• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : دروس أخلاقية من سورة الفاتحة ( الدرس الأول ) .

دروس أخلاقية من سورة الفاتحة ( الدرس الأول )

عيسى جاسم القفّاص

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين، هذه بعض الدروس الأخلاقية من كتاب الله تعالى وكلام أهل البيت(عليهم السلام).

القرآن الكريم كتاب هداية الإنسان، وتعني الهداية أنْ يتجسد الحقُ في الإنسان في كل أبعاده، في سلوكه وصفاته وأفكاره، فعلى الإنسان أن يقف عند كل آية ليرى نوع الهداية التي جاءت من أجلها، هل هي هداية السلوك أم هداية القلب أم هداية العقل، ليستفيد منها بالشكل المطلوب، وعلى المتأمل في الآيات أن ينظر إليها بنظر الهادي المحب، دون أن يستغرق في الجانب العلمي على حساب الهدف الأساس-الهداية-، وهذا ما أكدت عليه النصوص الدينية، فالله سبحانه وتعالى عندما يريد أن يصف القرآن الكريم، يقول عنه أنه كتاب هداية {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(1)، وعندما يصفه بأنه كتاب الفرقان بين الحق والباطل فإن ذلك تعبير آخر عن الهداية {مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}(2)، لأن معنى أن يكون القرآن فرقانا بين الحق والباطل، يعني يريدك أن تسلك طريق الحق، الحق في السلوك الذي يوصل الإنسان إلى كماله، والحق في الصفات النفسية والحق في العقائد والأفكار، إذاً معنى قوله أنه كتاب الفرقان يعني أنه كتاب هداية، وكذلك وصفه ) القرآن بأنه تبيان لكل شيء) {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(3)، إذاً القرآن الكريم هو الكتاب الذي جاء من أجل تحقيق الهدف من خلق الإنسان، والهدف الذي من أجله أوجد الله هذا العبد الضعيف هو الهداية والسير على طريق الله، وهذه بعض الإشارات والوقفات الأخلاقية من سورة الفاتحة المباركة، حاولت التركيز على الأبعاد التربوية فيها لتأكيد الجانب التربوي في الإنسان:

الدرس الأول (بسم الله الرحمن الرحيم)

أول آية يبدأ بها القرآن الكريم، هي البسملة، وهي من أعظم آيات القرآن الكريم، وقد ورد عن الرضا(ع) في معنى قوله: بسم الله قال(ع): يعني أَسِمُ نفسي بسِمَةٍ من سمات الله وهى العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة (4)، واسم الله هو الاسم الجامع لجميع الصفات والأسماء، ومعنى باسم الله أي أستعين بالله على كل ما أحتاجه سواء كان قياما بفعل، أو طلب الحصول على المعرفة الصادقة، أو التوفيق للحصول على الصفات النفسية الحسنة، لأن معنى باسم الله أن كل شيء في الوجود إنما يكون باسم الله،( بمعنى أن هذا العالم كله تجليات لكمال الله)، ولا شيء في الوجود إلا وهو نازل من خزائنه،  قال تعالى {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(5)، كل فعل من الإنسان مخلوق فهو بإذن الله، وكل صفة نفسية في الإنسان مخلوقة فهي بإذن الله، والعقائد التي توجد في نفس الإنسان مخلوقة فهي بإذن الله، وهكذا كل شي، فبسم الله خلق الخلق، وبسمه يرجع، وبسمه يحي ويموت....، والدروس التي نستلهمها من هذه الآية المباركة كثيرة:

التوحيد الأفعالي: يعلمنا ربنا) في هذه الآية المباركة أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله)،  وأن كل فعل وكل عين إنما هو تجلي وظهور لأسمائه المقدسة، وكل شيء إنما كان باسم الله،  فأصل وجوده باسم الله وتحقق صفاته باسم الله ووجود أفعاله باسم الله، وهذا ما يفسر لنا قوله تعالى {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى}(6)، الله يخاطب النبي(ص) ويقول له لا تحسب أنك أنت الذي قمت بالرمي مستقلا ومن عند نفسك، كلا بل الله هو الذي رمى على يدك المباركة، هذه حقيقة عظيمة على الإنسان المؤمن أن يكتبها بقلم عقله على صفحة قلبه، فإن لها ثمارا لا تعد ولا تحصى، ومن ثمار هذه المعرفة التوحيدية:

   ‌أ-  حب الله:الإنسان بفطرته يحب المحسن المنعم؛ فمثلا عندما يرى المؤمن المحب للعلم الكتب الثمينة التي ألفها الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، ويقرؤها ويرى ما فيها من درر ثمينة تساعده على الكمال، وتفتح له الطريق للسير نحو الله، يشعر بالفطرة أنه يحب الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، فكيف به إذا رأى أن كل هذا الكون وكل صغير وكبير فيه إنما خطته يد القدرة الإلهية، وأن الإمام الخميني الذي أحبه ليس إلا مخلوقا ضعيفا أمام عظمته فكيف سيحبّه، هل سيحبه كما أحب الإمام الخميني؟ كلا سوف يحبه حبا لا يسعه كيانه، حباً يجعله ممسوسا في ذات الله كما كان أمير المؤمنين(ع)، فقد روي عن رسول الله(ص) (لا تسبوا عليا فإنه كان ممسوسا في ذات الله ) (7).

  ‌ب-  ترك الحسد: الحسد يعني تمني زوال النعمة -المادية أو المعنوية- عن الغير وتحولها إلى الحاسد، وهذا يعني الاعتراض على الله،  لأنه هو الذي أنعم على هذا الإنسان، روي عن رسول الله(ص): ( قال الله  لموسى بن عمران: يا بن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فإن الحاسد ساخط لنعمي، صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي) (8)، فلماذا يتمنى الحاسد خلاف ما يريد الله! عندما يؤمن الإنسان إيمانا حقيقيا بأن كل فعل في هذا العالم إنما هو من آثار رحمة ربه، لا يمكن أن يعترض عليها ولا يمكن أن يجد الحسد إلى قلبه طريقا.

‌ج- ترك العجب والكبر والتكبر: العجب، حسب ما ذكره العلماء رضوان الله تعالى عليهم هو: "تعظيم العمل الصالح واستكثاره والسرور والابتهاج به، والتغنج والدلال بواسطته، واعتبار الإنسان نفسه غير مقصرٍّ(9)، والكِبْر عبارة عن حالة نفسية للإنسان تجعله يترفع ويتعالى على الآخرين(10)، والتكبر إظهار هذه الحالة، إذا علم الإنسان أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله وأن إيمانه إنما كان بتوفيق من الله وإعطاء منه،  وأن صفاته الحسنة إنما هي من صفات جماله وجلاله،  وهو الذي رزقه إياها، وأن كل فعل يفعله فإنه يخاطب كما يخاطب النبي(ص): {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} فيعرف أن لا شيء له من نفسه وأن كل ما يملكه إنما هو من الله سبحانه، فهل يمكن أن يعجب بنفسه أو يتكبر؟! ولذا فإن العلاج الأساسي للمتكبر والمعجب هو أن يدخل هذه الحقيقة إلى قلبه فإنها علاج لكل رذيلة.

‌د-  الشعور بعز الربوبية وذل العبودية: من أهم المعارف التي يجب على الإنسان أن يعمقها في نفسه ويكتبها على قلبه هي الشعور بالعزة المطلقة لله والصغار والذل المطلق للعبد في قبال ربه،  يقول الإمام الخميني العظيم ( من الآداب القلبية في العبادات، والوظائف الباطنية لسالك طريق الآخرة التوجّه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية، وهذا التوجّه من المنازل المهمّة في السلوك للسالك بحيث تكون قوّة سلوك كل من السالكين بحسب قوة هذا النظر وبمقدارها، بل الكمال والنقص لإنسانية الإنسان تابع لهذا الأمر، وكلما كان النظر إلى الإنّية والأنانية ورؤية النفس وحبّها في الإنسان غالبا كان بعيدا عن كمال الإنسانية ومهجورا من مقام القرب الربوبي) (11)، ومن أهم موجبات تحصيل هذه الحالة هو الإيمان القلبي الصادق بالتوحيد الأفعالي وأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله.

استحباب بدء كل عمل بالبسملة(12)

الحسن بن علي العسكري(ع) في التفسير المنسوب إليه: عن آبائه عن علي(ع) -في حديث (أن رجلا قال له: إن رأيت أن تعرفني ذنبي الذي امتحنت به في هذا المجلس، فقال: تركك حين جلست أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، إن رسول الله(ص) حدثني عن الله  أنه قال: كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر) (13)، و عن العسكري(ع) أيضا قال: (بسم الله، أي: أستعين على أموري كلها بالله -إلى أن قال- وقال الصادق(ع): ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره بسم الله الرحمن الرحيم فيمتحنه الله بمكروه لينبه على شكر الله والثناء عليه، ويمحق وصمة تقصيره عند تركه قول: بسم الله، قال: وقال الله  لعباده: أيها الفقراء إلى رحمتي، قد ألزمتكم الحاجة إليَّ في كل حال، وذلة العبودية في كل وقت، فإليَّ فافزعوا في كل أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته، فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم: بسم الله الرحمن الرحيم، أي: أستعين على هذا الأمر بالله) (14).

وقفة مع الروايات

‌أ-  من آداب البسملة أن يُقبِلَ الإنسانُ بقلبه على الله متوجها إليه مخلصا له، لكي يتحقق الغرض الأساس من البسملة، فعن رسول الله(ص): (من حزنه أمر يتعاطاه فقال: بسم الله الرحمن الرحيم وهو مخلص لله ويقبل بقلبه...) (15)، أما حينما تكون البسملة لقلقة لسان فلن تحقق غرضها المنشود من إيصال العبد إلى غايته الحقيقية، وسوف يكون العمل أبتر أي منقطع الآخر أي لا يصل إلى غايته.

‌ب-  كل ذكر تكون قيمته بحسب ما يحمل من مضمون، وكذلك كل نص ديني، فسورة التوحيد أعظم من سورة الفتح مثلا؛ لأن مضمونها التوحيدي أرقى من مضمون سورة الفتح، والآية التي تتحدث عن التوحيد أفضل من الآية التي تتحدث عن حكم الصلاة مثلا؛ لأن التوحيد أعظم من الصلاة، بل لأجله جاءت الصلاة، وعندما نأتي إلى ذكر البسملة، نرى أنه ذكر عظيم الشأن حيث إنه يتحدث عن التوحيد، ويربط الإنسان بالله ويجعله متعلقا به دون سواه، ويريد من العبد أن يعيش حالة الارتباط بالغني المطلق في كل حالاته وسكناته، ليحبه ويخلص له، فإنَّ مَنْ أكثرَ مِنْ ذكرِ شيءٍ أحبه وأخلص له، حيث إن الإنسان إذا لم يكن ذاكرا لله فسوف يكون لا محالة ذاكرا لغيره، ذاكرا للدنيا والشهوات والذات والشهرة والمنصب والأموال...، وإذا كان ذاكرا لها فسوف يحبها ويخلص لها كل حياته وسوف تنطبع نفسه على ذلك وهذا هو الخسران المبين.

‌ج-  الاستعانة أمر ضروري في حياة الإنسان بالقدرة المطلقة والرب الغني، خصوصا في تهذيب النفس وتطهيرها؛ لأن هذا العمل أشق من الأعمال الظاهرية والمادية، فإنه طريق صعب شاق، فعلى العبد أن يستعين دائما بربه في سيره وسلوكه، وإلا فلن يتمكن من الوصول إلى شيء، يقول الإمام المقدس الخميني رضوان الله عليه (إذاً فيا أيها العزيز، فكِّر، وابحثْ عن العلاج، واعثرْ على سبيل نجاتك ووسيلة خلاصك، واستعنْ بالله أرحم الراحمين، واطلب من الذات المقدس في الليالي المظلمة، بتضرع وخضوع أن يعينك في هذا الجهاد المقدس مع النفس، لكي تتغلب إن شاء الله، وتجعل مملكة وجودك رحمانية، و تطرد منها جنود الشيطان)(16).

والحمد لله رب العالمين.

المصادر :

ـــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة:2.

(2) آل عمران:4.

(3) النحل:89.

(4) تفسير الميزان:ج1/ص22.

(5) الرعد:16.

(6) الأنفال:17.

(7) المعجم الكبير: الطبراني:ج19/148.

(8) ميزان الحكمة:ج1: باب سخط الحاسد لنعم الله.

(9) الأربعون حديثا للإمام الخميني: باب العجب.

(10) نفس المصدر: باب الكبر.

(11) الآداب المعنوية للصلاة: الفصل الأول: في التوجه إلى عز الربوبية وذل العبودية.

(12) بعض المستحبات ورد استحبابُها، ولكن لم يرد كراهةُ تركها حيث لا ملازمة بين الأمرين، وبعضها ورد فيها الأمرين معا، استحباب الفعل، وكراهة الترك مثل صلاة الليل، والبسملة من القسم الثاني.

(13) وسائل الشيعة: باب استحباب البدء بالبسملة.

(14) نفس المصدر.

(15) نفس المصدر: الحديث1.

(16) الأربعون حديثا: الحديث الأول.

 

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=578
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 06 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18