• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : الدين والسياسة: رؤية قرآنيَّة .

الدين والسياسة: رؤية قرآنيَّة

               الأستاذ محمد تقي فرجي ( تعريب: عباس أبو سعيدي )

يَرتبط الإنسان خِلال مسار حياته الاجتماعيَّة دائماً، بالأحداث والمَشاكل السياسيَّة. ولغرض استيعاب الظواهر الاجتماعيَّة، والمسؤوليَّة التي تقع على عاتق الفرد، في مُقابِل التنمية والتطوُّر والرفاه الاجتماعي الذي يَحسُّ به الفرد، كُلُّ ذلك يُرغمه على دَرك وتحليل واقع الحوادث، والخصائص المُتعلِّقة بها، ثُمَّ إبداء وِجهة نظره تجاهها والتصميم، ثُمَّ التدخُّل في تلك الحوادث.

إنَّ التعقيدات، والتنوُّعات، والمُفاجآت التي تحويها المسائل السياسيَّة، أجبرت المُفكِّرين والحُكماء، ورجال السياسة على إيجاد طُرق وسياقات مُناسبة ومُتكاملة، للفَهم والتشخيص السريع للمُجرَيات السياسيَّة المُتعدِّدة والمُتضادَّة، ( وأنْ يواتموا الإمكانات المُتاحَة مع الظروف الحاليَّة )، لغَرض الوصول إلى الأهداف المرجوَّة؛ ولذا فقد ظهرت مدارس سياسيَّة مُختلفة على ساحة الوجود(1)، مِن حيث المبدأ، فإنَّ السياسة تَعني الشروع في إِصلاح المُجتمع، وهداية الناس إلى طريق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة؛ وعلى هذا فإنَّ على الأهداف السياسيَّة أنْ لا تَنفصل عن الأهداف التي مِن أجلها خُلِق الإنسان.

 وقد بيَّنت ذلك التعاليم الدينيَّة بكُلِّ وضوح. ولكنْ وللأسف الشديد، تَحوَّل مُصطلحا الدين والسياسة ـ كما هو الحال مع المُصطلحات الأصيلة والقيّمة الأُخرى ـ على مَرِّ التأريخ مِن قِبَل المُخادعين والأفَّاكين، إلى أُلعوبة بأيديهم، وأساءُوا التعامل معها، وحرّفوا معانيها. ولقد تسارعت خُطى هذه الخيانة الكُبرى، للأهداف الإنسانيَّة السامية، مُنذ وقت مُبكِّر مِن عصر الرسالة، وتَجلَّت إِبّان العهد الأُموي، حينما تحوَّلت السلطة إلى مُلكٍ عَضْوض! وصوَّر دُعاة اللَّذة الدنيويَّة، والمُتلاعبون بالسياسة، مِن خِلال الإعلام المُكثَّف والمُؤثِّر، السياسة على أنَّها كَذب وخُداع، وتحايل وخيانة، وأنَّ الدين معناه الانزواء والابتعاد عن الأمور السياسيَّة والحكوميَّة، والتمسُّك بالعبادات الانفراديَّة؛ وكان استدلالهم على ذلك هو أنَّه لا يُمكِن لبُقعَة ما في الأرض أنْ تُدار، إلاَّ مِن خِلال الكَذب والمَكر والتحايل، والحال أَنَّ طُرقاً كهذه كانت دائماً مَمقوتة ومَبغوضة مِن قِبَل الدين؛ وعلى هذا فإنَّ على المُتعبِّدين، والمُتَّقين أنْ يبتعدوا عن المسائل والأحداث السياسيَّة.

ومِمَّا يُؤسَف له، أنَّ هذه النظريَّة الخاطئة والمُضلَّلة، تبنَّاها كثيرٌ مِن رجال السياسة الفاشلين، وعبيد الدنيا، والمُتديِّنين البُسطاء والغافلين، على أَنَّها جوهر غير قابل للنقاش، مِمّا فتح الطريق لإيجاد حكومات مُستبدَّة وفاسدة، حَكمت المُجتمعات الإسلاميَّة، ومارست فيها القتل والإِبعاد والتعذيب، في حقِّ أصحاب الحقِّ، والمنادين للحقيقة، وحَشَّدت كُلَّ الإمكانات العظيمة، التي أوجدتها التعاليم الحُرَّة في القرآن، والتي كان يجب أنْ تُسخَّر لخدمَة مسيرة التكامل، والارتقاء بالبشريَّة، حُشِّدت لتعزيز القَمع والإِرهاب، والإِكثار مِن الأفكار والعقائد الفاسدة، والإيمان بالخرافة.

والتأريخ هو خير شاهدٍ على أنَّه متى أهمل الإِنسان عهده، الذي قطعه مع السماء، وابتعد عن الوحي، بقي مُتأخِّراً عن رَكب الحضارة، ولم يَنلْ أهدافه، حتَّى أولئك الرجال المُصلحين والخيِّرين، الذين قادوا المُجتمعات مُبتعدين عن الشرائع الإِلهيَّة، والذين توصَّلوا إلى نجاحات ظاهريَّة، ففي الواقع يجب اعتبارهم مُنهزمين؛ ذلك أنَّ سعيهم لم يَكُن مُوازياً، ومُنسجماً مع فلسفة الخلق؛ حيث إنَّ الهدف مِن وجود حكومة في نظام تَقييمي، هو أنْ يَصل أبناء البشر في ظِلِّ الحريَّة والأمن والرفاه والنظام، إلى التنمية والفلاح والتقرُّب بالعمل مِن الباري عزّ وجلّ، لا أنْ يُسمَّنوا.

ليست الحكومة في الإسلام انطباعاً ذهنيَّاً، أو انتزاعاً صِرفاً، حتَّى يُمكِن التغاضي عنه، بَلْ هي جزء لا يتجزَّأ مِن الفقه، غير قابل للإِنكار، بَلْ ومُكمِّل له؛ ففي نظر الدين تُعتبر الحاكميَّة والسلطة الحقيقية، مُستمَدَّة مِن الله وحده، ولا يَحقُّ لأحدٍ أن يَحكم الآخرين، دون اكتساب الشرعيَّة والإذن مِن الشَّرع.

( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ... )(2).

ولا تتوقَّف وظيفة الإِنسان عند أداء الفرائض الدينيَّة بصورة صحيحة، كما ينظر إليه الدين، بَلْ الإيفاء بمسؤوليَّاته السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والثقافيَّة، والدفاعيَّة، والتكاليف الاجتماعيَّة الأُخرى، والتي أقرَّتها الشريعة السَّمحة، إذا لم نَقُل: إِنَّ العبادات الفرديَّة كذلك، مُمتزِجة امتزاجاً كُلِّياً مع الجوانب الاجتماعيَّة والسياسيَّة.

إنَّ كُلَّ مسلم مُتديِّن ومُلتزم، هو في الحقيقة سياسي نَبْيه، وحَذر يَسعى دائماً، بالإِدراك الدقيق والصحيح للمكان والزمان، لهداية المُجتمَع البشري، إلى القِسط والعدل والصلاح، وإنقاذه مِن عبادة الأصنام والطاغوت والنجاة مِن قيود الهوى.

( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(3).

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ... )(4).

إنَّ أعداء القرآن يَسعون مِن خِلال عدائِهم، وحَملاتهم الشيطانيَّة، ومِن خِلال الحيلة والخُبث، وبأساليب مُختلِفة أنْ يوجِّهوا ضربة إلى الدين الحنيف، متى سَنحت لهم الفرصة لذلك.

( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )(5).

لا توجد في المُجتَمع الإسلامي أيَّة مسؤليَّة، أهمُّ وأكثر ضرورة مِن تقوية السلطة، وإِجراء قوانين الإسلام على كُلِّ الأصعدة، وحماية الحدود، ومُحارَبة الفساد، واستتباب الأمن، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، والمواجهة الحقَّة والمُستمرَّة ضد الجوانب الثقافيَّة المُخزية، والتعريف بالأعداء في الداخل والخارج؛ ذلك أنَّ الله سبحانه لا يَسمح للغُرباء، أنْ يتسلَّطوا على مصير ومَقدِرات المسلمين.

( ... وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )(6).

يقول الإمام الخميني ( قُدِس سرّه ) ـ مُخاطباً رئيس جهاز المُخابرات ( الساواك ) ـ: لقد قال مِن خِلال أحاديثه: ( أيُّها السيِّد، إنَّ السياسة هي عبارة عن الكَذب، والخداع والعذاب! فدعوا ذلك لنا )؛ فقلت له ( تلك هي سياستكم! )  

لقد تَبدَّدت لحُسن الحظ، وخصوصاً في الوقت الراهن كثيرٌ مِن بيوت العناكب للجهل، وسوء الفَهم التي نسجها وحوش العالم، حول التعاليم النورانيَّة للقرآن الكريم، وذلك بفضل العقل النَّيِّر لحَمَلة لواء التشيُّع والفِداء، مِن الرجال المؤمنين والبواسل، وأشاعوا أحكام الإسلام ليُنير ثانية في عالم الكُفر والإلحاد. إلاَّ أنَّه مازال أعداء الإسلام يأملون بكُلِّ الوسائل، أنْ يجعلوا العلم موازياً للدين، والعقل خليفة للوحي، والشعوبيَّة في مُقابل المذهب، وإبعاد الفقه عن الحكومة، وفصل الدين عن السياسة.

لقد ذكرت آيات كثيرة الجهاد، ومُحاربة الظلم والعدوان، والدفاع عن حقِّ المحرومين، وبيَّنت كيفيَّة مواجهة الكفَّار والمُشركين والمُنافقين، ووضع الأنظمة الحقوقيَّة، والقضائيَّة، والاقتصاديَّة، والثقافيَّة...؛ مِمَّا يَدلُّ على أنَّ القرآن، لم يَترك أيَّة مسألة مِن المسائل الاجتماعيَّة والسياسيَّة، في المُجتمع الإسلامي دون جواب.

إنَّ النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هو باني هذا الدين الحنيف، وكانت بعُهدته القيادة السياسيَّة للمُجتمع، وإدارة أُمور الناس، وعَزْل ونَصْب المسؤولين، وانتخاب السفراء، واستقبال الموفدين السياسيَّين للأقاليم الأُخرى، وإعلان الحرب، وعقد المُعاهدات العسكريَّة، وتوقيع الاتفاقيَّات الخاصَّة بالصلح والتسوية، وإقامة العَلاقات التجاريَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، واستيفاء الأموال وتوزيعها حسب الحاجة على العامَّة، كُلُّ ذلك كان يَجري تحت نظره ومُباشرته هو.

يقول الإمام الصادق ( عليه السلام )، يَذكر الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ): ( لقد أدَّب الله سبحانه نبيَّه بالأخلاق الحَسَنة، ولأنَّه قد وصل إلى حَدِّ الكمال، فقد قال الله في حقِّه: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )، فأتمنه على مصير الدين والدنيا، حتَّى يسوس عباده، ويقول الله تعالى في ذلك: ( ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ... )(7).

وكانت حياة مولى المُتَّقين الشريفة السامية، مشحونة بالحوادث الكثيرة، والأحداث السياسيَّة، والتي ذُكِر الكثير منها بصورة جليَّة في نهج البلاغة. وقد اعترف التاريخ مُصرِّحاً كون ذلك الرَّجل الإمام الهُمام كان القُرآن الناطق، والاسلام المُجسَّم، ولم يَبتعد لحظة واحدة في حياته المُقدَّسة، عن مَسرح الأحداث السياسيَّة، ولم يُبدِ أيَّ اختلاف في موقفه تِجاه الأحداث الاجتماعيَّة، ولم يُطأطِئ رأسه لأيِّ ظرف مِن ظروف الحياة.

يقول الإمام الخميني ( رض ) ـ في ما يتعلَّق بالرابطة الموجودة بين الدين والسياسة ـ: (لقد كان شغل الأنبياء الشاغل هو السياسة والدين، تلك السياسة التي يَتحرَّك الناس مِن خلالها، وتَهديهم إلى كُلِّ ما فيه صلاح الفَرد والمُجتمع )(8).

وقد بيَّن آية الله العظمى الكلبايكاني ( قُدس سرّه ) نظرته حول السياسة، كما يلي: ( إنَّني أُعلن أنَّ ديننا هو الدين الإسلامي، وأنَّ سياستنا هي سياسة إسلاميَّة، ولا يُمكِن للمسلمين أنْ يبقوا مُنعزلين عن أُمور الدولة الإسلاميَّة، فما بالك مع الفقهاء والمجتهدين، والذين يَمتلكون الزعامة الشرعيَّة، والتمثيل العام! )(9).

ويُوضِّح المرحوم كاشف الغطاء امتزاج الدين مع السياسة، كما يلي: ( إذا كانت السياسة هي العمل الصالح، وخدمة المصلحة العامَّة، وقيادة المُجتمع، وحفظه مِن الفساد والخيانة، وتقديم النصائح للناس، وتحذيرهم مِن الاستعمار؛ فنَعم، نحن غارقون فيها، وذلك هو واجبنا )(10).

وكان المرحوم المدرِّس يَعتبِر السياسة هي الدين، والدين هو السياسة.

وفي جوابه على شارل ناورل ـ الكاتب الفرنسي ـ يقول آية الله الكاشاني: ( ليس في الإسلام ـ كما هو الحال في المسيحيَّة ـ شيءٌ اسمه ترك الدنيا والرهبانيَّة...؛ فإنِّي حين أتدخَّل في السياسة، فذلك واجبي )(11).

إنَّ سياسيَّاً مُحنَّكاً اليوم، يعلم جيِّداً أهداف السياسة الغربيَّة، وإنَّ هذه السياسة بدأت العَدَّ التنازُلي لسقوطها واندحارها، كما بيَّنا ذلك في مسألة المُعسكَر الشرقي سابقاً، ويتَّضح لنا أنَّ الدين الإسلامي وحده، قادر على التحرُّك والبقاء، والتفاعل مع العوامل الأُخرى، في وقت خَلا مِن الأيديولوجيَّة الصحيحة، شريطة أنْ يلتزم رجال السياسة المسلمون بواجبهم الديني، بذَكاء وحِنكة، وأنْ يضعوا نصائح وأوامر أمير المؤمنين ( عليه السلام) نُصب أعينهم، حيث يقول: ( أوصيكم بتقوى الله، ونَظْم أمركم ... )  

الهوامش:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ أصول السياسة الإسلاميَّة، في كتاب بعنوان ( الدين السياسي والسياسة الدينيَّة )، لكاتب المقالة قيد التأليف، حيث سيُنشر قريباً بعون الله.

2 ـ آل عمران: 26.

3 ـ آل عمران: 104.

4 ـ النساء: 135.

5 ـ الأعراف: 16 ـ 17.

6 ـ النساء: 141.

7 ـ تفسير نور الثقلين.

8 ـ الرسالة الجديدة: ج4، ص70.

9 ـ مجلة التعزية: 29.

10 ـ ملحمة الفتوى: 5.

11 ـ المَصدر السابق: 5.

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=895
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 12 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24