• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : بستان العائدين .

بستان العائدين

الشيخ قاسم الخزعل

قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}(1)

كنت في أحد الأيام جالسا ً في المنزل أتفكر في نفسي وفي من حولي؛ إذ بالباب تطرق.

سارعت إلى الباب لأرى من الطارق، فعندما فتحت الباب؛ وإذ بي أرى صاحبي ناصر واقف على الباب.

ناصر: سلام أخي محمد.

فأجبته : وعليكم السلام يا ناصر.

ناصر: كيف هي أحوالك يا أخي؟

أجبته بخير والحمد لله.

ناصر: أخي محمد هل أنت مشغول الآن؟

فقلت: لست مشغولاً، تفضل ماذا تريد؟

قال: أريد أن أصطحبك في نزهة إلى أحد البساتين الجميلة فهل ترغب في مصاحبتي؟

أجبته بالطبع أرغب من أجل أن أمتّع ناظري بالمناظر الجميلة، وأذهب ما في النفس من هم وغم هناك، والغاية الكبرى أنّي أصاحب أخـًا  لي في الله.

ناصر: إذاً هيا بنا نتحرك.

تحركنا وفي أثناء السير دخلنا في منطقة أرضها مكسوة بثوب أخضر، وعندها شممت رائحة الزهور لم أشتم من قبل مثلها، ورأيت على مشارفها أشجاراً كبيرة كأنّها سور أحاط بالمنطقة، وبعد مسيرٍ قليل داخل هذه المنطقة بالسيارة توقف أخي ناصر، وقال لي : انزل من السيارة.

فقلت : ولما لا نذهب بالسيارة؟

قال : كي ترى وتحس بهذا المكان أفضل مما لو كنت داخل السيارة.

نزلنا من السيارة وعند أول وطأة قدم داخل هذه المنطقة أصابتني الدهشة لما رأيته من مناظر خلابة، وحدائق نظرة، وبساتين مترامية، وأنهار جارية، وحيوانات أليفة، وبدت على وجهي الدهشة واضحة -لأنّي لم أرَ مثل هذا المكان سابقاً -عندها تبسم ناصر قائلا: وما خفي كان أعظم؟!

تحركنا داخل المنطقة حتى اقتربنا من بستان له باب مفتوح على مصراعيه فقلت لصاحبي ناصر : ما هذا البستان؟ ولمن؟ ألا يخاف صاحبه أن يدخل أحد ويعبث فيه؟

ناصر: هذا هو البستان الذي أردت أن أصطحبك إليه، وهذا البستان هو بستان العائدين، وهو من أهم البساتين التي إذا أراد الشخص أن يتخلص من أي عادة سيئة أو ذنب عظيم فما عليه إلاّ  أن يدخله، والله تعالى جعله لعباده الذين خرجوا عن ساحته بالمعاصي والذنوب، وهذا من باب رحمته الواسعة التي شملت كل شيء ووسعته، وهو لا يخاف من دخول المخربين لأنهم لا يقربونه بالأساس ليدخلوه.

ثم دخلنا إلى بستان العائدين وهناك ازدادت دهشتي أكثر لما فيه حيث وجدت أشجاراً كبيرة وأنهاراً من صنوف شتى حتى حسبت أنني في الجنة لولا علمي أنّي ما زلت في الدنيا.

فبدأ ناصر يتكلم عن ما يوجد داخل هذا البستان قائلا :

إنّ هذا البستان بما فيه ـ كما قلت لك ـ جعله الله للذين خرجوا من ساحة قدسه فقد ناداهم بعدم اليأس والقنوط وانقطاع الأمل في الرجوع إلى جادة الصواب ، فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً..}(2).

وقال: {يأيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً}(3) ،  وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}(4).

وحثّهم إلى ما دعاهم إليه من خلال جعله باب بستان العائدين مفتوحاً على مصراعيه في أي وقت شاؤوا العودة إلّا إذا وصلت الروح إلى الحلقوم.

وأضاف ناصر قائلاً: وقد رغّب إليهم دخول بستان العائدين حيث أتاح لهم جميع أشكال الانتفاع من ثمره وخيراته فمن ثماره وخيراته المتاحة :

1  ـ الاغتسال في نهر غفران الذنوب الذي يزيل جميع أوساخ ورواسب المعاصي، حيث قال لهم {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}(5).

 وما أجراه على لسان أولياءه كقول الإمام أبي عبد الله

(عليه السلام) ( التائب من الذنب كمن لاذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر كالمستهزئ) (6).

2   ـ وكذلك ثمرة دخول الجنة :حيث أخبرهم بذلك في قوله تعالى : {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}(7)، ولو لم يكن إلا هذه الثمرة لكفت كي تجلبهم وترغبهم في الدخول إلى هذا البستان، لأنّها بغية كل الزراع الذين يجهدون في زرع بستان دنياهم بالخير والأعمال الصالحة، والله قد جعلها للتائب والعائد من فقر وذل وضنك الذنوب إلى نعيم وراحة العيش وأطيبه.

3   ـ وكذلك ثمرة عدم الفضيحة يوم القيامة حيث أعلمهم بذلك في  قوله تعالى : {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}(8) ،  وهذه ثمرة كبيرة ونعمة عظيمة وأدب رفيع من الله تعالى لأنه لا يحب إهانة عبيده؛ لانّ إطلاع الآخرين على عيوب شخص ما يعني إهانته فما بالك إذا كان المطلعون جميع الناس فإنها إهانة كبيرة وقاها الله التائب ؟!

4   ـ وكذلك ثمرة إدخالهم روضة حبه حيث رأوا ذلك جلياً واضحاً في قوله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(9) ، وماذا يريد من دخل روضة حب الله وذاق حلاوته أيروم لغيرها؟ كما يعبر عن ذلك سيد الساجدين وزين العابدين في مناجاة المحبين : (إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً...).(10).

وكثيرة هي الخيرات والثمار المتاحة في هذا البستان ولو أردنا استقصاءها لاحتجنا من الوقت إلى شهور، ولكن يكفي ما علمناه من خيرات هذا البستان التي أتاحه الرب الرحيم على عباده العاصين له المجاهرين له بالمعاصي أذا رجعوا إليه مذعنين نادمين عازمين على ترك ما فعلوا بل وأجب عليهم دخوله كي يكفر عنهم ويطهرهم من المعاصي إنّه هو {الغفور الرحيم}.

فقلت: هو كذلك.

ثم قال ناصر: بدأت الشمس بالمغيب فيجب علينا أن نعود قبل الغروب كي نذهب للمسجد ونصلي المغرب هناك.

فقلت: ألا يمكننا أن نمتع أنظارنا بهذه المناظر الجميلة وننغم أسماعنا بهذه النغمات الهادئة لخرير الماء وزقزقة العصافير بعض من الوقت.

ناصر: لا إشكال في ذلك ولكن تمتعُ سريع قبل أن يخيم ظلام الليل.

جلسنا نتجول في ذلك البستان وكلما نسير تنتابني الدهشة أكثر وأكثر، ولكن لا أستطيع أن أتعرف على كل ما فيه؛  لأنّ الوقت ضيق فقلت لناصر:  هل بإمكانك أن تخصص يوماً كاملا للنزهة وتعرفني على بستان العائدين بشكل أكبر في وقت لاحق.

ناصر: بالتأكيد، وسيكون لي الشرف أن أكون في خدمتك مرة أخرى, لكن لنذهب الآن فالوقت تأخر وقد قرب وقت صلاة المغرب ونحن نريد أن نصل إلى المسجد قبل الصلاة كي نصلي.

بالفعل تحركنا ناحية المسجد فوصلنا وقت الصلاة فدخلنا المسجد وقف ناصر للصلاة ووقفت بجانبه، وعندما كنّا في القنوت توجهت إلى الله بقلبٍ حزين مكسور سائلا ً من الله أن يمنحني التوفيق لأكون من أولائك الذين يحضون بنعم بستان العائدين إنه هو الرؤوف الرحيم.

وبعد انتهاء الصلاة رجعت إلى منزلي وعاد ناصر إلى منزله، وكان كل ما رأيته في بستان العائدين يترآى لي في كل لحظة، فوقفت على مصلاي الذي في غرفتي وأنا أعلن دخولي إلى ذلك البستان وأقول:(إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سمّيته التوبة  فقلت {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً}، فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه).(11).

وعندها غفت عيني إلى النوم وكانت أفضل ليلة قضيتها إذ إني نمت وقد تخلصت من أثقال الذنوب، والخطايا ومحملاً بجزيل الثواب والعطايا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الشورى : 25

2 ـ الزمر : 53 .

3 ـ التحريم : 8

4 ـ الشورى : 25

5 ـ التحريم : 8

6 ـ الكافي 2 : 435 / 10

7 ـ الصف : 12

8 ـ التحريم : 8

9  ـ البقرة : 222

10 ـ بحار الأنوار 91  : 148 ، مناجاة المحبين .

11 ـ بحار الأنوار 91 : 142 ، مناجاة التائبين .


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=385
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 02 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24