• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : عبادة النبي (ص) في القرآن * .

عبادة النبي (ص) في القرآن *

السيّد رضا الصدر

﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: 1 -2].

يحدّثنا أرباب التفسير والسير: أنّ محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) قام عشر سنين يعبد ربّه على قدميه حتّى تورّمتا واصفرّ وجهه. وكان يقوم الليل أجمع، حتّى نزل قوله تعالى: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى﴾‏ [انظر: تفسير القمّي، ص 417؛ أنوار التنزيل للبيضاوي، ج 2، ص 170؛ مجمع البيان، ج 7، ص 2؛ عنها: بحار الأنوار، ج 16، ص 85، ح 3 و4].

وكان يصلّي الليل كلّه، ويعلّق صدره بحبل حتّى لا يغلبه النوم، فأمره ربّه سبحانه أن يخفّف على نفسه، وذكر: أنّه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كلّ هذا التعب، فهو عبد اللّه ورسوله.

تشترك العبادة مع العبودية في المبنى والمعنى، فإنّ كليهما مشتقّان من العبد. وتفترق عنها في ثلاثة أشياء.

الأوّل: من جانب المولى

أنّ العبادة هي العبودية للّه دون سواه، والواجب فيها أن يكون العمل محبوباً لديه تعالى، ويعرف ذلك بإرشاد منه تعالى بواسطة رسله وأنبيائه؛ ولذلك قال الفقهاء: إنّ العبادات توقيفية.

ليس لأحد أن يخترع من نفسه عبادة يعبد بها اللّه، أو يزيد شرطاً فيها أو جزءاً، أو يسقط عنها شرطاً أو جزءاً، وإلّا فإنّها ليست بعبادة.

الثاني: من جانب الغاية

أنّ الغاية من العبادة وثوابها راجعة إلى العابد، لا إلى المعبود، فإنّه غنيّ عنها، فإذا أجمعت البشرية كافّة على عبادة اللّه فلا يزيده ذلك شيئاً، وإذا لم يعبده أحد على وجه الأرض فلا ينقصه ذلك شيئاً.

إنّ ثمرات عبادات الخلائق كلّها ترجع إلى أنفسهم إذا كانت خالصة لوجه اللّه وحده، لأنّ الشرك في العبادة مفسد للعبادة ذاتها.

الثالث: اعتبار الاختيار

إنّ الشرط في حصول العبادة وصحّتها أن يكون صدورها من العبد باختياره ورضاه، والّتي لا تصدر برضى العبد ليست بعبادة، فلا إكراه في الدين. وأنّ هناك فرقاً بين عمل الإنسان وبين عمل الإله، والعبادة مطلوبة من عبد اللّه كإنسان لا كإله.

ليست للعبادة صورة خاصّة، فهي لا تختصّ بالصلاة والزكاة، بل كلّ عمل خير يصدر من الإنسان تقرّباً للمولى هو عبادة.

وإنّ المولى يتيح للإنسان أن يعبده في جميع أفعاله وأحواله، في قيامه وقعوده، وفي مشيه ووقوفه، وفي كلامه وسكوته، وفي راحته وتعبه.

شرّف اللّه محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) بوسام العبد، فقال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾‏ [الإسراء: 1]، كما وصف خليقته في مواضع شتّى من كتابه بالعباد. ولكنّ محمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) قام بعبوديّته الحقيقية دون الخلق. وإنّ العبودية هي ميزة الأنبياء والأولياء على البشر، الّذين قلّ أن يوجد فيهم من يقوم بهذا الواجب. قال اللّه تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾‏. [سبأ: 13] إنّ العبادة حمد للّه، والحمد أفضل‏ أنواع الشكر.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي من شدّة البكاء. وقد آمنه اللّه عزّ وجلّ من عقابه، فأراد أن يتخشّع لربّه ببكائه [...] ولقد كان يبكي حتّى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول اللّه، أليس اللّه غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: «بلى، أفلا أكون عبداً شكوراً؟!» [الاحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي)، ج‏1، ص: 219- 220. الأثافي: الأحجار التي يوضع عليها القدر. والمقصود هو أن يسمع لصدره (صلّى اللّه عليه وآله) كصوت الغليان من شدّة البكاء].

وعن أبي ذرّ الغفاري: قام رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ليلته يردّد قوله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾‏ [المائدة: 118]. [سنن النسائي، ج 1، ص 156؛ فضائل الخمسة، ج 1، ص 168].

وعن ابن مسعود: قال لي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): اقرأ عليّ، ففتحت سورة النساء، فلمّا بلغت: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: 41] رأيت عينيه تذرفان من الدمع، فقال: «حسبك الآن...». [مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 380؛ فضائل الخمسة، ج 1، ص 170]

وعن أمّ سلمة: كانت الليلة ليلتي، فاستيقظت من نومي فلم أجد النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) في فراشي، فدخلني ما يدخل ببال المرأة التي تكون لها ضرّة، فقمت أطلبه في جوانب البيت، حتّى انتهيت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي، وهو يقول: «يا إلهي، لا تأخذ منّي ما أعطيتني من النعم، ولا تجعلني محلاً لشماتة الأعداء والحسّاد، ولا تبتلني بالنقم التي أنقذتني منها، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين...» ولمّا سمعت بهذه الدعوات أخذتني الرعدة كالأفكل. [الأفكل- بالفتح-: الرعدة من برد أو خوف. (لسان العرب مادّة: أفل)]

وذهبت الى زاوية وبدأت بالبكاء والنحيب، حتّى ارتفع صوتي وقرع سمع زوجي الكريم، فأتاني وسألني: لماذا تبكين؟ فأجبته: كيف لا أبكي وأنت بالمنزلة التي لك عند اللّه، غفر اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، وتسأله أن لا يشمت بك عدوّاً وأن لا يردك بسوء استنقذك منه أبداً، وأن لا ينزع منك صالحاً أعطاك أبداً، ولا يكلك إلى نفسك طرفة عين، فويل لمثلي؟!

فقال (صلّى اللّه عليه وآله): وما يؤمنني؟ وإنّما وكّل اللّه يونس بن متّى إلى نفسه طرفة عين وكان منه ما كان. [تفسير القمّي، ص 432؛ بحار الأنوار، ج 16، ص 217، ح 6]

ودخل عليه عمر بن الخطّاب وهو موقور شديد المرض، فقال عمر: يا رسول اللّه، ما أشدّ وعكك أو حماك! فقال (صلّى اللّه عليه وآله): ما منعني ذلك أن قرأت الليلة ثلاثين سورة فيهنّ السبع الطوال.

فقال عمر: يا رسول اللّه، غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر وأنت تجتهد هذا الاجتهاد؟! فقال: يا عمر، أفلا أكون عبداً شكوراً؟! [أمالي الطوسي، ج 2، ص 257؛ البحار، ج 16، ص 222، و ج 71، ص 48]

كان هؤلاء الذين يعجبون بعبادات النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) يزعمون أنّ العبادة إنّما تفيد لغفران الذنوب، فلذلك كانوا يقولون له: وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، وهم غافلون أنّ العبادات تقرّب العبد إلى المولى وتزيد في كماله، فكلّ قرب حصل للعبد يكون فوقه قرب، إذ لا نهاية في علوّ مقام البارئ، وإنّ النفس الإنسانية قابلة للترقّي وللتكامل قبولاً غير متناه، إذن لا نهاية للعبادة، قال تعالى مخاطباً نبيّه: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79].

ولمّا كانت درجات الكمال غير متناهية، والإنسان قابل لصعودها، ومحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) هو الإنسان الكامل فهو غير متوقّف عند درجة، بل هو صاعد دائماً، فإنّه دائماً في نوع‏ من عبادة اللّه، ففي كلّ ساعة يصعد درجة ويتلبّس بكمال فوق الكمال الحاصل، فإنّ الصعود لبس فوق لبس، وليس بخلع ولبس. وقد تبيّن بذلك: أنّ المقام المحمود ذو درجات غير متناهية، فكلّ درجة تحصل للسالك الصاعد هي مقام محمود.

عن أمير المؤمنين (عليه السّلام): «إنّ قوماً عبدوا اللّه خوفاً من ناره فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا اللّه طمعاً فتلك عبادة التجّار. وإنّ قوماً عبدوا اللّه لأنّهم وجدوه أهلاً للعبادة فتلك عبادة الأحرار». [نهج البلاغة، ص 510 رقم 237؛ الوسائل، ج 1، ص 46، ح 3؛ تحف العقول، ص 246؛ البحار، ج 41، ص 14، ح 3 و ج 70، ص 196، ح 14]

وعبادة الأنبياء والأولياء من القسم الثالث من أقسام العبادة... لأنّ هذا القسم لا يحصل إلّا لمن عرف اللّه بمقدار استطاعته، وهذه المعرفة تختصّ بهؤلاء دون غيرهم.

فالأنبياء والأولياء هم أحرار البشرية دون غيرهم. وتبلور بذلك أنّ للحرّيّة درجات كما للمعرفة درجات.

________________

(*) من كتاب: محمّد (صلّى الله عليه وآله) في القرآن،‏ ص 109 – 113، بتصرّف يسير.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2402
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 09 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24