• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : المعجزة .

المعجزة

سماحة آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني

حقيقة المعجزة وخصائصها التي ينبغي أن تتوفر فيها :

لقد ذكر المتكلّمون العديد من التعاريف المختلفة للمعجزة ولكنّ التعريف الجامع الذي يمكن ذكره  في تعريفها هو: المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالدعوة والتحدي مع عدم المعارضة ومطابقته للدعوة.(1)

فقد جاء فـي هذا التعريف للمعجزة عدد من القيود نشير إليها بصورة إجماليــة.

1 ـ  خرق العادة:

إنّ المعجزة مع كونها ظاهرة خارجية تطلب لنفسها علّة خاصة، ولكنّها أبداً لا تسير حسب المنهج والطرق الاعتيادية للعلاقة بين العلّة والمعلول السائدة بين القوانين المتعارفة، بل تكون على خلاف تلك القوانين المتعارفة، فعلى سبيل المثال الحيّة الصغيرة تتحوّل وعلى أثر مرور الزمان إلى أفعى، أو أنّ المريض بسبب المعالجة والمراقبة الدائمة وتناول الدواء يبرأ من المرض ويستعيد صحته، وأنّ المياه الجوفية تستنبط من الأرض من خلال حفر القنوات والآبار العميقة أو غير العميقة، ولكن إذا حدثت تلك النتائج بدون توفر العلل الاعتيادية فلا مناص أنّها تُعدّ حينئذ أُموراً خارقة للعادة، كتحول العصا وبلحظة واحدة إلى حيّة تسعى، أو استعادة المريض صحته بمجرد أن يمسح عليه الولي بكفه، أو أن ينبع الماء بمجرد ضرب الأرض بالعصا، ولا شكّ أنّ هذه الأُمور تكون معاجز خارقة للعادة.

وبالطبع إنّه من الممكن أن يكون عمل ما خارقاً للعادة في زمان ويكون اعتيادياً في زمان آخر، فعلى سبيل المثال انّ معالجة المصابين بمرض السل وغيره من الأمراض المستعصية  لم تكن في السابق من الأُمور الاعتيادية ولكن الآن ومع تطور تكنولوجيا الطب أصبحت وإلى حد ما ذات جنبة اعتيادية، وكذلك كان الطيران والتحليق في السماء من الأُمور الخارقة للعادة ولكنّه أصبح الآن من الأُمور المتعارفة والاعتيادية، نعم أصبحت أُموراً عادية ولكن ليست خارقة للعادة، وذلك لأنّها تعتمد العلل والأسباب الطبيعية المعروفة وتستمد العون منها والحال أنّ المعجزة دائماً تكون «خارقة للعادة» سواء كان ذلك في الماضي أو في الحال، وذلك لأنّ صاحبها يعتمد العلل والأسباب الخفية.

وبعبارة أُخرى: أنّ الأُمور غير الاعتيادية من الممكن أن تتحول وبالتدريج إلى حالات اعتيادية، كمعالجة السل وبعض الأمراض المستعصية حيث كان يوصف الطبيب المعالج لها بأنّه يقوم بعمل  غير اعتيادي. ولكن العمل الصادر عن طريق المعجزة دائماً يكون غير اعتيادياً حتّى مع تطور العلم واكتشاف خفايا وجزئيات الأُمور، فإنّ علم الطب مهما تطور فانّه ستبقى عملية شفاء المرضى من خلال مسح السيد المسيح (عليه السلام) من الأُمور الخارقة للعادة، أي أنّـها كانت ولا تزال خارقة للعادة، والنكتة في ذلك كلّه أنّ الأُمور غير العادية سابقاً والعادية فعلاً كلاهما ينبعان من معين العلل الطبيعية، ولكن مع تطور العلم واكتشاف طرق حديثة ووسائل متطوّرة تخرج تلك الأُمور وبالتدريج من حالتها الغير الاعتيادية، ولكن الأمر في المعجزة يختلف عن ذلك تماماً، لأنّها دائماً تنطلق من علل غير طبيعية، وأنّ هذه العلل لا يمكن أن تكون اعتيادية، وعلى هذا الأساس تكون المعجزة دائماً أمراً غير اعتيادي.

2 ـ  دعوى النبوة:

من القيود التي ذكرت للمعجزة هي دعوى النبوة، بمعنى أنّ من يأتي بأمر خارق للعادة إنّما يطلق على فعله هذا اسم المعجزة فيما إذا اقترن عمله بادّعاء أنّه صاحب منصب إلهي من جانب اللّه سبحانه، وفي غير هذه الحالة يطلق على عمله ذلك عنوان ((الكرامة)).

إنّ الصالحين والعظماء من الأولياء قد تجري على أيديهم بعض الأفعال التي لا تنسجم مع العلل والأسباب الطبيعية العادية ولكن في نفس الوقت انّهم ليسوا بأنبياء إلهيّين ولا عملهم يُعدّ من نوع المعجزة، فهذا القرآن الكريم يحدّثنا عن السيدة مريم (عليه السلام)  بقوله:

(...كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى  لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِساب) .(2)

ويوجد بين الأُمم السابقة والأُمّة الإسلامية  الكثير من الأولياء الذين ـ ومن خلال طيّ طريق تهذيب النفس والسير والسلوك ـ استطاعوا التصرف والهيمنة على عالم التكوين فضلاً عن إخضاع بدنهم لإرادتهم واختيارهم.

3 ـ  التحدي:

إنّ الشرط الثالث للمعجزة هو أن يدعو صاحبها العالم إلى مقابلته ومنازلته لإبطال معجزته إن استطاعوا، فإذا ما تجرد العمل الخارق للعادة عن تلك الدعوة لا يُعدّ معجزة.

ومن الطبيعي انّ ادّعاء المنصب والإتيان بعمل خارق للعادة يكون ملازماً للتحدي، وذلك لأنّه إذا ادّعى فرد ما منصباً إلهياً وقام لإثبات صدق دعواه بعمل خارق للعادة، فهذا يعني انّه يقول للناس: أيّها الناس إنّ اللّه هو الذي وهبني منصب النبوة وانّي رسول من قِبَله بهذه الشريعة، وإن كنتم تشكّون في ذلك وتعتبرون ما جئت به نتاج ذهني الخاص وفكري فهلمّوا وأتوا به إن استطعتم.

4 ـ  عدم المعارضة:

إنّ الأمر الخارق للعادة إنّما يكون دليلاً على صحّة قول المدّعي إذا كان مقترناً بالإضافة إلى القيود السابقة بعدم قدرة الناس على معارضته وعجزهم عن مقابلته والإتيان بما جاء به أو إبطاله حتّى إذا اجتمع كلّ العلماء و المتخصّصين في العالم، ففي مثل هذه الحالة يطلق على عمله أنّه معجزة وإلاّ ـ إن استطاعوا المعارضة ـ يكون عمله فعلاً عاديّاً.

فلقد كانت وإلى زمن قريب عملية زراعة الأعضاء، كقرنية العين أو القلب تُعدّ من الأُمور فوق الاعتيادية، ولكن لم تمض فترة إلاّ ووجدنا الكثير من الناس قد دخلوا هذا المضمار وخرجوا منه منتصرين، ولذلك لا يطلق على هذا العمل عنوان المعجزة.

ثمّ إنّ هذا القيد من القيود المهمّة للمعجزة، ولقد أشارت إليه آيات الذكر الحكيم تارة بصورة خاصة، وأُخرى على وجه العموم.

ففي قصة موسى (عليه السلام) وفي ميدان الصراع بين الحقّ والباطل والمعجزة والسحر خاطب موسى (عليه السلام)  فرعون وملأه بقوله:

(...قَدْ جِئْناكَ بِآيَة مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى).(3)

وبما أنّ مفهوم كلام موسى (عليه السلام) انّ الآخرين عاجزون عن مواجهته وإبطال معجزته، لذلك نجد فرعون يقول في جواب كلام موسى:

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْر مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً).(4)

وكذلك نرى القرآن الكريم يذكر  بأنّ المشيئة الإلهية الحكيمة والقدرة القاهرة له سبحانه اقتضت أن يكون النصر حليف الأنبياء والرسل دائماً على مخالفيهم، يقول سبحانه:

(إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَومَ يَقُومُ الأَشْهادُ).(5)

ويقول أيضاً: (كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَويٌّ عَزِيزٌ).(6)

5 ـ  مطابقة العمل للدعوى

فيما إذا توفرت الشروط الأربعة يبقى هناك شرط آخر، وهو مطابقة العمل للدعوى، كما في إناطة قريش إيمانها بنبوّته (صلى الله عليه وآله) ، بشق القمر، وتسبيح الحصى وغير ذلك، فقام (صلى الله عليه وآله وسلم) بما اقترحوا عليه بإذن اللّه سبحانه، أمّا إذا كان عمل مدّعي النبوة مخالفاً ومكذّباً لمدعاه، فحينئذ لا يكون دليلاً على صدقه فقط بل سيكون دليلاً على كذبه وفضيحته وانّه قد افترى على اللّه كذباً، وقد أخزاه اللّه تعالى، فلو ادّعى أنّ الدليل على صدقه أنّه يشفي المرضى بمجرد المسح على جسدهم، ولكنّه بعد أن يقوم بالعمل يموت المريض أو تسوء حالته الصحية، فلا شكّ أنّه كاذب في دعواه حينئذ، وهذا ما حدّثنا به التاريخ عن مسيلمة الكذّاب حيث ينقل ابن الأثير في الكامل الحكاية التالية:

أتته امرأة فقالت: إنّ نخلنا لسحيق، وإنّ آبارنا لجُرُزٌ(مجدبة) فادعُ اللّه لمائنا ونخلنا كما دعا محمّد (صلى الله عليه وآله) لأهل زمانه ... ففعل مسيلمة ذلك فغار ماء الآبار ويبس النخل.

وقال له نهار: أمرّ يدك على أولاد بني حنيفة مثل محمد، ففعل وأمرّ يده على رؤوسهم وحنّكهم فقرع كلُّ صبيّ مسح رأسه، ولثغ كلّ صبيّ حنّكه(7) (8) .

الطرق التي يجب اعتمادها للتمييز بين المعجزة والسحر:

للتمييز بين هذين الفعلين الخارقين للعادة هناك  العديد من الأساليب والطرق التي بمجموعها تكون عاملاً مساعداً في حلّ هذه العقدة وحصول الاطمئنان  في النفس.

1 ـ إنّ عمل المرتاضين والسحرة إنّما هو نتيجة مباشرة للتعليم والتمرين، فهؤلاء وفي ظلّ التعليم والتمارين المستمرة يصلون إلى القدرة على القيام بتلك الأفعال، حيث إنّ السحر والشعبذة لها أُصولها الخاصة وطرقها المعروفة القابلة للتعلّم والإدراك بحيث إذا لم يطو الساحر تلك الدورة التعليمية فإنّه لا يختلف حينئذ مع أي إنسان آخر، والحال أنّ الأنبياء ومن خلال دراسة تاريخ حياتهم لم يخضعوا لأي سابقة تدريسية ولم يتعلّموا على يد أحد من الناس،  بل أنّ جميع أعمالهم إبداعية وغير مسبوقة بمقدّمات خاصة وهذا ما يشهد به تاريخ حياتهم كما قلنا. فهذا النبي موسى بن عمران (عليه السلام)  نال مقام النبوة وبعث رسولاً وزوّد بالمعجزة الإلهية «العصا».(9) في طريق عودته من مدين إلى مصر، ومن الواضح أنّه لم يكن يفكّر ولم يتصوّر تلك الأُمور.

و السيد المسيح قد جاء بالمعجزات العجيبة والمحيّرة للعقول كإحياء الموتى وشفاء المرضى«الأكمه» و«الأبرص» وغيرهم(10) من دون أن يدخل أي جامعة طبية ولم يحضر عند أي أُستاذ، ومن دون أن يمارس أي تمرين أو تجربة.

2 ـ  بما أنّ عمل المرتاضين والسحرة هو نتيجة التعليم والدراسة، لذلك نرى أنّ ما يقومون به يقبل المعارضة والمواجهة، وذلك لأنّه بإمكان بقية الأفراد النابهين وأصحاب الامتيازات الخاصة أن يتعلّموا تلك الطرق التي تعلّمها المرتاضون والسحرة ويواجهونهم من خلال نفس الطريق.

3 ـ  انّ السحرة والمرتاضين لا يتحدّون الآخرين ولا يطلبون المواجهة فيما يقومون به، وذلك لأنّهم يعلمون جيداً أنّ عملهم نتيجة التعليم والتعلّم والتمرين، وأنّ هذا الطريق مفتوح أمام جميع الناس الراغبين في سلوك ذلك الطريق، وأمّا ما يقوم به الأنبياء فإنّه مقترن ومنذ اللحظات الأُولى بالتحدي وطلب المواجهة وتعجيز الآخرين لإثبات أحقّيّتهم فيما يدّعونه، فهذا القرآن الكريم يتحدّى الجميع في الإتيان بمثل تلك المعجزة الخالدة حيث يقول سبحانه: (...لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً).(11)

وكذلك فَعَلَ النبي موسى بن عمران (عليه السلام)  حينما حقّر عمل السحرة بقوله:

(...ما جِئْتُمْ بِهِِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ ...).(12)

ولذلك نرى أنّ أوّل من آمن بموسى ـ بعد إبطال سحرهم ـ هم السحرة أنفسهم، وذلك لأنّهم علموا علماً يقينياً بأنّ ما جاء به موسى (عليه السلام) خارج عن إطار السحر وفنونه، وأنّه ينبع من قدرة عُليا وذلك لعلمهم بفنّ السحر وطرقه، وعلموا أنّ العلّة في هزيمتهم أمام موسى هو اعتمادهم على القدرة المحدودة للإنسان، والحال أنّ الأنبياء يتّكئون على القدرة اللامحدودة للّه سبحانه ويستمدون العون منها.

4 ـ بما أنّ عمل المرتاضين والسحرة معلول للتعليم والتمرين فانّه يقع في إطار خاص غير قابل للتنوع، فعلى سبيل المثال يقوم المرتاض وعلى أثر الرياضة التي يمارسها بتعطيل حركة القطار مثلاً، ولكنّه يعجز عن القيام بعمل آخر خارج عن حدود تلك الرياضة التي مارسها، والحال أنّ معاجز الأنبياء متنوّعة ومتعدّدة، وذلك لأنّها مطابقة لمقتضيات الزمان وتابعة للطلبات المختلفة للناس، ولذلك نقرأ في خصوص عصا موسى انّها تحوّلت إلى ثعبان مبين.(13)

وبضرب موسى الحجر بنفس هذه العصا انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً(14) وبضربه البحر (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فرق كَالطَّودِ العَظيم) .(15) كذلك يحدّثنا القرآن عن معجزة أُخرى لموسى (عليه السلام)  حيث يقول سبحانه: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُج بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء) .(16)

كذلك يحدّثنا في سورة الإسراءعن المعاجز التسع لموسى (عليه السلام)  حيث يقول سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آيات بَيِّنات) .(17)

كما أنّ السيد المسيح (عليه السلام) وفي المرحلة الأُولى لمواجهته لبني إسرائيل جاء بعدد من المعاجز المتنوّعة:

أـ  خلق الطير من الطين بإذنه سبحانه:

(...أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَانْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ)

ب ـ  شفاء المرضى: (وَأُبْرِئُ  الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ)

ج ـ  إحياء الموتى بإذن اللّه: (...وَأُحْيِ المَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ)

د ـ  وأُخبركم بما تدّخرون في بيوتكم: (...وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ...).(18)

ولا ريب أنّ العلّة في محدودية عمل السحرة والمرتاضين وتنوّع وشمولية عمل الأنبياء هو اتّكاء الطائفة الأُولى على القدرات البشرية المحدودة واتّكاء الطائفة الثانية على القدرة الإلهية اللا متناهية.

5 ـ  التمايز بين هدف الأنبياء وهدف السحرة، فإنّ الأنبياء (عليه السلام) إنّما يقومون بتلك الأفعال الخارقة للعادة من أجل تحقيق هدف سام، وهو تغيير المجتمع ونقله من الضلال إلى الهداية ومن الشرك والجحود إلى التوحيد وإلى الإيمان بالمعاد وإرساء أُسس المجتمع على قواعد أخلاقية سامية، والحال أنّ هدف المرتاضين والسحرة هدف مادي بحت حيث يلهثون وراء المادة وطلب المقام والمنصب والجاه.

6 ـ  كما أنّ الأنبياء يمتازون عن السحرة والمرتاضين في الهدف ـ كما قلناـ  كذلك يمتازون من جهة الروح والأخلاق والملكات النفسانية، فالأنبياء وأصحاب الكرامات أُناس عظماء وأتقياء، ولا توجد أي نقطة سوداء في تاريخ حياتهم أبداً، والحال انّ حياة السحرة والمرتاضين على خلاف ذلك تماماً.(19)

من الأُصول المسلّمة، أصل العلّية والمعلولية وأنّ كلّ موجود ممكن لا يمكن أن يصدر بدون علّة، وهذا من القوانين العقلية القطعية الشاملة والتي لا تقبل التخصيص أبداً، وحينئذ يطرح السؤال التالي: هل

المعجزة ظاهرة حدثت بلا علّة أو لا؟ وعلى القول الثاني فما هي تلك العلة؟

لا شكّ أنّ المعجزة ظاهرة  تحتاج إلى علّة وانّها لا تعتبر نقضاً لقانون العلّيّة أبداً وإن كانت خارجة عن نطاق العلل والأسباب الطبيعية المعروفة، وإنّما لها علّتها الخاصة، ولكنّ عدم وجود العلّة الطبيعية لا يستلزم عدم وجود العلّة مطلقاً.

 

نعم إنّ الذين يذهبون إلى أنّ الوجود يساوي المادة وأنّ العلل منحصرة بالعلل الطبيعية المعروفة، هؤلاء فقط  يرون أنّ المعاجز والتصديق بها يعني نقض القانون العقلي ونقض قانون العلّية والمعلولية، ومن المعلوم أنّ هذا الكلام مبني على حكم مسبق في حصر العلل بالعلل المادية فقط، فإذا ما وجدت ظاهرة من دون تلك العلل الطبيعية فانّهم يعتبرون التصديق بها نقضاً للقانون.

ويرد على هذه النظرية وهذا النحو من التفكير أوّلاً: أنّ الوجود لا يساوي المادة، بل هو أوسع منها، وعلى هذا الأساس إذا ما فقدت الظاهرة العلل الطبيعية فهذا لا يعني فقدان العلّة مطلقاً، بل أقصى ما يدلّ عليه عدم وجود العلّة المادية، ومن المعلوم أنّ فقدان الأخصّ(العلل المادية) لا يدلّ على فقدان الأعم أصل العلّة.

إذ من الممكن أن تفتقد الظاهرة العلّة المادية ولكنّها في نفس الوقت تنشأ من علّة غير مادية مجرّدة خارجة عن إطار الحسّ والتجربة.

كما يمكن الإجابة بجواب آخر وهو انّ العلل الطبيعية تنقسم إلى نوعين:

الف: علل طبيعية معروفة.

ب: علل طبيعية غير معروفة.

فإنّ مجال العلم هو كشف العلل من القسم الثاني، ولذلك إذا كانت المعجزة فاقدة للعلل الطبيعية المعروفة فلا يعني ذلك أنّها فاقدة للعلل الطبيعية مطلقاً، إذ من الممكن انّ الأنبياء يستفيدون من العلل الطبيعية غير المعروفة، وبالطبع انّ هذا مجرد احتمال لاأكثر،ويكفي في رفع الإشكال الدليل العقلي، وهذا ما سنوضحه هنا.

علّة المعجزة :

يتّضح ممّا ذكرنا أنّ المعجزة ليست ظاهرة من دون علّة وإن لم تكن علّتها ـ كالعلل الطبيعية ـ معروفة للناس، وحينئذ لابدّ من البحث لمعرفة علّة تلك الظاهرة. وفي هذا المجال هناك ثلاث فرضيات هي:

1 ـ  المعجزة معلولة للعوامل الغيبية: من الممكن أن تكون المعجزة معلولة للعوامل الغيبية من قبيل الملائكة الإلهية، بحيث حينما يطلب النبي من اللّه سبحانه عملاً خارقاً للعادة تتدخل تلك العوامل الغيبية ـ و بإذن من اللّه ـ في إنجاز ذلك العمل وتحقيق تلك المعجزة.

2 ـ  المعجزة معلولة لعوامل طبيعية غير معروفة: إنّ الفرضية الثانية تذهب إلى أنّ علل المعاجز أُمور طبيعية غير معروفة، وبما أنّ الأنبياء يتوفّرون على علم واسع وكبير وانّهم على اطّلاع بأسرار الطبيعة لذلك يستفيدون من تلك العوامل ـ غير المعروفة لدى غيرهم ـ للإتيان بالأُمور الخارقة للعادة.

3 ـ  انّ علل المعاجز  هي النفس والإرادة القوية للأنبياء (عليه السلام) : الاحتمال الثالث هو أنّ معاجز الأنبياء معلولة لنفس الأنبياء وإرادتهم القوية، وعلى هذا الأساس تكون أعمال الأنبياء والأولياء الخارقة للعادة غير معلولة للأسباب الغيبية ولا العوامل المادية والطبيعية غير المعروفة، بل تكون معلولة للنفس القوية والإرادة القطعية للأنبياء.

إذ أنّ نفوسهم (عليه السلام) وفي إطار التهذيب والتزكية وقطع العلائق المادية والتوجه والتقرب إلى مبدأ الخلق تصل إلى درجة وحدّ من الكمال والاقتدار بحيث تصبح بموجبه قادرة على التصرف بعالم الطبيعة وإخضاعه لإرادتها وتسخيره في خدمتها. كما أنّ نفوس الناس العاديين تقدر على الهيمنة والتصرف في قوى البدن المادية فكذلك نفوس الأولياء قادرة على التأثير في الموجودات الأُخرى وإخضاعها لخدمتها.(20)

المعجزة دليل على صدق دعوى القائم بها :

لقد كان الناس وعلى مرّ التاريخ يتعاملون مع معاجز الأنبياء بأنّها دليل على صدق صاحبها وانّه مبعوث من اللّه حقاً، ولذلك نجدهم يطلبون  وبلا فصل من مدّعي النبوة الإتيان بآية تدلّ على  صدق مدّعاه وتدعم رأيه، ولا ريب أنّ الآية هنا تعني المعجزة، فهاهم قوم صالح يطالبونه بالإتيان بالمعجزة لإثبات صدقه في دعواه يقول سبحانه: (ما أَنْتَ إِلاّ بَشَرٌ مثْلُنا فَأْتِ بِآيَة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ) .(21)

بل قد نجد الأنبياء أنفسهم ـ و قبل أن يطلب منهم الناس ذلك ـ يتقدّمون بالتذكير  بأنّهم يملكون دليلاً على صدق دعواهم وهو المعجزة وانّهم قادرون على الإتيان بأمر خارق للعادة، وهذا ما فعله كلّ من النبي موسى والنبي عيسى (عليهما السلام) كما  يحدّثنا القرآن الكريم عن ذلك حيث يقول سبحانه حاكياً خطاب موسى لفرعون وملئه: (حَقِيقٌ  عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَة مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ * قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَة فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقينَ) .(22)

ثمّ إنّ السيد المسيح كذلك خاطب بني إسرائيل بقوله: (...أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ...)  .(23)

ثمّ ذكر بعد ذلك معاجزه في ذيل الآية.

وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ المعجزة قد اعتبرت ـ ومنذ العصور السابقة ـ دليلاً على صدق القائم بها، وانّ الناسـ البعيدين عن الأهواء والتعصّب الأعمى ـ  يسلّمون للأنبياء بمجرد رؤيتهم المعجزة ويؤمنون بهم.

ولكن البحث المهم والذي يطرح هنا هو: هل توجد علاقة منطقية ورابطة عقلية بين المعجزة وبين ما يدّعيه النبي بنحو ينتقل العقل والفطرة إلى صدق دعوى النبي بمجرد مشاهدة المعجزة، أو أنّه لا توجد مثل تلك العلاقة المنطقية وانّ تأثير المعجزة في الواقع تأثير نفسي إقناعي فقط ، وعلى هذا الأساس لا تكون المعجزة دليلاً كافياً و برهاناً تامّاً لإقناع العلماء والمفكّرين وأصحاب العقول من الناس، بل يحتاج مثل هؤلاء إلى أن يقيم لهم النبي الدليل العقلي القاطع والبرهان الساطع على صدق مدّعاه ليتسنّى له جذبهم إلى الإيمان من خلال هذا الطريق، وأمّا المعجزة فإنّه يستخدمها في مجال هداية وإرشاد العوام من الناس الذين لا يتحلّون بدرجة عالية من الفكر والتعقّل وإنّما يكتفون بظواهر الأُمور ويذعنون بها ويعتبرونها المعيار الأساسي لتمييز الحق عن الباطل. ولقد اعتمد  النظرية الثانية ـ مؤخراً ـ أحد الكتّاب المصريين حيث قال ما هذا حاصله:لا يمكن للمعجزة أن تكون دليلاً عقلياً ولا علمياً لإثبات صدق ادّعاء صاحبها، بل هي دليل إقناعي يأتي بها الأنبياء لإقناع الناس وجذبهم إلى الدين والإيمان بالرسالة، حيث إنّ عوام الناس كلّما شاهدوا أمراً خارقاً للعادة قد صدر من إنسان فإنّهم  يقعون تحت تأثير ذلك الفعل ويمدّون لصاحبه يد الطاعة والخضوع، والحال انّه لا توجد أيّ علاقة منطقية بين صدور المعجزة وصدق القائم بها. ولذلك ينبغي على الذين يدّعون أنّ المعجزة دليل على حقّانية الدعوى أن يثبتوا وجود العلاقة المنطقية بين القضيتين، وفي غير هذه الحالة فإنّ ادّعاءهم لا يخرج من كونه مجرّد ادّعاء، بل هو شبيه من يدّعي أنّ قيام الطبيب بعملية زراعة القلب ـ و لأوّل مرّة ـ دليل على نبوّته. (24) ومن هذا المنطلق تكون مهمة الأنبياء حينئذ إقامة الدليل والبرهان للعلماء والمفكّرين من أجل إقناعهم وإرشادهم واعتماد منهج الإتيان بالمعجزة لإقناع وجذب العوام من الناس.

ويرد على هذه النظرية بجوابين هما:

الجواب الأوّل: أنّ هذه النظرية  تحكي عن جهل صاحبها بكيفية دلالة المعجزة على صدق دعوى القائم بها. ولذلك نراه قد اعتبر المعجزة  من الأدلّة الإقناعية لا البرهانية.

والحال أنّ الأمر على عكس ذلك تماماً، فإنّ دلالة المعجزة على صدق مدّعي النبوّة دلالة برهانية، وذلك بالبيان التالي:

إنّ هذا البرهان  يعتمد على أصل مسلّم، وهو أنّ اللّه حكيم، والحكيم لا ينقض غرضه، وبالالتفات إلى هذا الأصل يظهر لنا وبجلاء أنّ المعجزة دليل برهاني على صدق دعوى النبوة.

إنّ مدّعي النبوّة الذي يتحلّى بتاريخ مشرق وسابقة نزيهة، إذ لم يخطو ـ طوال عمره ـ و لو خطوة واحدة على خلاف الأُصول الأخلاقية والطريق القويم، فإذا ما قام هكذا إنسان ـ مع كلّ تلك الشروط ـ بأمر خارق للعادة حيّر فيه عقول الناس، فلا ريب أنّه سوف يجذب إليه قطاعات المجتمع بدرجة عالية جدّاً قد تصل إلى مائة بالمائة ولا كلام في ذلك.

وأمّا إذا كان مدّعي النبوة كاذباً ومنحرفاً في تصرفاته وأخلاقه، فلا شكّ حينئذ أنّ الحكمة الإلهية تقتضي ـ و منذ اللحظات الأُولى ـ عدم منح تلك القدرة و الطاقة لمثل هكذا إنسان، لأنّ ذلك من قبيل نقض الغرض المنافي لحكمة بعث الأنبياء.

فكلّما كان مدّعي  النبوة ذا تاريخ مظلم وكانت رسالته المدعاة مناقضة للعقل والفطرة، فحينئذ يكون سلوكه الاجتماعي ومحتوى رسالته شاهدين على كذب مدّعاه، ولا يمكن له والحال هذه أن يجذب إليه عوام الناس فضلاً عن علمائهم، لأنّه يحمل شهادة بطلان دعوته معه.

وأمّا إذا كان تاريخ حياته مشرقاً  وكانت رسالته ساطعة ونيّرة تنسجم مع العقل والفطرة وبالإضافة إلى هذين الأمرين يمتلك نقطة قوّة أُخرى وهي الإتيان بالمعجزة المحيّرة للعقول، فحينئذ فإن كان صادقاً فهذا يكون سبباً لتأمين غرض الرسالة، وإن لم يكن صادقاً فلا شكّ  انّه ينافي الغرض من البعثة، وحينئذ يجب وبمقتضى الحكمة أن لا يزود هذا الإنسان بتلك القدرة منذ اللحظات الأُولى، وذلك لأنّ هذه القدرة والقوّة ستكون سبباً لتوجّه الناس نحو الفرد  الكاذب، ولا ريب أنّ التوجّه نحو الإنسان الكاذب يكون مضاداً لهداية الناس وإرشادهم الذي هو غرض البعثة.

وبعبارة أُخرى: أنّ العلاقة بين الدليل والمدلول تارة تكون علاقة خاصة مثلاً: أنّ العقل يحكم بوجود العلاقة المباشرة بين النظم ودخالة العقل والشعور في ذلك النظم، وكذلك برهان الإمكان فإنّه يحكم بالملازمة القطعية بين وجود الممكن واستناده إلى الواجب، ففي هذين الموردين وغيرهما من الموارد تكون العلاقة بين الدليل والمدلول علاقة خاصة ومستقيمة، وهذه العلاقة غير موجودة في غير ذلك من الأدلّة والنسب.

وتارة تكون العلاقة بين الدليل والمدلول علاقة عامّة بمعنى أنّه يقع عدد من القضايا الكثيرة تحت إطار دليل ما وهذه القضايا تثبت بصورة عامّة وإن كانت كلّ واحدة من هذه القضايا في حدّ ذاتها لها دليل خاص بها، فعلى سبيل المثال كلّما أثبتنا صدق إنسان بعد تعرضه لاختبارات كثيرة ثمّ إنّ هذا الإنسان أخبر بقضايا مختلفة فإنّنا حينئذ نعلم بصدق كلامه في جميع تلك القضايا علماً شخصياً ولكن في نفس الوقت لا مانع من أن يكون لكلّ قضية دليلها الخاص، فمثلاً لو أخبر عن قضايا بعضها تتعلّق بالحقل الاجتماعي وأُخرى في الأُمور الطبيعية وثالثة بالمسائل الكيمياوية وغير ذلك، فنحن ولا ريب انطلاقاً من كونه صادقاً نذعن بكلامه ونصدق خبره، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون لكلّ واحدة من تلك القضايا دليلها الخاص الذي يثبت صدقها عن طريق الحس والتجربة أو العقل.

إنّ مسألة كون اللّه حكيماً يُعدّ برهاناً كلياً على صدق ما يدّعيه الأنبياء في الأُصول والفروع، وانّ ما يدّعونه ليس مخالفاً للواقع بشهادة أنّهم قد زوّدوا بالمعجزة، والحكيم لايمنح المعجزة ـ مطلقاً ـ للإنسان الكاذب، إذاً نحن بإمكاننا أن نثبت صدق جميع المسائل الشرعية من خلال هذا الطريق، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون لتلك المسائل والقضايا طريق آخر لإثبات صدقها كالطريق النظري والعلمي.

ولقد أشارت آيات الذكر الحكيم إلى هذا البرهان، كما أشار سبحانه وتعالى إلى صدق النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله:

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأَقاوِيلِ * لأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثَمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحْد عَنْهُ حاجِزينَ).(25)

فالآية تحكي لنا حقيقة جليّة، وهي أنّ النبيّ إذا نسب إلى اللّه شيئاً على خلاف الواقع (كذباً) فانّه وطبقاً لمفاد الآية الكريمة سيتعرض لأشدّ العقوبات التي تصل إلى حدّ قطع الوتين الذي هو كناية عن الموت والقتل، لماذا؟ وما هي الميزة التي يمتاز بها النبي عن الآخرين بحيث يتعامل معه اللّه بهذه الصرامة، إذ نجد الآلاف من الناس الذين يكذبون على اللّه سبحانه ولكنّهم لم يتعرضوا لما تعرض له الرسول من التهديد حيث إنّهم يبقون على قيد الحياة لسنين طويلة رغم كذبهم؟

الجواب: هو أنّ جميع شروط انجذاب الناس نحو الرسول متوفرة في شخص الرسول فبالإضافة إلى سوابقه اللامعة وتاريخه النيّر إنّه يمتلك معجزة خالدة توفر الأرضية اللازمة لانجذاب الناس نحوه،  وفي هذه الصورة لابدّ أن يكون صادقاً في قوله، وإلاّ فإنّ مقتضى الإرادة الحكيمة للّه سبحانه سلب هذه القدرة منه لكي لا تكون وسيلة لإضلال الناس وانحرافهم عن جادة الصواب. وعلى هذا الأساس فالآية لا تتحدث عن كلّ إنسان يكذب على اللّه سبحانه لكي تثبت من خلال هذا الطريق نبوة كلّ مدّعي النبوة، بل تتحدّث عن أمثال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي توفّرت  فيه جميع عوامل الجذب، فإنّ هكذا إنسان ـ لو فرضنا جدلاً ـ حينما يكذب على اللّه سبحانه، فإنّه سيواجه الغضب والسخط الإلهي.

إنّ القرآن الكريم حينما يتحدّث عن معاجز الأنبياء نجده يصفها بالكلمات التالية «البيّنة» و «الآية» و البيّنة لغة تعني وضوح الشيء، و«الآية» بمعنى علامة الحقيقة والواقع، وهذا إنّما يتمّ في صورة ما إذا كانت العلاقة بين المعجزة ودعوى النبوة علاقة منطقية وحقيقية لا مجازية وصورية. وعلى هذا الأساس لامناص من القول: إنّ علاقة ورابطة معجزات الأنبياء بما يدّعونه علاقة ورابطة منطقية.

الجواب الثاني: إنّ الأنبياء يدّعون أنّهم تُنزّل عليهم ملائكة الوحي وأنّهم يرونهم ويسمعون نداء الغيب، وحسب الاصطلاح أنّهم يدركون إدراكاً خاصاً يطلق عليه عنوان الوحي، وهذا الإدراك ليس من سنخ الإدراكات الحسيّة والعقلية للإنسان حيث يدّعي الأنبياء أنّهم زوّدوا بسلسلة من الإدراكات الخاصة بهم فقط والتي لم تمنح لغيرهم مكّنتهم من مشاهدة الصور الغيبية وسماع أصوات ماوراء الطبيعة.

وحينئذ يرتفع صوت المعترضين عالياً بالاحتجاج عليهم بما يلي:

إذا كنتم تدّعون انّكم تملكون إدراكاً غيبياً وأنّ ذلك الأمر خاص  بكم ولا يشارككم فيه غيركم، فمن أين لنا أن نعلم أنّكم صادقون فيما تدّعون؟ وما دمتم تقولون إنّ الآخرين محرومون من إدراك هذه الأُمور الغيبية وغير الطبيعية، إذاً  يجب عليكم ولإثبات صدق مدّعاكم أن تأتوا بأُمور خارقة للعادة يمكن لنا أن نراها بشرط أن لا تكون من قبيل الوحي ورؤية الملائكة التي لا يمكن للآخرين إدراكها، فأتوا بآية نراها لنشهد بصدقكم ولنطّلع على الغيب من خلال مشاهدة هذه المعاجز والأُمور الخارقة للعادة. وبعبارة أُخرى: نعلم بوجود المشابه من خلال مشابهه. من هذا المنطلق نجد أنّ الأنبياء قد زوّدوا ومنذ الوهلة الأُولى لمراحل البعثة بالمعجزة لكي يتسنّى لهم إثبات مدّعاهم من خلال ذلك الطريق.

إنّ  الذين أذعنوا بصدق النبي من خلال هذا الطريق لا ريب أنّهم سيذعنون وبصورة قهرية بجميع القضايا التي تقع في إطار العقل النظري والعقل العملي التي يسمعونها من النبي. وبعبارة أُخرى: من خلال اليقين بصدق الرسول يذعنون لتمام الشريعة مثل ذلك، كالصحفي الذي ينقل العشرات من التقارير ونحن عندنا  يقين بأنّه إنسان نزيه بعيد عن الكذب والافتراء، فإنّنا ومن خلال هذا اليقين الإجمالي يحصل لنا  العلم بجميع ما ينقله من التقارير والأخبار .

وبالطبع إنّ هذا اليقين الإجمالي بصدق كلام النبي لا يمنع أن يكون لكلامه في أُصول العقيدة وإطار العقل النظري دليل وبرهان خاص يثبت ذلك، ولذلك نجد القرآن الكريم يستعمل البرهان والاستدلال بصورة كثيرة لإثبات المعارف والمفاهيم الإسلامية ويعتمد منهج العقل في المسائل التي تتعلّق بالمبدأ والمعاد والقيادة وغير ذلك، نشير هنا إلى نماذج من ذلك:

1 ـ  في مجال إثبات وجود الخالق يقول سبحانه:

(...أَفِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ...).(26)

ويقول أيضاً: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّه لَفَسَدَتا...).(27) ثمّ إنّه يستدلّ على وجود اللّه بأنّ إنكار وجود الخالق يستلزم الخُلف والدور حيث يقول سبحانه:

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ).(28)

2 ـ  وفي مجال إبطال نظرية ألوهية المسيح يقول تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْخَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ...).(29)

3 ـ  ولإثبات لزوم وجود القيامة يقول سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرجعُونَ).(30)

ومن المعلوم أنّ في كلّ آية من الآيات المذكورة قد ورد برهان عقلي دقيق لإثبات ما ورد في نفس الآية من ادّعاء، ومن الواضح جداً انّ هذه البراهين العقلية الدقيقة والفلسفية لا يمكن أن يدركها إلاّ بعض أصحاب الاختصاص، ولكن يبقى السؤال عن تكليف بقية طبقات المجتمع بالنسبة إلى محتوى الشريعة فما هو تكليفهم ياترى؟

الجواب: كما ذكرنا سابقاً انّ تكليف عموم الناس هو الإذعان واليقين بصدق دعوى صاحب الشريعة وفي ظل هذا اليقين الإجمالي يحصل اليقين التفصيلي بتمام محتويات الشريعة.

لقد اتّضح وبصورة جليّة من خلال هذين البيانين (الجوابين) العلاقة المنطقية بين المعجزة وبين صدق مدّعي النبوة.(31)

المصادر :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

1  ـ  كشف المراد:218; و شرح تجريد القوشجي: 645.

2  ـ  آل عمران: 37.

3  ـ  طه: 47.         

4  ـ  طه: 58.

5  ـ  غافر: 51.      

6  ـ  المجادلة: 21.

7  ـ  الكامل في التاريخ:2/362، باب ذكر مسيلمة وأهل اليمامة ضمن أحداث السنة الحادية عشرة للهجرة.

8  ـ  منشور جاويد:10/280ـ 287.             

9  ـ  أُنظر القصص: 31.

10  ـ  انظر آل عمران: 29.                           

11  ـ  الإسراء: 88.

12  ـ  يونس: 81.           

13  ـ  الأعراف: 107.

14  ـ  البقرة: 60.           

15  ـ  الشعراء: 63.

16  ـ  النمل: 12.       

17  ـ  الإسراء: 101.

18  ـ  آل عمران: 49.       

19  ـ  منشور جاويد:10/311ـ 315.

20  ـ  منشور جاويد:10/291ـ 294.      

21  ـ  الشعراء: 154.

22  ـ  الأعراف:105ـ 106.     

23  ـ  آل عمران: 49.

24  ـ  منشور جاويد:10/ 302.     

25  ـ  الحاقة:44ـ 47.

26  ـ  إبراهيم: 10.  

27  ـ  الأنبياء: 22.

28  ـ  الطور: 35.       

29  ـ  المائدة: 75.

30  ـ  المؤمنون: 115.      

31  ـ  منشور جاويد:10/301ـ 308.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=634
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 07 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16