• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : مَسألةُ التحدّي والمعارَضة في إعجاز القُرآن .

مَسألةُ التحدّي والمعارَضة في إعجاز القُرآن

د. عبد الجبَّار شرارة

مقدِّمة :

القرآن الكريم ، ذلك الكتاب السماوي الخالد ، أكبرُ ظاهرة برزت إلى الوجود الإنساني ، وأحدَثت نقلةً نوعيّة ومنعطفاً كبيراً حاسماً في تاريخ البشريّة ، حتى ليصحّ القول : إنّه ليس هناك كتاب في التاريخ الإنساني برمّته ، أحدَث من التغير الشامل والانتفاضة الجبّارة والارتقاء بالمجتمع ، كالذي أحدَثه القرآن الكريم ؛إذ ألّفَ بين القلوب المتنافرة : (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) ، ونهضَ بالأُمّة إلى العزّة والـمِنْعة ؛ ومن هنا فقد حظيَ القرآن الكريم بعناية خاصّة من الخاص والعام ، من المؤمنين والجاحدين ، وتناولوه بالدراسة من كلّ جانب وحاولوا استقصاء أسراره والإحاطة بوجوه بيانه ، والغوص إلى معانيه وأغراضه .

وعلى أيّة حال فالأمر المجتَمَع عليه ، أنّ هذا الكتاب قد خلبَ الألباب وأدهشَ العقول ، وكان لآياته وبيانه وقْع عظيم وأثرٌ جليل في النفوس ؛ ومن هنا نشأت قضيّة الإعجاز ، وشرعَ العلماء يبحثون عن وجوه إعجاز القرآن الكريم، فأُلِّفت الكتب واغتَنت المكتبات بزادٍ من العلم والأدب طبقت شهرته الآفاق ، وأمتدّ أثره إلى كلّ ميدان من ميادين المعرفة الإنسانيّة.

إنَّ من العسير على الباحث ـ بعد أكثر من ألف وأربعمائة من السنين ، وإزاء تلك الثروة العظيمة التي خلّفها العلماءُ الأجلاّء في هذا المجال ـ أن يناقش قضيّة الإعجاز ويأتي بشيء طريف ، ولكنّ المقولة المأثورة : (كم تركَ الأوّل للآخر) ما تزال صحيحة ؛ فكانت هذه الملاحظات والرؤى التي اقتصرت على جانبٍ من تلك القضيّة الضخمة ، وهو " مسألة التحدّي القرآني والمعارضة الموهومة " ، وربّما ستكون مزيّة هذه الدراسة أنّها جَمّعت بعض ما تفرّق ، وألّفت بين ما تشابه من وجوه القول وسديد الآراء ، بأسلوب سلسٍ يستهدي بمناهج البحث العلمي المعاصر ، ولذلك سنعرض أولاً لمسألة التحدّي القرآني ثُمّ ننتقل إلى مناقشة مسألة المعارَضة المزعومة.

أولاً : التحدّي القرآني .

أعلنَ نبيّنا محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين قومه العرب أنّه رسول الله تعالى ، وأنّ هذا الذي يتلوه عليهم من قرآنٍ إنّما هو : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وأنّه (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) وهو حُجّته على نبوّته ، وبرهانه ودليله على صدق رسالته وسفارته ، ولتأكيد هذا الأمر طرحَ مسألة التحدّي بالقرآن ، فدعا قومه العرب ـ ممّن لم يُؤمن برسالته ولم يُصدِّق دعوته ـ  إلى المعارَضة وردّ التحدّي ، المعارَضة بمعناها الذي استقرّ في أوساطهم ومنتدياتهم ، وقد صرّح بذلك القرآن قائلاً : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ).

 ولكنّهم لم يتصدّوا لهذا الأمر ولم يطلبوه أو يحاولوه ، ليس عن جهلٍ لمعنى هذا التحدّي وخطره ؛ إذ هم يدركون أنَّ وراء ذلك تهديداً خطيراً لجامعتهم الأوثانيّة واعتقاداتهم التي ورثوها ، بل عن إدراكٍ جَلي وفهمٍ تام لمعنى المعارَضة المطلوبة ، وهي فيما تعنيه المجاراة في الأسلوب والمبنى . ولا يجوز أن يقع أحد في وهم أنّهم عُدموا البُلغاء ، فهذا الجاحظ يقول : (بَعث الله محمّداًَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً ، وأحكم ما كانت لغةً وأشدّ ما كانت عِدَّةً).

إنَّ القرآن الكريم قد وَضعهم بهذا التحدّي أمام الحقيقة وجهاً لوجه ، فهو كتاب كما يسمعونه ، كلماته عربيّة منها يؤلّفون كلامهم ، وتراكيبه عربيّة عليها جرت فنون خطاباتهم، وإذن فليس عليهم إلاّ أن يحشّدوا بلغاءهم ، وهم كثيرون ، ثُمّ يَلجوا ميدان المعارضة ويأتوا بحديث مثله فينتهي كلّ شيء ، تسقط الدعوى وينهار أساسُها ، ويظهر بطلانها ، فتسلم لهم ـ للعرب ـ حينئذٍ جامعتهم ومصالحهم ، ولكنّهم لم يحاولوا ذلك ؛ وذلك لأنّهم رازوا أنفسهم فوجدوا أنّهم أمامَ أمرٍ لا قِبلَ لهم به .

ولمّا أعيَتهم الحيلة ، وزعموا أنّه ـ أي القرآن ـ كلام مفترىً ، وأنّهم لو شاءوا لقالوا مثله ، بُغية التشويش على الناس ، ولكنّ القرآن لم يترك لهم فرصة جَني ثمار هذا الافتراء والزعم ، فتحدّاهم بأن يأتوا بعشر سورٍ مثله مُفتريات ، قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .

هكذا قطعاً لدابر تقوّلاتهم ، وإبطالاً وإشهاراً للحُجّة فوق رؤوسهم . إنّهم بهذا أمام تحدٍ جديد ، وهو كما يبدو ممّا يسهل عليهم التصدّي له والمصاولة فيه ، وإذن فما عليهم إلاّ المعارضة بهذا القَدر المحدود ، ثُمّ يستريحون ممّا تثيره آيات هذا القرآن من خوفٍ وقلقٍ في أوساطهم ، ولكنّهم لم يتقدّموا خطوةً واحدة بهذا الاتّجاه ، بل اُسقِط ما في أيديهم ، فلم يجدوا وسيلة سوى منع الناس من الالتقاء بالرسول محمد (صلّى الله عليه وآله) ، أو الاستماع إلى ما يتلوه من آيات ، وقد ذُكر ذلك على لسانهم : (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

ولكنّ القرآن الكريم لم يتركهم وما يبتغون ، بل سرعان ما صَعقهم ، بأن ألقى إليهم تحدّياً من نوعٍ آخر ، تحدّياً يستوقف كلّ ذي بصيرة وعقل : إنّه يتحدّاهم بالإتيان بسورة واحدة من مثله فقط ، قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسورة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

وأمامَ هذا المستوى من التحدّي الجديد نجد هؤلاء العرب العُرباء ، ملوك البيان وفرسان الكلام ـ أصحاب المعلّقات المشهورات (ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر ، والخُطب الطوال البليغة ، والقصار الموجزة ، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور) ـ وهم يُتحدَّون بمثل هذا القدر من الكلام ثُمّ لا يحيرون جواباً .

 هذا مع اشتداد الخطر وتعاظم الخَطب واستمرار الاستفزاز ؛ إذ القرآن أخذَ يقرِّعهم بألوان التقريع  ، يشتم آلهتهم ويُسفّه أحلامهم ويعيب عليهم طرائق عباداتهم ، ثُمّ هو يُهدّد أعرافهم ومصالحهم التي كثيراً ما أُهريقت لأجلها الدماء ، وبذلت النفوس ، فأي شيء ـ إذن ـ أعظم من هذا يستثير الحميّة ويستنهض الهِمم لمجابهة التحدّي وإبطال الدعوى خاصةً ، وإنّهم قد عُرفوا باللَّدَد والخصومة ، وقوّة المناظرة والجدل ، وحضور البديهة وحِدّة الذهن ، ثُمّ (الكلام سيّد عملهم) وقد احتاجوا إليه ، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض فكيف بالظاهر الجليل المنفعة .

إنّنا نلاحظ هنا أنّ القرآن الكريم قد تدرّج معهم في مسألة التحدّي ، من المطالبة بالإتيان بالمثل إلى المطالبة والتحدّي، فليس من شك أنّ سلوك طريق المعارضة بهذا القدر المطلوب ، هو الأرجح عندهم الذي لا يُتصوَّر على رزانة حُلومهم وامتلاك القدرة البيانيّة إهماله والصدّ عنه .

ولكنّهم وقفوا موقفاً يدلّ على عجزهم ، وصاروا إلى حالٍ تدلُّ على عدم مقدرتهم ، وعلى انقطاع أطماعهم فيه ؛ (إذ نابذوه وناصبوه الحرب ، فهلَكت النفوس وأُريقت المُهج وقُطعت الأرحام وذَهبت الأموال . ولو كان ذلك في وسعهم وتحت مقدورهم ، لَمْ يتكلَّفوا هذه الأمور الخطيرة ، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة ، ولم يكونوا تركوا السهل الدِّمث من القول إلى الحَزْن الوعر من الفعل ، وهذا ما لا يفعله عاقل ولا يختاره ذولب راجح ...) .

وعليه ، فقد كان لُجوؤهم إلى إشهار السِنان بدل الحُجّة والبيان ؛ ليس إلاّ تستّراً علىَ عَجْزهم وتمويها لفَشَلهم . أمّا الدليل على ذلك ، فيمكن التماسه من خلال مراجعة أحوال العرب الذي عاصروا نزول القرآن الكريم ، وهنا نستطيع أن نشير إلى حالتين لهما دلالة بالغة على المطلب، وهما:

1 ـ حالة مشركي مكّة الذين رَكبهم العناد ، واستكبروا عن الإذعان للحق ، وقد أخذوا يتباحثون في أمر القرآن الكريم وما آلَ إليه أمرهم مع الرسول الأكرم نبينا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وكيف يواجهون الناس الذين يفدون إلى مكّة المكرّمة عادةً في المواسم المختلفة ، ماذا سيقولون لهم ؟ وأيّ زعم أنسب للتمويه والتعمية ؟ وقد نَقل لنا التاريخ المحاورة التي جرت بينهم :

(إذ قالوا لابن المغيرة ـ وهو من كبارهم وخبرائهم ـ : نقول عنه إنّه (أي النبي) كاهن ، فقال: والله ، ما هو بكاهن ، فلقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ، قالوا : فنقول : إنّه مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ، قالوا : فنقول : شاعر ، قال: ما هو بشاعر ، لقد عَرفنا الشعر كلّه ، رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو ساحر ، لقد رأينا السُحّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده ، قالوا : فما تقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله ، إنّ لِقوله لحلاوة ، وإنّ أصله لَغدِق ، وإنّ فَرْعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من ذلك شيئاً إلاّ عُرف أنّه باطل ، وإنّ أقرب القول أن تقولوا : ساحر ، جاء بقولٍ هو سحر يفرِّق بين المرء وأبيه ، والمرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته) .

واستناداً إلى هذه المحاورة فإنّهم مع إقرارهم بعلوّ منزلة القرآن الكريم ، وأنّه فوق كلام البشر ، إلاّ أنّهم أوقَعوا أنفسهم في هذا التخبّط استكباراً وأَنَفةً عن الإذعان للحق ، وأشار القرآن الكريم نفسه إلى ذلك : (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (هكذا جنوحاً إلى سياسة الطباع والعادات ، وقد كانت العادة عندهم دِيناً حين لم يكن الدين إلاّ عادة ...) .

إنّ أصول هذه المحاورة ، أشارَ إليها القرآن الكريم أيضاً نفسه ، عندما ذَكر حالة الاضطراب والتخبّط في مواقفهم إزاء القرآن ، وذلك في قوله تعالى : (بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ).

2 ـ أمّا الحالة الثانية التي تدلِّل على إقرارهم وإذعانهم بالعجز ، فهي : الاستجابة الواعية والفطريّة لعَظمة القرآن والإيمان بأنّه فوق كلام البشر ، وقد تمثّل هذا الأمر بإسلام نفر من مشركي العرب  وكفَّارهم بمجرّد الاستماع إلى القرآن ؛ إذ أدركَ هذا النفر ـ بحكم سليقته العربيّة وذوقه البياني ومعرفته بأساليب العرب ـ أنّ هذا القرآن لا يمكن أن يكون نِتاج البشر .

وعلى الجملة فإنّنا نستنتج من ذلك كلّه : أنّ العربَ بعامّتهم ـ كافرين ومؤمنين ـ قد أدركوا إدراكاً تامّاً وحَصلت عندهم قناعة وجدانيّة ، بأنَّ هذا الذي يتلوه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أسماعهم ، ويبشّر به في مجتمعاتهم مباين كلّ المباينة لِمَا ألفوهُ من أساليب ، ولِمَا اطّلعوا عليه من أفانين البيان ، وإنّه يعلو ولا يُعلى عليه ، بخاصّة وهم أهل هذه اللغة والخبراء في أساليبها ، ثُمّ (الرسول) كان منهم مولداً ونشأةً ولغةً .

وهنا من حقّنا أن نتساءل مع الجرجاني : (هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قومٍ لهم رياسة ، ولهم دين ونِحلة ، فيؤلِّب عليهم الناس ويدبّر في أمر إخراجهم من ديارهم وأموالهم ، وفي قتل صناديدهم وكبارهم وسبي ذراريهم وأولادهم ، وعُدّته التي يجد بها السبيل إلى تآلف مَن يتألّفه ، ودعاءَ مَن يدعوه ، دعوى إذا هي أُبطِلت بطلَ أمره كلّه، وانتقضَ عليه تدبيره ، ثُمّ لا يعرض له في تلك الدعوى ولا يشتغل في إبطالها مع إمكان ذلك ، ومع أنّه ليس بمتعذرٍ ولا ممتنع).

 نعم ، نتساءل مع الجرجاني : هل يجوز ذلك ؟ وهل حدّثنا التاريخ بمثله ؟ كلا ، لا يجوز إلاّ أن يكون ذلك مُعجِزاً لهم ، خارقاً للعادات الجارية والسُّنن المألوفة .

ثانياً : مسألةُ المعارَضة المزعومة للقُرآن الكريم .

لعلّ من المناسب أن نعرض أوّلاً لسؤالٍ قد يتردّد هنا ، وهو : هل من الصحيح أنّه لم تحصل معارَضات حقيقيّة للقرآن ؟ وماذا نفعل إزاء ما نقلهُ لنا التاريخ من وجود محاولات للمعارَضة نُسِبت إلى عددٍ من الناس : كمسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وسَجاحِ التميميّة ؟ وأخرى غيرها نُسبت إلى ابن المقفَّع ، وإلى المعرِّي الشاعر وآخرين ؟ نجيب عن هذا السؤال فنقول :

إنّ المعارضات ـ أو على الأصح المحاولات التي نُسبت إلى : مُسيلمة ، وإلى الأسود ، وسَجاحِ ـ إن صحّت ، فهي أدعى إلى إثارة الضحك والسخريّة من أن تُسمّى معارضة ؛ لأنّ كلّ مَن يمتلك حِسّاً بلاغياً وذوقاً بيانيّاً ، يعرف مقدار حظّها ـ أي تلك المعارضات ـ من الإسفاف ، ومدى مُجانبتها الذوق البياني ، فضلاً عن فساد المعنى وركاكة المبنى . وأغلب الظن أنّ أصحابها أو المروّجين لها ، حاولوا السير على طريقة الكهّان باختيار العبارة الغامضة وأسلوب السجع المتكلِّف ، ومع ذلك طَفحت أقاويلهم وكلماتهم بكلّ ما يَنْبُو السمع ويستثقله ، ويضيق به الصدر ويستهجنه . ولو أوردنا نماذج ممّا سَطّروه ، لَبانت هذه الحقائق وتكشّفت .

 فممّا وردَ على لسان مسيلمة قوله : (والشاة وألوانها ، وأعجبها السود وألبانُها ، والشاة السوداء واللبن الأبيض ، إنّه لعجبٌ محض ، وقد حرم المذق فما بالكم لا تمجعون ...).

 وقد قال الجاحظ مُعقّباً عَلَى قول مسيلمة في الضفدع : (ولا أدري ما هيّج مسيلمة على ذكرها ، ولِمَ ساءَ رأيهُ فيها حتى جعلَ بزعمه فيها فيما نزلَ عليه : يا ضفدع بنت ضفدعين ، نَقّي ما تُنقّين ، نصفكِ في الماء ونصفكِ في الطين، لا الماء تكدّرين ، ولا الشاربَ تمنعين).

 وقد علّق الرافعي على ذلك قائلاً : (وكلّ كلام (أي مسيلمة) على هذا النمط واهٍ سخيف ، لا ينهض ولا يتماسك، بل هو مضطرب النسج ، مُبتذل المعنى ، مُستهلك من جهتيه).

أمّا ما وردَ عن سَجاح التميميّة ، فقد نقلوا قولها : (اعدّوا الركاب واستعدّوا للنهاب ، ثُمّ أغيروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب) ، ومثله ما وردَ عن الأسود العَنسي قوله : (سبّح اسم ربك الأعلى ، الذي يسَّر على الحُبلى ، فأخرجَ منها نسمة تسعى ، من بين أضلاعٍ وحشى ...) .

وهكذا عَلى هذا المنوال أسجاع ركيكة ومعانٍ تافهة ، لا تقوى على الحصول على ميزة البلاغة ، فضلاً عن قدرتها على دخول ميدان المعارضة .

وقد نُسبت معارضة لابن المقفّع الكاتب المشهور ، وأخرى لأبي العلاء المعرّي الشاعر المعروف .

فأمّا ابن المقفّع ، فقد عَرض الباقلاني لِمَا نُسب إليه وناقضَ ذلك تفصيلاً ، وانتهى إلى القول : (إنّه لا يوجد لابن المقفّع كتاب يدّعي مُدّعٍ أنّه عارضَ فيه القرآن الكريم ، بل يزعمون أنّه اشتغلَ بذلك مدّة ثُمّ مزّق ما جمعهُ واستحيا لنفسه من إظهاره) .

وعلّقَ الرافعي على المعارضة المنسوبة لابن المقفّع قائلاً : (وإنّما نُسبت المعارَضة له دون غيره من البلغاء ؛ لأنّ فتنة الفِرَق المُلحدة إنّما كانت بعده ، وكان البُلغاء كافّة لا يمترون في إعجاز القرآن ، وإن اختلفوا في وجه إعجازه ، ثُمّ إنّ ابن المقفّع متّهم عند الناس في دينه ، فدفَع بعض ذلك إلى بعض وتهيّأت النسبة من الجملة) وعليه يظهر أنّ نسبة المعارَضة إليه زائفة .

وأمّا ما نُسب إلى أبي العلاء من المعارضة ، فقد ادّعى خصومه أنّه ألّف كتابهُ (الفصول والغايات) لهذا الغرض ، والذي يرجع إلى الكتاب المذكور ـ وهو مطبوع متداول ـ يتّضح له أنّ هذه الدعوى محض افتراء على الرجل ، يؤيّد ذلك أنّ المعرّي نفسه أزرى على ابن الرواندي محاولاته البائسة في معارضة القرآن في كتابه المسمّى بالتاج ، إذ ينعت المعرّي هذا التاج قائلاً : (وأمّا تاجه ، فليس يصلح أن يكون نعلاً ... وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة : أُف وتفّ وجوربٍ وخُف) .

ثُمّ إنّ أوضح دليل على كذب مَن نَسب المعارضة إلى المعرّي ، تصريح المعرّي نفسه بإعجاز القرآن ، إذ يقول : (وأجمعَ ملحد ومهتدٍ أنّ هذا الذي جاء به محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاب بهرَ بالأعجاز ، ولقيَ عدوه بالأرجاز ، ما حُذي على مثال ، ولا أشبهَ غريب الأمثال ، ما هو بالقصيد الموزون ، ولا الرجز من سهل وحزون ، ولا شاكل خطابة العرب ، ولا سجْعَ الكهنة ذوي الأرَب ، وجاء كالشمس اللائحة لو فهمه الهضب لتصدّع . وإنّ الآية منه ، أو بعض الآية ، لَتُعتَرَض في أفصح كَلِم يقدر عليه المخلوقون ، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق ، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق فتباركَ الله أحسن الخالقين).

وهكذا نجد أنّ الأوائل من ذوي الفطرة السليمة والعبقريّة الفذّة والفصاحة الممتازة ، لم يجدوا مفرّاً إلاّ الإذعان لهذا القرآن العظيم ، وإلاّ الإقرار بإعجازه المبين .

أمّا بعض المتأخّرين ـ مِمّن خَلَقتهم الأغراض الاستعماريّة الدنيئة ، وحركتهم الماسونيّة اللعينة ـ من أمثال : محمد علي الملقّب بالباب ، والآخر الملقّب بالبهاء ، ممّن جاءوا بنِحلة البابيّة والبهائيّة ـ فقد تقدّموا بمحاولاتهم البائسة لمعارضة القرآن ، فأدهَشوا ذوي الألباب فيما جاءوا به من الهذر والهذيان . فمثلاً مِمّا جاء على لسان الميرزا الباب ، قوله : (قل كلّ ليقولون لا اله إلاّ الله الذي آمنت به كلّ الحلاّقين ، قل كلّ ليقولون لا اله إلاّ الله الذي آمنت به كلّ اللّهامون ـ أي اللحّامين ـ قل كلّ ليقولون لا اله إلاّ الله الذي آمنت به كلّ السوّاقين ...) وهكذا يستمر في كلامه يُعدّد المِهن في أكثر من عشر صفحات ، وفيها من غلط الإنشاء والإملاء ـ عدا الصرف والنحو ـ ما ليس له حصر . وإذا كان هذا حال أحدهم ، فإنّ بقيّة الزَمزمة ليست بأحسن حالاً منه .

 

 وكلّ مَن يطّلع على ما جاءوا به من مقالات وهذر ، يَحكم بتفاهتها وسخفها من كلّ وجه .

أمّا آخر المحاولات البائسة في هذا المجال ، فهي ما قامَ به بعض الأجانب في مصر ، ونشروه في كتيبٍ سَمّوه : (حُسن الإيجاز) ، أوردوا فيه ما توهّموه معارضة لبعض سِور القرآن الكريم ، ومِمّا جاء فيه قولهم : (إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلَّ لربِّك وجاهر ، ولا تعتمد قول ساحر ...) .

وعلى الجملة ، فإنّ هؤلاء جميعاً قد رَكبهم الوهم ، فظنّوا أنّ المعارضة إنّما تكون على مثل هذه الشاكلة ، أي الاهتمام بالسجع دون المعنى ، وبتقليد القرآن بتغيير بعض ألفاظه والتلاعب بسوَره ، وبما أوقَعهم في فساد النظم والمعنى على حدٍ سواء .

وهنا لابدَّ أن نؤكّد أنّ المعارَضة الصحيحة والحقيقيّة لا يمكن أن تكون بهذه الشاكلة ؛ إذ لو كانت كذلك لسلكَ سبيلها أولئك القوم الذين تحدّاهم القرآن الكريم مع ما كانوا عليه من عظيم الحاجة إليها ... ولكنّهم علموا ـ وجهل غيرهم ـ بمعنى المعارضة المطلوبة ، فهم أدركوا شروطها ومواصفاتها بما استقرّ في أوساطهم الأدبيّة ومُنتدياتهم الشِعريّة ؛ ولذلك لم يوقِعوا أنفسهم في مثل هذا البؤس والسفاهة ، بل لجأوا إلى أساليبٍ أُخر في المواجهة وردّ التحدّي ، إذ امتشقوا السِنان والسيوف وهانَ عليهم ملاقاة الحتوف ، بدلاً من أن يجعلوا أنفسهم موضع التندّر أبدَ الدهر لو أنّهم أقدَموا على المعارضة بالبيان وفن القول .

والآن إزاء ما وصلَ إلينا من معارَضات ـ لا تصلُح كما اتّضح لدينا بحسب مقاييس النقد والذوق والمنطق ، أن نضعها في مستوى الكلام البليغ ، فضلاً عن وضعها في قبالة النص القرآني على سبيل المقارنة أو المعارضة ـ لا بّد أن نعالج افتراضاً ربّما أوردهُ أو يورده بعضهم ، وهذا الافتراض هو : إنّ المعارَضة الجدّية للقرآن ربّما قد حَصلت بالفعل في عصر النزول أو بعد ذلك بقليل ، ولكنّها مُحيت وطُمست من الوجود عندما استتّبَ الأمر للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وانتصرَ على أعدائه بقوّة السلاح آخر الأمر .

ولمناقشة ذلك نقول : لو افترضنا هذا جَدلاً ، فلنتساءل أولاً : تُرى متى حَصلت مثل هذه المعارضة المزعومة ؟ أكانت قبل الدخول مع الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأتباعه في المجابهة المسلّحة أم قبل ذلك ؟ ومَن هم أولئك الأشخاص الذين اضطلَعوا بهذه المهمّة واستطاعوا ردّ التحدّي القرآني ؟

وبعد هذا التساؤل نقول : لا ريبَ أنّ مثل هذه المعارضة المزعومة ، يُفترض وقوعها قبل الدخول مع الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المجابهة المسلّحة ؛ لأنَّ هذا هو الطريق الأسهل والأسلم للوقوف في وجه دعوة الرسول والحيلولة دون تكاثر الأتباع والأنصار ، وهذا يقتضيه المنطق ؛ لأنّ الرسول لم يطلب منهم بادئ ذي بدء أكثر من الإتيان بسورةٍ من مثل القرآن ، ثُمّ ينتهي كلّ شيء فيسقط ما في يده ، وينهار أساس دعوته وبرهان نبوّته .

وإذن فمن المعقول جدّاً سلوك هذا السبيل قبل اللجوء إلى أي سبيل آخر ، قد يُكلّفهم كثيراً من الجهود والأموال وربّما الأنفُس ، وهنا فلو افترضنا أنَّ مثل هذه المعارضة قد حَصلت فعلاً فيكف قُدِّر لدعوته المباركة (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن تتّسع وتكبر ، وأن تقاوِم وتصمد حتى بَلغت إلى مداها الواسع والعميق في الأمّة ؟!

ولو قال قائل : إنّ ذلك ممكن ، ولا يلزم أن يتراجع المؤمنون لمجرّد وجود المعارضة ؛ لأنّ المؤمنين إنّما استَهوتهم مبادئ القرآن الكريم وتمكّنت من نفوسهم قيَمه السامية وأفكاره المنيرة ، فإنّنا نقول حينئذٍ : نعم ، من الجائز هذا ، ولكن أليسَ من الجائز ـ أيضاً ـ أن تُزعزع مثل هذه المعارضة للقرآن وردّ تحدّيه إيمان البعض ، وخاصّة أولئك الذين آمنوا استناداً إلى هذه الحقيقة : حقيقة الإعجاز ، وانطلاقاً من قناعة أنّ هذا القرآن هو من عند الله  ، وأن ليس هناك من أحد بقادر على أن يأتي بسورةٍ من مثله ؟! هذا جانب .

وجانبٍ آخر : هو أنّ التحدّي قد كان ولم يكن مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ قلّة قليلة مضطَهدة مستضعفة ، وكان المشركون من أهل مكّة ، وأهل الكتاب من يهودٍ وغيرهم حريصين كلّ الحرص على إسكات هذا الصوت الإلهي ، وإيقاف هذه الانطلاقة الجبّارة ، أي الدعوة الإسلاميّة المباركة ، فأين هؤلاء جميعاً عن مثل هذه المعارضة المزعومة ليشهروها في وجه الرسول وأتباعه ، ويُذيعوها في كلّ نادٍ فتسقط حُجّته ويَنهار أساس الدعوة ؟ وإذ لم يظهر لذلك عين ولا أثر ، دلَّ على أنّ شيئاً من ذلك لم يحدث قط . ولو حدثَ ، لذاعَ وانتشرَ ، أو جاء به الخبر، وتناقلته السِير وأهل التواريخ ، والمتيقّن عدم النقل .

أمّا لو افترَضنا أنّ المعارضة قد حَصلت بعد الدخول مع الرسول في المجابهة ، وإنّ قريشاً وحلفاءها قد لجأت إلى ذلك بعد أن أعيَتهم الحيلة ، ورأوا أنّ القضاء على الرسول الأكرم وأتباعه الأخيار وتصفيتهم جَسديّاً أمر ليس ممكناً ، وإنّ كلّ الأسلحة التي استُخدمت قد فشلت في تحقيق هذه الغاية ، وكانوا يعتقدون أنّها أسرع حسماً مثلاً ، ولذلك لجأوا إلى المعارضة ، وقدّموا أُطروحتهم في هذا المجال ، ولكنّ ذلك بعد فوات الأوان ، إذ إنّ سيطرة الرسول وأتباعه قد منعت ذيوعها وقبرت تلك المحاولة في مهدها ، أقول : إنّ مثل هذا الافتراض حينئذٍ باطل لسببين أساسيّين :

الأوّل : أنّ الخوف والمنع عن نقل الخبر بهذا الشأن ـ أو بأي شأن مشابه ـ لا يمكن أن يُؤدّي إلى انقطاع الخبر بالكليّة وبتاتاً ؛ لأنّ المتعالم من حال الأخبار أنّه لا ينقطع ، بهذا الجنس من الخوف ؛ لأنّ الخوف إنّما يقتضى ترك الإظهار لا ترك النقل ، وربّما دعا المنع فيه من سلطان وغيره أنّه يكون أقرب إلى الانتشار من حيث تقوى الدواعي ، وتزداد بحصول المنع) .

الثاني : أنّ شواهد التاريخ تؤكّد نفي مثل هذا الافتراض ؛ إذ سجّلَ لنا التاريخ كلّ الوسائل التي حوربَ بها النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وكلّ الأساليب الخبيثة التي جوّبه بها القرآن الكريم ، وفيها : هِجاء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والوقيعة فيه ، وإلصاق التُهم به من ادّعاء وجود تناقض  في القرآن الكريم ، وتوجيه الطعون إلى الآيات البيّنات ، وترويج تلك الطعون وإلباسها لباس العلم .. إلى غير ذلك من الوسائل والأساليب ، فكيف خَفيت المعارضة المزعومة واختفت ، وهي أبلغ في إصابة الغرض الذي يسعى إليه كلّ الخصوم المتربّصين ؟! ولو افتُرض أنّه كان لذلك موانع في وقتٍ ما ، فلماذا لم تظهر عند سنوح الفرصة ، وما أكثر الفُرص التي سَنحت منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى امتداد حقب التاريخ ؟!

هذا ، وقد كان التحدّي القرآني وما يزال قائماً ، والخصوم كثيرون ، ومنهم مَن هو أشدّ حرصاً وأكثر طمعاً للنيل من القرآن الكريم وإضعاف قدسّيته في النفوس ، وإقصائه عن الحياة ؛ ودليل ذلك : أنّ محاولات الأعداء لم تفتر ولم تهدأ ، بل هي مستمرّة ، ولعلّ ما نشروه من كتاب (حُسن الإيجاز) دليل على ذلك ، ولكنّهم فشلوا وخابت آمالهم ، وإن لم تفتر عزائمهم إذ تحوّلوا إلى إثارة الاتّهامات وإشاعة الافتراءات وترويج الشُبهات .

ولعلّ من المناسب أن أشير هنا إلى أنَّ هناك دليلاً آخر يؤكّد عدم حصول معارضة للقرآن الكريم ، وهذا الدليل يمكن التماسه من (نظريّة الصِرفة) ؛ وذلك أنّ طائفة كبيرة من العلماء والأدباء والمتكلمين  ذهبوا إلى القول بالإعجاز بالصرفة ، ومع أنّنا لا نستطيع أن نجاري هذا الرأي أو نعتمده ، إلاّ أنّ ما نستفيده منه ـ بخصوص المطلب الذي بأيدينا ـ هو عدم حصول المعارضة .

وتوضيح ذلك : أنّ الذين ذهبوا إلى هذه النظريّة قصدوا بالصرفة  : (أنّ الله تعالى قد صرفَ العرب عن معارضته ، وقد كان مقدوراً لهم ، لكن قد عاقَهم أمر خارجي ... أي على معنى أنّ الله تعالى قد عطّلَ قدرة العرب عن مجاراة القرآن ومعارضته .

ويُفلسف الشريف المرتضى القول بالصرفة فيذهب إلى أنّ الله قد صَرفهم ، بمعنى أنّه سَلبهم العلوم التي يُحتاج إليها في المعارضة ... فهذا الصرف خارق للعادة فصارَ كسائر المعجزات ... وهنا وإن لم يكن الغرض مناقشة هذا النظريّة ، إلاّ أنّه لا بأسَ من تعليقة ، فنقول :

إنّ هذا القول ليس عليه دليل من المعقول ولا من المنقول ، بل الدليل على خلافه ، فقد ذكرَ الخطابي في ردّه على الصرفة بأنّ دلالة الآية : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء / 88) تشهد بخلافه ؛ إذ أشارَ  تعالى في ذلك (في الآية) إلى  أمرٍ طريقه  التكلّف والاجتهاد وسبيله التأهّب  والاحتشاد ، والمعنى في الصرفة  التي ذكروها لا يلائم  هذه الصرفة ، فدلّ على  أنّ المراد غيرها) .

وذكرَ ابن الأملكاني في مناقشة نظريّة الصرفة : أنّ الأمر لو كان كذلك ـ أي كما قالوا ـ لكان ينبغي أن يتعجّبوا من حالهم وليس من حاله ؛ فإنّ مَن يضع يده على رأسه دون سائر الحاضرين يحبس الله تعالى أيديهم لا يُتعجب منه ، بل من حالهم) هذا وجه في الردّ .

وهناك وجه آخر في الردّ على الصرفة بالمعنى الذي ذهبَ إليه السيّد المرتضى ؛ لأنّ سلب العلوم التي كانوا يتمكّنون بها من المعارضة مجرّد زعم لا أساس له ودعوى بلا برهان ، بل الواقع على خلافه ، فقد ذكرَ الجاحظ : (أنّ الله تعالى بعثَ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) والعرب أكثر ما كانت شاعراً وخطيباً) ، هذا في عصر نزول القرآن الكريم .

أمّا بعد عصر النزول ، فقد كثُر البلغاء والخطباء وصار بعضهم يتفنّن في الكلام ، وانضاف إلى اللسان العربي من العلوم ما استطاعوا أن يبلغوا به شأواً بعيداً في البلاغة ، بل صارَ بعضهم يتصرّف في فنّ القول حدّ البراعة ، فأينَ دعوى القوم بسلب علومهم ؟! وما هي هذه العلوم التي سلبوها يا ترى ؟!

وفي الجملة ، فإنّ الذي يهمّنا في واقع الأمر بالنسبة إلى نظريّة الصرفة أنّها تؤكّد عدم حصول المعارضة .

وأخيراً ، فربّما يُثير بعضهم اعتراضاً يبدو لأول وَهلة وجيهاً ، وهو قولهم : إنّ القرآن هو نتاج العبقريّة التي اختصّ بها النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما هو الشأن في سائر العبقريّات والمواهب ، إذ هي حالة تفرّد واختصاص لا يتكرّر ، ولذلك فلا معنى للتحدّي ولا مبرّر له ، ولا يمكن المطالبة بالردّ عليه .

وللإجابة عن ذلك نقول : إنّ العبقريّة لا تولَد في فراغ لو افترضنا الأمر من هذا القبيل ، إذ لابدّ من تحقّق شروط ، منها ما يتصل بالفرد ومؤهّلاته ، ومنها ما يتّصل بالواقع وخصوصياته ، ومنها ما يتصل بالمناخ الفكري والأجواء العامّة ، وتاريخ العبقريّات والعباقرة يُنبّئنا بذلك دائماً .

وعليه فإنّ القراءة المتأنيّة والموضوعيّة لمؤهّلات الرجل (الرسول) محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ الذي كان أُميّاً لا يعرف القراءة والكتابة ، ولواقعه الذي كان يموج بالتناقضات الصارخة  والخرافات التي لا حدود لها ، ثُمّ الجو الفكري المتسممّ بالتحجّر والجمود ـ تضع بأيدينا حقيقة مهمّة جدّاً ، وهي : عدم وجود إمكانات كافية أو مؤهّلات لائقة لكي يترشّح عنها مثل هذا القرآن العظيم ، الذي جاء بأفكار وآراء في منتهى الدقّة والانسجام ، وبقيَم سامية هي مفخرة للإنسانيّة وللأجيال جميعاً ، وبمبادئ عظيمة تزهو بها الإنسانيّة ، وكانت كل تلك المضامين الراقية قد عُرضت بأسلوب متفرّد معجِز لم يصل إلى شأوه البشر قط على امتداد الزمان .

إنّ مثل هذه الحقيقة هي التي جَعلت توماس كارليل مثلاً يصرخ بكل إعجاب قائلاً : (إنّ هذا القرآن صدىً متفجّر من قلب الكون نفسه) .

نعم ، من الصحيح جدّاً أنّ تاريخ البشريّة زاخر بالعبقريّات ، ولكنّها في جملتها لا تكاد تخرج عن اختراعٍ لآلةٍ ، أو إبداع لروايةٍ ، أو ديوان شعر ، أو اكتشاف لحقيقة علميّة من الحقائق التي يزخر بها الوجود .

أمّا ما يأتي به الفلاسفة أو المفكرون الأفذاذ من أُطروحات ، فهي في عين الوقت الذي تستند فيه إلى معطيات العصر واكتشافاته ، تبقى حبيسة البيئة بكلّ خصوصياتها وأجوائها .

أمّا القرآن الكريم ، فقد خرجَ عن ناموس العبقريّات ومقتضى الصناعة البشريّة والمواهب الفطريّة ، ونتاجات البشر من أيّ وجهٍ أتيت ، وكيفما قلبتَ الأمر ، إنْ في المضامين أو في الأسلوب .

ونستأنس هنا برأي للجرجاني بخصوص هذه النقطة من البحث ، فهو يقول : (اعلم أنَّ ها هنا باباً من التلبيس أنتَ تجده يدور في أنفس قومٍ من الأشقياء ... وتراهم يومِئون إليه ويستهون الغرَّ الغبي بذكره ، وهو قولهم : قد جرت العادة بأن يبقى في الأمان مَن يفوت أهله حتى يسلّموا له ، وحتى لا يطمع أحدُ في مُداناته ، وحتى ليقع الإجماع فيه أنّه الفرد الذي لا ينازع ... .

ثُمّ قال : ولهم في هذا الباب خبط وتخليط ؛ وإنّما أتوا من تسرّعهم إلى الاعتراض قبل تمام العلم بالدليل ، وذلك : أنّ الشرط في المزيّة الناقضة للعادة ، أن يبلغ الأمر فيها إلى حيث يُبهر ويقهر ، حتى تنقطع الأطماع عن المعارضة ، وتخرس الألسن عن دعوى المداناة ، وحتى لا تُحدّث نفس صاحبَها بأن يتصدّى ، ولا يجول في خُلد أحد أنّ الإتيان بمثله ممكن ... وليت شعري مَن هذا الذي سُلِّمَ له أنّه كان في وقت من الأُوقات : مَن بلغَ أمره في المزيّة والعلو على أهل زمانه هذا المبلغ وانتهى إلى هذا الحد ؟! ....

ثُمّ قال : ومعلوم أنّ المعوّل في دليل الإعجاز على النظم ، ومعلوم كذلك أنّ ليس الدليل في المجيء بنظمٍ لم يوجد من قبلُ قط ، بل في ذلك مضموماً إلى أن يبين ذلك النظم من سائر ما عُرف ويُعرف من ضروب النظم ، وما يعرف أهل العصر من أنفسهم أنّهم يستطيعونه ، البينونة التي لا يعرض معها شكٍ لواحدٍ منهم أنّه لا يستطيعه ولا يهتدي لكنّه أمره ، حتى يكونوا في استشعار اليأس من أن يقدروا على مثله وما يجري مجرى المثل على صورة واحدة ، وحتى كأنّ قلوبهم في ذلك قد أُفرغت في قلب واحدٍ).

ويبقى آخر الأمر أن نعالج أمراً ربّما له ما يبرّره ، وهو : ما الضرورة إلى التحدّي وما هي مبرّراته ؟ وللإجابة نقول :

إنّ التحدّي وطلب المعارضة إنّما هو لتأكيد : أنّ ما يصدر عن الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس من عنده ؛ لضرورة أنّ قدراته مثل قدراتهم ، وإمكاناته كبشر مثل إمكاناتهم ، لعلّه فيما يتعلّق بالإبداع الأدبي أقلَّ فيهم تفوقاً ، إذ لم يُعرف عنه أنّه كان ينثر دُرر الحكمة ، أو أنّه كان خطيباً أو شاعراً قبل أن يرفع دعواه بالنبوة ، هذا من جهة .

ومن جهةٍ أخرى ، فإنَّ الساحة الأدبيّة في مكّة وغيرها كانت ميداناً للمباريات والمعارضات ، كما كانت أسواقهم ومنتدياتهم تزخر بأنواع الأنشطة الأدبيّة ، ويقف النقّاد والمحكّمون يُرشِّحون هذه القصيدة أو تلك ، وينتخبون هذا الأثر الفني دون ذاك ، حتى كانت المعلّقات المشهورات أثراً لهذا المنهج .

ومن هنا كان من المناسب أن يجبّهم الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويتحدّاهم في المجال الذي امتازوا فيه وعنوا به ، فيُقدّم القرآن الكريم برهاناً على صدق دعواه النبوّة ، وحُجةً على رسالته وسفارته عن الحضرة الإلهيّة ، وأنّه يتلقّى هذا القرآن من لدُن حكيم خبير من ربّ السموات والأرضين . فإن اعتراهم الريب أو داخلهم الشك ، فما عليهم إلاّ المعارضة التي هي وسيلتهم المعتادة وطريقتهم المفضّلة ، لكنّ نبوءة القرآن العظيم والحقيقة التي صدعَ بها حَسمت الأمر ، وذلك في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=914
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 01 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24