• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : قصص الأنبياء (ع) .
                    • الموضوع : قصة النبي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق (ع) ( القسم الاول ) .

قصة النبي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق (ع) ( القسم الاول )

مقدمة:

ورد اسم إبراهيم (ع) في 69 موضعا من القرآن الكريم تحدثت عنه آيات تتوزع بين خمسة وعشرين سورة. والقرآن يثني كثيرا على هذا النبي الكريم ويذكره بصفات جليلة عظيمة.

إنه قدوة وأسوة في كل المجالات، ونموذج للإنسان الكامل.

مكانته في سلم معرفة الله... ومنطقه الصريح أمام عبدة الأوثان... ونضاله المرير ضد الجبابرة... وتضحياته على طريق الله، وصموده الغريب أمام عواصف الحوادث والاختبارات الصعبة... كل واحدة من هذه الصفات تشكل النموذج الأعلى للسائرين على طريق التوحيد.

إبراهيم كما يصفه القرآن من ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾، ومن ﴿الصَّالِحِينَ﴾، ومن ﴿الْقَانِتِينَ﴾، ومن ﴿الصِّدِّيقِينَ﴾، ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾، و﴿إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾، ذو سخاء عظيم وشجاعة منقطعة النظير.

حياة إبراهيم المليئة بالأحداث:

ونستطيع أن نقسم مراحل حياته الشريفة إلى ثلاث فترات:

1 - فترة ما قبل النبوة.

2 - فترة نبوته ومحاربته للأصنام في بابل.

3 - فترة الهجرة من بابل وتجواله في أرض مصر وفلسطين ومكة.

ولادته وطفولته:

ولد إبراهيم (ع) في أرض "بابل" التي كانت من بلدان العالم المهمة، وتحكمها حكومة قوية وجائرة، وفتح عينيه على العالم في الوقت الذي كان نمرود بن كنعان الملك الجبار الظالم يحكم أرض بابل ويعتبر نفسه الرب الأعلى.

بالطبع لم يكن للناس في ذلك الوقت هذا الصنم فقط، بل كانت لهم أصنام مختلفة يعبدونها ويتقربون إليها.

الدولة في ذلك الوقت كانت تدافع بقوة عن الأصنام، لأنها الوسيلة المؤثرة في تحذير وتسخيف المجتمع، بحيث لو صدرت أي إهانة من أحد إتجاهه يعتبرونها خيانة عظيمة.

وقد نقل المؤرخون قصة عجيبة حول ولادة إبراهيم (ع) و خلاصتها هي: توقع المنجمون إنه سوف يولد شخص ويحارب نمرود بكل قوة، ولذلك فقد سعى جاهدا لأن يوقف ولادة هذا الشخص أو أن يقتله حين ولادته، إلا إنه لم يتمكن من ذلك وولد المولد.

واستطاعت أمه أن تحفظه عبر تربيته في زوايا الغار القريب من مولده، بالشكل الذي أمضى ثلاثة عشر عاما هناك.

وفي النهاية وبعد أن ترعرع في مخفاه بعيدا عن أنظار شرطة نمرود، ووصل إلى سن الشباب، صمم على الخروج منه والنزول إلى المجتمع ليشرح لهم دروس التوحيد التي إستلهمها من دخيلة نفسه وتأملاته الفكرية.

نبوة إبراهيم (ع)

ليس عندنا دليل واضح على عمر إبراهيم (ع) حينما تقلد مقام النبوة، ولكن نستفيد من سورة مريم، أنه أثناء محاورته لعمه كان من الأنبياء، حيث يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا / إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا﴾.

ونعلم أن هذه الحادثة كانت قبل إلقائه في النار، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ما قاله بعض المؤرخين من أن عمره أثناء إلقاءه في النار كان 16 عاما سوف يثبت لدينا أنه تحمل أعباء الرسالة منذ صباه.

خمس صفات بارزة

يتحدث القرآن الكريم عن مصداق كامل للعبد الشكور لله، ألا وهو "إبراهيم" بطل التوحيد.

ويشير إلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها إبراهيم (ع).

1- ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾.

وقد ذكر أسبابا كثيرة للتعبير عن إبراهيم (ع) بأنه "أمة" وأهمها أربع:

الأول: كان لإبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أمة بذاته، وشعاع شخصية الإنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أمة بكاملها.

الثاني: كان إبراهيم (ع) قائدا وقدوة حسنة ومعلما كبيرا لإنسانية، ولذلك أطلق عليه ﴿أُمَّةً﴾ لأن (أمة) اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.

الثالث: كان إبراهيم (ع) موحدا في محيط خال من أي موحد، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه (أمة) في قبال أمة المشركين "الذين حوة".

الرابع: كان إبراهيم (ع) منبعا لوجود أمة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة "أمة".

نعم فقد كان إبراهيم أمة وكان إماما عظيما، وكان رجلا صانع أمة، وكان مناديا بالتوحيد وسط بيئة إجتماعية خالية من أي موحد.

1- صفته الثانية: أنه كان ﴿قَانِتًا لِلّهِ﴾.

2- وكان دائما على الصراط المستقيم سائرا على طريق الله، طريق الحق ﴿حَنِيفًا﴾.

3- ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بل كان نور الله يملأ كل حياته وفكرة، ويشغل كل زوايا قلبه.

4- وبعد كل هذه الصفات، فقد كان ﴿شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ﴾.

وبعد عرض الصفات الخمسة يبين القرآن الكريم النتائج المهمة لها، فيقول:

1- ﴿اجْتَبَاهُ﴾ للنبوة وإبلاغ دعوته.

2- ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وحفظه من كل انحراف، لأن الهداية لا تأتي لأحد عبثا، بل لابد من توفر الاستعداد والأهلية لذلك.

3- ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً﴾. "الحسنة" في معناها العام كل خير وإحسان، من قبيل منح مقام النبوة مرورا بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.

4- ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

5- وختمت عطايا الله عز وجل لإبراهيم (ع) لما ظهر منه من صفات متكاملة بأن جعل دينه عاما وشاملا لكل ما سيأتي بعده من زمان – وخصوصا للمسلمين – ولم يجعل دينه مختصا بعصر أهل زمانه، فقال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾.

أسوه للجميع:

إن منهج القرآن "من أجل التأكيد على تعاليمه القيمة" يعتمد في كثير من الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة، وبعد التشديد السابق الذي مر بنا في تجنب عقد الولاء لأعداء الله، يتحدث القرآن الكريم عن إبراهيم (ع) ومنهجه القدوة كنموذج.

رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصا العرب منهم.

قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾.

إن حياة إبراهيم (ع) الذي هو كبير الأنبياء، تلهمنا دروس العبود لله، والطاعة والجهاد في سبيله، والوله والحب لذاته المقدسة، إن هذا النبي العظيم الذي كانت الأمة الإسلامية من بركة دعائه، وهي معتزة بالتسمية التي أطلقها عليهم،هو لكم اسوه حسنة في هذا المجال.

والمراد من تعبير ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلة عددهم.

وجاء في التواريخ أيضا أن جماعة في "بابل" آمنوا بإبراهيم (ع) بعد مشاهدة المعاجز التي ظهرت على يديه، وصاحبوه في الهجرة.

ذرية صالحة:

القرآن الكريم يشير إلى النعم التي أسبغها الله على إبراهيم، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة، وهي من النعم الإلهية العظيمة.

يقول سبحانه: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ولم تذكر الآية ابن إبراهيم الآخر إسماعيل، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية، ولعل السبب يعود الى أن ولادة إسحاق من "سارة" العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.

ثم بين إن مكانة هذين لم تكن لمجرد كونهما ولدي نبي، بل لإشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح: ﴿كُلاًّ هَدَيْنَا﴾.

ثم لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إبراهيم، وأن التوحيد بدأ بإبراهيم، يقول: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾.

إننا نعلم أن نوحا هو أول أولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين وبشريعة.

فبالإشارة إلى مكانة نوح، وهو من أجداد إبراهيم، والإشارة إلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته، إنما هي توكيد لمكانة إبراهيم المتميزة من حيث "الوراثة والأصل" و "الذرية".

وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أسرة إبراهيم: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾.

الحوار مع آزر:

ثم يتطرق القرآن الكريم إلى شرح محاورته مع أبيه آزر – والأب هنا إشارة إلى العم، فإن كلمة الأب، كما قلنا سابقا، ترد أحينا في لغة العرب بمعنى الأب، وأحيانا بمعنى العم – فيقول: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا﴾. إن هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأن أحد بواعث الإنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضر والنفع، والذي يعبر عنه علماء العقائد بمسألة "دفع الضر والمحتمل". فهو يقول: لماذا تتجه إلى معبود ليس عاجزا عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إنه لا يملك أصلا القدرة على السمع و البصر. وبتعبير آخر: إن العبادة يجب أن تكون لمن له القدرة على حل المشاكل، ويدرك عباده وحاجاتهم، سميع بصير، إلا أن هذه الأصنام فاقدة لكل ذلك.

إن إبراهيم يبدأ في دعوته العامة بأبية، وذلك لأن النفوذ في الأقربين أهم وأولى، كما أن نبي الإسلام (ع) قد أمر أولا بدعوة عشيرته الأقربين.

بعد ذلك دعاه – عن طريق المنطق الواضح – إلى اتباعه، فقال: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ فإني قد وعيت أمورا كثيرة عن طريق الوحي، وأستطيع أن أقول باطمئنان: إني سوف لا أسلك طريق الظلال والخطأ، ولا أدعوك أبدا إلى هذا الطريق المعوج، فإني أرد سعادتك وفلاحك، فاقبل مني لتنجو وتخلص من العذاب وتصل بطيك هذا الصراط المستقيم إلى المحل المقصود.

ثم يعطف نظره إلى الجاني السلبي من القضية بعدما ذكر بعدها الايجابي ويشير إلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾.

من الواضح أن العبادة هنا لا تعني السجود والصلاة والصوم للشيطان، بل بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعا من العبادة.

ثم يذكره وينبه مرة أخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾.

لأرجمنك يا إبراهيم:

مرت كلمات إبراهيم (ع) التي كانت ممتزجة باللطف والمحبة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكي تتضح الحقيقة والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما. يقول القرآن الكريم: إن حرص وتحرق إبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إلى قلب آزر، بل إنه غضب لدى سماعه هذا الكلام، و ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾.

الملفت للنظر، أن آزر لم يكن راغبا حتى في أن يجري إنكار الأصنام أو مخالفتها وتحقيرها على لسانه، لا إنه قال: أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى لا تهان الأصنام! هذا أولا.

ثانيا: إنه عندما هدد إبراهيم، هدده بالرجم، ذلك التهديد المؤكد الذي يستفاد من لام ونون التوكيد الثقيلة في "لأرجمنّك" ومن المعلوم أن الرجم من أشد وأسوء أنواع القتل.

ثالثا: إنه لم يكتف بهذا التهديد المشروط، بل إنه اعتبر إبراهيم في تلك الحال وجودا لا يحتمل، وقال له ﴿اهجرني مليا﴾ أي ابتعد عني دائما، وإلى الأبد. وهذا التعبير المحقر جدا لا يستخدمه إلا الأشخاص الأجلاف والقساة ضد مخالفيهم.

لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدة وقف بكل سمو وعظمة، و ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾.

إن هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع، وأن إبراهيم بقوله: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ وما يأتي بعده منكلام يقصد ترك آزر. ويمكن أن يكون سلاما يقال لفض النزاع، كما نقرأ ذلك في سورة القصص: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾.

ثم أضاف: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾. إن إبراهيم في الواقع قابل خشونة تهديد آزر بالعكس، ووعده بالإستغفار وطلب مغفرة الله له.

ثم يقول: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أي الأصنام ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا﴾.

تبين هذه الآية من جهة أدب إبراهيم في مقابل آزر الذي قال: "اهجرني" فقبل إبراهيم ذلك. ومن جهة أخرى فإنها تبين حزمه في عقيدته، فإن ابتعادي هذا عنك لم يكن من أجل حيادي عن اعتقادي الراسخ بالتوحيد، بل لأنك لا تملك الأهلية لتقبل الحق، ولذلك فإني سأثبت على اعتقادي.

ويقول بصورة ضمنية بأني إذا دعوت ربي فإنه سيجيب دعوتي، أما أنتم المساكين الذين تدعون من هو أكثر مسكنة منكم، فلا يستجاب دعاؤكم مطلقا، بل ولا يسمع كلامكم أبدا.

لقد وفى إبراهيم بقوله، وثبت على عقيدته بكل صلابة وصمود، وكان دائما ينادي بالتوحيد، بالرغم من أن كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف ضده وثار عليه، إلا إنه لم يبق وحده في النهاية، فقد وجد أتباعا كثيرين على مر القرون والأعصار، بحيث إن كل الموحدين وعباد الله في العالم يفتخرون بوجوده.

أدلة التوحيد في السموات:

على أثر الكرة الذي كان يحمل إبراهيم للأوثان وطلبة من آزر أن يترك عبادة الأصنام، يشير سبحانه إلى نضال إبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة الأصنام، ويبين كيفية توصله إلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي الواضح.

يبين أولا أن الله كما عرف إبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرفه على مالكية الله وسلطته المطلقة على السماوات والأرض: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.

لاشك أن إبراهيم كان موقنا يقينا استدلاليا وفطريا بوحدانية الله، ولكنه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حد الكمال، كما أنه كان مؤمنا بالمعابد ويوم القيامة، ولكنه بمشاهدة الطيور المذبوحة التي عادت إليها الحياة بلغ إيمانه مرحلة ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾.

الآيات التالية تشرح هذا المعنى، وتبين استدلال إبراهيم من أفول الكواكب والشمس على عدم إلوهيتها، فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كله، ظهر أمام بصره كوكب لامع، فنادى إبراهيم: هذا ربي! ولكنه إذ رآه يغرب، قال: لا أحبّ الذين يغربون: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾.

ومرة أخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص القمر الفضي ذو الإشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء، فصاح ثانية: هذا ربي: ولكن مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأفق.

هنا قال إبراهيم: إذا لم يرشدني ربي إلى الطريق الموصل إليه فسأكون في عداد التائهين ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾.

عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هاربا من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتطل بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء، وما أن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح: هذا ربي فإنه أكبر وأقوى ضوءا، ولكنه إذا رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلا: يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.

الآن بعد أن عرفت أن وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إلها قادرا وحاكما على نظام الكائنات، فاني أنجه إلى الذي خلق السماوات والأرض، وفي إيماني هذا لن أشرك به أحدا، فاني موحد ولست مشركا: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

وبشأن تعيين الكوكب الذي رآه إبراهيم، مذاهب شتى، غير أن المعظم يراه "الزهرة" أو "المشتري" ويذكر التأريخ أن القدامى كانوا يعبدون هذين الكوكبين من بين آلهتهم، أما الحديث المنقول عن الإمام الرضا (ع) فيقول: إن ذلك الكوكب كان "الزهرة"، وهذا ما جاء أيضا في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (ع).

الدعوة للتوحيد:

﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

ثم يذكر إبراهيم (ع) أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبين في تعابير مختلفة يتضمن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أولا: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾.

هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح.. الأصنام التي ليس لها إرادة، ولا عقل، وهي فاقدة لكل شيء، بحيث إن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة "عبادة الأوثان" ثم يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنكم تكذبون ونضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾.

فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.

ثم يبين الدليل الثالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إما لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في "الأخرى" وكلا الهدفين باطل... وذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾.

وأنتم تعتقدون بأن هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو الله، فالذي يتكفل بالرزق هو الله ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾.

ولأنه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾.

وبتعبير آخر، فإن واحدا من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر للمنعم الحقيقي، وتعرفون إن المنعم الحقيقي هو الله، فالشكر والعبادة يختصان – أيضا- بذاته المقدسة. وإذ كنتم تبتغون الدار الأخرى فإنه ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.

فالأصنام لا تصنع شيئا هنا ولا هناك!.

وبهذا الأدلة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثم يلتفت إبراهيم (ع) مهدد لهم ومبديا عدم إكتراثه بهم قائلا: ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ سواء استجاب له قومه، أو لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!

وجدنا آبائنا كذلك يفعلون:

فأجابوه مباشرة ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾! وهذا التعبير يدل على أنهم يحسوا بالخجل من عملهم هذا، بل يفتخرون به، إذا كان كافيا أن يجيبوه: نعبد أصناما، إلا أنهم أضافوا هذه العبارة: ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾!

وعلى كل حال، فإن إبراهيم لما سمع كلامهم رشقهم بنبال الإشكال والإعتراض بشدة، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق، فـ ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ / أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾؟!

إلا أن عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائما، فـ ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.

وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردوا به على إبراهيم (ع)، وهو جواب دليل بطلانه كامن فيه، وليس أي عاقل يجيز لنفسه أن يقفوا أثر غيره ويصم أذنيه ويغمض عينيه، ولا سيما أن تجارب الخلف أكثر من السلف عادة، ولا يوجد دليل على تقليدهم الأعمى!..

مخطط إبراهيم الرائع:

يتحدث القرآن عن قصة تحطيم إبراهيم للأصنام، والموقف الشديد الذي اتخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم.

ومن أجل أن يثبت إبراهيم جدية هذه المسألة، وأنه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود، وأنه يتقبل كل ما يترتب على ذلك بكل وجوده، أضاف: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾.

وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأني سأستغل في النهاية فرصة مناسبة وأحطم هذه الأصنام!

إلا أن عظمة وهيبة الأصنام في نفوسهم ربما كانت قد بلغت حدا لم يأخذوا معه كلام إبراهيم مأخذ الجد، ولم يظهروا رد فعل تجاهه، وربما ظنوا بأن أي إنسان لا يسمح لنفسه أن يهزأ ويسخر من مقدسات قوم تدعم حكومتهم تلك المقدسات تماما، بأية جرأة؟ وبأية قوة؟!

ومن هنا يتضح أن ما قاله بعض من أن هذه الجملة قد قالها إبراهيم سرا في نفسه، أو بينها لبعض بصورة خاصة لا جاعي له، خاصة وأنه مخالف تماما لظاهر القرآن إضافة إلى أننا سنقرأ بعد أن عباد الأصنام قد تذكروا قول إبراهيم، وقالوا: سمعنا فتى كان يتحدث عن مؤامرة ضد الأصنام.

على كل حال، فإن إبراهيم نفذ خطته في يوم كان معبد الأوثان خاليا من الناس ولم يكن أحد من الوثنيين حاضرا.

إن عبدة الأوثان كانوا قد اتخذوا يوما خاصا من كل سنة عيدا لأصنامهم، وكلنوا يحضرون الأطعمة عند أصنامهم في المعبد في ذلك اليوم، ثم يخرجون من المدينة أفواجا، وكانوا يرجعون في آخر النهار، فيأتون إلى المعبد ليأكلوا من ذلك الطعام الذي نالته البركة في إعتقادهم.

وبذلك خلت المدينة من سكانها، فاستغل إبراهيم (ع) هذه الفرصة الجيدة لتحطيم الأصنام، الفرصة التي كان إبراهيم ينتظرها منذ فترة طويلة، ولم يكن راغبا في إضاعتها. وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ / فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾.

وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.

بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾.

ألا تأكلون؟

وبهذه الطريقة بقي إبراهيم (ع) وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهز العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد، ثم نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئا، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه له عبدتكم، إنه غذاء دسم ولذيذ ومتنوع، مالكم لا تأكلون؟ ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾.

ثم أضاف، لم لا تتكلمون؟ لم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ﴾.

وبهذا استهزء إبراهيم (ع) بكل معتقداتهم الخرافية، ومن دون أي شك فإنه كان يعرف أنها لا تأكل ولا تتحدث، وأنها جماد. وأراد على ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.

بعد ذلك شمر عن ساعديه، فأمسك الفأس وانقض على تلك الأصنام بالضرب بكل ما لديه من قوة ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾.

على أية حال، فإن إنقضاض إبراهيم (ع) على الأصنام، حول معبد الأصنام المنظم إلى خربة موحشة، حيث لم يبق صنم على حالته الأولى، فالأيدي والأرجل المحطمة تفرقت هنا وهناك داخل المعبد، وكم كان مظهر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثرا ومؤسفا ومؤلما في نفس الوقت.

وبعد إنتهائه من تحطيم الأصنام، غادر إبراهيم- بكل هدوء وإطمئنان – معبد الأصنام عائدا إلى بيته ليعد نفسه للحوادث المقبلة، لأنه كان بعلم أن عمله بمثابة إنفجار هائل سيهز المدينة برمتها ومملكة بابل بأجمعها، وسيحدث موجة من الغضب العارم، الموجة التي سيكون إبراهيم (ع) وحيدا في وسطها إلا أن له ربا يحميه، وهذا يكفيه.

إبراهيم في محكمة النمروديين:

وأخيرا إنتهى يوم العيد، ورجع عبدة الأصنام فرحين إلى المدينة، فأتوا إلى المعبد مباشرة، حتى يظهروا ولائهم للأصنام، وليأكلوا من الأطعمة التي تبركت – بزعمهم – بمجاورة الأصنام، فما إن دخلوا المعبد حتى واجهوامنظرا أطار عقولهم من رؤوسهم، فقد وجدوا تلا من الأيادي والأرجل المكسرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور، فصاحوا و﴿قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا﴾؟! ولا ريب أن من فعل ذلك فـ ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه! لأنه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.

إلا أن جماعة منهم تذكروا ما سمعوه من إبراهيم (ع) وإزدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة! ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾.

صحيح إن إبراهيم كان شابا، وربما لم يكن سنه يتجاوز (16) عاما، وصحيح أن كل خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصراحة والحزم قد جمعت فيه، إلا أن من المسلم به أن مراد عباد الأصنام لم يكن سوى التحقير، فبدل أن يقولوا: إن إبراهيم قد فعل هذا الفعل، قالوا: إن فتى يقال له إبراهيم كان يقول كذا... أي إنه فرد مجهول تماما، ولا شخصية له في نظرهم.

إن المألوف – عادة – عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل، تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك توجهت إليه أفكار الجميع، و ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾([1]28) عليه بالجريمة.

 

فنادى المنادون في نواحي المدينة: "ليحضر كل من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام"، فإجتمع كل الذين كانوا يعلمون بالموضوع، وكذلك سائر الناس ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتهم؟

لقد حدثت ضجة وهمهمة عجيبة بين الناس، لأن هذا العمل كان في نظرهم جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شاب مثير للفتن والمتاعب، وكانت قد هزت البناء الديني للناس.

حجة إبراهيم الدامغة:

وأخيرا تشكلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد إجتمعوا هناك، يقال: إن نمرود نفسه كان مشرفا على هذه المحاكمة، وأول سؤال وجهوه إلى إبراهيم (ع) هو أن: ﴿قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾؟

هؤلاء لم يكونوا مستعدين حتى للقول: أأنت حطمت آلهتنا وجعلتها قطعا متناشرة؟ بل قالوا فقط: أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟

فأجابهم إبراهيم جوابا أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجا ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾.

إن من أسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أن آثار الجريمة كانت بادية على يد الصم الكبير، وفقا للرواية المعروفة: إن إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير!.

لماذا تأتون إلي؟ ولماذا لا تتهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنه غضب على الآلهة الصغيرة، أو إنه إعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟

إن إبراهيم (ع) قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعا، إلا أن كل القرائن تشهد أنه لم يكن جادا في قصده، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنيين الخرافية الواهية، ويفندها أمامهم، ويفهم هؤلاء أن هذه الأحجار والأخشاب التي لاحياة فيها ذليلة وعاجزة إلى حد الذي لا تستطيع أن تتكلم بجملة واحدة تستنجد بعبادها، فكيف يريدون منها أن تحل معضلاتهم؟! ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليومية، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال الطرف المقابل نضع أمامه مسلماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الإستفهام، وهذا ليس كذبا أبدا، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.

وفي رواية عن الإمام الصادق (ع) في كتاب الكافي: "إنما قال: بل فعلع كبيرهم، إرادة الإصلاح، ودلالة على أنهم لا يفعلون" ثم قال: "والله ما فعلوه وما كذب".

يقضة سرعان ما تزول:

لقد هزت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقضت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأزاح الرماد عن شعلة النار فأضاءها، وأنار فطرتهم التوحيدية من خلف حجب التعصب والجهل.

في لحظة سريعة إستيقظوا من هذا النوم العميق ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم، كما يقول القرآن: ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه، وكذلك ساحة الله واهب النعم المقدسة.

والطريف في الأمر أننا قرأنا سابقا أنهم غتهموا إبراهيم بكونه ظالما، وهنا قبلوا وإعترفوا في أنفسهم بأن الظالم الأصلي والحقيقي هو أنفسهم. وفي الواقع فإن كل مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح الصنمية، لا تحطيم الأصنام ذاتها، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيون العنودون أصناما أكبر منها وجعلوها مكانها، وتوجد أمثلة كثير لهذه المسالة في تأريخ الأقوام الجاهلين المتعصبين.

إلى الآن إستطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حساسة جدا من طريق تبليغه الرسالة، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسية هائجة.

ما هؤلاء ينطقون؟

وللأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدسة، وثارت في ضمائرهم الملوثة المظلمة قوى الشيطان والجهل ضد نور التوحيد هذا، ورجع كل شيء إلى حالته الأولى، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ﴾ ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البكم قالوا: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ﴾ فإنهم دائما صامتون، ولايحطمون حاجز الصمت. وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلة الأصنام.

وهنا فتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للإستدلال المنطقي ليوجه لهم أشد هجماته، وليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ واللوم المنطقي الواعي: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُم﴾؟

فماذا تنفع هذه الآلهة المزعومة الخيالية الي لا قدرة لها على الكلام، وليس لها شعور وإدراك، ولا تقدر أن تدافع غن نفسها، ولا تستطيع أن تحمي عبادها، ولا يصدر عنها أي عمل؟

إن عبادة معبود ما إنما يكون لأهليته للعبادة، ومثل هذا الأمر لا معنى له في شأن الأصنام الميتة، أو يعبد رجاء فائدة ونفع تعود عليهم من قبله، أو الخوف من خسارتهم، إلا أن إقدامي على تحطيم الأصنام أوضح إنها لا تملك أدنى حركة، ومع هذا الحال ألا يعتبر عملكم هذا حمقا وجهالة؟!

ووسع معلم التوحيد دائرة الكلام، وإنهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس، فقال: ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾؟ إلا إنه لم يلح في توبيخهم وتقريعهم لئلا يلجوا في عنادهم.

في الحقيقة، كان إبراهيم يتابع خطته بدقة متناهية، فأول شيء قام به عند دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا: ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ وهي لا تحس ولا تتكلم وإذا كنتم تقولون: إنها سنة آبائكم، فقد كنتم أنتم وآبائكم في ضلال مبين.

وفي المرحلة الثانية أقدم على خطة عملية ليبين أن هذه الأصنام ليست لها تلك القدرة على إهلاك كل من ينظر إليها نظرة إحتقار، خاصة وأنه ذهب إليها مع سابق إنذار وحطمها تماما، وليوضح أن تلك الأوهام التي حاكوها مجتمعين لا فائدة ولا ثمر فيها.

وفي المرحلة الثالثة أوصلهم في تلك المحكمة التاريخية إلى طريق مسدود، فمرة دخل إليهم عن طريق فطرتهم، وتارة خاطب عقولهم، وأخرى وعظم، وأحيانا وبخهم ولامهم. والخلاصة، فإن هذا المعلم الكبير قد دخل من كل الأبواب، وإستخدم كل طاقته، إلا أن من المسلم أن القابلية شرط في التأثير، وكان هذا قليل الوجود بين أولئك القوم للأسف.

ولكن لا شك أن كلمات إبراهيم (ع) وأفعاله بقيت كأرضية للتوحيد، أو على الأقل بقيت كعلامات إستفهام في أذهان أولئك، وأصبحت مقدمة ليقظة ووعي أوسع في المستقبل. ويستفاد من التواريخ أن جماعة آمنوا به، وهم وإن قلوا عددا، إلا أنهم كانوا من الأهمية بمكان، إذ هيأوا الإستعداد النسبي لفئة أخرى.

حرقوه:

مع أن عبدة الأوثان اسقط مافي أيديهم نتيجة إستدلالات إبراهيم العملية والمنطقية، وإعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة، إلا أن عنادهم وتعصبهم الشديد منعهم من قبول الحق، ولذلك فلا عجب من أن يتخذوا قرارا صارما وخطيرا في شأن إبراهيم، وهو قتل إبراهيم بأبشع صوره، أي حرقه وجعله رمادا.

هناك علاقة عكسية بين القوة والمنطق عادة، فكل من إشتدت قوته ضعف منطقه، إلا رجال الحق فإنهم كلما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعا ومنطقا.

وعندما لا يحقق المتعصبون شيئا عن طريق المنطق، فسوف يتوسلون بالقوة فورا، وقد طبقت هذه الخطة في حق إبراهيم تماما يقول القرآن الكريم: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾.

إن المتسلطين المتعنتين يستغلون نقاط الضعف النفسية لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم – عادة – لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه الحادثة، وألقوا شعارات تثير حفيظتهم، فقالوا: إن آلهتكم ومقدساتكم مههدة بالخطر، وقد سحقت سنة آبائكم وأجدادكم، فأين غيرتكم وحميتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلاء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم – إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل- ما دام فيكم عرق ينبض، ولكم قوة وقدرة.

انظروا إلى كل الناس يدافعون عن مقدساتهم، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكل مقدساتكم؟!

والخلاصة، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه الخزعبلات وأثاروا الناس ضد إبراهيم بحيث أنهم لم يكتفوا بعدة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتى صارت جبلا من الحطب ثم أشعلوه فاتقدت منه نار مهولة كأنها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السماء لينتقموا من إبراهيم أولا، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطمتها خطته وأسقطت أبهتها!!

لقد كتب المؤرخون هنا مطالب كثيرة، لا يبدوا أي منها بعيدا...

ضجيج الملائكة:

إن الناس سعوا أربعين يوما لجمع الحطب، فجمعوا منه الكثير من كل مكان، وقد وصل الأمر إلى أن النساء اللاتي كان عملهن الحياكة في البيوت، خرجن وأضفن تلا من الحطب إلى ذلك الحطب، ووصى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب، وكان المحتاجون ينذرون بأنهم يضيفون مقدارا من الحطب إذا قضيت حوائجهم، ولذلك عندما أشعلوا النار في الحطب من كل جانب إشتعلت نار عظيمة بحيث لا تسطيع الطيور أن تمر فوقها.

من البديهي أن نارا بهذه العظمة لا يمكن الإقتراب منها، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها، ومن هنا اضطروا إلى الإستعانة بالمنجنيق، فوضعوا إبراهيم عليه وألقوه في تلك النار المترامية الأطراف بحركة سريعة.

عندما وضعوا إبراهيم على المنجنيق، وأرادوا أن يلقوه في النار، ضجت السماء والأرض والملائكة، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحد البطل وزعيم الرجال الأحرار.

إن جبرئيل جاء للقاء إبراهيم، وقال له: ألك حاجة؟ فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة: "أما إليك فلا" إني أحتاج إلى من هو غني عن الجميع، ورؤوف بالجميع.

وهنا إقترح عليه جبرئيل فقال: فاسأل ربك، فأجابه: "حسبي من سؤالي علمه بحالي". ناجى إبراهيم ربه في تلك الساعة:"يا أحد يا أحد، يا صمد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، توكلت على الله".


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=740
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 10 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29