00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المؤمنون من آية 55 ـ 98 من ( ص 467 ـ 502 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العاشر)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 467  ]

الآيات

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّال وَبَنِينَ(55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ(56) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَـتِ رَبِّهِم يُؤْمِنُونَ(58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ(59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَجِعُونَ(60) أُوْلَـئِكَ يُسَـرِعُونَ فِى الْخَيْرَتِ وَهُمْ لَهَا سَـبِقُونَ(61)

التّفسير

المسارعون في الخيرات:

تعرّض ما سبق من الآيات المباركة للأحزاب والمجموعات المعاندة التي غلب عليها التعصّب وحبّ الذات، وتمسّكوا بأفكارهم الضالّة وفرحوا بما لديهم. بينما أشارت الآيات موضع البحث إلى بعض تصوراتهم الأنانيّة: (أيحسبون أنّما نمدّهم من مال وبنين) هو من أجل أنّنا: (نسارع لهم في الخيرات).

فهل يتصوّرون أنّ أموالهم الوافرة وكثرة أولادهم دليل على أنّهم على حقّ،

[ 468  ]

ودليل على قرب منزلتهم من الله؟ (بل لا يشعرون) أنّ كثرة أموالهم وأولادهم نوع من العذاب، أو مقدّمة للعذاب ولعقاب الله، إنّهم لا يدركون أنّ ما أغدق عليهم ربّهم من نعم إنّما هو من أجل أن يتورّطوا في العقاب الإلهي. ويمسي عقابهم أشدّ ألماً، لأنّ الإنسان إذا اُغلقت دونه أبواب النعمة ثمّ حلَّ به العذاب، فقد لا يكون بتلك الدرجة موجعاً ومؤلماً أمّا الذين يعيشون في أوساط مرفّهة ثمّ يلقى بهم في دهاليز السجون والزنزانات المرعبة، فسيكون ألم ذلك شديداً عليهم جدّاً.

كما أنّ زيادة النعمة من شأنها أن تزيد حجب الغفلة والغرور عليهم فتمنعهم من العودة إلى طريق الصواب.

وهذا هو ما أشارت إليه معظم آيات القرآن في قضيّة (الإستدراج في النعم)(1).

وكلمة «نمدّ» مشتة من «الإمداد» وهو إتمام النقص والحيلولة دون القطع، وإيصال الشيء إلى نهايته.

وبعد نفي تصورات هؤلاء الغافلين، تستعرض هذه الآيات وضع المؤمنين والمسارعين في الخيرات، وتبيّن صفاتهم الرئيسيّة، فتقول: (إنّ الذين هم من خشية ربّهم مشفقون). والخشية لا تعني مطلقاً الخوف، بل تعني الخوف المقترن بالتعظيم والتقديس.

وكلمة «المشفق» مشتقّة من «الإشفاق» ومن أصل: الشفق، أي: الضياء المخالط للظلمة، وتعني الخوف الممزوج بالمحبّة والإجلال.

ولكون الخشية ذات جانب عاطفي، والإشفاق ذا جانب عملي، ذكرا معاً إيضاحاً للعلّة والمعلول في الآية. فهي تعني أنّ الخوف المخلوط بتعظيم الله قد استقرّ في قلوبهم، وقد بدت علائمه في أعمالهم وإلتزامهم بالتعاليم الإلهيّة. أي أنّ

___________________________

1 ـ للإطلاع بشكل أوسع على موضوع الإستدراج يراجع تفسير الآية 182 من سورة الأعراف.

[ 469  ]

الإشفاق مرحلة تكاملية للخشية، وهو ما يؤثّر في عمل الإنسان فيجنّبه ارتكاب الذنوب، ويدفعه إلى القيام بمسؤولياته.

ثمّ تضيف الآية (والذين هم بآيات ربّهم يؤمنون).

وتأتي بعد مرحلة الإيمان بآيات الله، مرحلة تنزيهه عن كلّ شبهة وشريك، فتقول الآية: (والذين هم بربّهم لا يشركون).

ونفي الشرك جاء نتيجة للإيمان بآيات الله تعالى، وهو معلول الإيمان، أي أنّ الإيمان بالله يشير إلى صفاته تعالى الثبوتية، ونفي الشرك يشير إلى صفاته تعالى السلبية. وعلى كلّ حال فقد تضمّنت هذه العبارة نفي أنواع الشرك، سواءً كانت جليّة أم خفيّة.

بعد هذا تأتي مرحلة الإيمان بالمعاد والبعث، والإهتمام الخاص الذي يوليه المؤمنون الحقيقيّون لهذه القضيّة، التي تساعدهم عمليّاً في السيطرة على أعمالهم وأقوالهم، فتقول الآية: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنّهم إلى ربّهم راجعون).

إنّهم ليسوا كالشخص الكسول الدنيء الهمّة الذي يأتي بأقلّ الأعمال ثمّ يتصوّر انّه من المقرّبين عند الله. ويتملّكه العجب والغرور بحيث يرى الآخرين صغار وحقراء، بل إنّ هؤلاء لا يطمئنّون ولا يبتهجون بأكبر عمل مهما زكا وسما، بل وينجزون الأعمال الصالحة التي تعادل عبادة الثقلين. ومع كلّ هذا يقولون: آه من قلّة الزاد وبعد السفر!

وبعد شرح الآيات السابقة لهذه الصفات الأربعة تقول الآية: (اُولئك يسارعون في الخيرات) والأعمال الحسنة، والسعادة الحقيقيّة ليست كما يتصوّرها المترفون الغافلون المغرورون بالحياة الدنيا. إنّما هي في إنجاز الأعمال الصالحة قربةً إلى الله كما يفعل المؤمنون الصادقون، المتّصفون بالخصائص الإيمانيّة والأخلاقية السالفة الذكر الذين يسارعون في الخيرات.

[ 470  ]

وقد رسمت الآيات السابقة صورة واضحة لصفات هذه القدوة من المؤمنين، فبدأت أوّلا بالخوف الممتزج بتعظيم الله، وهو الدافع إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه. وإنتهت بالإيمان بالمعاد حيث محكمة العدل الإلهي، الذي يشكّل الشعور بالمسؤولية. ويدفع الإنسان إلى كلّ عمل طيّب. فهي تبيّن أربع خصال للمؤمنين ونتيجةً واحدةً. (فتأمّلوا جيداً).

قوله «يسارعون» من باب «مفاعلة» وتعني «التسابق»، وهو تعبير جميل يصوّر حال المؤمنين وهم يتسابقون إلى هدف كبير سام. كما يبيّن تنافسهم في إنجاز الأعمال الصالحة دون ملل وكلل.

* * *

[ 471  ]

الآيات

وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَـبٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ  لاَ يُظْلَمُونَ(62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَـلٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَـمِلُونَ(63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ(64) لاَ تَجْئَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا  لاَ تُنصَرُونَ(65) قَدْ كَانَتْ ءَايَـتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَـبِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـمِراً تَهْجُرُونَ (67)

التّفسير

قلوب في الجهل مغمورة!:

بما أنّ خصال المؤمنين هي سبب القيام بالأعمال الخيّرة التي أشارت إليها الآيات السابقة، فهنا يثار هذا التساؤل بأنّ هذه الخصال والقيام بهذه الأعمال لا تتيسّر لكلّ أحد.

فتجيب أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ عن ذلك فتقول: (ولا نكلّف نفساً إلاّ وسعها). وكلّ إنسان يكلّف حسب عقله وطاقته.

[ 472  ]

وهذه إشارة إلى أنّ الواجبات الشرعيّة هي في حدود طاقة الإنسان. وأنّها تسقط عنه إذا تجاوزت هذه الحدود، وكما يقول علماء اُصول الفقه: إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع الواجبات الشرعيّة ومقدّمة عليها.

وقد يُسأل: كيف يُحاسب كلّ البشر على أعمالهم كلّها صغيرها وكبيرها؟

فتجيب الآية (ولدينا كتاب ينطق بالحقّ وهم لا يظلمون) فهناك صحيفة أعمال الإنسان المحفوظة لدى الله العلي القدير. وهي تنطق بالحقّ عمّا إقترفه الإنسان من ذنوب، فلا يمكنه إنكارها(1).

وربّما كان القصد من الكتاب الذي لدى الله هو اللوح المحفوظ. ولفظ «لدينا» يؤكّد هذا التّفسير.

والخلاصة أنّ الآية المذكورة آنفاً تؤكّد حفظ الأعمال على أهلها من خير أو شرٍّ، فهي مسجّلة بدقّة، والإيمان بهذه الحقيقة يشجّع الصالحين على القيام بأعمال الخير، وإجتناب الأعمال السيّئة.

وتعبير (ينطق بالحقّ) الذي وصف صحيفة أعمال البشر تشبه القول: إنّ الرسالة الفلانية ذات تعبير واضح، أي: لا يحتاج إلى شرح. وكأنّها ناطقة بذاتها، فهي تُجلّي الحقيقة.

وعبارة (وهم لا يظلمون) تبيّن أنّه لا ظلم ولا جور ولا غفلة يوم الحساب، فكلّ شيء في سجلٍّ معلوم.

ولكون هذه الحقائق مؤثّرة في الواعين من الناس فحسب، أضافت الآية التالية بأنّ هؤلاء الكفّار المعاندين غارقون في دوّامة الجهل والغفلة لدرجة أنّهم غافلون عمّا ينتظرهم من الوعيد: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)(2).

___________________________

1 ـ لقد شرحنا بإسهاب صحيفة أعمال الإنسان وحقيقتها في التّفسير الأمثل حين تفسير الآية (13) من سورة الإسراء وكذلك حين تفسير الآية (49) من سورة الكهف.

2 ـ يمكن أن تكون كلمة «هذا» إشارة إلى صحيفة الأعمال ويوم الحساب، أو القرآن المجيد، أو أعمال الصالحين التي أشارت الآيات السابقة إليها.

[ 473  ]

وهذا الإنغمار في الجهل لا يسمح بمعرفة هذه الحقائق، ويمنع الضالّين من العودة إلى أنفسهم وإلى الله تعالى.

وتضيف هذه الآية (ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون)، وقد أورد المفسّرون تفاسير لقوله سبحانه: (ولهم أعمال من دون ذلك) فبعضهم قال: إنّها تعني الأعمال السيّئة التي يقترفها الناس عن جهالة (فعلى هذا تكون «ذلك» إشارة إلى جهلهم)، والأعمال هي الذنوب التي يرتكبها الإنسان عن غير علم ووعي وقال آخرون: إنّ المراد هو أنّهم إضافة إلى كفرهم إرتكبوا أنواعاً من الأعمال السيّئة.

واحتمل آخرون إختلاف برنامج الكفرة عن برنامج المؤمنين إختلافاً كبيراً.

ونحن نرى عدم إختلاف هذه التفاسير فيما بينها في نهاية الأمر، ويمكن الجمع بينها، المهمّ هو الإنتباه إلى أنّ مصدر الأعمال الشريرة يكمن في إنغمار القلوب في الجهالة.

ولكن هؤلاء المترفين يبقون في هذه الغفلة ما داموا في نعيمهم، فإذا جاءهم العذاب فهم يصرخون كالوحوش من شدّة العذاب الإلهي، كما تقول الآية: (حتّى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون).

فيخاطبون (لا تجأروا اليوم إنّكم منّا لا تنصرون).

أمّا لماذا ورد ذكر «المترفين» هنا فحسب مع أنّ المذنبين لا يختّصون بهم؟ السبب هو إمّا لكونهم قادةً للضالّين، أو لأنّ عذابهم شديد جدّاً.

ثمّ إنّ هذا العذاب يحتمل أن يكون دنيويّاً أو اُخرويّاً أو كليهما. حيث يصيبهم العذاب في هذه الدنيا أو في الآخرة فيرتفع صراخهم، ويستغيثون فلا يغاثون.

وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم (قد كانت آياتي تتلى

[ 474  ]

عليكم وكنتم على أعقابكم تنكصون) بدلا من الإستفادة منها والإنتباه للواقع.

كلمة «تنكصون» مشتقّة من النكوص، بمعنى السير بشكل معاكس.

و «أعقاب» جمع «عقب» على وزن «فَعِل» وتعني عقب القدم.

وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاماً غير مرغوب فيه، فيرتعب لدرجة يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.

ثمّ إنّه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات الله، وإنّما يصبح ممّن وصفتهم الآية (مستكبرين به)(1).

وإضافةً إلى ذلك (سامراً تهجرون) أي يتسامرون في لياليهم ويتحدّثون عن النّبي والقرآن بالباطل.

وكلمة «سامراً» مشتقّة من «سَمَرَ» على وزن «نصر» بمعنى التحدّث ليلا. وقال البعض: إنّها تعني ظلّ القمر في الليل حيث يختلط السواد مع البياض فيه، وبما أنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حول الكعبة في الليالي المقمرة، وجُلّ حديثهم يتناول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالباطل، فوردت هذه الكلمة لهذا الغرض. ويقال «سمراء» لمن إختلط بياضها بشيء من السواد.

و (تهجرون) مشتقة من «هَجْر» وتعني بالأصل الإبتعاد والإنفصال، وقد وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض. لأنّ كلامه في تلك الحالة غير سليم. ويبعث على النفور. كما أنّ الهُجر (على وزن كُفر) يعني السباب، وهو أيضاً يبعث على الإبتعاد والقطيعة.

وقد جاءت كلمة «تهجرون» في الآية بالمعنى الأخير. فتقول: إنّ المشركين

___________________________

1 ـ هناك إختلاف بين المفسّرين في مَن يعود إليه الضمير في (به). فذهب بعض أنّه يعود إلى المسجد الحرام والحرم المكّي، لأنّ سدنة الكعبة إستكبروا لإعتبارهم أنفسهم أصحاب الحرم المكّي، وهذا الإحتمال ضعيف لأنّ الآيات السابقة لم تتناول الكعبة والحرم. ويبدو أنّ هذا الضمير يعود إلى القرآن المجيد والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيكون معنى الآية: إنّكم استكبرتم إزاء القرآن ونبي الإسلام. أو أنّها تشير إلى سيرهم المعاكس، فهم استكبروا ولم يهتّموا به.

[ 475  ]

من العرب كانوا يتسامرون حتّى ساعات متأخّرة من الليل، وهم يهذون ويكيلون السباب والشتائم كالمرضى.

وهذا الاُسلوب اُسلوب الجبناء وضعاف النفوس، الذين يلجأون إلى ظلمة الليل، ليكيلوا السباب، حيث يفتقدون المنطق السليم الذي يمكنهم من التحدّث برجولة في وضح النهار. إنّهم إختاروا ظلام الليل بعيدين عن أنظار الناس، ليصلوا إلى أهدافهم المشؤومة، فلجأوا إلى السباب والباطل من أجل التنفيس عن أحقادهم الجاهلية. يقول القرآن الكريم: إنّ سبب تعاستكم وما ستنالون من عذاب الله الأليم هو أنّكم إستكبرتم عن قبول الحقّ. ولم ترضخوا بتواضع لآيات الله. كما لم يكن تعاملكم مع النّبي بشكل منطقي صحيح. ولولا ذلك لأهتديتم إلى طريق الحقّ والسعادة.

* * *

[ 476  ]

الآيات

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ(68)أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَـرِهُونَ(70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَـوَتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنـهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ(71) أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ(72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم(73) وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَطِ لَنَـكِبُونَ(74)

التّفسير

أعذار المنكرين المختلفة:

تحدّثت الآيات السابقة عن إعراض الكفّار وإستكبارهم إزاء الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). وتناولت هذه الآيات أعذارهم في هذا المجال والردّ عليهم، وشرحت الدوافع الحقيقيّة لإعراض المشركين عن القرآن والرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،

[ 477  ]

ويمكن تلخيصها في خمس مراحل:

الاُول: (أفلم يدبّروا القول).

فأوّل سبب لتعاستهم هو تعطيل التفكّر في مضمون دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو تفكّروا مليّاً لما بقيت مشكلة لديهم.

وفي المرحلة الثّانية تقول الآية: (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين). سألت الآية مستنكرةً: أكانت الدعوة إلى التوحيد والمعاد، والهدى إلى الأعمال الصالحة مختصّة بهم دون آبائهم الأوّلين، ليحتجّوا بأنّها بدعةً، ويقولوا: لماذا لم يبعثه الله للأوّلين، وهو لطيف بعباده؟

ليس لهم ذلك، لأنّ الإسلام من حيث المبادىء له مضمون سائر الرسالات التي حملها الأنبياء (عليهم السلام) فهذا التبرير غير منطقي ولا معنى له!

وفي المرحلة الثّالثة تقول الآية: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون).

أي إذا كانت هذه الدعوة صادرة من شخص مجهول ومشكوك، فيحتمل أن يقولوا بأنّ كلامه حقّ، إلاّ أنّ هذا الرجل مشكوك وغير معروف لدينا، نُخدع بكلامه. ولكنّهم يعرفون ماضيك جيداً، وكانوا يدعونك محمّداً الأمين، ويعترفون بعقلك وعلمك وأمانك، ويعرفون جيداً والديك وقبيلتك، فلا حجّة لهم!

وفي المرحلة الرّابعة تقول الآية: (أم يقولون به جنّة) أي انّه مجنون، فبعد إعترافهم بأنّك لست مجهولا بالنسبة لهم، إلاّ أنّهم يشكّكون في سلامة عقلك وينسبونك إلى الجنون، لأنّ ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم، فلذلك اتّخذوا هذا دليلا على جنونك.

يقول القرآن المجيد لنفي هذه الحجّة: (بل جاءهم بالحقّ) وكلامه شاهد على هذه الحقيقة، ويضيف (وأكثرهم للحقّ كارهون).

أجل، إنّ كلمات الرّسول راشدة حكيمة، إلاّ أنّهم ينكرونها لعدم إنسجامها مع أهوائهم النفسيّة. فألصقوا به تهمة الجنون! في الوقت الذي لا ضرورة في توافق

[ 478  ]

الحقّ مع رغبات الناس (ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ).

لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس، مضافاً إلى أنّها تميل إلى الشرّ والفساد غالباً، ولو اتّبعتها قوانين الوجود لعمّت الفوضى في الكون ولفسد العالم.

وتأكيداً لذلك تقول الآية: (بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)(1)أي منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجّه إلى الله، وسبب لرفعتهم وشرفهم، إلاّ أنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يُضيء لهم درب السعادة والشرف.

وفي المرحلة الخامسة تقول الآية: هل أنّ عذرهم في فرارهم من الحقّ هو أنّك تريد منهم أجراً على دعوتك: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربّك خير وهو خير الرازقين)(2).

فلو طلب قائد ديني أجراً من الناس مقابل وعظهم ودعوتهم إلى الحقّ لأعطى المتعذّرين ذريعةً للإعراض عنه والطعن عليه، فيعرضون عنه بحجّة عدم قدرتهم المالية، ويتّهمونه بأنّه ما دعاهم إلاّ ابتغاء منافع خاصّة به.

مضافاً إلى أنّ البشر ما يملك من شيء ليمنحه؟ أليس الله سبحانه وتعالى رزّاق العباد؟

والقرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أنّ هؤلاء الحمقى (المشركين) لا يرضخون للحقّ، وأنّ أعذارهم في إنكار الحقّ أعذار واهية.

وجاءت الآية التالية باستنتاج عام لكلّ ما مضى: (وإنّك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) صراط مستقيم دلائله واضحة وإستقامته معلومة، فالطريق

___________________________

1 ـ يمكن أن تفسّر عبارة «ذكرهم» بمعنى تذكّرهم وتوقظهم، ويمكن أن تفسّر بمعنى شرفهم وحيثيّتهم في المجتمع البشري، وفي الوقت ذاته لا تناقض بين هذين المفهومين، وقد إستفدنا من كليهما في تفسير الآية.

2 ـ الخرج و الخراج مشتق من الخروج، ويعني الشيء الذي يستخرج من المال أو من حاصل الأرض الزراعية. إلاّ أنّ الخرج ذو معنى أوسع من الخراج. وكما يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: الخرج أعمّ من الخراج، وجعل الخرج بإزاء الدخل، وقال تعالى: (فهل نجعل لك خرجاً) والخرج مختّص في الغالب بالضريبة على الأرض أو اُجرتها.

[ 479  ]

المستقيم أقصر الطرق بين نقطتين، وهو طريق واحد، والطريق الملتوية على يساره ويمينه غير متناهية.

ورغم أنّ الرّوايات الإسلامية تفسّر الصراط المستقيم بولاية علي (عليه السلام)(1) إلاّ أنّها تكشف ـ كما قلنا مراراً ـ عن المصداق الأكمل لذلك، ولا تتنافى مع المصاديق الاُخرى كالقرآن والإيمان بالمبدأ والمعاد والتقوى والجهاد والعدل.

وتستعرض الآية التالية النتيجة الطبيعيّة لهذا الموضوع، فتقول: (وإنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون).

كلمة «ناكب» مشتقّة من «النكب» و «النكوب» أي الإنحراف عن الطريق. و «نكبت الدنيا» تقع في مقابل إقبال الدنيا، وتعني إدبار الدنيا وإعراضها عن المرء.

ومن الواضح أنّ الصراط يقصد به هنا ما في الآية السابقة، وبديهي أنّ الذي ينحرف عنه في الآخرة فمكانه النّار وبئس المصير، لأنّ المرء يثاب في الآخرة على أعماله في هذه الدنيا.

وعدم إيمان المرء بالآخرة مرتبط بإنحرافه عن طريق الحقّ الناجم عن عدم شعوره بالمسؤولية، فقد روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إنّ الله جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون»(2).

* * *

بحوث

1 ـ التمسّك بالحقّ أو بالأهواء النفسيّة

أشارت الآيات السابقة ـ بشكل عابر ـ إلى التناقض بين التمسّك بالحقّ وبين الأهواء النفسيّة، وهي إشارة ذات مدلول كبير، حيث تقول: (ولو اتّبع الحقّ

___________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث صفحة 548.

2 ـ اُصول الكافي (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، صفحة 549).

[ 480  ]

أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ). وتفسير هذه المسألة ليس صعباً للأسباب الآتية:

الف ـ لا شكّ في أنّ أهواء الناس متفاوتة، وقد ينقض بعضها بعضاً، حتّى بالنسبة لشخص واحد فقد تتناقض أهواؤه.

ولو إستسلم الحقّ لهذه الأهواء لنتج عن ذلك الفساد وعمّت الفوضى. لماذا؟

لأنّ كلّ فرد له صنم ومعبود، فلو حكمت هذه الآلهة الكثيرة والمتضادّة هذا العالم المترامي الأطراف، لظهر الفساد وتعمّ الفوضى من جرّاء ذلك، وهذا لا يخفى على أحد.

ب ـ إنّ أهواء الناس مع قطع النظر عن تناقضها، فهي تميل نحو الفساد والشرّ ولو سادت الوجود والمجتمع البشري، فالنتيجة لا تكون سوى الفساد والشرّ.

ج ـ إنّ الميول والأهواء ذات بعد واحد، ولا تنظر إلى الاُمور إلاّ من زاوية واحدة وتغفل عن بقيّة الأبعاد، ومن المعلوم أنّ أحد العوامل المهمّة في الفساد والخراب هو المنهج ذو البعد الواحد الذي يغفل عن الأبعاد الاُخرى.

والآية محلّ البحث تشبه من بعض جوانبها ما ورد في الآية الثّانية والعشرين من سورة الأنبياء (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا).

وبديهي أنّ الحقّ كالصراط المستقيم واحد لا نظير له، بينما الأهواء النفسية متعدّدة كأوثان المشركين. فأيّما نتّبع الحقّ أم الهوى؟ أنتّبع الهوى الذي هو مصدر الفساد في السّماء والأرض وفي جميع الموجودات، أم الحقّ الذي هو رمز الوحدة والتوحيد والنظام والإنسجام؟

الجواب في غاية الوضوح والإشراق.

2 ـ صفات القائد

أوضحت الآيات السابقة عدداً من صفات القادة إلى طريق الحقّ، فهم

[ 481  ]

المعروفون بالصلاح والإستقامة، فلم يبق الله للمشركين ذريعة في هذا الصدد إذ قال سبحانه: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون).

فلو كان الرسل مجهولين لتذرّع المنافقون بذلك، ولأنكروا الرسالات السماوية.

والأمر الآخر أنّ الرسل لا يستسلمون أبداً لأهواء الناس. ولا يقرّون الناس على ما إعتادوه من انحراف، مثلما نشاهده اليوم حيث التأييد المطلق لكلّ الرغبات العامّة (رغم إنحراف الكثير منها). وعلى هذا كان الرسل يواصلون عملهم بإصرار دائم لنشر العقيدة الحقّة رغم رفض عدد كبير من الناس لهم وحقدهم عليهم.

والصفة الاُخرى للأنبياء أنّهم لم يطلبوا أجراً من الناس، ولم يأخذوا منهم شيئاً في مقابل نشر الحقّ، فهم لا يرجون غير الله، وظلّوا يتجرّعون الفقر والبأساء دون أن يكون لأحد عليهم منّة قطّ، ليبقوا أحراراً طليقين في نشر دعوتهم بين الناس.

3 ـ لماذا لا يميل أكثر الناس إلى الحقّ؟

لقد إستنكرت آيات القرآن الكريم ـ كالآيات السابقة ـ «الأكثرية» من الناس، في حين نرى أنّ «الأكثرية» يقرّرون اليوم صلاح الشيء أو عدمه فهم معيار الحسن والقبح في المجتمع، وهذا يثير علامة إستفهام كبيرة: وليس الكلام في الآيات التي تذكر الأكثرية مع إضافة ضمير (هم) حيث يكون المراد منها أكثر الكافرين والمشركين وأمثالهم، بل الكلام حول الآيات التي تذكر عنوان (أكثر الناس) من قبيل: (ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون)(1).

___________________________

1 ـ البقرة، 243.

[ 482  ]

(ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)(1).

(ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون)(2).

(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)(3).

(وأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً).(4)

(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله)(5).

ومن جهة أُخرى اهتّمت بعض آيات القرآن بمنهج أكثرية المؤمنين بإعتباره معياراً صحيحاً للآخرين، فقد جاء في الآية الخامسة عشرة بعد المئة من سورة النساء: (ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً).

ونجد في الرّوايات الإسلامية لدى تعارض الرّوايات أنّ أحد المعايير للترجيح هو الشهرة بين أصحاب أئمّة الهدى وأنصارهم وأتباعهم، كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(6).

ونقرأ في نهج البلاغة: «والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفُرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب»(7).

___________________________

1 ـ الأعراف، 187.

2 ـ هود، 17.

3 ـ يوسف، 103.

4 ـ الإسراء، 89.

5 ـ الأنعام، 116.

6 ـ وسائل الشيعة، المجلّد الثامن عشر، صفحة 72 (كتاب القضاء الباب التاسع من أبواب صفات القاضي).

7 ـ نهج البلاغة، الخطبة 127.

[ 483  ]

ونقرأ أيضاً في نهج البلاغة: «والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة»(1).

وعلى هذا قد يترأى للبعض تناقض بين هاتين المجموعتين من الآيات والأحاديث.

ومن جهة أُخرى يمكن أن يتصوّر مخالفة الإسلام للديمقراطية التي تعتمد على آراء أكثر الناس، وهذا ما رفضه القرآن بشدّة.

ولكن بالتدقيق في الآيات والأحاديث السابقة ومقارنة بعضها ببعض يتّضح المفهوم الحقيقي، وهو أنّ الأكثرية لو كانت من المؤمنين الواعين الذين ينتهجون الحقّ ويرفضون الباطل، لاستحقّوا الإحترام، وحظي رأيهم بالتقدير والقبول.

أمّا إذا كانوا فئةً جاهلة أو واعية لكنّها مستسلمة لرغباتها وشهواتها على علم منها، فلا طاعة لها ولا رأي. لأنّ اتّباعها يؤدّي إلى الضلالة والضياع، كما يقول القرآن المجيد.

وعلى هذا الأساس فلو أردنا تحقيق «ديمقراطية سليمة» لوجب السعي أوّلا لتوعية الناس وتكوين جماعة مؤمنة واعية، ثمّ الإستناد على رأي أكثريتهم كمعيار لسلامة الأهداف الإجتماعية، وإلاّ فإنّ ديمقراطية الأكثرية الضالّة لا تنتج سوى ضلال المجتمع وجرّه إلى جهنّم.

ومن الضروري التنبيه إلى انّنا نعتقد أنّ رأي الأكثرية الواعية المؤمنة إنّما يكون محترماً ومقبولا فيما إذا لم يخالف الكتاب والسنّة والأحكام الإلهيّة.

ولجوء الاُمم والشعوب في هذا العصر إلى رأي الأكثرية مبعثه إنعدام المعيار الموثوق به في قياس ما ينفع المصلحة العامّة وما يضرّها، فهذه المجتمعات  لا تستنير بكتاب ربّاني ولا تلتزم رسالة نبي كريم، وليس لديها سوى الرجوع إلى

___________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 151.

[ 484  ]

رأي العامّة. وبما أنّ المتسلّطين لا يسعون لتوعية رعاياهم، بل يجتهدون في إستدامة غفلة الناس وضآلة اطّلاعهم على ما ينهض بتقدّمهم وإزدهار حياتهم، ليتسنّى لهؤلاء الإستمرار في الهيمنة على الناس والعبث بمصيرهم، لذلك جعلوا الأكثرية الكميّة معياراً لإسكات الأصوات المعترضة.

ولو دقّقنا في وضع المجتمعات المعاصرة والقوانين والأنظمة السائدة، لوجدنا أكثر مصائبهم نابعة من اللجوء إلى ما يسمّى رأي الأكثرية.

فما أسوأ القوانين وأقبح المقرّرات التي جعلتها «الأكثرية»، وما أكثر الفتن والحروب التي إندلعت بسبب رأي الأكثرية الجاهلة، وما أعظم المظالم وأشكال العدوان التي قرّرت الأكثرية صحّتها ومشروعيتها!!

* * *

[ 485  ]

الآيات

وَلَوْ رَحِمْنَـهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِى طُغْيَـنِهِمْ يَعْمَهُونَ(75) وَلَقَدْ أَخَذْنَـهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ(76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَاب شَدِيد إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(77) وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَـرَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ(78) وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(79) وَهُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَـفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(80)

التّفسير

طرق التوعية الإلهيّة المختلفة:

عرضت الآيات السابقة الحجج التي يتذرّع بها منكرو الحقّ في رفض الرسالات وإيذاء الأنبياء (عليهم السلام). وتناولت هذه الآيات إتمام الحجّة عليهم من قبل الله تعالى وتوعيتهم.

فتقول أوّلا: إنّنا تارةً نشملهم برعايتنا ونرزقهم من وفير النعمة لينتبهوا،

[ 486  ]

ولكن: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضُرّ للجّوا في طغيانهم يعمهون).

والله تعالى يبتليهم لعلّهم يَعُون حين لا تجدي بهم رحمته سبحانه، لكنّ طائفة غالبة منهم لم يستيقظوا حتّى بالبلاء المذلّ (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربّهم وما يتضرّعون)(1).

«التضرّع» ـ كما أسلفنا ـ مشتقّة من الضرع بمعنى الثدي، فالتضرّع يعني الحلب، ثمّ استعملت بمعنى التسليم المخالط بالتواضع والخضوع.

وتعني هذه الآية أنّ المشركين لم يتخلّوا عن غرورهم وعنادهم وتكبّرهم، ولم يستسلموا للحقّ حتّى وهم يواجهون أشدّ النكبات عصفاً بهم.

وإذا ما فسّر التضرّع في الرّوايات بأنّه رفع اليدين نحو السّماء للدعاء، فهو أحد مصاديق هذا المعنى الواسع.

فالله تعالى يواصل هذه الرحمة والنعمة والعقوبات، والمشركون يواصلون طغيانهم وعنادهم (حتّى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون)(2).

الواقع، أنّ نوعين من العقاب الإلهي: أوّلهما «عقاب الإبتلاء»، وثانيهما «عقاب الإستيصال» والإقتلاع من الجذور، والهدف من العقاب الأوّل وضع الناس في صعوبات وآلام ليدركوا مدى ضعفهم وليتركوا مركب الغرور.

أمّا هدف العقاب الثّاني الذي ينزل بالمعاندين المستكبرين فهو إزالتهم عن مجرى الحياة، وتطهيرها من عراقيلهم، لأنّه لم يبق لهم حقّ الحياة في نظام الحقّ،

___________________________

1 ـ «استكانوا» مشتقّة من السكون، بمعنى الصمت في حالة الخضوع والخشوع، وبهذه الصورة ستكون من باب «إفتعال» التي كانت في الأصل استكنوا. أشبعت فتحة الكاف وبدّلت إلى ألف. فأصبحت استكانوا. وقال البعض: إنّها مشتقّة من كون، ومن باب «إستفعال» أي طلب الإقامة في مكان بخضوع وخشوع. وعلى كلّ حال فإنّها تبيّن حالة العبد الخاضع لربّه، وقد اعتبرها البعض بمعنى الدعاء بسبب كونه أحد مصاديق الخضوع والتواضع. أمّا الإحتمال الثالث، فهي مشتقّة عن «الكين» على وزن «عين» ومن باب الإستفعال، لأنّها تعني الخضوع أيضاً. وجميع هذه المعاني متقاربة.

2 ـ «المبلس» كلمة مشتقّة من «الإبلاس». بمعنى الألم الشديد الناتج عن شدّة أثر الحادثة. وتدفع بالإنسان إلى الصمت والحيرة واليأس.

[ 487  ]

ولهذا يستوجب إقتلاع هذه الأشواك من طريق تكامل البشر.

وبيّن المفسّرين إختلاف في قصد الآية من عبارة (باباً ذا عذاب شديد).

فالكثيرون يرون أنّه الموت، ثمّ العذاب وعقاب يوم القيامة.

وآخرون يرونه القحط الشديد الذي واجه المشركين سنين عديدة بدعاء من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأصبحوا لا يجدون ما يأكلون، حتّى تناولوا ما تشمئز منه الأنفس.

وغيرهم يرونه العقاب الأليم الذي نزل على المشركين بضربات سيوف جند الإسلام في معركة بدر.

وهناك إحتمال أنّ الآية لا تختّص بفئة معيّنة، بل هي إستعراض لقانون شامل عامّ للعقوبات الإلهيّة، يبدأ من الرحمة، فالتنبيه والعقاب التربوي، وينتهي بعذاب الإقتلاع من الجذور والدمار(1).

ثمّ تناول القرآن المجيد القضيّة من باب آخر، فعدّد النعم الإلهيّة لدفع الناس إلى الشكر (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون)والتأكيد على (الاُذن والعين والعقل) لأنّها الأجهزة التي بها يتعرّف الإنسان على المحسوسات والقضايا، فالأشياء الحسيّة يبلغها بالعين والاُذن، والقضايا غير الحسّية يدركها بالعقل.

ومعرفة أهميّة حاسّتي النظر والسمع يكفي لتصوّر حالة الإنسان الذي يفقدهما، إذ تظلم الدنيا بعينه. وبفقدان هاتين الحاسّتين بالولادة تفقد حواسّ أُخرى عملها. فالأصمّ بالولادة يكون بالبداهة أبكم، فإنطلاق اللسان مرتبط بسمع الإنسان وبفقدهما يفقد الإنسان وسيلة إرتباطه مع الآخرين.

وبعد هاتين الحاسّتين اللتين هما مفتاح الإدراك لعالم المادّة، يأتي العقل الذي ينتزع الأفكار ممّا تُموّنه به الحواسّ، ويجتاز الطبيعة إلى ما وراءها، ومهمّته

___________________________

1 ـ الآية (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة) التي ذكرت قبل هذه الآيات تؤيّد هذا التّفسير.

[ 488  ]

النقد والإستنتاج والترتيب والتعميم وتحليل محصّلة حاسّتي البصر والسمع وسواهما، أفلا يستحقّ الذين لا يشكرونه على هذه الأدوات الثلاث للمعرفة الذمّ واللوم؟ ألا يكفي التدقيق في تفاصيلها دليلا على معرفة الخالق وعظيم إحسانه للعباد؟

وتقديم ذكر الاُذن والعين على العقل في الآية المذكورة له ما يسوّغه. ولكن لماذا تقدّم السمع على البصر؟ يحتمل ـ كما يقول العلماء ـ أنّ اُذن الوليد تعمل أوّلا، ثمّ عينه، فالعينان مغلقتان في عالم الرحم وليست لديهما أي إستعداد وقابلية على مشاهدة أمواج النور، ولذلك تبقيان هكذا بعد الولادة قليلا، ثمّ تتعودّان النور تدريجيّاً.

وليست الاُذنان هكذا، حتّى أنّ بعضهم يرى أنّها قادرة على السماع حتّى في الرحم(1). فهي تسمع صوت دقّات قلب الاُمّ.

إنّ بيان المواهب الثلاث أعلاه يشكّل دافعاً لمعرفة واهب هذه النعم، وهو المنعم الوحيد حقّاً (مثلما يرى علماء العقائد في بعث شكر المنعم أساساً لوجوب معرفة الله عقلا).

وتناولت الآية اللاحقة خلق الله سبحانه للإنسان من التراب، فتقول: (وهو الذي ذرأكم في الأرض)(2).

وبما أنّه ـ جلّ إسمه ـ خلقكم من الأرض، لذلك ستعودون إليها مرّة ثانية، ثمّ يبعثكم: (وإليه تحشرون).

ولو فكّرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له، لدلّكم على خالق الوجود سبحانه، وعرّفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم، وقادكم إلى الإيمان به

___________________________

1 ـ تحدّثنا عن أجهزة التعرّف الثلاثة في تفسير الآية (78) من سورة النحل.

2 ـ «ذرأ» مشتقّة من الذرء (على وزن زرع). وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار، إلاّ أنّ كلمة (ذرو) وهي أيضاً على وزن فعل بمعنى البعثرة. الآية الأُولى من النوع الأوّل.

[ 489  ]

وبالمعاد.

وبعد ذكر خلق الإنسان، تناولت الآية المذكورة آنفاً دلائل أُخرى من بديع صنع الله تعالى (وهو الذي يحيي ويميت وله إختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون).

وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لإستيقاظ القلب وإنبعاثه على معرفة ربّه سبحانه وإنتهى بذكر بعض أهمّ الآيات الأنفسيّة والآفاقية، فالقول المبارك إستعرض مسيرة الإنسان منذ الولادة حتّى الموت والعودة إلى الله تعالى، التي تتمّ مراحلها جميعاً بإرادة الله العزيز الحكيم.

وممّا يلفت النظر جعل الله الموت والحياة إلى جانب إختلاف الليل والنهار، وذلك لكون النور والظلام في عالم الوجود كالموت والحياة للكائنات، فمثلما يجد الخلق حركته ونشاطه بين أفواج النور، ويستخفي بين أستار الظلام، كذلك تبدأ الأحياء حركتها ونشاطها في نور الحياة، وتستخفي في ظلمة الموت، ولكليهما صفة التدرّج.

وسبق أن قلنا بأنّ «إختلاف» الليل والنهار قد يعني تواليهما حيث يخلف الليل النهار، ويخلف النهار الليل. وقد يعني إختلافهما وتفاوتهما التدريجي الذي يوجد الفصول الأربعة، ويقود دورة الحياة في عالم النبات في ظلّ نظام دقيق.

وكلّ هذه المسائل يمكن أن تكون السبيل إلى معرفة الله، إذا انتبه لها الإنسان وتأمّلها بفطنة.

ولهذا تقول الآية في النهاية: (أفلا تعقلون)؟!

* * *

[ 490  ]

الآيات

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الاَْوَّلُونَ(81) قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ(83) قُل لِّمَنِ الاَْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (85)قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـوَتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْء وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89) بَلْ أَتَيْنَـهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (90)

التّفسير

القرآن يدعو الضمائر إلى التحكيم:

دعت الآيات السابقة منكري الله والمعاد إلى التفكّر في خلق عالم الوجود وآيات الآفاق والأنفس، وأضافت هذه الآيات أنّ هؤلاء تركوا عقولهم واتّبعوا

[ 491  ]

أسلافهم وقلّدوهم تقليداً أعمى: (بل قالوا مثل ما قال الأوّلون).

ثمّ إنّ هؤلاء ملكهم التعجّب و: (قالوا أئذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنّا لمبعوثون)(1).

إنّ ذلك لا يصدق! (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) فكانت وعوداً كاذبة، و (إنّ هذا إلاّ أساطير الأوّلين) فإعادة الخلق اُسطورة، والحساب والكتاب أساطير أُخرى، وكذا الجنّة والنّار.

ولكون الكفّار والمشركين أشدّ خوفاً من اليوم الآخر وما فيه من هول الحساب وعدل الكتاب، تذرّعوا بالأوهام لتسويغ إعراضهم عن الحقّ وتمسّكهم بالباطل.

ولهذا سدّدت الآيات موضع البحث ضربةً قويّة إلى هذا المنطق الواهي من ثلاث طرق: بتذكيرها الإنسان بمالكية الله لعالم الوجود المترامي الأطراف، وربوبيته له، وسيادته عليه. وتستنتج ـ من جميع الأبحاث ـ قدرة الله وسهولة المعاد عليه سبحانه، وأنّ عدالته وحكمته تستلزمان أن يعقب هذا العالم عالم آخر وحياة أُخرى.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يأخذ من المشركين إعترافاً بكلّ مسألة، فيعيد كلامهم ليثبت إقرارهم.

يقول أوّلا: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون).

ثمّ تضيف الآية أنّهم يؤمنون بالله خالق الوجود وفق نداء الفطرة النابع من ذاتهم، وسيجيبونك و: (سيقولون لله) فأجبهم: (قل أفلا تذكرون) كيف تتصوّرون إستحالة إحياء الموتى بعد إعترافكم الصريح؟

ثمّ يأمر رسوله مرّة ثانية أن يسألهم: (قل من ربّ السماوات السبع وربّ

___________________________

1 ـ تقديم التراب على العظام إمّا لعودة التراب إلى الحياة الأُولى هي أعجب من عودة العظام، وإمّا لأنّ الأجداد أصبحوا تراباً والآباء عظاماً نخرة، وإمّا لصيرورة لحم الإنسان تراباً قبل العظام، ثمّ تتحوّل العظام إلى تراب.

[ 492  ]

العرش العظيم).

فيأتي الجواب نابعاً من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الإعتراف بربوبيّته تعالى (سيقولون لله) وبعد هذا الإعتراف الواضح فلماذا لا تخافون الله، ولا تعترفون بالمعاد وبعث الإنسان مرّة ثانية: (قل أفلا تتّقون).

واسألهم مرّة أُخرى عن سيادة الله على السماوات والأرض (قل من بيده ملكوت كلّ شيء). ومن الذي يجير اللاجئين وجميع المحرومين ولا يحتاج إلى اللجوء إلى أحد: (وهو يجير ولا يجار عليه)، (إن كنتم تعلمون).

فيعترفون بأنّ العالم ومالكيته وحكومته وإجارة الآخرين يعود لله فقط (سيقولون لله).

(قل فأنّى تسحرون) أي: كيف تقولون: إنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سحركم رغم كلّ هذا الإعتراف والإقرار منكم؟!

إنّها لحقائق إعترفتم بها في كلّ مرحلة، فقد أقررتم بأنّه سبحانه مالك الوجود وخالقه، وأنّه المدير والمدبّر والحاكم والملجأ، فكيف لا يستطيع مَن له كلّ هذه القدرة والحكم والحكمة، إعادة الإنسان إلى تراب وبعثه ثانيةً كما خلقه أوّل مرّة؟

لماذا تفرّون من الخضوع للحقيقة؟ ولماذا تتّهمون النّبي الأكرم بالسحر وقلوبكم تعترف بهذه الحقائق؟!

وأخيراً يقول القرآن في عبارة مختصرة ذات دلالة كبيرة بأنّه ليس سحراً  ولا شعوذة ولا شيء آخر: (بل أتيناهم بالحقّ وإنّهم لكاذبون).

لقد بيّن الله الحقائق للناس بإرساله الأنبياء والرسل إليهم ولكنّهم عصوا أمره، ولم يستجيبوا له فيما يحييهم من عبادته وإقامة أحكامه الهادية لكلّ خير، المنقذة من كلّ شرّ.

* * *

[ 493  ]

ملاحظات

1 ـ معنى عدد من الكلمات

«الأساطير» جمع «اُسطورة» قال بعض اللغويين: إنّها مشتقّة من «السطر» بمعنى الصفّ، فيطلق على الكلمات التي إصطفّت في خطّ واحد لفظ السطر. فالاُسطورة: الكتابة أو السطور التي تركها لنا الآخرون، ولأنّ كتابات القدماء تحتوي على أساطير خرافية، تطلق الأساطير على الحكايات والقصص الخرافية الكاذبة. وقد تكرّرت كلمة الأساطير في القرآن المجيد تسع مرّات. وجميعها جاء على لسان الكفّار لتوجيه مخالفتهم لأنبياء الله تعالى.

«الربّ» تعني ـ كما قلنا في تفسير سورة الحمد ـ المالك المصلح، ولهذا لا يطلق على كلّ مالك، وإنّما يختّص بالمالك الذي يسعى لإصلاح وحفظ وإدارة ملكه حفظاً جيّداً، وتطلق كلمة «ربّ» أحياناً على المربّي والمعلّم أيضاً.

«الملكوت» مشتقّة من «المُلك» (على وزن كُفر)، بمعنى الحكومة والمالكية، وإضافة الواو والتاء للتأكيد والمبالغة.

«العرش» يعني السرير ذا القوائم العالية، ويطلق أحياناً على السقف وشبهه. وعندما تتعلّق هذه الكلمة بالله سبحانه، فإنّها تعني عالم الوجود كلّه، فهو كلّه دون جلاله المقدّس وحكمه الحكيم.

وقد تطلق أحياناً على عالم ما وراء الطبيعة (ميتافيزيقيا) مقابل «الكرسي» الذي يعني عالم الطبيعة والمادّة، مثال ذلك (وسع كرسيه السماوات والأرض)(1)(2).

___________________________

1 ـ بحثنا موضوع العرش بإسهاب في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف.

2 ـ البقرة، 255.

[ 494  ]

2 ـ تأكيد المعاد بالإستناد إلى قدرة الله الشاملة

يستنتج من آيات القرآن أنّ معظم مخالفة المنكرين للمعاد يدور حول مسألة المعاد الجسماني، ودهشتهم من عودة الروح والحياة ثانية إلى الإنسان بعد أن يصير تراباً، من هنا عدّدت الآيات معالم قدرة الله في عالم الوجود، وأكّدت خلقه لكلّ شيء من عدم، ليؤمنوا بالحياة بعد الموت، وتزول إستحالتها من تصوّرهم.

وبحثت هذه الآيات هذه المسألة من خلال بيان قدرة الله على الأرض وسكّانها. وقدرته على السموات والعرش العظيم، وقدرته على إدارة عالم الخلق والنشر، وهذه السبل الثلاثة مصاديق لمفهوم واحد. ويحتمل أيضاً أنّ كلا من هذه الأبحاث الثلاثة يشير إلى وجهة نظر المنكرين للمعاد، فلو كان إنكاركم للمعاد يعود إلى أنّ العظام البالية قد خرجت من دائرة حكومة الله وملكيّته، فهذا خطأ، لأنّكم تعترفون أنّ الله تعالى هو مالك الأرض ومن عليها.

وإن كان إنكاركم لأنّ بعث الأموات يحتاج إلى إله مقتدر، فأنتم تعترفون بأنّ الله ربّ السماوات والعرش.

وإن كان جحودكم أنّكم في شكّ من تدبير العالم بعد الحياة الجديدة وبعد بعث الأموات، فهو أيضاً في غير مورده، لأنّكم قبلتم تدبيره وإعترفتم بقدرته على إدارة عالم الوجود، وجوار من لا جار له (أي كلّ الموجودات) حيث يتكفّل برعايتها وتدبير اُمورها، فعلى هذا لا مجال لإنكاركم أيضاً. وإجابة الكفّار في الحالات الثلاث بشكل منسجم موحّد (سيقولون لله) تؤكّد التّفسير الأوّل.

3 ـ إختلاف نهايات الآيات

والجدير بالإهتمام هو أنّه بعد السؤال الأوّل وإجابته جاءت عبارة:  (أفلا تذكرون).

وبعد السؤال الثّاني وإجابته جاءت عبارة (أفلا تتّقون).

[ 495  ]

وبعد السؤال الثّالث وإجابته جاءت عبارة (فأنّى تسحرون).

وهذه عبارات تنبيه شديدة للكفّار وإستنكار لما هم عليه من باطل بشكل متدرّج ومرحلة بعد أُخرى، وهو اُسلوب متعارف ينسجم مع الأساليب المعروفة في التعليم والتربية المنطقيّة. فإذا احتاج المربّي إلى إدانة شخص، يبدأ أوّلا بتنبيهه بلطف، ثمّ بحزم، وبعد ذلك يعنّفه!

* * *

[ 496  ]

الآيتان

مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـه إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَـنَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ(91) عَـلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَةِ فَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(92)

التّفسير

الشرك يجرّ العالم نحو الدمار:

تناولت الآيات السابقة بحوثاً في المعاد والملك والحكم والربوبيّة، أمّا هذه الآيات فقد تناولت نفي الشرك، وإستعرضت جانباً من إنحرافات المشركين. وردّتها عليهم بالأدلّة الساطعة، قائلة: (ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله).

إنّ الإعتقاد بوجود ابن لله لا ينحصر في المسيحيين الذين يرون النّبي عيسى (عليه السلام) إبناً حقيقيّاً له! فقد كان المشركون يرون الملائكة بنات لله، ولعلّ المسيحيين أخذوا هذه الفكرة من المشركين القدماء، وعلى أساس أنّ الولد جزء من الأب، فلذلك اعتقدوا بأنّ الملائكة أو المسيح (عليه السلام) لهم حصّة من الاُلوهيّة، وهذا أوضح مظهر للشرك.

[ 497  ]

ثمّ بيّنت الآية بطلان الشرك: أنّه لو كان هناك آلهة متعدّدة تحكم العالم، فسيكون لكلّ إله مخلوقاته الخاصّة به يحكم عليها ويدبّر اُمورها.

وسيكون تبعاً لذلك أنظمة متعدّدة للعالم، لأنّ كلّ واحد من الآلهة يدير منطقته بنظام خاص (إذاً لذهب كلّ إله بما خلق) وهذا ينافي وحدة النظام الحاكم في هذا العالم.

(ولعلا بعضهم على بعض) وهذه نتيجة محتومة لكلّ صراع، إذ يسعى كلّ طرف فيه لغلبة الآخرين والهيمنة عليهم، وهذا سيكون بذاته سبباً آخر لتفكّك النظام الموحّد السائد في العالم.

وجاء في ختام الآية تقديس لله سبحانه (سبحان الله عمّا يصفون).

وزبدة الكلام ما نجده بوضوح من سيادة نظام موحّد لساحة الوجود كلّه. فالقوانين السائدة لهذا العالم في أرضه وسمائه واحدة، والنظام الحاكم لذرّة واحدة هو ذاته يحكم المجموعة الشمسيّة المنظومات الكبيرة، ولو اُتيحت لنا صورة مكبّرة لذرّة واحدة لحصّلنا على شكل المنظومة الشمسيّة، والعكس صحيح.

وقد برهن العلماء في تجاربهم في مختلف العلوم، بإستخدام أدقّ الأجهزة وأحدثها على وحدة النظام السائد لهذا العالم كلّه. هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى إنّ الإختلاف والتباين يلازمان التعدّد دوماً. فلو تشابهت صفات شيئين تمام التشابه لكانا شيئاً واحداً، إذ لا معنى لثنائيتهما عندئذ، ولو فرضنا لهذا العالم آلهة عديدة لوقع أثر هذا التعدّد على مخلوقات العالم والنظام الحاكم له، ولأنتفت وحدة نظام الخلق.

مضافاً إلى أنّ كلّ موجود لابدّ أن يسعى لإستكمال وجوده إلاّ الوجود الكامل من كلّ جهة فلا معنى للتكامل في وجوده حينئذ، فلو فرضنا وجود مناطق خاصّة لكلّ إله من هذه الآلهة المزعومة، وطبعاً لا يكون لكلّ منها كمال مطلق،

[ 498  ]

ومن الطبيعي أيضاً أنّها سوف تسعى لإستكمال ذاتها، وتحاول ضمّ بقيّة المناطق إلى حوزتها، وهذا السعي للتكامل والتنافس في الإقتدار مدعاة لوقوع العالم فريسة بين مخالب الناقصين الباحثين عن السيطرة على غيرهم، والنتيجة هي فساد العالم ودماره.

وبهذا تكون كلتا الجملتين في الآية إشارة إلى دليل منطقي واحد، ولا تصل النوبة إلى حصر الجملة في جهة إقناعية وليست منطقية.

السؤال الوحيد الباقي في هذا المورد هو أنّ البرهان المذكور يصحّ فيما لو فرضنا أنّ الآلهة تسعى للتغلّب والسيطرة المطلقة، أمّا لو فرضناها حكيمة وعالمة، فما المانع من أنّ تدير العالم بالتشاور فيما بينها؟

لقد أجبنا عن هذا السؤال في تفسيرنا للآية الثّانية والعشرين من سورة النساء، في بحث برهان التمانع، ولا حاجة لتكراره هاهنا.

والآية التالية تردّ على المشركين المغالطين فتقول: (عالم الغيب والشهادة)أي إنّ الله يعلم ظاهر الأشياء وباطنها، فكيف تتصوّرون وجود إله آخر تعرفونه أنتم ولا يعرفه الربّ الذي خلقكم والذي يعلم الغيب والشهادة في هذا العالم؟

هذا البيان يشبه ما ورد في الآية الثامنة عشرة من سورة يونس (قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض)؟!

وبهذه العبارة يبطل تصوراتهم الخرافيّة: (فتعالى عمّا يشركون).

وختام هذه الآية يشبه ختام الآية الثامنة عشرة من سورة يونس وهو (سبحانه وتعالى عمّا يشركون). وهذا يدلّ على وحدة الموضوع.

كما أنّ هذه العبارة تهديد موجّه للمشركين بأنّ الله الذي يعلم السرّ والعلن، يعلم ما تقولونه. وسيحاسبكم عليه يوم القيامة في محكمته العادلة.

* * *

[ 499  ]

الآيات

قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّىِ مَا يُوعَدُونَ(93) رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَومِ الظَّـلِمِينَ(94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُم لَقَـدِرُونَ(95)ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ(96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَتِ الشَّيَـطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ(98)

التّفسير

تعوّذوا بالله من همزات الشياطين:

مع مخاطبة هذه الآيات للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، واصلت مقاصد الآيات السابقة في تهديد الكفّار والمشركين المعاندين بأنواع العذاب الإلهي (قل ربّ إمّا تريني ما يوعدون)(1).

(ربّ فلا تجعلني من القوم الظالمين) هاهنا دعاء بالنجاة من الهلاك، والإنفصال من الظالمين الذين ينتظرهم سوء العذاب، ولا شكّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم

___________________________

1 ـ «إمّا» في الآية أعلاه مركّبة من «إنّ» الشرطية و «ما» الزائدة. وقد استعملت هنا للتأكيد. ومن أجل أن ترد (إنّ الشرطية) على الفعل المقرون بنون التأكيد يجب أن تفصل بينهما «ما».

[ 500  ]

يعمل ما يعرضه للعذاب، وليس من العدل الإلهي أن يأخذ البريء بالمذنب، بل لو أنّ رجلا كان يعبد الله في قوم لأنقذه الله سبحانه ممّا يعمّهم به من البلاء.

فهذا الدعاء من الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما كان بأمر من الله تعالى، لهدفين: ليحذّر الكفّار والمشركين من سوء المنقلب الذي يتوجّب أن يُسلّم الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)نفسه إلى الله جلّ وعلا ويطلب منه النجاة، والآخر: ليعلّم أصحابه وأتباعه جميعاً التسليم إلى الحقّ، وألاّ يتصوّروا أنّهم في مأمن من عذابه.

أمّا ماذا يقصد بهذا العذاب؟

يرى معظم المفسّرين أنّه العقاب الدنيوي الذي ابتلى الله به المشركين، ومنه الهزيمة المرّة التي ألحقها بهم في معركة بدر(1) ومع التوجّه إلى أنّ سورة «المؤمنون» مكّية نزلت يوم مواجهة المؤمنين لضغوط كبيرة. لهذا كانت هذه الآيات بلسم لجراحهم وتسلية لخواطرهم (وجاء بهذا المعنى أيضاً في سورة يونس الآية 46).

إلاّ أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّه يشمل العذاب الدنيوي والاُخروي معاً(2).

ويبدو التّفسير الأوّل أقرب لمراد الآية.

وتأكيداً لهذا الموضوع ولنفي كلّ شكّ لدى الأعداء، ولتسلية خاطر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، أضافت الآية اللاحقة (وإنّا على أن نريك ما نعدهم لقادرون).

ولقد تجلّت قدرة الله سبحانه في ساحات مختلفة بعد ذلك ـ ومنها معركة بدر ـ حيث غلبت قلّة من المؤمنين جموع الأعداء الغفيرة بقوّة الإيمان وبنصر من الله

___________________________

1 ـ يراجع تفاسير مجمع البيان، والميزان، وفي ظلال القرآن، وأبو الفتوح الرازي، وروح المعاني، في تفسير الآيات موضع البحث.

2 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآيات موضع البحث.

[ 501  ]

سبحانه وتعالى.

ثمّ يأمر الله الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باتّباع سياسة اللين في الدعوة إلى الهدى ودين الحقّ (ادفع بالتي هي أحسن السيّئة) أي ادفع عدوانهم وسيّئاتهم بالعفو والصفح والإحسان، وكلامهم البذي بالكلام المنطقي الموزون: (نحن أعلم بما يصفون). والله يعلم أنّ أعمالهم القبيحة وكلامهم البديء وأذاهم القاسي يؤلم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه عزّوجلّ يدعو إلى عدم الردّ بالمثل، بل يوجب أن يكون الردّ بالتي هي أحسن. وهذا خير سبيل لإيقاظ الغافلين والمخدوعين.

ثمّ نقرأ أمراً ربّانياً بالإستعاذة بالله من مكائد الشيطان (وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشياطين). إنّه دعاء بالإنقاذ من تربّص الشيطان ومكره الخفي،  ولا يقف الدعاء عند همزات الشياطين بل يستمرّ في الإستعاذة من حضورهم عنده (وأعوذ بك ربّ أن يحضرون) أي حضور الشياطين في إجتماعات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي يؤدّي إلى إغفال المجتمعين وإضلالهم.

ملاحظتان

1 ـ ما معنى همزات الشياطين؟

«الهمزات» جمع «همزة» بمعنى التحريك بقوّة، وقد أطلقت هذه التسمية على حرف الهمزة، لأنّها تؤدّي إلى حركة قويّة في نهاية الحلق.

وقال بعض المفسّرين: إنّ «الهمز» و «الغمز» و «الرمز» بمعنى واحد. إلاّ أنّ الرمز ذو مرحلة خفيفة، والغمز أشدّ منها. والهمز، نهايتها في الشدّة(1).

وبما أنّ الشياطين صيغة جمع، فهي تضمّ شياطين الجنّ والإنس، ظاهرها وخفيّها. ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم أنّ الإمام (عليه السلام) قال في معنى الآية: (قل ربّ أعوذ بك من همزات الشياطين): «هو ما يقع في قلبك من وسوسة

___________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي.

[ 502  ]

الشيطان»(1).

فإذا كان الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عصمته ومنزلته السامية عند الله، يدعوه سبحانه بهذا الدعاء، فما بالك بمسؤولية الآخرين؟ يجب أن يدعوا الله ألاّ يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين. وليس فقط ألاّ يقعوا تحت تأثير همزات الشياطين، بل ألاّ يحضرهم الشياطين في مجالسهم. فعلى محبّي الحقّ والذابّين عنه وناشديه أن يفوّضوا أمرهم إلى الله، ليحفظهم من وساوس الشياطين ومكائدهم.

2 ـ ردّ السيّئة بالحسنة

من أبرز السبل المؤثّرة في مكافحة الأعداء الأشدّاء والمعاندين ردّ السيّئة بالحسنة، فذلك يوقظ مشاعرهم، فيحاسبون أنفسهم على ما اقترفوه من أعمال سيّئة، ويعودون للصواب غالباً. ونجد في سيرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الهدى (عليهم السلام)هذا المنهج بشكل واضح، حيث يردّون سيّئات الجناة بالإحسان إليهم والإنعام عليهم، فيكسبون ودّهم، ويفجّرون في جوارحهم إستجابة للحقّ، ورفضاً للباطل.

وقد ذكر القرآن المجيد هذه السيرة للمسلمين مراراً باعتبارها مبدأً أساسيّاً لإقتلاع السيّئات، ففي الآية الرّابعة والثلاثين من سورة فصّلت نقرأ (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم).

والجدير بالذكر أنّ هذا الأمر خاص بحالات لا يسيء العدو الإستفادة من هذا المبدأ، ويرى إحسانهم إليه أو عفوهم عنه ضعفاً منهم، فيزداد جرأةً على العدوان والظلم.

وهذه السيرة لا تعني مساومة الأعداء أو التسليم لهم. وهذا قد يكون السبب في أنّ الله عزّوجلّ أمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذكر هذه التوصية مباشرةً بالتعوّذ به من همزات الشياطين وحضورهم حوله.

* * *

___________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 552.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339112

  • التاريخ : 29/03/2024 - 13:57

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net