• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : الأمة في القرآن .

الأمة في القرآن

السيد جعفر الشيرازي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

{وكذلك جعلناكم أمة وسطا}.

نشأت في هذه البسيطة حدود ثلاثين حضارة، كان مصير أكثرها الزوال، حتى لم يبق منها إلا الإسلام، بعد أن سادت لفترات طويلة. وما ذلك إلا لأنها فقدت مقومات البقاء، فدهتها حضارات أخرى أقوى منها، فدخلت في طي النسيان، قال الله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم... فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين} (سورة الأنعام: آية/6).

وقد بين القرآن الكريم أسباب زوال تلك الحضارات، قال الله تعالى: {كم أهلكنا من قريةٍ بطرت معيشتها}. وقال تعالى {ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}. فمثل تلك الحضارات كمثل الوليد الذي يولد ثم يشيب ثم يهرم حتى يلقى ربه، لكن لا تموت حضارة إلا بعد أن تولد حضارة أخرى لتحل محلها، بعد أن تأثرت بالأولى.

وحيث إن الإنسان يتطلع إلى صلاحه، لكن لا يعرف في كثير من الأحيان ما ينفعه وما يضره، لأن شهواته ومصالحه الوقتية تحجب عقله، لأجل ذلك أسعفه الله تعالى بالأنبياء، فأرسلهم ليثيروا له دفائن العقول، فجاءت شرائع لظروف خاصة، وحيث تبدلت الظروف نسخت تلك الشرائع، مع حفظ الجوهر في جميعها، فبقيت الثوابت، ونسخت المتغيرات، فسُنَّت شرائع وأحكام لم يكن من الصالح أن تبصر النور في ظروف سابقة.

إلى أن اقتضت الحكمة إنزال التشريع النهائي الذي يناسب جميع الأزمنة والأمكنة والظروف، قال الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} (سورة التوبة: آية/ 33، الفتح: 28، الصف: 9).

وأنزل الله القرآن حاملاً بين دفتيه كل ما تحتاج إليه الحضارة من أحكام وآداب وسنن وعبر....الخ،  فكان مناراً للحضارة الإسلامية ــ في جميع أبعادها ــ والى يومنا هذا، وبترك هذا الدليل حار المسلمون في أمورهم، فدهتهم الدواهي من كل حدب وصوب، ووقعوا في تيهٍ لا يخرجون منه إلاّ بالعودة إلى القرآن. فلنتصفح القرآن لنرى كيف يصور لنا الأمة الإسلامية، كي نعتبر ببصائره ونهتدي بهداه.

أولاً كلمة الأمة

إذا دققنا في الكلمات التي تطلق على المجاميع البشرية المختلفة، نراها كلماتٍ كثيرةً، مثلاً الوطن، القبيلة، القوم، الشعب، الطبقة، المجتمع، العنصر، الطائفة، وما إلى ذلك، لكن القرآن لا يختار هذه الكلمات للتعبير عن المسلمين، وإنما يختار كلمة الأمة، وذلك لأن كلمة الأمة تعكس صورة الحركة والتقدم والسير والانطلاق، حيث إن الكلمة مشتقة من: أّمَّ يَؤُمُّ، أي قصد يقصد، وهذا المعنى مأخوذ في جميع اشتقاقات الكلمة(1)، مضافاً إلى أن الأمة حدودها العقيدة، والشعب ونحوه حدوده الأرض والدم.

فالأمة الإسلامية ليست وطناً أو قبيلة أو قوماً أو شعباً أو عنصراً، وإنما تجمعها العقيدة والحركة نحو الهدف، فلذا نرى أن الإسلام لا يعير أية أهمية للقواسم البشرية الأخرى، إذا لم تجتمع مع هدفه وحركته.

ثانياً: الأمة الواحدة

إذا نظرنا الى القرآن: نراه يؤكد على أن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة، قال الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (سورة الأنبياء: آية/92)، وقال تعال: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (سورة المؤمنون آية/52).

ذلك لأن الإنسان بطبعه ضعيف يحتاج في كل أموره إلى بني جنسه، فلذا جعل لنفسه أو جعلت الطبيعة له، قواسم مشتركة مع الآخرين، فذلّل الصعاب بذلك، وكلما كان التجمع أكبر في ضمن هدف معين كان الاحتماء أكثر، فلذا نرى الدول الكبار قلما تم القضاء عليها عكس صغارها، وقد توصل عقلاء بعض الدول إلى هذه السنة المهمة في حياة البشر، فأوجدت تكتلات مختلفة لتحمي مصالحها.

وبترك العمل بهذه الآية تمزّق المسلمون أشدّ تمزق، فأصبحوا دويلات متناحرة، استنزفت قواهم البشرية ومواردهم الاقتصادية في حروب مختلفة، كما شاهدناه في حرب الخليج الأولى والثانية، وكما قرأنا أن بقاء الصليبين في البلاد الإسلامية كان بسبب تناحر الدول الإسلامية، فكان الواحد منهم يحتمي بالصليبيين ضد الآخر(2).

والآن توجد جميع مقومات الوحدة في المسلمين، حيث عاشوها زمناً طويلاً وتحثهم شريعتهم على ذلك، وما بقي عليهم إلا تنفيذ هذا الأمر عن طرقه الصحيحة.

ثالثاً: مقومات الأمة في القرآن.

حينما نمعن النظر في القرآن، نجده يبنى مقومات الأمة الإسلامية ضمن أمور أساسية: قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}، سورة البقرة، آية: 143. وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} سورة آل عمران، آية: 110. فالقرآن يبنى أموراً أربعة هي مقومات للأمة الإسلامية:

- المقوم الأول: الإيمان بالله، حيث إن الإيمان هو نقطة الانطلاق في كل عمل، وهو الحافظ للمجتمع من الانزلاق في الهاوية، لأنه رصيد للأخلاق، ومانع عن الانجراف في المفاسد، وسبب للسير نحو الرقي والكمال، فالإيمان محفز شديد نحو جميع أنواع الخير، ومنفرّ قوي عن جميع أصناف الشر.

- المقوم الثاني والثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن الفساد- كما الإيمان- له نشوء ونمو فتجذّر، فيمكن القضاء عليه وهو في مهده، أما لو تجذر فيصعب ذلك بل قد يستحيل، فحين ذاك يدب الضعف في جسد المجتمع، وينهار أمام المهاجمين، وهذا مانشاهده كثيراً، حيث غزت القوانين الوضعية البلاد الإسلامية، وابتدأت بفتق ثم اتسع الخرق على الراقع، فآل الأمر إلى رؤية المعروف منكراً والمنكر معروفاً، إذ تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فألِفَ الناس المنكر حتى عدوه معروفاً، والعكس صحيح أيضاً.

فلذا نرى الكم الهائل من الآيات التي تبين مدى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} سورة التوبة، آية: 17، وقال تعالى في ذم أهل الكتاب {كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون} سورة المائدة، آية: 79.

فالأمة الإسلامية خير جماعة ظهرت للناس لأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، فإن المجتمع إذا تخلى عن هذين الواجبين أخذ يهوي نحو الأسفل، لما جبل عليه من الفساد والفوضى والشغب، فإذا تحلّى المجتمع بهذين الأمرين أخذ يتقدم نحو مدارج الإنسانية والحضارة الحقيقية حتى يصل إلى قمة البشرية(3).

ومن المعلوم أن طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن تتطور حسب تطور الوسائل الحديثة، قال الله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}.

المقوم الرابع: كون الامة الإسلامية وسطاً بين الامم في جميع أمورها، لأن الوسطية مانعة من الكبت أو التسيب، فلا إفراط في الماديات ولاكبت، كما أنه لاتفريط في المعنويات ولارهبنة، فإن الضغط الشديد يولد الانفجار والعصيان، وإن التسيب يجر إلى الفلتان والفساد، وهنا نذكر:

ــ الضغط الشديد على الناس في الحكومة العثمانية ــ وباسم الدين ــ ومصادرة حرياتهم، ولد ردة فعل عكسية، فأدى إلى سقوط الحكومة، وانجراف كثيرٍ من أبناء الشعب في المفاسد بعد أن انبهروا ببيرق الغرب فتصوروه المنجي لهم مما هم عليه.

ــ محاربة الكنيسة للعلم والعلماء والاستبداد باسم الدين ولدّ ردة فعل عكسية ادّت إلى انهيار سلطتها، وسيطرت الفكرة المادية ــ ومنها الشيوعية ــ على الغرب وإلى يومنا هذا.

ــ وفي المقابل، الإفراط في الماديات والشهوات أثارت ردة فعل في الشعوب المسلمة فظهرت الصحوة الإسلامية.

ــ كما أنه قد ظهرت بوادر التغير في الغرب، بعد أن انغمس لعدة قرون في مستنقع الفساد والرذيلة، ومن أراد التفصيل فليراجع كتاب «الغرب يتغير» للسيد الوالد دام ظله.

وحيث فقدت المقومات، تصدعت الأمة، وبان الضعف عليها، فتكالبت الأعداء عليها، قال الله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزى من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (سورة طه: آية/123 ــ 127).

رابعاً: العودة إلى القرآن.

عودة المسلمين إلى حضارتهم ليس بالأمر الهين، حيث إن رجوع المجتمعات إلى أمور تركوها لفترة طويلة يتطلب عناءاً وجهداً كبيرين، كما أن رجوع الغربيين إلى جزء من الحضارة الإغريقية والرومانية استدعى عدة قرون، فكيف إذا أردنا الرجوع إلى حضارة بكاملها؟ لكن لو تأملنا القرآن الكريم، وأمعنا النظر في سيرة الرسول الأعظم (ص) والأئمة المعصومين، لوجدنا أن الرجوع إلى هذه الحضارة والى سيادة العالم لا يكون إلا عبر الرجوع إلى القرآن الكريم، وجعل القرآن مقياس الأمور أجمع،  ولا يكون ذلك إلا عبر قراءة القرآن وفهمه والتدبر فيه وجعله ميزاناً للأعمال، عن طريق جعله منهجاً أساسياً في الحوزات، حيث أن آيات الأحكام لا تجاوز عشر القرآن، كذلك يلزم جعله منهجاً في المدارس ــ من الابتدائية والى الجامعة  .

قال الله تعالى {وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن}  (سورة النمل: آية/91 ــ 92).

وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (سورة محمد: آية/24).

الهوامش :

ــــــــــــــ

(1) القرآن كتاب حياة ص248 ــ 253.

(2) يراجع كتاب: (صلاح الدين الأيوبي بين الفاطميين والعباسيين والصليبيين) للسيد حسن الأمين.

(3) تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص 22 - الإمام السيد محمد الشيرازي.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=919
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 01 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29