• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : ملامح الإعجاز في القرآن العظيم .

ملامح الإعجاز في القرآن العظيم

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الإعجاز بمفهوم بديهي : عبارة عن خرق لنواميس الكون، وتغيير في قوانين الطبيعة، وقلب للنظام الثابت في الموازين إلى نظام متحوّل جديد .

فالثابت هو الأصل الجاري على سنن الحياة، والمتحوّل هو الحالة المغايرة لأنظمة المعادلات الكونية المتكافئة . هناك إذن مَعْلَمان : معلم طبيعي بسيط، ومعلم خارق معقّد، والمعلم الطبيعي : لا تجد عنه متحوّلاً، فهو سنّة الله في الإبداع، والمعلم الخارق : ما تجد فيه قلباً لتلك السنن، ومجابهة لمجريات الأحداث الرتيبة، بأخرى إعجازية . فزوجية الكائنات هي الأصل في بعث حقائق الأشياء، والطريق إلى تسيير حياة الكائنات في العوالم المرئيّة والمسموعة والمدركة والمتخيّلة بدليل قوله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(1).

وفي هذا الضوء يكون الإيجاد الطبيعي للإنسان منسجماً مع نظام الزوجية العام في حالة متأصّلة اعتيادية، ويكون الأصل التكويني للبشرية في خلْق آدم من التراب دون الطريق الطبيعي في التناسل هو الحالة الفريدة، وهي الإعجاز، ويحمل عليها كلّما قابل العادة، ولم يخضع إلى التجربة كما في إيجاد عيسى عليه السلام بما مثّله القرآن : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (2) .

وليس السَبْق في العلم إعجاز، بل هو من مفردات اكتشاف المجهول، وتحقيق الزيادة في أوّلية الاستقراء والاستنباط، إذ قد يتوصّل الكثيرون إلى ذلك فيما بعد بنظام أفضل، ومواصفات متكاملة، فيكون الرائد في الاكتشاف أو الاختراع قد سبق الآخرين وحقّق ما لم يحقّقوه دون إعجاز كما هي الحال في التقنيات الحديثة، وإنّما الإعجاز هي التفرّد بالشيء في محور إلهي على يد الأنبياء بين يدي رسالاتهم على سبيل التحدّي، فالسبق إلى الاكتشاف كيفية مشتركة بين فرد أو جماعات على نحو الابتكار، لا على سبيل التحدّي، والمعجزة مختصّة بالنبي على سبيله، فالمبتكرـ إذن ـ يحقّق سَبْقاً علميّاً، والمتحدّي يحقّق إعجازاً إلهياً، وفرْق بين الأمرين .

والمعجزة الإلهيّة في هذا الملحظ على نوعين : وقتية ودائمية، وجميع معاجز الأنبياء وقتيّة ـ كما يدلّ عليه الاستقراء ـ ذهبت بذهابهم، إلاّ معجزة محمّد ـ وهي القرآن ـ فإنّها باقية ما بقي الدهر ؛ على أنّ النبي قد شارك سائر الأنبياء في معاجزهم الموقوتة، فكان له انشقاق القمر وتسبيح الحصى، وسعْي الأشجار، وشهادة الغيب .. الخ .

ومعجزة كل نبي شيء ورسالته شيء آخر، فمعجزة موسى عليه السلام في العصا واليد البيضاء والآيات البيّنات، ولكنّ رسالته هي التوراة، ومعجزة عيسى في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى، ولكنّ رسالته هي الإنجيل، إلاّ نبيّنا محمّد فإنّ معجزته عين رسالته، ورسالته هي معجزته، وهما معاً القرآن (3) .

وبراعة الإعجاز تتجلّى في ملائمة قضيّة الإعجاز لكلّ نبي بما يلائم عصره، وينسجم مع فنون جِيْلِهِ، ويُعزى إلى حياة قومه فيما هو طبيعي أو خارق دون تحدٍّ .

وكان الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أوّل مَن نبّه إلى هذه الحقيقة العالية فيما رواه ابن السكّيت (ت : 244 هـ) قال ابن السكّيت للإمام الرضا عليه السلام : لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه السلام بالعصا ويده البيضاء، وآلة السحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالكلام والخطب ؟ فقال الإمام الرضا : (إنّ الله لمّا بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجّة عليهم، وأنّ الله بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات، واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا به الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجّة عليهم .

وأنّ الله بعث محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنه قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم) . قال : فقال ابن السكّيت : تالله ما رأيت مثلك قط، فما الحجّة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه السلام : (العقل يُعرف به الصادق على الله فيصدّقه والكاذب على الله فيكذّبه) . فقال ابن السكيت : هذا والله هو الجواب (4) .

ولم يكن الأنبياء ليستعملوا الطريق الطبيعي في المعجز، وإنّما كانوا يتحدّون هذا الطريق، فموسى تحدّى سحر السحرة (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (5) فكان اعترافهم بصحّة دعوى موسى دليلاً على إعجازه ؛ لأنّ ما جاء به ليس من سنخ ما يعرفون .

وعيسى لم يستعمل مضادّات الأمراض، وإعطاء الدواء، فيحقّق سَبْقاً طبّياً، وإنّما كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله دون وسائل الأطبّاء، والرسول الأعظم لم يصكّ العرب ببلاغة القرآن ؛ إلاّ لأنّهم أئمّة البلاغة وأرباب البيان، ولكنّه مِن الله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (6) .

فكلّه مِن عند الله (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وُحْىٌ يُوحَى) (7) .

قال الجاحظ (ت : 255 هـ) : (ولأنّ رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة، لتبيّن له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها أنّه عاجز عن مثلها، ولو تحدّى بها أبلغ العرب لظهر عجْزه عنها) (8) .

فعبارة القرآن إذن من سنخ ما يعرفون ويدركون، ولكنّها ليس من جنس ما يحسنون لا كمّاً ولا كيفاً، فطلب إليهم الإتيان بمثله فما استطاعوا، وتنزّل على عشر سورة فما أطاقوا، فتحدّاهم بسورة واحدة فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (9)، وقد دلّ الاستقراء أنّ أقصر سور القرآن هي الكوثر : بسم الله الرحمن الرحيم : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) (10) .

فما بال الأمم لا تأتي بسطر واحد من هذا الجنس ؟ وإذا كان القرآن قد أعجز العرب، فغير العرب أشدّ عجزاً ؛ لأمرين :

الأوّل : أنّ العرب هم أهل اللسان، وقد عجزوا عن مجاراة القرآن، فغير أهل اللسان عاجزون من باب أولى .

الثاني : أنّ اللغة العربية الشريفة ليست لغزاً من الألغاز، وهي قابلة للتعلّم، وقد نبغ فيها كثير من مسلمي غير العرب، وأتقنها جملة من المستعربين والمستشرقين حتى ترجموا القرآن إلى لغاتهم، وقدّموا أفضل الدراسات القرآنية، وإنّما التحدّي أو يتحدّى الإعجاز القرآني من كلّ أُمّة علماءها، وعلماء الأمم يتمكّنون من العربيّة، فتوجّه إليهم التحدّي وعجزوا عن ذلك في كل زمان ومكان .

( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (11) .

وقد يُقال بأنّ الله قد صرف قلوب الناس، وحبس ألسنتهم عن أنْ يأتوا بمثل هذا القرآن، فيسمّى ذلك إعجازاً بالصرفة، وهو رأي المعتزلة (12) .

ولكنّ الرأي الأمثل، أنّ الله قد يسّر جميع القدرات البيانية، ووهب مستلزمات البلاغة للناس وتحدّاهم، فلم يتمكّنوا من الإتيان بمثل لهذا القرآن، وذلك أبلغ في الإعجاز .

فما هي وجوه هذا الإعجاز في القرآن وما هي مظاهره ؟ أحاول فيما يلي أنْ أضع ملخّصاً بأبرز وجوه الإعجاز ومظاهره على نحو الإجمال .

1 ـ الإعجاز الغيبي : ويتمثّل بما تحدّث عنه القرآن الكريم بضرس قاطع في الأنباء عن الغيب الماضي والمستقبلي :

أ ـ عرض القرآن سيرة الأمم السالفة وجزئيّات أحداثها، وكبريات أنبائها بلهجة الجزم واليقين، فأخبر عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وذي القرنين وأهل الكهف، وقوم عاد وثمود ولوط وشعيب، وجمهرة عظيمة ممّن أصابهم عذاب الاستئصال بمجريات أحوالهم بما يعتبر كشفاً لأدقّ التفصيلات التاريخية بما لا علم لأحد به على وجه الكمال، وهي حالة لا عهْد بها للمجتمع العربي في مكّة، ممّا جعلهم يتهافتون على هذه الأخبار، ويتمثّلون وقائعها بالمقياس التاريخي للإفادة من عبرها وأحداثها ومواردها .

ب ـ وتحدّث القرآن عن الأحداث المستقبلية بلغة التأكيد بعدّة مناسبات، أبرزها : وقعة بدر : (سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (13)، وغلبة الروم وانتصارها فيما بعد : (الم * غُلِبَتِ الرُّومَ * فِي أَدنَى الأَرضِ وَهُم مِّن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ) (14) .

وعن فتح مكّة : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (15)، وهزمت قريش بعليائها وجبروتها في معركة بدر الكبرى، وانتصر الروم على الفرس بعد سنين من غلبة الفرس (16)، ودخل النبي مكّة فاتِحاً، وقد كان فتح مكّة غير وارد في الحساب التخطيطي، إذ كيف يمكن لهذا المهاجر مع طائفة قليلة من أهل بيته وأصحابه ـ وهو ضعيف مستضعف ـ أنْ يقتحم جبروت قريش ويغزوها في عقر دارها، وكان ذلك دليلاً واضحاً ومنتشراً في البلاد على الإعجاز الغيبي . .

2 ـ الإعجاز التشريعي : ويتمثّل بما فصّله القرآن بآيات الأحكام وفقه القرآن بما لا عهْد لمناخ الجزيرة بتفصيلاته الدقيقة، فقد نظّم حياة الفرد والأُمّة بأحكام لا مزيد على إبرامها برباط الحرية دون فوضى وبريقة الامتثال دون استعباد، فالأحوال الشخصيّة قد نُظّمت بأحكامها الجديدة في الزواج والطلاق والعدّة والنفقة والمواريث والوصايا والحدود والديات والجروح والقصاص والديون والعقود بما لم تسبق إليه أعرق الأمم تشريعاً، وأعمقها تفقّهاً، بل كانت مفردات حياة جديدة متأطّرة بإطار التطوير الإنساني، ثمّ تكفّل القرآن ببيان فروض وواجبات وطقوس منظمة ضمن الحياة اليومية كالصلاة بفرائضها ونوافلها، وفي جملة من الشهور كالصوم والحج والعمرة، وفي خلال السنة كالزكاة والخمس في المحاصيل والغنائم .

إنّ هذه الأبعاد المترامية الأطراف في التشريع لا يمكن أنْ يصدر تعاليمها إلاّ خالق هذا الكون ومنظّم شؤونه ؛ إذ لم تَعرف الحضارة البشريّة هذا التفصيل الدقيق في نوعية الأحكام وجزئيّتها .

3 ـ الإعجاز العلمي : ونريد به ما أورده القرآن من نظريّات وقوانين توصّل إليها العلم الحديث فيما بعد في مسار الأرض وانشطار النجوم، وتعدّد الأفلاك، وإبعاد السماوات، وزوجية الكائنات، دون استعمال القرآن لقوانين الحس والتجربة والمعادلة وإنّما جاء ذلك ابتداء، وما ورد فيه كان دون سابق معرفة بشرية بالحيثيّات المتناثرة فيه حتى ثبت أنّ القرآن لا يعارِض ما يتوصّل إليه العلم، بل هو الأساس في ذلك فيما أفاده جملة من المتخصّصين، ولا يُراد بهذا الإعجاز الاتّساع الفضفاض الذي يُخرِج بالقرآن عن مهمّته الأولى والأساسية، فهو كتاب هداية وتشريع لا كتاب صناعة وتقنيّات، مع دعوته للتفكّر والتدبّر في بدائع السماوات والأرض (17) .

4 ـ الإعجاز الصوتي : ويتمثّل في جزء منه في الحروف المقطّعة بفواتح بعض السور القرآنية، فهي حالة فريدة من الاستعمال وقف عندها العرب موقف المتحيّر، ولا سابق عهد لهم بأصدائها الصوتية، ممّا قطعوا به أنّ هذه الأصوات المركّبة من جنس حروفهم هي نفسها التي تركّب منها القرآن ولكنْ لا يستطيعون أنْ يأتوا بمثله، وهو ما أفردنا بعمل مستقل (18) .

5 ـ الإعجاز العددي : وقد وُفّق الأُستاذ عبد الرزّاق نوفل إلى استخراج الإعجاز العددي في القرآن، في مقارنات سليمة، وموازنات حسابية دقيقة، فقد قام بعمليّات إحصائيّة لورود الألفاظ المتناظرة، والمتقابلة، والمتضادّة، والمتناقضة، وقابلها بعضها ببعض بالعدد نفسه، أو نصيفه، أو شطره، أو ما يقاربه، ممّا شكّل ثروة عدديّة تُنبِئ بالضرورة أنّ القرآن لم يستعملْها صدفة، بل بميزان، وذلك الميزان لا يمكن أنْ يكون من صُنع البشر، فهو إذن من أدلّة إعجازه(19) .

6 ـ الإعجاز الاجتماعي : إنّ المتمرّس بتأريخ الجزيرة العربية، في بدء الرسالة الإسلامية ليُبْهِر ـ حقّاً ـ بهذا التوحيد المفاجئ، والتغيير الاجتماعي العاجل، والتسخير لطاقات العرب في ظلّ القرآن حتّى جعل منهم أُمّة تَحمِل هذه الرسالة للأجيال، فتتناسى حروبها وشحنائها، وتضرب صفحاً عن عرقيّتها وعشائريّتها، لتنتظم في ظلّ الإسلام، وتهتدي بشعلة القرآن، فيفتح الله على يديها شرق الأرض وغربها، وتتسلّم مقاليد الإسلام بعد الوثنيّة، وأوّليّة التوحيد بعد الإشراك، وإذا بكيانها ينصهر بتعاليم القرآن فجأة، وهو ما يحقّق الإعجاز الاجتماعي في جملة التغيير الجذري للأعراف والتقاليد والمخلّفات.

7 ـ الإعجاز البياني : ويتمثّل بالتركيبة الخاصّة المتميّزة لألفاظ القرآن ومعانيه، وفي مجموعة العلاقات المجازية والاستعارية والتشبيهية والكنائية والرمزية والإيحائية بين المعاني والألفاظ، وذلك السرّ الأكبر في إعجاز القرآن، فالعرب أُمّة بيان، ورجال بلاغة، تطربهم الكلمة، وتهزّهم الخطبة، ويستهويهم الشعر، وقد وقفوا عند بلاغة القرآن باهتين بما عبّر عنه الوليد : (والله لقد سمعت من محمّد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمُغدِق، وإنّه ليعلو ولا يُعْلَى عليه، وما يقول هذا بشر) (20) .

والحديث عن الإعجاز البياني مستفيض ينهض بعمل مثقل مستقل، ويكفي في عظمته أنّ الإمام عليّاً عليه السلام من أوائل روّاده في الإفادة والاستفادة، وأنّ ما ورد في نهج البلاغة كان امتداداً طبيعياً للإعجاز البياني في القرآن لتأثّر الإمام في القرآن، وهذا المنهج مدين إلى علماء الإعجاز كعلي بن عيسى الرمّاني (ت : 386) (21)، وحمد بن سليمان الخطابي (ت : 388) (22)، والشريف الرضي (ت : 406) (23)، وعبد القاهر الجرجاني (ت : 471 هـ) (24)، حتى تسلّمه جار الله الزمخشري (ت : 538 هـ)، فجعل تفسيره الكشّاف مضماراً للإعجاز البياني، وفتح فيه عمق دراسة جديدة في البلاغة القرآنية التطبيقية التي اعتمدت التسلسل المصحفي، إذ فسّر القرآن كاملاً ناظراً فيه الوجوه البيانية، ومستلهماً المناخ الفنّي حتى عاد تفسيره كنزاً بيانياً لا تنتهي فرائده، وقد تجلّى فيه ما أضافه من دلالات جمالية في نظم المعاني، وما بحثه من المعاني الثانوية في تقديم العبارة، وعائدية الضمائر ومعنى المعنى، وتعلّق البيان بعضه ببعض (25) .

إنّ الحضارة الإنسانية اليوم بحاجة إلى هذا المنهج في استجلاء جمال القرآن، واستقراء خفايا مكنوناته، أمّا التعدّي على مقام القرآن ووحدته الفنّية بالإيغال في النزاعات التقليدية، والإصحار بمتاهات الخصومات، فأمْر ترفضه عقلية المثقّف العصري، وتلفظه روحية البحث الموضوعي، وحسبك في كتب الكلام ومصنّفات الاحتجاج وصنوف المقالات غنيّة عن ذلك .

فإنّ صاحب هذا المنهج في القرن العشرين هو أستاذنا العلاّمة الشيخ أمين الخولي (ت : 1966 م) حينما أنيط به تدريس التفسير والأدب معاً في الجامعة المصرية، فأتى على درس التفسير وجعله كاشفاً عن إعجاز القرآن البياني، وأوضح منهجه بذلك في مناهج تجديد، وترجمه بمحاضراته في أمثال القرآن (26) . فالقرآن كما يقول : (كتاب العربية الأكبر، وأثرها الأدبي الأعظم، فهو الكتاب الذي أخلد العربية، وحمى كيانها، وخلد معها، فصار فخرها، وزينة تراثها ... إنّ التفسير اليوم هو : الدراسة الأدبية الصحيحة المنهج، الكاملة المناحي، المتّسقة التوزيع، والمقصد الأول للتفسير أدبي محض صرف) (27) .

واتّجه لهذا المنهج كوكبة من أساتذة الجامعات في الوطن العربي غيرةً منهم على القرآن وترسيخ مبادئ إعجازه، ومن أبرزهم في هذا المضمار الدكتورة بنت الشاطئ، فأصدرت الإعجاز البياني للقرآن الكريم والتفسير البياني للقرآن الكريم.

وهناك ملحظ مهم يتعلّق بهذا المنهج، وهو الحفاظ على سلامة اللغة العربية من التدهور والضياع فهي لغة كتاب مقدّس، والحفاظ عليها يرتبط بالحفاظ على هذا الكتاب تاريخيّاً، وهذا التاريخ المشترك يمثّل مظهراً اجتماعياً مركزياً متلازماً، فالتقصير في جانب يطبع أثره على الجانب الآخر، وقد مرّت اللغة العربية بظروف وبيئات مختلفة، خضعت معها إلى عوامل اللهجات المتباينة، وامتزجت بها ثقافة اللغة الأخرى، وتطوّر من مفرداتها ما تطوّر، وبقي ما بقي، وهذه عوامل كان من الممكن أنْ تخضع اللغة معها إلى كثير من التبدّل والتغيير، وأنْ تتعرّض مفرداتها للنسخ أو التجوّز، ومع هذا فقد بقيت هذه اللغة سليمة لم تتأثّر بعوامل الانحطاط والضعف، ولم تتلكّأ مسيرتها التاريخية بوهن أو خور، وسبب هذا البقاء والسيرورة يرجع إلى بيان القرآن، والدفاع عن القرآن، وصيانة لغة القرآن، ففي الوقت الذي تتجاوز فيه هذه اللغة موطنها الأصلي، ويمتد سلطانها إلى أرجاء فسيحة من العالم، فإنّها تبقى متميّزة بمناخ الصحراء لهجة، وبطابع البداوة مصدراً ؛ لأنّها اللغة الرسمية للقرآن، وهو لا يتهاون في قدسيّة لغته، ولا يجد عنها منصرفاً، فارتبط وجودها بوجوده، واستمرار رقيّها باستمراره، ولم يداهمها الفناء أو الاضمحلال أو التقلّب، في حين تنطوي به الأمم ولغاتها، وتتلاشى الشعوب وتراثها، بينما تطوي العربية أمدها الطويل سليمة متناسقة تتسنّم مدارج الخلود، وتناطح هجمات الدهر .

ولمّا كان القرآن الكريم معجزة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم الخالدة، وهو مرقوم بهذه اللغة الشريفة، فالخلود ملازم لهما رغم عادية الزمن، وهذا أمر يدعو إلى الاطمئنان على سلامة اللغة، وأصالة منبتها، وهنا يتجلّى أثر تيسير القرآن وفهمه بيانياً بالكشف عن الأسرار، فهو يشدّ إليه الباحث شدّاً، دون عسر أو عناء، وبكل يسر وسماح .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

ـــــــــــــــــــ

(1) يس : 36 .

(2) آل عمران : 59 .

(3) ظ : مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية : 130 .

(4) الكليني، الأصول من الكافي : 1 / 24 .

(5) الأعراف : 120 ـ 122 .

(6) الحاقة : 44 ـ 46 .

(7) النجم : 3 ـ 4 .

(8) الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق السندوبي : 120 .

(9) البقرة : 23 .

(10) الكوثر : 1 ـ 3 .

(11) الإسراء : 88 .

(12) ظ : عبد الكريم الخطيب، الإعجاز في دراسات السابقين : 176 ـ 178 .

(13) القمر : 45 .

(14) الروم : 1 ـ 3 .

(15) الفتح : 27 .

(16) ظ : للتفصيل : الخوئي، البيان في تفسير القرآن : 68 وما بعدها .

(17) للتفصيل في الإعجاز العلمي ظ : طنطاوي جوهري : تفسير الجواهر .

(18) لتفاصيل هذه النظرية ظ : بحثنا : الصوت اللغوي في فواتح السور القرآنية .

(19) ظ : عبد الرزاق نوفل، الإعجاز العددي في القرآن الكريم .

(20) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن : 19 / 72 .

(21) ظ : النكث في إعجاز القرآن .

(22) ظ : بيان القرآن .

(23) ظ : تلخيص البيان في مجازات القرآن .

(24) ظ : أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز .

(25) ظ : المؤلف ـ المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم : 104 .

(26) ظ : أمين الخولي ـ مناهج تجديد في التفسير والأدب والنحو + محاضرات في أمثال القرآن ـ مخطوطة في حوزة الدكتور مصطفى ناصف .

(27) أمين الخولي ـ دائرة المعارف الإسلامية، مادة تفسير : 366 ـ 367 .

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=832
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 11 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28