• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : قصص الأنبياء (ع) .
                    • الموضوع : النبي زكريا والنبي يحيى (عليهما السلام) .

النبي زكريا والنبي يحيى (عليهما السلام)

إنّ زوجة زكريّا وأُم مريم كانتا أُختين، وكانتا عاقرين، وعندما رزقت أُمّ مريم بلطف من الله الذرية الصالح، ورأى زكريّا خصائصها العجيبة، تمنّى أن يرزق هو أيضًا ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة الله وتوحيده. وعلى الرغم من كبر سن زكريّا وزوجته، وبُعدهما من الناحية الطبيعيّة عن أن يرزقا طفلاً، فإنّ حبّ الله ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملاً بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على ثمرة الأُبوّة، لذلك راح يتضرّع إلى الله ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾(1).

بشارة ولادة يحيى

لم يمض وقت حتّى أجاب الله دعاء زكريّا.

﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾(2).

وفيما كان يعبد الله في محرابه. نادته ملائمة الله وقالت له إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل إنه لم يكتفوا بهذه البشارة حتّى ذكروا للمولود خمس صفات:

أولاً: سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ﴾(3). و(كلمة الله) هنا وفي مواضع أُخرى من القرآن سيرد شرها –تعني المسيح (ع)- وقد حاء في التاريخ أنّ يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر، وكان أول من آمن به. وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد، فقد كان لإيمانه هنا بالمسيح تأثير كبير على الناس، في توجيههم وحثّهم على الإيمان به.

وثانيًا: سيكون من حيث العلم والعمل قائدًا للناس ﴿وَسَيِّدًا﴾، كم أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا. ﴿وَحَصُورًا﴾.

والرابعة والخامسة من مميزاته أيضًا أنّه سيكون ﴿نَبِيًّا﴾ وأنّه ﴿مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.

فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحًا وسرورًا، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبّه من ذلكن فقال: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾(4) فأجابه الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾(5) فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعال ومشيئته، قنع بذلك(6).

آية على ولادة يحيى

هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى. إنّ إظهار دهشته وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبدًا أنّه لا يثق بوعد الله، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله: ﴿كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾. إنَّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيمانًا شهوديًا. كان يريد أن يمتلئ قلبه بالاطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.

﴿آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا﴾(7).

أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضًا، وعيَّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادرًا على المحادثة العادية. ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره. هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء. فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولدًا مؤمنًا هو مظهر ذكر الله. وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا.

وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر طيّاتها، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية –وإن لم يكن أمرًا محرمًا ولا مكروهًا-  كان من نوع (ترك الأولى). لذلك قرّر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.

وهب الله له ولدًا شبيهًا بعيسى بن مريم في كثير من الصفات: في النبوّة وهما صغيران، وفي نعمى اسميهما (عيسى ويحيى كلاهما بمعنى البقاء حيًّا)، وفي تحية وسلام الله عليهما في المراحل الثلاث: الولادة، والموت، والحشر وجهات أخرى.

يحيى (ع) النّبي المتألّه الورع

(يحيى) من أنبياء الله الكبار، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إلى مقام النّبوة في مرحلة الطفولة، فإِن الله سبحانه قد أعطاه عقلالً وذكاءًا وقّادًا ودراية واسعة في هذا العمر بحيث أصبح مؤهلاً لتقبل هذا المنصب.

غنّ المستفاد من المصادر الإسلامية والمسيحية أن يحيى كان بن خالة عيسى.

فقد صرّحت المصادر المسيحية بأنّ يحيى غسل المسيح (ع) غسل التعميد، ولذلك يسمّونه (يحيى المعمد) –وغسل التعميد غسل خاص يغسل المسيحيون أولادهم به، ويعتقدون أنّه يطهرهم من الذنوب- ولما أظهر المسيح نبوته آمن به يحيى.

لقد كان بين يحيى وعيسى جوانب مشتركة، كالزهد الخارق غير المألوف، وترك الزواج لأسباب التي ذكرت، وولادتهما التي تحمل طابع الإعجاز، وكذلك النسب القريب جدًا.(8)

(يحيى) من الحياة وتعني البقاء حيًّا، وقد اختيرت هذه الكلمة اسمًا لهذا النبي ّالعظيم، والمقصود بالحياة هنا هي الحياة هنا هي الحياة المادّية والحياة المعنوية في نور الإيمان ومقام النبوّة والارتباط بالله. هذا الاسم قد اختاره الله له قبل أن يولد، كما جاء في سورة مريم ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾(9) ومن هذا يتبيّن أيضًا أنّ أحدًا لم يسبق أن سمّي بهذا الاسم.

صفات يحيى (ع) البارزة

أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق الله:

1- ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾. وهو أمر النّبوة والعقل والذكاء والدراية.

2- ﴿وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا﴾. والحنان في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبّة وإظهار العلاقة والمودّة للآخرين.

3- ﴿وَزَكَاةً﴾. أي أعطيناه روحًا طاهرة وزكية.

4- ﴿وَكَانَ تَقِيًّا﴾. فكان يتجنب كل ما يخالف الأوامر الإلهية.

5- ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ﴾.

6- ﴿وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا﴾. فلم يكن رجلاً ظالمًا ومتكبرًا وأنانيًا.

7- ولم يكن ﴿عَصِيًّا﴾ ولم يقترف ذنبًا ومعصية.

8،9،10- ولما كان جامعًا لكل هذه الصفات البارزة، والأوسمة الكبيرة، فإن الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾(10).

النبوة في الطفولة

صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإنسان لها حدّ معين عادة، إِلاّ أنّه يوجد أفرد استثنائيون بين البشر دائمًا، فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده بمصالح ما، ويجعلها تتخلص في سنوات أقل؟ كما أن مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتم من أجل التمكن من النطق عادة، في حين أنا نعلم أن عيسى (ع) قد تكلم في أيامه الأُولى، وكان كلامًا عميق المحتوى من شأنه أن يصدر –عادة عن أناس كبار في السن.(11)

شهادة يحيى

لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها، بل إنّ موته أيضًا كان عجيبًا من عدّة جهات، وقد ذكر أغلب المؤرّخين المسلمين، وكذلك المصادر المسيحية، مجرى هذه الشهادة على هذه النحو، بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصياتها بين هذه المراجع:

لقد أصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه، حيث تعلق (هروديس) ملك فلسطين اللاهث وراء شهوته ببنت أخته (هروديا) وهام في غرامها، وألهب جمالها قلبه بنار العشق، ولذلك صمم على الزواج منها!

فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيى (ع)، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة، وسأقف أما مثل هذا العمل.

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة، وسمعت تلك الفتاة (هيروديا) بذلك، فكانت نرى يحيى أكبر عائق في طريقها، ولذا صممت على الانتقام منه في فرصة مناسبة لترفع المانع من طريق شهواتها وميولها، فعمقت علاقتها بخالها ووطدتها، وجعلت من جمالها مصيدة له، وقد ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه، إلى أن قال لها هيروديس يومًا: اطلبي منّي كل ما تريدين فسأحققه لك قطعًا، فقالت هيروديا: لا أريد منك إلاّ رأس يحيى! لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك، وقد أصبح كل الناس يعيروننا، فإِنّ كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل!

فساّم هيروديس –الذي أصبح مجنونًا لا يعقل من عشق امرأة-  لما أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل، ولم يمض قليل من الزمن حتى أحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة، إلا أنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به، وأخذت بأطرافه في النهاية.

ـــــــــــــــــــــ

1- آل عران/38.

2- آل عمران/39.

3- نفس المصدر.

4- آل عمران/40.

5- نفس المصدر.

6- قد يسأل سائل: لماذا استولى العجب على زكريّا مع أنّه عالم بقدرة الله التي لا تنتهي؟

يتّضح الجواب بالرجوع إلى الآيات الأُخرى. كان يريد أن يعرف كيف يمكن لامرأة عاقر –خلفت وراءها سنوات عديدة بعد سنة من اليأس- أن تحمل وتلد؟ ما الذي يتغيّر فيها؟ أترجع إليها العادة الشهرية كسائر النساء المتوسّطات العمر؟ أم أنّها ستحمل بصورة أُخرى؟

ثم إنّ الإيمان بقدرة الله غير (الشهود والمشاهدة). زكريّا كان يريد أن يبلغ إيمانه مبلغ الشهود، مثل إبراهيم الذي كان مؤمنًا بالمعاد، ولكنّه طلب المشاهدة. كان يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الإيمان. وأنّه لأمر طبيعيّ أن يفكّر الإنسان، إذا ما صادفه أمر خارق للقوانين الطبيعية في كيفيّة حصول ذلك، ويودّ لو أنّه رأى دليلاً حسّيًا على ذلك.

7- آل عمران/41

8- ويستفاد من الرّوايات الإسلامية، أن بين الحسين (ع) ويحيى (ع) جهات مشتركة، ولذلك روى الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) أنّه قال: (خرجنا مع الحسين بن علي (ع)، فما نزل ولا رحل منه إِلّا ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال: ومن هوان الدنيا أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل).

كما أن شهادة الإمام الحسين(ع) تشبه شهادة يحيى (ع) من عدّة جهات أيضًا، وسنذكر كيفية قتل يحيى (ع) فيما بعد.

وكذلك فإنّ الحسين (ع) كاسم يحيى (ع) لم يسبقه به أحد، ومدّة حملهما كانت أقل من المعتاد.

9- مريم/7.

10- مريم/15-12.

11- من هنا يتح عدم صحة الإشكال الذي طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمة الشيعة، بأنّه كيف تسلّم بعضهم أمور الإِمامة في سن صغيرة؟

نطالع في رواية عن علي بن أسباط، أحد أصحاب الإمام الجواد محمد بن علي النقي (ع) أنّه قال: رأيت أبا جعفر (ع) وقد خرج عليّ، فأجدت النظر إليه، وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك قعد فقال: (يا عليّ، إنّ الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة، قد يقول ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾، وقد يقول ﴿إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو  صبي، ويجوز الحكمة وهو ابن أربعين)


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=869
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 12 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29