00989338131045
 
 
 
 
 
 

  سورة البقرة ( من آية 165 ـ 180) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثاني)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي


قوله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب(165)

آية بلا خلاف

القراء‌ة: قرأ نافع وابن عامر، وأبوجعفر من طريق النهرواني " ولو ترى " بالتاء. الباقون بالياء.

وقرأ أبوجعفر، ويعقوب " إن القوة لله، وإن الله " بكسر الهمزة فيهما. الباقون بفتحهما.

وقرأ ابن عامر وحده " إذ يرون " بضم الياء. والباقون بفتحها.

اللغة: الانداد، والامثال، والاشباه نظائر، والانداد(2) واحدها ند. وقيل الاضداد.

___________________________________

(1) سورة الذاريات آية: 41.

(2) في المطبوعة (الانداد) ساقطة.

[62]

وأصل الند المثل المناوي والمراد به هنا قال قتادة، والربيع، ومجاهد، وابن زيد، وأكثر المفسرين آلهتهم التي كانوا يعبدونها.

وقال السدي: رؤساؤهم الذين يطيعونهم طاعة الارباب من الرجال.

وقوله تعالى " يحبونهم " فالمحبة هي الارادة إلا ان فيها حذفا، وليس ذلك في الارادة فاذا قلت: أحب زيدا معناه أريد منافعه أو مدحه، وإذا أحب الله تعالى عبدا فمعناه أنه يريد ثوابه وتعظيمه، وإذا قال: أحب الله معناه أريد طاعته واتباع أوامره، ولا يقال: أريد زيدا، ولا أريد الله ولا إن الله يريد المؤمن، فاعتيد الحذف في المحبة، ولم يعتد في الارادة.

وفي الناس من قال: المحبة ليست من جنس الارادة، بل هي من جنس ميل الطبع، كما تقولون: أحب ولدي أي يميل طبعي اليه، وذلك مجاز، بدلالة أنهم يقولون: أحببت أن أفعل بمعنى أردت أن أفعل. وضد الحب البغض.

وتقول: أحبه حبا، وتحبب تحببا، وحببه تحبيبا، وتحابا تحابا. والمحبة: الحب. والحب واحده حبة من بر، أو شعير، أو عنب. أو ما أشبه ذلك.

والحبة بزور البقل. وحبة القلب ثمرته. والحب: الجرة الضخمة. والحب القرط من حبة واحدة. وحباب الماء: فقاقيعه. والحباب الحبة.

وأحب البعير إحبابا: إذا برك، فلا يثور، كالحران في الخيل، قال أبوعبيدة: ومنه قوله تعالى " أحببت حب الخير عن ذكر أبي "(1) أي لصقت بالارض لحب الخير، حتى تأتيني الصلاة. وأصل الباب: الحب ضد البغض.

المعنى: وقوله: " كحب الله " قيل في هذه الاضافة ثلاثة أقوال:

أحدها - كحبكم الله.

والثاني - كحبهم الله.

والثالث - كحب الله الواجب عليهم لا الواقع منهم، كما قال الشاعر:

فلست مسلما ما دمت حيا *** على زيد بتسليم الامير(2)

أي مثل تسليمي على الامير.

___________________________________

(1) سورة ص آية: 32.

(2) البيان والتبيين 4: 51، ومعاني القرآن للفراء 1: 100، وأمالي الشريف المرتضى 1: 215. ولم نعرف قائله.

[63]

فان قيل: كيف يحب المشرك - الذي لا يعرف الله - شيئا كحبه لله؟ قلنا من قال: إن الكفار يعرفون الله قال: كحبه لله.

ومن قال: هم لا يعرفون الله - على من يقوله أصحاب الموافاة - قال: معناه كحب المؤمنين لله أو كالحب الواجب عليهم.

وقوله تعالى: " والذين آمنوا أشد حبا لله " قيل في معناه قولان: أحدهما - " أشد حبا لله " للاخلاص له من الاشراك به والثاني - لانهم عبدوا من يملك الضر والنفع، والثواب، والعقاب، فهم أشد حبا لله بذلك ممن عبد الاوثان.

الاعراب: ويجوز فتح " أن " من ثلاثة أوجه، وكسرها من ثلاثة أوجه - مع القراء‌ة بالياء -: أولها - يجوز فتحها بايقاع الفعل عليها بمعنى المصدر. وتقديره " لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب " قوة الله وشدة عذابه.

الثاني - أن يفتح على حذف اللام كقولك: لان القوة لله.

الثالث - على تقدير لرأوا أن القوة لله، على الاتصال بما حذف من الجواب.

والاول - من الكسر على الاستئناف.

الثاني - على الحكاية مما حذف من الجواب كأنه قيل: لقالوا إن القوة لله جميعا.

الثالث - على الاتصال مما حذف من الحال، كقولك: يقولون: إن القوة لله.

ومن قرأ بالتاء، يجوز ايضا في الفتح ثلاثة أوجه.

وفي الكسر ثلاثة أوجه: أول الفتح - على البدل، كقولك: ولو ترى الذين ظلموا أن القوة لله عليهم، وهو معنى قول الفراء.

الثاني - لان القوة لله.

الثالث - أرأيت أن القوة لله.

قال أبوعلي الفارسي: من قرأ بالتاء لا يجوز أن تنصب أن إلا بالفعل المحذوف - في الجواب. وأما البدل فلا يجوز، لانها ليست " الذين ظلموا " ولا بعضهم ولا مشتملة

[64]

عليهم، هذا إن جعل الرؤية من رؤية البصر. وإن جعلها من رؤية القلب، فلا يجوز ايضا، لان المفعول الثاني في هذا الباب هو الاول في المعنى.

وقوله تعالى: " إن القوة لله " لا يكون الذين ظلموا، فلم يبق بعد ذلك إلا أنه ينتصب بفعل محذوف. والكسر مع التاء مثل الكسر مع الياء.

واختار الفراء - مع الياء - الفتح، ومع التاء الكسر، لان الرؤية قد وقعت على الذين، وجواب لو محذوف، كأنه قيل: لرأوا مضرة اتخاذهم للانداد، ولرأوا أمرا عظيما لا يحصر بالاوهام. وحذف الجواب، يدل على المبالغة، كقولك: لو رأيت السياط تأخذ فلانا. والضمير في قوله " يتخذ " عائد على لفظ من.

وفي قوله يحبونهم على معنى من، لان من مبهم، فمرة يحمل الكلام منها على اللفظ، وأخرى على المعنى، كما قال: " ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا "(1) - بالتاء، والياء - حملا لمن على اللفظ والمعنى. واتصلت الآية بما قبلها اتصال انكار، كأنه قال: أبعد هذا البيان والادلة القاهرة على وحدانيته، يتخذون الانداد من دون الله.

ومن قرأ قوله " ولو ترى " - بالتاء - جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به غيره، كما قال: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء "(2). والذين على هذا في موضع نصب. ومن قرأ بالياء يكون الذين في موضع رفع بأنهم الفاعلون.

وقوله " جميعا " نصب على الحال، كأنه قيل: إن القوة لله ثابته لله في حال اجتماعها. وهي صفة مبالغة بمعنى إذا رأوا مقدورات الله فيما تقدم الوعيد به، علموا أن الله قادر لا يعجزه شئ. والشدة قوة العقد، وهو ضد الرخاوة. والقوة والقدرة واحد. و (ترى) في قوله تعالى: " ولو ترى " من رؤية العين بدلالة أنها تعدت إلى مفعول واحد، لان التقدير ولو ترون أن القوة لله جميعا أي ولو يرى الكفار ذلك.

___________________________________

(1) سورة الاحزاب آية: 31.

(2) سورة الاطلاق آية: 1

[65]

ومن قرأ - بالتاء - يقوى انها المتعدية إلى مفعول واحد، ويدل على ذلك ايضا قوله " إذ يرون العذاب "، وقوله: " وإذا رأى الذين ظلموا العذاب " " فلا يخفف عنهم "، فتعدى إلى مفعول واحد.

فان قيل: كيف قال: " ولو يرى الذين ظلموا " وهو أمر مستقبل، وإذ لما مضى؟ قيل: إنما جاء على لفظ المضي لارادة التقريب في ذلك، كما جاء " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب "(1) وعلى هذا جاء في هذا المعنى أمثلة الماضي كقوله: " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة "(2).

وهكذا ذكره أبوعلي الفارسي قال: وعلى هذا المعنى جاء في " مواضع كثيرة في القرآن، كقوله تعالى " ولو ترى إذ وقفوا على ربهم "(3) " ولو ترى إذ وقفوا على النار "(4) " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم "(5) " ولو ترى إذ فزعوا، فلا فوق "(6) " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة "(7). كذلك هذه الآية.

قوله تعالى: إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب(166)

آية واحدة بلا خلاف

الاعراب واللغة: العامل في (إذ) قوله تعالى: " وإن الله شديد العقاب إذ تبرأ الذين " كأنه قيل وقت تبرأوا.

والتبرء: التباعد للعداوة، فاذا قيل تبرأ الله من المشركين معناه باعدهم من رحمته، وكذلك إذا تبرء الرسول منهم معناه باعدهم - للعداوة - عن منازل من

___________________________________

(1) سورة النحل آية: 77.

(2) سورة الاعراف آية: 50.

(3) سورة الانعام آية: 30.

(4) سورة الانعام آية: 27.

(5) سورة سبأ آية: 31.

(6) سورة سبأ آية: 51.

(7) سورة الانفال آية: 51.

[66]

لا يحب له الكراهة. والتبرء في أصل اللغة، والتزيل، والتقصي نظائر. وضد التبرء التولي.

والاتباع: طلب الاتفاق في مكان، أو مقال، أو فعال، فاذا قيل اتبعه ليلحقه، فمعناه ليتفق معه في المكان، واذا تبعه في مذهبه أو في سيره أو غير ذلك من الاحوال، فمعناه طلب الاتفاق.

و " اتبعوا " ظمت الالف فيه لضمة الثالث، وضمة الثالث لما لم يسم فاعله، لانه إنما يضم له أول المتحرك من الفعل فيما بني عليه، والف الوصل لا يعتد به، لانه وصلة إلى التكلم بالساكن فاذا اتصل بمتحرك، استغني عنه.

المعنى: والمعني بقوله: " الذين اتبعوا " رؤساء الضلالة من الانس. وقال قوم: هم من الجن. وقيل: من الجميع.

والاول - قول قتادة، والربيع، عطا. والثاني - قول السدي.

وقوله تعالى: " وتقطعت بهم الاسباب " فالتقطع: التباعد بعد الاتصال.

والسبب: الوصلة إلى التعذر بما يصلح من الطلب. ومعنى الاسباب هاهنا.

قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - قال مجاهد، وقتادة، والربيع، وفي رواية عن ابن عباس: هي الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها.

الثاني - روي عن ابن عباس: أنها الارحام التي كانوا يتقاطعون بها.

الثالث - قال ابن زيد: الاعمال التي كانوا يوصلونها.

وقال الجبائي: نقطعت بهم اسباب: النجاة.

اللغة: والسبب: الحبل. والسبب: ما تسببت به من رحم، أو يد، أو دين. ومنه قوله: " فليرتقوا في الاسباب "(1). تقول العرب. إذا كان الرجل ذا دين: ارتقا في الاسباب.

___________________________________

(1) سورة ص آية: 10

[67]

والسب: الشتم. والسب: القطع. والسب: الشقة البيضاء من الثياب، وهي السبيبة(1)، ومضت سبة من الدهر أي ملاوة. والسب: الوتد. والسبابة: ما بنى الوسطى والابهام. والتسبب: التوصل إلى ما هو منقطع عنك. ويقال: تسبب يتسبب تسببا، واستبوا استبابا، وسبب تسبيبا، وسابه؟.

قوله تعالى: وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرء منهم كما تبرء‌وا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار(167)

آية بلا خلاف.

المعنى: المعني بقوله: " وقال الذين اتبعوا " هم الذين تبرء‌وا منهم: ساداتهم الذين اتبعوهم " لو أن لنا؟ " يعني رجعة إلى دار الدنيا، قال الاخطل:

ولقد عطفن على فزارة عطفة *** كر المنيح وجلن؟ مجالا(2)

فالعامل في " لو أن " محذوف، كأنه قال: لو صح أن لنا كرة، لان (لو) في التمني، وغيره تطلب الفعل. وإن شئت قدرته: لو ثبت أن لنا كرة.

اللغة: والكر نقيض الفر تقول: كر يكر كرا، وكرة، وتكرر تكررا، وكرر تكريرا، وتكرارا.

 

___________________________________

(1) وفي لسان العرب (سبب) السب، والسبيبة: الشقة، وخص بعضهم به الشقة البيضاء.

(2) ديوانه: 48، ونقائض جرير والاخطل: 79. في المطبوعة (المسيح) بدل (المنيح) وفي الديوان (قدارة) بدل (فزاره). وفزارة: ابن ذبيان بن؟. والمنيح: قدح لاحظ له في الميسر. والمنيح اسم رجل من بني أسد من بني مالك. ومعنى البيت: لقد ها جمناهم في الحرب بشدة ومراس مثل ما يهاجم المنيح.

[68]

والكرة والفرة متقابلان. والكر والرجع والفتل نظائر في اللغة قال صاحب العين: الكر الرجوع عن الشئ ومنه التكرار. والكر الحبل الغليظ.

وقيل: الشديد الفتل. والكرير صوت في الحلق. والكرير: نهر.

والكرة: سبرقين وتراب، يدق، ويجلا به الدروع.

وقوله " فنتبرء منهم " فالتبرء والانفصال واحد، ومنه برئ من مرضه: اذا انفصل منه بالعافية. ومنه برئ من الدين براء‌ة. وبرئ الله من الخلق.

الاعراب: وانتصب " فنتبرء " على أنه جواب التمني - بالفاء - كأنه قال: لو كان لنا كرة فتبرء‌ا(1) وكلما عطف للفعل على تأويل المصدر، نصب باضمار (أن). ولا يجوز اظهارها.

المعنى: وقوله: " كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات " وذلك لانقطاع الرجاء من كل واحد منهما. قيل ايضا: كما أراهم العذاب يريهم أعمالهم حسرات عليهم. وذلك، لانهم أيقنوا بالهلاك في كل واحد منهما. والعامل في الكاف يريهم. والاعمال التي يرونها حسرات قيل فيها ثلاثة أقوال: أحدها - المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها.

الثاني - الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها، وكيف ضيعوها، ومثله " زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون "(2) أي أعمالهم التي فرضناها عليهم، أو ند بناهم اليها.

___________________________________

(1) في المطبوعة نسختين احداهما نفس الآية، وهذا لا يجوز مع قوله كأنه، لان التشبيه يقتضي التغاير بين المشبه، والمشبه به حتى يكون بينهما اثنينية، والنسخة الثانية (كان لنا كرة ورفنتبرأ) وهذه ليس فيه معنى محصل، فلابد أن تكون خطأ، وفى مجمع البيان (ليت لنا كرورا فتبروء‌ا) وبدل على صحة ما أثبتنا تتمة الجملة. والمخطوطة هنا ناقصة بعض الاوراق.

(2) سورة النمل آية: 4.

[69]

وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال: هو الرجل يكتسب المال، ولا يعمل فيه خيرا، فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا، فيرى الاول ما كسبه حسرة في ميزان غيره فان قيل: لو جاز أن تضاف الاعمال التي رغبوا فيها، ولم يفعلوها بأنها أعمالهم لجاز أن يقال: الجنة دارهم وحور العين أزواجهم لانهم عرضوا لها ! قلنا لا يجب ذلك، لانا إنما حملنا على ذلك للضرورة. ولو سمى الله تعالى الجنة بأنها دارهم لتأولنا ذلك، ولكن لم يثبت ذلك، فلا يقاس على غيره.

الثالث - الثواب، فان الله تعالى يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات فيتحسرون عليه - لم فرطوا فيه - والقول الاول قول الربيع، وابن زيد، واختيار الجبائي، وأحد قولي البلخي. والثاني قول عبدالله، والسدي، وأحد قولي البلخي. وهو كما تقول الانسان أقبل على عملك وأعقدت عليه عملا قلت في عملك، والذي أقوله: ان الكلام يحتمل أمرين: فلا ينبغي أن يقطع على واحد منهما إلا بدليل إلا ان الاول أقوى، لانه الحقيقة. والله أعلم بمراده.

اللغة: والحسرات: جمع الحسرة، وهي أشد من الندامة. والفرق بينهما وبين الارادة ان الحسرة تتعلق بالماضي خاصه، والارادة تتعلق بالمستقبل، لان الحسرة انما هي على ما فات بوقوعه أو يتقضي وقته. وانما حركت السين، لانه اسم على فعلة اوسطه ليس من حروف العلة، ولو كان صفة لقلت: صعبات فلم يحرك: وكذلك جوزات وبيضات. وانما حرك الاسم، لانه على خلاف الجمع السالم، إذ كان كان انما يستحقه ما يعقل. والحسرة والندامة نظائر، وهي نقيض الغبطة.

وتقول: حسرت العمامة عن رأسي إذا كشفتها.

وحسر عن ذراعيه حسرا، وانحسر انحسارا، وحسرة تحسيرا.

والحاسر في الخرب الذي لا درع عليه، ولا مغفر.

وحسر يحسر حسرة وحسرا: اذا كمد على الشئ الفائت(1)، وتلهف عليه.

وحسرت الناقة حسورا: اذا أعيت.

___________________________________

(1) في المطبوعة (اذا كمل على الشئ الغايب) وهو تحريف.

[70]

وحسر البصر اذا كل عن البصر: والمحسرة: المكنسة.

والطير يتحسر: اذا خرج من ريشه العتيق إلى الحديث.

وأصل الباب الحسر: الكشف.

وفي الآية دلالة على انه كان فيهم قدرة على البراء‌ة منهم، لانهم لو لم يكونوا قادرين لم يجز أن يتحسروا على مافات، كما لايتحسر الانسان لم لم يصعد إلى السماء، ولا من كونه في الارض.

قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين(168)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ نافع، وأبوعمر، وحمزة، وخلف، وأبوبكر إلا البرجمي، والبزي إلا ابن مرج والربيبي إلا الولي " خطوات " بسكون الطاء حيث وقع. والباقون بضمها.

اللغة: الاكل: هو البلع عن مضغ، وبلع الحصا ليس بأكل في الحقيقة، وقد قيل: النعام يأكل الخمر، فأجروه مجرى فلان يأكل الطعام. ويقال مضغه ولم يأكله.

والحلال: هو الجائز من أفعال العباد، مأخوذ من أنه طلق، لم يعقد بحظر.

والمباح هو الحلال بعينه، وليس كل حسن حلالا، لان أفعاله تعالى حسنة ولا يقال: انها حلال، إذا لحلال اطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع.

وتقول: حل يحل حلالا، وحل يحل حلولا، وحل العقد حلا، وأحله إحلالا، واستحل استحلالا، وتحلل تحللا واحتل احتلا، وتحالوا تحالا، وحاله محالة، وحللة تحليلا، وانحل انحلالا، وحل العقد يحله حلا، وكل جامد أذبته فقد حللته، وحل بالمكان اذا نزل به، وحل الدين محلا، وأحل من إحرامه وحل، والحل: الحلال.

ومن قرأ " يحلل " معناه ينزل ومن قرأ " يحل " معناه يجب، وحلت عليه العقوبة أي وجبت. والحلال الجدي الذي يشق عن بطن

[71]

أمه، وتحلة اليمين، منه قول الشاعر:(1)

تحفي التراب بأضلاف ثمانية *** في أربع مسهن الارض تحليل(2)

أي هين.

والحليل، والحليلة: الزوج والمرأة سميا بذلك، لانهما يحلان في موضع واحد. والحلة: أزار، ورداء برد، وغيره. لا يقال حلة حتى يكون ثوبين. والاحليل مخرج اللبن من الضبي، والفرس، وخلف الناقة، وغيرها، وهو مخرج البول من الذكر.

وأصل الباب: الحل نقيض العقد، ومنه أحل من إحرامه، لانه حل عقد الاحرام بالخروج منه. وتحلة اليمين أخذ اقل القليل، لان عقدة اليمين تنحل به.

والطيب: هو الخالص من شائب ينغص، وهو على ثلاثة أقسام: الطيب المستلذ، والطيب الجائز، والطيب الطاهر، كقوله تعالى: " فتيمموا صعيدا طيبا "(3) أي طاهرا.

والاصل واحد، وهو المستلذ إلا أنه يوصف به الطاهر، والجائر تشبيها إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع، كالذي تكرهه النفس في الصرف عنه، وما تدعوا اليه بخلاف ذلك.

وتقول: طاب طيبا، واستطاب استطابة، وطايبه مطايبة، وتطيب تطيبا، وتطيبه تطييبا، والطيب: الحلال والنضيف، والطهور، من الطيب.

وأصل الباب: الطيب خلاف الخبيث.

والخطوة: بعد ما بين قدمي الماشي. والخطوة المرة من الخطو: وهو نقل قدم الماشي. وتقول: خطوة، وخطوة، وخطوة واحدة.

والاسم: الخطوة، وجمعها خطى، وقوله تعالى: " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " أي لا تتبعوا آثاره ولا تقتدوا به.

وأصل الباب الخطو: نقل القدم قدما. والعدو: المباعد عن الخير إلى الشر. والولي نقيضه.

___________________________________

(1) هو عبدة بن الطبيب.

(2) اللسان (حلل) في المطبوعة (خفي) بدل (تحفي) والاصلاب بدل (الاضلاف).

(3)ورة النساء آية: 42، وسورة المائدة آية: 7.

[72]

المعنى: وإنما قال: " حلالا طيبا " فجمع الوصفين، لاختلاف الفائدتين: إذ وصفه بأنه حلال يفيد بأنه طلق. ووصفه بانه طيب مفيد أنه مستلذ إما في العاجل وإما في الآجل. و " خطوات الشيطان " هاهنا قيل فيه خمسة أقوال: فقال ابن عباس: أعماله.

وقال مجاهد، وقتادة: خطاياه، وقال السدي: طاعتكم إياه.

وقال الخليل: ايثاره.

وقال قوم: هي النذور في المعاصي.

وقال الجبائي: ما يتخطى بكم اليه بالامر والترغيب.

وروي أن هذه الآية نزلت، لما حرم أهل الجاهلية من ثقيف، وخزاعة، وبني مدلج من الانعام، والحرث: البحيرة والسائبة والوصيلة، فنهى الله تعالى عما كانوا يفعلونه، وأمر المؤمنين بخلافه. والاذن في الحلال يدل على حظر الحرام على اختلاف ضرور به، وأنواعه، فحملها على العموم أولى. والمآكل، والمنافع في الاصل للناس فيها ثلاثة أقوال: فقال قوم: هي على الحظر.

وقال آخرون: هي على الاباحة.

وقال قوم: هي على الوقف.

وحكي الرماني: أن فيهم من قال: بعضها على الحظر، وبعضها على الاباحة. قد بينا ما عندنا في ذلك في أصول الفقه إلا أن هذه الآية دالة على إباحة المآكل إلا ما دل الدليل على حظره.(1)

وقوله: " انه لكم عدو مبين " في وصف الشيطان معناه أنه مظهر العداوة بما يدعوا اليه من خلاف الطاعة لله التي فيها النجاة من الهلاك، والفوز بالجنة.

قوله تعالى: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون(169)

آية واحدة بلا خلاف.

اللغة: الامر من الشيطان هو دعاؤه إلى الفعل، فأما الامر في اللغة، فهو قول القائل لمن هو دونه: إفعل.

___________________________________

(1) كل لفظة حظر في الاسطر المتقدمة فانها في المطبوعة " خطر ". والمخطوطة ناقصة في هذا الموضع. والصحيح مأثبتناه لمقابلته بالحلال.

[73]

واذا كان فوقه سمي ذلك دعاء، ومسألة. وهل يقتضي الامر الايجاب، أو الندب، ذكرناه في أصول الفقه، فلا نطول بذكره هاهنا.

والسوء: كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع، ويسمى ما تنفر عنه النفس سوء، تقول: ساء‌ني كذا يسوء‌ني سوء. وقيل إنما سمي القبيح سوء، لسوء عاقبته، لانه يلتذ به في العاجل، ولا يخلوا المكلف من الزجر عن القبيح إما عقلا، أو شرعا، ولو خلا منه لكان معرى بالقبيح، وذلك لا يجوز.

والسوء في الآية قيل فيه قولان: قال السدي: هو المعاصي.

وقال غيره: ما يسوء الفاعل: يعني ما يضره. والمعنى قريب من الاول، والاول هو الصحيح.

والفحشاء: هو العظيم القبح في الفعل، وكذلك الفاحشة.

وقيل المراد به: الزنا من الفجور، عن السدي.

والفحشاء: مصدر فحش فحشا، كقولك: ضره ضرا وسره سراء وسرا.

والفحشاء، والفاحشة، والقبيحة، والسيئة نظائر، ونقيضها الحسنة.

تقول: فحش فحشا، وافحش إفحاشا، وتفاحش تفاحشا، وفحش تفحيشا، واستفحش استفحاشا، وكل من تجاوز قدره فهو فاحش.

وأفحش الرجل: اذا قال فحشا، وكل شئ لم يكن موافقا للحق، فهو فاحشة.

قال الله تعالى: " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة "(1) يعني بذلك خروجها من بيتها بغير إذن زوجها المطلق لها.

وقال تعالى " وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي "(2) والقول: كلام له عبارة تنبئ عن الحكاية، وذلك ككلام زيد، يمكن أن يأتي عمرو بعبارة عنه تنبئ عن الحكاية له فيقول: قال زيد كذا وكذا، فيكون قوله: قال زيد، يؤذن أنه يحكى بعده كلام، وليس كذلك إذا قال: تكلم زيد لانه لايؤذن بالحكاية.

والعلم: ما اقتضى سكون النفس.

قيل: هو تبين الشئ على ما هو به للمدرك له.

___________________________________

(1) سورة الطلاق آية: 1.

(2) سورة النحل آية: 90.

[74]

المعنى: فان قيل: كيف يأمرنا الشيطان ونحن لانراه، ولا نسمع كلامه ! قلنا: لما كان الواحد منا يجد من نفسه معنى الامر بما يجد من الدعاء إلى المعصية، والمنازعة في الخطيئة، وكان ما نجده من نفوسنا من الدعاء والاغواء إنما هو بأمر الشيطان الذي دلنا الله عليه، وحذرنا منه، صح إخبار الله بذلك.

فان قيل: اذا كان الله عزوجل يوصل معنى أمره لنا إلى نفوسنا، فما وجه ذلك في الحكمة، وهو لو أمر من غير إيصال معنى الامر لم يكن في ذلك مضرة؟ قلنا. في ذلك أكبر النعمة لان التكليف لا يصح إلا مع منازعة إلى الشئ المنهي عنه، فكان ذلك من قبل عدو، يحذزه، أولى من أن يكون المنازعة من قبل ولي يستنصحه.

وفي ذلك المصلحة لنا بالتعريض للثواب الذي يستحقه بالمخالفة له، والطاعة لله تعالى، كما أن في خلقه مصلحة من هذه الجهة، واذا كان إنما أفهمنا ذلك لنجتنبه، فهو كتعليم شبهة ملحد، لنعلم حلها وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال: إن المعارف ضرورة، لانها لو كانت ضرورة، لما جاز أن يدعوهم إلى خلافها، كما لا يدعوهم إلى خلاف ماهم مضطرون اليه من أن السماء فوقهم، والارض تحتهم، وما جرى مجراه مما يعلم ضرورة لان الدعاء إلى ذلك يجري مجرى الدعاء إلى خلق الاجسام، وبعث الاموات، لايدخل تحت مقدور القدرة.

وقد استدل نفاة القياس، والقول بالجتهاد بهذه الآية بأن قالوا: القول بالاجتهاد والقياس قول بغير علم، وقد نهى الله عن ذلك فيجب أن يكون ذلك محظورا، ومذهبنا وإن كان المنع من القول بالاجتهاد، فليس في هذه الآية دلالة على ذلك، لان للخصم أن يقول: اذا دلني الله تعالى على العمل بالاجتهاد، فلا أعمل أنا به إلا بالعلم، ويجري ذلك؟ وجوب العمل عند شهادة الشاهدين، والعمل بقول المقومين في أروش الجنايات وقيم المتلفات، وجهات القبلة، وغير ذلك من الاشياء التي هي واقعة على الظن شرط، والعمل واقف على الدليل الموجب للعلم عنده، فلا يكون في الآية دلالة على ذلك.

[75]

وقد بينا ما نعتمده في بطلان القول بالاجتهاد والرأي - في أصول الفقه - فلا وجه لذكره هاهنا.

الآية: 170 - 179

قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباء‌نا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون(170)

آية واحدة بلا خلاف.

ألفينا، وصادفنا، ووجدنا بمعنى واحد، والاب، والوالد واحد.

الاعراب: وقوله تعالى: " أولو كان " هي واو العطف، دخلت عليها حرف الاستفهام، والمراد بها التوبيخ والتقريع، فهي ألف التوبيخ. ومثل هذه الالف(1) " أثم اذا ما وقع "(1) و " أفلم يسيروا في الارض "(3). وانما جعلت ألف الاستفهام للتوبيخ، لانه يقتضي ما الاقرار به فضيحة عليه، كما يقتضي الاستفهام الاخبار، مما يحتاج اليه.

المعنى: والمعنى: إنهم يقولون، هذا القول " وإن كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ". والفرق بين دخول الواو، وسقوطها في مثل هذا الكلام، أنك اذا قلت: اتبعه ولو ضرك، فمعناه اتبعه على كل حال ولو ضرك، وليس كذلك اذا قال: اتبعه لو ضرك، لان هذا خاص، والاول عام، فانما دخلت الواو لهذا المغنى:

___________________________________

(1) في المطبوعة (الواو).

(2) سورة يونس آية: 51.

(3) سورة يوسف آية: 109، وسورة الحج آية: 46، وسورة المؤمن آية 82، وسورة محمد آية: 10.

[76]

ومعنى قوله: " لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " يحتمل شيئين: أحدهما - لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون إليه. والثاني - على الشتم والذم، كما يقال: هو أعمى اذا كان لا يبصر طريق الحق - على الذم - هذا قول البلخي. والاول قول الجبائي.

وفي الآية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف، لانها دلت على أنهم كانوا على ضلال في الاعتقاد. والضمير في قوله: " هم " قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - انه يعود على (من) في قوله: " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ".

والثاني - انه يعود على (الناس) من " يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا " فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة، كما قال تعالى: " حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ".(1)

الثالث - انه يعود على الكفار، إذ جرى ذكرهم، ويصلح أن يعود اليهم وإن لم يجر ذكرهم، لان الضمير يعود على المعلوم، كما يعود على المذكور.

وقال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وآله دعا اليهود من أهل الكتاب إلى الاسلام، فقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباء‌نا، فهم كانوا أعلم وخيرا منا، فأنزل الله عزوجل " واذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله " الآية.

و " وألفينا " في الآية معناه وجدنا - في قول قتادة - قال الشاعر:(2)

فألفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلا(3)

___________________________________

(1) سورة يونس آية: 22.

(2) هو أبوالاسود الدؤلي.

(3) ديوانه: 49، والاغاني 11 107، وشرح شواهد المعنى: 31، واللسان (عتب) وهو من أبيات قالها في امرأة كان يجلس اليها بالبصرة، فقالت له: هل لك أن تتزوجني، فاني امرأة صناع الكف، حسنة التدبير قانعة بالميسور، فتزوجها ثم وجدها على خلاف ما قالت، فخانته وأسرعت في ماله، وأفشت؟، فردها إلى أهلها، وأنشد الابيات، فقالوا: بلى والله يا أبا الاسود، فقال: هذه صاحبتكم، واني أحب أن أسترما أفكرت من أمرها، ثم سلمها اليهم.

[77]

والاتباع: طلب الاتفاق في المقال أو الفعال. أما في المقال، فاذا دعا إلى شئ استجيب له. وأما في الفعال، فاذا فعل شيئا، فعلت مثله. والعقل مجموعة علوم بها يتمكن من الاستدلال بالشاهد على الغائب.

وقال قوم: هو قوة في النفس يمكن بها ذلك. والاهتداء الاصابة لطريق الحق بالعلم.

وفي الآية حجة عليهم من حيث أنهم اذا جاز لهم أن يتبعوا آباء‌هم فيما لا يدرون أحق هو أم باطل، فلم لا يجوز اتباعهم مع العلم بأنهم مبطلون. وهذا في غاية البطلان. وفيها دلالة على فساد التقليد، لان الله تعالى ذمهم على تقليد آبائهم، ووبخهم على ذلك. ولو جاز التقليد لم يتوجه إليهم توبيخ، ولا لوم، والامر بخلافه.

قوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون(171)

آية بلا خلاف.

المعنى: التشبيه في هذه الآية يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل: أحدها - وهو أحسنها وأقربها إلى الفهم، وأكثرها في باب الفائدة - ما قاله أكثر المفسرين كابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والربيع، واختاره الزجاج، والفراء، والطبري، والجبائي، والرماني، وهو المروي عن أبي جعفر (ع) إن مثل الذين كفروا في دعائك إياهم، " كمثل الذين ينعق " أي الناعق في دعائه. المنعوق به من البهائم التي لا تفهم كالابل، والبقر، والغنم، لانها لا تعقل ما يقال لها، وانما تسمع الصوت. والحذف في مثل هذا حسن. كقولك لمن هو سئ الفهم: أنت كالحمار، وزيد كالاسد: أي في الشجاعة، لان المعنى في أحد الشيئين أظهر، فيشبه بالآخر ليظهر بظهوره، وهذا باب حسن البيان.

[78]

الثاني - حكاه البلخي، وغيره: إن مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الاوثان كمثل الناعق في دعائه مالا يسمع، بتعالى، وما جرى مجراه من الكلام، وذلك أن البهائم لا تفهم الكلام، وإن سمعت النداء، والدعاء، وأقصى أحوال الاصنام أن تكون كالبهائم في أنها لا تفهم، فاذا كان لا يشكل عليهم أن من دعا البهائم بما ذكرناه جاهل، فهم في دعائهم الحجارة أولى بالجهل وصفة الذم.

الثالث - قال ابن زيد: إن مثل الذين كفروا في دعائهم آلتهم كمثل الناعق في دعائه الصدى في الجبل، وما أشبهه، لانه لا يسمع منه إلا دعاء ونداء، لانه اذا قال: يا زيد، سمع من الصدى يا زيد، فيتخيل اليه أن مجيبا أجابه، وليس هناك شئ، فيقول: يا زيد، وليس فيه فائدة، فكذلك يخيل إلى المشركين أن دعاء‌هم للاصنام يستجاب، وليس لذلك حقيقة، ولا فائدة.

وإنما رجحنا الوجه الاول، لما بيناه من حسن الكلام، ولانه مطابق للسبب الذي قيل: إنها نزلت في اليهود، فانهم لم يكونوا يعبدون الاصنام، ولا يليق بهم الوجه الثاني، فاذا ثبت ذلك، ففيه ثلاثة أوجه من الحذف:

أولها - " ومثل الذين كفروا " في دعائك لهم كمثل الناعق في دعائه المنعوق به.

والثاني - " ومثل الذين كفروا " في دعائهم الاوثان كمثل الناعق في دعائه الانعام.

الثالث - مثل وعظ الذين كفروا كمثل نعق الناعق بما لا يسمع، وهذا من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف اليه مقامه كقول الشاعر:(1)

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل(2)

والتقدير على مخافة وعل.

فان قيل: كيف قوبل الذين كفروا - وهم المنعوق به - بالناعق، ولما تقابل المنعوق به بالمنعوق به - في ترتيب الكلام - أو الناعق بالناعق؟ قيل للدلالة على تضمين الكلام تشبيه اثنين باثنين: الداعي للايمان للمدعو

___________________________________

(1) هو نابغة بني ذبيان.

(2) ديوانه: 90، واللسان (خوف)، ومجاز القرآن: 65، وأمالي الشريف المرتضى 1: 202، 216.

الوعل: تيس الجبل يتحصن بوزره من الصياد.

(ذى المطار) - بفتح الميم -: اسم جبل.

وعاقل: قد عقل في رأس الجبل.

في المطبوعة (لقد) بدل (وقد) ورواية اللسان (بذى) بدل (في ذي).

[79]

من الكفار بالداعي إلى المراد للمدعو من الانعام، فلما أريد الايجاز أبقي ما يدل على ما ألقي، فأبقي في الاول ذكر المدعو، وفي الثاني ذكر الداعي، ولو رتب على ما قال السائل، لبطل هذا المعنى.

وزعم أبوعبيدة، والفراء: أنه يجري مجرى المقلوب الذي يوضع فيه كلمة مكان كلمة، كأنه وضع الناعق مكان المنعوق به، وأنشد:

كانت فريضة ما تقول كما *** كان الزناء فريضة الرجم(1)

والمعنى كما كان الرجم فريضة الزناء، وكما يقال: أدخلت القلنسوة في رأسي، وإنما هو أدخلت رأسي في القلنسوة قال الشاعر:

إن سراجا لكريم مفخره *** تحلى به العين اذا ما تجهره(2)

والمعنى يحلى بالعين، فجعله تحلى به العين.

والاقوى أن يكون الامر على ما بيناه من المعنى الذي دعا إلى الخلاف في الحذف، ليدل بما بقي على ما ألقي.

اللغة: قال صاحب العين: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا اذا صاح بها زجرا، ونعق الغراب نعاقا، ونعيقا اذا صاح. والناعقان: كوكبان من كواكب الجوزاء: رجلها اليسرى ومنكبها الايمن، وهو الذي يسمى الهنعة، وهما أضوء كوكبين في الجوزاء. وأصل الباب الصياح، والنداء: مصدر نادى مناداة، ونداء، وتنادوا تناديا، وندى تندية، وتندى تنديا. والنداء، والدعاء، والسوآل نظائر.

قال صاحب العين: الندى له وجوه من المعنى: ندى الماء، وندى الخير، وندى الشر، وندى الصوت، وندى الخصر. فأما ندى الماء فمنه ندى المطر، أصابه ندى من طل، ويوم ندى، فأرض ندية. والمصدر منه الندوة، والندى ما أصابه من البلل، وندى الخير هو المعروف، تقول: أندى علينا فلان ندى كثيرا، وإن يده لندية بالمعروف، وندى

___________________________________

(1) البيت للنابغة الجعدي. اللسان (زنا)، وأمالي الشريف المرتضى 1: 216، ومعاني القرآن للفراء 1: 99، 131.

(2) اللسان (حلا). وأمالي الشريف المرتضى 1: 216. في المطبوعة (لجلاله) بدل (تحلا به). تجهره: تنظر اليه نظرة اعجاب وتقدير.

[80]

الصوت: بعد مذهبه، وندى الخصر: صحة جريه، واشتق النداء في الصوت من ندى ناداه أي دعاه بأرفع صوته: ناداه به. والندوة الاجتماع في النادي، وهو المجلس، ندى القوم يندون ندوا اذا اجتمعوا، ومنه دار الندوة، وأصل الباب لندى: البلل، وندى الجود كندى الغيث.

المعنى: ومعنى " صم بكم عمي فهم لا يعقلون " أي صم عن إستماع الحجة، بكم عن التكلم بها، عمي عن الابصار لها، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي.

والاعمي: من في بصره آفة تمنعه من الرؤية.

والاصم: من كان في آلة سمعه آفة تمنعه من السمع.

والابكم: من كان في لسانه آفة تمنعه من الكلام.

وقيل: إنه يولد كذلك، والخرس قد يكون لعرض يتجدد. وأجاز الفراء النصب في " صم " على الذم، والاجود الرفع على ما عليه القراء، وتقديره هم صم. وفيها دلالة على بطلان قول من زعم: أنهم لا يستطيعون سمعا على الحقيقة، لانه لا خلاف أنهم لم يكونوا صما لم يسمعوا الاصوات، وانما هو كما قال الشاعر: أصم عما ساء‌ه سميع(1) وفيها دلالة على بطلان قول من قال: إن المعرفة ضرورة، لانهم لو كانوا عالمين ضرورة لما استحقوا هذه الصفة.

وقال عطا: نزلت هذه الآية في اليهود، ومعنى ينعق يصوت قال الاخطل:

فانعق بضأنك يا جرير فانما *** منتك نفسك في الخلاء ضلالا(2)

والدعاء: طلب الفعل من المدعو، والاولى أن يعتبر فيه الرتبة، وهو أن

___________________________________

(1) اللسان (صمم)، (سمع).

(2) ديوانه: 50، ونقائض حرير والاخطل: 81، واللسان (نعق) وطبقات فحول الشعراء 429، ومجاز القرآن: 64، يقول: انما أنت زاعي غنم وليس لك حظ في هذا الامر الذي منتك نفسك به، فارجع إلى غنمك، فأمرها وانهاها، واترك الحرب، وانشاد الشعر.

[81]

يكون فوق الداعي. والسمع: إدراك الصوت.

والمثل: قول سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الاول.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون(172)

آية بلا خلاف.

المعنى: هذا الخطاب يتوجه إلى جميع المؤمنين، وقد بينا أن المؤمن هو المصدق بما وجب عليه،، ويدخل فيه الفساق بأفعال الجوارح، وغيرها، لان الايمان لا ينفي الفسق - عندنا -.

وعند المعتزلة: إنه خطاب لمجتنبي الكبائر، وإنما يدخل فيه الفساق على طريق التبع، والتغليب، كما يغلب المذكر على المؤنث في قولك: الاماء والعبيد جاوزني، وقد بينا فيما تقدم أن أفعال الجوارح لا تسمى إيمانا - عند أكثر المرجئة وأكثر أصحابنا - وإن بعضهم يسمي ذلك إيمانا، لما رووه عن الرضا (ع).

وإيمان مأخوذ من أمان العقاب - عند من قال: إنه تناول مجتنبي الكبائر - وعند الآخرين من أمان الخطأ، في الاعتقاد الواجب عليه. وفي المخالفين من يجعل الطاعات الواجبات، والنوافل من الايمان. وفيهم من يجعل الواجبات فقط إيمانا، ويسمي النوافل إيمانا مجازا.

وقوله " كلوا " ظاهره ظاهر الامر، والمراد به الاباحة، والتخيير، لان الاكل ليس بواجب إلا أنه متى أراد الاكل، فلا يجوز أن يأكل إلا من الحلال الطيب، ومتى كان الوقت وقت الحاجة فانه محمول على ظاهره في باب الامر: سواء قلنا: إنه يقتضي الايجاب أو الندب. وفي الآية دلالة على النهي عن أكل الخبيث - في قول البلخي، وغيره - كأنه قيل: كلوا من الطيب دون الخبيث، كما لو قال: كلوا من الحلال، لكان ذلك

[82]

دالا على حظر الحرام - وهذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم. فأما غير ذلك، فلا يدل على قبح ضده، لان قول القائل، كل من زيد، لا يدل على أن المراد تحريم ما عداه، لانه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصه، والآخر موقوف على بيان آخر، وليس كذلك ما ضده قبيح، لانه قد يكون من البيان تقبيح ضده.

والطيبات قد منا معناها فيما تقدم، وأن المراد بذلك الخالص من شائب ينغص، وإن كان لا يخلو شئ من شائب، لكنه لا يعتد به في الوصف بأنه حلال طيب، ولو كان في الطعام ما ينغصه لجاز وصفه بأنه ليس بطيب.

والرزق قد بينا فيما مضى: أنه ماللحي الانتفاع به على وجه لا يكون لاحد منعه منه.

وقوله: " واشكروا لله " 2 فالشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ويكون ذلك عن وجهين:(1) أحدهما - الاعتراف بالنعمة - متى ذكرها - للمنعم بالاعتقاد لها. الثاني - الطاعة بحسب جلالة النعمة، فالاول لازم في كل حال من أحوال الذكر، والثاني إنما يلزم في الحال التي يحتاج فيها إلى القيام بالحق، واقتضى ذكر الشكر هاهنا ما تقدم ذكره من الانعام في جعل الطيب من الرزق، للانتفاع، واستدفاع المضار، وذكر الشرط هاهنا إنما هو وجه المظاهرة في الحجاج ولما فيه من حسن البيان دون أن يكون ذلك شرطا في وجوب الشكر، وتلخيص الكلام إن كانت العبادة لله واجبة عليكم بأنه إلهكم، فالشكر له واجب عليكم بأنه محسن اليكم.

وأما العبادة، فهي ضرب من الشكر، لانها غاية ليس وارء‌ها شكر، ويقترن به ضرب من الخضوع. ولا يستحق العبادة إلا الله، لانها تستحق باصول النعم من الحياة، والقدرة، والشهوة، والنفاد، وأنواع المنافع، وبقدر من النفع لا يواريه نعمة منعم، فلذلك اختص الله تعالى باستحقافها.

___________________________________

(1) في المطبوعة هنا تكرير الوجه الاول كله والظاهر أنه تسطير من الناسخ وانما حذفناه لعدم وجوده في المخطوطه ولا في مجمع البيان. لان مجمع البيان ناقل المطلب بحذافيره، ولم يكرر.

[83]

قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم(173)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ نافع وابن عامر، وابن كثير، والكسائي - بضم نون - " فمن اضطر " الباقون بكسرها.

اللغة والاعراب: لفظة إنما تفيد إثبات الشئ، ونفي ما سواه كقول الشاعر: وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي(1) ومعناه لا يدافع غيري، وغير من هو مثلي، وهو قول الزجاج، والفراء، والرماني، والطبري، وأكثر أهل التأويل. وإنما كانت لا ثبات الشئ، ونفي ماسواء، من قبل أنها لما كانت (إن) للتأكيد، ثم ضم إليها (ما) للتأكيد ايضا، أكدت (إن) من جهة التحقيق للشئ، أكدت (ما) من جهة نفي ما عداه، فكأنك اذا قلت: إني بشر، فالمعنى أنابشر على الحقيقة، فاذا قلت: إنما أنا بشر، فقد ضممت إلى هذا القول ما أنا إلا بشر.

وتقدير قوله تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة " ما حرم عليكم إلا الميتة. ولو كانت (ما) بمعني الذي، لكتبت مفصولة(2)، ومثله قوله تعالى: " إنما الله

___________________________________

(1) قائله الفرزدق، تلخيص المفتاح أو مختصر المعاني للتفتزاني (باب القصر) وهو:

أنا الذائد الحامي الديار وانما *** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

(2) في المطبوعة (مفعوله).

[84]

إله واحد "(1) أي لا إله إلا واحد، مثله " إنما أنت منذر "(2) أي لا نذير إلا أنت(3) ومثله إنما ضربت أخاك أي ما ضربت إلا أخاك. فاذا ثبت ذلك، فلا يجوز في الميتة إلا النصب، لان (ما) كافة(4) ومعناه تحريم الميتة، وتحليل المذكى، ولو كانت ما بمعنى الذي، لكان يجوز في الميتة الرفع. والفرق بين الميت، والميتة قيل فيه قولان:

أحدهما - قال أبوعمرو: ما كان قد مات، فهو بالتخفيف مثل " يخرج الحي من الميت "(5). وما لم يمت بالتثقيل كقوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون "(6). ووجه ذلك أن التثقيل لما كان هو الاصل كان أقوى على التصريف في معنى الحاضر والمستقبل.

و (الثاني) قال قوم: المعنى واحد، وانما التخفيف لثقل الياء على الكسرة، قال الشاعر:(7)

ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الاحياء(8)

فجمع بين اللغتين:

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 17.

(2) سورة الرعد آية: 8.

(3) هكذا في النسخ كلها وفي مجمع البيان ايضا، والصحيح (ما أنت الا منذر) وهو من باب قصر الموصوف على الصفة، وهو الذي يقتضيه المقام، وعبارة المتن من باب قصر الصفة على الموصوف.

(4) في المطبوعة (كأنه) بدل (كافة) ومعنى كافة: أي قد كفت (ان) عن المعمل بالجملة التي بعدها، واذا كانت (ان) مكفوفة تعين نصب (الميتة) ب‍ (حرم)، واذا كانت ان عاملة في الجملة تكون " ما " اسم موصول بمعنى الذي، وهي اسم " ان ". والميتة خبر " ان " فيتعين الرفع على هذا التقدير كما يتعين النصب على الاول.

(5) سورة الانعام آية: 95. وسورة يونس آية: 31 وسورة الروم آية: 19.

(6) سورة الزمر آية: 30.

(7) هو عدي بن الرعلاء.

(8) اللسان " ميت " وشرح شواهد المغني: 138. ومعجم الشعراء: 253. وغيرها كثير.

[85]

المعنى: قوله: " وما أهل به لغير الله " قيل في معناه قولان: أحدهما - قال الربيع، وابن زيد، وغيرهما من أهل التأويل: معناه ذكر غير اسم الله عليه. والثاني - قال قتادة، ومجاهد: ما ذبح لغير الله.

اللغة: والاهلال على الذبح: هو رفع الصوت بالتسمية، وكان المشركون يسمون الاوثان، والمسلمون يسمون الله. ويقال: انهل المطر انهلالا وهو شدة انصابه، وتهلل السحاب ببرقه أي تلالا، تهلل وجهه اذا تلالا، وتهلل الرجل فرحا. والهلال غرة القمر، لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير، والمحرم يتهلل بالاحرام، وهو أن يرفع صوته بالتلبية، ويهلل الرجل: يكبر اذا نظر إلى الهلال. وهلل البعير تهليلا اذا تقوس كتقوس الهلال، وسمي به الذكر، لان الهلال ذكر. وثوب هل أي رقيق مشبه بالهلال في رقته.

والتهليل: الفزع. واستهل الصبي اذا بكي حين يولد.

والهلال: الحية الذكر، لانه يتقوس، وسمي به الذكر، لان الهلال ذكر.

" فمن اضطر " من كسر النون فلا لتقاء الساكنين، ومن ضمها أتبع الضمة الضمة في الطاء.

وقرأ أبوجعفر بكسر الطاء.

والاضطرار: كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه، وذلك كالجوع الذي يحدث للانسان، ولا يمكنه الامتناع منه. والفرق بين الاضطرار، والالجاء أن الالجاء تتوفر معه الدواعي إلى الفعل من جهة الضر أو النفع، وليس كذلك الاضطرار. وأكثر المفسرين على أن المراد في الآية المجاعة.

قال مجاهد: ضرورة إكراه. والاولى أن يكون محمولا على العموم إلا ما خصه الدليل.

[86]

" ولحم الخنزير "

قال صاحب العين يقال: رجل لحم اذا كان أكول اللحم. وبيت لحم: يكثر فيه اللحم. وألحمت القوم اذا قتلهم وصاروا لحما. والملحمة: الحرب ذات القتل الشديد. واستلحم الطريق اذا اتسع. واللحمة: قرابة النسب. واللحمة ما يسد به بين السديين من الثوب.

واللحام: ما يلحم به صدع ذهب أو فضة أو حديد حتى يلتحمها، ويلتئما. وكل شئ كان متباينا ثم تلاء‌م، فقد التحم. وشجة متلاحمة إذا بلغة اللحم. وأصل الباب اللزوم، فمنه اللحم للزومه بعضه بعضا.

المعنى: وقوله: " غير باع ولا عاد " قيل في معناه ثلاثة أقوال:

أولها - " غير باغ " اللذة " ولا عاد " سد الجوعة وهو قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد.

والثاني - ما حكاه الزجاج " غير باغ " في الافراط " ولاعاد " في التقصير.

والثالث - " غير باغ " على إمام المسلمين " ولا عاد " بالمعصية طريق المحقين، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبدالله (ع).

قال الرماني: وهذا القول لا يسوغ، لانه تعالى لم يبح لاحد قتل نفسه بل حظر عليه ذلك، والتعريض للقتل قتل في حكم الدين، ولان الرخصة إنما كانت لاجل المجاعة المتلفة، لا لاجل الخروج في طاعة، وفعل إباحة.

وهذا الذي ذكره غير صحيح لان من بغى على إمام عادل فأدى ذلك إلى تلفه، فهو المعرض نفسه للقتل، كما لو قتل في المعركة، فانه المهلك لها، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله، كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين، وما قاله من أن الرخصة لمكان المجاعة، لا يسلم إطلاقه، بل يقال: إنما ذلك للمجاعة التي لم يكن هو المعرض نفسه لها، فأما إذا عرض نفسه لها، فلا يجوز له استباحة المحرم، كما قلنا في قتل نفس الغير، ليدفع عن نفسه القتل.

[87]

وأصل البغي: الطلب من قولهم: بغى الرجل حاجته يبغيها بغا قال الشاعر:

لايمنعنك من بغا *** الخير تعقاد التمائم(1)

إن الاشائم كالايا *** من والايا من كالاشائم(2)

والبغاء: طلب الزنا.

وإنما اقتضى ذكر المغفرة هاهنا أحد أمرين: أحدهما - النهي عما كانوا عليه من تحريم مالم يحرمه الله من السائبة، والوصيلة، والحام، فوعد الله بالمغفرة عند التوبة، والانابة إلى طاعة الله فيما أباحه أو حظره.

الثاني - إذا كان يغفر المعصية، فهو لايوآخذ بها، جعل فيه الرخصة، ولا يجوز أن يقع في موضع غير (إلا) لانها بمعني النفي هاهنا، ولذلك عطف عليها ب‍ (لا) لانها في موضع (لا). فأما (إلا) فمعناها في الاصل الاختصاص لبعض من كل، وليس هاهنا كل يصلح أن يحض منه.

" غير باغ " منصوب على الحال وتقديره لا باغيا، ولا عاديا. والقدر المباح من الميتة عند الضرورة مايمسك الرمق فقط - عندنا - وفيه خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء.

قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم(174)

آية بلا خلاف.

المعنى: المعني بهذه الآية أهل الكتاب باجماع المفسرين إلا أنها متوجهة - على قول كثير منهم - إلى جماعة قليلة منهم، وهو علماؤهم الذين يجوز على مثلهم كتمان ما علموه، فأما الجمع الكثير منهم الذين لا يجوز على مثلهم ذلك لا ختلاف(3) دواعيهم، فلا يجوز.

___________________________________

(1) اللسان " عقد " في المطبوعة " لا يمنعك " بدل " لا يمنعنك " ولم يستقم الوزن.

(2) اللسان " شأم " وروايته " فاذا " بدل " ان ".

(3) في المطبوعة " لاخلاف ".

[88]

والذي كتموه قيل فيه قولان: قال أكثر المفسرين: إنهم كتموا أمر النبي صلى الله عليه وآله بأن حرفوه عن وجهه في التأويل، هذا اذا حمل على الجماعة الكثيرة. وإن حمل على القليلة منهم، يجوز أن يكونوا كتموا نفس التنزيل ايضا.

الثاني - قال الحسن: كتموا الاحكام، وأخذوا الرشا على الاحكام، والكتاب على القول الاول: هو التوراة، وعلى الثاني يجوز أن يحمل على القرآن وسائر الكتب.

وقوله: " ويشترون به ثمنا قليلا " ليس المراد به أنهم اذا اشتروا به ثمنا كثيرا كان جائزا. وإنما المقصد كلما يأخذونه في مقابلته من حطام الدنيا، فهو قليل، كما قال " ويقتلون النبيين بغير حق "(1) وكما قال " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به(2) وانما أراد أن قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق، وإن من ادعى مع الله إلها آخر لا يقوم له عليه برهان.

وكما قال الشاعر: على لا حب لا يهتدى بمناره والمعنى لا لاحب هناك، فيهتدى به، لانه لو كان، لاهتدي به.

وقوله تعالى " ما يأكلون في بطونهم إلا النار " معناه على قول الربيع، والحسن، والجبائي، وأكثر المفسرين: الاجر الذي أخذوه على الكتمان، سمي بذلك، لانه يؤديهم إلى النار، كما قال في أكل مال اليتيم ظلما " إنما يأكلون في بطونهم نارا "(3)

وقال بعضهم: إنما يأكلون في جهنم نارا جزاء على تلك الاعمال، والاول أحسن. فان قيل اذا كان الاكل(4) لا يكون إلا في البطن، فما معنى قوله " في بطونهم "؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما - ان العرب تقول: جعت في غير بطنى وشبعت في غير بطني، اذا

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 21.

(2) سورة المؤمنون آية: 117.

(3) في المطبوعة " الاول ".

(4) سورة النساء آية: 9.

[89]

جاع من يجري جوعه مجرى جوع نفسه، فذكر ذلك لازالة اللبس.

والثاني - انه لما استعمل المجاز بالاجراء على الرشوة اسم النار، حقق بذكر البطن، ليدل علي أن النار تدخل أجوافهم.

اللغة: والبطن: خلاف الظهر. والبطن: الغامض من الارض. والبطن من العرب: دون القبيلة. وعرفت هذا الامر ظاهره، وباطنه أي سره وعلانيته.

ورجل بطين: عظيم البطن. ومبطن: خميض البطن. وفلان بطانتي دون إخواني. أي الذي أبطنه أمري. واستبطنت أمر فلان: إذا وقفت على دخلته. ويقال في المثل: البطنة تذهب الفطنة، وبطن الشئ بطونا اذا غمض. والبطان حزام الرحل. والبطين: نجم وهو بطن الحمل. وأصل الباب البطون: خلاف الظهور.

المعنى: وقوله تعالى: " ولا يكلمهم " قيل في معناه قولان:

أحدهما - لا يكلمهم بما يحبون، وإنما هو دليل على الغضب علهيم، وليس فيه دليل على أنه لا يكلمهم بما يسوء‌هم، لانه قد دل في موضع آخر، فقال " فلنسئلن الذين أرسل اليهم ولنسئلن المرسلين "(1) وقال " ربنا أخرجنا منها فان عدنا فانا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون "(2) وهذا قول الحسن، وواصل، وأبي علي.

الثاني - لايكلمهم أصلا، فتحمل آيات المسائلة على أن الملائكة تسألهم بأمر الله ويتأول قوله " اخسئوا فيها ولا تكلمون " على أن الحال دالة على ذلك. وإنما دل نفي الكلام على الغضب - على الوجه الاول - من حيث أن الكلام وضع في الاصل للفائدة، فلما انتفى على جهة الحرمان للفائدة، دل على الغضب، ولا يدخل في ذلك الكلام للغم والايلام.

___________________________________

(1) سورة الاعراف آية: 5.

(2) سورة المؤمنون آية: 108 - 109.

[90]

وقوله: " ولا يزكيهم " معناه لا يبني عليهم، ولا يصفهم بأنهم أزكياء. ويحتمل أن يكون المراد لا يتقبل أعمالهم تقبل أعمال الازكياء. والاشتراء هو الاستبدال بالثمن العوض، فلما كانوا هؤلاء استبدلوا بذنبهم الثمن القليل، قيل فيهم: إنهم اشتروا به ثمنا قليلا. والثمن هو العوض من العين، والورق والقلة هو نقصان المقدار عن مقدار غيره، لانه يقال: هو قليل بالاضافة إلى ما هو أكثر منه، وكثير بالاضافة إلى ما هو أقل منه. والكلام ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة: إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيلة للافادة. وقال الرماني: الكلام ما كان من الحروف دالا بتأليفه على معنى، قال وأصله من الآثار وهي كالعلامات الدالة، والكلم أي الجراح.

وما ذكرناه أولى، لان هذا ينتقض بالمهمل من الكلام، فانه لا يفيد وهو كلام حقيقة.

قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار(175)

آية واحدة بلا خلاف.

المعنى: معنى " اشتروا الضلالة بالهدى " استبدلوا، لان أصل الشراء الاستبدال، وليس يقع في مثله إشكال، فأما قولهم: استبدل بالجارية غيرها، فلا يجوز أن يقال بدلا منه اشترى، لانه يلتبس. والضلالة التي اشتروها بالهدى: كفرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وجحدهم لنبوته استبدلوه بالايمان به، وهم وإن لم يقصدوا أن يضلوا بدلا من أن يهتدوا فقد قصدوا الكفر بالنبي صلى الله عليه وآله بدلا من الايمان به، وذلك ضلال بدلا من هدى، فقد قصدوا الضلال بدلا من الهدى، وإن لم يقصدوه من وجه أنه ضلال.

[91]

ولا يجوز أن يقول: قصدوا أن يضلوا. لانه يوهم أنهم قصدوه من هذا الوجه، كما ينبئ علموا أنهم يضلون غير أنهم علموه من هذا الوجه، ويجوز قصدوا الضلال، وعلموا الضلال، لانه لا ينبئ على هذا الوجه وإنما علموه، وقصدوه من وجه آخر، وهو جحدهم محمدا صلى الله عليه وآله بدلا من التصديق به.

وقوله تعالى: " فما أصبرهم على النار " الفاء معناها معنى الجواب، لان الكلام المتقدم قد تضمن معنى من كان بهذه الصفة، " فما أصبرهم على النار " فعومل معاملة المعنى الذي تضمنه حتى كأنه قد لفظ به. والعجب لا يجوز على القديم تعالى، لانه عالم بجميع الاشياء، لا يخفى عليه شئ. والتعجب يكون مما لا يعرف سببه.

وإنما الغرض - من الآية - أن يدلنا على أن الكفار حلو محل من يتعجب منه، فهو تعجيب لنا منهم. وقد قيل في معنا (ما) في قوله " فما أصبرهم على النار " قولان: أحدهما - قال الحسن، وقتادة، ومجاهد: إنها للتعجب. والثاني - قال ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد والسدي: إنها للاستفهام.

وقيل في معنا " أصبرهم " أربعة أقوال:

أحدها - ما أجرأهم على النار، ذهب اليه الحسن وقتادة.

والثاني - قال مجاهد: ما أعملهم بأعمال أهل النار. وهو المروي عن أبي عبدالله (ع).

والثالث - حكاه الزجاج: ما أبقاهم على النار، كما تقول: ما أصبره على الحبس.

والرابع - ذكره الفراء: ما صبرهم على النار أي حبسهم عليها.

وقال الكسائي: هو استفهام على وجه التعجب.

قال أبوالعباس: المبرد: هذا حسن كأنه توبيخ لهم وتعجيب لنا، مثل قولك للذي وقع في هلكة ما اضطرك إلى هذا، اذا كان غنيا عن التعرض للوقوع في مثلها.

يقال: أصبرت السبع، والرجل، ونحوه اذا نصبته لما يكره.

وقال الحطيئة:

قلت لها أصبرها جاهدا *** ويحك أمثال طريف قليل:(1)

___________________________________

(1) اللسان (صبر). الضمير في أصبرها عائد على النفس، وكأنه يقول: احبس نفسك على الجهاد.

[92]

معناه ألزمها، واضطرها. فأما التعجب، فمثل قوله " قتل الانسان ما أكفره "(1) أي قد حل محل ما يتعجب منه.

وقيل: ما أصبرك على كذا بمعني ما أجرأك قال أبوعبيدة: هي لغة يمانية.

واشتق أصبر بمعنى أجرأ من الصبر الذي هو حبس النفس، لان بالجرء‌ة يصبر على الشدة.

فأما القول الآخر: فحبسوا أنفسهم على عمل أهل النار، بدوامهم عليه، وانهما كهم فيه.

وحكى الكسائي عن قاضي اليمن عن بعض العرب، قال لخصمه: ما أصبرك على الله أي على عذاب الله تعالى.

قوله تعالى: ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد(176)

آية واحدة.

الاعراب: ذلك رفع بالابتداء، أو بأنه خبر الابتداء وهو إشارة إلى أحد ثلاثة أشياء: أولها - قال الحسن: ذلك الحكم بالنار.

الثاني - ذلك العذاب.

الثالث - ذلك الضلال.

وفي تقدير خبر ذلك ثلاثة أقوال:

(الاول) - قال الزجاج: ذلك الامر، أو الامر ذلك، فحذف لدلالة ما تقدم من الامر بالحق. فكأنه قال: ذلك الحق. واستغنى عن ذكر الحق لتقدم ذكره في الكلام.

الثاني - ذلك معلوم " بأن الله نزل الكتاب بالحق " فقد تقدم ذكر ما هو معلوم بالتنزيل، فحذف لدلالة الكلام عليه.

الثالث - ذلك العذاب لهم " بأن الله نزل الكتاب بالحق " وكفروا به، فتكون الباء في موضع الخبر. ويحتمل ذلك أن يكون رفعا على ما بينا. ويحتمل أن يكون نصبا على فعلنا ذلك، لان في الكلام ما يدل على (فعلنا).

___________________________________

(1) سورة عبس آية: 17.

[93]

المعنى: ومعنى الكتاب هاهنا قيل: إنه التوراة.

وقال الجبائي: إنه القرآن، وغيره. وهو أعم فائدة.

وقال بعضهم: إن المراد بالاول التوراة، وبالثاني القرآن. ومعنى الاختلاف هاهنا يحتمل أمرين: أحدهما - قول الكفار في القرآن.

ومنهم من قال: هو كلام السحرة. ومنهم من قال: كلام يعلمه. ومنهم من قال: كلام يقوله الثاني - اختلاف اليهود والنصارى في التأويل، والتنزيل من التوارة، والانجيل، لانهم حرفوا الكتاب، وكتموا صفة محمد النبي صلى الله عليه وآله وجحدت اليهود الانجيل والقرآن.

قوله تعالى: " لفي شقاق بعيد " فيه قولان: أحدهما - بعيد عن الالفة بالاجتماع على الصواب. الثاني - بعيد: من الشقاق، لشهادة كل واحد على صاحبه بالضلال. وكلاهما قد عدل عن السداد.

ومن ذهب إلى أن المعنى ذلك العذاب " بأن الله نزل الكتاب بالحق " قدر فكفروا به، وجعله محذوفا.

ومن ذهب إلى أن المعنى: ذلك الحكم بدلالة " أن الله نزل الكتاب بالحق " لم يجعله محذوفا.

والمعني بالذين اختلفوا على قول السدي: اليهود، والنصارى.

وقال غيره: هم الكفار من عبدة الاوثان، وغيرهم من أهل الضلال. وهو الاولى، لانه أعم.

الاعراب: وإنما كسرة (إن) الثانية لالحاق اللام الخبر، وهي لام الابتداء، فأخرت إلى الخبر وكسرت معها (إن) لانها للاستئناف ايضا. فأما (أن) المفتوحة فاسم يعمل فيه عوامل الاعراب كما يعمل في الاسماء. وإنما كسرت (إن) في قوله تعالى: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام "(1) لا لا لحاق اللام، ولكن

___________________________________

(1) سورة الفرقان آية: 20.

[94]

لدخول (إلا) على جملة مستأنفة في التقدير. كأنه قيل: إلا هم يأكلون الطعام. ولو قلت ما ظننت إلا إنك لخارج لكسرت لاجل اللام.

اللغة: والاختلاف: الذهاب على جهة التفريق في الجهات. وأصله من اختلاف الطريق.

تقول: اختلفنا الطريق، فجاء هذا من هاهنا، وجاء ذاك من هناك، ثم قيل في الاختلاف في المذاهب تشبيها في الاختلاف في الطريق من حيث أن كل واحد منهم على نقيض ما عليه الآخر من الاعتقاد. فأما الاختلاف في الاجناس، فهو ما لا يسد واحد منهما مسد الآخر، فيما يرجع إلى ذاته، كالسواد والبياض، وغيرهما.

والشقاق: انحياز كل واحد عن شق صاحبه للعدواة له. وهو طلب كل واحد منهما ما يشق على الآخر، لاجل العدواة. والمشاقة مثله.

قوله تعالى: ليس البر أن تولو وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون(177)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ حفص الاهبيرة، وحمزة " ليس البر " بنصب الراء. الباقون برفعها. وقرأ نافع، وابن عامر " ولكن البر " بتخفيف النون، ورفع الراء.

[95]

النزول: قيل: إن هذه الآية نزلت لما حولت القبلة، وكثر الخوض في نسخ تلك الفريضة، صار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا التوجه للصلاة، فأنزل الله تعالى الآية، وبين فيها أن البر ما ذكره فيها، ودل على أن الصلاة إنما يحتاج اليها لما فيها من المصلحة الدينية، وإنه انما يأمر بها، لما في علمه أنها تدعوا إلى الصلاح، وتصرف عن الفساد، وإن ذلك يختلف بحسب الازمان، والاوقات.

المعنى: وقوله: " ليس البر " قيل فيه قولان: أحدهما - ذكره ابن عباس، ومجاهد: أنه " ليس البر " كله في التوجه إلى الصلاة بل حتى يضاف إلى ذلك غيره من الطاعات التي أمر الله تعالى بها. والثاني - قاله قتادة، والربيع واختاره الجبائي: انه " ليس البر " ما عليه النصارى من التوجه إلى المشرق، أو ما عليه اليهود من التوجه إلى المغرب " ولكن البر " ما ذكره الله تعالى في الآية، وبينه.

وقوله: " ولكن البر من آمن " قيل فيه ثلاثة أقوال: أولها - " ولكن البر " بر " من آمن بالله " فحذف المضاف، وأقام المضاف اليه مقامه، واختاره المبرد، لقوله " ليس البر أن تولوا " وقال النابغة:

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل(1)

يعني مخافة وعل.

وقالت الخنساء:

ترتع ما غفلت حتى اذا ادكرت *** فانما هي إقبال وإدبار(2)

معناه انما هي مقبلة تارة، ومدبرة أخرى، فبالغ، فجعلها إقبالا وإدبارا،

___________________________________

(1) مر تخريجه في 2: 78.

(2) اللسان (قبل) في المطبوعة (غفت) بدل (غفلت) وفي مجمع البيان (ما رتعت).

الرتع: الاكل في شره، ورتعت المواشي: أكلت ما شأت وجاء‌ت وذهبت. ادكرت: تذكرت.

[96]

وقال متمم:(1)

لعمري ! وما دهري بتأبين هالك *** ولا جزعا مما أصاب فأوجعا(2)

معناه ولا ذى جزع.

الوجه الثانى - ولكن ذا البر من آمن بالله.

الثالث - ولكن البار من آمن بالله، فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل.

وقد بينا في ما مضى حقيقة الايمان والخلاف فيه، فلا معنى لاعادته.

والضمير في قوله: " على حبه " يحتمل أن يكون عائدا على حب المال، ويحتمل أن يكون عائدا على حب الاتيان، قال عبدالله بن مسعود: على حب المال، لانه يأمل العيش ويخشى الفقر. وأما على حب الاتيان، فوجهه ألا تدفعه وأنت متسخط عليه كاره.

ويحتمل وجها ثالثا: وهو أن يكون الضمير عائدا على الله، ويكون التقدير على حب الله، فيكون خالصا لوجهه، وقد تقدم ذكر الله تعالى في قوله " من آمن بالله ". وهو أحسنها.

والاية تدل على وجوب إعطاء مال الزكاة بلا خلاف. وتدل ايضا - في قول الشعبي، والجبائي - على وجوب غيره مما له سبب وجوب كالانفاق على من تحب عليه نفقته، وعلى من يجب عليه سد رمقه إذا خاف التلف، وعلى ما يلزمه من النذور، والكفارات، ويدخل فيها ايضا ما يخرجه الانسان على وجه التطوع، والقربة إلى الله، لان ذلك كله من البر.

وابن السبيل: هو المنقطع به إذا كان مسافرا محتاجا وإن كان غنيا في بلده، وهو من أهل الزكاة.

وقيل: إنه الضيف، والاول قول مجاهد، والثاني قول قتادة.

وانما قيل: ابن السبيل: بمعنى ابن الطريق، كما قيل للطير: ابن الماء، للملازمته إياه،

___________________________________

(1) هو متمم بن نويرة.

(2) اللسان (أبن، (دهر) ليس من عادتي تأبين الاموات، ومدحهم بعد موتهم، ولست أجزع من المصيبة.

[97]

قال ذو الرمة:

وردت اعتسافا والثريا كأنها *** على قمة الرأس ابن ماء محلق(1)

والسائلين معناه: والطالبين للصدقة، لانه ليس كل مسكين يطلب.

وقوله: " وفي الرقاب " قيل فيه قولان: احدهما - عتق الرقاب.

والثاني - المكاتبين. وينبغي أن تحمل الاية على الامرين، لانها تحتمل الامرين، وهو اختيار الجبائي، والرماني.

اللغة: والمراقبة: المراعاة. والرقبة: الانتظار. والرقيب: المشرف على القوم لحراستهم. والرقيب: الحافظ.

وتقول: رقبته أرقبه رقبا، وراقبته مراقبة، وارتقبته ارتقابا، وتراقبوا تراقبا، وترقب ترقبا.

والرقوب: الارمله التي لا كاسب لها، لانها تترقب معروفا أو صلة.

والرقبة مؤخر أصل العنق. وأعتق الله رقبته، ولايقال عتقه.

والرقيب ضرب من الحيات خبيث.

والرقوب: المرأة التي لا يعيش لها ولد.

والرقيب: النجم الذي يتبين من المشرق، فيعيب رقيبه من المغرب.

المعنى: وقوله تعالى: " ذوي القربة " قيل أراد به قرابة المعطي، اختاره الجبائي، لقول النبي صلى الله عليه وآله لفاطمة بنت قيس، لما قالت: يا رسول الله إن لي سبعين مثقالا من ذهب، فقال: اجعليها في قرابتك.

وقال (ع) لما سئل عن أفضل الصدقة، فقال: جهد المقل على ذي القرابة الكاشح. ويحتمل أن يكون أراد به قرابة النبي صلى الله عليه وآله.

كما قال: " قل لا أسئلكم عليه أجراإلا المودة في القربى "(2) وهو قول أبي جعفر، وأبي عبدالله (ع) وقوله: " في البأساء والضراء وحين البأس " قال قتادة:

___________________________________

(1) ديوانه: 401، واللسان (عسف).

وردت اعتسافا: سرت بدون تدبير، ولا معرفة للطريق، بل اقتحمت اقتحاما.

والثريا: جملة من النجوم تشبه قطف العنب. شبه الثريا بالطير المحلق فوق رأسه وهو على الماء.

(2) سورة الشورى آية: 23.

[98]

البأسا: البؤس، والفقر. والضراء: السقم، والوجع. ومنه قوله: " مسني الضر "(1). وحين البأس: حين القتال.

قال ابن مسعود: البأساء: الفقر.

والضراء: السقم وانما قيل: البأساء في المصدر ولم يقل منه أفعل، لان الاصل في فعلاء أفعل للصفات التي للالوان، والعيوب. كقولك أحمر، وحمراء، وأعور، وعوراء. فأما الاسماء التي ليست بصفات، فلا يجب ذلك فيها.

وعلى ذلك تأولوا قول زهير:

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم *** كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم(2)

وأنكر ذلك قوم، لانه لم يصرف أشأم.

وقالوا إنما هو صفة وقعت موقع الموصوف كأنه قال: غلمان أمر أشأم، فلذلك قالوا إنما المعنى الخلة البأساء، والخلة الضراء.

" والموفون بعهدهم " رفع عطفا على " من آمن ". ويحتمل أن يكون رفعا على المدح، وتقديره: وهم الموفون، ذكره الزجاج. والصابرين نصب على المدح، كقول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرأي حين تغم الامور *** بذات الصليل وذات اللجم(3)

ويحتمل أن يكون نصب بفعل مضمر، وتقديره وأعني الصابرين. ويحتمل أن يكون عطفا على قوله: " وآتى المال على حبه ذوي القربى " " والصابرين " فعلى هذا يجب أن يكون رفع " الموفين " على المدح للضمير الذي في صلة (من)، لانه لايجوز بعد العطف على الموصوف، العطف على ما في الصلة. وهذا الوجه ضعيف، لانه يؤدي إلى التكرار، لانهم دخلوا في قوله: " والمساكين وابن

___________________________________

(1) سورة الانبياء آية: 83.

(2) ديوانه: 20 من معلقته الفريدة، من أبياته في صفة الحرب. الضمير في (فتنتج) عائد إلى الحرب، وقد مر ذكرها في أول الابيات. (أشأم): أي؟ شؤم.

(3) معان القرآن للفراء 1: 105، وأمالي الشريف المرتضى 1: 205، والانصاف: 195، وخزانة الادب: 216. القرم: السيد المقدم في المعرفة، والتجارب الكتيبة هي فرقة من الجيش.

المزدحم: هو المكان الذي تجتمع به الناس كثيرا، وتتسابق على التقدم فيه، والمقصود منه هنا ساحة الحرب تغم الامور أي تضيع عليهم الصليل: صوت السيوف وذات اللجم: الخيل

[99]

السبيل والسائلين " فيجب أن يحمل قوله: " والصابرين " على من لم يذكر، ليكون فيه فائدة. وإن كان ذلك وجها مليحا. والقراء‌ة بالرفع أجود، وأقوى، لانه اسم (ليس) مقدم قبل الخبر لفائدة في الخبر، ولانه قرأ " ليس البر بأن " ذكره الفراء.

وقوله: " أولئك الذين صدقوا " معناه الذين جمعوا العمل بهذه الخصال الموصوفة: هم الموصوفون بأنهم صدقوا على الحقيقة، لانهم عملوا بموجب ما أقروا به.

" أولئك هم المتقون " يعني اتقوا - بفعل هذه الخصال - نار جهنم. واستدل أصحابنا بهذه الاية على أن المعنى بها أمير المؤمنين (ع)، لانه لاخلاف بين الامة أن جميع هذه الخصال كانت جامعة فيه. ولم تجتمع في غيره قطعا، فهو مراد بالاية بالاجماع. وغيره مشكوك فيه غير مقطوع عليه.

وقال الزجاج، والفراء: هذه الاية تتناول الانبياء المعصومين، لانهم الذين يجمعون هذه الصفات.

الاعراب: ومن قرأ " ليس البر " بالرفع، جعل البر اسما، وجعل (أن) في موضع نصب، ومن نصب جعل " أن تولوا " في موضع رفع، وقدم الخبر.

ومثله قوله تعالى: " ما كان حجتهم إلا أن قالوا "(1) " وما كان قولهم "(2) " وما كان جواب قومه(3).

" فكان عاقبتهما "(4) وما أشبه ذلك.

___________________________________

(1) سورة الجاثية آية: 24.

(2) سورة آل عمران آية: 147.

(3) سورة الاعراف آية 81.

(4) سورة الحشر آية: 17.

[100]

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم(178)

آية بلا خلاف.

معنى قوله: كتب: فرض.

وأصل الكتب: الخط الدال على معنى الفرض.

وقيل: لانه، مما كتبه الله في اللوح المحفوظ على جهة الفرض، قال الشاعر:(1)

كتب القتل والقتال علينا *** وعلى المحصنات جر الذيول(2)

وقال النابغة الجعدي:

يا بنت عمي كتاب الله أخرجني *** عنكم فهل امنعن الله ما فعلا(3)

ومنه الصلاة المكتوبة أي المفروضة فان قيل: كيف قيل: كتب عليكم بمعنى فرض، والاولياء مخيرون: بين القصاص، والعفو، وأخذ الدية؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما - انه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص. والفرض قد يكون مضيقا ويكون مخيرا فيه.

والثاني - فرض عليكم ترك مجاوزة ما حد لكم إلى التعدي فيما لم يجعل لكم.

اللغة: والقصاص: الاخذ من الجاني مثل ما جنى، وذلك لانه تال لجنايته.

وأصله التلو، من قص الاثر: وهو تلو الاثر.

والقصاص، والمقاصة، والمعاوضة، والمبادلة نظائر.

يقال: قص يقص قصا، وقصصا.

وأقصه به إقصاصا. واقتص اقتصاصا. وتقاصوا تقاصا.

واستقص: اذا طلب القصاص استقصاصا.

وقاصه مقاصة وقصاصا. وقص الشئ بالمقص يقصه قصا.

وقص الحديث يقصه قصصا. وكذلك قص أثره قصصا: اذا اقتفى أثره.

والقص والقصص: عظم الصدر من الناس، وغيرهم.

___________________________________

(1) هو عمر بن أبي ربيعة، أو عبدالله بن الزبير الاسدي.

(2) ديوان عمر، والبيان، والتبيين 2: 236، والكامل لابن الاثير 2: 154، وتاريخ الطبري 7: 158، وانساب الاشراف 5: 264. والاغاني 9: 229.

(3) اللسان (كتب). وأساس البلاغة (كتب) والمقابيس 5: 159. ورواية الاساس (اخرني) بدل (أخرجني).

[101]

والقصة: الخصلة من الشعر. والقصة من القصص معروفة. والقصة الجص.

والقصاص: التقاص من الجراحات والحقوق شئ بشئ.

والقصيص: نبات ينبت في أصول الكمأة. واقصت الشاة، فهي مقص اذا استبان ولدها.

وأصل الباب التلو.

وقوله تعالى: " الحر بالحر " فالحر نقيض العبد، والحر من كل شئ: أعتقه.

والحر: ولدالحية، وولد الظبية، وفرخ الحمام.

واحرار البقول: ماؤكل غير مطبوخ.

والحر: نقيض البرد، حر النهار يحر حرا.

والحرير: ثياب من إبريسم.

والحريرة: دقيق يطبخ باللبن.

والحرة: أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار.

وتحرير الكتابة: إقامة حروفها.

والحرورية: منسوب إلى حرور: قرية كان أول مجتمعهم بها، فالمحرر المختص بخدمة الكنيسة ما عاش، ومنه قوله " وما في بطني محررا "(1) وأصل الباب الحر خلاف البرد. منه الحرير، لانه يستدفا به.

قوله " من عفي له من أخيه شئ " معناه ترك، من عفت المنازل اذا تركت حتى درست.

والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها.

وقيل: معنى العفو هاهنا ترك القود بقبول الدية من أخيه، فالاخ يجمع أخوة اذا كانوا لاب، وإذا لم يكونوا لاب، فهم أخوان، ذكر ذلك صاحب العين، ومنه قوله: " فاصلحوا بين أخويكم "(2) ومنه الاخاء، والتآخي.

والاخوة قرابة الاخ. والتآخي اتخاذ الاخوان. وبينهما إخاء وأخوة. آخيت فلانا موآخاة، وإخاء.

وأصل الباب الاخ من النسب، ثم شبه به الاخ من الصداقة.

المعنى: والهاء في قوله: " من أخيه " تعود إلى أخي المقتول - في قول الحسن -.

وقال غيره: تعود إلى أخي القاتل، فان قيل: كيف يجوز أن تعود إلى أخي القاتل وهو في تلك الحال فاسق؟ قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة:

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 35.

(2) سورة الحجرات آية: 10.

[102]

أحدها - إنه أراد أخوة النسب، لافي الدين، كما قال " وإلى عاد أخاهم هودا "(1).

والثاني - لان القاتل قد يتوب فيدخل في الجملة، وغير التائب على وجه التغليب.

الثالث - تعريفه بذلك على أنه كان أخاه قبل أن يقتله، كما قال: " إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن "(2) يعنى الذين كانوا ازواجهن.

و قال جعفر بن مبشر عن بعضهم: ان هذه الاية منسوخة بقوله " النفس بالنفس "(3) قال: وليست عندي كذلك، لان الله تعالى إنما أخبرنا أنه كتبها على اليهود قبلنا، وليس في ذلك ما يوجب أنه فرض علينا، لان شريعتهم منسوخة بشريعتنا.

والذي أقوله: إن هذه الاية ليست منسوخة، لان ما تضمنته معمول عليه ولا ينافي قوله تعالى: " النفس بالنفس " لان تلك عامة، ويمكن بناء تلك على هذه، ولا تناقض ولا يحتاج إلى أن ينسخ إحداهما بالاخرى.

وقال قتادة: نزلت هذه الاية، لان قوما من أهل الجاهلية كانت لهم حولة(4) على غيرهم من أهل الجاهلية، فكانوا يتعدون في ذلك، فلا يرضون بالعبد إلا الحر، ولا بالمرأة إلا الرجل، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.

وقوله: " فاتباع بالمعروف " يعني العافي، وعلى المعفو عنه " أداء اليه باحسان " وبه قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والشعبي، والربيع، وابن زيد، وهو المروي عن أبي عبدالله (ع).

وقال قوم: هما على المعفو عنه. والاعتداء هو القتل بعد قبول الدية على قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبدالله (ع).

وقال بعضهم " من اعتدى " بعد البيان في الاية، فقتل غير قاتل وليه أو بعد قبول الدية " فله عذاب أليم " وهذا ايضا جيد تحتمله الاية.

___________________________________

(1) سورة الاعراف آية: 64، سورة هود آية: 50.

(2) سورة البقرة آية: 232.

(3) سورة المائدة آية: 48.

(4) الحولة: هي المنكر، ويمكن أن يكون معناه الحق الذي حل أجله، ويكون المعنى لهم عليهم حق قصاص حال، وعلى الاول لهم عليهم قود يمنكر قد فعلوه، ويريدون الاقتصاص منهم.

[103]

الاعراب: وقوله: " فاتباع " رفع بأنه إبتداء لخبر محذوف، كأنه قيل: فحكمه اتباع، أو فعليه اتباع. وكان يجوز النصب في العربية. على تقدير فاليتبع اتباعا، ولم يقرأ به.

اللغة: والاداء، قال الخليل: أدى فلان يؤدي ما عليه إداء وتأدية. ويقال: فلان آدى للامانة من غيره. والاداة من أدوات الحرب. وأصل الباب التأدية تبليغ الغاية.

المعنى: وقوله تعالى: " تخفيف من ربكم " معناه: أنه جعل لكم القصاص، أو الدية، أو العفو، وكان لاهل التوراة قصاص، وعفو، ولاهل الانجيل عفو، أو دية. ويجوز قتل العبد بالحر، والانثى بالذكر إجماعا، ولقوله: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليله سلطانا "(1) ولقوله: " النفس بالنفس "(2).

وقوله: في هذه الاية " الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى " لا يمنع من ذلك، لانه تعالى لم يقل: ولا يقتل الانثى بالذكر، ولاالعبد بالحر. فاذالم يكن ذلك في الظاهر، فما تضمنته الاية معمول به، وما قلناه مثبت بما تقدم من الادلة. فأما قتل الحر بالعبد، فعندنا لا يجوز، وبه قال الشافعي، وأهل المدينة.

وقال أهل العراق: يجوز. ولا يقتل والدبولد عندنا، وعند أكثر الفقهاء. وعند مالك يقتل به على بعض الوجوه. وأما قتل الوالدة بالولد، فعندنا تقتل. وعند جميع الفقهاء انها جارية مجرى الاب.

___________________________________

(1) سورة الاسرى آية: 33.

(2) سورة المائدة آية: 48.

[104]

فأما قتل الولد بالوالد فيجوز إجماعا. ولا يقتل مولى بعبده. ويجوز قتل الجماعة بواحد إجماعا إلا أن عندنا يرد فاضل الدية، وعندهم لايرد شئ على حال. واذا اشترك بالغ مع طفل. أو مجنون في قتل، فعندنا لا يسقط القود عن البالغ، وبه قال الشافعي. وقال أهل العراق: يسقط.

ودية القصاص في قود النفس الف دينار، أو عشرة آلاف درهم، أو مأة من الابل، أو مأتان من البقر، أو الف شاة، أو مأتا حلة. ولا يجبر القاتل على الدية - عندنا - وان رضي، فهي عليه في ماله.

وقال الحسن: يجبر على العفو عن القصاص، والدية على العاقلة.

والقتل بالحديد عمدا يوجب القود إجماعا. فأما غير الحديد، فكل شئ يغلب على الظن أن مثله يقتل فن يجب القود عندنا، وعند أكثر الفقهاء،، والذي له العفو عن القصاص كل من يرث الدية إلا الزوج، والزوجة. وهم لا يستثنون بها إلا أبا حنيفة: قال: اذا كان للمقتول ولد صغار وكبار، فللكبار أن يقتلوا، ويحتج بقاتل علي (ع).

وقال غيره: لايجوز حتى يبلغ الصغار.

وعندنا أن لهم ذلك إذا ضمنوا حصة الصغار من الدية إذا بلغوا، ولم يرضوا بالقصاص. واذا اجتمع مع القصاص حدود، فان كان حد لله، فالقتل يأتي عليه. وإن كان حق لادمي كحد القذف، أقيم عليه الحد ثم يقتل.

وقال أهل المدينة: القتل يأتي على الكل. ويقتل الرجل بالمرأة اذا رد أولياؤها نصف الدية. وخالف جميع الفقهاء في ذلك. وما قلنا، قول علي (ع) وقول الحسن البصري. وشرح مسائل الديات ذكرناها في النهاية، والمبسوط، لا يقتضي ذكرها هاهنا.

قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب للعلكم تتقون(179)

آية بلا خلاف.

المعنى: أكثر المفسرين على أن قوله: " ولكم في القصاص حياة " المراد به القصاص في القتل.

[105]

وإنما كان فيه حياة من وجهين: أحدهما - ما عليه أكثر المفسرين كمجاهد، وقتادة، والربيع، وابن زيد: أنه إذا هم الانسان بالقتل فذكر القصاص، ارتدع، فكان ذلك سببا للحياة.

الثاني - قال السدي: من جهة أنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره. خلاف فعل الجاهلية الذين كانوا يتفانون(1) بالطوائل، والمعنيان جميعا حسنان.

وقال أبو الجوزاء: معناه أن القران(2) حياة بالقصاص، أراد به القران. وهذا ضعيف، لانه تأويل خلاف الاجماع، ولانه لايليق بما تقدم، ولا يشاكله، وهو قوله: " كتب عليكم القصاص في القتلى "، فكأنه قال بعده ولكم فيه حياة. ونظير هذه الاية قولهم: القتل أنفى للقتل. وبينهما من التفاوت في الفصاحة، والبلاغة ما بين السماء والارض وقيل: الفرق بينهما من أربعة أوجه:

أحدها - أنه أكثر فائدة.

وثانيها - أنه أوجز في العبارة.

وثالثها - أنه أبعد عن الكلمة بتكرير الجملة.

ورابعها - أنه أحسن تأليفا بالحروف المتلائمة.

أما كثرة الفائدة، ففيه ما في قولهم: (القتل أنفى للقتل) وزيادة معان حسنة: منها إبانة العدل، لذكره القصاص. ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه، لذكر الحياة. ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به. وأما الايجاز في العبارة، فان الذي هو نظير (القتل أنفى للقتل)

قوله تعالى: " في القصاص حياة " وهو عشرة أحرف. والاول أربعة عشر حرفا. وأما بعد التكلف، فهو أن في قولهم: (القتل أنفى للقتل) تكرير غيره أبلغ منه. متى كان التكرير كذلك، فهو مقصر في باب البلاغة. وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة، فهو مدرك بالحس، وموجود باللفظ، فان الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة من اللام. وكذلك الخروج من الصاد

___________________________________

(1) في المطبوعة " يتغابون ".

(2) هكذا في المطبوعة ولم أجد قول لابي الجوزاء في هذا الموضع في ما حضرني من التفاسير، ولم أجد في كتب اللغة القصاص بمعنى القران، الا أن يكون - بفتح القاف -

[106]

إلى الحاء أعدل من الخروج من الالف إلى اللام. فباجماع هذه الامور التي ذكرناها كان أبلغ منه وأحسن. وإن كان الاول حسنا بليغا وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء، فقال:

أبلغ أبا مالك عني مغلغلة *** وفي العتاب حياة بين أقوام(1)

وهذا وإن كان حسنا، فبينه وبين لفظ القرآن: ما بين أعلى الطبقة وأدناها. وأول ما فيه أنه استدعاء إلى العتاب. وذلك استدعاء إلى العدل. وفي هذا إبهام. وفي الاية بيان عجيب.

اللغة: وقوله: " يا أولى الالباب " فالالباب: العقول وهو مأخوذ من النخلة على وجه التشبيه به. واللب: العقل. لب الرجل يلب: إذا صار لبيبا. ولب بالمكان، وألب به لبا، وإلبابا: اذا أفام به. ولب كل شئ خالصه.

قال صاحب العين: اللب: البال.

تقول: الامر منه في لبب رخي أي في بال رخي.

واللبب من الرمل: شبيه حقف بين معظم الرمل، وجلد الارض.

وتلبب بالثياب إذا جمعها. ويشبه به المتسلح بالسلاح.

واللبة من الصدر: موضع القلادة.

والتلبيب: مجمع ما في موضع اللبب من ثياب الرجل. تقول: أخذ فلان بتلابيب فلان.

وأصل الباب لب الشئ: داخله: الذي تركبه القشرة، وتلزمه. ومنه لبيك وسعديك أي ملازمة لامرك وإسعادا لك.

المعنى: وقوله تعالى: " لعلكم تتقون " قد بينا فيما مضى أن لعل معناه لكي وقيل في معناه هاهنا قولان:

___________________________________

(1) اللسان (غلل) أنشده بن؟.

مغلغلة: رسالة محمولة من بلد إلى بلد والعتاب هو الملاومة ولا يكون الا بين اثنين فصاعدا.

وانما قال: حياة، لانه يخفف من الغيظ، وقد يبطل العتاب حربا يقتل فيها الالوف.

فكأنه يقول اوصل هذه الرسالة التي هي عتاب، والعتاب حياة لقومي ولقومك.

[107]

(الاول) لكي تتقوا القتل بالخوف من القصاص. ذكره ابن زيد.

الثاني - قال الجبائي، وغيره: لتتقوا ربكم باجتناب معاصيه. وهذا أعم فائدة، لانه يدخل فيه اتقاء القتل، وغيره.

وفي الاية دلالة على فساد قول المجبرة: لان فيها دلالة على أنه أنعم على جميع العقلاء، ليتقوا ربهم، وفي ذلك دلالة على أنه أراد منهم التقوى وإن عصوا، وإنما خص الله تعالى بالخطاب أولي الالباب، لانهم المكلفون المأمورون، ومن ليس بعاقل لا يصح تكليفه، ولا يحسن، فلذلك خصهم بالذكر.

الآية: 180 - 189

قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين(180)

آية بلا خلاف.

المعنى: هذا ابتداء قصة، ولابد فيه من واو العطف، بان يقال: وكتب، لانه حذف اختصارا وقد بينا فيما مضى: أن معنى كتب فرض. وهاهنا معناه الحث والترغيب دون الفرض، والايجاب.

وفي الاية دلالة على أن الوصية جائزة للوارث، لانه قال الوالدين، والاقربين. والوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرين غير قاتلين. ومن خص الاية بالكافرين، فقد قال: قولا بلا دليل، ومن ادعى نسخ الاية فهو مدع لذلك، ولا يسلم له نسخها.

وبمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري سواء، فان ادعوا الاجماع على نسخها، كان ذلك دعوى باطلة ونحن نخالف في ذلك. وقد خالف في نسخ الاية طاووس، فانه خصها بالكافرين، لمكان الخبر ولم يحملها على النسخ.

وقد قال أبومسلم محمد بن بحر: إن هذه الاية مجملة، وآية الموارث مفصلة، وليست نسخا، فمع هذا الخلاف كيف يدعى الاجماع على نسخها.

[108]

ومن ادعى نسخها، لقوله (ع): لا وصية لوارث، فقد أبعد، لان هذا اولا خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به إجماعا. وعندنا لا يجوز العمل به في تخصيص عموم القرآن. وادعاؤهم أن الامة أجمعت على الخبر دعوى عارية من برهان. ولو سلمنا الخبر جاز أن نحمله على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث، لانا لو خلينا وظاهر الاية لاجزنا الوصية بجميع ما يملك للوالدين والاقربين، لكن خص ما زاد على الثلث لمكان الاجماع.

فأما من قال: إن الاية منسوخة بآية الميراث فقوله بعيد عن الصواب. لان الشئ إنما ينسخ غيره: إذا لم يمكن الجمع بينهما، فأما اذا لم يكن بينهما تناف ولا تضاد بل أمكن الجمع بينهما، فلا يجب حمل الاية على النسخ، ولا تنافي بين ذكر ما فرض الله للوالدين وغيرهم من الميراث، وبين الامر بالوصية لهم على جهة الخصوص، فلم يجب حمل الاية على النسخ.

وقول من قال: حصول الاجماع على أن الوصية ليست فرضا يدل على أنها منسوخة باطل، لان اجماعهم على أنها لاتفيد الفرض، لا يمتنع من كونها مندوبا إليها ومرغبا فيها، ولاجل ذلك كانت الوصية للوالدين، والاقربين الذين ليسوا بوارث ثابتة بالاية ولم يقل أحد أنها منسوخة في خبرهم(1).

ومن قال: إن النسخ من الاية ما يتعلق بالوالدين، وهو قول الحسن والضحاك، فقد قال قولا ينافي ما قاله مدعي نسخ الاية - على كل حال - ومع ذلك فليس الامر على ما قال، لانه لادليل على دعواه.

وقال طاووس: إذا وصى لغير ذي قرابة لم تجز وصيته.

وقال الحسن: ليست الوصية إلا للاقربين وهذا الذي قالاه عندنا وإن كان غير صحيح، فهو مبطل قول من يدعي نسخ الاية. وإنما قلنا أنه ليس بصحيح، لان الوصية لغير الوالدين، والاقربين عندنا جائزة. ولاخلاف بين الفقهاء في جوازها. والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث إجماعا، والافضل أن يكون بأقل من الثلث، لقوله (ع) والثلث كثير، وأحق من وصي له من كان

___________________________________

(1) نسب الخبر اليهم مع أنهم يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله، لانه لايسلم صحته.

[109]

أقرب إلى الميت إذا كانوا فقراء - بلا خلاف - وإن كانوا أغنياء، فقال الحسن وعمرو بن عبيد: هم أحق بها.

وقال ابن مسعود، وواصل ألاحق بها الاجوع، فالاجوع من القرابة.

وقوله تعالى: " إن ترك خيرا " يعنى مالا. واختلفوا في مقداره الذي يجب الوصية عنده، فقال الزهري: كلما وقع عليه اسم مال من قليل أو كثير.

وقال ابراهيم النخعي: الف درهم إلى خمسائة.

وروي عن علي (ع) أنه دخل على مولى لهم في مرضه، وله سبع مائه درهم أو ستمائة، فقال: ألا أوصي، فقال: لا إنما قال الله تعالى: " إن ترك خيرا " وليس لك كبير مال. وبهذا نأخذ، لان قوله حجة عندنا.

الاعراب: والوصية في الاية مرفوعة بأحد أمرين: أحدهما - ب‍ (كتب)، لانه لم يسم فاعله الثاني - أن يكون العامل فيه الابتداء. وخبره للوالدين، والجملة في موضع رفع على الحكاية بمنزلة قيل لكم: الوصية للوالدين. وقيل في إعراب (إذا) والعامل فيه قولان: إحدهما - كتب على معنى اذا حضر أحدكم الموت أي عند المرض.

والوجه الاخر قال الزجاج، لانه رغب في حال صحته أن يوصي، فتقديره كتب عليكم الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف في حال الصحة قائلين: اذا حضرنا الموت فلفلان كذا.

المعنى: المعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر ولاحيف فيه ولا جور والحضور وجود الشئ بحيث يمكن أن يدرك. وليس معناه في الاية اذا حضره الموت أي إذا عاين الموت، لانه في تلك الحال في شغل عن الوصية. لكن المعنى كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الانسان: إذا حضرني الموت أي اذا أنامت، فلفلان كذا.

[110]

والحق هو الفعل الذي لايجوز إنكاره وقيل ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا وهو مصدر حق يحق حقا وانتصب في الاية على المصدر وتقديره أحق حقا وقد استعمل على وجه الصفة، بمعنى ذي الحق، كما وصف بالعدل " على المتقين " معناه على الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصية، وامتثال أو امره.

 





 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336752

  • التاريخ : 29/03/2024 - 00:27

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net