• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 85 ـ في تفسير سورة البروج .

85 ـ في تفسير سورة البروج

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (6) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)﴾

  1. ـ إنّ القرآن الكريم يُكثر من القَسَم بآياته السماوية من: الشمس، والقمر، والنجوم، ومنها ما في هذه السورة من ﴿الْبُرُوجِ﴾ أضف إلى التذكير بأصل السماء الجامعة لكل هذه الأجرام بقوله: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [سورة الحجر، 6].

ولعلّ السرّ في ذلك: إنّها في متناول كل من يريد التأمّل فيها، فيكفي أن يرفع الإنسان رأسه إلى جهة العلوّ ليرى كل ذلك، إضافة إلى أنّها مظهر العظمة اتساعاً وعمقاً، وهو تعالى المستفرد في التصرّف فيها، لأنه خارج سلطان البشر الذين يمكنهم الإفساد في الأرض دون السماء.

قيل في تفسير البروج أنّه مواضع النجوم [التبيان في تفسير القرآن، ج8، ص460]، ومن المعلوم أنّ الدقّة والحكمة في مواضعها ليست بأقل من أصل وجودها، فلو زالت عن مواضعها لتغيّر نظام الكون الأكمل: كتوالي الفصول، ومدّ البحار وجزرها وغيرها؛ وحينئذٍ يتجلّى لدينا أنّ هذا الفعل ـ كباقي مصاديق الخلقة ـ واقع في موقعه، مطابق للحكمة البالغة.

والملفت أنّ الله تعالى ـ بعد ذِكر جعله للبروج ـ يذكر القيامة وما فيها من انتقام الله تعالى من الظالمين بعد طول إفساد، ومنه يُعلم أنّ الحكمة وراء وضع الأبراج في مواضعها، هي بنفسها تقتضي الاقتصاص من الظالمين أيضاً، ليكون كل شيء في موضعه، سواءً في عالم التكوين أو التشريع.

إنّ تخصيص القيامة بالذكر ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ بعد ذكر عنصر من عناصر النشأة الأولى ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ يُشعر بأنّ كل ما يجري على المؤمنين من صنوف الأذى إنّما هو بنظر مَن الوجود كلّه بين يديه، فما يعيشونه من الأذى في ذات الله تعالى لا يذهب سدى، فهو الذي يُمهل ولا يُهمل.. وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) في وصف ما جرى لأصحاب الأخدود: «فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر، فلما هجمت على النار، هابت ورقّت على ابنها. فناداها الصبي: لا تهابي وارمي بي وبنفسك في النار، فإن هذا والله في الله قليل! فرمت بنفسها في النار، وصبيّها، وكان ممّن تكلّم في المهد» [مجمع البيان، ج10، ص314].

والتعبير باليوم الموعود يُشعر بما تطيب معه نفوس المنتظرين، فكأنّ الله تعالى جعل ذلك اليوم يوماً موعوداً ينتظره أولياؤه، تسكيناً لما يطلبونه من طلب تعجيل العقوبة على الظالمين لهم.

إنّ من غرائب القرآن الكريم، هو أنّ لفظة واحدة فيه تصلح لعشرات الاحتمالات، ففي آية ملك سليمان (ع) استخرج بعض المفسّرين عدد المحتملات فيها إلى ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستين ألف احتمال [تفسير الميزان، ج١، ص٢٣٤]، ومنها هذه الآية ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ والتي فيها من الوجوه المحتملة ما بلغت عندهم الثلاثين، وقلّما نجد مثل قابلية الانطباق هذه في غير القرآن الكريم.

ومن أنسب الوجوه المذكورة فيها هو تفسير الشاهد بالنبي (ص) لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [سورة الأحزاب، 45] والمشهود بيوم الجزاء لقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [سورة هود، 103].

فُسِّرت الشهادة في ﴿وَشَاهِدٍ﴾: تارةً بمعنى الحضور والمعاينة، وتارةً بمعنى شهادة الشاهد لإحقاق الحق وأداء ما حمّل من الشهادة [الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص249]، وعلى كلا المعنيين يتبيّن مقام النبي الأكرم (ص) الذي يعاين أعمالنا سواءً أيام حياته أو وفاته ثمّ يُقيم الشهادة علينا، وهذا بدوره من موجبات التهديد للمعاندين، والخجل للمحبّين، إذ إنّ ما نقوم به يبلغه ويؤذيه.

وكفى في ذلك ردعاً لمن كان في قلبه حبّ النبي (ص) فكيف يرضى المحبّ بأذى مَن يحبّه إن كان صادقاً في حبّه؟!

إذا كانت عبارة (أصحاب الأخدود) في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ﴾ إشارة للمؤمنين المقتولين فإنّ الآية تكون إخباراً عمّا وقع عليهم، وإن كانت إشارة للكافرين القاتلين كانت دعاءً عليهم!.. وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب من الدعاء على الغير في أكثر من مورد مثل قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [سورة عبس، 17] و ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ [سورة الذاريات، 10] وكأنّ الله تعالى ـ وهو الفاطر لهم بيد عنايته ـ لا يرى لهم استحقاقاً لاستمرار الحياة على أرضه التي جعلها لخلفائه؛ لأنّهم خارجون عن أصل الهدف من الخلقة، فيدعو عليهم بالموت الذي هو في مقابل الحياة، وشتان ما بين الدعاء بالموت والوعد بالإحياء حياة طيّبة ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [سورة النحل، 97]!

وهذا الأمر قد ينطبق ـ بدرجة من الدرجات ولو النازلة ـ على الكثيرين من غير أصحاب الأخدود، من جهة أنّ حياتهم ليست تجسيداً لما خُلق له الإنسان؛ ألا وهي خلافة الله تعالى في الأرض.

إنّ جريمة أهل الأخدود كانت من أشنع ما وقع على المؤمنين، وذلك لأمور، منها أنّهم:

شقّوا لهم أخدوداً في الأرض، لئلا يتمكّنوا من الهرب.

ألقوهم في حفرة وهم شهود وقعود حولها، يعاينون ما يجري على أهلها ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ فجمعوا بين التحقير والتعذيب.

بالغوا في تأجيج النار التي وصفها الله تعالى بأنّها ﴿ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ المشعرة بأنّها نار مستمرّة في اشتعالها؛ لما فيها ممّا يوجب اتقاد النار اتقاداً.

انتقموا منهم لا لأمر يعود إلى ذواتهم؛ وإنّما تحدّياً منهم لله الواحد القهّار إذ يقول: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ وهذا نظير ما وقع لطائفة اُخرى من المؤمنين ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ [سورة المائدة، 59].

إضافة إلى أنّ القتل بالنار من أبشع صور القتل؛ لأنّه موت تدريجي مع ما يوجبه من بشاعة منظر المحترق بها!

بعد ذِكر الآيات الأولى ـ من هذه السورة ـ لصورة من صور المواجهات القاسية، بين المؤمنين وقتَلتِهم الذين بالغوا في القسوة وذلك بالقتل حرقاً، فإنّ الله تعالى في هذه الآيات يذكّر النبي (ص) بصورتين اُخريين من صور المواجهة مع المؤمنين تتمثّل في بطش فرعون وثمود، وذلك من خلال مظهرهم العسكري ﴿حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ فاختار القرآن الكريم من بين مظاهر قدرتهم، خصوص الجانب العسكري الذي يتجلّى من خلال بطش جنودهم بالعباد، ولكنّ الله تعالى أهلكهم بما لا يخطر بالبال؛ متمثّلاً بالماء لقوم فرعون والهواء لقوم ثمود.

ومع ذلك فإنّ كفّار قريش لم يعتبروا بذلك بل هم ﴿فِي تَكْذِيبٍ﴾ فكأنّ الكذب كان ظرفاً لهم ومحيطاً بهم إحاطة الإناء بما فيه، وهذا إشعار باليأس من إيمانهم كما كان الواقع مؤيّداً لذلك.

إنّ الأقسام القرآنية هي للتأكيد على ما سيأتي بعدها من المُقْسَم عليه، إلا أنّ القرآن الكريم يُبهم في بعض الموارد جواب القَسَم؛ ليبحث المتأمّل بنفسه عن الجواب، زيادة في سوقه إلى عالم التدبّر والتأمّل في كتاب الله تعالى.

ومنه ما جرى في هذه السورة: إذ إنّ جواب القَسَم غير صريح ولكن يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ فكأنّ المُقْسَم عليه هو تحقّق الانتقام الإلهي يوم القيامة بأشدّ صوره وبما يناسب الفعل تناسباً طرديّاً، ومنه عذاب الحريق لأصحاب الأخدود ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ أي: بنار أوقدوا مثلها في الحياة الدنيا.

إنّ الله  تعالى ذكر التوبة بما يشعر بالإغراء بها في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ وذلك ضمن آية واحدة ذَكر الله تعالى قبلها تعذيب الكفار للمؤمنين ﴿فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾، ثمّ ذَكر بعدها صورة من صور التعذيب الإلهي لهم ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ وهذا كلّه يعكس مدى الرحمة الإلهية بالعباد، بعد أن فتح باب التوبة للعتاة من خلقه، وكأنّ الآية تريد ردع كفار قريش عن غيّهم، وتعدهم بالتوبة لو رفعوا اليد عن تعذيب النبي (ص) وأصحابه.

وحينئذٍ نقول: فكيف ييأس من رحمته تعالى، من كانت له ذنوب لا ترقى إلى رتبة تعذيب المؤمنين وقتلهم؟!

إنّ ذِكر عذاب الحريق في قبال عذاب جهنّم؛ يدلّ على أنّ عذاب جهنّم لا ينحصر في النار بل هناك:

المشروب الذي ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ [سورة إبراهيم، 17].

المطعوم المتمثّل بـ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾ [سورة الدخان، 43- 44].

التعذيب النفسي حيث يقال لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [سورة المؤمنون،  108].

وغيرها من صور العذاب ـ غير الإحراق ـ ما يكفي لإفزاع العصاة؛ فكيف إذا أضيف إلى مجموع ذلك عذاب الحريق الذي لا ينتهي بتفحّم أبدانهم، بل تتبدّل جلودهم كما في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [سورة النساء، 56].

 وقد يكون المراد في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ بعد ذِكر البطش الشديد، الإشارة إلى هذه الحالة من تبدّل الجلود، فيبتدئ خلق جلد جديد ثمّ يعيده، استمراراً للعذاب إلى أن يشاء الله تعالى.

تتجلّى الحكمة الإلهية في القرآن بمرادفة النعيم للجحيم، فالإنسان لا بُدّ أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، ومن هنا جاءت آية النعيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ بعد آية العذاب مباشرة، للموازنة بين الترهيب والترغيب، وهذه هي السياسة العامّة التي يتّبعها القرآن الكريم في تربية العباد، وحقّ لنا أن نتأسّى بها في سوقهم إلى الله تعالى.

إنّ إطلاق الصالحات في آيات كثيرة؛ مدعاة لعدم الوقوف على سنخ واحد من العمل الصالح كما يفعل البعض، كما أنّ العمل الصالح لا يشفع لصاحبه إذا لم يكن مقترناً بالإيمان أيضاً.. أضف إلى أنّ إطلاق الإيمان يقتضي الإيمان في كل الأمور التي يطلب فيها أن يكون المؤمن مؤمناً، فلا يقبل إيمانُ مَن يؤمن ببعض ويكفر ببعض.

ومن المعلوم أنّ للإيمان معنى يغاير الإسلام كما هو واضح في آية ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [سورة الحجرات، 14] فإذا لم يكن الإيمان المتجزّئ مجزياً، فكيف بالإسلام المتجزّئ؟!

إنّ البطش ـ وهو التعبير المناسب لمقابلة عمل الجبّارين ـ هو الأخذ بحزم وصولة، وهو ممّا يعطي رباطة الجأش لقلب النبي (ص) ومَن معه بمعنى أنّ صاحب البطش بالكافرين هو صاحب المودّة لأوليائه المؤمنين ﴿الْوَدُودُ﴾ وهو ﴿فَعَّالٌ﴾ لا يقف أمام إرادته شيء..

ومن الممكن القول بارتباط هذا التعبير بما ورد في السورة من مضامين اُخرى: فهو صاحب البطش الشديد بأعدائه ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ وصاحب الودّ والمغفرة لأوليائه ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ وصاحب المجد والغلبة في ذاته ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وصاحب العرش المشعر بحاكميّته في الوجود ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾.

وهذه المضامين ـ بمجموعها ـ تؤكّد على حقيقة أنّ الله تعالى ماضٍ في حكمه: إرضاءً للمؤمنين من ناحية، وإرغاماً للكافرين، وإظهاراً لعظمة ذاته من ناحية اُخرى.. فكم الآيات محكمة في سبكها، رائعة في الوعد والوعيد!

إنّ على المتأمّل أن يرى المقابلة بين فعل الله تعالى، وبين ما يصدر من أعدائه:

فهم الذين شهدوا قتل المؤمنين ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ والله تعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

وهم الذين أوقدوا ناراً ذات وقود لتعذيب الصالحين ﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ والله تعالى هو صاحب ﴿عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾.

وهم الذين انتقموا من المؤمنين في دار فانية ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ والله تعالى سينتقم منهم ببطشه الشديد في دار الخلود ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾.

وهم الذين سجّل الله تعالى ذمّهم في كتاب يُتلى إلى يوم القيامة، ولكنّه في المقابل يمدح عاقبة أوليائه بوعده لهم في أنّه سيدخلهم جنات الخلود ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾.

إنّ الله تعالى ذكر أسماء جلاله وجماله وصفات جارية عليه، في سياق ذكر هذه الواقعة، ولا يخفى ما في ذلك من المناسبة مع ما تصدّرت به السورة، من ذِكر الذين تحدّوا سلطان ربّ العالمين بتعذيب أوليائه فهو:

﴿الْعَزِيزِ﴾ الذي لا يغالبه شيء في هذا الوجود.

﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ عند الانتقام من قتلة المؤمنين، بل لكل ما تقتضيه حكمته البالغة.

﴿الْحَمِيدِ﴾ الذي هو أهل لكل حمد، والمستلزم لتكريم أوليائه بدلاً من إيذائهم.

﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فما كان ينبغي أن ينازعه أحد في سلطانه، ومنه قتل أوليائه.

﴿شَهِيدٌ﴾ فلا يغيب عنه ذرّة في الأرض ولا في السماء؛ فكيف يغيب عنه ما صدر من الجبّارين في حقّ المؤمنين.

﴿الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ لعامّة عباده، ولخصوص الذين أوذوا في سبيله، ومنهم أصحاب الأخدود.

تكرّر في القرآن الكريم معنى إحاطة الله تعالى بالأشياء والأشخاص والأفعال، ومنه ما في هذه السورة ﴿وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ وما في سورة اُخرى ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سورة فصلت، 53].

ومن المعلوم أنّ العبد لو استحضر هذه الحقيقة في كل تقلّباته، لوصل إلى مرحلة العصمة النازلة أو العدالة العالية، فلا يصدر منه العصيان وهو مستشعر لهذا الحضور الإلهي.

فكما أنّه لا يعقل أن يكشف المرء عن سوأته وهو يعلم بوجود ناظر محترم عنده، فكذلك الأمر في العبد المراقب لربّه فإنّ المعصية لديه بمثابة انكشاف السوءة الباطنية عنده؛ والتي حصلت لأبينا آدم (ع) ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ [سورة طه، 121].


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2450
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 01 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29