• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : دروس قرآنية تخصصية .
              • القسم الفرعي : التجويد .
                    • الموضوع : نفحات.. في أدب التلاوة* (القسم الأوّل) .

نفحات.. في أدب التلاوة* (القسم الأوّل)

تساؤلات بصيرة

القارئ.. أيّ قارئ لأيّ كتاب، يستحضر أوّلاً: ما هو الكتاب الذي يطالعه ويرسل إليه نظره وفكره، ويتعامل معه بقلبه وضميره؟ وثانياً: مَن يكون مؤلّف هذا الكتاب، وكيف ينبغي أن يُتلقّى منه ما يُبديه في كتابه من رأيٍ وعقيدة ومفهوم؟

ومن هنا.. نجد هذا القارئ يرفع كتاباً باحترام ويضعه باحترام، وينظر إليه نظرة تقدير، لأنّه للكاتب الفلانيّ الذي يخطّ يراعه مفاهيم مهمّة وجليلة، بل ومفيدة وفاخرة.

هكذا هي حال الناس غالباً، وذاك تعاملهم مع المتكلّمين والخطباء والمحدّثين، فينصتون إلى شخص؛ لفضله وفضيلته، حتّى تنشرح له أساريرهم، لأنّ كلامه مؤنس ونافع.. فكيف يتعامل المسلم مع كتاب مقدّس نازلٍ من عند ربّ العزّة والعظمة، إله السماوات والأرضين، وبارئ الخلائق أجمعين؟! الذي شاء جلّ وعلا أن يُتحف حبيبه المصطفى سيّدَ رسله وأشرف أنبيائه (صلّى الله عليه وآله) كتاباً قدسيّاً يتلوه على مسامع الملأ إلى آخر الحياة الدنيا، يدعوهم فيه إلى: الصراط الحقّ، والهدى والخير، والإيمان والتقوى والصلاح، في منهاج تطمئنّ به الأرواح والقلوب، وشرع يأنس به العقل والضمير، ونصوص تنبسط لها الأنفس والجوارح..

فماذا يُنتظَر أن يكون ذلك الكتاب يا تُرى؟!

يكفي ـ أيّها الأحبّة الأصدقاء ـ أن يعبّر عنه مُنزِلُه تبارك وتعالى بقوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ [سورة الحشر: 21].

وحسبه أن يقول فيه رسول الحقّ (صلّى الله عليه وآله): هو الدليل، يدلّ على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل، وبيان وتحصيل... ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له تخوم، وعلى تخومه تخوم‏، لا تُحصى عجائبه، ولا تُبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنازل الحكمة، ودليل على المعروف لمن عرفه‏. [تفسير العيّاشيّ 2:1].

وحَسْبُه أيضاً أن يصفه أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) ـ وهو سيّد البلغاء: جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظُلمة. [نهج البلاغة: الخطبة 198].

إذن.. ما أجدر أن يُنتفَع بهذا الكتاب الشريف في آفاق: العقل والروح، والقلب والنفس، في الحياة الشخصيّة والأُسريّة والاجتماعيّة! وما أجدر به أن يُتعامل معه بغاية الأدب والإجلال في تلاوته وقراءته!

لقد جاءت الآيات الكريمات، والروايات الشريفات، ثمّ آراء العلماء والفقهاء وفتاواهم.. توكّد جميعُها على ضرورة مراعاة آداب التلاوة لهذا الكتاب العزيز، لكي يُستفاد من نفحاته المباركة، ونسائم معرفته الزاكية.

وقد يرى المتأمّل أنّ هذه الآداب التي ينبغي أن تُراعى في قراءة القرآن الكريم هي:

1. آداب ظاهريّة.

2. آداب معنويّة باطنيّة.

ثمّ يجدها المتعمّق أنّها ممتزجة كلّها، فالظاهريّ منها ـ لفظاً كان أو عملاً ـ دالّ على الأدب الروحيّ، والباطنيّ منها ـ بحالاته الشريفة ـ يدعو إلى الأدب الصُّوريّ وحسن الهيئة وطهارة المكان والجوارح.

ثمّ إنّ هذه الآداب ـ إخوتنا الأعزّة ـ تتّفق في الباعث، وهو تعظيم الله عزّ شأنه، وتقديس كلامه.. كما تتّفق في الغاية، وهي الانتفاع ـ ظاهريّاً كان أو باطنيّاً، دنيويّاً كان أو أُخرويّاً ـ كان ذلك الانتفاع. فالقصد من تلاوة كتاب الله القدسيّ تحصيل البركة، وهي خيرٌ فيّاض، وفيها الفائدة: العلميّة العقليّة، والروحيّة الإيمانيّة، والتقوى الأخلاقيّة. لذا تُجنى هذه الثمار اللذيذة بالتوجّه والمجاهدة والتمعّن في آفاق المعاني القرآنيّة الشريفة، وأحد أجنحة الصعود إلى ذلك: مراعاة الآداب الظاهريّة والمعنويّة في تلاوة القرآن الحكيم.

فلندخل ـ أيّها الإخوة المؤمنون الأحبّة ـ إلى رواق آداب التلاوة، ممهّدين لأنفسنا الدخول إلى الرحاب المعنويّة الطيّبة العاطرة لكتاب الله عزّ وجلّ. فمرحباً بكم، وحسنت رفقةٌ نافعة معكم، ونحن نَرِد على ما هو غنىً لا غنى دونه، ولا فقرَ بعده ـ كما عبّر عنه النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله).

إشارات إلى خيوط النور

رأى العلماء من أهل الورع والتقوى أنّ الآداب الظاهريّة للتلاوة هي عشرة:

الأدب الأوّل: في حال القارئ، وهو: أن يكون على وضوء، وعلى هيئة الأدب والسكون، مستقبل القبلة، مُطرِقاً رأسَه، ليس على هيئة المتكبّر، والأفضل أن يقرأ القرآن في صلاته وفي المسجد.. وقيل: الأفضل في بيته؛ لأنّه أبعَدُ عن الرياء.

الأدب الثاني: في مقدار القراءة، وهي: ألاّ تكون في أقلّ من شهر ختمة، كيما تُراعى حُرمته في الترتيل والتأنّي في فهم الآيات المباركة، والوقوف عند بعض الآيات للتذكّر والتأمّل والتفكّر.

الأدب الثالث: في وجه القسمة، وفيه كلام حول توزيعه على الأيّام.

الأدب الرابع: في كتابته، بأن تكون حَسَنة حتّى يُقرأ بسلامة لفظ.

الأدب الخامس: ترتيله، وهو المستحبّ في هيئة القراءة.

الأدب السادس: البكاء، وهو مستحبّ مع القراءة.

الأدب السابع: مراعاة حقّ الآيات، مثل السجود عند تلاوة آيات السجدة.. مستحبّها وواجبها.

الأدب الثامن: الابتداء بالاستعاذة، والانتهاء بالتصديق.. فضلاً عن الدعوات المشهورة قبل التلاوة وبعدها وخلالها.

الأدب التاسع: الجهر بالقراءة، وفيه كلام حول حالات الجهر كراهة واستحباباً. وقد أُجمع على استحباب تلاوة القرآن نظراً.

الأدب العاشر: تحسين القراءة بالصوت الحسَن، من غير ترجيع يشابه الغناء، ولا مدٍّ مفرط مغيّرٍ للنظم. قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): لكلّ شيء حِلْية، وحلية القرآن الصوتُ الحسن. [الكافي، للشيخ الكلينيّ 450:2 / ح9 ـ باب ترتيل القرآن]. وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام)، قال: كان عليّ بن الحسين (عليهما السّلام) أحسنَ الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه، يستمعون قراءته. [الكافي 451:2/ ح 11 ـ باب ترتيل القرآن].

أمّا الآداب المعنويّة لتلاوة القرآن الكريم فيراها العلماء عشرة أيضاً، وهي:

الأدب الأوّل: فهم عظمة الكلام وعُلُوِّه، وفضلِ الله تعالى ولطفه بخَلْقه في نزول كتابه عن عرش جلاله إلى أفهام خلْقه.

الأدب الثاني: التعظيم للمتكلِّم المخاطِب له، وهو الله جلّ جلاله، فيعلم التالي للقرآن أنّ ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأنّ في تلاوته كلامَ الله عزّ وجلّ غايةَ الأهمية والأثر.

الأدب الثالث: حضور القلب، وترك حديث النفس، والانصراف إليه عن غيره، وعدم الغفلة عنه.

الأدب الرابع: التدبّر، والترتيل ـ كأدبٍ ظاهريّ ـ فرصة له.

الأدب الخامس: التفهّم لمعانيه الواردة وما ذُكر من العقائد الحقّة وسيرة الأنبياء والرسل عليهم السّلام، وأمور الحياة والموت والقيامة، وأحكام الشريعة، وما جاء من العِبَر وغيرها.

الأدب السادس: التخلّي عن موانع الفهم، من الوسوسة في القراءات، والانشغال بالألفاظ والأصوات، والإصرار على الموبقات.

الأدب السابع: التخصيص، وهو أن يقدّر التالي للقرآن أنّه هو المقصود بكلّ خطاب فيه، أمراً أو نهياً، فيرى أنّه هو المأمور والمنهيّ.. ووعداً ووعيداً، فيرى أنّه المخاطَب المعنيّ بذلك؛ ليعتبر وينتفع.

الأدب الثامن: التأثّر بحسب الآيات المتلوّة، في حالات: الوجد والوجل، والحزن والسرور، والخوف والرجاء.. وغيرها.

الأدب التاسع: الترقّي، حيث يبلغ التالي درجة كأنّه واقف بين يدي الله تعالى وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله على هذا التقدير: السؤال والتضرّع والابتهال. أو يرتقي تالي القرآن إلى درجة فيكون حاله أنْ يشهد بقلبه كأنّ الله جلّت عظمته يخاطبه بألفاظه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، وهنا يكون التالي على حالٍ من: الحياء، والتعظيم والإصغاء، والتلقّي بالفهم.

الأدب العاشر: التبرّي عن الحول والقوّة، فلا ينظر إلى نفسه بعين الرضى والتزكية، ففي آيات ذِكْر الصالحين يُشهد الموقنين الصدّيقين فيها، ويتشوّق إلى أن يحشره الله معهم؛ إذ هو يغبطهم ويحبّ حالهم وفعلهم، ولسان أُمنيّته يقول:

أُحبّ الصالحين ولست منهـم *** لعلّ اللهَ يرزقني الصلاحا!

[يراجع: المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء، للفيض الكاشانيّ 219:2 ـ 249 / الباب 2، 3].

_______________

* شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي، بتصرّف يسير.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2397
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 09 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24