• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 83 ـ في تفسير سورة المطفّفين .

83 ـ في تفسير سورة المطفّفين

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

  1. ـ إن الله تعالى يُظهر في كتابه رضاه عمّن يريد أن يُثيبه بقوله ﴿طُوبَى﴾ [سورة الرعد: الآية 29] فهي تدل على العيشة الهنيئة التي أعدّها الله تعالى لمَن آمن وعمل صالحا، وهي تعمّ الهناءة في الدنيا والآخرة.

وفي المقابل فإن القرآن الكريم يستعمل كلمة ﴿الْوَيْلُ﴾ لمَن يريد أن يُظهر سخطه عليه مهدّداً إياه به.. وغالباً ما يستعملها القرآن الكريم في تهديد المشركين [﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكينَ سورة فصلت: الآية 6] والكافرين [﴿وَوَيْلٌ لِلْكافِرينَ مِنْ عَذابٍ شَديدٍ سورة إبراهيم: الآية 2] والمكذّبين [﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبينَ سورة الطور: الآية 11] أي: أصحاب الانحرافات العقائدية، إلا أنه استعمل هذه الكلمة أيضاً في موارد الانحراف العملي ومنها ﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [سورة المطففين: الآية 1] و﴿لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ [سورة الهمزة: الآية 1] و﴿لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ [سورة الجاثية: الآية 7].

قد يَعُد البعض التطفيف في الكيل أمراً هيّناً في قِبال المحرّمات الكبيرة، إذ إن ما يوجب التطفيف قد يكون مقداراً من المال لا يُعتنى به، ولكن الآيات الرادعة عن التطفيف فيها وعيد شديد يبتدئ بالويل، وهذا التعبير عادة ما يُستعمل للعصيان الكبير، كالتكذيب بيوم الدين وهو المذكور بعد آيات لاحقة ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [سورة المرسلات: الآية 15].

ومن هنا يُعلم أن الله تعالى يولي اهتماماً كبيراً لحقّ الناس، إلى درجة نرى معها أن النهي عن هذه الموبقة كان طلباً أساسياً لنبي الله شعيب عليه السلام حينما قال لقومه ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏﴾ [سورة هود: الآية 85] وقد صارت مخالفة هذا الأمر من موجبات إهلاك القوم.. وعليه، فإن الإفساد في الأرض جرم عظيم في قِبال الكفر بالله تعالى، ولهذا كان جزاؤهما القتل بحسب تفصيله الفقهي.

إن القوم الذين يأكلون المال الحرام بالتطفيف، ستصيبهم تبعات أكلهم للمال بالباطل، ومنها ما ذكره النبي (ص) في سياق بيان آثار الحرام في الأمم: «ولا طففوا الكيل إلا مُنعوا النبات، وأخذوا بالسنين‏» [الكافي: ج 2 ص 374] ولعل التهديد بالويل من أجل تجنيبهم آثار أكل الحرام الذي يستهين به الكثير من الناس؛ لأن أثره ليس محسوساً كشرب الخمر، فقد يتورع البعض عن شرب المسكر ولا يتورع عن أكل الحرام!

ومن هنا أيضاً وبّخ الحسين عليه السلام القوم على أكل الحرام، الذي جرّهم لهذه العاقبة السيئة قائلاً: «قد مُلئت بطونكم من الحرام» [تحف العقول: ص240].

إن المطففين كما ذكرتهم الآية، يجمعون بين صفة الأنانية والحرص على جلب المنافع لأنفسهم، فتراهم عند الكيل لأنفسهم يستوفون حقوقهم كاملة غير منقوصة ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ وبين صفة الغشّ والإخلال الاقتصادي فيُخسرون غيرهم عند الاكتيال ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ وكلاهما صفتان مذمومتان ـ وإن كان الأول لا يصل إلى درجة الحرمة ـ ولكن الذمّ متوجه إلى مجموع هذه الحالة من حب الذات، وخيانة الغير.

ومن الملفت أن الآية ذكرت الفئة المتضررة بتعبير ﴿النَّاسِ﴾ ولم تذكر خصوص المسلمين مثلاً، لإفادة قبح هذا الغش مع أيٍّ كان من عباد الله تعالى.

إن الآية وإن كانت متوجّهة للمطفّفين في جانب المكيل والموزون، إلا أن روح الآية من الممكن أن تشمل كل مَن يتعدّى على الغير في تعامله مضيعاً حقاً؛ كمَن يتعهد لأحدهم بأن يقوم بعمل بوصف معيّن وفي مقام العمل لا يأتي بما تعهدّه؛ أو كمَن يعتدي على مال الغير عدواناً.

إن الذي يرتكب المعصية وكأنّه ـ في مقام العمل ـ ليس له حتى ظن بيوم الحساب؛ لأن العاقل يحسب حساب الضرر المحتمل، فيرى دفعه لازماً عندما يرى أن المحتمَل ممّا يُعتدّ بخطره!

ومن هنا أشارت الآية إلى مرحلة الظن ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ وإن كان البعض يرى أن الظن هنا بمعنى (اليقين) كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [سورة البقرة: الآية 46]، حيث روي كما في تفسير العياشي عن علي عليه السلام أنه قال: «يوقنون أنهم مبعوثون، والظن منهم يقين» [كتاب  التفسير: ج1 ص44].

إن الحل الجامع للردع عن كل المحرمات ـ حتى في الخلوات ـ هو ما ذكره القرآن الكريم من تذكّر العرض الأكبر بين يدي رب العالمين ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ وحينئذٍ لا معنى لإمكانية القيام بعمل في الخلوة، وذلك لعدم تحقق مفهوم الخلوة أصلاً، بل إن كل ما يفعله العبد في حكم الجلوة ما دام يرى نفسه بعين الله تعالى.

ولهذا تدعو الآية إلى تذكّر القيام بين يدي رب العالمين ردعاً للتطفيف، كحرام من المحرّمات التي قد لا يطّلع عليها المتعامل الآخر.

إن جهاز الإحصاء عند الله تعالى في غاية الدقة والجامعية، فسجلّ السيئات متصف:

بالكتابة ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ وما كتبه الكرام الحافظون لا يعقل في حقهم التفريط.

بأنه في ﴿سِجِّينٍ﴾ وهو الموضع الجامع لما حكم فيه على الفجار، سواء كان المراد بذلك الموضع أطباق جهنم أو غيره، وهو بدوره مأخوذ من السجن بوصف المبالغة، عكس محل كتاب الأبرار المتمثل بـ﴿عِلِّيِّينَ﴾.. هذا إن لم يكن قوله تعالى: ﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ وصفاً لسجين، وأما إذا كان وصفاً له فالسجّين هو الكتاب الجامع.

إن الآية ربطت بين التكذيب بالمعاد وبين التوغّل في الإثم، إذ إن تراكم المعاصي يوجب الرين على القلب، فيحجبه عن الحقائق الواضحة ومنها المعاد، فيُكذّب بها تارة، ويصف آيات الله تعالى بأنها ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ تارة اُخرى.

وقد ورد ما يؤيّد ذلك أيضاً في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [سورة الروم: الآية 10] فلا يتبجّح أهل المعاصي بسلامة العقائد عندهم، لأن هذه السلامة قد تزول فيتحوّل ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ إلى مرحلة يعبّر عنها القرآن الكريم ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ ومن المعلوم أن القلب ـ وهو مركز القرار في الوجود ـ لو أصيب بالرين، فإن العبد سيتمادى فيما يمارسه من الحرام إلى درجة مفزعة.

إن الرين مرحلة لاحقة لإصرار العبد على كسب ما لا يُرضي مولاه، فليحذر أهل الإصرار على المعاصي ـ وإن كانت المعصية صغيرة ـ من مرحلة الرين، فقد تتحقق هذه المرحلة فجأة كانفلاق الحجر بعد الطرقة الأخيرة.. وقد ورد في الخبر: «إنّ العبد إذا أذنب ذنباً؛ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر؛ صقل قلبه، وإن عاد؛ زادت حتى تعلو قلبه.. فذلك الرين الذي ذكر اللّه في القرآن‏» [تفسير الدر المنثور: ج 6، ص 325].

وهناك أمور اُخرى متعلقة بالقلوب وهي من سنخ الرين أيضاً، فقد قيل: أن الرين هو اسوداد القلب من الذنوب، والطبع أشد من الرين؛ ومعناه أن يُطبع على القلب ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [سورة محمد: الآية 16] ومنها الختم على القلوب ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ﴾ [سورة البقرة: الآية 7].

إن استعمال كلمة ﴿كَلاَّ﴾ في القرآن لها دلالات ملفتة: فهي كلمة واحدة؛ ولكنها تفيد الردع تارة، والنفي تارة اُخرى، وقد تفيد غيرهما، فلها معناها الخاص في كل مورد!.. فمن الممكن أن يقال أن المراد بها في:

﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ هو الردع عن التفوّه بالمقال الباطل، وهو تهمة الأساطير وكأنه في حكم (صه) لمَن يُراد إسكاته بتحقير، وما صدر منهم إنما هو لوجود الرين على قلوبهم.

﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ‏﴾ هو الردع عمّا يوجب رين القلب، والذي بدوره يوجب مثل هذا التكذيب في الدنيا، والحجب عن الرب في العقبى.

﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏﴾ هو الردع عن التطفيف والتغافل عن يوم الجزاء.

إن أهل القيامة رغم انكشاف الحجب عنهم، ورؤيتهم العينية لمظاهر جلال الله تعالى وكماله ـ إلى درجة رغبتهم الشديدة في محادثة المولى ـ إلا أن القرآن الكريم يصفهم بـ﴿إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ فهذه هي محجوبية القرب من الرحمة الإلهية، ويبيّنه قوله تعالى في موضع آخر ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ‏﴾ [سورة آل عمران: الآية 77] وهذا السنخ من المحجوبية مستمر معهم في القيامة كما كان معهم في دار الدنيا، وإن ارتفعت عنهم باقي الحجب في عالم البرزخ والقيامة.

إن كتاب الأبرار في موضع مقابل لكتاب الفجار، فهي جهة عالية عبّر عنها بـ﴿عِلِّيِّينَ﴾ وقد جاء في الحديث النّبوي الشريف: «عليّون في السماء السابعة تحت العرش» [مجمع البيان: ج10 ص692].. ولكن العليين يشترك مع ﴿سِجِّينٍ﴾ في أنه فوق تصور المتصوّرين؛ ولهذا عبّر عنهما بـ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ أضف إلى أن المقدرات فيهما كُتبت بما لا ريب فيه ولا حيف ﴿مَرْقُومٌ﴾ لأن كاتبها ـ وهو الله تعالى أو الملائكة ـ لا تنقصه الحكمة ولا المداقة، كما كان التعبير به أيضاً عند ذكر السجين.

وليُعلم إن الله تعالى وصف كتاب الأبرار هنا بأنه مشهود لطائفة من المقرّبين، وقد فُسِّرت بالملائكة المقرّبين [الميزان في تفسير القرآن: ج20 ص235]، كما فُسِّرت بخواص أهل الجنة الذين لهم الحق في مشاهدة صحائف الأبرار [الميزان في تفسير القرآن: ج20 ص235].

إنه من الممكن أيضاً إرجاع الضمير في ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ إلى رب العزة والجلال، فالمقرّبون هم قوم رُفعت عنهم الحجب بأجمعها، بما أهّلهم لرؤية جهة الجلال الإلهي، ودرجة هؤلاء فوق درجة الأبرار والملائكة، إذ إنّهم أصحاب تلك العين التي ﴿يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُون﴾ ‏والذين يتصدّى لهم ربهم بسقيهم ﴿شَرَابًا طَهُورًا﴾ [سورة الإنسان: الآية 21].

إن أهل الجنة ليسوا على درجة واحدة من التنعّم فالأبرار في نعيم، ولكن المقرّبين لهم نعيم من نوع آخر، حتى أن الشراب المتمثل بخمر الجنة المعد لهم، يختلف عن شراب الأبرار؛ إذ إن مزاج شراب الأبرار من التسنيم ﴿وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ ولكن التسنيم بنفسه هو شراب المقرّبين ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ وليس هذا الشراب بمقدار ما يُصبّ في كؤوسهم، وإنما هو عين تجري فيشربون منها، وأما باقي مزاياهم الخاصة، فلا يستوعبها إلا مَن وصل إلى مقامات النظر إلى وجهه الكريم.

إن النعيم الحسي الذي يتمتع به أهل الجنة، ينعكس على وجوههم على شكل نضرة وبهجة ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ وهم في حال استرخاء ونظر إلى ما يجري حولهم من أنواع النعيم ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ وقد يكون منها النظر إلى الجمال الإلهي.

ومن هنا يُعلم أنه ليس لكل نعيم بهجة، فما أكثر متع أهل الدنيا ومع ذلك ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سورة طه: الآية 124].. وعليه، فإن النعيم الذي ييسره رب العالمين هو ما يورث الأنس والسعادة في النشأتين، لا نعيم المترفين من أهل الدنيا.

إن الشراب الإلهي في الجنة مختوم بختام من مسك طيب الرائحة ﴿خِتامُهُ مِسْكٌ﴾ بخلاف ما تُختم به آنية الدنيا من التراب وغيره، وذلك من أجل أن يبقى نقياً من دون غش.

ومن هنا نقول من منطلق هذا النعيم الأخروي: إن الذي يريد التلذذ بلذائذ الوصل في الدنيا؛ عليه أن لا يجعلها مشوبة بشوائبها المعروفة من الرياء، وتصديق الوهم، والغفلة عن التكليف، والتباهي بالمقامات، وغيرها.

إن اختلاف درجات النعيم في الجنة مدعاة لتنافس أهلها في الدرجات العليا منها ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ وهذا ممّا لا يتيسر إلا في الحياة الدنيا: إذ اليوم يوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل!

ففرق بين شراب يجري من تحت أهل الجنة، كما هي عادة القرآن في وصف أنهار الجنة ومنها أنهار الخمر، وبين شراب التسنيم الذي قيل عنه:

بأنه شراب خاص موجود في الطبقات العليا من الجنة.

بأنّه نهر يجري في الهواء، فينصبّ في أواني أهل الجنّة [بحار الأنوار: ج 8 ص115].

إن التنافس غير مذموم في أصله، ولكنه مذموم بحسب متعلَّقه، فالمولى بعد أن يذكر شيئاً من نعيم الجنة، يدعو الناس للتنافس في كسب موجباتها، وممّا يعِين على هذا التنافس إنما هي الغبطة المحمودة!

ومن المعلوم أن التنافس في مضمار لا نهاية له ـ كمضمار الآخرة ـ ليس فيه غالب ومغلوب؛ وذلك لأن التنافس ليس على أمر محدود يوجب التنازع، أضف إلى أن مقتضى المنافسة هو التسابق أيضاً؛ لأن كل متنافس يريد الوصول قبل صاحبه إلى هدفه، وهذا بدوره يوجب سرعة السير في طريق التنافس.

إن القرآن الكريم عَدَل عن لفظ الذين كفروا إلى ﴿الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ ممّا يدل على أن الذي يدعوهم إلى إيذاء المؤمنين هي طبيعتهم الإجرامية المترشحة عن كفرهم، وإلا فقد يكون الكافر مقتصراً في كفره على الكفر الاعتقادي فحسب.

وحينئذ نقول: إن هذه الطبيعة إذا وجدت في نفس من يُظهر الإسلام، فقد تؤدي إلى نفس الأعمال التي تصدر من الكافرين، من الاستهزاء بالمؤمنين وغيرها ممّا ذكر في الآية.

إن الكفار قوم لا منطق لهم ليحاجّوا به، وإنما ديدنهم الاستهزاء ﴿يَضْحَكُونَ﴾ والإشارة المحقرة ﴿يَتَغَامَزُونَ﴾ والاجتماع على الباطل والسخرية من المؤمنين ﴿انقَلَبُواْ فَكِهِينَ﴾ والتعالي بلا دليل ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾.

إلا أن كل ذلك ينقلب يوم القيامة، لتكون كل هذه المواقف لأهل الجنة في مقابل أهل النار، وهم يتقلّبون في نعيم الجنة متكئين على الأرائك، وحالهم كما يصفه القرآن الكريم ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ إلا أنه في هذه المرة، يكون هذا الاستهزاء موقف حق يمتدحه رب العالمين.

إن الآيات التي تذكر تعامل الكفار المجرمين مع المؤمنين، تهيّئ المؤمنين لتحمّل أنواع الأذى من: استهزاء، وتغامز، واتهام، وغيره ممّا لا يدع مجالاً لتوقّع رضا الكفار أو مدحهم.

فالانحراف العقائدي لهؤلاء إضافة إلى طبيعتهم الإجرامية، لا يدعان مجالاً للتقارب بين هاتين الفئتين إلا أن يتبع أحدهم ملّة الآخر، وخاصة أن الآية تشير إلى الجهل المركب للمجرمين، حيث وصفوا المؤمنين بأنهم على ضلال ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ والحال أنهم هم أساس الضلال، وكم جاء الردع الإلهي في قالب الاستهزاء، قاصماً لهم عند الدفاع عن أوليائه قائلاً: ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ بمعنى أنه لا شأن لكم بعبادنا المهتدين!.

إن البعض في الدنيا يستعجل عقوبة الظالمين، والحال أن أمرهم بيد الله تعالى الذي لا يخاف الفوت، وهو الذي بيده نهايات الظالمين والمظلومين، وهو الذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.

ومن هنا فإنه مهما تأخر العقاب عنهم، فهناك يوم ينادي فيه رب العالمين ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ وكأن الله تعالى يريد أن يُري انتقامه من الظالمين لأوليائه المؤمنين؛ مطمْئناً لهم مقابل ما لاقوه منهم أيام حياتهم الدنيا.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2457
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 02 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24