• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : السنن التاريخية فی القرآن الكريم فی نظرية الشهيد الصدر .

السنن التاريخية فی القرآن الكريم فی نظرية الشهيد الصدر

الدين فی فكر الشهيد الصدر سنة وقانون إلهی لابد منه وقاوم القرآن الكريم النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الإستسلامية لتفسير الأحداث ونبه العقل البشری إلى أن للساحة التارخية سننها وقوانينها يعرض القرآن الكريم الدين على شكلين تارة يعرضه بوصفه تشريعا وقانونا إعتباريا وأخرى يبينه سنة من سنن التاريخ وقانونا داخلا فی صميم تركيب وفطرة الإنسان.

مقدمة:

تعتبر ظاهرة توافق الأحداث الخطيرة والمهمة من الظواهر الملفتة للنظر فی حركة التاريخ البشری.. فعلى سبيل المثال نرى انه بحمد الله تعالى ولى وانتهى نظام الطاغوت فی بغداد وهی نهاية ارتقبها المؤمنون وراهنوا عليها فی ضوء سنن الله تعالى فی ازالة الظلم واهلاك الطواغيت، ولكن الذی جعل لهذه النهاية طعما آخرا هو انها جاءت فی شهر صفر الخير، وهو الشهر الذی تعرض فيه نظام صدام اللعين لزوار الحسين (ع) فی الأربعين عام (1977م) فيما عرف بانتفاضة صفر، كما جاءت هذه النهاية بالتحديد فی يوم 9 نيسان وهو يوم شهادة السيد محمد باقر الصدر واخته العلوية عام (1980م) على يد صدام وزمرته المارقة.

ولا ينبغی ان تفسر هذه الموافقات على انها من المصادفات، فانه لا صدفة فی هذا الكون ولا صدفة فی حركة التاريخ. وفی البحث التالی يتحدث السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ومن خلال العرض القرآنی ـ عن السنن والقوانين التی تحكم حركة التاريخ فی خطواتها العامة والتی تجعل الساحة التاريخية كغيرها من الساحات خاضعة لنظام يخرجها من حالة العبث واللانتظام.

إعتنى القرآن الكريم بسنن التاريخ:

الساحة التاريخية كأی ساحة اخرى زاخرة بمجموعة من الظواهر، وكما ان الظواهر فی كل ساحة اخرى من الساحات لها سنن ولها نواميس فإن من حقنا ان نتساءل: هل ان الظوهر التی تزخر بها الساحة التاريخية أيضا ذات سنن وذات نواميس؟ وما هو موقف القرآن الكريم من هذه السنن والنواميس؟ وما هو عطاؤه فی مقام تأكيد هذا المفهوم ايجابا او سلبا، اجمالا او تفصيلا؟

وقد يخيل الى بعض الاشخاص، اننا لا ينبغی ان نترقب من القرآن الكريم ان يتحدث عن سنن التاريخ ؛ لأن البحث فی سنن التاريخ بحث علمی كالبحث فی سنن الطبيعة والفلك والذرة والنبات، والقرآن الكريم لم ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هداية، الا ان هذه الملاحظة رغم ان الروح العامة فيها صحيحة، ولكن مع هذا يوجد فرق جوهری بين الساحة التاريخية وبقية ساحات الكون، هذا الفرق الجوهری يجعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة امرا مرتبطا اشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هداية، خلافا لبقية الساحات الكونية والميادين الاخرى للمعرفة البشرية ؛ وذلك ان القرآن كتاب هداية وعملية تغيير، هذه العملية التی عبر عنها فی القرآن الكريم بأنها اخراج للناس من الظلمات الى النور.

عملية التغيير الاجتماعی وابعادها:

وعملية التغيير هذه فيها جانبان: الجانب الأول: جانب المحتوى والمضمون الذی تدعو اليه هذه العملية التغييرية ويتمثل بالشريعة التی نزلت على النبی محمد (ص)، وهذا الجانب من عملية التغيير جانب ربانی وهو فوق التاريخ. الجانب الثانی: عملية التغيير بوصفها تجسيدا بشريا واقعا على الساحة التاريخية مترابطا مع الجماعات والتيارات الاخرى التی تكتنف هذا التجسيد والتی تؤيد او تقاوم هذا التجسيد، وهی من هذا الجانب عملية بشرية، تتحكم فيها الى درجة كبيرة سنن التاريخ التی تتحكم فی بقية الجماعات وفی بقية الفئات على مر الزمن.

حينما اراد القرآن ان يتحدث عن انكسار المسلمين فی غزوة احد بعد ان احرزوا ذلك الانتصار الحاسم فی غزوة بدر، قال: "وتلك الايام نداولها بين الناس"/ آل عمران/140.. هنا اخذ يتكلم عن المسلمين بوصفهم اناسا، قال: بأن هذه القضية هی فی الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ، المسلمون انتصروا فی بدر حينما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض ان ينتصروا، وخسروا المعركة فی احد حينما كانت الشروط الموضوعية فی معركة احد تفرض عليهم ان يخسروا المعركة.

"ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس"/ آل عمران/140.. لا تتخيلوا ان النصر حق الهی لكم، وانما النصر حق طبيعی لكم بقدر ما يمكن ان توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التی وضعها الله سبحانه وتعالى كونيا لا تشريعيا، وحيث انكم فی غزوة احد لم تتوفر لديكم هذه الشروط ولهذا خسرتم المعركة.

بل يذهب القرآن الى اكثر من ذلك حين يهدد هذه الجماعة البشرية التی كانت انظف واطهر جماعة على مسرح التاريخ بأنهم اذا لم يقوموا بدورهم التاريخی، واذا لم يكونوا على مستوى مسؤولية رسالة السماء فان سنن التاريخ سوف تعزلهم وسوف تأتی بأمم اخرى قد تهيأت لها الظروف الموضوعية الافضل لكی تلعب هذا الدور، (الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير) التوبة/39.. (يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتی الله بقوم يحبهم ويحبونه اذله على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون فی سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) المائدة/54.

أساليب القرآن فی بيان سنن التاريخ:

بیّن القرآن سنن التاريخ باشكال مختلفة وبأساليب متعددة فی كثير من الآيات، مرة على مستوى اعطاء نفس هذا المفهوم بالنحو الكلی: ان للتاريخ قوانين، ومرة اخرى بينها على مستوى عرض نفس هذه القوانين وبيان امثلة منها، وثالثة بينها فی سياق امتزاج النظرية مع التطبيق. كما اكد فی آيات اخرى على استقراء التاريخ، وهی عملية بطبيعتها تريد ان تفتش عن سنة وقانون، والا فلا معنى للاستقراء من دون افتراض ذلك.

قال تعالى (وان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها واذا لا يلبثون خلافك الا قليلا سنة من قد ارسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا) الاسراء/76ـ77 .. وقال: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى اتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) الانعام/34.. (افلم يسيروا فی الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين امثالهم) محمد/10.

كشف القرآن عن سنن التاريخ:

ان المفهوم القرآنی يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم ؛ لأننا ـ فی حدود ما نعلم ـ نجد ان القرآن الكريم اول كتاب عرفه الانسان اكد على هذا المفهوم وكشف عنه واصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم، قاوم النظرة العفوية او النظرة الغيبية الاستسلامية لتفسير الاحداث، الانسان الاعتيادی كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث، قائمة على الصدفة، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقاوم هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشری الى ان هذه الساحة لها سنن ولها قوانينها، وانه لكی تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثرا لابد لك ان تكتشف هذه السنن، لابد لك ان تتعرف على هذه القوانين لكی تستطيع ان تتحكم فيها.

هذا الفتح القرآنی الجليل هو الذی مهد الى تنبه الفكر البشری بعد ذلك بقرون، الى ان تجری محاولات لفهم التاريخ فهما علميا. بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات، بدأت على ايدی المسلمين انفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه، ثم بعد ذلك بأربعة قرون /على أقل تقدير/ اتجه الفكر الاوربی فی بدايات ما يسمى بعصر النهضة، بدأ لكی يجسد هذا المفهوم، هذا المفهوم الذی ضيعه المسلمون، والذی لم يستطيع المسلمون ان يتوغلوا الى اعماقه، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربی فی بدايات عصر النهضة، وبدأت هناك ابحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ، ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة، كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ. وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرا فی التاريخ نفسه.

ثلاث حقائق مهمة:

من خلال استعراضنا السابق للنصوص القرآنية الكريمة التی أوضحت فكرة السنن التاريخية واكدت عليها، يمكننا ان نستخلص ثلاث حقائق اكد عليها القرآن الكريم بالنسبة الى سنن التاريخ: الحقيقة الاولى: ان السنن القرآنية للتاريخ ذات طابع علمی ؛ لأنها تتميز بالاطراد الذی يميز القانون العلمی. / الحقيقة الثانية: انها ذات طابع ربانی ؛ لأنها تمثل حكمة الله وحسن تدبيره على الساحة التاريخية. / الحقيقة الثالثة: انها ذات طابع انسانی ؛ لأنها لا تفصل الانسان عن دوره الايجابی ولا تعطل فيه ارادته وحريته اختيراه، وانما تؤكد اكثر فأكثر مسؤوليته على الساحة التاريخية.

مجال السنن على الساحة التاريخية:

والسؤال الذی نواجهه بعد ذلك هو تشخيص ميدان هذه السنن؟ لكن قبل هذا يجب ان نعرف ماذا نقصد بالساحة التاريخية؟ الساحة التاريخية: عبارة عن الساحة التی تحوی تلك الحوادث والقضايا التی يهتم بها المؤرخون، ويسجلونها فی كتبهم.. فالسؤال هنا اذن هو هكذا: هل أن كل هذه الحوادث والقضايا التی يضبطها المؤرخون وتدخل فی نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية، هل كلها محكومة بالسنن التاريخية؟ او ان جزءا معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذی تحكمه سنن التاريخ؟

الصحيح ان جزءا معينا من هذه الحوادث والقضايا هو الذی تحكمه سنن التاريخ. هناك حوادث لا تنطبق عليها سنن التاريخ، بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية او الفسلجية او قوانين الحياة او ای قوانين اخرى لمختلف الساحات الكونية الاخرى. مثلا: موت ابی طالب، موت خديجة فی سنة معينة، حادثة تاريخية مهمة تدخل فی نطاق ضبط المؤرخين، واكثر من هذا هی حادثة ذات بعد فی التاريخ ترتبط بها آثار كثيرة فی التاريخ، ولكنها لا تحكمها سنن التاريخ، تحكمها قوانين فسلجية، قوانين الحياة التی تفرض المرض و الشيخوخة ضمن شروط معينة وظروف معينة.

ان العمل التاريخی الذی تحكمه سنن التاريخ هو العمل الذی يكون حاملا لعلاقة مع هدف وغاية، ويكون فی نفس الوقت ذا ارضية اوسع من وجود الفرد، ذا موج يتخذ من المجتمع علة مادية له وبهذا يكون عملا اجتماعيا.

اشكال السنن التاريخية فی القرآن

هناك ثلاثة اشكال تتخذها السنة التاريخية فی القرآن الكريم، لابد من استعراضها ومقارنتها والتدقيق فی اوجه الفرق بينها:

1 ـ الشكل الأول للسنة التاريخية: هو شكل القضية الشرطية. فی هذا الشكل تتمثل السنة التاريخية فی قضية شرطية تربط بين حادثتين او مجموعتين من الحوادث على الساحة التاريخية وتؤكد العلاقة الموضوعية بين الشرط والجزاء، وانه متى ما تحقق الشرط تحقق الجزاء. وهذه صياغة نجدها فی كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية فی مختلف الساحات الاخرى.

فمثلا: حينما نتحدث عن قانون طبيعی لغليان الماء، نتحدث بلغة القضية الشرطية، نقول بأن الماء اذا تعرض الى الحرارة بدرجة معينة سوف يحدث الغليان. هذا قانون طبيعی يربط بين الشرط والجزاء ويؤكد ان حالة التعرض الى الحرارة ضمن مواصفات معينة تذكر فی طرف الشرط، تستتبع حادثة طبيعية معينة وهی غليان هذا الماء، تحول هذا الماء من سائل الى غاز. هذا القانون مصاغ على نهج القضية الشرطية.

ومن الواضح ان هذا القانون الطبيعی لا ينبئنا شيئا عن تحقق الشرط وعدم تحققه، ولا يتعرض الى مدى وجود الشرط وعدم وجوده، ولا ينبئنا بشئ عن تحقق الشرط ايجابا او سلبا، وانما ينبئنا عن ان الجزاء لا ينفك عن الشرط، متى ما وجد الشرط وجد الجزاء. فالغليان نتيجة مرتبطة موضوعيا بالشرط.

ومثل هذه القوانين تقدم خدمة كبيرة للإنسان فی حياته الاعتيادية وتلعب دورا عظيما فی توجيه الانسان؛ لأن الإنسان ضمن تعرفه على هذه القوانين يصبح بإمكانه ان يتصرف بالنسبة الى الجزاء، ففی كل حالة يرى انه بحاجة الى الجزاء يوفر شروط هذا القانون، وفی كل حالة يكون الجزاء متعارضا مع مصالحه ومشاعره يحاول الحيلولة دون توفر شروط هذا القانون.

اذن القانون الموضوع بنهج القضية الشرطية موجه عملی للإنسان فی حياته.. ومن هنا تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى فی صياغة نظام الكون على مستوى القوانين وعلى مستوى الروابط المطردة والسنن الثابتة ؛ لأن صياغة الكون ضمن روابط مطردة وعلاقات ثابتة هو الذی يجعل الإنسان يتعرف على موضع قدميه، وعلى الوسائل التی يجب ان يسلكها فی سبيل تكييف بيئته وحياته والوصول الى اشباع حاجته.

فلو ان الغليان فی الماء كان يحدث صدفة ومن دون رابطة قانونية مطردة مع حادثة اخرى كالحرارة، اذن لما استطاع الانسان ان يتحكم فی هذه الظاهرة متى ما كانت حياته بحاجة اليها، وان يتفاداها متى ما كانت حياته بحاجة الى تفاديها، انما كانت له هذه القدرة باعتبار ان هذه الظاهرة وضعت فی موضع ثابت من سنن الكون وطرح على الانسان القانون الطبيعی بلغة القضية الشرطية، فأصبح ينظر فی نور لا فی ظلام، ويستطيع فی ضوء هذا القانون الطبيعی ان يتصرف.. نفس الشئ نجده فی الشكل الأول من السنن التاريخية القرآنية، فإن عددا كبيرا من السنن التاريخية فی القرآن قد تمت صياغتها على شكل القضية الشرطية التی تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين او تاريخيتين، بحيث انه متى وجدت الحادثة الأولى وجدت الحادثة الثانية.

ففی قوله تعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد/11 اشارة الى سنة تاريخية بينت بلغة القضية الشرطية؛ لأن مرجع هذا المفاد القرآنی الى ان هناك علاقة بين تغييرين: بين تغيير المحتوى الداخلی للإنسان، وتغيير الوضع الظاهری للبشرية والانسانية. مفاد هذه العلاقة قضية شرطية: انه متى ما وجد ذاك التغيير فی انفس القوم وجد هذا التغيير فی بنائهم وكيانهم. وكذلك فی قوله تعالى "وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأََسْقَیْناهُمْ ماءً غَدَقاً"/ الجن/16، تشير الآية الكريمة الى سنة من سنن التاريخ، سنة تربط بين وفرة الانتاج بعدالة التوزيع. هذه السنة ايضا هی بلغة القضية الشرطية كما هو الواضح من صياغتها النحوية ايضا.

2 ـ الشكل الثانی الذی تتخذه السنن التاريخية: شكل القضية الفعلية الناجزة الوجودية المحققة، وهذا الشكل ايضا نجد له امثلة وشواهد فی القوانين الطبيعية والكونية. مثلا: العالم الفلكی حينما يصدر حكما علميا على ضوء قوانين مسارات الفلك، بأن الشمس سوف تنكسف فی اليوم الفلانی او ان القمر سوف ينخسف فی اليوم الفلانی، فانه قانون علمی وقضية علمية، الا انها قضية وجودية ناجزة، ليست قضية شرطية.

فالانسان لا يملك تجاه هذه القضية ان يغير من ظروفها، ان يعدل من شروطها؛ لأنها لم تبين كلغة قضية شرطية، وانما بينت على مستوى القضية الفعلية الوجودية: الشمس سوف تنكسف، القمر سوف ينخسف. هذه قضية فعلية تنظر الى الزمان الآتی وتخبر عن وقوع هذه الحادثة على ای حال. كذلك الانواء الجوية، القرارات العلمية التی تصدر عن الانواء الجوية: المطر ينهمر على المنطقة الفلانية. هذا ايضا يعبر عن قضية فعلية وجودية لم تصغ بلغة القضية الشرطية، وانما صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ مكان معين وزمان معين. هذا هو الشكل الثانی من السنن التاريخية.

هذا الشكل من السنن التاريخية هو الذی اوحى فی الفكر الاوروبی بتوهم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الانسان وارادته. نشأ هذا التوهم الخاطئ الذی يقول بأن فكرة سنن التاريخ لا يمكن ان تجتمع الى جانب فكرة اختيار الانسان؛ لأن سنن التاريخ هی التی تنظم مسار الانسان وحياة الانسان، اذن ماذا يبقى لإرادة الانسان؟ هذا التوهم ادى الى ان بعض المفكرين يذهب الى ان الانسان له دور سلبی فقط حفاظا على سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السنن.

وذهب بعض آخر فی مقام التوفيق ما بين هاتين الفكرتين ولو ظاهريا الى ان اختيار الانسان نفسه هو ايضا يخضع لسنن التاريخ ولقوانين التاريخ.. فهذا البعض لا يضحی باختيار الانسان، لكن يقول بأن اختيار الانسان لنفسه حادثة تاريخية ايضا، اذن هو بدوره يخضع للسنن، هذه تضحية باختيار الانسان لكن بصورة مبطنة غير مكشوفة.. بينما ذهب فريق ثالث الى: الى التضحية بسنن التاريخ لحساب اختيار الانسان، فذهب جملة من المفكرين الاوروبيين الى انه مادام الانسان مختارا فلابد من أن يستثنى الساحة التاريخية من الساحات الكونية فی مقام التقنين الموضوعی، لابد وان يقال بأنه لا سنن موضوعية للساحة التاريخية حفاظا على ارادة الانسان وعلى اختيار الانسان.

وهذه المواقف كلها خاطئة؛ لأنها جميعا تقوم على ذلك الوهم الخاطئ، وهم الاعتقاد بوجود تناقض اساسی بين مقولة السنة التاريخية ومقولة الاختيار، وهذا التوهم نشأ من قصر النظر على الشكل الثانی من اشكال السنة التاريخية، ای قصر النظر على السنة التاريخية المصاغة بلغة القضية الفعلية الوجودية الناجزة.

لو كنا نقصر النظر على هذا الشكل من سنن التاريخ، ولو كنا نقول بأن هذا الشكل هو الذی يستوعب كل الساحة التاريخية، لكان هذا التوهم واردا، ولكنا يمكننا ابطال هذا التوهم عن طريق الالتفات الى الشكل الاول من اشكال السنن الذی تصاغ فيه السنة التاريخية بوصفها قضية شرطية. وكثيرا ما تكون هذه القضية الشرطية فی شرطها معبرة عن ارادة الانسان واختياره، بمعنى ان اختيار الانسان يمثل محور القضية الشرطية وشرطها. اذن فالقضية الشرطية كالأمثلة التی ذكرناها من القرآن الكريم تتحدث عن علاقة بين الشرط والجزاء، والشرط هو فعل الانسان، وارادتُه: (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد/11. فالتغيير هنا اسند اليهم فهو فعلهم، ابداعهم وارادتهم.

اذن السنة التاريخية حينما تصاغ بلغة القضية الشرطية، وحينما يحتل ابداع الانسان واختيار الانسان موضوع الشرط فی هذه القضية الشرطية تصبح هذه السنة متلائمة تماما مع اختيار الانسان، بل ان السنة حينئذ تُطغی اختيار الانسان، تزيده اختيارا وقدرة وتمكنا من التصرف فی موقفه، فكما ان ذلك القانون الطبيعی للغليان يزيد من قدرة الانسان فی ان يتحكم فی الغليان بعد ان عرف شروطه وظروفه كذلك السنن التاريخية ذات الصيغ الشرطية، هی فی الحقيقة ليست على حساب ارادة الانسان، وليست نقيضا لاختيار الانسان، بل هی مؤكدة لاختيار الانسان، وتوضح للإنسان نتائج الاختيار لكی يستطيع ان يقتبس ما يريده من هذه النتائج، لكی يتعرف على الطريق الذی يسلك به الى هذه النتيجة او الى تلك النتيجة، فيسير على ضوء وكتاب منير. هذا هو الشكل الثانی للسنة التاريخية.

3 ـ الشكل الثالث للسنة التاريخية: وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا، هو السنة التاريخية المصاغة على صورة تجاه طبيعی فی حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدی. وفرق بين الاتجاه والقانون. ولكی تتضح الفذلكة فی ذلك لابد وان نطرح الفكرة الاعتيادية التی نعيشها فی اذهاننا عن القانون.

القانون العلمی كما نتصوره عادة: عبارة عن تلك السنة التی لا تقبل التحدی من قبل الانسان ؛ لأنها قانون من قوانين الكون والطبيعية فلا يمكن للإنسان ان يتحداها ويخرج عن طاعتها. يمكنه ان لا يصلی ؛ لأن وجوب الصلاة حكم تشريعی وليس قانونا تكوينيا، يمكنه ان يشرب الخمر ؛ لأن حرمة شرب الخمر قانون تشريعی وليس قانونا تكوينيا، لكنه لا يمكنه ان يتحدى القوانين الكونية والسنن الموضوعية، مثلا: لا يمكنه ان يجعل الماء لا يغلی اذا توفرت شروط الغليان، لأن هذا قانون، والقانون صارم، والصرامة تأبى التحدی.

هذه هی الفكرة التی نتصورها عادة عن القوانين، وهی فكرة صحيحة الى حد ما، لكن ليس من الضروری ان تكون كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأبى التحدی ولا يمكن تحديها من قبل الانسان بهذه الطريقة، بل هناك تجاهات موضوعية فی حركة التاريخ وفی مسار الانسان، الا ان هذه الاتجاهات لها شئ من المرونة بحيث انها تقبل التحدی ولو على شوط قصير، وان لم تقبل التحدی على شوط طويل. انت لا تستطيع ان تؤخر موعد غليان الماء لحظة، لكن تستطيع ان تجمد هذه الاتجاهات لحظات من عمر التاريخ، لكن هذا لا يعنی انها ليست تجاهات تمثل واقعا موضوعيا فی حركة التاريخ، هی تجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدی لفترة ثم تحطم المتحدی نفسه.

لكی اقرب الفكرة نستطيع ان نقول بأن هناك تجاها فی تركيب الانسان، تجاها موضوعيا لا تشريعيا، الى اقامة العلاقات المعينة بين الذكر والانثى فی مجتمع الانسان ضمن اطار من اطر النكاح موضوعی اعملت العناية فی سبيل تكوينه فی مسار حركة الانسان. لا نستطيع ان نقول: ان هذا مجرد قانون تشريعی او مجرد حكم شرعی، وانما هذا تجاه رُكب فی طبيعة الانسان وفی تركيبه، وهو الاتجاه الى الاتصال بين الذكر والانثى وادامة النوع عن طريق هذا الاتصال ضمن اطار من اطر النكاح الاجتماعی هذه سنة، لكنها سنة على مستوى الاتجاه لا على مستوى القانون. لماذا؟ لأن التحدی لهذه السنة لفترة ما ممكن. امكن لقوم لوط ان يتحدوا هذه السنة فترة من الزمن، بينما لم يكن بإمكانهم ان يتحدوا سنة الغليان بشكل من الاشكال، لكنهم تحدوا هذه السنة، الا ان تحدی هذه السنة على المدى الطويل يؤدی الى ان يتحطم المتحدی كما تحطم مجتمع قوم لوط.

الاتجاه الى توزيع الميادين بين المرأة والرجل اتجاه موضوعی، وليس اتجاها ناشئا من قرار تشريعی.. اتجاه ركب فی طبيعة الرجل والمرأة، ولكن هذا الاتجاه يمكن ان يتحدى، يمكن استصدار تشريع يفرض على الرجل بأن يبقى فی البيت ليتولى دور الحضانة والتربية، وان تخرج المرأة الى الخارج لكی تتولى مشاق العمل والجهد. هذا بالامكان ان يتحقق عن طريق تشريع معين وبهذا يحصل التحدی لهذا الاتجاه، لكن هذا التحدی سوف لن يستمر؛ لأننا بهذا سوف نخسر ونجمد كل تلك القابليات التی زودت بها المرأة من قبل هذا الاتجاه لممارسة دور الحضانة والامومة، وسوف نخسر كل تلك القابليات التی زود بها الرجل من اجل ممارسة دور يتوقف على الجلد والصبر والثبات وطول النفس.

تماما من قبيل ان تسلم بناية، تسلم نجارياتها الى حداد، وحدادياتها الى نجار. يمكن ان تصنع هكذا ويمكن ان تنشأ البناية ايضا، لكن هذه البناية سوف تنهار سوف لن يستمر هذا التحدی على شوط طويل، سوف ينقطع فی شوط قصير. كل تجاه من هذا القبيل هو فی الحقيقة سنة موضوعية من سنة التاريخ ومن سنن حركة الانسان، ولكنها سنة مرنة تقبل التحدی على الشوط القصير، ولكنها تجيب على هذا التحدی.

الدين سنة الهية من الشكل الثالث:

ان اهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن هو الدين. القرآن الكريم يرى ان الدين ليس فقط تشريعا وقانونا اعتباريا بل هو سنة موضوعية من سنن التاريخ، ولهذا يعرض الدين على شكلين: تارة يعرضه بوصفه تشريعا وقانونا اعتباريا كأن يقول: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذی اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه) الشورى/13. هنا يبين الدين كتشريع، كقرار، كأمر من الله سبحانه وتعالى.

لكن فی مجال آخر يبينهُ سنةً من سنن التاريخ وقانونا داخلا فی صميم تركيب الانسان وفطرة الانسان. قال سبحانه وتعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التی فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون) الروم/30. هنا الدين لم يعد مجرد تشريع او مجرد قرار من اعلى وانما الدين هنا فطرة للناس، هو فطرة الله التی فطر عليها الناس ولا تبديل لخلق الله. هذا الكلام كلام موضوعی خبری لا تشريعی انشائی. لا تبديل لخلق الله: يعنی كما انك لا يمكنك ان تنتزع من الانسان ای جزء من اجزائه التی تقوّمه، كذلك لا يمكنك ان تنتزع من الانسان حاجته الى دين الله.

الدين ليس مقولة حضارية مكتسبة على مر التاريخ يمكن اعطاؤها ويمكن الاستغناء عنها ؛ لأنها فی حالة من هذا القبيل لا تكون فطرة الله التی فطر الناس عليها ولا تكون خلق الله الذی لا تبديل له. القرآن يريد ان يقول بأن الدين ليس مقولة من هذه المقولات التی بالامكان اخذها وبالامكان الاستغناء عنها، الدين خلق الله: (فطرة الله التی فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). هذا الكلام (لا) هنا ليست ناهية بل نافية، يعنی هذا الدين لا يمكن ان ينفك عن خلق الله مادام الانسان انسانا.

فالدين الالهی سنة وقانون لا بد منه، ولكنها ليست سنة صارمة على مستوى قانون الغليان، بل هو سنة تقبل التحدی على الشوط القصير، كما كان بالامكان تحدی سنة النكاح والتزاوج الطبيعی، عن طريق الشذوذ الجنسی لكن على شوط قصير، كذلك يمكننا ايضا تحدی الدين كسنة على شوط قصير عن طريق الالحاد وغمض العين عن هذه الحقيقة الكبرى، ولكن هذا التحدی لا يكون الا على شوط قصير ؛ لأن العقاب سوف ينزل بالمتحدی. العقاب هنا ليس بمعنى العقاب الذی ينزل على من يرتكب مخالفة شرعية او قانونية على يد الدولة او على يد ملائكة العذاب فی السماء يوم القيامة، وانما العقاب هنا ينزل من سنن التاريخ نفسها.

منقول من وكالة الانباء القرآنية

http://www.iqna.ir/ar/news_detail.php?ProdID=511593

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=893
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 12 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19