• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : عليّ وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

عليّ وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)

سماحة الشيخ عبدالجليل أحمد المكراني

الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

إنّ من الأعلام مَن إذا ذُكر اسمه، وحاول البعض الحديث عن شخصيّته ينتابه الشعور بالحاجة إلى الدخول في دهاليز التاريخ للبحث عنه والوقوف على مأثرة أو منقبة له من هنا أو هناك؛ لأجل إظهار شخصيّته وإبرازها والتعرّف إليها.

وربّما يذكر التاريخ بروز بعض الشخصيّات وتألّقها في مسرح الحياة إلى الحدّ الذي لا يتجاوز مدةً من الزمن، فيكثر الثناء والاطراء عليها آنذاك، ثم سرعان ما تأفل فيعفى عليها الدهر.

وهناك مَن خُلّد ذكره وتجاوز اسمه حدود الزمن، واستوعب الآفاق الواسعة؛ لأنّ له مآثر ومناقب في كلّ موقع من مواقع الحياة، وفي كلّ مقطع من مقاطع الزمن. وعند الإبحار والغوص في شخصيّته وفكره تتجلّى للمبحِر روح وفكر مشرق منير يضيء الإنسانيّة بأجمعها.

ذلك هو الإمام عليٌّ (عليه السلام)، الذي حاولت أقلام التاريخ البحث عن بعض الحواجز التي يراد منها أن تمنع من ارتفاعه، وجعل اسمه في أُفق ضيّق، وعن بعض العصبيّات التي أُريد منها أن تُحجّم من عنوانه الكبير، لكنّ كلّ ذلك لم يكتبَ له الصمود أمام عليّ (عليه السلام) وسمو شخصيّته؛ لأنّ عليّاً (عليه السلام) هو الإنسان الذي عاش حياته بكلّيّاتها وجزئيّاتها مع الله تعالى، كانت حياته عبارة عن درس للإنسانيّة تجعل الإنسان يتحسّس آلام العباد ومشاكلهم.

وذلك لأنّه كان يعيش مع الناس بضميره الذي يشعر بهم ـ أينما كانوا ـ وهو في قمّة هرم السلطة: «لعلّ بالحجاز أو باليمامة مَن لا طمع له بالقرص، ولا عهد له بالشبع. أَوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى؟!» [نهج البلاغة 3: 72].

نشأة علي (عليه السلام)

أجمع المؤرّخون على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أَولَى عليّاً (عليه السلام) رعايةً خاصّةً منذ نعومة أظفاره، فقد احتضنه منذ كان صغيراً، وزقّه تربيةً وعلماً، ولم ينشأ على غير أخلاق النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فقد لازمه ملازمة الفصيل لأُمّه، يذهب معه إلى حيث يذهب حتى في الأوقات التي كان الرسول (صلى الله عليه وآله) فيها يخلو إلى ربّه في تعبّده وانقطاعه في التفكير والتدبّر.

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُحبّ عليّاً حبّاً منقطع النظير، فقد ذكر ابن أبي الحديد روايةً عن ابن عبّاس بأنّه سأل أباه العبّاس بن عبدالمطلب، قائلاً: أيُّ بنيك أحبّ إلى رسول الله؟ فأجاب العبّاس: عليّ. فقال ابن عبّاس: أنا أسألك عن بنيك، وأنت تجيبني: عليّ؟! فقال الأب: لقد كان رسول الله يُحبّ عليّاً حبّاً لم يحبّ به أحداً غيره [سلوك وأخلاق الإسلام (المطهري): 317].

إنّ هذه الرعاية الخاصّة التي أولاها النبيّ (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) منذ كان صبيّاً إنّما كانت إعداداً له لكي يكون وزيره وناصره ونائبه وخليفته في المستقبل.

لقد نشأ عليّ كغصن في شجرة، كلاهما ـ الغصن والشجرة ـ يتغذّيان من جذر واحد، وكما قال الإمام (عليه السلام): «وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد» [نهج البلاغة (شرح محمد عبده) 3: 73].

يقول الشريف الرضي (رحمه الله) في مقدّمة كتاب (نهج البلاغة) الذي جمع فيه خطب وكلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ الإمام عليّ (عليه السلام): (عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبويّ).

القرآن وعلي (عليه السلام)

الكثير من الآيات القرآنيّة نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام)، والملاحظ في هذه الآيات أنّها جاءت لتأسّس ركيزةً مهمّةً من ركائز الإيمان، ورائدها عليّ (عليه السلام)، أو لتظهر حالةً فريدةً من الخُلق والتفاني والإيثار...

قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة: 207].

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55].

هاتان الآيتان نزلتا في الإمام عليّ (عليه السلام)، الأُولى ليلة الهجرة عندما بات (عليه السلام) في فراش النبيّ ليغطي انسحابه من مكّة، وليشهد الله على إخلاصه لرسوله ولله تعالى.

والثانية نزلت عندما كان (عليه السلام) يصلّي في المسجد، ومرّ به سائل، فتصدّق بخاتمه على السّائل.

هذه الأخلاق النبيلة، والفضائل الحميدة التي ورثها عن أخيه النبيّ (صلى الله عليه وآله) جعلت منه عَلَماً يرفرف في سماء الإنسانيّة جمعاء.

الحقّ خاتمة حياة علي (عليه السلام)

نهض الإمام عليّ (عليه السلام) بالأمر، وكانت المشكلة التي تواجهه متنوّعة الأطراف، نوع معارض، وآخر مبعض وحانق، وثالث لا يهوى، و...، وكانت تُرب الأرض تغطي تحتها الألغام، وتظهر فوقها الأدغال والأشواك، ولو أنَّه تسلَّم الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث كانت الأرض تعمّ بالإسلام والسلام، لحمل الأُمّة على المحجَّة البيضاء؛ لأنَّ الحجَّة الَّتي انطلقت في سُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هي نفسها الَّتي تنطلق في خطِّ عليّ (عليه السلام)؛ لأنَّه نفس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

من هنا لم يتركوا له الفرصة، مبرزين الخلافات والتعقيدات، والعصبيَّاتِ والأهواء، حتى تسلّم الخلافة وأرضها وعرة صعبة، والطَّامحون قد أخذوا ممّن سبق بعض ما يرتفع بطموحاتهم، «جعلها في جماعة، وزعم أنّي أحدهم، فيا لله وللشّورى، متى اعترض الرَّيب فيّ مع الأوَّل منهم حتى صرت أُقرن إلى هذه النَّظائر؟!» [نهج البلاغة 1: 35].

إنّ المشكلة التي تحدّها الأمير (عليه السلام) كانت تكمن في تيارين:

التيار الأوّل: هم الطامعون في الخلافة، الَّذين حاولوا أن يصلوا إليها عن طريق أُسلوبين:

الأُسلوب الأوّل: وهو ما سلكه طلحة والزّبير، اللذان كانا يريدان لعليّ (عليه السلام) أن يشاركهما الخلافة.

الأُسلوب الثاني: وهو ما سلكه معاوية بن أبي سفيان، الّذي كان يريد من علي (عليه السلام) أن يُطلق يده في مصر والشّام، ليحكمهما دون ضابطة كما كان سابقاً.

ومن المؤكّد ـ عند المسلمين كافّة، وعند طلحة والزبير ومعاوية خاصّة ـ لم يكن عليّ (عليه السلام) ليرضَ أن يخضع لما يطمح به صاحبا الأُسلوب الأوّل، وكذلك لم يفسح المجال أمام معاوية للعبث في مقدّرات الأُمّة كما يحلو له، الأمر الذي خلق مع جمع الأُسلوبين مع بعض إحداث الخلل في نظام الأُمّة، ونشوب المعارك داخل صفوف المسلمين، أساسها الإعلام المزوّر وتزييف الحقائق، وإظهار الضلال.

التيار الثاني: المارقون الخوارج الَّذين كانت مشكلتهم لا تشبه المشكلة في التيار الأوّل، وإنّما كانت مشكلةً فكريَّة، فقد كانوا يفهمون الإسلام بطريقةٍ تختلف عمّا كان يفهمه منه المسلمون، ويعتبرون تخلّفهم العقدي والفكري مقدَّساً، ولذلك كانوا يكفِّرون كلَّ مَن لا يلتقي معهم أو لا يؤمن بتخلّفهم.

لا شكّ بأنّ عليّاً (عليه السلام) أمام هذه المشاكل الَّتي أحاطت به كان شغله الشاغل كيفيّة الحفاظ على الخطّ الإسلاميّ الّذي آمن به، فاتّخذ أُسلوب عدم المواجهة والصِدام في بداية الأمر، فلم يقمع كلتا المعارضتين السياسيّة الطامعة والفكريّة المتخلّفة، وإنّما كانت سياسته أن يفتح قلوب هؤلاء على الحقيقة، وأن يقيم الحجَّة عليهم. لكنّ هذا الأسلوب لم يكن مجدياً.

لقد كانت حياة عليّ (عليه السلام) كلّها محراباً، فقد بدأت حياته في محراب الله الكعبة، وقضى حياته بعد ذلك مكثراً في الصلاةً، التي بدأها مع رسول الله، فقد كان (عليه السلام) يقول: «اللهم إنّي أوّل مَن سمع وأجاب وأناب، لم يسبقني بالصلاة إلاّ رسول الله»، فهو أوّل مَن صلّى مع رسول الله في طفولته الأولى. وكانت شهادته كذلك في محراب الله أثناء أداء فرض الصلاة، ولذلك حين ضربه ابن ملجم قال: «فُزْتُ وَرَبّ الكعبة»؛ لأنّه كان يعلم بأنّ حياته كلّها كانت على حقّ، على الرغم من أنّه عانى وتألّم وواجه الصعاب، حتى لم يُمكّن من تطبيق برنامجه السياسي في قيادة الأُمّة؛ لعدم إمهاله، فقاتله أصحاب الجمل، وأهل صفين والنهروان، حائلين دون مواصلته سيرة رسول الله.

وإذا أردنا الاعتبار والاستلهام من سيرة هذا الرجل العظيم، فلنستورد من هذه السيرة العطرة ما كان يفكّر به آخر لحظات حياته قبل أن يفارق الدنيا، فلقد كان ـ وهو على هذه الحال ـ يُحبّ نشر الفكر والتوعية بين أبناء المجتمع والحياة، لقد كان يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني». فلقد كان يفيض من علمه الجمّ على ربوع التاريخ وأبناء الأُمّة الإسلاميّة وهو في آخر ساعة من أيّام عمره، فيا له من سخاء وعطاء وكرم فاضت بها نفس هذا الرجل العظيم.

السلام عليك يا أمير المؤمنين يوم ولدت ويوم استشهدت ورحمة الله وبركاته


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2499
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 05 / 25
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28