القرآن المجيد، فأجابت أسماء: أعوذ بالله تعالى من الشطان، (أي إنّه من عمل الشيطان)(2).

هذا الحديث ـ في الحقيقة ـ جواب لأُولئك المتصوفة الذين يعقدون الإجتماعات والحلقات، ويقرأون فيها بعض الآيات والأذكار، ثمّ يقومون ببعض الحركات بعنوان حالة الوجد والسرور، ثمّ يشرعون بإطلاق بعض الصيحات وإظهار أنفسهم وكأنّهم قد أُغشي عليهم، ويحتمل أن البعض يغشى عليه فعلا. مثل هذه الأُمور لم ينقلها أحد أبداً بشأن أصحاب الرّسول، وما هي إلاّ بدعة ابتدعها المتصوفة.

وبالطبع يمكن أن يندهش الإنسان أحياناً وقد يغشى عليه من شدّة خوفه من الباريء عزّوجلّ، وهذا الأمر يختلف كثيراً عن ممارست الصوفيين الذين يعقدون الحلقات للذكر التي ذكرناها آنفاً.

 * * *

____________________________________

1 ـ (مجمع البيان) ذيل آيات البحث، كما نقل هذه الرواية أبو الفتوح الرازي و القراطبي مع شيء من الإختلاف.

2 ـ أورد الآلوسي هذا الحديث في روح المعاني، المجلد 23، الصفحة 235، كما أورده بعض المفسّرين في ذيل الآية.

[71]

الآيات

وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلِ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( 27 ) قُرْءَاناً عَرَبِيَّاً غَيْرَ ذِى عِوَج لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 28 )ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِّرَجُل هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ ِللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 29 )إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُم مَّيِّتُونَ( 30 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ( 31 )

 

التّفسير

قرآن لا عوج فيه:

الآيات ـ هناـ تبحث خصائص القرآن المجيد أيضاً، وتكمل البحوث السابقة في هذا المجال.

ففي البداية تتحدّث عن مسألة شمولية القرآن، إذ تقول الآية الكريمة: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل).

حيث تمّ فيه شرح قصص الطغاة والمتمردين الرهيبة، وعواقب الذنوب الوخيمة، ونصائح ومواعظ، وأسرار الخلق ونظامه، وأحكام وقوانين متينة.

[72]

وبكلمة أنّه وضح فيه كلّ ما هو ضروري لهداية الإنسان على شكل أمثال، لعلهم يتذكرون ويعودون من طريق الضلال إلى الصراط المستقيم (لعلهم يتذكرون).

وممّا يذكر أنّ «المثل» في اللغة العربية هو الكلام الذي يجسّم الحقيقة، أو يصف الشيء، أو يشبه الشيء بشيء آخر، وهذه العبارة شملت كلّ حقائق ومواضيع القرآن، وبيّنت شموليته.

ثم تتطرق الآية إلى وصف آخر للقرآن، إذ تقول: (قرآناً عربياً غير ذي عوج)(1).

في الحقيقة، تمّ هنا ذكر ثلاث صفات للقرآن:

الأُولى كلمة (قرآناً) التي هي إشارة إلى حقيقة أنّ الآيات الكريمة ستبقى تتلى دائماً، في الصلاة وفي غير أوقات الصلاة، في الخلوات وفي أوساط الناس، وعلى طول التاريخ الإسلامي حتى قيام الساعة، وبهذا الترتيب فإن آيات القرآن ستبقى نور الهداية المضيء على الدوام.

الصفة الثانية هي فصاحة وحلاوة وجاذبية هذا الكلام الإلهي، الذي عبّر عنه بـ (عربياً) لأنّ إحدى معاني العربي هي الفصاحة، والمقصود منه هنا هذا المعنى.

الصفة الثّالثة، ليس فيه أي إعوجاج، فآياته منسجمة، وعباراته ظاهرة ويفسّر بعضها البعض(2).

الكثير من اللغويين وأصحاب التّفسير قالوا: إنّ (عوج) (بكسر العين) تعني الإنحرافات المعنوية، في حين أنّ (عوج) بفتح العين، تعني الإعوجاج الظاهر. ومن النادر استعمال العبارة الأولى في الإعوجاج الظاهري، ما في الآية (107) من سورة طه: (لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً) لهذا فإنّ بعض اللغويين يعتبرونها أكثر

____________________________________

1 ـ الموقع الإعرابي لقوله تعالى: (قرآناً عربياً) حال لـ (القرآن) التي ذكرت من قبل، و لكون كلمة (قرآناً) لا تحمل طابع الوصف فقد قال البعض: إنّها توطئة للحال الذي هو (عربياً) و ذهب البعض الى آنها بمعنى (مقرؤاً) وتعطي معنى الوصف، والبعض قال: إنّها منصوبة على المدح بتقدير فعل.

2 ـ كلمة (عوج) جاءت بصورة نكرة في سياق النفي، و تعطي معنى النفي العام لعدم لوجود أي انحراف و انعطاف في القرآن.

[73]

عمومية(1).

وعلى أية حال، فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم ـ بكل هذه الصفات التي ذكرناهاـ هو (لعلهم يتقون).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية السابقة انتهت بعبارة: (لعلهم يتذكرون)وهنا انتهت بعبارة: (لعلهم يتقون) لأنّ التذكّر يكون دائماً مقدّمة للتقوى و«التقوى» هي ثمرة شجرة «التذكر».

ثمّ يستعرض القرآن المجيد أحد الأمثال التي ضربت ليرسم من خلاله مصير الموحّد والمشرك، وذلك ضمن إطار مثل ناطق وجميل، إذ يقول: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون)(2).

أي إنّ هناك عبداً يمتلكه عدّة أشخاص، كلّ واحد منهم يأمره بتنفيذ أمر معين، فهذا يقول له: نفذ العمل الفلاني، والآخر ينهاه عن تنفيذ ذلك العمل، وهو في وسطهم كالتائه الحيران، لا يدري أي أمر ينفّذ، فالأمران متناقضان ومتضادان، ولا يدري أيّاً منهما يرضيه؟

والأدهى من كلّ ذلك أنّه عندما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته، يرميه على الآخر، والآخر يرميه على الأوّل، وهكذا يبقى محروماً محتاجاً عاجزاً تائهاً. وفي مقابله هناك رجل سلم لرجل واحد (ورجلا سلماً لرجل).

فهذا الشخص خطه ومنهجه واضح، وولي أمره معلوم فلا تردد ولا حيرة ولا تضاد ولا تناقض، يعيش بروح هادئة ويخطو خطوات مطمئنة، ويعمل تحت رعاية فرد يدعمه في كلّ شيء وفي كلّ أمر وفي كلّ مكان. فهل أنّ هذين الرجلين متساويان (هل يستويان مثلا).

____________________________________

1 ـ يراجع (مفردات الراغب) و(لسان العرب) وغيرها من التفاسير.

2 ـ «متشاكسون» : أصلها من (شكاسة) و تعني سوء الخلق و التنازع و الإختصام، و لهذا يقال «متشاكس» لمن يتخاصم ويتنازع بعصبية و سوء خلق.

[74]

هذا المثال ينطبق على (المشرك) و (الموحد) فالمشرك يعيش في وسط المتضادات والمتناقضات، وكل يوم يتعلق قلبه بمعبود جديد، فلا استقرار في حياته ولا اطمئنان ولا مسير واضح يسلكه. أما الموحّدون فإنّهم يعشقون الله وحده، وفي كلّ الأحوال يلجؤون إلى ظلّ لطفه، ولا تنظر عيونهم إلى سواه، فطريقهم ونهجهم واضح، ومصيرهم ونهايتهم واضحة أيضاً.

وجاء في حديث لأمير المؤمنين عليه السلام «أنا ذاك الرجل السلم لرسول الله»(1).

وورد في حديث آخر عنه أيضاً «الرجل السلم للرجل حقاً علىّ وشيعته»(2).

وفي نهاية الآية يقول تعالى: (الحمد للّه) فاللّه سبحانه وتعالى بذكره لتلك الأمثال يرشدكم إلى أفضل السبل، ويضع تحت تصرفكم أوضح الدلائل لتشخيص الحقّ عن الباطل، فالبايء عزّوجلّ يدعو الجميع إلى الإخلاص و في ظل الاخلاص تكون السكينة والراحة، فهل هناك نعمة أفضل من هذه، وهل هناك أمر آخر يستحق الحمد والشكر أكثر من هذه النعمة؟!

ولكن أكثرهم لا يعلمون رغم وجود هذه الدلائل الساطعة، إذ أنّ حبّ الدنيا والشهوات الطاغية عليهم يجعلهم يضلون عن طريق الحقيقة: (بل أكثرهم لا يعلمون).

وتتمّة لبحث الآيات السابقة بشأن التوحيد والشرك، تتحدث الآية التالية عن نتائج الشرك والتوحيد في موقف القيامة.

إذ تبدأ بمسألة الموت الذي هو بوابة القيامة، وتبيّن لكلّ البشرية أنّ قانون الموت عامّ وشامل للجميع: (إنّك ميت وإنّهم ميتون)(3).

____________________________________

1 ـ نقله (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) في شواهد التنزيل.

2 ـ نقله العياشي في تفسيره مجمع اليبان، ذيل آيات البحث.

3 ـ عبارة (إنّك ميت و إنّهم ميتون) على الظاهر تعطي معنى موت الجميع في الوقت الحاضر، و هي من قبيل (المضارع المتحقق الوقوع) الذي يأتى أحياناً بصورة حال و أحياناً اُخرى بصورة الماضي.

[75]

نعم، فالموت من الأمور التي تشمل جميع الناس، ولا يستثنى منه أحد، فهو طريق يجب أن يمرّ به الجميع في نهاية المطاف.

قال بعض المفسّرين: إنّ أعداء رسول الله كانوا ينتظرون وفاته، وكانوا في نفس الوقت فرحين مسرورين لكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يموت في نهاية الأمر، فالقرآن ـ هناـ أجابهم بالقول: إن مات رسول الله فهل تبقون أنتم خالدين، هذا ما نصت عليه الآية (34) من سورة الأنبياء: (أفإن مت فهم الخالدون).

ثم ينتقل البحث إلى محكمة يوم القيامة، ليجسم المجادلة بين العباد في ساحة المحشر، (ثم إنّكم يوم القيامة عند ربّكم تختصمون).

«تختصمون»: مشتقّة من (اختصام) وتعني النزاع والجدال بين شخصين أو مجموعتين تحاول كل، منهما تفنيد كلام الأخر، فأحياناً يكون أحدهم على حقّ والآخر على باطل، وأحياناً يكون الاثنان على باطل، كما في مجادلة ومخاصمة أهل النّار فيما بينهم، وقد اختلف المفسّرون في كون هذا الحكم عاماً أم لا.

قال البعض: إنّ المخاصمة تقع بين المسلمين والكفار.

وقال البعض الآخر: إنّها تقع بين المسلمين أنفسهم،وفي رواية عن أبي سعيد الخدري قال: لم يكن أحد فينا يفكر في أن يقع خصام فيما بين المسلمين، وكنّا نقول: كيف نختصم نحن وربّنا واحد، ونبيّنا واحد وديننا واحد؟ فلما كان يوم صفين وشدّ الفريقان الذين كانا مسلمين (حيث كان أحدهما مسلماً حقيقياً والآخر يدعي الإسلام) بالسيوف على بعضهما البعض، قلنا: نعم، الآية تشملنا نحن أيضاً(1).

ولكن الآيات التالية تبيّن أنّ المخاصمة تقع بين الأنبياء والمؤمنين من جهة، والمشركين المكذبين من جهة اُخرى.

لمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عمر بن الخطاب; فقال: إنّ رجالا من المنافقين

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد8، الصحفحة 497.

[76]

يزعمون أنّ رسول الله قد توفّي والله رسول اللّه ما مات، ولكنّه ذهب الى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات; ووالله ليرجعنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات؟.

وقال الرّاوي: وأقبل أبوبكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلّم الناس، فلم يلفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت عائشة، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مسجّى في ناحية البيت، عليه بُرد حبرة؟، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ قال الراوي: قال أبوبكر: على رسلك يا عمر أنصت فأبى إلاّ أن يتكلم ثمّ تلا أبوبكر هذه الآية: (وما محمد إلاّ رسول).

قال الرّاوي: فوالله لكأنّ الناس يعلموا أنّ هذه الآية ما نزلت حتى تلا أبو بكر ثمّ قال عمر: والله ما هو إلاّ أن سمعت أبابكر تلاها فعفرت(1) حتى وقعت إلى الارض ما تحملني رجلاي(2).

 

* * *

 ____________________________________

1 ـ 1ـ غفرت: وحشت

2 ـ سيرة ابن هشام، المجلد الرابع، الصفحات 305 و 306، نقلا عن الكامل لابن الأثير، المجلد الثّاني، الصفحة 323 و 324، مع شيء من التلخيص.

[77]

 

بداية  الجزء الرابعْ والعشرون

 مِنَ

القُرانُ الكريمْ

                                            [78] 

[79]

الآيات

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللهِ وَ كَذَّبَ بِالْصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوىً لِّلْكَـفِرِينَ( 32 ) وَ الَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ( 33 ) لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الـمُحْسِنِينَ( 34 ) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ( 35 )

 

التّفسير

أولئك الذين يصدقون كلام الله:

هذه الآيات تواصل البحث الخاصّ بموقف الناس في ساحة المحشر، وتخاصمهم في تلك المحكمة الكبرى، وتقسم آيات بحثنا إلى مجموعتين هما (المكذبون) و (المصدقون).

والقرآن الكريم يعطي صفتين لأصحاب المجموعة الأولى، أي «المكذبين»،قال تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه).

الكافرون والمشركون يكذبون كثيراً على الباريء عزّوجلّ، فأحياناً يعتبرون الملائكة بنات الله، وأحياناً يقولون: عيسى هو ابن الله، وأحياناً اُخرى

[80]

يعتبرون الأصنام شفعاء لهم عند الله، وأحياناً يبتدعون أحكاماً كاذبة في الحلال والحرام وينسبونها إلى الله، وما شابه ذلك.

وأمّا الكلام الصادق الذي أنزل إليهم وكذّبوه فهو القرآن المجيد.

خاتمة الآية تبيّن في جملة قصيرة جزاء أمثال هؤلاء الأفراد، قال تعالى: (أليس في جهنم مثوى الكافرين)(1).

أمّا المجموعة الثّانية فقد وصفها القرآن الكريم بوصفين، إذ قال: (و الذي جاء بالصدق وصدق به أُولئك هم المتقون).

فبعض الرّوايات الواردة عن أئمّة الهدى(عليهم السلام) فسّرت: (والذي جاء بالصدق)بأنّها تعود على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و (صدق به) تعود على علي(عليه السلام)(2)، وبالطبع فإن المقصود من ذلك هو بيان مصداقية الآية، لأنّ عبارة: (أُولئك هم المتقون)دليل على شمولية الآية.

ومن هنا يتّضح أنّ تفسير الآية المذكورة أعلاه بأن المراد شخص  رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو مهبط الوحي و المصدق به في نفس الوقت، فهو أيضاً من قبيل بيان مصداق الآية وليس بيان المفهوم العام لها.

لذلك فإنّ مجموعة من المفسّرين فسّروا عبارة قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق)بأنّه يعني كلّ الأنبياء و (صدق به)يعني أتباعهم الحقيقيين، وهم المتقون.

وهناك تفسير آخر للآية، لكنّه أوسع وأكثر شمولية من التفاسير الأُخرى، رغم أنّه لم يحظ كثيراً باهتمام المفسّرين، لكنّه أكثر انسجاماً مع ظاهر الآيات، والتّفسير هو أن (الذي جاء بالصدق) ليس منحصراً في الرّسل فقط، وإنّما يشمل كلّ الذين يبلغون نهج الأنبياء ويروجون كلام الله، وفي هذه الحالة فلا يوجد أي

____________________________________

1 ـ «مثوى» : من مادة (ثواء) و تعني الإقامة المستمرة في مكان ما ولهذا فإنّ (مثوى) هنا تعني المكان والمنزل الدائم.

2 ـ مجمع البيان ذيل آيات البحث.

[81]

مانع من القول بأن العبارتين تنطبقان على مجموعة واحدة (كما يوضح ذلك ظاهر الآية، لأنّ ضمير (والذي ذكر مرّة واحدة فقط).

وبهذا الشكل فإنّ الآية تتحدّث عن أناس هم من حملة الرسالة و من العاملين به، وتتحدّث عن أولئك الذين ينشرون في العالم ما ينزل به الوحي من كلام الباريء عزّوجلّ وهم يؤمنون به ويعملون به، وهكذا فإنّ الآية تضم الأنبياء والأئمّة المعصومين والدعاة لنهج الأنبياء.

والملفت للنظر أنّ الاية عن الوحي «بالصدق» وهو اشارة إلى أن الكلام الوحيد الذي لا يحتمل وجود الكذب والخطأ فيه هو كلام الله الذي نزل به الوحي، فإن سار الإنسان في ظلّ تعليمات نهج الأنبياء وصدقها فإنّ التقوى سوف تتفتح في داخل روحه.

الآية التالية تبيّن أنّ هناك ثلاث مثوبات بانتظار أفراد هذه المجموعة، أي المصدقين، إذ تقول في البداية: (لهم ما يشاؤون عند ربّهم ذلك جزاء المحسنين).

لهذه الآية مفهوم واسع بحيث يشمل كلّ النعم المادية والمعنوية التي يمكن تصورها والتي لا يمكن تصورها.

وعلى ضوء هذه الآية يطرح البعض السؤال التالي: إذا طلب أحدهم أن يكون مقامه أرفع من مقام الأنبياء والأولياء، فهل يعطى ذلك؟

علينا أن لا نغفل عن كون أهل الجنّة يدركون عين الحقيقة، ولهذا لا يفكر أحد منهم بأمر يخالف الحقّ والعدالة، ولا يتناسب مع أساس توازن اللياقات والكفاءات.

بعبارة اُخرى: لا يمكن أن يحصل أشخاص لهم درجات مختلفة في الإيمان والعمل على نفس الجزاء، فكيف يأمل أصحاب الجنّة في تحقيق أشياء مستحيلة؟! وفي نفس الوقت فإنّهم يعيشون في حالة روحية خالية من الحسد والغيرة، وهم راضون بما رزقوا به.

[82]

وكما هو معلوم فإنّ المكافاة الإلهية في الآخرة وحتى التفضيل الإلهي للبعض دون البعض الآخر إنّما يتمّ على أساس اللياقة التي حصل عليها الإنسان في هذه الدنيا، فالذي يعرف أنّ إيمانه وعمله في هذه الدنيا لم يصل إلى درجة إيمان وعمل الأُخرين لا يأمل يوماً ما أن يكون بمرتبتهم، لإنّ ذلك أمل ورجاء غير منطقي.

وعبارة: (عند ربّهم) تبيّن عدم انقطاع اللطف الإلهي عن أُولئك وكأنّهم ضيوف الله على الدوام، وكلّ ما يطلبونه يوفر لهم.

وعبارة: (ذلك جزاء المحسنين) أقيم فيها الظاهر مقام ضمير الإشارة، اشارة الى أن إحسانهم وعملهم الصالح كانا سبباً في حصولهم على الأجر المذكور.

أمّا المكافأتان الثانية والثّالثة اللتان يمنحهما الباريء عزّوجلّ للمصدقين، فيقول القرآن المجيد بشأنهما: (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون)(1).

كم هي عبارة جميلة ولطيفة! فمن جانب يدعون الله سبحانه وتعالى ليكّفر عنهم أسوأ ما عملوا بظلّ لطفه، ويطهرهم من تلك البقع السوداء بماء التوبة، ومن جهة اُخرى يدعون الله ليجعل أفضل وأحسن أعمالهم معياراً للمكافأة، وأن يجعل بقية أعمالهم ضمن ذلك العمل.

إنّ ما يتّضح من الآيات الكريمة هو أنّ الله استجاب لدعواهم، عندما غفر لهم وعفا عن أسوأ أعمالهم، وجعل أفضل الأعمال معياراً للمكافأة.

من البديهي، عندما يشمل العفو الألهي الزلاّت الكبيرة، فإنّ الزلات الصغيرة أولى بالشمول، لأنّ الزلات الكبيرة هي التي تقلق الإنسان أكثر من أيّ شيء آخر،

____________________________________

1 ـ في عودة قوله تعالى: (ليكفر الله عنهم) ذكر المفسّرون آراء شتى بهذا الشأن و لكن التّفسير الذي يبدو أنسب هو أنّها تعود على الفعل (أحسنوا) و يفهم ذلك من كلمة المحسنين، و التقدير (ذلك جزاء المحسنين أحسنوا ليكفر الله عنهم) نعم إنّهم عمدوا إلى عمل الإحسان كي يكفر الله عهم سيئاتهم و يغفر زلاتهم و يعطيهم أفضل الثواب.

[83]

ولهذا السبب فإنّ المؤمنين كثيراً ما يفكرون بها.

وثمة سؤال يطرح نفسه هنا: إذا كانت الآيات السابقة تخص الأنبياء والمؤمنين من أتباعهم، فكيف اقترف هؤلاء تلك الزلات الكبيرة؟

الجواب على هذا السؤال يتّضح من خلال الإنتباه إلى أنّه عندما ينسب عمل ما إلى مجموعة، فهذا لا يعني أنّ الجميع قاموا بذلك العمل، وإنّما يكفي أن تقوم به مجموعة صغيرة منهم، فمثلا عندما نقول: إن بني العباس خلفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)من دون أيّ حق، فإنّ هذا لا يعني أنّ الكل اعتلوا كرسي الخلافة، وإنّما مجموعة منهم.

الآية المذكورة أعلاه تبيّن أنّ مجموعة من حملة الرسالة وأتباع نهجهم كانوا قد ارتكبوا بعض الأخطاء والزلاّت، وأنّ الباريء عزّوجلّ صفح عنهم وغفر لهم بسبب أعمالهم الصالحة والحسنة. على أيّة حال فإنّ ذكر الغفران والصفح قبل ذكر الثواب، يعود إلى هذا السبب، وهو أنّ عليهم في البداية أن يغتسلوا ويتطهروا، ومن ثمّ الورود الى مقام القرب الالهي. يجب عليهم في البداية أن يريحوا أنفسهم من العذاب الإلهي كي يتلذذوا بنعم الجنّة.

* * *

 

مسألة

الكثير من المفسّرين المسلمين من الشيعة والسنة نقلوا الرّواية التالية بشأن تفسير هذه الآية، وهي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو المقصود في (والذي جاء بالصدق) وأن الإمام علي (عليه السلام)هو المقصود في (صدّق به).

المفسّر الإسلامي الكبير العلاّمة «الطبرسي» نقل ذلك في تفسيره (مجمع البيان) عن أهل البيت الأطهار، ونقلها كذلك أبو الفتوح الرازي في تفسير (روح الجنان) عن نفس المصدر السابق. كما نقلت مجموعة من المفسّرين السنة ذلك عن أبي هريرة نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن طرق اُخرى، ومن جملة من نقله

[84]

العلاّمة ابن المغازلي في (المناقب) و (العلاّمة الگنجي) في (كفاية الطالب) والقرطبي في تفسيره والعلاّمة السيوطي في (الدر المنثور) وكذلك (الآلوسي) في (روح المعاني)(1).

ومثلما أشرنا من قبل فإنّ نقل مثل هذه التفاسير هو بيان أوضح المصاديق، ومن دون أيّ شكّ فإنّ الإمام عليّ(عليه السلام) يقف في مقدمة الصفّ الأوّل لأتباع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمصدّقين به، وإنّه هو أول من صدّق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يوجد أحد من العلماء من ينكر هذه الحقيقة.

والإعتراض الوحيد الذي صدر عن بعض المفسّرين هو أنّ الإمام علي(عليه السلام)آمن بالرّسول وكان عمره ما بين (10) إلى (12) عاماً، وأنّه لم يكن مكلّفاً في هذا السّن ولم يبلغ بعد سنّ الحلم.

هذا الكلام عجيب جدّاً، فكيف يمكن أن يكون مثل هذا الإعتراض صحيحاً، في الوقت الذي قبل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إسلام علي(عليه السلام)، وقال له بأنّه (وزيره) و (وصيه) وأكّد مراراً وتكراراً في كلماته على أنّ علياً هو (أول المؤمنين) أو (أوّلكم إسلاماً) وقد أوردنا في نهاية الآية (10) من سورة التوبة أدلة متعددة من كتب علماء أهل السنة وبصورة مفصلة.

 

 

* * *

____________________________________

1 ـ لمن يرغب الإطلاع أكثر عليه مراجعة كتاب إحقاق الحق، المجلد الثّالث ، الصحفة 177 فما بعد، و كتاب المراجعات، الصفحة 64 (المراجعة 12).

[85]

الآيتان

أَلَيْسَ اللهُ بِكَاف عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُظْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد( 36 ) وَ مَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيز ذِى انْتِقَام( 37 )

 

سبب النّزول

الكثير من المفسّرين قالوا: إنّ مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)من آلهتهم ويحذرونه من غضبها على أثر وصفه تلك الأوثان بأوصاف مزرية، ويوعدونه بأنّه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى، وللرد على كلامهم نزلت الآية المذكورة أعلاه(1).

والبعض قال: عندما عزم خالد على كسر العزى بأمر من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال المشركون: إياك يا خالد فبأسها شديد. فضرب خالد أنفها بالفأس وهشمها وقال: كفرانك يا عزى لا سبحانك، سبحان من أهانك، إنّي رأيت الله قد أهانك(2).

ولكن قصة خالد هذه التي كانت بعد فتح مكّة كما يبدو، لا يمكن أن تكون سبباً لنزول الآية لأنّ كلّ سورة الزمر (مكية) ولهذا لعلها من قبيل التطابق.

____________________________________

1 ـ تفسير الكشاف ومجمع البيان وأبو الفتوح الرازي وفي ظلال مع اختلافات جزئية.

2 ـ مجمع البيان ذيل آيات البحث (هذه الرواية وردت أيضأ في الكشاف والقرطبي و بصورة مختصرة).

[86]

التّفسير

إن الله كاف!

تتمة لتهديدات الباريء عزّو جلّ التي وردت في الآيات السابقة للمشركين، والوعد التي لأنبيائه، تتطرق الآية الأولى في بحثنا لتهديد الكفّار (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه).

إن قدرة الباريء عزّوجلّ أقوى وأعظم من كلّ القدرات الأُخرى، وهو الذي يعلم بكلّ احتياجات ومشكلات عباده، والذي هو رحيم بهم غاية الرحمة واللطف، كيف يترك عباده المؤمنين لوحدهم أمام أعاصير الحوادث وعدوان بعض الأعداء؟

ومع أن سبب نزول هذه الآية ـ طبقاً لما جاء في الرّوايات التي ذكرناهاـ هو للرد على التخويف والتهديد بغضب الأصنام، لكن معنى الآية أوسع، ويتّسع لكلّ تهديد يهدد به الإنسان بما هو دون الله.

على أية حال، فإنّ في هذه الآية بشرى لكلّ السائرين في طريق الحقّ والمؤمنين الحقيقيين، خاصّة أُولئك الذين يعيشون أقلية في بعض المجتمعات، والمحاطين بمختلف أشكال التهديد من كلّ جانب.

الآية تعطيهم الأمل والثبات، وتملأ أرواحهم بالنشاط وتجعل خطواتهم ثابتة، وتمحو الآثار النفسية لصدمات تهديدات الأعداء، نعم فعندما يكون الله معنا فلا نخاف غيره، وإن انفصلنا وابتعدنا عنه فسيكون كلّ شيء بالنسبة لنا رهيباً ومخيفاً.

وكتتمة للآية السابقة والآية التالية اشارة إلى مسألة (الهداية) و (الضلالة) وتقسم الناس إلى قسمين: (ضالين) و (مهتدين) وكل هذا من الله سبحانه وتعالى، كي تبيّن أنّ جميع العباد محتاجون لرحمته، ومن دون إرادته لا يحدث شيء في هذا العالم، قال تعالى: (ومن يظلل الله فما له من هاد).

[87]

(ومن يهد الله فما له من مضل).

ومن البديهي أنّ الضلالة لا تأتي من دون سبب، وكذلك الهداية بل إن كلّ حالة منهما هي استمرار لإرادة الإنسان وجهوده، فالذي يضع قدمه في طريق الضلال، ويبذل أقصى جهوده من أجل إطفاء نور الحقّ، ولايترك أدنى فرصة تتاح له لخداع الآخرين وإضلالهم، فمن البديهي أنّ الله سيضله، ولا يكتفي بعدم توفيقه وحسب، وإنّما يعطّل قوى الإدراك والتشخيص التي لديه عن العمل، ويوصد قلبه الأقفال ويغطي عينيه بالحجب، وهذه هي نتيجة الأعمال التي ارتكبها.

أمّا الذين يعزمون على السير إلى الله سبحانه وتعالى بنوايا خالصة، ويخطون الخطوات الأولى في هذا المسير، فإنّ نور الهداية الإلهية يشعّ لينير لهم الطريق، وتهبّ ملائكة الرحمن لمساعدتهم ولتطهير قلوبهم من وساوس الشياطين، فتكون إرادتهم قوية، وخطواتهم ثابتة، واللطف الإلهي ينقذهم من الزلاّت.

وقد وردت آيات كثيرة في القرآن المجيد كشاهد على تلك القضايا، وما أشدّ جهل الذين فصلوا بين مثل هذه الآيات وبقية آيات القرآن واعتبروها شاهداً على ما ورد في المذهب الجبري، وكأنّهم لا يعلمون أن آيات القرآن تفسّر إحداها الأُخرى. بل إن القرآن الكريم بقول في نهاية هذه الآية: (أليس الله بعزيز ذي انتقام)وهو خير شاهد على هذا المعنى.

وكما هو معروف فإنّ الإنتقام الإلهي هو بمعنى الجزاء على الأعمال المنكرة التي اقترفها الإنسان، وهذا يشير إلى أن إضلاله سبحانه وتعالى للإنسان هو بحدّ ذاته نوع من أنواع الجزاء وردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه، وبالطبع فإن هدايته سبحانه وتعالى للإنسان هي بحد ذاتها نوع أنواع الثواب، وهي ردّ فعل للأعمال الصالحة والخالصة التي يقوم بها الإنسان(1).

* * *

____________________________________

1 ـ يقول الراغب في مفرداته: كلمة (نقمة) تعني العقوبة و الجزاء.

[88]

بحثان

1 ـ الهداية و الإضلال من الله:

«الهداية»: في اللغة تعني التوجيه والإرشاد بلطف ودقّة(1)، وتنقسم إلى قسمين (بيان الطريق)، و (الإيصال إلى المطلوب) وبعبارة اُخرى (هداية تشريعية) و (هداية تكوينية)(2).

ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الإنسان يصف أحياناً الطريق للسائل بدقّة ولطف وعناية ويترك السائل معتمداً على الوصف في قطع الطريق والوصول إلى المقصد المطلوب. وأحياناً اُخرى يصف الإنسان الطريق للسائل ومن ثمّ يمسك بيده ليوصله إلى المكان المقصود.

وبعبارة اُخرى: الشخص المجيب في الحالة الأولى يوضّح القانون وشرائط سلوك الطريق للشخص السائل كي يعتمد الأخير على نفسه في الموصول إلى المقصد والهدف، أمّا في الحالة الثانية، فإضافة إلى ما جاء في الحالة الأولى، فإنّ الشخص المجيب يهيء مستلزمات السفر، ويزيل الموانع الموجود، ويحلّ المشكلات، إضافة إلى أنّه يرافق الشخص السائل في سلوك الطريق حتّى الوصول إلى مقصده النهائي لحمايته والحفاظ عليه.

و (الإضلال) هو النقطة المقابلة لـ (الهداية).

فلو ألقينا نظرة عامة على آيات القرآن لاتضح لنا ـ بصورة جيدة ـ أنّ القرآن يعتبر أنّ الظلالة والهداية من الله، أي أن الاثنين ينسبان إلى الله، ولو أردنا أن نعدد كل الآيات التي تتحدث بهذا الخصوص، لطال الحديث كثيراً، ولكن نكتفي بذكر ما جاء في الآية (213) من سورة البقرة: (والله يهدي من يشاء إلى صراط

____________________________________

1 ـ «مفردات» مادة (هدى).

2 ـ نلفت الإنتباه إلى أن الهداية التكوينية هنا قد استخدمت بمعناها الواسع، حيث تشمل كلّ أشكال الهداية عدا الهداية التي تأتي عن طريق بيان الشرائع و التوجيه إلى الطريق.

[89]

مستقيم)وفي الآية (93) من سورة النحل: (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء). وأمثال هذه الإيات ـ الخاصة بالهداية أو الضلال أو أحدهماـ ورد في آيات كثيرة من القرآن المجيد(1).

وأكثر من هذا، فقد جاء في بعض الآيات نفي قدرة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) على الهداية وتحديد القدرة على الهداية بالله سبحانه وتعالى، كما ورد في الآية (56) من سورة القصص: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). وفي الآية (272) من سورة البقرة: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).

الدراسة السطحية لهذه الآيات وعدم إدراك معانيها العميقة أدى الى زيغ البعض خلال تفسيرهم لها وانحرافهم عن طريق الهداية ووقوعهم في فخاخ المذهب الجبري، حتّى أنّ بعض المفسّرين المعروفين لم ينجوا من هذا الخطأ الكبير، حيث اعتبروا الضلالة والهداية وفي كلّ مراحلها أمراً جبرياً، والأدهى من ذلك أنّهم أنكروا أصل العدالة كي لا ينتقض رأيهم، لأنّ هناك تناقضاً واضحاً بين عقيدتهم وبين مسألة العدالة والحكمة الإلهية، فاذا كنا أساساً نقول بالجبر، فلا يبقى هناك داع للتكليف والمسؤولية وإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.

أمّا المعتقدون بمذهب الإختيار وأن الإنسان مخير في هذه الدنيا ـ وأن العقل السليم لا يقبل مطلقاً بأن الله سبحانه وتعالى يجبر مجموعة من الناس على سلوك سبيل الضلال ثمّ يعاقبهم على عملهم ذلك، أو أنّه يهدي مجموعة اُخرى إجبارياً ثم يمنحها ـ من دون أي سبب ـ المكافأة و الثواب، و يفضلها على الآخرين لأدائها عملا كانت قد أجبرت على القيام به ـ

فهؤلاء انتخبوا لإنفسهم تفاسير اُخرى لهذه الآيات، كان أهمها:

1 ـ إنّ المراد من الهداية الإلهية هي الهداية التشريعية التي تأتي عن طريق

____________________________________

1 ـ و منها ما ورد في السور والآيات التالية (فاطر ـ8) و (الزمر ـ 23) و (المدثرـ 31) و (البقرة ـ 272)و (الأنعام ـ 88) و (يونس ـ 25) و (الرعد ـ 27) و (إبراهيم ـ 4).

[90]

الوحي والكتب السماوية وإرسال الأنبياء والأوصياء، إضافة إلى إدراك العقل والشعور، أمّا انتهاج السبيل فهو في عهدة الإنسان في كافة مراحل حياته. وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يتطابق مع الكثير من الآيات القرآنية التي تتناول موضوع الهداية، ولكن هناك آيات كثيرة اُخرى لا يمكن تطابقها مع هذا التّفسير، لأنّ فيها نوعاً من الصراحة فيما يخص (الهداية التكوينية) و (الإيصال إلى الهدف) كماورد في الآية (56) من سورة القصص: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). في حين أنّنا نعرف أنّ الهداية التشريعية والتوجيه نحو الطريق الصحيح، هي الواجب الرئيسي للأنبياء.

2 ـ مجموعة اُخرى من المفسّرين فسّروا الهداية والضلال اللذين لهما هنا طابع تكويني على أنّهما الثواب والعقاب، والإرشاد إلى طريق الجنّة والنّار، وقالوا بأن الباريء عزّوجلّ يهدي المؤمنين إلى طريق الجنّة، ويضل عنها الكافرين.

إن هذا المعنى صحيح بالنسبة لعدّة آيات فقط، ولكنّه لا يتطابق مع آيات اُخرى تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة.

3 ـ مجموعة ثالثة قالت: إنّ المراد من الهداية هو تهيئة الأسباب والمقدمات التي توصل إلى الغرض المطلوب، والمراد من الضلالة هو عدم توفير تلك الأسباب و المقدمات أو حجبها عنهم، والتي عبّر عنها البعض بـ (التوفيق) و (سلب التوفيق) لأنّ التوفيق يعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الهدف، وسلب التوفيق يعني عدم تهيئة تلك المقدمات.

ووفقاً لهذا فإنّ الهداية الإلهية لا تعني أنّ الباريء عزّوجلّ يجبر الإنسان على الوصول إلى الهدف، وإنّما يضع الوسائل المطلوبة للوصول تحت تصرفهم واختيارهم، وعلى سبيل المثال، وجود مربّ جيد، بيئة سالمة للتربية، أصدقاء وجلساء صالحين، وأمثالها، كلها من المقدمات، ورغم وجود هذه الأُمور فإنّه  لا يجبر الإنسان على سلوك سبيل الهداية.

[91]

وثمّة سؤال يبقى مطروحاً، وهو: لماذا يشمل التوفيق مجموعة دون اُخرى؟

المنحازون لهذا التّفسير عليهم أن ينتبهوا إلى حكمة أفعال الباريء عزّوجلّ ويعطوا دلائل لهذا الإختلاف، فمثلا يقولون: إنّ عمل الخير هو سبب التوفيق الإلهي، وتنفيذ الأعمال الشريرة تسلب التوفيق من الإنسان.

وعلى أيّة حال فإنّ هذا التّفسير جيد ولكن الموضوع ما زال أعمق من هذا.

4 ـ إنّ أدق تفسير يتناسب مع كلّ آيات الهداية والضلال، ويفسرها جميعاً بصورة جيدة من دون أن يتعارض أدنى تعارض مع المعنى الظاهري، وهو أنّ الهداية التشريعية التي تعني (إراءة الطريق) لها خاصية عامّة وشاملة، ولا توجد فيها أي قيود وشروط، كما ورد في الآية (3) من سورة الدهر: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً و إما كفوراً) وفي الآية (51) من سورة آل عمران: (وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم) ومن البديهي أن دعوة الأنبياء هي مظهر دعوة الله تعالى. لأن كلّ ما عند النّبي هو من الله.

وبالنسبة الى مجموعة من المنحرفين والمشركين ورد في الآية (23) من سورة النجم: (ولقد جاءهم من ربّهم الهدى).

أمّا الهداية التكوينية فتعني الإيصال إلى الغرض المطلوب، والأخذ بيد الإنسان في كلّ منعطفات الطريق، وحفظه وحمايته من كلّ الأخطار التي قد تواجهه في تلك المنعطفات حتى إيصاله إلى ساحل النجاة، وهي أي الهداية التكوينية ـ موضع بحث الكثير من آيات القرآن الأُخرى التي لا يمكن تقييدها بأية شروط، فالهداية هذه تخصّ مجموعة ذكرت أوصافهم في القرآن، أمّا الضلال الذي هو النقطة المقابلة للهداية فإنه يخص مجموعة اُخرى ذكرت أوصافهم أيضاً في القرآن الكريم.

ورغم وجود بعض الآيات التي تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة، إلا أن هناك الكثير من الآيات الأُخرى التي تبيّن ـ بدقة ـ محدوديتهما، وعندما

[92]

تضع الآيات (المطلقة) إلى جانب (المحدودة) يتّضح المعنى بصورة كاملة،  ولا يبقى أي غموض أو إبهام في معنى الآيات، كما أنّها ـ أي الآيات ـ تؤّكد بشدة على مسألة الإختيار وحرية الإرادة عند الإنسان ولا تتعارض معهما.

الآن يجب الإنتباه إلى التوضيح التالي:

القرآن المجيد يقول في إحدى آياته: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين) وفي مكان آخر يقول الباريء عزّوجلّ: (واللّه لا يهدي القوم الظالمين)(1) وهذا يبيّن أن الظلم مقدمة للظلال. ومن هنا يتّضح أن الفسق، أي عدم إطاعة أوامر الباريء تعالى وهو مصدر الضلال.

وفي موضع آخر نقرأ: (والله لا يهدي القوم الكافرين)(2)، وهنا اعتبر الكفر هو الذي يهيء أرضية الضلال.

وقد ورد في آية اُخرى: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)(3) يعني أنّ الكذب والكفر هما مقدمة الضلال.

والآية التالية تقول: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب)(4) أي أن الإسراف والكذب يسببان الضلالة.

وبالطبع، فإنّ ما أوردناه كان جزءاً يسيراً من آيات القرآن التي تتناول هذا الموضوع، فبعض الآيات وردت مرات عديدة في سور القرآن المختلفة وهي تحمل المعاني والمفاهيم.

إن ما يمكن استنتاجه هو أنّ القرآن الكريم يؤكّد على أنّ الضلالة الإلهية تشمل كلّ من توفرت فيه هذه الصفات (الكفر) و (الظلم) و (الفسق) و (الكذب). (الإسراف) فهل أن الضلالة غير لائقة بمن تتوفر فيه مثل هذه الصفات!

____________________________________

1 ـ البقرة، 258.

2 ـ البقرة، 264.

3 ـ الزمر، 3.

4 ـ غافر، 28.

[93]

وبعبارة اُخرى: هل ينجو قلب من يتصف بتلك الصفات القبيحة، من الغرق في الظلمات والحجب؟!

وبعبارة اُخرى أوضح: أنّ لهذه الأعمال والصفات آثاراً تلاحق الإنسان شاء أم أبى، إذ ترمي بستائرها على عينيه وأذنيه وعقله، وتؤدي به إلى الضلال، ولكون خصوصيات كلّ الأشياء وتأثيرات كلّ الأسباب إنّما هي بأمر من الله، ومن الممكن أيضاً أن ينسب الإضلال إليه سبحانه وتعالى في جميع هذه الموارد، وهذه النسبة هي أساس اختيار الإنسان وحرية إرادته.

هذا فيما يتعلق بالضلالة، أمّا فيما يخص الهداية، فقد وردت في القرآن المجيد شروط وأوصاف تبيّن أنّ الهداية لا تقع من دون سبب وخلاف الحكمة الإلهية.

وقد استعرضت الآيات التالية بعض الصفات التي تجعل الإنسان مستحقاً للهداية ومحاطاً باللطف الإلهي، منها: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل الاسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)(1).

إذن فإتباع أمر الله، وكسب مرضاته يهيئان الأرضية للهداية الإلهية.

وفي مكان آخر نقرأ: (إن الله يضل من يشاء ويهدي الله من أناب)(2) إذن فالتوبة والإنابة تجعلان الإنسان مستحقاً للهداية.

وفي آية اُخرى ورد: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)(3) فالجهاد، وخاصة (الجهاد الخالص في سبيل الله) هو من الشروط الرئيسية للهداية.

وأخيراً نقرأ في آية اُخرى: (والذين اهتدوا زادهم هدى)(4) أي أن قطع مقدار من طريق الهداية هو شرط للإستمرار فيه بلطف الباريء عزّوجلّ.

____________________________________

1 ـ المائدة، الآية 16.

2 ـ الرعد، الآية 27.

3 ـ العنكبوت، الآية 69.

4 ـ محمّد، الآية 17.

[94]

نستنتج من ذلك أنّه لو لم تكن هناك توبة وإنابة من العبد، ولا اتباع لأوامر الله، ولا جهاد في سبيله ولا بذل الجهد وقطع مقدار من طريق الحق، فإن اللطف الإلهي لا يشمل ذلك العبد، وسوف لا يمسك الباريء بيده لإيصاله إلى الغرض المطلوب.

فهل أنّ شمول هؤلاء الذين يتحلون بهذه الصفات بالهداية هو أمر عبث، أو أنّه دليل على هدايتهم بالإجبار؟

من الملاحظ أنّ آيات القرآن الكريم في هذا المجال واضحة جدّاً ومعناها ظاهر، ولكن الذين عجزوا عن الخروج بنتيجة صحيحة من آيات الهداية والضلال ابتلوا بمثل هذا الإبتلاء و (لأنّهم لم يشاهدوا الحقيقة فقد ساروا في طيق الخيال).

إذن يجب القول بأنّهم هم الذين اختاروا لأنفسهم سبيل (الضلال).

على أية حال، فإنّ المشيئة الإلهية في آيات الهداية والضلال لم تأت عبثاً ومن دون أي حكمة، وإنّما تتمّ بشرائط خاصّة، بحيث تبيّن تطابق حكمة الباريء عزّوجلّ مع ذلك الأمر.

 

2 ـ الإتكال على لطف الله

يعتبر الإنسان كالقشة الضعيفة في مهب الرياح العاتية التي تهب هنا وهناك في كلّ لحظة من الزمان، ويمكن أن تتعلق هذه القشة بورقة أو غصن مكسور تأخذه الرياح أيضاً مع تلك القشة الضعيفة، وترميهما جانباً، وحتى إذا تمكنت يد الإنسان من الإمساك بشجرة كبيرة فإنّ الأعاصير والرياح العاتية تقتلع أحياناً تلك الشجرة من جذورها، أمّا إذا لجأ الإنسان إلى جبل عظيم فإن أعتى الأعاصير لا تتمكن من أن تزحزح ذلك الجبل ولو بمقدار رأس إبرة من مكانه.

الايمان بالله بمثابة هذا الجبل والإعتماد والإتكال على غير الله بمثابة الاعتماد على الأشياء الواهية، ولهذا السبب يقول الباريء عزّوجلّ في الآيات

[95]

المذكورة أعلاه: (أليس الله بكاف عبده)الإعتقاد والإيمان بما جاء في هذه الآية يضيف للإنسان شجاعة واعتماداً على النفس، وتطمئن خواطره وتهدئها، كي يصمد ويثبت أمام الحوادث كالجبل، ولا يخاف حشود الأعداء، ولا يستوحش من قلّة عدد أتباعه أو أصحابه،، ولا تعبث المشاكل الصعبة بروحه الهادئة المستقرة، وقد ورد في الحديث «المؤمن كالجبل الراسخ لا تحركه العواصف»

 

* * *

[96]

الآيات

وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَ الاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَدَنِى اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـشِفَـتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَة هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ( 38 ) قُلْ يَـقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّىِ عَـمِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ( 39 ) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيْهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ( 40 )

 

التّفسير

هل إن آلهتكم قادرة على حل مشاكلكم؟

الآيات السابقة تحدثت عن العقائد المنحرفة للمشركين والعواقب الوخيمة التي حلّت بهم، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض دلائل التوحيد كي تكمل البحث السابق بالأدلة، كما تحدثت الآيات السابقة عن دعم الباريء عزّوجلّ لعباده وكفاية هذا الدعم، والايات أعلاه تتابع هذه المسألة مع ذكر الدليل.

في البداية تقول الآية: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض  ليقولن الله).

[97]

العقل والوجدان لايقبلان أن يكون هذا العالم الكبير الواسع بكل هذه العظمة مخلوق من قبل بعض الكائنات الأرضية، فكيف يمكن للعقل أن يقبل أنّ الأصنام التي لا روح فيها ولا عقل ولا شعور هي التي خلقت هذا العالم، وبهذا الشكل فإنّ القران يحاكم أُولئك إلى عقولهم وشعورهم وفطرتهم، كي يثبّت أول أسس التوحيد في قلوبهم، وهي مسألة خلق السماوات والأرض.

وفي المرحلة التالية تتحدث الآيات عن مسألة الربح والخسارة، وعن مدى تأثيرها على نفع أو ضرر الإنسان، كي تثبت لهم انّ الأصنام لا دور لها في هذا المجال، وتضيف (قل أفرأتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هنّ كاشفات ضرّه أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته)(1).

والآن بعد أن اتّضح أنّ الأصنام ليس بإمكانها أن تخلق شيئاً ولا باستطاعتها أن تتدخل في ربح الإنسان وخسارته، إذن فلم نعبدها ونترك الخالق الأصلي لهذا الكون، والذي له اليد الطولى في كلّ ربح و خسارة، ونمد أيدينا إلى هذه الموجودات الجامدة التي لا قيمة لها ولا شعور؟ وحتى إذا كانت الآلهة ممن يمتلك الشعور كالجن أو الملائكة التي تعبد من قبل بعض المشركين، فإنّ مثل هذا الإله ليس بخالق و لايمكنه أن يتدخل في ربح الإنسان و خسارته، وكنتيجة نهائية وشاملة يقول الباريء عزّوجلّ (قل حسبي الله وعليه يتوكل المتوكلون).

آيات القرآن المجيد أكّدت ـ ولعدّة مرات ـ على أنّ المشركين يعتقدون بأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض(2). وهذا الأمر يبيّن أن الموضوع كان بالنسبة للمشركين من المسلّمات، وهذا أفضل دليل على بطلان الشرك، لأن توحيد خالق الكون والاعتراف بمالكيته وربوبيته أفضل دليل على (توحيد

____________________________________

1 ـ المفسّرون و اللغويون يفسّرون (أفرأيتم) بأنّها تعطي معنى (أخبروني) في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مانع من تفسيرها بمعناها الأصلى و هو رؤية العين أو القلب.

2 ـ العنكبوت (61) و (63)، لقمان (31)، الزخرف(9) و (87).

[98]

المعبود) ومن كلّ هذا نخلص إلى أن التوكل لا يكون إلاّ على الله مع صرف النظر عن عبادة غيره.

وإذا أمعنا النظر في المواجهة التي حدثت بين إبراهيم محطم الأصنام والطاغية نمرود الذي ادعى الربوبية والقدرة على إحياء الناس و إماتتهم، و الذي انبهت وتحير في كيفية تنفيذ طلب إبراهيم(عليه السلام) عندما طلب منه أن يجعل الشمس تشرق من المغرب إن كان صادقاً في ادعاءاته، مثل هذه الإدعاءات التي يندر وجودها حتى في أوساط عبدة الأصنام، لا يمكن أن تصدر إلا من أفراد ذوي عقول ضعيفة ومغرورة وبلهاء كعقل نمرود.

والملفت للنظر أنّ الضمير العائد على تلك الآلهة الكاذبة في هذه الآيات، إنّما جاء بصيغة جمع المؤنث (هن ـ كاشفات ـ ممسكات ـ) وذلك يعود لأسباب:

أوّلا: إنّ الأصنام المعروفة عند العرب كانت تسمى بأسماء مؤنثة اللات و مناة والعزى).

ثانياً: يريد الباريء عزّوجلّ بهذا الكلام تجسيد ضعف هذه الآلهة أمامهم، وطبقاً لمعتقداتهم، لأنّهم كانوا يعتقدون بضعف وعجز الإناث.

ثالثاً: لأنّ هناك الكثير من الآلهة لا روح فيها، وصيغة جمع المؤنث تستخدم عادة بالنسبة إلى تلك الموجودات الجامدة، لذا فقد استفيد منها في آيات بحثنا هذا.

كما يجب الإلتفات إلى أنّ عبارة (عليه يتوكل المتوكلون) تعطي معنى الحصر بسبب تقدم كلمة (عليه) وتعني أن المتوكلين يتوكلون عليه فقط.

الآية التالية تخاطب اُولئك الذين لم يستسلموا لمنطق العقل والوجدان بتهديد إلهي مؤثر، إذ تقول: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنّي عامل فسوف تعلمون)(1).

____________________________________

1 ـ ما هو أصل كلمة (مكانة) ؟ و ماذا تعني؟ أغلب المفسّرين و اللغويين قالوا: إنّها تعني المكان و المنزلة، و هي من مادة (كون) ولأنّها تستخدم كثيراً بمعنى المكان لهذا يتصور أنّ الميم فيها أصلية، و لذا أصبح جمع تكسيرها (أمكنة) أما صاحب (لسان العرب)، فقد ذكر أنّ أصلها (مكنة) و(تمكن) و التي تعني القدرة و الإستطاعة. و على أية حال فإنّ مفهوم الآية يكون في الحالة الأولى: ابقوا على مواقفكم، وفي الحالة الثانية: ابذلوا كلّ ما لديكم من جهد و طاقة.

[99]

ستعلمون بمن سيحل عذاب الدنيا المخزي والعذاب الخالد في الآخرة (من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم).

وبهذا الشكل فإنّ آخر كلام يقال لأُولئك هو: إمّا أن تستسلموا لمنطق العقل و الشعور وتستجيبوا لنداء الوجدان، أو أن تنتظروا عذابين سيحلان بكم، أحدهمافي الدنيا وهو الذي سيخزيكم ويفضحكم، والثّاني في الآخرة وهو عذاب دائمي خالد، وهذا العذاب أنتم اعددتموه لأنفسكم، وأشعلتم النيران في الحطب الذي جمعتموه بأيديكم.

 

* * *

 

[100]

الآيات

إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـبَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَآ أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل( 41 ) اللهُ يَتَوَفَّى الاَْنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَل مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ( 42 ) أَمِ اتَّخَذُواْ مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَعْقِلُونَ( 43 ) قُلْ ِللهِ الشَّفَـعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَ الاَْرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( 44 )

 

التّفسير

الله سبحانه يتوفى الأنفس:

بعد ذكر دلائل التوحيد، و بيان مصير المشركين والموحدين، تبيّن الآية الأُولى ـ في هذا البحث ـ حقيقة مفادها أن قبول ما جاء في كتاب الله أو عدم قبوله إنّما يعود بالفائدة أو الضرر عليكم، وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصرّ عليكم في هذا

[101]

المجال، فإنّه لم يكن يبتغي جني الأرباح من وراء ذلك، و إنّما كان يؤدي واجباً إلهياً، (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحقّ)(1).

وتضيف الآية (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنّما يضل عليها).

على أية حال، فإنك لست مكلفاً بإدخال الحق إلى قلوبهم بالإجبار، وإنّما عليك إبلاغهم وإنذارهم فقط (وما أنت عليهم بوكيل).

هذه القاعده بأنّ كلّ من اتبع طريق الحق عاد بالربح على نفسه، ومن اتبع سبيل الضلال عاد بالخسارة على نفسه، تكررت عدّة مرات في آيات القرآن الكريم، كما أنّها تأكيد على حقيقة أنّ الله غير محتاج لإيمان عباده ولا يخاف من كفرهم ،وكذلك رسوله، وإنّه لم يدع عباده إلى عبادته كي يجني من وراء ذلك الأرباح، وإنّما ليجود على عباده.

قو له تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل) ـ التي وردت فيها كلمة (وكيل) بمعنى الشخص المكلف بهداية الضالين وجعلهم يؤمنون بالله ـ وردت عدّة مرات في آيات القرآن، وبنفس التعبير أو ما يشابهه، والغرض من تكرارها هو بيان أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مسؤولا عن إيمان الناس، لأنّ أساس الإيمان لا يأتي عن طريق الإجبار، وإنّه مكلّف بإبلاغ الأمر الإلهي إلى الناس من دون أن يظهر أدنى تقصير أو عجز، فإمّا أن يستجيبوا لدعوته وإمّا أن يرفضوها.

ثمّ لتوضح أنّ الحياة والموت وكلّ شؤون الإنسان هي بيدالله سبحانه وتعالى، قالت الآية: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها)(2).

وبهذا الشكل فإن (النوم) يعد شقيق (الموت) لكن بأحد أشكاله الضعيفة، أي (أشكال الموت)، لأن العلاقة بين الروح والجسد تصل إلى أدنى درجاتها أثناء

____________________________________

1 ـ «بالحق»: من الممكن أن تكون حالا لـ (كتاب) أو للفاعل في (أنزلناه) ، مع أنّ المعنى الأوّل أنسب، و لذا فإنّ مفهوم الآية يكون: (إنا أنزلنا عليك القرآن مترافقاً بالحق) .

2 ـ كلمة (توفى) تعني قبض الشيء بالتمام، كلمة (أنفس) تعني الأرواح. و كلمة (منام) لها معنى مصدري و تعني النوم.

[102]

النوم، وتقطع الكثير من العلاقات والوشائج بينهما.

وتضيف الآية (فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأُخرى إلى أجل مسمى) نعم (إنّ ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

من هذه الآية يمكن استنتاج عدة أُمور:

1 ـ إنّ الإنسان عبارة عن روح وجسد، والروح هي جوهر غير مادي، يرتبط بالجسد فيبعث فيه النور والحياة.

2 ـ عند الموت يقطع الله العلاقة بين الروح والجسد، ويذهب بالروح إلى عالم الأرواح، وعند النوم يخرج الباريء عزّوجلّ الروح والجسد، ولكن ليس بتلك الحالة التي تقطع فيها العلاقات بصورة كاملة. ووفقاً لهذا فإنّ الروح لها ثلاث حالات بالنسبة للجسد، وهي: إرتباط كامل (حالة الحياة واليقظة) وإرتباط ناقص (حالة النوم) وقطع الإرتباط بصورة كاملة (حالة الموت).

3 ـ النوم هو أحد الصور الضعيفة (للموت)، و (الموت) هو نموذج كامل (للنوم).

4 ـ النوم هو أحد دلائل استقلال وأصالة الروح، خاصة عندما يرافق بالرؤيا الصادقة التي توضح المعنى أكثر.

5 ـ إنّ العلاقة التي تربط بين الروح والجسد تضعف أثناء النوم، وأحياناً تقطع تماماً ممّا يؤدي إلى عدم يقظة النائم إلى الأبد، أي موته.

6 ـ إنّ الإنسان عندما ينام في كلّ ليلة يشعر وكأنّه وصل إلى أعتاب الموت، وهذا الشعور بحد ذاته درساً يمكن الاعتبار منه، وهو كاف لإيقاظ الإنسان من غفلته.

7 ـ كلّ هذه الأُمور تجري بقدرة الباريء عزّوجلّ، وإن كان قد ورد في بعض الآيات ما يشير إلى أنّ ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح، فهذا لا يعني سوى أنّه ينفّذ أوامر الباريء عزّوجلّ.

[103]

وعلى أية حال، فإنّ المراد من قوله تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)هو إثبات دلائل قدرة الباريء عزّوجلّ، ومسألة الخلق، والمعاد، وضعف وعجز الإنسان مقابل إرادة الله عزّوجلّ.

وبعد ما أصبحت ـ حاكمية ـ (الله) على وجود الإنسان وتدبير أمره عن طريق نظام الحياة والموت والنوم واليقظة، أمراً مسلماً من خلال الآيات السابقة، تناولت الآية اللاحقة خطأ اعتقاد المشركين فيما يخص مسألة الشفاعة، كي تثبت لهم أنّ مالك الشفاعة هو مالك حياة وموت الإنسان، وليس الأصنام الجامدة التي لا شعور لها(أم اتخذوا من دون الله شفعاء)(1).

وكما هو معروف فإنّ إحدى الأعذار الواهية لعبدة الأوثان بشأن عبادتهم للأوثان، هي ما ورد في مطلع هذه السورة (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى)(2)، إذ أنّهم كانوا يعدونها تماثيل وهياكل للملائكة للأرواح المقدسة، ويزعمون أنّ هذه الأحجار والأخشاب الميتة لها قدرة هائلة.

ولكون الشفاعة تحصل من الشفيع الذي هو، أوّلا: يشعر ويدرك ويفهم، وثانياً: قدير و مالك و حكيم، فإن تتمة الآية تجيبهم (قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون)(3).

إذا كنتم تتخذون من الملائكة والأرواح المقدسة شفعاء لكم، فإنّهم  لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، لأن كلّ ما عندهم هو من الله، وإذا كنتم تتخذون من الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة شفعاء لكم، فإنّهم علاوة على عدم امتلاكهم شيئاً لأنفسهم، فهم لا يمتكلون أدنى عقل أو شعور، فاتركوا هذه الأعذار، وعودوا إلى الذي يملك ويحكم كلّ هذا العالم، وإلى من إليه تنتهي كلّ الأمور.

____________________________________

1 ـ «أم»: هنا منقطعة وتعني (بل) و لو كانت متصلة، لكان يجب تقدير القسم الثّاني لها، و هذا خلاف الظاهر.

2 ـ الزمر، 3.

3 ـ عبارة (أولو كانوا لا يعملكون شيئاً) فيها محذوف، و التقدير: (أيشفعون لكم و لو كانوا لا يملكون شيئاً).

[104]

لذا فإنّ الله جلّ وعلا يضيف في الآية التالية (قل لله الشفاعة جميعاً) لأنّه (له ملك السماوات والأرض ثمّ إليه ترجعون).

وبهذا الشكل لم يبق لديهم شيء، لأنّ النظام المسيطر والحاكم على كلّ العالم يقول: لا شفاعة هناك ما لم يأذن الباريء عزّوجلّ بذلك (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)(1).

أو كما يقول بعض المفسّرين: إنّ حقيقة الشفاعة، هي التوسل بأسماء الله الحسنى، التوسل برحمته وغفرانه وستره، طبقاً لهذا فإنّ كافة أشكال الشفاعة تعود في النهاية إلى ذاته المقدسة، إذن كيف يمكن طلب الشفاعة من غيره وبدون إذنه(2).

وبشأن إرتباط عبارة (ثم إليه ترجعون) بما قبلها، أظهر المفسّرون عدّة آراء مختلفة منها:

1 ـ هذه العبارة إشارة إلى أنّ شفاعة الباريء عزّوجلّ لا تقتصر على هذه الدنيا، وإنّما تتعداها إلى الشفاعة في الآخرة، ولذا يجب عدم اللجوء إلى غير الله لحل المشاكل ورفع المصائب كما كان يفعل المشركون.

2 ـ هذه العبارة هي دليل ثان على اختصاص الشفاعة بالله، لأنّ الدليل الأوّل اعتمد على (مالكية) الله، وهنا تمّ الاعتماد على (عودة جميع الأشياء إليه).

3ـ هذه الجملة هي بمثابة تهديد للمشركين، إذ تقول لهم: إنّكم سترجعون إلى الله، وستشاهدون نتيجة أفكاركم وأعمالكم السيئة والقبيحة.

كلّ هذه التفاسير مناسبة إلاّ أنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أنسب.

* * *

 

____________________________________

1 ـ البقرة، 57.

2 ـ الميزان، المجلد 17، الصفحة 286.

[105]

ملاحظتان

1 ـ عجائب عالم الرؤيا؟

ما هي حقيقة النوم؟ وما سبب ميل الإنسان إلى النوم؟

بهذا الشأن كتب العلماء أبحاثاً كثيرة:

فالبعض منهم قال: إنّه يأتي نتيجة انتقال جزء كبير من الدم الموجود في المخ إلى بقية أجزاء الجسم، ولذا فإنّ السبب هنا (فيزياوي).

والبعض الآخر يعتقد أنّ النشاط الإضافي للجسم يؤدي إلى تجمع مواد سامّة معينة في الجسم، وهذه الحالة تؤثر على الأنظمة العصبية وتدفع الإنسان إلى النوم، وتستمر هذه الحالة عند الإنسان حتى تتمّ تجزئة تلك السموم وامتصاصها من قبل الجسد، وبهذا يكون السبب هنا (كيمياوياً).

مجموعة اُخرى تقول: إن سبب النوم إنّما يعود لأسباب عصبية لأنّ هناك جهازاً عصبياً نشطاً في داخل مخ الإنسان، وهذا الجهاز هو مصدر الحركة المستمرة لبقية أعضاء الجسم، وهو يتوقف عن العمل إثر التعب الشديد الذي يصيبه فيحصل النوم.

النظريات المذكورة أعلاه عجزت عن إعطاء جواب مقنع فيما يخص مسألة النوم، رغم أنّنا لا يمكن أن ننكر تأثير هذه الأسباب ولو بمقدار ضئيل. نحن نعتقد أنّ التفكير المادي لعلماء اليوم هو السبب الرئيسي الذي يكمن وراء عجزهم عن إعطاء تفسير واضح لمسألة النوم، إذا أنّهم يريدون تفسير هذه المسألة من دون قبول أصالة واستقلالية الروح، فالنوم قبل أن يكون ظاهرة جسدية هو ظاهرة روحية، ومن دون معرفة الروح بصورة صحيحة فإنّ تفسير النوم حالة متعذرة.

القرآن المجيد وضّح من خلال آياته المذكورة أعلاه أدقّ التفاسير لمسألة النوم، إذ يقول: إن النوم هو نوع من أنواع (قبض الروح) وانفصال الروح من الجسد، ولكن هذا الانفصال ليس انفصالا كاملا.

[106]

وبهذا الشكل فعندما يخفت شعاع الروح في الجسد بأمر من الله، ولا يبقى غير شعاع خافت اللون يشع في ذلك الجسد، يتعطل جهاز الإدراك والشعور عن العمل، و يتوقف الحسّ والحركة عند الإنسان، عدا بعض الأجزاء التي تبقى تواصل نشاطها لحفظ واستمرار الحياة عند الإنسان، كضربات القلب و دوران الدم ونشاطات الجهاز التنفسي والغذائي.

وقد ورد في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): «ما من أحد ينام إلاّ عرجت نفسه إلى السماء، وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس، فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح، فهو قوله سبحانه: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)»(1).

وثمّة مسألة مهمّة اُخرى هي مسألة (الرؤيا) لأنّ الكثيرين يرون في عالم الرؤيا أحلاماً حدثت و قائعها أو ستحدث فيما بعد في الواقع، مع اختلافات جزئية أو بدون أيّ اختلاف.

التفاسير المادية عاجزة عن توضيح مثل هذه الرؤيا والأحلام، في حين أن التفاسير الروحية تستطيع بسهولة توضيح هذا الأمر، لأنّه عندما تنفصل روح الإنسان عن جسده وترتبط بعالم الأرواح، تدرك حقائق كثيرة لها علاقة بالماضي والمستقبل، وهذه الحالة هي التي تشكل أساس الرؤيا الصادقة، وللتوضيح أكثر يراجع التفسير الأمثل) في نهاية الآية (4) من سورة يوسف، إذ أنّ هناك شرحاً مفصلا بهذا الخصوص.

 

2 ـ النوم كما ورد في الروايات الإسلامية:

يتضح جيداً من خلال روايات المفسّرين التي وردت في نهاية الآيات

____________________________________

1 ـ مجمع البيان ذيل آية البحث و تفسير الصافي. كلمة (روح) في هذه الرواية تعني (الروح الحيوانية) و عمل أجهزة الجسم الرئيسية، و كلمة (نفس) تعني روح الإنسان.

[107]

المذكورة أعلاه، أنّ النوم يعني في الإسلام حركة الروح نحو عالم الأرواح، فيما تعني اليقظة عودة الروح إلى الجسد لبدء حياة جديدة.

ونقرأ في حديث ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام ضمن وصاياه لأصحابه:

«لا ينام المسلم وهو جنب، لا ينام إلاّ على طهور، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد، فإنّ روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها، ويبارك عليها، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته، وإن لم يكن أجله قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته، فيردونها في جسده»(1).

وورد حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) جاء فيه: «إذا قمت بالليل من منامك فقل: الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي لأحمده وأعبده»(2).

والأحاديث في هذا الشأن كثيرة.

 

* * *

____________________________________

1 ـ خصال الصدوق، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 488.

2 ـ أصول الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 488.

[108]

الآيات

وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ( 45 ) قُلِ الَّلهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَ الاَْرْضِ عَـلِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهَـدَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( 46 ) وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وَ بَدَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ( 47 ) وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ حَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ( 48 )

 

التّفسير

الذين يخافون من اسم الله!

مرّة اُخرى يدور الحديث عن التوحيد والشرك، إذ عكست الآية الأولى إحدى الصور القبيحة والمشوهة للمشركين ولمنكري المعاد من خلال تعاملهم مع التوحيد، قال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة

[109]

وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)(1).

فأحياناً يستحسن الإنسان القبائح ويستقبح الحسنات بحيث ينزعج إذا سمع اسم الحق ويستبشر إذا سمع اسم الباطل لا يسجد ولا يركع أمام عظمة  الله جلّ وعلا خالق الكون، إلاّ أنّه يسجد و يركع تعظيماً لأصنام صنعها من الحجارة والخشب أو لإنسان أو كائنات مثله.

ونظير هذا المعنى ورد في الآية (46) من سورة الإسراء، قال تعالى: (وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً).

وفي سورة نوح الآية (7) عندما شكى نبيّ الله نوح(عليه السلام) ممن يفكر بمثل هذا التفكير المنحرف إلى الله سبحانه وتعالى (وإنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذاتهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً).

نعم، هذا هو حال المتعصبين اللجوجين والجهلة المغرورين.

من هذه الآية يتضح بصورة جيدة أنّ مصدر شقاء هذه المجموعة أمران: الأوّل: إنكارهم لأساس التوحيد، والثّاني: عدم إيمانهم بالآخرة.

وفي المقابل نرى المؤمنين لدى سماعهم اسم الله ينجذبون إليه بدرجة أنّهم على استعداد لبذل كلّ ما لديهم في سبيله، فاسم حبيبهم يحلّي أفواههم ويعطّر أنفاسهم ويضيء قلوبهم، كما أن سماع أي شيء يرتبط ويتعلق بالله يبعث السرور والبهجة في قلوبهم.

نعود إلى المشركين مرّة اُخرى لنقول: إن الصفة القبيحة التي ذكرناها في بداية البحث بشأن المشركين، لا تخصّ مشركي عصر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما في عصر وزمان هناك منحرفون ذوو قلوب مظلمة يفرحون ويستبشرون فور سماعهم أسماء أعداء الله وأصحاب المذاهب الإلحادية، وسماعهم نبأ انتصار الظلم والطغيان، أمّا سماع أسماء الطيبين والطاهرين ومناهجهم وانتصاراتهم فإنّه

____________________________________

1 ـ «اشمأزت»: من مادة (اشمئزاز) و تعني الإنقياض و النفور عن الشيء، (وحده) منصوب حال أو مفعول مطلق.

[110]

يسبب لهم آلاماً مبرحة، بعض الرّوايات فسّرت الآية على أنّها تعني أُولئك الذين ينزعجون من سماع فضائل أهل بيت النبوّة الأطهار(عليهم السلام) أو من يتبع نهجهم(1).

وعندما يصل الأمر إلى درجة أنّ مجموعة من اللجوجين والجهلة

المغرورين ينفرون ويشمئزون حتى من سماع اسم الله، يوحي الباريء عزّوجلّ إلى نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم ويتوجه الى الباري عزوجل و يشتكي إليه من هؤلاء بلحن مليء بالعواطف الرفيعة والعشق الالهى لكي يبعث على تسكين قلبه المليء بالغم من جهة، وعلى تحريك العواطف الهامدة عند اُولئك من جهة اُخرى: (قل الّلهم فاطر السمموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون)(2).

نعم أنت الحاكم المطلق في يوم القيامة الذي تنتهي فيه الاختلافات وتظهر فيه كلّ الحقائق المخفية، لانك خالق كلّ شيء في الوجود وعالم بكل الأسرار فتنتهي الاختلافات بحكمك العادل، وهناك يدرك المعاندون مدى خطئهم، ويفكرون في إصلاح ما مضى، ولكن ما الفائدة؟

الآية التالية تقول: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه  لا فتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة) ولكن هذا الامر غير ممكن.

«الظلم»: هنا له معان واسعة تشمل الشرك أيضاً وبقية المظالم.

ثم تضيف الآية (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون).

وسيرون العذاب بأعينهم، العذاب الذي لم يكن يتوقعه أحد منهم، لأنّهم كانوا مغرورين بلطف الله، في حين كانوا في غفلة عن غضبه وقهره. وأحياناً كانوا يقومون بأعمال يتصورونها حسنة، في حين أنّها كانت من الذنوب الكبيرة.

على أيّة حال، تظهر لهم في ذلك اليوم أُمور لم يكن يتصور أحد ظهورها.

____________________________________

1 ـ صول الكافي، وروضة الكافي، نقلا عن تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 490.

2 ـ «فاطر السموات» منصوب بعنوان منادى مضاف.

[111]

ذلك الوعيد يأتي في مقابل الوعود الطيبة التي قطعت للمؤمنين، قال تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين).(1)

وقد نقل أنّ أحد المسلمين جزع عند الموت، فقيل له: أتجزع، فقال: أخذتني هذه الآية (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)(2).

الآية التالية توضيح أو تتمة لموضوع طرحته الآية السابقة، إذ تقول: (وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون).

في الحقيقة هناك أربعة مواضيع تتعلق بالمشركين والظالمين طرحت في هذه الآيات:

أوّلا: إنّ هول ورهبة العذاب الإلهي في ذلك اليوم ستكون من الشدّة بحيث تجعلهم يتمنون لو أنّ لديهم في تلك الساعة ضعف الثروات والأموال التي كانوا يمتلكونها في عالم الدنيا ليفتدوا بها من سوء العذاب، ولكن من المستحيل أن يحدث مثل هذا الأمر في يوم القيامة.

ثانياً: تظهر أمامهم أنواع من العذاب الإلهي الذي لم يكن أحد يتوقعه ولا يتصوره.

ثالثاً: حضور أعمالهم السيئة أمامهم وتجسيدها لهم.

رابعاً: مشاهدتهم حقيقة المعاد الذي لم يأخذوه مأخذ الجد، ومن ثمّ انغلاق كلّ أبواب النجاة أمامهم.

الآية التي تقول: (بدا لهم سيئات ما كسبوا) والتي وردت آنفاً، هي دليل آخر على مسألة تجسيد الأعمال.

* * *

 

____________________________________

1 ـ الم سجدة، 17.

2 ـ تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي ذيل آية البحث.

[112]

الآيات

فَإِذَا مَسَّ الاِْنسَـنَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوْتِيتُهُ عَلَى عَلْم بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَ لَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 49 )قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 50 )فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصيِبُهُمْ سَيِّئَاتِ مَا كَسَبُوا وَ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ( 51 ) أَوَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـتِ لِّقَوْمِ يُؤْمِنُونَ( 52 )

 

التّفسير

في الشدائد يذكرون الله، ولكن...

الآيات هنا تتحدث مرّة اُخرى عن المشركين والظالمين، وتعكس صورة اُخرى من صورهم القبيحة.

في البداية يقول (فإذا مس الإنسان ضرّ دعانا) فذلك الإنسان الذي كان ـ وفق ما جاء الآيات السابقة ـ يشمئز من ذكر اسم الله. نعم، هو نفسه يلجأ إلى ظلّ

[113]

الله عندما يصيبه الضرّ ويتعرض للشدائد. لكن هذا اللجوء مؤقت، إذ ما إن يتفضّل عليه الباريء عزّوجلّ ويكشف عنه الضر والشدائد، حتى يتبجح ناكراً لهذه النعم، وزاعماً بأنّه هو الذي أنقذ نفسه من ذلك الضر (ثم إذا خولناه نعمة منّا قال إنّما أوتيته على علم)(1).

نظير هذا الكلام نقله القرآن في الآية (78) من سورة القصص عن لسان «قارون» عندما نصحه علماء بني إسرائيل بأن ينفق ممّا منّ الله به عليه في سبيل الله، إذ قال:(إنّما أوتيته على علم عندي).

إنّ أمثال هؤلاء الغافلين لا يتصورون أنّ العلوم والمعارفة التي يمتلكها الإنسان إنّما هي نعمة إلهية، فهل أنّ هؤلاء اكتسبوا العلم الذي كان يدرّ عليهم الأموال الطائلة من ذاتهم؟ أم أنّه كان في ذاتهم منذ الأزل؟

بعض المفسّرين ذكروا احتمالا آخر لتفسير هذه العبارة، وقالوا: إنّ النعم التي منّ بها الباريء عزّوجلّ علينا إنّما منّ بها علينا لعلمه بلياقتنا واستحقاقنا لها.

ومع أنّ هذا الاحتمال وارد بشأن الآية مورد بحثنا، لكنّه غير وارد بشأن الآية الآنفة التي تحدثت عن قارون، خاصة مع وجود كلمة (عندي) وهذه أحد القرائن لترجيح التّفسير الأوّل للآية التي هي مورد البحث.

ثم يجيب القرآن الكريم على أمثال هؤلاء المغرورين، الذين ينسون أنفسهم وخالقهم بمجرّد زوال المحنة وتوفّر النعمة، قائلا: (بل هي فتنة ولكن أكثرهم  لا يعلمون).

فالهدف من إبتلائهم بالحوادث الشديدة والصعبة، ومن ثمّ إغداق النعم الكبيرة عليهم هو اظهار خباياهم والكشف عن بواطنهم.

____________________________________

1 ـ «خول»: من مادة (تخويل) و تعني الإعطاء على نحو الهبة، و قد شرحت بالتفصيل في ذيل الآية الثامنة من هذه السورة (الزمر)، ضمير (أوتيته) رغم أنّه يعود على (نعمة) فقد جاء بصيغة المذكر، لأنّ المقصود منه (شيء من النعمة) أو (قسم من النعمة).

[114]

هل ييأس الإنسان عند المصيبة ويغترّ ويطغى عند النعمة؟

هل أنّه يزداد تفكيراً بالله عزّوجلّ عندما يحاط بهذه النعم، أم أنّه يغرق في ملذات الدنيا؟

هل ينسى ذاته، أو أنّه يلتفت إلى نقاط ضعفه ويعود إلى ذكر الله أكثر؟

ممّا يؤسف له أنّ أكثر الناس مبتلون بالنسيان، وغير مطلعين على الحقائق التي تكررت مرات عديدة في آيات القرآن المجيد، وهي أنّ العزيز الحكيم يجعل الإنسان أحياناً محاطاً بالمشاكل والإبتلاءات الشديدة، وأحياناً يغدق عليه النعم، وذلك ليمتحنه ويرفع من شأنه وليعرفه بأن كلّ شيء في هذه الحياة هو من ا لله سبحانه وتعالى.

ومن الطبيعي أنّ الشدائد تهيء الأرضيه لتفتتح الفطرة، كما أنّ النعم مقدمة للمعرفة (وفي هذا الخصوص أوردنا بحثاً آخر في تّفسيرنا الأمثل في نهاية الآية (65) من سورة العنكبوت).

وممّا يدعوا إلى الإنتباه تأكيد الآية على كلمة (إنسان) التي عرفته بأنّه كثير النسيان والغرور، وهذه إشارة إلى الذين لم يتربوا وفق ما جاء في الشرائع والسنن الإلهية، والذين لم يكن لهم أيّ مربّ ومرشد.. الذين أطلقوا لشهواتهم العنان واستسلموا لأهوائهم، نعم فهؤلاء هم الذين يلجؤون إلى الباريء عزّوجلّ كلّما مسّهم الضرّ وكلمّا ابتلوا بالشدائد والمحن، ولكن عندما تهدأ أعاصير الحوادث ويشملهم لطف الباريء وعنايته، ينسونه وكأنّهم لم يدعوه إلى ضرّ مسّهم. ولمزيد من الإطلاع راجع موضوع: الإنسان في القرآن الكريم. في نهاية الآية (12) من سورة يونس.

وتضيف الآية التالية (قد قالها الذين من قبلهم فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون)(1).

____________________________________

1 ـ ضمير (قد قالها) راجع إلى القول السابق باعتبار أنّه مقالة أو كلمة، والمراد منها عبارة (إنّما أوتيته على علم) .

[115]

نعم، فقارون وأمثاله من المغرورين يتصورون أنّهم حصلوا على الأموال بسبب لياقتهم وغفلوا عن أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي منّ بهذه النعم عليهم وأنّه المصدر الأصل للنعم والواهب الحقيقي لها، وأنّهم كانوا ينظرون فقط للأسباب الظاهرية، لكن التاريخ بيّن أنّه عندما خسف الباريء عزّوجلّ الأرض بأُولئك لم يسرع أحد إلى مساعدتهم، ولم تنفعهم أموالهم، كما ورد في سورة القصص الآية (81) (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله).

وليس قارون ـ وحده ـ ابتلي بهذا العذاب، وإنّما أقوام عاد وثمود وسبأ وأمثالهم ابتلوا ـ أيضاًـ وكان لهم نفس المصير.

ثم يقول: (فأصابهم سيئات ما كسبوا).

فكل واحد منهم ابتلي بنوع من العذاب الإلهي وهلك، كابتلائهم بالطوفان والسيل والزلزال والصيحة السماوية.

ويضيف: إنّ هذا المصير لا ينحصر باُولئك الاقوام وحسب بل إنّ مشركي مكّة سيبتلون في القريب العاجل بعواقب أعمالهم السيئة، ولا يستطيع أحد منهم أن يفرّ من قبضة العذاب الإلهي الذي سينزل بهم جميعاً (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين).

وسينال هذا العذاب والإبتلاء كلّ الطغاة والمغرورين والمشركين، وفي كلّ العصور والقرون.

ومن جهة اُخرى ورد احتمالان في هل أنّ المراد من عبارة (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) هو العذاب الدنيوي أم العذاب الاُخروي، ولكن بقرينة (فأصابهم سيئات ما كسبوا) فإنّ التّفسير الأوّل أنسب.

القرآن الكريم أجاب على ادعاءات الذين يزعمون أنّهم حصلوا على النعم الدنيوية بعلمهم وقدرتهم، عندما دعاهم إلى مراجعة تأريخ الأولين للإطلاع على أنواع الإبتلاءات والعذاب الذي ابتلوا به بسبب مزاعمهم الباطلة، وهذا هو ردّ

[116]

تأريخي وواقعي.

ثمّ يرد القرآن الكريم عليهم بردّ عقلي، إذ يقول: (أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).

فالكثير من الأشخاص الكفوئين نراهم يعيشون حياة المستضعفين والبسطاء، في حين نرى أنّ الكثير من الأشخاص غير الكفوئين يعيشون أثرياء ومتنعمين من كلّ النواحي، فلو كان الظفر المادىّ كلّه يأتي عن طريق جهد وسعي الإنسان إضافة إلى كفاءته، لما كنّا نرى مثل هذه المشاهد. إذن فمن هنا يستدل على وجود يد قوية اُخرى خلف عالم الاسباب تدير الشؤون وفق منهج محسوب.

صحيح أنّه يجب على الإنسان أن يبذل الجهد والسعي في حياته، وصحيح أنّ الجهاد والسعي هما مفتاح حلّ الكثير من المشاكل، ولكن إغفال مسبب الأسباب والنظر إلى الأسباب فقط، واعتبار الكفاءة هي المؤثر الوحيد يعد خطأً كبيراً.

فإحدى أسرار إحاطة الفقر والحرمان بمجموعة من العلماء المقتدرين، وإحاطة الغنى بمجموعة من الجهلة غير الأكفاء هو تنبيه لكلّ الناس التائهين في عالم الأسباب بأن لا يعتمدوا فقط على قواهم الذاتية. لذا تضيف الآية (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

الآيات التي وضحها أمير المؤمنين عليه السلام عندما قال: «عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود الهمم»(1). وهي كلمة سامية تدلّ على ضعف وعجز الإنسان كي لا يتيه ولا يبتلى بالغرور والتكبر.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ نهج البلاغة، قصار الكلمات، الكلمة 250.

[117]

الآيات

قُلْ يَـعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( 53 ) وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ( 54 ) وَ اتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَهً وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ( 55 )

 

التّفسير

إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً (عليهم السلام)

بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة بشأن المشركين والظالمين، فإنّ آيات بحثنا فتحت الأبواب أمام المذنبين وأعطتهم الأمل، لأنّ الهدف الرئيسي من كلّ هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الإنتقام والعنف، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح الباريء أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر أوامر العفو عنهم، عندما يقول: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً).

التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي

[118]

تعطي الأمل للمذنبين، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنّها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الذين أسرفوا...»(1).

والدليل على ذلك واضح من وجوه:

1 ـ التعبير بـ (يا عبادي) هي بداية لطف الباريء عزّوجلّ.

2 ـ التعبير بـ (إسراف)بدلا من (الظلم والذنب والجريمة) هو لطف آخر.

3 ـ التعبير بـ (على أنفسهم) يبيّن أنّ ذنوب الإنسان تعود كلّهاعليه، وهذا التعبير هو علامة اُخرى من علامات محبّة الله لعباده، وهو يشبه خطاب الأب الحريص لولده، عندما يقول: لا تظلم نفسك أكثر من هذا!

4 ـ التعبير بـ (لا تقنطوا)مع الأخذ بنظر الاعتبار أن «القنوط» يعني ـ في الأصل ـ اليأس من الخير، فإنّها لوحدها دليل على أن المذنبين يجب أن لا يقنطوا من اللطف الإلهي.

5 ـ عبارة (من رحمة الله) التي وردت بعد عبارة (لا تقنطوا) تأكيد آخر على هذا الخير والمحبّة.

6 ـ عندما نصل إلى عبارة (إنّ الله يغفر الذنوب) التي بدأت بتأكيد، وكلمة «الذنوب» التي جمعت بالألف واللام تشمل كلّ الذنوب من دون أيّ استثناء، فإنّ الكلام يصل إلى أوجه، وعندها تتلاطم أمواج بحر الرحمة الالهية.

7 ـ إنّ ورود كلمة (جميعاً) كتأكيد آخر للتأكيد السابق يوصل الإنسان إلى أقصى درجات الأمل.

8 و 9 ـ وصف الباريء عزّوجلّ بالغفور والرحيم في آخر الآية، وهما وصفان من أوصاف الله الباعثة على الأمل، فلا يبقى عند الإنسان أدنى شعور باليأس أو فقدان الأمل.

____________________________________

1 ـ مجمع البيان وتفسير القرطبي وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

[119]

نعم، لهذا السبب فإنّ الآية المذكورة أعلاه من أوسع وأشمل آيات القرآن المجيد، حيث تعطي الأمل بغفران كلّ أنواع الذنوب، ولهذا السبب فإنّها تبعث الأمل في النفوس أكثر من بقية الآيات القرآنية. وحقّاً، فإنّ الذي لانهاية لبحر لطفه، وشعاع فيضه غير محدود، لا يتوقع منه أقل من ذلك.

وقد شغلت أذهان المفسّرين مسألتان، رغم أن حلهما كامنة في هذه الآية والآية التي تليها:

الأولى: هل أنّ عمومية الآية تشمل كّل الذنوب حتّى الشرك والذنوب الكبيرة الأُخرى، فإذا كان كذلك فلم تقول الآية (48) من سورة النساء: إنّ الشرك من الذنوب التي لا تغتفر (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

والثّانية: هل أنّ الوعد الذي أعطاه الله بغفران الذنوب مطلق أم مشروط بالتوبة ونظير ذلك؟

وبالطبع فإنّ السؤال الأوّل مرتبط بالسؤال الثّاني، والجواب عليهما سيتّضح خلال الآيات التالية بصورة جيدة، لأنّ هناك ثلاثة أوامر وردت في الآيات التالية وضحت كلّ شيء (انيبوا إلى ربّكم) والثّانية (وأسلموا له) والثّالثة (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم).

هذه الأوامر الثّلاثة تقول: إنّ أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة للجميع من دون أي استثناء، ولكن شريطة أن يعودوا إلى أنفسهم بعد ارتكاب الذنب، ويتوجهوا في مسيرهم نحو الباريء عزّوجلّ، ويستسلموا لأوامره، ويظهروا صدق توبتهم وأنابتهم بالعمل، وبهذا الشكل فلا الشرك مستثنى من المغفرة  ولا غيره، وكما قلنا فإنّ هذا العفو العام والرحمة الواسعة مشروطان بشروط  لا يمكن تجاهلها.

وإذا كانت الآية (48) من سورة النساء تستثني المشركين من هذا العفو

[120]

والرحمة، فإنّها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم، وليس أُولئك الذين صحوا من غفلتهم واتبعوا سبيل الله، لأنّ أكثر مسلمي صدر الإسلام كانوا كذلك، أي أنّهم تركوا عبادة الأصنام والشرك بالله، وآمنوا بالله الواحد القهار بعد دخولهم الدين الإسلامي.

اذا طالعنا الحالة النفسية عند الكثير من المجرمين بعد ارتكابهم للذنب الكبير، نرى أن حالة من الألم والندم تصيبهم بحيث لا يتصورون بقاء طريق العودة مفتوحاً أمامهم، ويعتبرون أنفسهم ملوثين بشكل لا يمكن تطهيره، ويتسألون: هل من الممكن أن تغفر ذنوبنا؟ وهل أن الطريق إلى الله مفتوح أمامنا؟ وهل بقي خلفنا جسر غير مدمّر؟

إنّهم يدركون معنى الآية جيداً، ومستعدون للتوبة،ولكنّهم يتصورون استحالة غفران ذنوبهم، خاصّة إذا كانوا قد تابوا مرات عديدة من قبل ثمّ عادوا إلى إرتكاب الذنب مرّة اُخرى.

هذه الآية تعطي الأمل للجميع في أنّ طريق العودة والتوبة مفتوح أمامهم. لذا فإنّ (وحشي) المجرم المعروف في التأريخ الإسلامي والذي قتل حمزة سيد الشهداء(عليه السلام)، كان خائفاً من عدم قبول توبته، لأنّ ذنبه كان عظيماً، مجموعة من المفسّرين قالوا: إن هذه الآية عندما نزلت على الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فتحت أبواب الرحمة الإلهية أمام وحشي التائب وأمثاله!

ولكن لا يمكن أن تكون هذه الحادثة سبب نزول هذه الآية، لأن هذه السورة من السور المكّية، ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآيات، ولم تكن أيضاً قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي، وإنّما هي من قبيل تطبيق قانون عام على أحد المصاديق، وعلى أية حال فإنّ شمول معنى الآية يمكن أن يشخص هذا المعنى.

يتضح ممّا تقدم أنّ إصرار بعض المفسّرين كالآلوسي في تفسيره (روح

[121]

المعاني) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطاً بشيء غير صحيح، حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة، لأنّ فيها تعارضاً واضحاً مع الآيات التالية، والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض، ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطاً، بقرائن الآيات التالية، وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث. ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول: (وانيبوا إلى ربّكم) واصلحوا أُموركم ومسير حياتكم (واسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون).

بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و «التسليم»، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل)، إذ تقول: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون).

وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث:

الخطوة الأُولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى.

الخطوة الثّانية: الإيمان بالله والإستسلام له.

الخطوة الثّالثة:العمل الصالح.

فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع طبقأ لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب.

أمّا بشأن المراد من (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات متعددة. والتّفسير الذي هو أفضل من البقية هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند الباريء عزّوجلّ، البعض منها واجب والآخر مستحبّ، والبعض الآخر مباح، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات

[122]

والمستحبات، مع الإنتباه إلى تدرّجها.

وقال البعض: إنّه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة، بدليل ما ورد في الآية (23) من هذه السورة الزمر (الله أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني). وبالطبع فإنّه لا يوجد هناك أي تعارض بين التّفسيرين.

* * *

 

بحثان

1 ـ باب التوبة مفتوح للجميع

من المشاكل التي تقف عائقاً في طريق بعض المسائل التربوبة، هو إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جراء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة، إذ أنّ الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجّه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله، فكيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة.

هذا التفكير يبقى كابوساً مخفياً يرافقه كالظل، فكلّما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى، تحدثه نفسه: ما الفائدة من التوبة؟ فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته …

والمطلعون على مسائل التربية وتوبة المذنبين يدركون جيداً ما ذكرناه، يعلمون حجم هذه المشكلة الكبيرة.

التعاليم الإسلامية في القرآن المجيد حلت هذه المشكلة عندما أفصحت عن أنّ التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للإنفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشرطها وشروطها، إذ تكرر الحديث في الروايات الإسلامية بشأن بعض المذنبين

[123]

التائبين، حيث ورد (كمن ولدته أُمه).

وبهذا الشكل فإنّ القرآن الكريم يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتّحة أمام كلّ الناس مهما كانت ظروفهم، والمثال على ذلك الآيات المذكورة آنفاً التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله، وتعدهم بإمكانية محو الماضي.

ونقراً في رواية وردت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(1).

كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام)جاء فيه: «التائب من الذنب كمن  لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزىء»(2).

ومن البديهي أن هذه العودة لا يمكن أن تتمّ بدون قيد أو شرط، لأنّ الباريء عزّوجلّ حكيم ولا يفعل شيئاً عبثاً، فإذا كانت أبواب رحمته مفتحة أما عباده، ودعوته إيّاهم للتوبة مستمرة، فإنّ وجود الاستعداد عند العباد أمر لابدّ منه.

ومن جهة اُخرى يجب أن تكون عودة الإنسان صادقة، وأن تحدث انقلاباً وتغيراً في داخله وذاته.

ومن ناحية ثانية يجب أن يبدأ الإنسان بعد توبته باعمار وبناء اُسس الإيمان والعقيدة التي كانت قد دمّرت بعواصف الذنوب.

ومن ناحية ثالثة، يجب أن يصلح الإنسان بالأعمال الصالحة عجزه الروحي وسوء خلقه، فكلّما كانت الذنوب السابقة كبيرة، عليه أن يقوم بأعمال صالحة أكثر وأكبر، وهذا بالتحديد ما بيّنه القرآن المجيد في الآيات الثلاث المذكورة أعلاه تحت عنوان (الإنابة) و (التسليم) و (اتباع الأحسن).

 

____________________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلد الاول، الصّفحة 127، مادة التوبة.

2 ـ أصول الكافي، المجلد 2، الصفحة 216، باب التوبة، الحديث 10.

[124]

2 ـ اصحاب الأحمال الثقيلة

بعض المفسّرين أوردوا أسباباً متعددة لنزول الآيات آنفة الذكر، ويحتمل أن تكون جميعها من قبيل التطبيق وليس من قبيل أسباب النّزول.

ومنها قصة (وحشي) الذي ارتكب أفظع جريمة في ساحة معركة أحد، عندما قتل حمزة عمّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غدراً، وقد كان حمزة قائداً شجاعاً كرّس كلّ حياته في سبيل الدفاع عن النّبي الكريم. وبعبارة اُخرى: إنّه كان درعاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فبعد أن بلغ الإسلام أوج عظمته وانتصر المسلمون على أعدئهم، أراد وحشي أن يدخل الدين الإسلامي، ولكنّه كان خائفاً من عدم قبول إسلامه، ولما أسلم قال له النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أوحشي؟» قال: نعم، قال: «أخبرني كيف قتلت عمي» فأخبره، فبكى(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: «غيب وجهك عنّي فإنّي لا أستطيع النظر إليك» فلحق بالشام فمات في الخمر(1). وهنا تساءل أحدهم: هل أن هذه الآية تخص وحشياً فقط أم تشمل كلّ المسلمين، فأجاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّها تشمل الجميع .

ومنها قصة النباش ـ قال: دخل معاذ بن جبل على رسول الله باكياً فسلّم فردّ عليه السلام ثمّ قال: «ما يبكيك، يا معاذ؟» فقال: يا رسول الله، إنّ بالباب شاباً طريّ الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.

فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ادخل عليّ الشاب يا معاذ» فأدخله عليه فسلم فردّ عليه السلام قال: «ما يبكيك يا شاب؟»

قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً، إن أخذني الله عزّوجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلاّ سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «هل أشركت بالله شيئاً؟».

____________________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلد 2، الصفحة 637، مادة (وحش) وتفسير الفخر الرازي، المجلد 27، الصفحة 4; وتفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 493.

[125]

قال: أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئاً.

قال: «أقتلت النفس التي حرّم الله؟».

قال: لا.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الجبال الرواسي».

فقال الشاب: فإنّها أعظم من الجبال الرواسيّ.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق».

قال: فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيه من الخلق.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي».

قال: فإنّها أعظم من ذلك.

قال: فنظر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال: «ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك؟».

فخّر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «فهل يغفر الذنب العظيم إلاّ الربّ العظيم».

قال الشاب: لا والله يا رسول الله، ثمّ سكت الشاب فقال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟».

قال: بلى، أخبرك: إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم الليل، أتيت قبرها فنبشتها ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرّدة على شفير قبرها ومضيت

[126]

منصرفاً، فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي... ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها. فاذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين،... فما أظن أنّي أشم رائحة الجنّة أبداً فما ترى يا رسول الله.

فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): تنحى عنّي يا فاسق; إنّي أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النّار!...

فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها متعبّداً فيها، ولبس مسحاً وغل يديه جميعاً إلى عنقه، ونادى: يا ربّ هذا عبدك (بهلول) بين يديك مغلول... ثمّ قال: اللّهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك، وإن لم تستجب لي دعائي... فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) (والذين إذا فعلوا فاحشة...)(1).

الظاهر أنّ تلاوة جبرائيل لهذه الآية هنا لم تكن لأوّل مرّة كي تعدّ من أسباب النّزول، و إنّما هي آية مكررة ونزلت من قبل، وتكرارها إنّما هو للتأكيد وجلب الإنتباه أكثر، وإعلان عن قبول توبة ذلك الرجل المذنب. ونكرر مرّة اُخرى: إن مثل أُولئك الأشخاص الذين يحملون على أكتافهم ذنوباً ثقيلة عليهم أداء واجبات كثيرة لمحو آثار الماضى.

وقد ذكر «الفخر الرازي» أسباباً اُخرى لنزول هذه الآيات إذ قال: إنّها نزلت في أهل مكّة حيث قالوا: يزعم محمّد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا، فكيف نسلم؟!(2).

* * *

 

____________________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلد 6، الصفحة 24 (طبع بيروت).

2 ـ التّفسير الكبير لفخر الرازي، المجلد 27، الصفحة 4 ذيل آيات البحث.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336571

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:27

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net