• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 89 ـ في تفسير سورة الفجر .

89 ـ في تفسير سورة الفجر

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ‏

﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)﴾

  1. ـ إنّ هذه السورة مسوقة لبيان السنن الإلهية في الأفراد والأمم، وشأن هذه السنن شأن سائر السنن التكوينية التي لا تنخرم، فذَكرت:
  • طبيعة الأمم الطاغية: وما آلت إليه الأقوام السالفة، وكيف أنّ طغيانها دمّرها تدميراً.
  • طبيعة الأنفس الطاغية: التي تأكل أموال اليتامى وتحب المال حبّاً جمّاً، وتجزع عند المصيبة وتبطر عند النعمة.
  • طبيعة الأنفس المطمئنّة: وهم العباد الذين رضوا عن ربّهم ورضي عنهم.
  1. ـ قلّما وقع الاختلاف في تفسير مفردة من مفردات الأقسام القرآنية كما وقع في هذه السورة، فأنهى بعضهم مجموع المحتملات في مفردة ﴿الْفَجْرِ﴾ و﴿الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ إلى أكثر من أربعين احتمالاً!

وبناءً على ما تقدّم وغيرها من الموارد المشابهة، لزم القول بوجود مكمّل لكتاب الله تعالى؛ له العلم بالوجه المراد من بين هذه المحتملات، ولا يتمثّل ذلك إلا من خلال الثقل الآخر، وهو العترة الهادية التي استوعبت حقائق القرآن؛ إذ هم الذين خوطبوا به.

  1. ـ إنّ عُمدة الأقوال في مفردات ﴿الْفَجْرِ﴾ و﴿لَيَالٍ عَشْرٍ﴾ و﴿الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ و﴿اللَّيْلِ﴾ متردّدة بين احتمالين:
  • الأوّل: ارتباطها بأزمنة الحج؛ فالمراد من ﴿الْفَجْرِ﴾ هو فجر العيد، ومن ﴿لَيَالٍ عَشْرٍ﴾ هي العشرة الأولى من ذي الحجة، ومن ﴿الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ يوم التروية ويوم عرفة، ومن ﴿اللَّيْلِ﴾ ليلة مزدلفة.
  • الثاني: ارتباطها بالصلاة؛ فالمراد من ﴿الْفَجْرِ﴾ هو وقته الصادق المقترن بوقت فريضة الصبح، ومن ﴿لَيَالٍ عَشْرٍ﴾ هي الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان؛ حيث يتمحّض فيها العبد لعبادة ربه أسوة بالنبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله)، ومن ﴿الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ هو ما يصلّيهما المتهجّد ساعة السحر، ومن ﴿اللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ هو مطلق آخر الليل بعدما سرى الليل ومضى منه ما مضى.

وبالرجوع إلى هذين القولين، يتبيّن لنا أهمية هذين الركنين من العبادة؛ أي: الحج والصلاة.

  1. ـ جرت عادة القرآن الكريم على ذِكر المُقْسَم عليه بعد القَسَم مباشرة، ولكن الملفت في هذه السورة أمران:
  • الأوّل: إنّ جواب القَسَم محذوف ـ على قول ـ وإن دلّت القرينة على مضمونه.
  • الثاني: إنّ الله تعالى بعد ذِكر هذه الأقسام، يستفهم تقريراً؛ وذلك بالقول: إنّ هذه الأقسام هل هي كافية لمَن كان له عقل ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ ؟!
  1. ـ إنّ جواب القَسَم مردّد بين أن يكون:
  • قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.
  • وبين أن يكون أمراً محذوفاً يدلّ عليه (الإنذار) بوقوع العذاب والانتقام الإلهي في الدنيا والآخرة من الطغاة، وبين أن يكون أمراً محذوفاً يدل عليه (التبشير) بجزيل الثواب لأصحاب النفوس الراضية المرضية التي تُسعد باطمئنانها في الدنيا وتدخل في جنة ربها يوم القيامة.

وفي هذا ـ كباقي موارد الإبهام في جواب القَسَم ـ دعوة للتدبّر والتأمّل في الآيات الكريمة.

  1. ـ إنّ هناك علاقة بين المعنى اللغوي لمادة الاشتقاق في (حجر) وبين العقل المفسّر به ﴿لِذِي حِجْرٍ﴾، ففي كل موارد الحجر من: الحُجرة، والمحجور عليه، وحجر الأم؛ نرى عنصراً مشتركاً يجمع كل هذه الموارد ويتمثّل بالحفظ والمنع؛ فالمحجور عليه ممنوع من التصرّف، والحُجرة والحِجر يمنعان دخول الأغيار ويحفظان مَن كان فيه.

وهكذا، فإنّ العقل إذا تمّ في الإنسان فإنّه يحفظه من الزيغ والأهواء، ويمنعه من الحركة على خلاف الفطرة، المطابقة للأحكام العقلية المغروسة في باطنه.

  1. ـ إنّ هذه السورة المباركة تعرض صوراً من القوّة البشرية، المتمثلة تارةً:
  • بالتقدّم العمراني وإتقان بناء المدن: الذي تمثّل في بناء مدينة (إرم) التي قيل عنها أنها عديمة النظير، ذات قصور عالية وعمد ممدّدة، كما يُفهم من قوله تعالى: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾.
  • بالتقدّم الصناعي: الذي تمثّل في قطع الصخور لاستخدامها في البناء، والأمر لا يخلو من إتقان وخاصة في العصور الخالية من أدوات النحت والقطع الحديثة، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾.
  • بالبطش العسكري: الذي تمثّل في قوّة فرعون وجبروته في التعامل مع أعدائه، حتى إنّ زوجته آسية لم تسلم منه حينما وتدها كعادته في تعذيب خصومه، وهو ما أشار إليه تعالى: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾.

ويجمع الكل عند هؤلاء الجبابرة عنوان: الطغيان، وتعدّي الحدود، وإشاعة الفساد في الأرض.

  1. ـ إنّ الله تعالى يُمهل بعض مَن يخالفه مخالفة شخصية لا تعود إلى إفساد النوع البشري، بل يسارع في العفو عنه عند الإنابة إليه؛ ولكنّه شديد الأخذ لمَن صار سبباً في شيوع الفساد البشري، كما عُبّر عنه في آية اُخرى بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ [سورة البقرة، 205]، ومن هنا فإنّ من موجبات الانتقام الشديد المذكور في هذه السورة هو ما قام به هؤلاء الطغاة حيث ﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾، فلم تبق لهم باقية على وجه الأرض.

ولا يخفى ما في الآية من تطييب لخاطر النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وهو يواجه طغاة زمانه، وذلك بإضافته إلى نفسه بوصف الرب حيث عبّرت بـ﴿رَبَّكَ﴾ للدلالة على أنّ المنتقم من القرون السالفة هو المنتقم من الأمم الحاضرة ـ بمقتضى ربوبيته القاهرة ـ وهو ما حلّ بهم عندما أرسل عليهم طيراً أبابيل وغيرها من صور الانتقام.

  1. ـ إنّ العقوبات الإلهية متجانسة دائماً مع طبيعة المخالفة، فالذين أكثروا الفساد في الأرض ممّن ذكرتهم الآية وهم قوم عاد وثمود وفرعون؛ كان جزاؤهم ممّا يناسب هذا الطغيان المتجاوز لحدوده، والمتّصف:
  • بالتوالي: الذي يشعره قوله تعالى: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ﴾، فالماء المصبوب هو المتوالي في جريانه، وهو مشعر بالقوّة والاندفاع أيضاً، وقد استخدم هذا التعبير القرآني في وصف المطر أيضاً؛ بقوله: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ [سورة عبس، 25].
  • بالشدّة المستفادة من ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾، فإنّ السوط أداة من أدوات التعذيب المعهودة.
  • بالمباغتة ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ فإنّ العذاب المفاجئ أشد إيلاماً لمَن نزل عليه؛ وذلك لعدم إعداد نفسه لتقبّل العذاب أو دفعه عن نفسه.
  1. ـ إنّ التعبير ﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾ يوحي بأمرين:
  • إنّ الراصد يريد الانتقام من المرصود في الوقت المناسب؛ ليكون أوقع في الانتقام.
  • إنّ المرصود لا يلتفت إلى كمين راصده، وإلا ما عاد كميناً!

ومن المعلوم في المقام، إنّ العبد لو التفت إلى مراقبة ربّه له، وأورثته تلك المراقبة الخشية والخوف منه، لما تعرّض لهذا اللون من الانتقام المفاجئ، الذي يتجلّى في نار جهنم حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾.

﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)﴾

  1. ـ إنّ هذه الآيات تريد أن تُحدِث انقلاباً جوهرياً في نظرة الإنسان تجاه النعمة والبلاء، فليست النعمة إكراماً دائماً يوجب الفرح ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [سورة الحديد، 23] وليس البلاء إهانة دائماً توجب الجزع والحزن ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ [سورة الحديد، 23]، ومن الطبيعي أن تنقدح هذه المشاعر الأولية في نفس الإنسان كطبيعة مغروسة فيه، إلا أنّ هدف الأنبياء هو الأخذ بيد الإنسان ليخرج من مقتضى طبيعته، كما في باقي موارد اقتضاء الطبيعة، التي تكرّر ذكرها في القرآن الكريم.

والملفت هنا أنّ الله تعالى كرّر كلمة ﴿ابْتَلَاهُ﴾ في مورد النعمة والبلاء معاً؛ تأكيداً على أنّهما في رتبة واحدة لاختبار عبودية العبد وإثبات طاعته!

  1. ـ إنّ الآيات الذامّة لهذه الحالة في طبع الإنسان ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ مرتبطة بما قبلها وبما بعدها:
  • فأمّا الارتباط بما قبلها، فكأنّها تريد أن تقول: إنّ الرقابة الإلهية للبشر وكونه بالمرصاد للطاغين؛ تستوجب أن يصرف العبد همّته في إرضاء ربّه، وأن يبتعد عمّا يوجب سخطه، لا أن يقصِر نظره على المتاع العاجل، فيرى الوجدان إكراماً والفقدان إهانة.
  • وأمّا الارتباط بما بعدها، فكأنّها تفيد: إنّ قواعد الإكرام والإهانة مختلفة عمّا هو في نظر البشر، فما يوجب الإهانة هو ما ذُكر في الآية من بعض المخالفات كعدم إكرام اليتيم وأكل مال الغير، وما يوجب الإكرام هو الحضّ على طعام المسكين، وقطع التعلّق القلبي بالمال.
  1. ـ إنّ طبيعة المؤمن عند الحديث مع ربّه هي النظر إلى جماعة المؤمنين؛ ومن هنا كثُر التعبير بـ﴿رَبَّنَا﴾ في أكثر من ستين مورداً في القرآن الكريم، وذلك عندما يتوجّه المؤمن إلى ربّه فيرى جميع المؤمنين معه فيعمّهم بدعائه، ولكن غير المؤمن يجعل نفسه محور حديثه مع ربّه، من دون التفات إلى غيره، ولو من باب الذهول لهول ما يراه، ولذا كان الضمير العائد إليه تعالى ـ عند نقل حديثهم ـ على نحو المفرد حيث يقول: ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ و﴿رَبِّي أَهانَنِ﴾.

والملفت في المقام: إنّ ما جُعل مِلاكاً للإكرام والإهانة عندهم هي المحسوسات من النّعم، ولم يرقَ فكر هؤلاء إلى أن يجعلوا مقياس الإكرام والإهانة قربهم من المولى، وهو ما تشير إليه الآيات الأخيرة من مقام النفس المطمئنة والتي هي ﴿رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾، وهذا هو ما كان ينبغي أن يكون عليه أحدهم في حركته في الحياة.

  1. ـ إذا ارتقى العبد إلى مستوى فهم مدبّرية الله تعالى لهذا الوجود والمقترنة بالحكمة البالغة؛ فإنّه لا تختلف عنده النعمة والبلاء؛ إذ إنّ العبد:
  • يحب ما يحبه مولاه في أيّة صورة كانت محبته، فقد يحب البلاء لعبده أكثر من محبته للعافية له.
  • لا يرى مزيةً في النعمة ولا نقمةً في البلاء؛ ما دام الاثنان في سبيل التكامل والرقي، بل قد يصل إلى درجة يرى في قرارة نفسه ميلاً إلى البلاء؛ لما يورث له الصبر عليه من: التضرّع والالتجاء إلى ربّه في الدنيا، والتعويض المضاعف في الآخرة.

15- إنّ المطلوب على ما تذكره هذه الآية ﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ غير ما يفهمه عامة الناس من مساعدة اليتيم بالطعام والكسوة ونحوه، بل المطلوب ما هو الأعم؛ أي: الإكرام بمفهومه الواسع، وهو مفهوم يغاير مجرد الإطعام، ويدخل فيه ما يوجب له الاحترام والتعظيم، المجبر للوهن الذي يورثه اليُتم عادةً، كما أنّ المطلوب ليس إطعام المسكين فحسب، بل حثّ الآخرين على هذا العمل؛ فإنّ إنفاق البعض لا يسدّ حوائج المساكين لكثرتهم في كل عصر، بل لا بُد من سعي جماعة المؤمنين بالحضّ والحثّ وخاصة فيما يتعلّق بالطعام؛ فإنّ فقْد القوت كما ذَكر أمير المؤمنين (عليه السلام) من موجبات أن «يتبيّغ بالفقير فقره» [نهج البلاغة، الخطبة 209].

ومن الملفت أنّ القرآن الكريم يخصّ هذه الصفة ـ أي: ترك الحضّ على طعام المسكين ـ بالذم الشديد من بين الصفات، ويجعله في مصاف صفات الكافرين ﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [سورة الحاقة، 33-34].

16- إنّ فقد اليتيم للولي من موجبات التجرّؤ على أكل ماله، فيضمّ أحدهم ماله إلى ماله ﴿أَكْلًا لَمًّا﴾ ليأكل أخيراً في بطنه ناراً، وهو ملكوت أكل مال اليتيم.

وقد كثرت الآيات الداعية إلى الرفق باليتيم، سواءً من جهة نفسه أم من جهة أمواله كقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ [سورة النساء، 127] و﴿إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [سورة النساء، 8] و﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [سورة النساء، 2]، ومنها ما في هذه السورة ﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ والمشتملة على الانتقال من الغيبة إلى الخطاب، ليكون النهي عن الفعل أردع، والتشنيع على فاعله أوقع!

17- إنّ القرآن الكريم عندما يسند أمراً إلى الطبيعة البشرية، مثل الهلع والجزع والبخل كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [سورة المعارج، 19-21]، وكحب المال ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، فإنّها تشير إلى حقيقة هامة: وهي أنّ قلع هذه الصفات من النفس وعدم المشي وفق طبيعتها يحتاج إلى مجاهدة ومغالبة للنفس، وإلا فإنّ الإنسان ينساق وفق هذه الطبيعة كانسياق الأشياء إلى جاذبية الأرض.

والملفت هنا أنّ هذه السورة حذّرت من تبعات حب المال بأمور محدّدة، منها: عدم إكرام اليتيم، وعدم إطعام المسكين، وأكل أسهم الإرث، وحب جمع المال من أيّ طريق، حلالاً كان أم حراماً.

18- إنّ قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ تجعل الإنسان لا يعبأ بما تراه عينه في الدنيا من مظاهر العظمة الدنيوية: كالعمارات الشاهقة، أو مظاهر العظمة الطبيعية: كالجبال الراسية، وذلك لما يراه بعين قلبه ما ستؤول إليه هذه الشواهق إلى قاع صفصف ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [سورة طه، 105-107].

ومن الواضح أنّه عندما تسوّى شواهق الأرض وتأتي المرحلة الاُخرى من ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾، فإنّه تتجلّى هيبة الحضور الإلهي في ذلك الموقف المذهل، وهنيئاً لمَن كانت له علاقة الأنس مع صاحب هذه العظمة في دار الدنيا، قبل أن يرى ما ستؤول إليه الشاهقات.

19- إنّ كلمة ﴿كَلَّا﴾ المتكرّرة في هذه السورة مرّتين ـ رغم أنها غير متعلّقة بشيء ظاهراً ـ إلا أنّ لها معنىً عميقاً يتمثّل في الردع عن معنى سابق، وذلك تهيئةً لمعنى لاحق:

- ففي الأولى ﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ وهي ردع عمّا هم عليه من الاعتقاد الباطل من أنّ (الإنعام) علامة الإكرام، و(تضييق الرزق) علامة الإهانة، ليكون هذا مقدّمة للدعوة إلى اعتقاد بديل من أنّ (إكرام اليتيم) هي علامة الإكرام، و(تضييق رزق المسكين وعدم الحضّ عليه) هي علامة الإهانة.

- وفي الثانية ﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ تهيئة للاعتقاد بأنّ ما يوجب الإكرام والإهانة الحقيقية للعبد، هو ما يظهر يوم القيامة من أثر سعيه في الدنيا، عندما يدكّ الله تعالى الأرض دكّاً، ويقف الإنسان أمام ربه موقف العبد الذليل.

20- إنّ القرآن الكريم يريد ممّن يتلو آياته أن يكون من ذوي اللّب، وهذا يستلزم التفكّر والتدبّر، فقد وردت فيه آيات تدلّ ـ بظاهرها ـ على جسمانية الخالق كقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه، 5]، و﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [سورة الفتح، 10]، و﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [سورة البقرة، 210]، إضافة إلى ما جاء في هذه السورة كقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾.

ولكن عندما يفتح العبد أقفال قلبه، ويدرك حقيقة استحالة التجسّم، حيث إنّه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [سورة الشورى، 11]، وهو الذي قال عن نفسه: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ [سورة الأعراف، 143]، فإنّه لا مناص من تقدير مضاف في البين من قبيل: الأمر، أو القهر، أو جلائل الآيات، أو غيره.

21- إنّ (مجيء جهنم) يوم القيامة يمكن تفسيره:

  • بالمعنى المجازي؛ أي: برزت لأهلها، كما في قوله تعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾ [سورة النازعات، 36]، فكأنّها جاءتهم بعد أن كانت غائبة عنهم.
  • بالمعنى الحقيقي؛ أي: تحرّكت جهنم من مكانها وأقبلت إليهم، فكأنّ هذا الأمر أوقع في التهويل، وكأنّ جهنم متعجّلة لابتلاعهم قائلة: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [سورة ق، 30]. ويؤيّد هذا المعنى ما رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) عندما سُئل عن مجيء جهنم، فقال: «إذا جمع الأولين والآخرين، أتي بجهنم تقاد» [بحار الأنوار، ج٧، ص١٢٥].

وقد رُوي أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) تغيّر وجهه إلى درجة عُرف ذلك في وجهه، حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله، وذلك حينما نزلت هذه الآية لشدّة ما فيها، ومن المتوقع أن يتذكّر الإنسان سعيه في الدنيا، ولكن من دون أن يكون لهذه الذكرى ما ينفع، حيث فات وقت العمل!

22- هناك مجموعة من التمنّيات لأهل المحشر عندما يرون العذاب الإلهي، منها تمنّي:

 - عدم اتخاذ الخليل الذي صدّه عن سبيل ربّه في دار الدنيا ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [سورة الفرقان، 28].

- عدم تلقيّه كتاب العمل لما فيه من المخازي ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [سورة الحاقة، 25].

- أن لو كان تراباً فلم يعرف حساباً ولا كتاباً ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [سورة النبأ، 40].

- ومنها ما في هذه السورة حيث يتمنّى تقديم شيء لحياته ﴿لَيْتَني‏ قَدَّمْتُ لِحَياتي﴾.

ومن الملفت أن المتمنّي في هذه الآية يقول: ﴿قَدَّمْتُ لِحَياتي﴾ ولم يقل: (لآخرتي)، وكأنّ ما مضى لم يكن حياة أصلاً وهو ما تبيّنه آية اُخرى ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة العنكبوت، 64].

23- إنّ عادة الكريم الحليم قائمة على عدم التهديد والوعيد إلا في مقام الضرورة، فكيف بفعلية الوعيد؟! وكيف إذا كان الوعيد في أوجه من التهديد؟!

وبعدها نقول: إنّ جرأة بني آدم على ربّه بلغت مبلغاً جعلته تعالى ـ وهو الذي سبقت رحمته غضبه ـ يهدّده بأعلى درجات التهديد؛ حيث يقول تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ فجعل نفسه في مقام القهارية العظمى، سواءً أسندنا ﴿يُعَذِّبُ﴾ و﴿يُوثِقُ﴾ إلى ذاته المقدَّسة بقراءة المعلوم، أو إلى العبد المعذَّب والموثوق بقراءة المجهول، ومن المعلوم أنّ التأمّل في هذا الوصف من العذاب والوثاق، يهوّن على المؤمنين ما نزل بهم من تعذيب الكفار لهم؛ لأنّ ما ينتظر الظالمين من العذاب لا يخطر بالبال!

24- إن (النفس المطمئنة) تشرّفت بالخطاب هنا بقوله تعالى ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ وإن لم يكن صاحبها ممّن يُوحى إليه!

وليُعلم أنّ الطريق إلى اطمئنان النفس مبيّن في القرآن الكريم، وهو متمثّل في (الذِكر) حيث يقول تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد، 28]، وهو يتحقّق بأمرين:

- الصلاة: حيث قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [سورة طه، 14].

- القرآن: حيث عبّر عنه مُنزله قائلاً: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ [سورة الحجر، 9].

فبمجموع القرآن الصاعد وهي (الصلاة) والنازل وهو (القرآن)، يمكن الوصول إلى هذه الرتبة، وهذا هو الذي جعل الإمام السجاد (عليه السلام) يقول: «لو مات مَن بين المشرق والمغرب، لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي» [الكافي، ج2، ص602].

25- إنّ استخدام تعبير الجنة مضافة إلى الباري تعالى ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ لم يرد إلا في هذه السورة المباركة؛ وذلك لإفهام مزيد الشرافة لهذه الجنة التي أُعدّت لجمع من العباد قد أضافهم إلى نفسه، وكذلك الأمر في قوله تعالى: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ حيث جعل المولى الدخول في زمرة العباد المخصوصين بالعناية جزاء للنفس المطمئنّة، وما ذلك إلا لأنّهم خلّصوا أقدس بقعة من وجودهم ممّن سواه ـ ألا وهو القلب ـ فأفاض عليهم من الاطمئنان ما جعلهم راضين عنه، ومرضيّين لديه.

ومن الملفت في المقام: أنّ الله تعالى ذَكر ـ في مقام الجزاء ـ دخولهم أوّلاً في زمرة العباد، وعلى رأسهم كما رُوي عن الصادق (عليه السلام): «محمداً وأهل بيته» [الكافي، ج3، ص128] ثمّ دخولهم الجنة، فإنّ شرف الجنة بأهلها، كما أنّ شرف كل مكان بالمكين!

26- إنّ دخول الجنة عموماً أو الجنة الخاصة بأولياء الله تعالى، يتوقّف على الخوف من مقام الرب، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات، 40-41]، وهذا الخوف ملازم أو ملزوم لمخالفة الهوى الذي يُسند إلى صاحبه، إذ لا إجبار في البين.

وينبغي التفريق هنا بين الخوف من المقام، والخوف من العقاب، فالأليق بخاصة العباد هو الأوّل لا الثاني، لعدم ارتكابهم ما يوجب لهم العقاب.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2432
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 12 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24