00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة الحديد 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

57 - سورة الحديد

مدينة بلا خلاف، وهي تسع وعشرون آية في الكوفي والبصري وثمان وعشرون في المدينين.

بسم الله الرحمن الرحيم

(سبح لله ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم(1) له ملك السموات والارض يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير(2) هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم(3) هو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منا وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير(4) له ملك السموات والارض وإلى الله ترجع الامور(5))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مخبرا ان جميع ما في السموات والارض يسبح له. وقد بينا في غير موضع معنى التسبيح وانه التنزيه له عن الصفات التى لا تليق به. فمن كان

[518]

من العقلاء عارفا به فانه يسبحه لفظا ومعنى، وما ليس بعاقل من سائر الحيوان والجمادات فتسبيحها ما فيها من الآية الدالة على وحدانيته وعلى الصفات التي باين بها جميع خلقه، وما فيها من الحجج على أنه لا يشبه خلقه وأن خلقه لا يشبهه، ذلك بالتسبيح.

وإنما كرر ذكر التسبيح في غير موضع من القرآن لانعقاده لمعان مختلفة لا ينوب بعضها مناب بعض، فمن ذلك قوله " وإن من شئ إلا يسبح بحمده "(1) فهذا تسبيح بحمد الله وأما " سبح لله ما في السموات والارض " فهو تسبيح بالله " العزيز الحكيم " فكل موضع ذكر فيه فلعقده بمعنى لا ينوب عنه غيره منابه، وإن كان مخرج الكلام على الاطلاق " والعزيز الحكيم " معناه المنيع بأنه قادر لا يعجزه شئ العليم بوجوه الصواب في التدبير، ولا تطلق صفة " العزيز الحكيم " إلا فيه تعالى، لانه على هذا المعنى.

وقوله " له ملك السموات والارض " اخبار بأن له التصرف في جميع ما في السموات والارض وليس لاحد منعه منه ولا أن احدا ملكه ذلك وذاك هو الملك الاعظم، لان كل ما عداه فما يملكه، فان الله هو الذي ملكه إياه، وله منعه منه.

وقوله " يحيي ويميت " معناه يحيي الموات، لانه يجعل النطفة وهي جماد حيوانا ويحييها بعد موتها يوم القيامة، ويميت الاحياء إذا بلغوا آجالهم التي قدرها لهم " وهو على كل شئ قديرا " أي كل ما يصح ان يكون مقدورا له، فهو قادر عليه.

وقوله " هو الاول والآخر " قيل في معناه قولان: احدهما - قال البلخي إنه كقول القائل: فلان اول هذا الامر وآخره وظاهره وباطنه أي عليه يدور الامر وبه يتم. الثاني - قال قوم: هو أول الموجودات لانه قديم سابق لجميع الموجودات وما

___________________________________

(1) سورة 17 الاسرى آية 44

[519]

عداه محدث. والقديم يسبق المحدث بمالا يتناهى من تقدير الاوقات. والآخر بعد فناء كل شئ، لانه تعالى بفني الاجسام كلها وما فيها من الاعراض، ويبقى وحده ففي الآية دلالة على فناء الاجسام.

وقوله " الظاهر والباطن " قيل في معناه قولان: احدهما - انه العالم بما ظهر وما بطن. الثاني - انه القاهر لما ظهر وما بطن من قوله تعالى " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فاصبحوا ظاهرين "(1) ومنه قوله " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا "(2) وقيل: المعنى إنه الظاهر بادلته الباطن من أحساس خلقه " وهو بكل شئ عليم " ما يصح ان يكون معلوما، لانه عالم لنفسه.

ثم اخبر تعالى عن نفسه فقال " هو الذي خلق السموات والارض " أي اخترعهما وانشأهما " في ستة ايام " لما في ذلك من اعتبار الملائكة بظهور شئ بعد شئ من جهة ولما في الاخبار به من المصلحة للمكلفين ولو لا ذلك لكان خلقها في لحظة واحدة، لانه قادر على ذلك من حيث هو قادر لنفسه.

وقوله " ثم استوى على العرش " أي استولى عليه بالتدبير قال البعيث.

ثم استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق(3)

وهو بشر بن مروان، لما ولاه اخوه عبدالملك بن مروان.

وقيل: معناه ثم عمد وقصد إلى خلق العرش، وقد بينا ذلك فيما تقدم.

ثم قال " يعلم ما يلج في الارض " أي ما يدخل في الارض ويستتر فيها، فالله عالم به لا يخفى عليه منه شئ " وما يخرج منها " أي ويعلم ما يخرج من الارض من سائر النبات والحيوان والجماد

___________________________________

(1) سورة 61 الصف آية 14.

(2) سورة 17 الاسرى آية 88.

(3) مر في 1 / 125، و 2 / 396 و 4 / 452 و 5 / 386

[520]

ولا يخفى عليه شئ " وما ينزل من السماء " أي ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وغير ذلك من انواع ما ينزل منها لا يخفى عليه شئ منها " وما يعرج فيها " أي ويعلم ما يعرج في السماء من الملائكة وما يرفع اليها من أعمال الخلق " وهو معكم " بعني بالعلم لا يخفى عليه حالكم وما تعملونه " والله بما تعملون بصير " من خير وشر أي عالم به.

ثم قال " له ملك السموات والارض " أي له التصرف فيهما على وجه ليس لاحد منعه منه " واليه ترجع الامور " يوم القيامة. والمعنى أن جميع من ملكه شيئا في دار الدنيا يزول ملكه ولا يبقى ملك أحد، ويتفرد تعالى بالملك، فذلك معنى قوله (واليه ترجع الامور) كما كان كذلك قبل أن يخلق الخلق.

قوله تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور(6) آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير(7) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين(8) هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤف رحيم(9) وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والارض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير(10))

خمس آيات بلا خلاف.

[521]

قرأ ابوعمرو وحده (وقد اخذ ميثاقكم) بضم الالف، على ما لم يسم فاعله. الباقون - بالفتح - بمعنى واخذ الله ميثاقكم، وقرأ ابن عامر ووحده (وكل وعد الله الحسنى) بالرفع، وهي في مصاحفهم بلا الف جعله مبتدء‌ا وخبرا وعدى الفعل إلى ضميره، وتقديره: وكل وعده الله الحسنى، كما قال الراجز:

قد اصبحت أم الخيار تدعي *** علي ذنبا كله لم أصنع

أي لم اصنعه، فحذف الهاء.

الباقون بالنصب على أنه مفعول (وعد الله) وتقديره وعد الله كلا الحسنى، ويكون (الحسنى) في موضع نصب بأنه مفعول ثان وهو الاقوى.

معنى قوله (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي إن ما ينقص من الليل يزيده في النهار، وما ينقص من النهار يزيده في الليل حسب ما قدره على علم من مصالح عباده.

وقيل: إن معناه إن كل واحد منهما يتعقب صاحبه (وهو عليم بذات الصدور) ومعناه هو عالم بأسرار خلقه وما يخفونه في قلوبهم من الضمائر والاعتقادات لا يخفى عليه شئ منها.

ثم امر تعالى المكلفين فقال (آمنوا بالله) معاشر العقلاء وصدقوا نبيه وأقروا بوحدانيته واخلاص العبادة له، وصدقوا رسوله، واعترفوا بنبوته (وانفقوا) في طاعة الله والوجوه التي أمركم الله بالانفاق فيها (مما جعلكم مستخلفين

[522]

فيه) قال الحسن: معناه ما استخلفكم فيه بوراثتكم اياه عمن كان قبلكم. ثم بين ما يكافيهم به اذا فعلوا ذلك، فقال (فالذين آمنوا منكم) بما أمرتهم بالايمان به (وانفقوا) مما دعوتهم إلى الانفاق فيه (لهم مغفرة) من الله لذنوبهم (واجر كبير) أي وثواب عظيم.

ثم قال الله تعالى على وجه التوبيخ لهم (ومالكم) معاشر المكلفين (لا تؤمنون بالله) وتعترفون بوحدانيته واخلاص العبادة له (والرسول يدعوكم) إلى ذلك (لتؤمنوا بربكم) أي لتعترفوا به وتقروا بوحدانيته (وقد أخذ ميثاقكم) معناه إنه لما ذكر تعالى دعاء الرسول إلى الايمان بين انه قد اخذ ميثاقكم ايضا به، ومعنى اخذ ميثاقكم انه نصب لكم الادلة الدالة إلى الايمان بالله ورسوله ورغبكم فيه وحثكم عليه وزهدكم في خلافه، ومعنى (إن كنتم مؤمنين) اي إن كنتم مؤمنين بحق فالايمان قد ظهرت أعلامه ووضحت براهينه: ثم قال (هو الذي ينزل على عبده) يعني ان الله تعالى هو الذي ينزل على محمد صلى الله عليه واله (آيات بينات) أى حججا وادلة واضحة وبراهين نيرة (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) ومعناه فعل بكم ذلك ليخرجكم من الضلال إلى الهدى - في قول مجاهد وغيره - وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة: إن الله تعالى خلق كثيرا من خلقه ليكفروا به ويضلوا عن دينه.

وإنما اخرجهم من الضلال إلى الهدى بما نصب لهم من الادلة التي إذا نظروا فيها افضى بهم إلى الهدى والحق، فكأنه اخرجهم من الضلال، وإن كان الخروج من الضلال إلى الهدى من فعلهم، وسمى الدلالة نورا، لانه يبصر بها الحق من الباطل، وكذلك العلم، لانه يدرك به الامور كما تدرك بالنور، فالقرآن بيان الاحكام على تفصيلها ومراتبها.

[523]

وقوله (إن الله بكم لرؤف رحيم) اخبار منه تعالى أنه بخلقه رؤف رحيم. والرأفة والرحمة من النظائر.

وقوله " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " استبطأهم في الانفاق في سبيل الله الذي رغبهم بالانفاق فيها.

وقوله " ولله ميراث السموات والارض " قد بينا أن جميع ما يملكونه في الدنيا يرجع إلى الله، ويزول ملكهم عنه، فان أنفقوه كان ثواب ذلك باقيا لهم.

وقوله " لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل.. " بين الله تعالى أن الانفاق قبل الفتح في سبيل الله إذا انضم اليه الجهاد في سبيله أكثر ثوابا عند الله، والمراد بالفتح فتح مكة وفي الكلام حذف، لان تقديره لا يستوى هؤلاء مع الذين أنفقوا بعد الفتح، والكلام يدل عليه.

وإنما امتنع مساواة من انفق بعده لمن انفق قبله، لعظم العناية الذي لا يقوم غيره مقامه فيه، في الصلاح في الدين وعظم الانتفاع به، كمالا يقوم دعاء غير النبي صلى الله عليه واله إلى الحق مقام دعائه ولا يبلغه أبدا، وليس في الآية دلالة على فضل انسان بعينه ممن يدعى له الفضل، لانه يحتاج أن يثبت ان له الانفاق قبل الفتح، وذلك غير ثابت. ويثبت أن له القتال بعده. ولما يثبت ذلك ايضا فكيف يستدل به على فضله.

فأما الفتح فقال الشعبي: أراد فتح الحديبية. وقال زيد بن اسلم، وقتادة: أراد به فتح مكة.

ثم سوى تعالى بين الكل في الوعد بالخير والجنة والثواب فيها - وإن تفاضلوا في مقاديره - فقال " وكلا وعد الله الحسنى " يعني الجنة والثواب فيها " والله بما تعملون خبير " لا يخفى عليه شئ من ذلك من انفاقكم وقتالكم وغير ذلك فيجازيكم بحسب ذلك.

[524]

قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم(11) يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشريكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم(12) يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراء‌كم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب(13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الاماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور(14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأويكم النار هي موليكم وبئس المصير(15))

خمس آيات كوفى وأربع فيما عداه، عد الكوفيون " من قبله العذاب " ولم يعده الباقون

قرأ ابن كثير " فيضعفه " بالتشديد وضم الفاء، وبه قرأ ابن عامر إلا انه فتح الفاء. وقد مضى تفسيره في البقرة، وقرأ حمزة وحده " للذين آمنوا انظرونا " بقطع الهمزة وكسر الظاء. الباقون بوصلها وضم الظاء.

وقرأ ابوجعفر وابن عامر ويعقوب وسهل " فاليوم لا تؤخذ " بالتاء لتأنيث الفدية. الباقون - بالياء - لان التأنيث ليس بحقيقي. وقد فصل بين الفعل والفاعل ب‍ (منكم).

قال الحسن: معنى قوله (من ذاالذي يقرض الله قرضا حسنا) هو التطوع في جميع الدين.

وقال غيره: معناه من ذا الذي ينفق في سبيل الله إنفاقا كالقرض

[525]

والقرض اخذ الشئ من المال باذن صاحبه بشرط ضمان رده، وأصله القطع، فهو قطعه عن مالكه باذنه لانفاقه على رد مثله.

والعرب تقول: لي عندك قرض صدق وقرض سوء إذا فعل به خيرا او شرا قال الشاعر:

ونجزي سلامان بن مفرح قرضها *** بما قدمت أيديهم وازلت(1)

وقوله (فيضاعفه له) فالمضاعفة الزيادة على المقدار مثله او أمثاله، وقد وعد الله بالحسنة عشر امثالها، والانفاق في سبيل الله حسنة فهو داخل في هذا الوعد ومن شدد العين، فلان الله وعد بالحسنة عشر أمثالها. ومن ضم الفاء جعله عطفا على من ذا الذي يقرض فيضاعفه او على تقدير فهو يضاعفه. ومن نصب فلانه جواب الاستفهام.

وقوله (وله أجر كريم) معناه إن له مع مضاعفة ما أنفقه اجرا زائدا كريما، فالكريم الذي من شأنه ان يعطي الخير العظيم، فلما كان الاجر يعطي النفع العظيم، كان الاجر كريما، لانه يوجد شرف النفع بما لا يلحقه ما ليس بأجر.

وقوله (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم وبايمانهم) ف‍ (يوم) يتعلق بقوله (لهم اجر كريم.. يوم ترى) قال قتادة: معناه إنه يسعى نورهم أي الضياء الذي يرونه (بين ايديهم وبأيمانهم) وقال الضحاك: نورهم هداهم. قال (وبأيمانهم) كتبهم. وقيل (وبأيمانهم) معناه وعن أيمانهم. وقيل: وفي أيمانهم.

وقوله (بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهارر " أي تجري تحت اشجارها الانهار، أي يقال لهم: الذي تبشرون به اليوم جنات تجرى من تحتها الانهار (خالدين فيها) أى مؤبدين لا يفنون.

ثم قال (ذلك هو الفوز العظيم) فعظم الفوز والفلاح يتضمن اجلال النعمة

___________________________________

(1) قائله الشنفري، تفسير الطبرى 27 / 115

[526]

والاكرام مع الحمد بالاحسان على طريق الدوام، فكل ما فعل من أجل الثواب فالنعمة به أجل والاحسان به اعظم.

وقوله (يوم يقول المنافقون والمنافقات) يجوز أن يتعلق (يوم) بقوله (ذلك هو الفوز العظيم.. يوم) أي في يوم، ويجوز ان يكون على تقدير واذكر يوم يقول المنافقون والمنافقات (للذين آمنوا) ظاهرا وباطنا (انظرونا) فمن قطع الهمزة اراد أخرونا ولا تعجلوا علينا واستأخروا نستضيئ بنوركم. ومن وصلها اراد ينظرون.

وقيل: انظرني ايضا بمعنى انتظرني، قال عمرو ابن أم كلثوم:

أبا هند فلا تعجل علينا *** وانظرنا نخبرك اليقينا(1)

ويقال: انظرني بمعنى اخرني.

وقوله (نقتبس من نوركم) فالنور الضياء، وهو ضد الظلمة، وبالنور يستضاء في البصر وفي الامور، وفي البصر نور وكذلك في النار. ومعنى (نقتبس) نأخذ قبسا من نوركم، وهو جذوة منه فقالوا لهم (ارجعوا وراء‌كم فالتمسوا نورا) أى ارجعوا إلى خلفكم فاطلبوا النور فانه لا نور لكم عندنا، فاذا تأخروا ضرب الله بينهم بسور. ومن وصلها أراد انتظرونا.

ثم اخبر تعالى فقال (فضرب بينهم) يعني بين المؤمنين وبين المنافقين (بسور) والباء زائدة وهو المضروب بين الجنة والنار (له باب باطنه فيه الرحمة) لان فيه الجنة (وظاهره من قبله العذاب) يعني من قبل المنافقين العذاب، لكون جهنم هناك.

ثم حكى الله تعالى أنهم (ينادونهم) يعني المنافقون فيقولون لهم (ألم نكن معكم) في دار الدنيا ومخالطين لكم ومعاشرين، فيجيبهم المؤمنون فيقولون (بلى) كنتم معنا (ولكنكم فتنتم أنفسكم) أى تعرضتم للفتنة وتربصتم بالمؤمنين

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 17 / 245 والطبري 27 / 116

[527]

الدوائر (وارتبتم وغرتكم الاماني) أي شككتم فيما اخبركم به رسولنا وغركم ما كنتم تمنون حتى طمعتم في غير مطمع (حتى جاء امر بالله) في نصرة نببه والمؤمنين معه وغلبته إياكم (وغركم بالله الغرور) يعني الشيطان وسمي بذلك لكثرة ما يغر الناس. ومن غر غيره مرة واحدة فهو غار.

وقرئ بالضم، وهو كل ما غرمن متاع الدنيا - ذكره الزجاج - والغرور بضم الغين المصدر. ثم يقول لهم الملائكة او المؤمنون (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية) أى ما تفدون به أنفسكم لا يقبل منكم (ولا يؤخذ (من الذين كفروا) الفداء (ومأواكم) أى مقركم وموضعكم الذى تأوون اليه " النار هي مولاكم " أى هي اولى بكم " وبئس المصير " أى بئس المأوى والموضع والمرجع اليه قال لبيد:

قعدت كلا الفرجين تحسب انه *** مولى المخافة خلفها وأمامها(1)

أى تحسب أن كليهما اولى بالمخافة.

قوله تعالى: (ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون(16) إعلموا أن الله يحيي الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون(17) إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم(18) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم(19) إعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتريه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور(20))

خمس آيات بلا خلاف.

___________________________________

(1) مر في 5 / 142

[528]

قرأ (وما نزل من الحق) بتخفيف الزاي نافع وحفص عن عاصم، لانه يقع على القليل والكثير، ويكون النزول مضافا إلى الحق. الباقون بالتشديد بمعنى أن الله هو الذى نزل الحق شيئا بعد شئ.

وقرأ ابن كثير وابوبكر عن عاصم وابن زيد (المصدقين والمصدقات) بتخفيف الصاد يذهبون إلى التصديق الذى هو خلاف التكذيب، ومعناه إن المؤمنين والمؤمنات. الباقون - بتشديد الصاد - يذهبون أن الاصل المتصدقين، فادغمت التاء في الصاد لتقارب مخرجهما وشدد.

ومعنى قوله (الم يأن) ألم يحن (للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله) أى تخضع لسماع ذكر الله ويخافون عقابه، وينبغي ان يكون هذا متوجها إلى طائفة مخصوصة لم يكن فيهم الخشوع التام حثوا على الرقة والرحمة. وأما من كان ممن وصفه الله بالخشوع والرحمة والرقة فطبقة فوق هؤلاء المؤمنين، ويقال أنى يأني أنا إذا حان، ومنه قوله (غير ناظرين إناه)(2) أى منتهاه. والخشوع لين القلب

___________________________________

(1) سورة 33 الاحزاب آية 53

[529]

للحق بالآنقياد له، ومثله الخضوع وضده قسوة القلب. والحق ما دعا اليه العقل وهو الذى من عمل به نجا ومن عمل بخلافه هلك، والحق مطلوب كل عاقل في نظره وإن اخطأ طريقه، والقسوة غلظ القلب بالجفاء عن قبول الحق، قسا قلبه يقسو قسوة، فهو قاس.

(وما نزل من الحق) من خفف اضاف النزول إلى الحق ومن شدد اراد ما نزله الله من الحق (ولا يكونوا) أى وألا تكونوا (كالذين اوتوا الكتاب) من اليهود والنصارى (من قبل) أى من قبلهم فيكون موضعه نصبا. ويحتمل ان يكون مجزوما على النهي (فطال عليهم الامد) يعني المدة والوقت، فان أهل الكتاب لما طال عليهم مدة الجزاء على الطاعات (فقست قلوبهم) حتى عدلوا عن الواجب وعملوا بالباطل.

وقيل: معناه طال عليهم الامد ما بين زمانهم وزمن موسى.

وقيل: طال عليهم الامد ما بين نبيهم وزمن موسى.

وقيل طال أمد الآخرة (فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) خارجون عن طاعة الله تعالى إلى معصيته فلا تكونوا مثلهم فيحكم الله فيكم بمثل ما حكم فيهم.

ثم قال (اعلموا ان الله يحيي الارض بعد موتها) بالجدب والقحط فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الايمان بعد موته بالضلال بأن يلطف له ما يؤمن عنده.

ثم قال (قد بينا لكم الآيات) يعني الحجج الواضحات والدلائل البينات (لعلكم تعقلون) أى لكي تعقلوا وترجعوا إلى طاعته وتعملوا بما يأمركم به.

وقوله (إن المصدقين والمصدقات) من شدد أراد المتصدقين إلا انه ادغم التاء في الصاد، ومن خفف اراد الذين صدقوا بالحق (واقرضوا الله قرضا حسنا) أى انفقوا مالهم في طاعة الله وسبيل مرضاته. ثم بين ما أعد لهم من الجزاء فقال

[530]

(يضاعف لهم) أي يجازون بأمثال ذلك. ومن شدد العين اراد التكثير، لان الله تعالى يعطي بالواحد عشرا إلى سبعين إلى سبع مئة، ثم قال " ولهم أجر كريم " أي لهم جزاء وثواب مع إكرام الله إياهم وإجلاله لهم.

ثم قال (والذين آمنوا بالله ورسله) يعني الذين صدقوا بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وأقروا بنبوة رسله (أولئك هم الصديقون) الذين صدقوا بالحق.

ثم قال مستأنفا (والشهداء عند ربهم) قال ابن عباس ومسروق وابوالضحى والضحاك: هو منفصل مما قبله مستأنف والمراد بالشهداء الانبياء عليهم السلام ويجوز ان يكون معطوفا على ما تقدم وتقديره أولئك هم الصديقون وأولئك هم الشهداء، ويكون لهم أجرهم ونورهم للجماعة من الصديقين والشهداء، فكانه قال: كل مؤمن شهيد على ما رواه البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه واله وعن عبدالله بن مسعود ومجاهد، فيكون التقدير أولئك هم الصديقون عند ربهم والشهداء عند ربهم.

ثم قال (لهم أجرهم ونورهم) أي لهم ثواب طاعاتهم ونور إيمانهم الذي يهتدون به إلى طريق الجنة.

ثم قال (والذين كفروا) بالله وجحدوا توحيده وكذبوا رسله " وكذبوا بآياتنا " يعني حججه وبيناته " أولئك اصحاب الجحيم " يعني أنهم يلزمهم الله الجحيم فيبقون فيها دائمين.

ثم زهد المؤمنين في الدنيا والسكون إلى لذاتها، فقال (اعلموا) معاشر العقلاء والمكلفين " إنما الحياة الدنيا " يعني في هذه الدنيا " لعب ولهو " لانه لا بقاء لذلك ولا دوام وإنه يزول عن وشيك كما يزول اللعب واللهو " وزينة " تتزينون بها في الدنيا " وتفاخر بينكم " يفتخر بعضكم على بعض " وتكاثر في الاموال والاولاد " أي كل واحد يقول مالي أكثر وأولادي اكثر. ثم شبه ذلك بأن قال مثله في ذلك " كمثل غيث " يعني مطرا " اعجب الكفار نباته " أي اعجب الزراع ما نبت بذلك الغيث فالكفار الزراع.

وقال انزجاج: ويحتمل ان يكون المراد الكفار

[531]

بالله لانهم اشد إعجابا بالدنيا من غيرهم " ثم يهيج " أي ييبس فيسمع له لما تدخله الريح صوت الهائج " فتراه مصفرا " وهو إذا قارب اليبس (ثم يكون حطاما) أي هشيما بأن يهلكه الله مثل افعال الكافر بذكل، فانها وإن كانت على ظاهر الحسن فان عاقبتها إلى هلاك ودمار مثل الزرع الذي ذكره.

ثم قال وله مع ذلك " وفى الآخرة " (عذاب شديد) من عذاب النار للعصاة والكفار " ومغفرة من الله ورضوان " للمؤمنين المطيعين.

ثم قال " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " معناه العمل للحياة الدنيا متاع الغرور وإنها كهذه الاشياء التي مثل بها في الزوال والفناء، والغرور - بضم الغين - ما يغر من متاع الدنيا وزينتها.

قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم(21) ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير(22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم والله لا يحب كل مختال فخور(23) ألذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فان الله هو الغني الحميد(24) لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز(25))

خمس آيات بلا خلاف.

[532]

قرأ ابوعمرو " بما أتاكم " مقصور يعني بما جاء‌كم.

الباقون بالمد يعني بما اعطاكم وقرأ اهل المدينة واهل الشام " فان الله الغني الحميد " بلا فصل لانهم وجدوا في مصاحفهم كذلك، والباقون بأثبات (هو) وكذلك هو في مصاحفهم فمن اسقط (هو) جعل (الغني) خبر (ان) و (الحميد) نعته ومن زاد (هو) احتمل شيئين: احدهما - ان يجعل (هو) عمادا أو صلة زائدة. والثاني - أن يجعله ابتداء، و (الغني) خبره، والجملة في موضع خبر (إن) مثل قوله " ان شانئك هو الابتر "(1) يقول الله تعالى آمرا للعقلاء المكلفين وحاثا لهم على الطاعات " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " والمسابقة طلب العامل التقدم في عمله قبل عمل غيره بالاجتهاد فيه فعلى كل مكلف الاجتهاد في تقديم طاعة الله على كل عمل كما يجتهد المسابق لغيره والمسابقة إلى المغفرة بأن يتركوا المعاصي ويفعلوا الطاعات وقوله " وجنة " معناه سابقوا إلى جنة أي إلى استحقاق ثواب جنة " عرضها كعرض السماء والارض " في السعة.

وقال الحسن: ان الله تعالى يفني الجنة ويعيدها على ما وصفه في طولها وعرضها، فبذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والارض.

وقال غيره إن الله تعالى قال " عرضها كعرض السماء " الدنيا " والارض " والجنة المخلوقة في السماء السابعة فلا تنافي بين ذلك، وإذا كان العرض بهذه السعة فالطول اكثر منه او مثله.

قوله " اعدت " اشتقاقه من العدد والاعداد، وضع الشئ لما يكون في

___________________________________

(1) سورة 108 الكوثر آية 3

[533]

المستقبل على ما يقتضيه من عدد الامر الذي له، والمعنى أن هذه الجنه وضعت وادخرت للذين آمنوا بالله ورسوله، فيوحدوا الله ويصدقوا رسله.

ثم قال " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " أي هذا الذي ذكره بأنه معد للمؤمن فضل من الله يؤتيه من يشاء اي يعطيه من يشاء " والله ذو الفضل العظيم " فالفضل والافضال والتفضل واحد وهو النفع الذى كان للقادر ان يفعله بغيره وله ان لا يفعله.

ثم قال تعالى " ما أصاب من مصيبة " اى ليس يصيب احدا مصيبة " في الارض " في ماله " ولا في انفسكم إلا " وهو مثبت مذكور " في كتاب " يعني اللوح المحفوظ " من قبل ان نبرأها "، فالضمير راجع إلى النفس كأنه قال: من قبل ان نبرء النفس ويحتمل أن يكون راجعا إلى المصائب من الامراض والفقر والجدب والغم بالثكل.

ثم قال " ان ذلك " يعني اثبات ذلك على ما ذكره " على الله يسير " أى سهل غير يسير. بين تعالى لم فعل ذلك فقال (لكيلا تأسوا) أى لا تحزنوا (على ما فاتكم) من لذات الدنيا وزينتها (ولا تفرحوا بما آتاكم) منها على وجه البطر والاشر، فمن قصر أراد بما جاء‌كم، ومن مد ارد بما اعطاكم.

ثم قال (والله لا يحب كل مختال) أى متجبر (فخورا) على غيره على وجه التكبر عليه، فان من هذه صفته لا يحبه الله. وفرح البطر مذموم. وفرح الاغتباط بنعم الله محمود.

كما قال تعالى (فرحين بما آتاهم الله من فضله) والتأسي تخفيف الحزن بالمشاركة في حاله. ثم بين صفة المختال الفخور، فقال (الذين يبخلون) بما اوجب الله عليهم من الحقوق في أموالهم (ويأمرون الناس بالبخل) ايضا.

وقيل: نزلت في اليهود الذين بخلوا بذكر صفة النبي على ما وجدوه في كتبهم وأمروا غيرهم بذلك. والبخل والبخل لغتان، وقرئ بهما. وهو منع الواجب.

ثم قال (ومن يتول) يعني ومن يعرض عما ذكره الله وخالف (فان الله

[534]

هو الغني الحميد) ومعناه إنه تعالى الغني عن جميع خلقه محمود في جميع افعاله، فمنع هؤلاء حقوق الله لا يضره، وإنما ضرر ذلك عليهم.

ثم اقسم تعالى فقال (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) يعني الدلائل والحجج الواضحة (وأنزلنا معهم الكتاب) أي مكتوبا فيه ما يحتاج الخلق اليه كالتوراة والانجيل والقرآن (والميزان) أي وانزلنا الميزان وهو ذو الكفتين.

وقيل: المراد به العدل (ليقوم الناس بالقسط) يعني بالعدل في الامور (وانزلنا الحديد فيه بأس شديد) إخبار من الله تعالى انه الذي انزل الحديد.

وروي ان الله تعالى أنزل مع آدم العلاء‌ة - يعني السندان والمطرقة والكيتين - من السماء، وهذا صحيح ولا بد منه، لان الواحد منا لا يمكنه أن يفعل آلات من حديد وغيرها إلا بآلات قبلها، وينتهي إلى آلات يتولى الله صنعها تعالى الله علوا كبيرا.

وقوله (فيه بأس شديد) أي يمتنع به ويحارب به " ومنافع للناس " أي وفيه منافع للناس كأدواتهم وآلاتهم وجميع ما يتخذ من الحديد من آلات ينتفع بها كالسكين وغيرها (وليعلم الله من ينصره ورسله) أي فعلت ذلك لما لهم فيه من النفع به، وليعلم الله من ينصره بنصرة موجودة، ومن يجاهد مع نبيه جهادا موجودا (بالغيب) أي ينصر الله ورسله ظاهرا وباطنا (إن الله قوي عزيز) أي قادر على ما يصح أن يكون مقدورا له لا يقدر احد على قهره ولا على منعه.

وقيل: في جواب قوله (الذين يبخلون) قولان: أحدهما - إنه محذوف كما حذف في قوله (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال)(1) وتقديره الذين يبخلون فهم يستحقون العذاب والعقوبة.

وقيل: أيضا جوابه جواب قوله (ومن يتولى) فعطف بجزاء‌ين على جزاء

___________________________________

(1) سورة 13 الرعد آية 33

[535]

واحد، وجعل جزاء‌يهما واحد، كما تقول: إن تقم وتحسن آتك إلا انه حذف الجواب.

قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون(26) ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فمارعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون(27) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم(28) لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم(29))

خمس آيات بصرى وأربع فيما عداه، عد البصريون " وآتيناه الانجيل " ولم يعده الباقون.

يقول الله تعالى مقسما إنه ارسل نوحا نبيا إلى قومه، وإبراهيم ايضا أرسله إلى قومه وذكر انه تعالى جعل في ذريتهما - يعني في ذرية نوح وإبراهيم أيضا بعد ما أرسلهما إلى قومهما " النبوة والكتاب " لان الانبياء كلهم من نسلهما. وعليهم أنزل الكتاب.

[536]

ثم أخبر عن حال ذريتهما فقال " فمنهم مهتد " إلى طريق الحق واتباعه " وكثير منهم فاسقون " أي خارجون عن طاعة الله إلى ذل معصيته. ثم اخبر تعالى إنه قفى على آثار من ذكرهم برسل أخر إلى قوم آخرين. والتقفية جعل الشئ في أثر الشئ على الاستمرار فيه، ولهذا قيل لمقاطع الشعر قوافي إذا كانت تتبع البيت على أثره مستمرة في غيره على منهاجه، فكأنه قال: وأنفذنا بعدهم بالرسل رسولا بعد رسولهم " وقفينا بعيسى بن مريم " بعدهم " وآتيناه " أي اعطينا عيسى ابن مريم " الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة " وقيل في معناه قولان: أحدهما - إنه جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة بالامر به والترغيب فيه.

ثم أخبر انه رزق الرأفة والرحمة.

قال ابوزيد: يقال رؤفت بالرجل ورأفت به رأفة - بفتح الهمزة، وسكونها -. الثاني - إنه خلق في قلوبهم الرأفة والرحمة. وإنما مدحهم على ذلك، لانهم تعرضوا لهما.

وقوله " ورهبانية ابتدعوها " يعني ابتدعوا الرهبانية ابتدعوها وهي الخصلة عن العبادة يظهر فيها معنى الرهبة إما في لبسه أو إنفراده عن الجماعة أو غير ذلك من الامور التي يظهر فيها نسك صاحبها. ومعنى الآية ابتدعوا رهباينة لم تكتب عليهم.

ثم قال " ما كتبناها عليهم " الرهبانية " إلا ابتغاء رضوان الله " فالثانية غير الاولى إلا انه لما اتفق الاسمان فيهما كنى عنهما بما تقدم، وقام إعادة لفظهما مقامهما كما قال حسان:

أمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء(1)

فالتقدير ومن يمدحه. والابتداع ابتداء أمر لم يجد فيه على مثال.

___________________________________

(1) مر في 1 / 410 و 8 / 198

[537]

والبدعة إحداث أمر على خلاف السنة.

وقال قتادة: الرهبانية التي أبتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع.

وقال قتادة وابن زيد: تقديره ورهبانية ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله " فمارعوها حق رعايتها " وقال قوم: الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري والجبال - في خبر مرفوع عن النبي صلى الله عليه واله فما رعاها الذين بعدهم حق رعايتها، وذلك لتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه واله، وقيل: الرهبانية الانقطاع عن الناس للانفراد بالعبادة.

وقوله " ما كتبناها عليهم " معناه ما فرضناها عليهم أي تلك الرهبانية البتة.

وقال الزجاج: معناه ما كتبناها عليهم البتة ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فيكون بدلا من (ها) التي يشتمل عليه المعنى - ذكره الزجاج - وقيل: كان عليهم تتميمها كما على المبتدئ بصوم التطوع أن يتمه.

وقال الحسن: فرضها الله عليهم بعد ما أبتدعوها، وقوله " فما رعوها حق رعايتها " معناه فما حفظوها حق حفظها.

ثم قال (فآتينا الذين آمنوا) معناه فأعطينا من آمن بالله ورسوله من جملة المذكورين (أجرهم) أي ثوابهم على إيمانهم.

ثم قال (وكثير منهم فاسقون) أي خارجون عن طاعة الله إلى معصيته والكفر به.

وقوله " يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله " معناه يا أيها الذين اعترفوا بتوحيد الله وصدقوا بموسى وعيسى وأعترفوا بنبوتهما اتقوا الله وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه واله - ذكره ابن عباس - " يؤتكم كفلين من رحمته " قال ابن عباس: معناه يعطكم أجرين أجرا لا يمانكم بمحمد صلى الله عليه واله وأجرا لايمانكم بمن تقدم من الرسل.

[538]

وأصل الكفل الحظ - في قول الفراء - ومنه الكفل الذي يكتفل به الراكب، وهو كساء أو نحوه يحويها على الابل إذا أراد أن يرتدف فيه فيحفظه من السقوط، ففيه حظ من التحرز من الوقوع " ويجعل لكم نورا تمشون به " قال مجاهد: ويجعل لكم هدى تهتدون به.

وقال ابن عباس: النور القرآن، وفيه الادلة على كل حق وبيان لكل خير، وبه يستحق الضياء الذي يمشي به يوم القيامة " ويغفر لكم " أي يستر عليكم ذنوبكم " والله غفور الرحيم " أي ستار عليكم ذنوبكم رحيم بكم منعم عليكم وقوله " لئلا يعلم أهل الكتاب ان لا يقدرون على شئ من فضل الله " معناه ليعلم اهل الكتاب الذين يتشبهون بالمؤمنين منهم " أن لا يقدرون " أي انهم لا يقدرون " على شئ من فضل الله " في قول ابن عباس.

و (ان) هي المخففة من الثقيلة. وقيل: معناه ليعلم أهل الكتاب الذين حسدوا المؤمنين بما وعدوا أنهم لا يقدرون على شئ من فضل الله، فيصرفوا النبوة عن محمد صلى الله عليه واله إلى من يحبونه و (لا) في (لئلا) صلة وتوكيد، وقيل: إنما تكون (لا) صلة في كل كلام دخل في أواخره جحد، وإن لم يكن مصرحا به نحو " ما منعك ان لا تسجد "(1) " وما يشعركم أنها إذا جاء‌ت لا يؤمنون "(2) وقوله، وحرام على قرية أهلكناها انهم لا يرجعون "(3).

وقوله " وإن الفضل بيدالله " معناه ليعلموا أن الفضل بيدالله " يؤتيه من يشاء " أي يعطيه من يحب " من عباده " ممن يعلم انه يصلح له.

ثم قال " والله ذوالفضل العظيم " معناه ذو تفضل على خلقه واحسان على عباده تعظيم لا يحصى كثرة ولا يعد.

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 11.

(2) سورة 6 الانعام آية 109.

(3) سورة 21 الانبياء آية 95




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336562

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:24

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net