• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 78 ـ في تفسير سورة النبأ .

78 ـ في تفسير سورة النبأ

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾

إنّ وصف النبأ بالعظمة والمُفسَّر ـ على رأي ـ بيوم القيامة، يدلّ على مكانة الاعتقاد بالقيامة في المسيرة التكاملية للعبد، فإنّه من موجبات مراقبة العبد لسلوكه، إذ إنّ الخوف من مقام الربوبية لا يتسنّى لكل أحد.

وقد ورد وصف العظمة ليوم القيامة في آية اُخرى ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة المطفّفين، 4-5] كوصف نبأ القيامة أيضاً بالعظمة في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيم [سورة ص، 67].

1. إنّ الكفار ـ رغم اجتماعهم على الكفر ـ إلا أنّهم مختلفون فيما بينهم حتى في عقائدهم الباطلة، وهذا هو المستفاد من كلمة ﴿مُخْتَلِفُونَ؛ لأنّ منكري المعاد بمعناه القرآني الصحيح على طوائف:

فبين منكر للمعاد الجسمي ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة يس، 78-79].

وبين مستبعد له ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ [سورة المؤمنون، 36].

وبين مشكّك فيه ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا [سورة النمل، 66].

والتعبير بـ ﴿يَتَسَاءَلُونَ يدلّ على أنّ الأمر كان متداولاً فيما بينهم، ولو على نحو الاستهزاء بالبعث.

2. إنّ السؤال إذا كان ببراءة واستفهام حقيقيّين، فهناك مجال للإجابة الجادّة، كالسؤال عن حقيقة الروح ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ... [سورة الإسراء، 85] والأنفال ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ... [سورة الأنفال، 1] والخمر والميسر ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... [سورة البقرة، 219]، بخلاف ما لو كان السؤال بتعنّت واستهزاء؛ فعندئذٍ يكون الجواب مقترناً بنوع من التهديد المستفاد من قوله تعالى: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، أضف إلى ما يُشعره تساؤل الحقّ عزَّ وجلَّ عن سؤال الكافرين من التحقير لهم ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ؛ لأنّه ما كان ينبغي أن يصدر منهم سؤال عمّا هو معلوم الجواب.

3. لا بُدّ من مواجهة التحدّيات العقائدية بقوّة وثبات من دون مجاملة، فالآية تكرّر عبارة ﴿كَلَّا للنفي الصريح لدعوى القوم الكافرين، فوقع الردع في الآية الكريمة عن أصل سؤالهم، وكأنّه دون مستوى الخوض فيه ليجاب عليه، إذ إنّ الذي يرى آثار القدرة الإلهية في هذه النشأة، كيف يُنكر قدرته تعالى على النشأة الاُخرى؟! ومن يرى حكمة الصانع في دار الفناء، كيف ينكر حكمته المستلزمة للحساب والجزاء في دار البقاء؟!

4. إنّ الفرق بين مآل المؤمنين بالمعاد وبين المشكّكين فيه، هو أنّ الطائفة الأولى تعيش حقيقة العلم بما سيتحقّق خارجاً من المعاد، بما يصفهم أمير المؤمنين (ع) بقوله: «فهم والجنة كمن قد رآها» [نهج البلاغة، الخطبة١٩٣] بخلاف الكفّار الذين ﴿سَيَعْلَمُونَ ولكن بعد فوات الأوان، حيث يُكشف عنهم الغطاء فيرون حقائق الأمور من دون أن تنفعهم هذه المكاشفة شيئاً.

5. إنّ التعبير بـ﴿سَيَعْلَمُونَ المُشعِر بالمستقبل القريب، يدلّ على أنّنا متوهّمون لرؤيتنا للقيامة وكأنّها حدث مستقبلي بعيد، في حال أنّها قريبة منّا ولكن لا نشعر بها؛ إذ لا يفصلنا عنها إلا الموت، فبمجرّد موت ابن آدم تقوم قيامته، فقد روي عن النبي (ص) أنّه قال: «مَن مات فقد قامت قيامته» [بحار الأنوار، ج58، ص7]. وقد أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة في آية اُخرى ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [سورة المعارج، 6ـ 7] بناءً على أنّ المراد بالقرب هنا هو القرب الزماني ـ لتحقّق الوقوع ـ لا القرب الإمكاني.

6. إنّ الإنسان المؤمن يرى الأشياء من خلال انتسابها إلى مسبّب الأسباب، ولهذا يلتفت إلى الجاعل مباشرة عند النظر إلى ما جعله، متذكّراً قول ربّه ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ عند نظره إلى الأرض ﴿مِهَادًا والجبال ﴿أَوْتَادًا فعين البصير ليست على الفعل، ولا على ما يتمّ به الفعل فحسب، وإنّما على الفاعل الذي يُعدّ مبدأً للفيض، لا على ما يراه من الآثار، إذ إنّ التردّد في الآثار يوجب بعد المزار، كما في دعاء عرفة للإمام الحسين (ع). [بحار الأنوار، ج ٩٥، ص٢٢٥]

7. إنّ ذكر الآيات الكونية بعد ذكر المعاد، قد يكون إشعاراً بأنّ من أدلّة القيامة هو ما نراه من قدرة الخالق المتجلّية في النشأة الأولى، فمن له هذه القدرة في البدء، كيف لا تكون له القدرة في الختم؟!

ولذلك، فإنّ الآيات تستعمل ضمير الفاعل المتكلّم متعدّداً ﴿بَنَيْنَا و﴿جَعَلْنَا و﴿أَنْزَلْنَا و﴿لِنُخْرِجَ للتذكير المستمرّ بالقوّة الفاعلة وراء كل مظاهر الحركة في هذا الوجود، والتي يسندها المتكلّم إلى نفسه في هذه الآيات الجامعة لشقّي النفي والإثبات.

8. بعد أن نفت الآيات الأولى تلك الأفكار الباطلة، لزم إثبات العقائد الحقّة بالاستدلال والبرهان؛ لتجتمع قوّة النفي والإثبات معاً، فكما أنّ قانون التخلية ثمّ التجلية سارٍ في عالم التزكية الروحية، فهو سارٍ أيضاً في عالم التزكية الفكرية، فمن دون تفريغ ذهن المخاطب من الأفكار الباطلة، فإنّه لا يتيسّر إقناعه بالأفكار الحقّة، وهذا المعنى متحقّق في شهادة التوحيد أيضاً.

9. إذا انتفت اللّجاجة والعناد عند المرء، فإنّ النظر إلى ما حوله من العوالم المادّية الثابتة كالأرض والجبال، والطوارئ الحاليّة المتغيّرة كسباتية النوم ومعاشية النهار، ستكون من موجبات الارتباط بالمبدأ والمعاد، إذ إنّ الحكمة المتجلّية في جزئيّات هذا الوجود لا تنقدح من داخلها كمادّة صمّاء، فلزم وجود قدرة حكيمة قاهرة خارجها، هي المتصرّفة في كل هذا الخلق البديع.

10. إنّ التعبير بمهادية الأرض ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا يذكّرنا بمهد الوليد بعد ساعة ولادته، فهذا المهد موطن مؤقّت له؛ لأنّه سينتقل بعدها في هذه الحياة، إلى ما هو أرحب وأرقى كالقصور الفارهة!

وعندئذٍ نقول: بأنّ هذه الأرض بكل ما عليها ـ قياساً إلى الآخرة ـ تُعدّ كالمهد الصغير إلى بالنسبة إلى تلك القصور، بل إنّ النسبة أبعد بوناً من هذا المثال، فالذي يأنس بهذه الأرض، يكون بمثابة الوليد الذي يأنس بمهده الصغير تاركاً القصر الكبير.

11. إنّ الله تعالى الذي خلق الجبال وجعلها أوتاداً، هو الذي سوف يُحيل هذه الجبال يوماً ما إلى: كثيب مهيل ﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [سورة المزمل، 14]، وإلى عهن منفوش ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [سورة القارعة، 5]، وإلى هباء متناثر ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان، 23]، وإلى قاع صفصف ﴿فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا [سورة طه، 106]، كما ورد ذكرها في القرآن الكريم، وهذا بدوره يدلّ على أنّ كل مظاهر الجمال والقوّة في هذا الوجود، ستؤول يوماً مّا إلى الضعف والفناء، وأنّ الذي يبقى إنّما هو وجه ربّك ذو الجلال والإكرام.

12. إنّ سلامة الجسد مرتبطة بالترتّبيّة والتوالي بين الحركة والسكون بنحوٍ من أنحاء الترابط، فالله تعالى هو الذي جعل النهار معاشاً بعد سباتية النوم ولباسية اللّيل.

وعليه، فإنّ الذي لا يجعل بعد حركته المعاشية في النهار سكوناً متمثّلاً بسبات اللّيل؛ فإنّه بذلك يعاند قانون الخلقة، وسيصاب بالتالي بآفات هذا العناد.

13. إنّ عملية النوم ثمّ اليقظة بعدها، شبيهة إلى حدّ كبير بحركة الإماتة والنشور، فيتذكّر العبد المراقب لنفسه حقيقة القيامة بعد كل يقظة، وهذا بدوره يوجب له التذكّر لكي يتزوّد لذلك اليوم العصيب.

ومن هنا يربط الدعاء الوارد بعد الاستيقاظ من النوم بين اليقظة والنشر، إذ نقول فيه: «الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي لأحمده وأعبده» [بحار الأنوار، ج٧٣، ص٢٠٤].

14.إنّ القدير الحكيم جعل كل شيء في هذا الوجود مسخّراً لهدفٍ بعينه، وهو ما ذكرته الآيات من هذه السورة:

فالنوم مقدّمة للسبات والراحة ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾.

والنشاط في النهار مقدّمة لكسب المعاش فيه ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾.

والزوجية مقدّمة للتناسل والتكاثر ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾.

والتجاذب الكوني بما فيه من أفلاك ومجرّات مقدّمة لاستقرار الأرض بما يصلح لسكنى النوع البشري ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾.

وإنزال المطر مقدّمة لعمارة الأرض بالزراعة، والابتهاج بمظاهر زينتها ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا﴾.

ومن المعلوم أنّه تعالى يريد من وراء أصل الوجود هدفاً آخر، كي لا ينتهي هذا الوجود بالموت، وهو المتمثّل بإيصال العباد إلى الكمال الذي خُلقوا من أجله، وهذا من أدلّة المعاد أيضاً؛ لأنّ ما يجري فيه من الأحداث يُمثّل غاية الخلقة والإيجاد.

15.إنّ هذه السورة بعد ذكر المعاد، تُكثر من ذكر الآيات الآفاقية، ومنها إحياء الأرض وإنبات النبات، وفي جميعها إشعار بقدرة واحدة في النشأتين، وهي القادرة على الإحياء بكل صوره، ومن هنا عبّر عن الإحياء بالإخراج ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ وهو تعبير مشترك عند ذكر إخراج النبات والأموات من الأرض ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [سورة الزلزلة، 2].

16.إنّ القرآن الكريم ينسب عملية العصر إلى السُحب الماطرة ﴿مِنَ الْمُعْصِرَاتِ فهي تعصر نفسها لتخرج ماءً ثجّاجاً، ومن جهة اُخرى ينسب تعالى الأمر إلى نفسه ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ فهو تعالى المنزل لهذا الماء كعلّة لعلل، وهكذا الأمر في كل موارد تحقّق الوساطة في هذا الوجود، ومنها الإماتة:

حيث ينسبها الله تعالى إلى نفسه تارةً ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [سورة الزمر، 42]، ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ [سورة النحل، 70].

وينسبها إلى ملك الموت تارةً اُخرى ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [سورة السجدة، 11].

17. لا بُدّ أن نتخلّق بأخلاق الله تعالى، إذ إنّ كل فعل من أفعاله ملحوق بحكمة بالغة، فإنزال الماء يليه إخراج الحب والنبات، حيث جاء لام التعليل لإفهام هذا المعنى؛ كما في قوله تعالى: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا.

وكذلك العبد الحكيم، حيث لا يصدر منه فعل جزافي؛ بعد أن جعل أصل سعيه في الدنيا مقدّمة للسعادة الأبدية، وشعاره في ذلك: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام، 162].

18. إنّ التعبير بـ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ يُشعر بتقطّع الروابط الاجتماعية، ومنها الأبوّة والبنوّة، وهذا بدوره يقوّي من أواصر تعلّق العبد بمولاه الذي لا فصل بينه وبين عبده في كل النشآت، بخلاف تعلّق العبد بعبدٍ مثله ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [سورة الممتحنة، 3]، وهذا من دوافع الانقطاع الاختياري إلى المولى، قبل الانقطاع القهري الذي يشترك فيه الجميع.

ومن المعلوم، أنّ ما ذُكر لا ينافي التواصل مع الخلق تحقيقاً لمرضاة الخالق، كما هو الأمر كذلك في صلة الأرحام والمؤمنين، إذ إنّ هذه الصلة من شؤون المولى الذي عطف الأرحام على تقوى الله تعالى قائلاً: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [سورة النساء، 1].

19. إنّ المظلوم الذي يعلم بميقاتيّة القيامة، لا يتبرّم كثيراً من تأخير الانتقام الإلهي له؛ لعلمه بيوم المواجهة، كما أنّ الإحساس بضعف المظلوم عند من يهمّ بالظلم، لا يشجّعه على الظلم؛ لعلمه بيوم توضع فيه الموازين القسط ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة الأنبياء، 47] وتفضّ فيه المنازعات، وهذا كلّه من بركات الالتفات إلى فصلية وميقاتيّة ذلك اليوم ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا.

20. إنّنا عندما نعبّر عن موعد بأنّه (ميقات)، فإنّ هذا التعبير مُشعر بأنّ ثمرة كل الجهود تتجلّى في ذلك الموعد الذي تتمّ فيه المساءلة، والعاقل الذي له يقين بتحقّق ذلك الميقات، يُعدّ نفسه لموعد لقاء يخلو من عقاب وعتاب.

21. إنّ المعتقد بحقيقة الميقاتيّة، تهون عنده اللّذائذ المحلّلة التي لا فائدة منها فضلاً عن المحرّمة، وذلك عندما يعلم بموعد اللّقاء مع جبّار السماوات والأرض. ومن المعلوم أنّ العتاب على فضول النظر والقول، فيه نوع من العقاب عند مَن تتبيّن له عظمة مقام الربوبية، في تلك المواقف العظام.

22. إنّ ميقاتيّة القيامة كانت مُنذ الأزل يوم خلق الله السماوات والأرض، ولهذا كان التعبير بـ﴿كَانَ فالحكيم عند البدء كان ملتفتاً للخواتيم؛ لأنّه من دون هذه الخاتمة تنتفي فلسفة الوجود والإيجاد، ويتساوى المطيع والعاصي في الجزاء.

23. لا منافاة بين التعبير بـ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وبين التعبير بـ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [سورة مريم، 95] فمن الممكن القول:

  • إنّها تعابير لمواقيت مختلفة في عرصات القيامة، فيتحقّق الخروج على نحو الفوجيّة، وأمّا الحساب فهو على نحو الفرديّة.
  • إنّ ظاهر الخروج وإن كان على نحو الجماعة ـ المفهومة من الفوجيّة ـ إلا أنّ باطن الخروج يكون على نحو الفردية؛ لأنّ كل فرد مشغول بنفسه ذاهل عن غيره، حتى المرضعة تذهل عن وليدها.

وليُعلم أنّ ذلك كلّه ـ أي: الفوجية والفردية ـ محكومان بحشر أهلِهما تحت لواء واحد، بحسب ما كانوا عليه في دار الدنيا، وهو ما يُفهم من قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [سورة الإسراء، 71].

24. إنّ طبيعة السماء قائمة على أنّها مغلقة محكمة الجوانب لا فتق فيها، وطبيعة الجبال قائمة على أنّها ثابتة لكونها أوتاداً للأرض، ولكن في القيامة هناك تغيير في جوهر الأشياء: فالباب المغلق يُفتح ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ﴾، والثابت يسير ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾، وكذلك الأمر في موازين الأعمال فإنّها تنقلب أيضاً: فما كان يبدو أنّه الحقّ يصير باطلاً وكذا العكس، ومن هنا سمّيت ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [سورة الواقعة، 3].

25. إنّ كل صور المتاع في الحياة الدنيا بمثابة السراب العابر، فظاهره المغري ليس وراءه حقيقة ثابتة، ولكن هذا المعنى المجازي في الدنيا سوف يتجلّى يوم القيامة على شكل حقيقة واضحة: فالجبال التي هي أشدّ ظهوراً وأعلى المخلوقات على وجه الأرض شموخاً، تتحوّل إلى ما يقول عنه القرآن الكريم: ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا كناية عن الزوال حقيقة، لا بحسب ما يتراءى بالنظر.

26. إنّ التعبير بالمرصاد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا يوحي بأنّ هناك مَن يترصّد بالسائر، وإن لم يكن يشعر به، كما هي عادة المتربّصين.

وعليه، فإنّ مَن يعِش في هذه الدنيا وهو يعلم بوجود جهنّم وكأنّها متربّصة به، أو أنّها محلّ لمَن يتربّص به ـ على الوجهين في تفسير المرصاد ـ فإنّه سيعيش خوفاً يردعه عن الحرام.

27. إنّ جهنّم بمثابة الطريق الذي لا بُدّ من اجتيازه كالمرور على الطريق الذي فيه رصد من أهله ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [سورة مريم، 71]، لكن الكلام فيمن يجتازها بسلام وهم المؤمنون، أو مَن يسقط بأيدي مَن ترصّدوا له وهم الطاغون.

28. إنّ من صفات أهل النار هو الطغيان، وهو الخروج عن حدّ الاعتدال، وعليه، فإنّ كل طغيان مخرج للعبد عن حدّ الاعتدال في كل شيء ـ وإن كان قليلاً ـ سيكون مقدّمة لتراكم الخطايا إلى درجة تحوّل أحدهم إلى طاغوت، فيكون مظهراً للفساد والإفساد.

29. إنّ جهنّم مآب للطاغين ﴿لِلطَّاغينَ مَآباً وكأنّها هي المرجع الطبيعي لهم، إذ كانوا على أنس بها ـ وإن لم يشعروا بذلك ـ في دار الدنيا، لأنّهم آبوا ورجعوا إليها في الآخرة، فطبيعتهم الطاغية لا تنسجم إلا مع المكوث في دار الأوبة هذه.

ومن هنا أيضاً يُحلّ إشكال خلودهم في النار؛ لأنّ طبيعتهم الثابتة مستلزمة لمثل هذا العذاب الثابت، فالجزاء في القيامة مطابق لفعل العبد ﴿جَزَاءً وِفَاقًا، فلا معنى لتوهّم أنّ العذاب مبالغ فيه، بعدما علِمنا السنخية الأبدية بين النار وأهلها؛ فالمُجازي هو العدل المطلق وأحكم الحكماء!

30. إنّ البعض في النار لا يحُكم عليه بالخلود، كالفسقة من غير الكافرين بل ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا، ولكن اللّبث في النار أحقاباً من الزمن أيضاً من موجبات إيجاد الهلع في النفس، وذلك عندما يتصوّر صاحبها المكث في النار فترة قد تكون طويلة غير معيّنة، كما تفيده كلمة (الأحقاب) وهو جزاء لم يكن ليتوقّعه العبد في دار الدنيا.

31. إنّ جهنّم مظهر للعذاب المطبق، إذ ليس فيها شراب ولا ما في حكم الشراب، أو ظل يُستظل به ليريحهم ولو قليلاً، فمن يطلب شيئاً من الاستبراد فإنّ جزاءه مستفاد من قوله تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، بل إنّه ليس هناك ما يروّح عن أهل جهنّم ولو على نحو التذوّق أو التّماسّ العابر؛ لمجيء البرد والشراب نكرة في سياق النفي.

والأعظم من ذلك أنّهم يُسقون ـ بدلاً منها ـ ذلك الحميم، والذي يصبّ عليهم أيضاً ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [سورة الواقعة، 54].

32. إنّ التكذيب بالبعث من موجبات الطغيان لإنكار الجزاء، الموجب لكبح جماح العبد، وفي حكم التكذيب ما ذكرته الآية من أنّهم ﴿لَا يَرْجُونَ حِسَابًا، فالذي لا يتوقّع الجزاء فهو كالمنكر له في مقام العمل، وإن كان معتقداً في مقام النظر.

33. إنّ من موجبات استقامة العبد في الحياة هي المراقبة المتّصلة، وهذه المراقبة لها رافدان:

الأوّل: هو تذكّر يوم الجزاء ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾.

والثاني: هو اليقين بإحصاء الله تعالى لكل صغيرة وكبيرة، وذلك في كتاب يُحصي ذلك كلّه ﴿كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا.

وبكلمة واحدة نقول: إنّ منشأ المراقبة هو تذكّر المبدأ والمعاد، تذكّراً متغلغلاً في شغاف النفس.

34. إنّ العتاب إذا صدر من صاحب الحق مباشرة، كان أدعى للتألّم الباطني عند المواجهة في المحاكمة، وخاصة اذا اجتمعت القدرة مع الحق، فالآية فيها التفات من الغَيبة إلى الخطاب ﴿فَذُوقُواْ وبذلك يكون أبلغ في التقريع والتوبيخ؛ لأنّه صادر من خالق جهنّم ومسجّرها.

35. إنّ الطغاة في دار الدنيا كانوا يزدادون نفوراً من دعاتهم عند تكرّر الدعوة ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [سورة الإسراء، 41] فصار الجزاء في جهنّم مطابقاً لحالتهم هذه، فهم بعد الاستغاثة لا يزدادون إلا عذاباً ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا، فكما أنّه لا أثر لدعوة الأنبياء لهم إلا زيادة النفور، فكذلك لا أثر لدعائهم في النار إلا زيادة العذاب!

وقد ورد أنّ هذه الآية من أشدّ الآيات التي تصف حالة أهل النار، فقد روي عن النّبي (ص) أنّه قال: «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النّار» [تفسير الکشاف، ج4، ص690].

36. إنّ طريقة القرآن الكريم قائمة على التنويع بين الترغيب والترهيب، فبعد ذِكر أنواع العذاب الأليم تنتقل الآية لذكر أنواع النعيم المقيم، وهذا درس عملي للدعاة ـ دائماً ـ في أنّه لا بُدّ من الجمع بين الطريقتين لإثارة الحوافز الباطنية، فغلبة الترهيب قد توجب اليأس، كما أنّ غلبة الترغيب قد توجب التقاعس والأمن من مكر الله تعالى.

37. كما أنّ الحدائق تُمثّل النعيم المادّي في الجنة، فكذلك السموّ عن اللّغو والكذب فيها يمثّل النعيم المعنوي، وعليه، فإنّ الحياة الدنيوية الخالية من اللّغو والكذب، واجدة لنوع من أنواع نعيم أهل الجنة، وهذا لا يكون إلا في حياة الصالحين والصالحات ضمن اُسرة إيمانية.

38. إنّ طبيعة التنعّم في الدنيا توجب الاسترسال في الحديث بين أهلها المترفين بما يجرّهم إلى اللّغو، ولكن أهل الجنة ـ وهم في أعلى درجات النعيم ـ ملتزمون بمراقبة المولى المانعة لهم من الاسترسال في اللّغو، فهم ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ومن تكذيب بعضهم بعضاً ﴿وَلَا كِذَّابًا إذ لا تنازع بينهم، حيث يقول تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ [سورة الأعراف، 43].

ومن المعلوم أنّ كل صور اللّغو والتكذيب مرتفعة في الجنّة، لمجيء اللّغو نكرة في سياق النفي المفيد للعموم.

39. إنّ اختيار عدم التكذيب كنعيم من نِعم الجنة ﴿وَلَا كِذَّابًا قد يكون من باب التعويض للمؤمنين الذين ابتلوا في دار الدنيا بتكذيب الكافرين، ومن المعلوم أنّ هذا الأذى إنّما أصابهم في سبيل الله تعالى، فكأنّ الآية تُشير إلى أنّ هذا الأذى البليغ مرتفع عنهم في جنة الخلد، بعدما تعرّضوا له في دار الدنيا، فكان هذا التعويض نوعاً من الثواب المطابق للعمل، حيث تقتضيه حكمة المُثيب.

40. إنّ الجزاء يوم القيامة جامع بين كونه بحساب أوّلاً، وكونه بعطاء ثانياً، ولهذا جمعتهما الآية بقوله: ﴿عَطَاءً حِسَابًا، فليس الأمر خارج دائرة الحساب الدقيق الذي هو سِمة الوجود، وليس خارج دائرة العطاء التفضّلي الذي هو سِمة الجود، وإلا فأين سنوات الطاعة المحدودة وأين الجزاء الخالد؟!

41. إنّ حسابية الجزاء المستندة إلى الربّ القدير، تستلزم من العبد الدأب في طاعته، للتلازم بين زيادة الطاعة وزيادة الأجر، إلى ما لا حدّ له ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [سورة ق، 35].

وعليه، فلا ينبغي التواني والركون إلى مستوى من الطاعة اتكالاً على كرم المولى؛ لأنّ كرمه أيضاً إنّما هو بحساب، ومتناسب طرداً مع عمل العبد.

42. إنّنا لو تأمّلنا في جزاء المؤمنين والكافرين لرأينا تقابلاً بين طرفي نقيض، وهو يعكس مآل كل طائفة في ذلك اليوم:

  • فما يشربه المؤمنون كان ﴿شَرَابًا طَهُورًا [سورة الإنسان، 21]، وللكافرين كان ﴿حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾.
  • وعاقبة المؤمنين كانت ﴿مَفَازًا﴾، بينما مآب الكافرين كان ﴿مِرْصَادًا﴾
  • وجزاء المؤمنين كان ﴿عَطَاءً﴾ دالاً على الفضل والتكرّم، وجزاء الكافرين كان ﴿وِفَاقًا﴾ مطابقاً لجريرتهم في حياتهم الدنيا.

43. إنّ الله تعالى نسب النبي (ص) إلى نفسه في مقام الجزاء قائلاً: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ، ثمّ عطف على ذلك السماوات والأرض قائلاً: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وكأنّ الوجود كلّه في كفّة، وحبيبه المصطفى (ص) في كفّة اُخرى، وهذا لازمة كون الكون مخلوقاً لأجله (ص) والملحقين به من آله الكرام (ع).

44. إنّ الاصطفاف ـ عادةً ـ سِمة المنضبطين في الأمور، فالملائكة الذين لا يسبقونه بالقول منتظمون في أمورهم، حيث يقومون يوم القيامة على نحو الاصطفاف، ولا يتكلّمون إلا عن إذن ﴿صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾، والأصل في جميع الخلائق يوم الحشر هو السكوت، بينما الكلام يحتاج إلى مَن يَأذن به.

45. إنّ محضر الربوبية هو محضر الأدب والالتفات، فمن لا يقول الصواب لا يؤذن له بالكلام؛ لأنّه ساقط من عين مولاه! وهذا المعنى وإن كان ظرف تحقّقه هو الآخرة ـ كما في الآية ـ ولكن المؤمن ملتفت لهذه القاعدة في الحياة الدنيا، فإذا تكلّم بغير الصواب سقط من عين مولاه، وهو أصعب ما يكون على العبد المراقب لربّه.

46. إنّ هذه الآية دالّة على أنّ الشفاعة يوم القيامة إنّما تتحقّق بإذن الله تعالى، فهو نوع من الخطاب الصواب الذي يؤذن في صدوره من الشفيع، فالأمر يعود إلى الحكمة الإلهية القاضية بأن لا يتحقّق في جانب القدس إلا ما كان حقّاً وصواباً، فقد روي أنّه حينما سُئل الإمام الصادق (ع) عن هذه الآية، قال: «نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صواباً» [الكافي، ج1، ص435].

47. إنّ غاية فخر العبد أن يؤذن له بالكلام مع مولاه في الدنيا والآخرة، وهذا متاح لكل من صار أهلاً لذلك، والطريق إلى ذلك:

أن يكون على صواب أوّلاً ﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ ومن المعلوم أنّ من يريد أن يكون على صواب لا بُدّ له من معرفة الصواب أوّلاً، ومن هنا نطلب الهداية منه ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [سورة الفاتحة، 6].

أن يهيّئ نفسه للدخول في دائرة الجذب الإلهي، ليكون مأذوناً له في الخطاب ثانياً ﴿مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾، ولا يخفى ما في اختيار كلمة (الرحمن) من لطف، فكأنّها تُشير إلى أنّ من موجبات هذه العناية، امتلاك العبد لهذه الصفة الإلهية أيضاً.

48. إنّ سلوك الطريق إلى الله تعالى لا يكون بالقهر والجبر على طيّه، وإلا انتفت المجاهدة المطلوبة في القرب إليه، فقد جعل الله تعالى هداية السبيل منوطة بالمجاهدة فيه ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [سورة العنكبوت، 69].

وعليه، فإنّ من شاء العودة والمآب إلى الله تعالى، فلا بُدّ أن يكون مريداً ومشيئاً لذلك أوّلاً ﴿فَمَنْ شَاءَ﴾، وعازماً على اتخاذ سبيل ثابت إليه ثانياً ﴿اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾.

49. إنّ المنذر بالأصالة هو ربّ العالمين ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا، ويليه الرسل ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [سورة النساء، 165]، ويليهم العلماء ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ [سورة التوبة، 122]، ومن هنا يُعلم كمال الفخر للعلماء وعلوّ درجتهم، إذ إنّهم صاروا امتداداً للإرادة الإلهية من جهة، ومتأسّين بفعل الأنبياء من جهة اُخرى.

50. إنّ الإنذار أقرب إلى تحريك النفوس الغافلة من البشارة، ومن هنا ذكرت الآية الإنذار فحسب ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾، ولم تذكر البشارة عند ذكر ﴿الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾، فإنّ السورة مختومة بذكر الكافرين.

51. إنّ الآخرة يراها القوم وكأنّها مستقبل بعيد، والحال أنّه لا يفصلنا عن ذلك سوى الموت الذي نحن معرّضون له في كل آن، ومن هنا عبّرت الآية عن العذاب بأنّه إنذار قريب ﴿إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَريباً ففيها بيان للقرب بحسب الواقع، بينما في آية اُخرى ذكرت القرب بحسب ما يراه المولى الحكيم ﴿وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾، وهذا الإنذار السابق إنّما هو حجّة أيضاً على الكفّار يوم القيامة.

52. إنّ الأعمال تتجسّم يوم القيامة، وقد عبّرت الآيات عن رؤية العمل في عدّة موارد، ومنها هذه الآية ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ والحال، أنّه ينبغي للعبد أن ينظر إلى عمله في الدنيا بطريق أولى، وذلك لقرب عهده بالعمل من جهة، وإمكان التدارك من جهة اُخرى، ولكن المشكلة في انعدام البصيرة الباطنية التي تتكشّف بعد فوات الأوان.

53. إنّ تمنّي مَن كان مرشّحاً للخلافة الإلهية أن يكون تراباً؛ كاشف عن شدّة الندامة التي يعيشها الكافر يوم القيامة ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾، وهنا يمكن القول بأنّ التراب خير منه؛ لأنّه يستلم البذرة في باطنه ليحوّلها إلى شجرة باسقة، وهؤلاء قد أودع المولى في بواطنهم بذور الخير، إلا أنّهم لم يستنبتوها في أعماق نفوسهم، بل جعلوها مغطاة ببواطنهم الممسوخة، فخابوا بهذا الإخفاء الذي أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [سورة الشمس، 10]، وهذا من وجوه التناسب بين لفظة الكفر المأخوذة من التغطية [معجم مقاييس اللغة، ج5، ص191]، وبين مبدأ اشتقاقه.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2471
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 04 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24