00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المؤمنون آية 99 ـ آخر السورة من ( ص 503 ـ نهاية الجزء العاشر )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العاشر)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 503  ]

الآيتان

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99) لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـلِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)

التّفسير

طلب المستحيل:

تابعت هاتان الآيتان ما تناولته الآيات السابقة من عناد المشركين والمذنبين وتمسكّهم بالباطل، فتناولت حالهم الوخيم حين الموت. وأنّهم يستمرّون في باطلهم: (حتّى إذا جاء أحدهم الموت)(1).

حينما يجبر المذنب والمشرك على ترك الدنيا لينتقل إلى عالم آخر، تزول عنه حجب الغفلة والغرور، فيرى باُمّ عينه مصيره المؤلم، فلا مال ولا جاه، فقد عاد كلّ ما يعنيه هباءً في هباء، وهو يشاهد اليوم عاقبة أمره، وما إرتكبه من ذنوب

___________________________

1 ـ «حتّى» هي في الواقع غاية لجملة محذوفة، ويفهم من العبارات السابقة أنّ تقديرها: إنّهم يستمرّون على هذا الحال حتّى إذا جاء أحدهم الموت، ويستدلّ على ذلك من عبارة «نحن أعلم بما يصفون» التي استفيد منها في الآيتين السابقتين (فتأمّلوا جيداً).

[ 504  ]

ومعاص، فيرتفع صراخه وعويله (قال ربّ ارجعون).

ارجعني ياربّ (لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت). ولكن قانون الخلق العادل لا يسمح بمثل هذه العودة، لا يسمح بعودة الصالح ولا الطالح، فيأتيه النداء الدامغ (كلاّ).

(إنّها كلمة هو قائلها). كلام لم يصدر من أعماقه. لم يصدر بإرادته، إنّه يشبه كلام امرىء مسيء يردّد إذا أحسّ بالعقاب، أو كلام قاتل حين إعدامه. ومتى هدأت العاصفة بوجههم عادوا لسابق أعمالهم القبيحة. وهذا يشبه ما ورد في الآية الثامنة والعشرين من سورة الأنعام (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه).

وتشير الآية في نهايتها إلى عالم البرزخ الغامض بعبارة قصيرة ذات دلالة كبيرة (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون).

* * *

بحوث

1 ـ من هو المخاطب في قوله تعالى: ( ربِّ ارجعون)؟

بملاحظة كلمة «ربّ» التي هي مخفّف «ربّي» بمعنى إلهي، تشير بداية الجملة إلى أنّ المخاطب هو الله سبحانه وتعالى، إلاّ أنّ مجيء «ارجعون» بصيغة الجمع يمنع أن يكون المخاطب هو الله عزّوجلّ. وهذا التعبيران في الجملة السابقة يثيران سؤالا وتساؤلا.

يرى عدد من المفسّرين أنّ المخاطب هو الله، وصيغة الجمع هنا للإحترام والتعظيم. ولكن إستعمال صيغة الجمع في مخاطبة المفرد ليس مألوفاً في العربية، خاصّةً فيما مضى، ولا نظير له في القرآن المجيد، وبهذا يتّضح ضعف هذا

[ 505  ]

التّفسير(1).

وقال عدد آخر من المفسّرين: إنّ المخاطب هم الملائكة المكلّفون بقبض الأرواح. وكلمة «ربّ» نوع من الإستعانة بالله، وهذا مألوف في حياتنا اليوميّة حيث يستغيث المرء بالله في الشدائد، ثمّ يستنجد الناس ويصرخ: «ياربّ! ياربّ! انقذوني، عجّلوا بمساعدتي» ويبدو هذا التّفسير أقرب إلى الصواب.

2 ـ تفسير عبارة (فيما تركت)

قرأنا في الآيات السابقة أنّ الكفّار يستنجدون بالله ليرجعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحاً فيما تركوا من الأعمال.

ويرى البعض في قوله تعالى: (فيما تركت) إشارة إلى أموال تركوها، لإستعمال تعبير «تركة الميت» بصورة إعتيادية.

وروي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكّد هذا المعنى إذ يقول: «من منع قيراطاً من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله تعالى: (ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت)(2).

بينما يرى آخرون أنّ لها معنى أوسع، هو إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة التي تركها الإنسان. فيكون المعنى: رباه! أرجعني لاُعوّض ما تركته من عمل صالح.

ولا يناقض الحديث السابق مع هذا التّفسير الشامل وهو مصداق واضح له، علماً بأنّ هؤلاء الأشخاص يندمون على ما فاتهم من فرص، لهذا يرغبون في الرجوع إلى الحياة ليستفيدوا منها في العمل الصالح.

___________________________

1 ـ يرى بعض المفسّرين في الآية التاسعة من سورة القصص في عبارة زوجة فرعون (قرّة عين لي ولك لا تقتلوه)التي نطقت بها حين اُخرج موسى من الماء، نموذجاً لهذا التعبير، حيث في البداية كان المخاطب فرعون وآخر العبارة خاطبت حاشية فرعون وجنوده الذين كلّفوا بقتل أبناء بني إسرائيل.

2 ـ الكافي، وثواب الأعمال، ومن لا يحضره الفقيه (حسبما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص552).

[ 506  ]

ويبدو أنّ التّفسير الثّاني أقرب إلى الصواب، وكلمة «لعلّي» الواردة في جملة (لعلّي أعمل صالحاً) يمكن أن تكون علامة على عدم إطمئنان هؤلاء المنحرفين من مستقبلهم، وأنّ الندامة نتيجة لظروف خاصّة، تظهر حين موتهم، ولو عادوا إلى الدنيا لواصلوا أعمالهم ذاتها. وهذا هو عين الحقيقة.

3 ـ ما الذي تنفيه «كلاّ»؟

تأتي «كلاّ» في العربية بمعنى الحيلولة، وإبطال أثر أقوال المخاطب. وتقابل بالضبط كلمة «أي» التي تستخدم لتصديق الكلام.

وفي الجواب عن السؤال الوارد آنفاً، قال البعض: إنّ «كلاّ» تنفي طلب الكفّار الرجوع إلى الحياة الدنيا، أي إنّ طريق العودة مغلق، ولا يمكنكم العودة أبداً.

وقال البعض الآخر: إنّ هذه الكلمة جاءت لنفي إدّعاءاتهم القائلة: لو عدنا إلى الدنيا لعوّضنا ما فاتنا من أعمال صالحة، فيقال لهم: ما هذا إلاّ إدّعاء باطل، ولو عدتم لواصلتم العمل بنفس نهجكم السابق.

ولا ضير في أن تكون هذه الكلمة ـ في الوقت ذاته ـ إشارة إلى نفي إثنين من المعاني. كما يجب ملاحظة أنّ هذا الطلب ـ رغم وروده في الآية محل البحث من قبل المشركين فقط ـ ليس خاصّاً بهم، بل هو طلب جميع المذنبين والظالمين والمنحرفين، إذ يندمون على ما فاتهم لحظة موتهم، حين يرون مصيرهم الأليم ماثلا لأعينهم، فيرجون الله ليعيدهم إلى الحياة الدنيا، إلاّ أنّ الله يزجرهم بقوله: (كلاّ).

4 ـ ما هو عالم البرزخ؟

وأين هو؟

وما هو الدليل لإثبات وجود هذا العالم بين الدنيا والآخرة؟

وهل يكون البرزخ للجميع، أم لمجموعة معيّنة؟

[ 507  ]

وأخيراً ماذا سيكون وضع المؤمنين والصالحين والكفّار والمسيئين فيه؟

هذه أسئلة أشارت الآيات والأحاديث السابقة إليها، لهذا نجيب عنها حسبما يسمح به وضع هذا الكتاب.

تعني كلمة «البرزخ» في الأصل الشيء الذي يقع حائلا بين شيئين، ثمّ استعملت لكلّ ما يقع بين أمرين. ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع بين عالم الدنيا والآخرة.

والدليل على وجود عالم البرزخ، أو عالم القبر، أو عالم الأرواح، نجده في الأدلّة النقلية، فقد دلّ عليه صريح آيات القرآن أحياناً وظاهرها أحياناً أُخرى.

والآية موضع البحث (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) ظاهرة في وجود عالم البرزخ. رغم أنّ البعث رغب في القول بأنّ كلمة «البرزخ» في هذه الآية تعني العائق والمانع من العودة إلى الدنيا، غير أنّ هذا المعنى يبدو غريباً، لأنّ عبارة (إلى يوم يبعثون) دليل على وقوع عالم البرزخ بين الدنيا والآخرة، وليس بين الإنسان والدنيا.

ومن الآيات التي تصرّح بوجود مثل هذا العالم، الآيات الخاصّة بحياة الشهداء، مثل (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون) الآية (169) من سورة آل عمران، والخطاب فيها موجّه إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). أمّا الآية (154) من سورة البقرة فإنّها خطاب لجميع المؤمنين: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون).

وعالم «البرزخ» ليس للمؤمنين ذوي الدرجة الرفيعة كالشهداء فقط، بل للكفّار الطغاة كفرعون وأعوانه أيضاً، وهذا ما صرّحت به الآية (46) من سورة المؤمن (النّار يعرضون عليها غدوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشدّ العذاب).

وذكرت آيات أُخرى عالم البرزخ ولكن لا تصل إلى صراحة وظهور الآيات

[ 508  ]

السابقة.

وما يجب الإنتباه إليه في موضع البرزخ هو أنّ الآيات ـ باستثناء الآية التي نحن بصددها والتي ذكرته بشكل عامّ ـ إستعرضت البرزخ بشكل خاصّ، كما في ذكره عن الشهداء أو آل فرعون.

إلاّ أنّ الواضح أنّه لا خصوصية لآل فرعون لأنّ في العالم الكثير من أمثالهم، ولا للشهداء، لأنّ القرآن الكريم اعتبر النبيّين والصدّيقين والصالحين مع الشهداء، كما جاء في الآية (69) من سورة النساء (فاُولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين).

ولنا حديث عن كون البرزخ لعامّة الناس أو لفئة منهم، سنورده في ختام هذا البحث إن شاء الله.

أمّا الرّوايات: فهناك أحاديث كثيرة في كتب الفريقين الشيعة والسنّة تتحدّث بعبارات مختلفة عن عالم البرزخ، وعالم القبر، وعالم الأرواح. أي تتحدّث عن العالم الذي يفصل بين الدنيا والآخرة، ومنها:

1 ـ جاء في حديث معروف ذكر في الكلمات القصار في نهج البلاغة أنّ عليّاً(عليه السلام) حينما وصل إلى جبانة الكوفة عند عودته من حرب صفين، توجّه إلى القبور ونادى الأموات قائلا: «ياأهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة! ياأهل التربة! ياأهل القربة! ياأهل الوحدة! ياأهل الوحشة! أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق! أمّا الدور فقد سكنت، وأمّا الأزواج فقد نكحت، وأمّا الأموال فقد قسّمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم»؟

ثمّ إلتفت إلى أصحابه فقال: «أما لو اُذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(1).

___________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم «130».

[ 509  ]

وبهذا يتّضح عدم إمكان حمل هذه العبارات على المجاز والكناية، بل هي تخبرنا عن حقيقة وجود حياة البرزخ بعد الموت، وتمكّن الموتى ـ لو سمح لهم ـ من الحديث إلينا.

2 ـ ونقرأ حديثاً آخر رواه الأصبغ بن نباتة يذكر فيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام)أنّه خرج من الكوفة، ومرّ حتّى أتى الغريين فجازه، فلحقناه وهو مستلق على الأرض بجسده، ليس تحته ثوب.

فقال له: قنبر: ياأمير المؤمنين ألا أبسط ثوبي تحتك؟

قال: لا، هل هي إلاّ تربة مؤمن أو مزاحمته في مجلسه؟

قال الأصبغ: فقلت: ياأمير المؤمنين، تربة مؤمن قد عرفناه كانت أو تكون. فما مزاحمته في مجلسه؟

فقال: «يابن نباتة، لو كشف لكم لرأيتم (في المختصر المطبوع ص4: لألفيتم) أرواح في هذا الظُهر حلقاً يتزاورون ويتحدّثون، إنّ في هذا الظَهر روح كلّ مؤمن، وبوادي برهوت نسمة كلّ كافر»(1).

3 ـ وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قوله: «إنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار»(2).

4 ـ وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة ... والله ما نخاف عليكم إلاّ البرزخ»(3).

5 ـ وجاء في كتاب الكافي أنّه سئل الإمام: وما البرزخ؟ فأجابه: «القبر من حين موته إلى يوم القيامة»(4).

___________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلّد السادس، صفحة 243.

2 ـ تفسير نورالثقلين، المجلّد الثّاني، صفحة 553.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ المصدر السابق، صفحة 554.

[ 510  ]

6 ـ وروى الشيخ الكليني (رحمه الله) في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولاّد الحنّاط، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: قلت له: جعلت فداك، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش، فقال: «لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدان كأبدانهم»(1).

هذا الحديث يشير إلى مصير روح الإنسان، فهي من جهة تشبه هذا الجسم المادّي، إلاّ أنّه يمتلك نوعاً من التجرّد البرزخي.

7 ـ كما نقرأ في حديث آخر جاء في كتاب الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام): سألته عن أرواح المؤمنين فأجاب: «في حجرات في الجنّة، يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها. ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة وأنجز لنا ما وعدتنا»(2).

8 ـ روى صاحب الكافي عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن درست بن أبي منصور، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة تعارف، فإذا تساءل قدّمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظيم، ثمّ يسألونها: ما فعل فلان؟ وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيّاً ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى»(3).

تقصد الأحاديث أعلاه بالجنّة والنّار البرزخيتين، وليس العائدتين ليوم القيامة، والفرق بينهما كبير.

والأحاديث في هذا المجال عديدة، وقد رتّبت في أبواب مختلفة نشير إلى قسم منها:

___________________________

1 ـ كتاب الكافي «حسبما نقله بحار الأنوار، المجلّد السادس، صفحة 268.

2 ـ بحار الأنوار، المجلّد السادس، صفحة 269.

3 ـ المصدر السابق.

[ 511  ]

أحاديث تتحدّث عن سؤال القبر وعذابه.

وأحاديث تتناول إتّصال الأرواح مع أُسرها ومشاهدة وضعهم.

أحاديث تتحدّث عن ليلة المعراج وإتّصال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أرواح الأنبياء والمرسلين.

أحاديث تنصّ على إبتلاء الإنسان بنتائج أعماله سواء كانت طيّبة أمّ سيّئة. بعد موته ... وأمثالها(1).

البرزخ والإتّصال بعالم الأرواح

رغم أنّ الكثير ممّن يدّعون بأنّهم على إتّصال بعالم الأرواح كاذبون، أو أنّهم يعانون نوعاً من الوهم والخيال، لكن ثبت أنّ الإتّصال بعالم الأرواح ممكن، وقد تحقّق فعلا لبعض العلماء، حتّى أنّهم توصّلوا إلى بعض الحقائق عن طريق الأرواح.

وهذه القضيّة بذاتها دليل واضح على وجود عالم البرزخ وحقيقته، فهي تبيّن أنّ بعد عالم الدنيا والموت وقبل القيامة في الآخرة، هناك عالم آخر قائم بذاته(2). كما أنّ الأدلّة العقليّة لإثبات تجرّد الروح وبقائها بعد فناء الجسم بنفسها دليل آخر على وجود عالم البرزخ (فتأمّلوا جيداً).

صورة عن عالم البرزخ

يتّفق علماء الإسلام على أصل وجود البرزخ وما يقع فيه من نعمة ونقمة مع بعض إختلافات جزئيّة بين هؤلاء العلماء، ويتّفق علماء السنّة والشيعة على وجود البرزخ باستثناء عدد قليل غير ملحوظ.

___________________________

1 ـ جمع هذه الأحاديث المرحوم السيّد عبدالله شبّر في كتاب سمّاه «تسلية الفؤاد في بيان الموت والمعاد».

2 ـ للإطلاع أكثر بهذا الصدد، راجع مسألة الإتّصال بالأرواح في كتاب (عودة الروح والإتّصال بها) وكتاب (العالم بعد الموت).

[ 512  ]

والدليل على الإتّفاق بين هؤلاء العلماء واضح، وهو تصريح الآيات القرآنية بوجود البرزخ وما فيه من نعمة وعذاب، كما أسلفنا. ومنها ما صرّح بذلك في الحديث عن الشهداء: (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون)(1) وليس فقط هذه المجموعة من الصالحين قد أنعم الله عليها، بل إنّ مجموعة من أسوأ الطغاة والمجرمين يعذّبهم الله، كما أنّ تعذيب آل فرعون بعد الموت وقبل القيامة قد أشارت إليه الآية 46 من سورة غافر (المؤمن).

والأحاديث متواترة بهذا الصدد، فلا نقاش في وجود عالم البرزخ أساساً، والمهمّ أن نعرف حياة البرزخ وشكلها، فقد ذكرت له صورة مختلفة، أوضحها أنّ أرواح البشر بعد ترك هذه الدنيا، تدخل أجساماً لطيفة سامية عن آثار هذه المادّة القذرة، إلاّ أنّها على شكل أجسامنا، ويقال لكلّ منها (الجسم المثالي) وهو ليس مجرداً تمام التجريد، ولا هو ماديّاً محضاً. إنّه يمتاز بتجرّد برزخي معيّن، وشبّهه بعضهم بما عليه الروح في أثناء ما يراه النائم، إذ تسرّ الروح رؤية النعم، وتعذّبها مشاهدة المناظر المؤلمة، ولذلك أثّر في جسمنا هذا، إذ نبكي عند رؤية حلم مزعج، ونفزع مذعورين من هول ما نرى، أو نضحك من أعماقنا من طرافة ما نحلم به في نومنا.

ويرى جماعة أنّ الروح تقوم بنشاط في الجسم المثالي، بل يرون أكثر من ذلك، ألا وهو قدرة الأرواح القويّة على إكتساب حالة التجرّد البرزخي في يقظة الإنسان أيضاً. أي تنفصل الروح عن الجسم. وتتحرّك في الجسم المثالي برغبتها أو بالتنويم المغناطيسي، تتحرّك في العالم لتطّلع على بعض القضايا(2).

___________________________

1 ـ سورة آل عمران، 169 و170.

2 ـ يصرّح العلاّمة المجلسي في تناوله هذا الموضوع في بحار الأنوار: إنّ تشبيه البرزخ بالحلم وما يتراءى للإنسان وارد في كثير من الرّوايات، ويمكن أن تكون للنفوس القويّة السامية عدّة أجسام مثالية، وبهذا تفسّر الأحاديث القائلة بحضور الأئمّة الميامين لدى المحتضرين حين نزعهم الأخير. (بحار الأنوار، المجلّد السادس، صفحة 261).

[ 513  ]

بل إنّ البعض قال بوجود الجسم المثالي في جسم كلّ إنسان، وأنّه ينفصل عنه في بداية الحياة البرزخية، ويمكن أن يقع ذلك كما قلنا في هذه الدنيا.

وإذا رفضنا جميع هذه الصفات للجسم المثالي، فلا يمكن نفي الموضوع أصلا، بسبب إشارة أحاديث عديدة إليه، ولإنعدام المانع العقلي منه.

وبهذا يتّضح جواب الإعتراض القائل بأنّ الإعتقاد بالجسم المثالي يستوجب الإعتقاد بالتناسخ، الذي يعني إنتقال الروح من جسم إلى آخر.

لقد ردّ الشيخ البهائي هذا الإحتجاج بوضوح، فقال: إنّ التناسخ الذي يرى بطلانه جميع المسلمين، هو عودة الروح بعد تفسّخ الجسم الذي كانت فيه إلى جسم آخر في هذه الدنيا.

أمّا إختصاص الروح بالجسم المثالي في عالم البرزخ حتّى يوم القيامة، ثمّ عودتها إلى الجسم الأوّل بأمر من الله تعالى لا علاقة له بالتناسخ، والسبب أنّنا ننفي التناسخ بشدّة ونكفّر الذي يعتقد به، هو قولهم بأزليّة الأرواح وإنتقالها الدائمي من جسم إلى آخر، وإنكارهم المعاد الجسماني في عالم الآخرة(1).

والقول بوجود الجسم المثالي في باطن الجسم المادّي يُجلي الجواب عن هذا الإشكال، إذ لا تنتقل الروح من جسم إلى آخر، بل تترك بعض قوالبها، وتستمرّ في قالب آخر في حياتها البرزخية.

والسؤال الآخر هو أنّه يُفهم من آيات قرآنية أن لا حياة برزخية لمجموعة من الناس، كما جاء في الآية الخامسة والخمسين والسادسة والخمسين من سورة الروم! (يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كان يؤفكون، وقال الذين اُوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث

___________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلّد السادس، صفحة 277.

[ 514  ]

ولكنّكم كنتم لا تعلمون).

وجواب هذا الإعتراض، جاء في أحاديث فحواها أنّ الناس ثلاث فئات: فئة مؤمنة مخلصة في إيمانها، وفئة مخلصة في كفرها، وفئة متوسطة ومستضعفة. وإنّ عالم البرزخ خاص بالفئتين الأُولى والثّانية، أمّا الثّالثة فتعبر عالم البرزخ في حالة من عدم الإطلاع (لإطلاع أوسع على هذه الأحاديث يراجع المجلّد السادس من بحار الأنوار، بحث أحوال البرزخ والقبر).

* * *

[ 515  ]

الآيات

فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ  وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ(101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ(103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـلِحُونَ(104)

التّفسير

جانب من عقاب المسيئين:

تحدّثت الآيات السابقة عن عالم البرزخ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة بالبحث، وتناولت كذلك جانباً من وضع المذنبين في عالم الآخرة.

فهي تقول أوّلا: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)من المعلوم ـ بالإستناد إلى آيات القرآن الكريم ـ أنّ النفخ في الصور يجري مرّتين. أُولاهما في نهاية هذا العالم، حيث يموت مَن في الأرض والسماوات. وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور، ليعودوا لحياة جديدة، وليستعدّوا للحساب والجزاء.

[ 516  ]

«النفخ في الصور» يعني النفخ في البوق، إلاّ أنّ هذه العبارة لها مفهوم خاصّ سنبيّنه إن شاء الله في شرح الآية 68 من سورة الزمر.

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم القيامة:

اُولاهما: إنتهاء مسألة النسب، لأنّ رابطة الاُسرة والقبيلة التي تسود حياة الناس في هذا العالم تؤدّي في كثير من الحالات إلى نجاة المذنبين من العقاب، إذ يستنجدون بأقربائهم في حلّ مشاكلهم. أمّا الوضع يوم القيامة فيختلف، حيث كلّ إنسان وعمله، فلا معين له، ولا نفع في ولده، أو أخيه، أو والده.

وثانيتهما: سيطرة الخوف على الجميع، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب الخوف الشديد من العقاب الإلهي، هو يوم كما اطّلعنا عليه في مطلع سورة الحجّ: (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) كما يحتمل أن تقصد عبارة (ولا يتساءلون) عدم طلب أحدهم العون من الآخر، لأنّهم جميعاً يعرفون عدم جدوى ذلك.

وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من هذه العبارة هي عدم السؤال عن الأنساب فهي تأكيد لقوله تعالى: (فلا أنساب بينهم).

ويبدو التّفسير الأوّل أوضح من غيره، رغم عدم التناقض فيما بينها، ويمكن أن تشير العبارة السابقة إلى هذه المعاني كلّها.

ورأى مفسّرون آخرون أنّه يستفاد من عدّة آيات تساؤل الناس يوم القيامة، كما جاء في الآية (27) من سورة الصافات، حيث تساءل المذنبون لدى مواجهة النّار (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون). كما تحدّثت هذه السورة في الآية الخمسين عن أهل الجنّة ساعة إستقرارهم في الجنّة متقابلين، فقالت: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) إنّهم تساءلوا عن رفاق لهم في الحياة الدنيا إنحرفوا

[ 517  ]

عن السبيل السوي فاقتيدوا إلى النّار.

كما جاء نظير هذا المعنى في الآية (25) من سورة الطور، فكيف تنسجم هذه الآيات مع الآية موضع البحث، وهي تنصّ على عدم تساؤل الناس يوم القيامة؟.

لو دقّقنا مليّاً في مضمون الآيات محلّ البحث لاتّضح لنا جواب هذا السؤال، فالآيات الخاصّة بإثبات سؤال بعضهم للآخر إنّما تتحدّث في حالة إستقرارهم في الجنّة، أو في النّار. في وقت تنفي الآيات محل البحث تساؤل الناس حين البعث، حيث يسيطر الرعب على الجميع. حتّى أنّ الناس ينسون جميع من حولهم ويذهلون عنهم من هول الحشر. وبتعبير آخر: للقيامة مواقف ولكلّ موقف شأن معيّن، والإشكال المذكور نَجَمَ عن عدم تشخيص هذه المواقف.

وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاصّ بيوم القيامة: (فمن ثقلت موازينه فاُولئك هم المفلحون).

«الموازين» جمع «ميزان» وهو وسيلة للقياس. وكما قلنا سابقاً: إنّ الميزان  لا يعني ما نعرفه في هذه الدنيا لوزن الموادّ، إنّ الميزان في هذه الآية يعني وسيلة ملائمة لقياس قيمة أعمال الإنسان، أي: للميزان مفهوم واسع يشمل جميع وسائل القياس. وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تقاس به الأعمال والناس، وهم قادة الإسلام الكبار، في الحديث: «إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته هم الموازين»(1).

وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم، ليتبيّن إلى أي درجة يشبهونهم. وبهذا يتميّز الناس ثقيلهم من خفيفهم، وثمينهم من تافههم، وعالمهم من جاهلهم. كما يتّضح لنا سرّ ذكر الموازين بصيغة الجمع، لأنّ قادة الناس الكبار في السابق ـ وهم موازين القياس ـ قد تعدّدوا في التاريخ.

___________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلّد السابع، صفحة 251 (الطبعة الجديدة).

[ 518  ]

ويمكن أن يكون الأنبياء والأئمّة وعباد الله المخلصون قدوة في مجال معيّن أو أكثر على وفق الظروف التي مرّوا بها، فاشتهروا ببعض الصفات دون أُخرى، فواحدهم ميزان بما إشتهر به من حسنات وخصال حميدة.

(ومن خفّت موازينه) وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح، فوزنهم خفيف يوم القيامة، لأنّهم خسروا رأسمال وجودهم: (فاُولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنّم خالدون) عبارة (خسروا أنفسهم) تصريح بحقيقة خسران المذنبين لأكبر رأسمال لهم ـ أي وجودهم ـ في سوق تجارة الدنيا دون أن يحصلوا على مقابل.

وتشرح الآيات التالية عذابهم الأليم (تلفح وجوههم النّار) ألسنة النّار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف (وهم فيها كالحون) وهم من شدّة الألم وعذاب النّار، في عبوس واكفهرار.

وكلمة «تلفح» مشتقّة من «لَفْح» على وزن «فتح» وتعني في الأصل ضربة السيف، وقد وردت هنا كناية، لأنّ لهيب النّار، أو نور الشمس المحرقة، وريح السموم، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.

وأمّا كلمة «كالح» فإنّها مشتقّة من «كلوح» على وزن «فُعُول» بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه. وقد فسّره عدد كبير من المفسّرين بتقلّص في جلد الوجه بحيث يبقى الثغر مفتوحاً لا يمكن إغلاقه(1).

* * *

___________________________

1 ـ تفسير القرطبي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير مجمع البيان، وتفسير الميزان، الآيات موضع البحث.

[ 519  ]

ملاحظات

1 ـ اليوم الذي لا يعتنى فيه بالأنساب:

المفاهيم التي تسود حياة الإنسان المادّية في هذا العالم، ستتغيّر في عالم الآخرة، ومنها العلاقات الودّية، والأواصر الاُسريّة التي تحلّ مشاكل كثيرة في هذه الحياة، وأحياناً تشكّل النظام الذي يسيطر على سائر العلاقات الإجتماعية.

وإذا كان الإنتساب للقبائل والاُسر في الدنيا لا يعارض الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، فإنّه ينتفي يوم القيامة، فلا إنتساب لشخص أو طائفة أو قبيلة. وإذا كان الناس هاهنا يساعد أحدهم الآخر، ويحلّ له مشاكله وينتصر له ويفخر به، فإنّهم ليسوا كذلك يوم القيامة، فلا خبر عن الأموال الكثيرة، ولا عن الأولاد (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم)(1).

حتّى مَن ينتسبون إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاضعون لهذا الحكم، ولهذا نلاحظ أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار طردوا عنهم من كان من المقرّبين في النسب الهاشمي، إمّا لعدم إيمانه، أو لإنحرافه عن الإسلام الأصيل، وأظهروا تنفّرهم وبراءتهم منه. رغم أنّه روي عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «كل حسب(2) ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ حسبي ونسبي»(3).

يقول العلاّمة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان: إنّ هذا الحديث هو نفسه الذي رواه بعض محدّثي أهل السنّة في كتبهم، مرّة عن عبدالله بن عمر، وأُخرى عن عمر بن الخطاب، وأحياناً عن صحابة آخرين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

في الوقت الذي نرى أنّ الآية ـ موضع البحث ـ ذات طابع عامّ، فهي تتحدّث

___________________________

1 ـ الشعراء، 89.

2 ـ الحسب: كلّ فخر للإنسان بالآباء والأجداد. ويعني أحياناً الخُلُق السليم للشخص ذاته، وهنا قصد المعنى الأوّل. (يراجع لسان العرب في كلمة حسب).

3 ـ مجمع البيان آخر الآية موضع البحث.

[ 520  ]

عن إنقطاع جميع الأنساب يوم القيامة، وهذا ما تؤازره المبادىء القرآنية وسيرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معاملة المنحرفين التي تفيد أنّه لا فرق بين الناس في هذا المجال. لهذا نقرأ في حديث رواه ابن شهر آشوب في كتابه المناقب عن طاووس اليماني عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: «خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً»(1).

وما ذكر لا ينفي إحترام السادة المتّقين من آل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا الإحترام في حقيقته إحترام للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما جاء في القرآن والحديث في فضلهم ومنزلتهم ناظر حسب الظاهر إلى هذا المعنى.

2 ـ حكاية الأصمعي المؤثّرة:

ومن المناسب هنا ذكر حكاية نقلها «الغزالي» في كتابه «بحر المحبّة» عن الأصمعي، تؤيّد ما ذهبنا إليه وذات مسائل جديرة بالإهتمام.

يقول الأصمعي «كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة، فسمعت صوتاً حنوناً لرجل يناجي ربّه. بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب. وقد تعلّق بأستار الكعبة، وكان يقول في مناجاته:

ياسيّدي ومولاي، نامت العيون وغابت النجوم، وأنت ملك حيّ قيّوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حرّاسها وحجّابها، وقد خلا كلّ حبيب بحبيبه، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك مذنب فقير، خاطيء مسكين، جئتك أرجو رحمتك يارحيم، وأن تنظر إليّ بلطفك ياكريم!

ثمّ أنشد:

___________________________

1 ـ مناقب ابن شهر آشوب (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص564).

[ 521  ]

يامن يجيب دعا المضطر في الظلم ياكاشف الكرب والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا وعين جودك ياقيّوم لم تنم

إن كان جودك لا يرجوه ذو سرف فمن يجود على العاصين بالنعم

هب لي بجودك فضل العفو عن سرف يامن أشار إليه الخلق في الحرم

ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وناجى:

إلهي سيّدي ومولاي! إن أطعتك بعلمي ومعرفتي فلك الحمد والمنّة عليّ، وإن عصيتك بجهلي فلك الحجّة عليّ.

ورفع رأسه ثانيةً إلى السّماء مناجياً بأعلى صوته: ياإلهي وسيّدي ومولاي، ما طابت الدنيا إلاّ بذكرك، وما طابت العقبى إلاّ بعفوك، وما طابت الأيّام إلاّ بطاعتك، وما طابت القلوب إلاّ بمحبّتك، وما طاب النعيم إلاّ بمغفرتك.

يضيف الأصمعي أنّ هذا الشاب واصل مناجاة ربّه حتّى اُغمي عليه، فدنوت منه وتأمّلت في محيّاه فإذا هو علي بن الحسين زين العابدين، فأخذت رأسه في حجري وبكيت له كثيراً، فأعادته إلى وعيه قطرات دمع سكبت على وجنتيه، فتح عينيه وقال: من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟ قلت: إنّك من بيت النبوّة ومعدن الرسالة. ألم تنزل فيكم آية التطهير؟ ألم يقل الله فيكم: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجسل أهل البيت ويطهّركم تطهيراً).

نهض الإمام السجّاد وقال: ياأصمعي! هيهات هيهات! خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً. ألم تقرأ القرآن؟ ألم تسمع كلام الله: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا

[ 522  ]

يتساءلون).

يقول الأصمعي: عندما وجدته على هذا الحال، تركته ومضيت لسبيلي(1).

3 ـ تناسب العقاب مع الذنب

أشرنا سابقاً إلى العذاب الإلهي في القيامة، وإلى أنّ الذنوب التي ترتكب تتناسب مع العقاب بدقّة. وقد ذكرت الآيات السابقة إحتراق الوجوه الشديد بلهيب النّار المحرقة، حتّى تكون الوجوه معبّسة والثغور مفتّحة. كلّ ذلك عقاب للذين خفّت موازينهم وإنعدم إيمانهم. ومع التوجّه لهذا المعنى، وهو أنّ هؤلاء كانوا يعبّسون حين سماع الآيات الإلهيّة وأحياناً يسخرون بها. ويجلسون يتحدّثون باستهزاء وتهكّم، فإنّ هذا العذاب يناسب أعمالهم هذه.

* * *

___________________________

1 ـ بحر المحبّة ـ للغزالي، صفحة 41 إلى 44 (مع التلخيص).

[ 523  ]

الآيات

أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ(105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ(106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا منْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـلِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا  وَلاَ تُكَلِّمُونِ(108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّحِمِينَ(109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُم ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110) إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ(111)

التّفسير

لا تكلّمون!

تحدّثت الآيات السابقة عن العذاب الأليم لأهل النّار، وتناولت الآيات ـ موضع البحث ـ إستعراض جانب من كلام الله مع أهل النّار، إذ خاطبهم سبحانه وتعالى بعتاب (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون)(1).

___________________________

1 ـ إنّ هذه الجملة في الحقيقة فيها محذوف تقديره (يقول الله تعالى ألم تكن ...).

[ 524  ]

ألم اُرسل إليكم آيات وأدلّة واضحة بواسطة رسلي! ألم اُتمّ حجّتي عليكم! ومع كلّ هذا واصلتم تكذيبكم وإنكاركم.

وبملاحظة كون فعلي «تتلى» و «تكذّبون» مضارعان وهما دليل على الإستمرار، فإنّه يتّضح لنا إستمرار تلاوة الآيات الإلهيّة عليهم، وكذلك هم يواصلون التكذيب!

وهم يعترفون في ردّهم (قالوا ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوماً ضالّين).

«الشقوة» و «الشقاوة» نقيض السعادة، وتعني توفّر وسائل العقاب والبلاء. أو بتعبير آخر: هي الشرّ والبلاء الذي يصيب الإنسان، بينما تعني السعادة توفّر ظروف النعمة والطيب.

والشقاوة والسعادة ليستا إلاّ نتيجة لأعمالنا وأقوالنا ومقاصدنا، والإعتقاد بأنّ السعادة أو الشقاوة ذاتية للإنسان منذ الولادة، ما هو إلاّ تصوّر يذكر لتسويغ الفرار من عبء المسؤولية والإعتذار من الأعمال المخالفة للحقّ، أو هو تفسير لأعمال الجهل.

ولهذا نرى المذنبين أهل النّار يعترفون بصراحة أنّ الله أتمّ عليهم الحجّة، وأنّهم كانوا السبب في تعاسة أنفسهم، لأنّهم قوم ضالّون.

ولعلّهم في إعترافهم هذا يودّون نيل رضى الله ورحمته، لهذا يضيفون مباشرةً (ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون) يقولون ذلك وكأنّهم لا يعلمون أنّ القيامة دار جزاء، وليست دار عمل، وأنّ العودة إلى الدنيا أمر محال.

لهذا يردّهم الله سبحانه وتعالى بقوّة (قال اخسؤا فيها ولا تكلّمونِ) وعبارة «اخسؤا» التي هي فعل أمر، تستعمل لطرد الكلاب، فمتى ما استخدمت للإنسان فإنّها تعني تحقيره ومعاقبته.

ثمّ يبيّن الله عزّوجلّ دليل ذلك بقوله: هل نسيتم: (إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين). ولكنّكم كنتم تستهزئون

[ 525  ]

بهم إلى درجة أنّ كثرة الإستهزاء والسخرية منهم أنساكم ذكري:

(فاتّخذتموهم سخرياً حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون) على أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم (إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا إنّهم هم الفائزون).

وأمّا أنتم فقد إبتليتم بأسوأ حالة، وبأكثر العذاب ألماً، ولا ينجدكم أحد من مصيركم الذي تستحقّونه.

وبهذا بيّنت الآيات الأربع الأخيرة السبب الرئيسي لتعاسة أهل النّار، وسبب إنتصار وفلاح أهل الجنّة بشكل صريح.

الفئة الضالّة هي التي كانت وراء تعاستها، فقد هانت حتّى لم تخاطب يوم القيامة إلاّ بما يخاطب به الكلب، لاستهزائهم بأهل الحقّ والإستهانة بمعتقداتهم السامية، فما أجدر المستهزئين بالمؤمنين بهذا المصير!

وأمّا الفئة الصالحة فقد نالت خير جزاء من الله بصبرها وإستقامتها في مواجهة العدو المعاند المغرور المتعنّت، ومواصلتهم الطريق إلى الله بإخلاص.

* * *

[ 526  ]

الآيات

قَـلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاَْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ(112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَسْئَلِ الْعَادِّينَ(113) قَـلَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا  لاَ  تُرْجَعُونَ(115) فَتَعَـلَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)

التّفسير

الدنيا، وعمرها القصير:

بما أنّ الآيات السابقة تناولت جانباً من عذاب أهل النّار الأليم، عقّبت الآيات ـ موضع البحث ـ ذلك بذكر نوع آخر من العذاب، هو العذاب النفسي الموجّه من قبل الله تعالى لأهل النّار للإستهانة بهم.

تقول الآية الأُولى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين) يخاطبهم سبحانه وتعالى يوم القيامة قائلا: كم سنة عشتم فوق الأرض؟

كلمة «الأرض» في هذه الآية وكذلك القرائن التي سوف تأتي لاحقاً تدلّ على أنّ السؤال هو عن مقدار عمرهم في الدنيا بالمقارنة مع أيّام الآخرة.

[ 527  ]

فما ذهب إليه بعض المفسّرين: من أنّ المراد من هذا الإستفسار هو عن السؤال مقدار إنتظارهم في عالم البرزخ، بعيد حسب الظاهر، رغم وجود شواهد قليلة على ذلك في آيات أُخرى(1).

إلاّ أنّهم يرون في هذه المقارنة أنّ الدنيا قصيرة جدّاً جدّاً (قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم).

والحقيقة أنّ الأعمار الطويلة في الدنيا كسحابة صيف لو قارناها بحياة الآخرة، حيث النعم الخالدة والعقاب غير المحدود.

وللتأكيد أو للردّ بدقّة قالوا (فاسأل العادين) أي: ربّاه اسأل الذين يعرفون أن يعدّوا الأعداد ويحسبوها بدقّة حين مقارنة بعضها مع بعض، ويمكن أن يكون القصد من كلمة «العادّين» الملائكة الذين يحسبون أعمار الناس وأعمالهم بدقّة، لأنّ هؤلاء يجيدون الحساب أفضل من غيرهم.

وهنا يؤنّبهم الله ويستهزىء بهم (قال إن لبثتم إلاّ قليلا لو أنّكم كنتم تعلمون).

فسوف يدركون يوم القيامة مدى قصر عمر الدنيا المحدود بالنسبة لعمر الآخرة الممدود، فالعمر الأوّل ما هو إلاّ كلمحة بصر. ولكنّهم كانوا يتصوّرونه خالداً، لأنّ حجب الغفلة وآثارها قد أسدلت على قلوبهم، فحجبتها عن رؤية الحقّ، فاستهانوا بالآخرة وحسبوها وعداً آجلا بعيداً، لهذا قال لهم الله عزّوجلّ: لو أنّكم كنتم تعلمون لأدركتم هذه الحقيقة التي توصّلتم إليها يوم القيامة في دنياكم(2).

___________________________

1 ـ نقرأ في سورة الروم الآية (55) و56): (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وقال الذين أتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، وهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لا تعلمون) تبيّن هاتان الآيتان أنّ الإستفسار والردّ خاص بالتوقّف في البرزخ، وإذا جعلناه دليلا على الآيات موضع البحث، فمفهومها سيكون أيضاً التوقّف في البرزخ، إلاّ أنّه كما قلنا: إنّ الدلائل الموجودة ـ في الآيات موضع البحث ـ مقدّمة عليها، وإنّها تبيّن أنّ الإستفسار وجوابه يخصّ التوقّف في الدنيا.

2 ـ إن «لو» في الآية السابقة شرطية كما قلنا سابقاً. وهناك جملة تقديريّة محذوفة فتكون «لو أنّكم كنتم تعلمون» لعلمتم أنّكم ما لبثتم إلاّ قليلا، وقال بعض المفسّرين أن «لو» تعني هنا «ليت» وبهذا تكون الجملة بهذا الشكل «ليتكم علمتم بهذا الموضوع في دنياكم».

[ 528  ]

وإستعملت الآية اُسلوباً مؤثّراً آخر لإيقاظ هذه الفئة وتعليمها (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون) هذه العبارة الموجزة والعميقة تبيّن واحداً من أقوى الأدلّة على البعث وحساب الأعمال والجزاء، وتعني أنّ الحياة الدنيا تصبح عبثاً إن لم تكن القيامة والمعاد. فالدنيا بما فيها من مشاكل وما وضع فيها الله من مناهج ومسؤوليات وبرامج، تكون عبثاً وبلا معنى إن كانت لأيّام معدودات فقط، كما سنشرح ذلك في المسائل الآتية.

وبما أنّ عدم عبثيّة الخلق أمر مهمّ يحتاج إلى دليل رصين، أضافت الآية (فتعالى الله الملك الحقّ لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم).

فإنّ الذي يقوم بعمل تافه ـ في الواقع ـ هو الجاهل غير الواعي أو الضعيف غير القادر، أو من هو بالذات تافه خاو.

أمّا «الله» الذي جمع الكمال في صفاته.

وهو «الملك» الذي يملك جميع الكائنات ويحكم عليها وهو «الحقّ» الذي لا يصدر منه غير الحقّ، فكيف يخلق الوجود عبثاً بلا غاية.

ولو توهّم أحد الأشخاص بأنّه يمكن أن يوجد من يمنعه من الوصول إلى هدفه، فإنّ عبارة (لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم) تنفي ذلك وتؤكّد ربوبيّته ومفهومها أنّ هذا المالك مصلح وهادف في خلقه للعالم.

وبإختصار نقول: إنّه إضافة إلى ذكر كلمة «الله» التي هي إشارة إلى صفاته الكمالية في ذاته، ذكرت الآية أربع صفات بشكل صريح: مالكية وحاكمية الله، ثمّ حقّانيّة وجوده، وكذلك عدم وجود شريك له، وأخيراً مقام ربوبيّته. وهذا كلّه دليل على أنّه تعالى لا يقوم بعمل عبثاً، كما أنّه لم يخلق البشر عبثاً.

كلمة «العرش» كما أشرنا سابقاً، هي إشارة إلى أنّ عالم الوجود كلّه الخاضع

[ 529  ]

لحكم الله (لأنّ العرش في اللغة يعني السرير ذي الأرجل العالية والخاصّ بالحكّام، وهذه كناية عن حكم الله المطلق). وللإطلاع أوسع على معنى العرش في القرآن المجيد يراجع التّفسير الأمثل تفسير الآية 54 من سورة الأعراف.

وسبب توصيف العرش بالكريم، هو أنّ كلمة «الكريم» تعني بالأصل الشريف والمفيد والجيّد، وبما أنّ عرش الله سبحانه وتعالى له هذه الصفات، فقد سمّي بالكريم.

ولابدّ من القول بأنّ صفة الكريم لا تخصّ العاقل فقط، بل تطلق على غيره في اللغة العربية. كما نشاهد ذلك في سورة الحجّ الآية 50 الخاصّة بالمؤمنين الصالحين (لهم مغفرة ورزق كريم) أي رزق ذو بركة. وكما يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: الكرم لا يقال إلاّ في المحاسن الكبيرة، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل الله، أو تحمّل حمالة ترقىء دماء قوم.

* * *

بحث

الموت ليس نهاية الحياة:

قلنا: إنّ من بين الأدلّة المطروحة لإثبات المعاد والعالم الآخر هي «مطالعة نظام هذا العالم» أو بتعبير آخر: إنّ دراسة «النشأة الأُولى» شاهد على وجود «النشأة الاُخرى».

ومن الضروري إيضاح ذلك بنحو أوسع هنا.

فمن جهة نرى عالم الوجود بهذه السعة والعظمة والتنظيم المدهش، حتّى إعترف كبار العلماء بأنّ أسرار العالم بقدر يقف الإنسان عاجزاً إزاءها، فإنّ معلوماته مهما كانت لا تشكّل سوى صفحة من كتاب كبير جدّاً. بل إنّ معلوماتنا عن هذا الوجود ما هي إلاّ «ألفباء» لهذا الكتاب العظيم التأليف والأسرار.

[ 530  ]

فكلّ واحدة من هذه المجرّات العظيمة تضمّ مليارات من الكواكب، وعدد المجرات والفواصل بينها كبير بدرجة تثير الدهشة حين حساب المسافة بينها بسرعة الضوء، علماً بأنّ سرعة الضوء تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومتراً في الثّانية. والدقّة المستخدمة في بناء أصغر وحدة من هذا العالم هي ذاتها التي إستخدمت في أوسع بناء فيه.

والإنسان ـ بحسب علمنا ـ أكمل المخلوقات التي نعرفها في الوجود، وهو أسمى نتاج لهذا العالم، ومن جهة أُخرى يلاقي الآلام والمشاكل الكثيرة خلال عمره القصير حتّى يبلغ أشدّه!! فما يكاد ينهي مرحلة الطفولة بآلامها ومشاكلها ويتنفّس الصعداء منها حتّى يدخل مرحلة الصبا والشباب بتقلبّاتها الشديدة المدمّرة.

وما يكاد يثبت قدميه بعد في هذه المرحلة حتّى تدهمه مرحلة جديدة مفعمة بألوان الأذى وأنواع المصاعب، هي مرحلة الكهولة والشيخوخة، فيتّضح له مدى ضعفه وعجزه.

فهل يصدق أن يكون هدف هذا الكائن العظيم الاُعجوبة في الخلق، الذي يسمّى الإنسان، يأتي هو أن إلى هذا العالم ليقضي عدداً من السنين، وليمرّ بكلّ هذه المراحل بما فيها من آلام ومصاعب، وليأكل مقداراً من الطعام ويلبس لباساً وينام وينهض ثمّ يموت وينتهي كلّ شيء. وإذا كانت هذه هي الحقيقة، ألا يعني هذا عبثاً؟

أتكون كلّ هذه التشكيلات العظيمة من أجل غاية دنيئة كالأكل والشرب والنوم؟

افرضوا بقاء نوع الإنسان ملايين السنين في هذه الدنيا، وتتعاقب الأجيال، وترتقي العلوم الماديّة فتوفّر أفضل المأكل والملبس والمسكن وأعلى مستوى من الرفاهية للبشر، أتكون تشكيلات الوجود كلّه من أجل هذه المقاصد الدنيا؟

[ 531  ]

وعلى هذا فإنّ دراسة هذا العالم العظيم لوحده دليل على كونه مقدّمة لعالم أوسع يمتاز بالدوام الخالد، ويعطي الإيمان به حياتنا معناها اللائق بها، ويخلصها من التفاهات. ولهذا لا نستغرب من تصوّر الفلاسفة الماديّين الذين لا يعتقدون بالقيامة والآخرة أنّ هذا العالم تافه لا هدف له. ولو كنّا نحن نعتقد بمثل هذا فحسب لأتّجهنا نفس اتّجاههم. ولهذا نؤكّد أنّه إذا كان الموت نقطة النهاية فخلق الوجود يصبح أمراً تافهاً، لهذا نقرأ في الآية (66) من سورة الواقعة (ولقد علمتم النشأة الأُولى فلولا تذكرون)؟!

* * *

[ 532  ]

الآيتان

وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ لاَ بُرْهَـنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَـفِرُونَ(117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّحِمِينَ(118)

التّفسير

المفلحون والخائبون:

بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن قضيّة المعاد، وإستعرضت الصفات الإلهيّة، فانّ الآية الأُولى أعلاه تناولت التوحيد نافيةً الشرك مؤكّدة للمبدأ والمعاد. في قوله تعالى: (ومن يدّع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنّما حسابه عند ربّه)(1).

أجل، إنّ المشركين يستندون إلى الأوهام، فلا دليل على ما يدّعون سوى أنّهم كالببغاء يقلّدون آباءهم في التمسّك بالخرافات والأساطير ـ التي لا أساس

___________________________

1 ـ وإعتبر بعض المفسّرين عبارة «فإنّما حسابه عند ربّه» جواب الشرط لعبارة «من يدّع مع الله» ويعتبر جملة «لا برهان له به» جملة إعتراضية جاءت بين سؤال الشرط وجوابه. وهي لتأكيد الهدف النهائي. إلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّ عبارة «لا برهان له» جواب الشرط وجملة «فإنّما حسابه» ... فرع عنها، لكنّ هذا الإحتمال لا ينسجم مع الأدب العربي، إذ يستوجب أن يقترن جواب الشرط بالفاء. أي «فلا برهان له، وذهب آخرون إلى أنّ هذه الجملة صفة أو حالا. إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل يبدو أقرب إلى الصواب رغم أنّه لا فرق في المعنى يستحقّ الملاحظة».

[ 533  ]

لها من الصحّة ـ ومن هنا ينكرون المعاد على الرغم من وضوح أدلّته وإشراق حقيقته، ويقبلون الشرك من غير دليل صحيح عليه. ومن الطبيعي أن يعاقب مثل هؤلاء الذين داسوا حكم العقل بأقدامهم، واتّجهوا في دروب الكفر والشرك المظلمة بوعي منهم.

وفي النهاية تقول الآية: (إنّه لا يفلح الكافرون) ما أجمل بداية هذه السورة (قد أفلح المؤمنون)! وما أجمل نهايتها المؤكّدة لبدايتها (لا يفلح الكافرون)! هذه هي صورة جامعة لحياة المؤمنين والكافرين من البداية إلى النهاية.

وختمت السورة بهذه الآية الشريفة كإستنتاج عام بأن وجّهت الكلام إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (وقل ربّ اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).

والآن وقد إختارت فئة الشرك سبيلا، وجارت فئة أُخرى وظلمت، فأنت ـ أيّها الرّسول ومن معك تدعون الله ربّكم أن يغفر لكم ويرحمكم بلطفه الواسع الكريم.

ولا شكّ في أنّ هذا الأمر بالدعاء شامل لجميع المؤمنين، رغم كون المخاطب به هو النّبي بذاته.

وروي «إنّ أوّل سورة (قد أفلح المؤمنون) وآخرها من كنوز العرش، ومن عمل بثلاث آيات من أوّلها، واتّعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح(1)».

ويحتمل أنّه يقصد الآيات الثلاث التي تلت عبارة (قد أفلح المؤمنون) والتي تدعو إحداها إلى الخشوع في الصلاة، وتدعو الاُخرى إلى إجتناب اللغو وتدعو الثّالثة إلى الزكاة. فإحداها تنظّم علاقة الإنسان بربّه، والاُخرى تنظّم هذه العلاقة مع الناس، والثّالثة مع النفس.

والقصد من الآيات الأربع الأخيرة، هي الآية 115 وما يليها التي تحدّثت

___________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي في آخر الآيات موضع البحث المجلّد 23 و24 مطبعة البهيّة المصرية ـ القاهرة ـ ص128.

[ 534  ]

عن غائيّة الخلق، والمعاد، والتوحيد، وأخيراً الإنقطاع إلى الله والتوجّه إليه.

ربّاه! ندعوك بحقّ المؤمنين الذين وعدتهم في هذه السورة بالفلاح. وفي طليعتهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) أن تحشرنا مع هذه الفئة الصالحة وأن تكتبنا مع المفلحين.

ربّاه! مُنَّ علينا برحمتك وغفرانك إنّك أرحم الراحمين.

إلهي! اجعل خاتمة أعمالنا خيراً. واحفظنا من كلّ خطأ وإنحراف، إنّك على كلّ شيء قدير.

ختام تفسير سورة المؤمنين

* * *

نهاية المجلّد العاشر




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336154

  • التاريخ : 28/03/2024 - 20:32

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net