• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : المجتمع القرآني .

المجتمع القرآني

الشيخ ناصر الأسدي

تمهيد

(أيها الناس!..... إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مُشَفَّع، وما حلٌ مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل، يدل على خير سبيل... فظاهره حكمة، وباطنه علم... فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودليل على المعروف لمن عرفه)(1).

ما عساني أن أقول؟ ومن أنا؟؟

ما الذي تستطيع أن تقوله الذرة تجاه المجرة، والبعوضة تجاه الآفاق البعيدة التي لا ساحل لها؟

أراني أدنى بكثير وكثير... من أن أتفوه ببنت شفة تجاه أعظم كتاب كوني، يذوب أمام جلاله الملكوت، وكل السماوات بما تحت أفلاكها.. إلاّ أن ربنا العزيز هو الذي أكد لنا بأن القرآن إنما هو للناس كافة.

من هذا الباب نعطي لنفسنا الحق في أن نقول ما توصلت إليه عقولنا القاصرة، دون الإصرار على صحة ما يتفوه به اليراع {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}.

1- كتاب الله العزيز يمثل المعجزة الحية النابضة الماثلة بين يدي البشرية جمعاء... وهو ليس كما يتصور معجزة واحدة فحسب، وإنما هو (موسوعة معجزات): فاجتماعياته معجزة لعلماء الاجتماع، وأخلاقياته معجزة للأخلاقيين، واقتصادياته وتربوياته معجزة للاقتصاديين والتربويين، وأداؤه معجزة للأدباء فهو (كتاب الكون) بل هو (عدل الكون) فالكون كله كلمة من كلمات الله فإن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له (كن) فيكون... والقرآن كلمة أخرى من كلمات الله... ولكن في إهاب آخر..

من هذا المنطلق... نعرف: أن كتاب الله معجزة فيما نحن فيه (أي في فن التعامل الاجتماعي)... الذي هو فن صعب، ومثقل لكاهل صاحبه، ومعقد أحياناً كما فن الاقتصاد والإدارة.. ولكن لا يدرك هذا المغزى إلا من يبحر في أعماق المجتمع، ويسبر غوره، ويقلبه ظهراً لبطن.. فيكتشف قواعده ومعادلاته..

2- يعاني المجتمع الإسلامي المعاصر ركاماً من الأوبئة الاجتماعية... والفيروسات التي عكرت علاقة الأب بأولاده والزوج بزوجته ورب العمل بمستخدمه، والجار بجاره والطالب بأستاذه، بل لم يفلت منها حتى ذو اللحظة العابرة في الأتوبيس أو في صف انتظار الدخول على الطبيب وماشابه... فصارت الفتن والنعرات والمحسوبيات والذاتيات هي الأصل.. فتحول نهار الناس المشرق إلى ليل مظلم ثقيل ومؤلم.. ولا ملجأ للأمن النفسي والاجتماعي إلا كتاب الله الخالد قال رسول الله:

(فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن) وقال إمام المتقين علي عليه السلام (إنه الدواء لأدوائكم)(2).

فكتاب الله هو المعجز في هذا المجال والقادر على بناء كيان حضاري نموذجي على مختلف الأصعدة ومنها: الصعيد الاجتماعي الذي هو مدار حديثنا الآن..

لكن ذلك مشروط بالانتماء إليه.. والخشوع أمام ملكوته بالخضوع لأحكامه... كالجندي في ساحة المعركة المتأهب للانطلاق والمنتظر لإشارة موحية من القائد..

وكالزارع الذي يملك الأرض والبذور والماء والشمس.. ليس عليه إلا التنفيذ ليحول الأرض الجرداء إلى حديقة غناء..

ثم إن ديننا الحنيف كل متكامل.. يقوم على دعائم أربع هي: العقائد، العبادات، الأخلاق، والأحكام (كالمواريث والقضاء ومجموع ما يصطلح عليه فقهياً بالعقود والإيقاعات) والالتزام ببعضها (وإن كان لابد منه ولا مناص منه لكونه مصداقاً للأحكام التكليفية الخمسة)(3) إلا أنه لا يفي بالغرض الرباني المرسوم له، كالطائرة المهيضة الجناح، أو القاطرة التي اختل بعض إطاراتها، أو نقص حتى برغي واحد من ماكنتها... هل تفي بالغرض المرسوم لها؟!

وفي هذا (نبذ الإسلام ككل) يكمن سر تخلف الأمة في ميادين الصناعة والعسكرية والسياسة والثقافة والإدارة وغيرها.. فأصبحت جسداً معاقاً مرهقاً، مبتوراً تتنازع على نهشها الذئاب.. (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كتداعي الأكلة على القصعة).

يالها من مصيبة كبرى.. ومأساة مروعة..

فاجتماعيات القرآن جزء لا يتجزأ من مجموع النهج الرباني المرسوم في كتابه العزيز ويتمتع بطاقة خارقة في دفع عجلة المجتمع إلى الإمام، ولكن دون الذي ينشده الإسلام لكونه جزءً من الكل القرآني المتكامل.

1- الإنسان... القمة.

الإنسان الصالح هو اللبنة الأولى في المجتمع الصالح، فالمجتمع الواعي المثقف يتكون من أبنائه الواعين المثقفين، والشعب والأمة والدولة والأسرة وكل مؤسسة اجتماعية صالحة (على سعة معنى الصلاح الشامل للخلق الكريم ومعنوية الجهاد والتضحية، وروح الحوار والثقافة والعمل، والرزانة وكل الصفات التقدمية الأخرى) انها تثبت على الفرد الصالح.. وهذا مما لا يختلف فيه اثنان... وأية عملية إصلاحية في المجتمع إن لم ترتكز جهودها لتغيير الفرد.. سوف تصطدم بصخرة الفشل. وتقف في وسط الطريق حائرة مهزومة من هذا المنطلق.. أفرغ كتاب الله العزيز جهداً مكثفاً لبلوغ منتهى هذا الغرض، وللوصول بالكائن البشري إلى (قمة القمم) الإنسانية، الخلقية، العلمية الروحية.

لنتفيَّأ بظلال بعض الآيات التربوية الحياتية والاجتماعية التي تغرق الإنسان في جو عطر من العاطفة الدافئة والرحمة الفياضة الناعمة: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}(4).

{والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً}(5).

{ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}(6).

{وقولوا للناس حسناً}(7).

{ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار}(8)

{ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين}(9).

وعشرات بل مئات من هذه النصوص المركزة التي تحمل كل كلمة منها طاقة تربوية هائلة يعجز الحرف أن يحمل معنى أكبر من معناها.

1- الإنسان الصالح في رؤية الكتاب العزيز هو ذلك المؤمن الذي صهرته الرسالة الإسلامية في بوتقة العقيدة القرآنية الراسخة، والمواصفات الرسالية السامية، وطيب النفس، والهمة العالية، والشجاعة، والغيرة، وحب الخير والصلاح والتقدم..

2- وهو ذلك المؤمن الذي يستضيء بنور عقله، ويتفكر في خلق السماوات والأرض {ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك..} إذن العقل هو (الرسول الباطن) الذي يرشد الإنسان دوماً، وعلى مفترق الطرق إلى الصراط المستقيم..، فبالعقل عُبد الرحمن وبه اكتسبت الجنان.. وبالعقل بنى الإنسان حضارته، وأحرز أشواطاً واسعة في طريق التقدم وصعد سلم العلم عالياً... وما أكثر النصوص التي ترشد إلى العقل مثل {قد بين لكم الآيات لعلكم تعقلون}(10).

وفي الكتاب حوالي (49 مورداً) ذكر فيه العقل...

3- وهو ذلك الذي لبس لباس التقوى، واحتاط في دينه، في مأكله وملبسه، وأمواله، وأولاده {للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}(11).

{ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً}(12) ولقد وردت كلمة (التقوى) ومشتقاتها في حوالي(240) مورداً فيها الحث البليغ على التقوى.

4- وهو أيضاً ذلك الذي استفرغ جهده لتحصيل العلم والثقافة الإسلامية، لأن المؤمن لا يكون جاهلاً، حيث أنه يعلم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم، {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}(13).

5- مضافاً إلى ذلك.. جعل مكارم الأخلاق نصب عينيه، وبنى عليها برنامجه الاجتماعي، في الأسرة والمدرسة والمصنع والدائرة والثكنة والمسجد، حيث أن الإيمان والتقوى والعلم والعقل.. مجردة عن الخلق الكريم تكون كالغذاء المج، وكالحديقة التي  لاورد فيها ولا جمال وحيث أن الخلق الكريم.. يعني السعادة في الدنيا.. ويعني حب الناس واكتساب ودهم، والاحترام المتبادل و...، ويعد السعادة في الأخرى (ما وضع في ميزان العبد يوم القيامة، شيء أثقل من حسن الخلق).

إذن: توصلنا إلى هذه المعادلة (الإيمان + العقل + التقوى + العلم + الأخلاق) = (الإنسان الصالح)،  الذي هو النموذج المطلوب.. هو القمة... أليس كذلك؟؟

2- الخارطة الحقوقية:

لعل هذا المصطلح لا يصدق على الآيات الكريمات التي تتناول الحقوق الاجتماعية، لأنها تمثل الخطوط العريضة لتلك الحقوق.. إلا أن المقصود هو هذا الذي نقرؤه من آيات الحقوق ليس إلا.

ترسم هذه الآيات خطاً مستقيماً يؤدي إلى بحبوحة السعادة والأمن والطمأنينة التي ينشدها كل أبناء النوع الإنساني مطلقاً.. وهي صنفان:

أ - الحقوق الواجبة.. وهي تلك الحقوق الاجتماعية الضرورية اللاّبدّية التي بدونها يختل التوازن الاجتماعي ويتضرر أبناء المجتمع بصورة بالغة..

فالتعاون في بعض مراحله التي لا قوام للمجتمع إلا بها يعد واجباً... لذا قال القرآن {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون} (الماعون: 4 - 6)، فالذي يصلي متهاوناً إلى حد تركها احياناً، أو للتظاهر والخداع الاجتماعي، ويمنع يد المعونة للمجتمع... الويل له... ولصلاته... (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً).

وقال: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}(14). وهذا صريح بأنه حق... وتجاوزه لا يؤدي إلا إلى الطبقية المقيتة في المجتمع.

و(التواصي) بالحق وبالصبر هو الآخر من  المسؤوليات الحقوقية اللازمة، فكل عنصر في المجتمع مسؤول من جهة، ويحتفظ لنفسه بحق الإبصار، من جهة ثانية أكد القرآن على ذلك في سورة العصر المباركة: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.. وهذا التواصي هو الرباط الاجتماعي المتين الذي يشد آحاد المجتمع بعضهم ببعض.

وحق الكرامة الإنسانية والاحترام اللائق بكل شخصية.. {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر}.. وهو حق واسع ويشمل الكثير من المصاديق في مجال الأمن والغذاء واللباس والمسكن وغيرها.

ومجال (حصانة الكرامة الإنسانية) وهذا يعني حرمة كل الممارسات السيئة التي تحط من كرامة هذا الإنسان سواء قتله أو جرحه، أو إيذاؤه، أو هتك شرفه، أو الكذب عليه، أو خيانته، أو غشه، أو سرقته، أو غصبه، أو بهته، أو النميمة له أو عليه، أو اهانته، أو اخافته، أو اعتقاله، أو التجسس عليه، أو المؤامرة ضده، أو مقاطعته، أو غيبته، أو تسقيطه، هذه وعشرات من المحرمات الاجتماعية التي تمس كرامة الإنسان المسلم كلها حرام في حرام...

ذات مرة وجه أحد الصحابة كلمة لاذعة إلى جندب بن جناده (أبي ذر الغفاري رضي الله عنه) قائلاً له: يابن السوداء!! في محاولة للحط من شأنه في فورة غضبية طارئة.. تناهى الخبر إلى أسماع الرسول(ص) فاستنكر عليه قائلاً: (فيك جاهلية!) إذ أن هكذا كلمة نابية لا تصدر من مؤمن متق واعٍ..

ثم إن الإسلام تجاوز اللون والعرق والتمايزات المادية، واعتبر المسلمين سواسية كأسنان المشط.. على الصعيد القانوني والاجتماعي، فَلِمَ تصدر من أحدهم كلمة يابن السوداء؟! وما ذنب الأم التي ولدت أبا ذر(رضي الله عنه) التي أٌرسلت إليها كلمة إهانة لسبب لونها؟؟

قام الصحابي متوجهاً إلى دار أبي ذر.. طرق الباب ففتحت له.. وتوجه إليه قائلاً: ياأباذر! لا أبرح من مكاني هذا حتى ترضى عني.. وأضع خدي على الأرض وتمسح برجلك خدي الآخر!!

نعم هكذا (الكرامة الإنسانية) في ظل كتاب الله العزيز.

وحق المساواة الاجتماعية مع كل طبقات المجتمع، هذا الحق الذي عجزت الحضارة الحديثة المتغطرسة، التي تملك كل عوامل القوة والجبروت من إحراز هوامشه، فكيف بمتونة وأصوله، قال القرآن الكريم {ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(15).. ميزان التفاضل هو التقوى والعلم والجهاد {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (سورة المجادلة: آية/11)، {فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً} (سورة النساء: آية/95).

يحكي لنا التاريخ أنه: ذات مرة دخل رجل من أهل الشأن (.....) اسمه (أوش) في مجلس رسول (ص) وهو غاصٌّ بأهله، نظر في الوجوه فانتظر ان يقوم له أحد الحاضرين من محله... فلم يفعل أحد... خطى خطوات بكبرياء... ثم وقف على رأس أحد الجالسين مطالباً إياه بترك المكان له! ففعل... اعترضه رسول الله (ص) واحتج عليه... فقال أوش: (يارسول الله! وهبت نصف أموالي له) في محاولة لتدارك الخطأ، ولإرضاء الرجل واكتساب مثوبته... وأردف: فهل أَديت ما علي؟ أجابه الرسول (ص): لا.. وقال الرجل: أموالك لك ولا أقبل منها شيئاً.. وليبق ثوابي لي) ومنعه الرسول (ص) أن يعود ثانية إلى مثل ذلك... وعلمه أن يجلس حيث ينتهي به المجلس ولا يجرح أحداً.. ذلك لأن المسلمين (سواسية) ولا فضل لوجيه على وضيع أو غني على فقير أو غير ذلك..

وقد تكون الثروة أو بعض الامتيازات الاجتماعية (فتنة) لشخصية صاحبها.. {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات (ليبلوكم) في ما آتاكم...}(16).

ب - الحقوق الكمالية المستحبة.

وهذه هي التي تشبع جو التآخي والود في حنايا المجتمع وطواياه، وما أجملها من حقوق وأروعها من قوانين، تشتل النفوس بالورود العطرة، وتحول المجتمع إلى أسرة وديعة، متحابَّة ومتداعمة، ترفل في بحبوحة من المشاعر النبيلة.

وهذه الحقوق والآداب الاجتماعية أكثر بكثير من الحقوق الواجبة، وهي التي تمهد الأرض لنبات الحقوق الواجبة، يقول قرآننا الحبيب: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردّوها}(17)... هذه قاعدة حيوية واسعة.. لأنها تؤسس (ملاكاً) حسب الاصطلاح الأصولي... ففي كل تحية... وكل وداع وكل ترحيب، وكل مراسلة، وكل إهداء، وكل زيارة وكل خدمة ومنفعة يقدمها أخ لأخيه أو جار لجاره، أو كل احترام من فرد من المجتمع لفرد آخر... يعوض بما هو من سنخه صنفاً وأعلى منه رتبة أو أغلى ثمناً... أو أفضل وأحسن منه بوجه من الوجوه، لذلك حينما تتقدم جارية للإمام العظيم زين المجتهدين موسى بن جعفر(ع) باقة ريحان في صبيحة عيد سعيد.. يقول لها فوراً: (أنت حرة لوجه الله) وحين يُسأل (ع) عن هذا (الموقف الإنساني الرائع) يجيب فوراً بقراءة الآية الكريمة ويقول: رأيت أن الأحسن من هديتها، أن أهدي لها الحرية!! فحمل (بوحدة الملاك) في التحية وتعويض الهدية. {وإذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم..} (سورة المجادلة: آية/11) التفسح في المجالس ليس واجباً شرعياً، بمعنى أنه حكم تحرم مخالفته، لكنه واجب أخلاقي يلتزم به مجتمع التآخي والمحبة.. بل وأكثر من ذلك قد يتطلب الظرف والشروط الموضوعية أن يتخلى الفرد عن محله في المجلس لقادم أكبر منه علماً أو سناً أو شأناً... فيؤثره على نفسه {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (سورة الحشر: آية/9)، ويحكي لنا التاريخ نماذج فذة مشرقة من الإيثار.. في ساحة المعركة حيث يطلب جريح ماءاً لشدة عطشه الناتج عن نزف الدم، ويؤتى إليه بالماء، فتأبى نفسه أن يشربه ويحوله إلى رفيقه في الكفاح، الصريع على الأرض جريحاً، والثاني يحوله إلى الثالث... مع أنه مشرف على الموت وقد أخذ منه العطش مأخذاً شديداً..

وذات مرة في القرون السالفة، وقعت مجاعة في الأهواز، وعمت الناس بصورة خانقة، فحملت هدية (وهي عبارة عن رأس شاة) إلى رجل وعائلته، فأبوا أن يطبخوه ويأكلوه مع أن جيرانهم جياع! فحملوا الرأس إلى الجيران، وهم بدورهم أبوا أن يستفيدوا من الرأس وهكذا إلى البيت التاسع، فأرجعه إلى الأول! فاستغرب الأمر ثم اكتشف القضية، فطبخه ووزعه على الجميع!!.

نعم.. إن المجتمع الذي يخضع للآداب والأخلاق الاجتماعية إلى هذه الدرجة حري أن ينال السعادة بمعناها الشامل في الدنيا والآخرة.

وهذه الحقوق المستحبة ما تركت ميداناً اجتماعياً إلا وشملته بجملة من القوانين، بدءاً من المهد أو قبله(18)، وانتهاءاً باللحد أو بعده... حيث أن الآلاف من الإرشادات والتعاليم في البيع والشراء والنكاح والطلاق والسفر والحضر والمأكل والمشرب والمسكن والزراعة والصناعة والتعليم والتربية والنوم والنظافة والنظام والصحة والعادات والصفات و... يحفل بها كتاب الله العزيز... بإشارة أوتلميح، أو ضمن قاعدة كلية، أو في حديث شريف وإن الكتاب العزيز أمر أتباعه قائلاً، {ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا} (سورة الحشر: آية/7).

لفت نظر:

لقد قطع الكتاب العزيز والسنة الشريفة تبعاً له شوطاً كبيراً ليس في مجال حقوق الإنسان فحسب، بل سن جملة كبيرة من القوانين الواجبة والمستحبة، في حقوق الحيوان والنبات والجماد، ونزلت سور قرآنية مقدسة وشريفة بأسماء الحيوانات، كالنمل والنحل والبقرة والفيل والعنكبوت، ووردت مئات الروايات الشريفة في هذا المضمار يمكن الرجوع إلى مظانها لمن أرادها(19).

ج- ضمانة التنفيذ:

إن كل دستور ومنهج، وضع لإدارة أمة من الأمم، أو مؤسسة من المؤسسات، كبيرة كانت أو صغيرة، يستفرغ الواضع جهده، لجعل الخطوط الرئيسية، التي تحقق له الطموح، الذي ترنو إليه نفسه... ولكن كل تلك المناهج والدساتير، تواجه علامة استفهام كبيرة جداً... (ما هي ضمانة التنفيذ)؟ لأن التنفيذ هو الذي يضمن النجاح، فأي ضمان يوجد لهذا الضامن؟؟ ونفس العلامة الاستفهامية تواجه المنهج الإسلامي، لكن الجواب على ذلك بكل اختصار: إن الشريعة الإسلامية الغراء المستوحاة من الكتاب العزيز وضعت بعين الاعتبار هذه القضية المركزية: (التنفيذ) فما الذي صنعته؟؟

أ- القيادات والقدوات الصالحة... المتمثلة في أئمة أهل البيت (ع) قد نفذوا ما ورد في الكتاب برمته.. مما يرتبط بالحقوق الاجتماعية، ومن ألقى نظرة إلى حياة وسيرة هؤلاء الأفذاذ من أهل البيت (ع)، كشف هذا الأمر بوضوح تام.. فمداراتهم للناس وصلاتهم للقريب والبعيد، واحترامهم للكبير والصغير، وتعليمهم وتربيتهم للخاص والعام، وطريقة سلوكهم مع الابن والأب والأخ والجار والزوجة والمستخدم، والسائل (بالمعنيين) والضعيف والقريب وابن السبيل، والعالم، والمزارع، والعامل، والحاكم والموظف والتلميذ و... مما تزخر به كتب التواريخ والسير، الحافلة بمئات الشواهد والقصص التربوية الجميلة.. هذه كلها تصنع من هؤلاء قدوات صالحة للمجتمع، فمواقفهم في العفو عمن أساء إليهم وسخاؤهم، وقضاؤهم للحوائج، وإبصارهم، والإحسان إلى الناس وتعميم نفعهم، وسلوكهم الاجتماعي، هو الذي ينطق بمعاني القرآن الكريم، إذ كل واحد منهم إنما هو قرآن ناطق في الحقيقة..

ب - الجو المساعد..  فالصلاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومؤسسة المسجد، وصلوات الجمعة والعيد وبرامج الأدعية ومئات(20) الروايات التشجيعية المثيرة التي تدفع الإنسان للتنفيذ، كلها تساعد بصورة فعالة في تربية الإنسان المسلم، ودفعه باتجاه الالتزام بتلك الإرشادات والحقوق الاجتماعية السامية.

فالملتزم بقراءة القرآن الكريم، وأداء الفرائض، وحضور الجمعات وما شابه ذلك، يتحول بصورة طبيعية إلى عنصر إيجابي منفذ للإرشادات القرآنية والنبوية الفذة.

هذا ما يسعى إليه القرآن والقرآنيون، أما هل إن المجتمع سيتغير كاملاً من الألف إلى الياء؟ فليس هذا هو المطلوب لأن في كل مجتمع يوجد المؤمنون بدرجاتهم المختلفة، والمنافقون كذلك، والخارجون عن الدين.. إنما الهدف المركزي هو أن تكون وجهة المجتمع.. وسيرته الاجتماعية ومعادلاته في خط سليم..

خط الإحسان والمحبة والعفو ومكارم الأخلاق..

لاخط القطيعة والفحش، والتنابز بالألقاب والغيبة والنميمة وما شابه. هذا هو  المطلوب بعينه... لا أكثر..

وتبقى مسألة التخطيط العملي والميداني للتنفيذ، فهذا من مسؤولية العالم، والمسجد، والمدرسة، والجامعة والحاكم، والمفكر والكاتب، والخطيب، وأمثالهم الذين يديرون دفة الفكر والتعليم والإرشاد في الأمة.

الهوامش:

ـــــــــــــــــ

(1) مقطوعة من خطاب جماهيري لرسول الله(ص) أصول الكافي، ج2 ص599، وسفينة البحار ج2 ص433.

(2) نهج البلاغة/ خطبة(4) حول القرآن الكريم.

(3) وهي: الواجب، المستحب، المباح، المكروه، والحرام.

(4) سورة الفرقان: آية/63.

(5) سورة الفرقان: آية/74.

(6) سورة فصلت: آية/35.

(7) سورة البقرة: آية/83.

(8) سورة الرعد: آية/22.

(9) سورة المائدة: آية/93.

(10) سورة الحديد: آية/17.

(11) سورة آل عمران: آية/172.

(12) سورة الأحزاب: آية/70.

(13) سورة المجادلة: آية/11.

(14) سورة الذاريات: آية/19، قيل في هذه الآية الكريمة أن المقصود من هذا الحق هو غير الحقوق الواجبة.

(15) سورة لحجرات: آية/13.

(16) سورة الأنعام: آية/165.

(17) سورة النساء: آية/86.

(18) هناك جملة من المستحبات الاجتماعية وغيرها تؤدى للمولود قبل وبعد الولادة، والميت قبل وبعد موته.

(19) مثل كتاب (مكارم الأخلاق للطبري) و (المحاسن للبرقي) و(وسائل الشيعة للحر العاملي) قدس سرهم وغيرها.

(20) يراجع بعضها في كتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) للصدوق (ره).


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=926
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 01 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29