• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 84 ـ في تفسير سورة الانشقاق .

84 ـ في تفسير سورة الانشقاق

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)﴾.

  1. ـ إنّ هذه السور تعرض صوراً تفصيلية لحالات العباد يوم القيامة ـ سواء المنعّم منهم والمعذّب ـ ممّا يجعل الإنسان يحتقر كثيراً من صور النعيم والسرور في الدنيا، عندما يقارنها بما سيؤول إليه كل ذلك يوم القيامة؛ حيث قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾.

تكرّر في القرآن الكريم ذِكر ما يعتري السماء من الوهن يوم القيامة، فيعبّر عنه تارةً بالانفطار ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [سورة الانفطار، 1] وتارةً بالانشقاق ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ ولعلّ ذلك لبيان التبدّل العميق في عالم الوجود.

فالأرض قد يعتريها التبدّل بالعوامل الطبيعية والبشرية، ولكنّ السماء بطبيعتها ـ قبل قيام الساعة ـ لا يعتريها ذلك، فكانت مظهراً للقوّة والاستحكام، ومن هنا كان ما ذكر ممّا يجري على السماء، أبلغ في بيان تصدّع الكون وتبدّله!

إنّ البعض فسَّر الانشقاق بما كان افتراقاً بعد التئام [التبيان في تفسير القرآن، ج10، ص307]، وعليه فإن الالتئام كان أمراً مؤقّتاً في الدنيا، لإبقاء حركة الكون بما يخدم المعاش البشري، فإذا قامت القيامة لم يعد لهذا الالتئام حكمة توجب سلامة الوجود.

ومن الممكن ـ على هذا التفسير ـ أن تكون هذه الآية مشيرة إلى مرحلة الالتئام في أوّل الخلق والمستلزم للتفرّق قبله، وهو ما يشير إليه بعض الفرضيات الدالّة على الانفجار الكوني الهائل في المادّة الأولى؛ والذي تشكّلت منه النجوم والكواكب.

إنّ القرآن الكريم يُقسِم تارةً بالظواهر الكونية المستقرّة في الدنيا مثل ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ [سورة الضحى، 1-2] وتارةً يذكّر بالظاهرة الكونية غير المستقرّة في الآخرة مثل: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ ليتأمّل العبد في النتيجة المتمثّلة بالمُقْسَم عليه في الأوّل، وجواب الشرط في الثاني.

والنتيجة في التعبيرين هي واحدة؛ أي: ضرورة الانتقال من المحسوس إلى المعقول، أي: من العلم بالحال إلى العلم بالمآل، لتكون النتيجة هو العلم بأنّ كل ما في الوجود ـ مستقرّاً كان أو متبدّلاً ـ إنّما هو تحت السيطرة الإلهية القاهرة.

إنّ الوجود كلّه خاضع لله تعالى خضوع العبد الملتفت إلى مولاه، ولهذا عبّرت الآية عن السماء وكأنّ لها أذناً سامعة كسمع بني آدم، حيث قال تعالى: ﴿وَأَذِنَتْ﴾ كما تشير إلى أنّها جديرة بذلك قائلة: ﴿وَحُقَّتْ﴾ وهذه الطاعة والانقياد ليست في ذلك اليوم العصيب فحسب، بل كان الأمر متحقّقاً كذلك منذ بدء الخليقة، حيث قالت السماوات والأرض بلسان الحال أو المقال الذي يناسبهما ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [سورة فصلت، 11].

وليُعلم أنّ الانقياد يوم القيامة أبلغ؛ لأنّ الأمر فيه متعلّق بمقام التخريب والتفريق، لا البناء والتجميع الذي تحقّق في أوّل يوم.. فكم من القبيح أن يكون ابن آدم هو المتخلّف عن هذا الركب المطيع؟!

إنّ مدّ الأرض يوم القيامة قد يكون بمعنى: التوسيع في سطحها ليستوعب الخلائق جميعاً، أو بمعنى: تسطيحها وهو يستلزم إزالة الجبال الرواسي، التي وضعت على الأرض بعد المدّ الأوّل في أوّل الخلقة حيث يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ [سورة الرعد، 3] والأرض في جميع ذلك شأنها شأن السماء في أنّها مطيعة لربّها، وحقّ لها أن تطيع.

ومن هنا تكرّر هذا التعبير ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ﴾ لإفهام أنّ الوجود كلّه بسمائه وأرضه، إنّما هو بلون واحد من الانقياد والطاعة.

لقد تكرّر في القرآن الكريم الحديث عن بعث الموتى يوم الجزاء، بما يُفهم منه: أنّ الموتى في جوف الأرض وكأنّهم أمانات مودعة في باطنها، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [سورة الزلزلة، 2] وكما جاء في هذه السورة ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ وعليها أن تُخرج هذه الأمانات لساحة المحشر عند الحساب، فلا يظن ظانّ أنّ من دُفن في الأرض انتهى أمره وترك ذكره، بعد أن صار رميماً!.. بل إنّ الأرض المطيعة لربّها، ستقدّمهم لله تعالى ساعة الحشر كما أخذتهم ساعة الدفن، فالتعبير يُشعر بالمبالغة في تخلية ما في جوفها بما لا يبقى معه جزء ـ ولو صغير ـ من هذه الأبدان حيث قال تعالى: ﴿وَتَخَلَّتْ﴾.

إنّ تعدّد الجمل الشرطية ووحدة الجزاء في مثل قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [سورة الانفطار، 1-5] وكذا في قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ يدلّ على عظمة المضامين التي تريد الآيات الكريمة إلفات النظر إليها، وهي متمثّلة في المجموعة الأولى: بضرورة (الالتفات) إلى النتائج المستقبلية، وفي المجموعة الثانية: بضرورة (المراقبة) الفعلية وهو ما غفل عنهما معظم الخلق.

إنّ هذه السورة ـ كقريناتها من السور المكية ـ تذكّر الإنسان بالنهايات وهو مشغول في البدايات، وهذا هو مقتضى التعقّل، فإنّ على العاقل ـ مع قطع النظر عن التعبّد الشرعي ـ أن يجعل جهده في مسير يحقّق الغاية من أصل مسيره، ألا وهي مواجهة الحق يوم القيامة من دون تبعة وعتاب، ويلخّص هذا كلّه قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾.

إنّ القَسَم من دون ذِكر المُقْسَم عليه تارةً، والشرط من دون ذِكر الجزاء تارةً اُخرى ـ كما وقع في القرآن الكريم ـ لمن موجبات تحريك الفكر البشري لتقدير المحذوف المناسب، وهذا أدعى للتأمّل والتدبّر.

ومن موارد هذه القاعدة ما ورد في هذه الآية التي لم تذكر الجزاء صريحاً، وإن كان ذلك مرتبطاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ﴾ ليكون الأمر أوقع في مقام التأثير والتأثّر؛ أي: الالتفات إلى اللّقاء الحتمي، والذي تشير إليه أيضاً آيات اُخر مثل: ﴿وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى﴾ [سورة النجم، 42] و﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾ [سورة فاطر، 18].

إنّ لأهل الدنيا كدحاً ومعاناةً في تحصيل العاجل من المتاع قد يستغرق كل العمر أو جلّه، وحينئذٍ نقول: أليس من الأولى أن يكون الكدح فيما خُلق الإنسان لأجله؟!.. أضف إلى أنّ كل ﴿كَادِحٌ﴾ للآخرة سيرى قطعاً أثر كدحه فيها، بمقتضى قوله تعالى: ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ بخلاف الكدح للدنيا، فلطالما خابت أعمال الكادحين لها وفيها!

إنّ الآيات الكريمة تشير إلى ضرورة الحركة في هذه الدنيا نحو المبدأ الأعلى، فتارةً يرد التعبير:

بالفرار ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾ [سورة الذاريات، 50].

بالمسارعة ﴿وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ﴾ [سورة آل عمران، 133].

بالسعي ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [سورة النجم، 39].

بالكدح، وفيه معنى السير والحركة مع المعاناة والمجاهدة، وهو المُستفاد من الحرف المستعمل في انتهاء الغاية، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾.

والملفت أنّ المُخاطب في ذلك هو الإنسان بما هو إنسان، والحال أنّ البعض يرى بأنّ الجهاد الأكبر تكليف خاص بخواص المؤمنين.

إنّ التعبير بـ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ قد يُستفاد منه ـ بلحاظ أنّ هذا الحرف يُستعمل لانتهاء الغاية ـ أنّ انتهاء الكدح يكون بلقاء الله تعالى، فلا معاناة بعد ذلك أبداً، بل إنّ الذي يتحقّق إنّما هو ما يقابل الكدح والمتمثّل بالسعادة والارتياح، وذلك كما لو قيل للزارع مثلاً: إنّك كادح إلى يوم الحصاد، فانّه يفهم منه أنّه لا كدح بعد الحصاد.

وفي المقابل فإنّنا نرى أنّ معاناة أهل الدنيا لا تنتهي بالموت؛ بل قد تشتدّ بعد الموت، ومن هنا كانت الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن.

إنّ الكدح إلى الله تعالى لا بُدّ أن يكون متناسباً مع الغاية الإلهية للخلق؛ فهو إلى الله تعالى كغاية للغايات.. وعليه، فإنّ الكدح إذا لم يكن إلهيّاً ما عاد موصلاً إليه، وبالنتيجة فإنّ ما يترتّب عليه وهو ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ لن يتحقّق أبداً، سواءً فسّرنا اللّقاء هنا:

بلقاء الله تعالى؛ أي: لقاء جزائه.

بلقائه هو تعالى بالشهود الباطني.

بلقاء حضوره وحاكميته في عرصات القيامة.

بمعنى لقاء العمل بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ [سورة الكهف، 49].

وشتّان بين كدحٍ للآخرة تكون نتيجته اللّقاء مع مَن كان الكدح إليه، وبين كدح للدنيا تكون نتيجته الخيبة والخذلان، وحمل أوزار الآخرين كما يقول تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [سورة العنكبوت، 13].

إنّ اللّقاء في هذه الآية ﴿فَمُلاقِيهِ﴾ لقاء لازم لكل مَن يرد المحشر، والكمال كل الكمال أن يسبق هذا اللّقاء القهري لقاءٌ اختياري بشوق وإرادة، وهي الغاية القصوى من الخلقة، وهو لقاء مترتّب على الكدح لا يتحقّق إلا في هذه الحياة الدنيا، فيكون مَثَل هذا اللّقاء الاختياري كمَثَل الماء الجاري في قناة محدّدة للشجرة التي يُراد سقيها منه.

وعندئذٍ نقول: كم يكون اللّقاء القهري جميلاً إذا سبقه لقاء اختياري، وهذا يفسّر شوق أولياء الله تعالى للموت؛ لأنّه تسريع لهذا اللّقاء الذي طالما انتظروه، وكل هذه المضامين من الممكن أن نجدها في وصف أمير المؤمنين (ع) للمتقين.

إنّه من الممكن أيضاً أن تكون هذه الجمل المتعلّقة بأهوال القيامة في مقام النصب لكلمة (اذكر) المقدّرة، وعلى هذا التقدير أيضاً فإنّ الأمر فيه ما فيه من التأكيد على عظمة ما تريده الآية من التذكير، وخاصة إذا قدّرنا أنّ المخاطب هو النبي الأعظم (ص) الذي هو على أعلى درجات الذِكر!

ومن المعلوم أنّ الذي يتلو القرآن الكريم لا بُدّ أن يكون في درجة عالية من الالتفات، عملاً بالأمر الإلهي بالتذكر، وإلا فما فائدة التلاوة المجرّدة من التأمّل؟!

إنّ هذه الآية تبيّن صنفين من أهل المحشر، وهم: المؤمنون الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ﴿أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ والكافرون غير المعترفين بالحشر الذين يأخذون كتبهم من وراء ظهورهم ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ إمّا من باب:

طمس الوجوه وإرجاعها إلى الخلف ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ [سورة النساء، 47].

إنّهم يأخذون كتبهم بشمائلهم ثمّ يخفونها وراء ظهورهم؛ فصدق هذا العنوان عليهم.

ومن الممكن القول: بأنّ هناك صنفاً ثالثاً هم عصاة المؤمنين، يأخذون كتبهم بشمائلهم؛ فكانوا في قبال الصنفين الأوّلين.

إنّ الحساب اليسير في قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ قد يكون:

بعرض الكتاب على صاحبه بما فيه من السيّئات من دون مداقة فيه؛ فيصدق عليه الحساب من جهة، واليسر من جهة اُخرى.

وقد يكون من جهة التجاوز عن السيّئات أو تبديلها إلى الحسنات إمّا: ببركة الشفاعة، أو فعل ما يوجب التيسير في الحساب، فقد جاء في الحديث الشريف: «ثلاث من كنّ فيه؛ حاسبه الله حساباً يسيراً، وأدخله الجنّة برحمته.. » قالوا: وما هي يا رسول الله؟!.. قال: «تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمّن ظلمك» [مجمع البيان، ج10، ص305].

إنّ هناك فرقاً كبيراً بين رجوع المؤمن إلى أهله يوم القيامة وبين غيره، فالمؤمن يرجع إلى أهله ليعيش معهم أبد الآبدين في سرور وحبور ﴿وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ سواءً فسّرنا ذلك بأزواجه من الحور العين المنتظرات لقدومه، أو بزوجته وأولاده الذين يلحقون به في الجنّة، أو بالمؤمنين الصالحين من قرنائه، فإنّهم في حكم أهله لسنخية الإيمان.

وهذا كلّه بخلاف سرور الكفار فإنّه سرور تصرّم في الدنيا وأعقبه حزن دائم، لمفارقته لمَن كان مسروراً فيهم حيث أسلموه لنفسه، فما الفائدة في أنّه ﴿كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ و﴿كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [سورة غافر، 75] بصيغة الماضي والحال أنّه الآن ﴿يَصْلَى سَعِيرًا﴾ بصيغة المضارع داعياً على نفسه بالويل والهلاك ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾.

إنّ سرور المؤمن في الدنيا سرور له ما يبرّره صدقاً وواقعاً، وذلك لأنّ ما يوجب له السرور هو فضل من الله ورحمة، فسروره برضا الربّ أكثر ممّا يكشف عنه من النعمة النازلة عليه ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [سورة يونس، 58] وكأنّ ما أوجب لهم السرور هو ما كان كاشفاً عن رضا الله تعالى عنهم.

وهذا كلّه بخلاف سرور أهل الدنيا؛ فإنّه أقرب إلى المرح المقترن بالغفلة، ولذا عبّر عنه القرآن الكريم بأنّه بغير حقّ حيث قال تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [سورة غافر، 75] .. فأيّ قيمة للباطل وإن كان في قالب السرور؟

إن كان تقسيم الكتب يميناً أو شمالاً أو من وراء الظهر واقعاً في جمع أهل المحشر؛ استلزم ذلك الفضيحة أمام الأشهاد وهو ما كان يتحاشاه العبد في الدنيا، أضف إلى أنّ تغيّر الوجوه واسودادها الظاهر للعيان والدالّ على سوء عاقبة أهلها [سورة آل عمران، 106]، فضيحة اُخرى من فضائح القيامة أمام الخلائق، وهذا بدوره عذاب نفسي للعصاة قبل دخول النار أيضاً.

إنّ من موجبات السرور والمرح الباطل؛ هي الغفلة عن اليوم الآخِر، وكذلك الجهل بالجزاء المُبهم الذي ينتظر أهله، ومن هنا فإنّ أوّل ما وصفهم به القرآن الكريم هو ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾؛ أي: لا يرجع إلى الله تعالى، وقد ورد في الخبر: «كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد» [نهج البلاغة، ص852]!

وعليه، فلو طرأ على العبد ما يوجب له السرور الكاذب، فما عليه إلا أن يتذكّر هول ما هو مُقدِم عليه أوّلاً، ومراقبة الله تعالى له ثانياً، حيث قال تعالى: ﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾ ليعود إلى رشده.. وقد ذُكر الأمران في هذه الآيات معاً كمُزيل لمثل هذا السرور؛ ألا وهو تذكّر أنّه يرجع إلى الله تعالى، وأنّه بصير به.

إنّ القَسَم بالشيء وإن كان جماداً كالشفق، واللّيل، والقمر؛ يعود إلى القَسَم بربّها، وذلك فيما لو تحقّقت النظرة إلى آيتيتها لعظمة الربّ؛ فلا داعي للجمود على مقولة أنّه لا يصحّ القَسَم بغير الله تعالى، فكل ما في الوجود منتسب إليه، فالنظر إليه يعود في الحقيقة إلى النظر إلى مُوجده، وهذا يفسّر أنس المؤمن أُنساً واعياً بالطبيعة، كأنس المحب بهدايا محبوبه.

إنّ طبيعة البشر قائمة على عدم الالتفات التفصيلي إلى ما حوله من آثار قدرة الله تعالى ورحمته، ومن هنا جاءت الآيات الكثيرة التي تقسِم بما حولنا من الأمور التي ألفناها من دون التفات إلى حكمتها، فمَن منّا يلتفت إلى نعمة جامعية اللّيل للمتفرّقات ولمّها للمنتشرات، لعودة كل متحرّك إلى سكنه ووكره، مستعيداً أنفاسه لصباح جديد، وهو ما يُستفاد من قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾.

إنّ الآية لم تقسِم بأصل القمر وإنّما باتساقه ﴿إِذَا اتَّسَقَ﴾؛ أي: بلوغه تمام الإضاءة ليلة البدر، فكأنّ القمر إنّما يصبح قابلاً لأن يُقسَم عليه إذا بلغ كماله وهو تمام نوريته، ومن المعلوم أنّ كمال كل شيء بحسبه.

وعليه نقول: بأنّ تمامية القمر ظرفاً زمانياً للقَسَم به، يحاكي تمامية خلقة آدم (ع) حيث لم يأمر الله تعالى الملائكة بالسجود له، إلا عندما نفخ فيه من روحه.

إنّ هذه الآيات جاءت لتؤكّد على هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآية اللاحقة وهي: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ والتي اختُلف في معناها بوجوه عديدة وذلك بالإشارة إلى: حالات الإنسان في مجموع الدنيا، أو حالاته في مجموع الدنيا والبرزخ والقيامة، أو حالاته في مجموع عرصات القيامة.

والجامع بين كل الأقوال: هي سرعة التبدّل وكثرته في حياة الإنسان، بما يدّل على أنّ هناك يداً خفيّة وراء كل ذلك وهي التي تقلّب هذه الأحوال، فلا بُد من الالتجاء إليها لتحويل الحال إلى أحسن الحال!.. أضف إلى أنّها داعية للمرء ليكون حريصاً على إيصال نفسه من خلال كل هذه التقلّبات إلى كماله المنشود، فلا يركن لما هو فيه فإنّ: «المغبون مَن تساوى يوماه» [معاني الأخبار، ص٣٤٢]!

إنّ تبدّل الأحوال من العسر إلى اليسر ـ وهو من لوازم طبقية حياة الإنسان المستفادة من الآية ـ يبعث في قلب صاحبه الأمل، فإنّ عدم ثبات المراحل هي في حدّ نفسها نعمة من هذه الجهة، بل لو افترضنا أنّ العمر كلّه استغرق بالعسر؛ لما كان ذلك مدعاة للتبرّم، ما دام العبد ينتظر مرحلة البرزخ والقيامة، والتي فيها كمال التعويض عن كل ضيق في هذه الدنيا.

إنّ للسجود مظهراً مادّياً من وضع المواضع السبعة على الأرض، ومظهراً معنوياً يتمثّل في إظهار الانقياد له، وقد يكون الأنسب لآية ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ هو المظهر الثاني، إذ ليس المطلوب هو السجود عند كل آية من آيات الكتاب الكريم، فالآيات الموجبة للسجود في القرآن الكريم محدودة، بل المراد هو الانقياد لمضامينها في كل ما فيه أمر ونهي.

ومن هنا نقول عن الذي يسجد ببدنه دون انقياد قلبي: إنّه لم يصل إلى حقيقة السجود الذي أُمرنا به.

إنّ هناك فرقاً جوهرياً بين موقف أهل الإيمان قبال آيات الله تعالى، وبين أهل الكفر والنفاق، وذلك أنّ المؤمنين:

﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [سورة مريم: الآية 58] والحال أنّ من يقابلهم ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾.

﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [سورة الأنفال، 2] ومن يواجههم ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [سورة التوبة، 125].

إنّ القرآن الكريم يؤكّد في آيات كثيرة على أنّ إصرار الكافرين على كفرهم ـ ولو في بعض حالاتهم ـ ليس ليقينهم بما هم فيه، أو لقصور في بيان الوحي؛ وإنّما هو لعنادهم، أو اتباعهم لنهج آبائهم، أو تغليباً لمصالحهم.. ومن هنا ورد التعبير بـ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ فالتكذيب جهد العاجز، لا دليل المستبصر بيقينه.

وقد انتقلت الآيات من لحن الخطاب إلى لحن الغيبة ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ اعراضاً عنهم، فلا يستحقّون الخطاب والمواجهة.

إنّ الله تعالى يُشير كثيراً في كتابه إلى حقيقة اطلاع الله تعالى على بواطن العباد، فهو الذي يعلم ﴿مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [سورة ق، 16] وهو الذي ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [سورة طه، 7] وهو الذي يعلم ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [سورة غافر، 19] ويذكر في هذه الآية أنه ﴿أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ وفي كل ذلك دعوة لمراجعة الإنسان لخلجانات نفسه، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى جوارحه، فالقلب هو الوعاء الذي يصدر منه ما يفيض منه، مصداقاً لما ورد عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة: «إنّ هذه القلوب أوعية؛ فخيرها أوعاها» [نهج البلاغة، ص495]!

ومن المعلوم أنّ الوعاء المطلوب في عالم القلوب، هو ما كان جامعاً لكثرة الاستيعاب أوّلاً، وحسْن ما يستوعبه ثانياً.

إنّ الله تعالى كما يُبشّر الكفار بالعذاب ـ وفيه ما لا يخفى من التهكّم والتوبيخ؛ إذ البشارة إنّما هي في مورد الأخبار السارّة ـ كذلك فإنّه يبشّر المؤمنين بالأجر الكريم ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [سورة الحديد، 11] والأجر العظيم ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء، 74] والأجر الكبير ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [سورة هود، 11] وأنّه ﴿أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [سورة فصلت، 8] فهو غير منقطع، وليس فيه شائبة المنّة وهو ذكر ما يثقل على المأجور، وهاتان الآفتان ـ في أجور أهل الدنيا ـ ممّا يكثر وقوعه؛ أي: الانقطاع، والمنّ.

إنّ القرآن الكريم كثيراً ما يستعمل ثنائي الإيمان والعمل الصالح، حال كونه جمعاً محلّى بألف ولام التعريف، وهو الذي يفيد العموم بأعلى صوره!.. إذ إنّ من المعلوم أنّ الفلاح الكامل يتحقّق باتباع جميع الأوامر، والإتيان بجميع الصالحات مقترناً بالإيمان، إلى درجة يجعل القرآن الكريم الخشوع في الصلاة ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [سورة المؤمنون، 2] وهو نفل غير فرض، من مقوّمات هذا الفلاح، ومن الواضح أنّ درجة هذا الفلاح تتناسب طرداً مع درجة الإيمان والعمل الصالح.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2454
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 02 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28