• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : دروس قرآنية تخصصية .
              • القسم الفرعي : التفسير .
                    • الموضوع : الإنسان ودوره في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم * .

الإنسان ودوره في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم *

آية الله العظمى السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وعلى الميامين من آله الطاهرين.

من الواضح على ضوء المفاهيم التي قرأناها سابقاً [عناصر المجتمع في القرآن الكريم/ قسم: التفسير] أن الانسان أو المحتوى الداخلي للإنسان هو الاساس لحركة التاريخ، وأننا ذكرنا ان حركة التاريخ تتميز عن كل الحركات الاخرى بأنها حركة غائية لا سببية فقط، ليست مشدودة الى سببها، الى ماضيها، بل هي مشدودة الى الغاية، لأنها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة الى‏ المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. والمستقبل معدوم فعلاً وانما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل [السنن التاريخية في القرآن الكريم (4)/ قسم: التفسير].

إذن، الوجود الذهني هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ، وهذا الوجود الذهني يجسد من ناحية جانباً فكرياً وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف، وايضاً يمثل من جانب آخر الطاقة الارادة التي تحفز الانسان نحو هذا الهدف وتنشطه للتحرك نحو هذا الهدف. إذن هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك، هذا الوجود الذهني يعبر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر منه عن الارادة، وبالامتزاج بين الفكر والارادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.

وهذان الامران الفكر والارادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان، ان المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان يتمثل في هذين الركنين الاساسيين وهما الفكر والارادة. إذن المحتوى الداخلي للإنسان هو الذي يصنع هذه الغايات، ويجسد هذه الاهداف من خلال مزجه بين فكرة وإرادة.

وبهذا صحّ القول بأن المحتوى الداخلي للإنسان هو الاساس لحركة التاريخ، والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات ومن انظمة ومن افكار وتفاصيل هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة، بالمحتوى الداخلي للإنسان مرتبط بهذه القاعدة ويكون تغيره وتطوره تابعاً لتغير هذه القاعدة وتطورها، فإذا تغير الاساس تغير البناء العلوي، وإذا بقي الاساس ثابتاً، بقي البناء العلوي ثابتاً.

فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع، هذه العلاقة علاقة تبعية، علاقة سبب بسبب، هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ «سورة الرعد الآية 11». هذه الآية واضحة جداً في المفهوم الذي اعطيناه وهو ان المحتوى الداخلي للإنسان، هو القاعدة والاساس للبناء العلوي، للحركة التاريخية، لان الآية الكريمة تتحدث عن تغييرين: احدهما تغيير القوم ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ﴾ يعني تغيير اوضاع القوم، شؤون القوم، الأبنية العلوية للقوم، ظواهر القوم، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بأنفسهم. اذن التغيير الاساس هو تغيير ما بنفس القوم، والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم، النوعية، التاريخية، الاجتماعية. ومن الواضح ان المقصود من تغيير ما بالأنفس، تغيير ما بأنفس القوم بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين، متغيراً، وإلا تغير الفرد الواحد او الفردين او الافراد الثلاثة لا يشكل الاساس لتغير ما بالقوم، وانما يكون تغير ما بالقوم تابعاً لتغير ما بأنفسهم كقوم، كأمة، كشجرة مباركة تؤتي اكلها كل حين.

فالمحتوى النفسي والداخلي للامة كأمة لا لهذا الفرد او لذلك الفرد هو الذي يعتبر أساساً وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.

والاسلام والقرآن الكريم يؤمن بأن العمليتين يجب ان تسيرا جنباً الى جنب. عملية صنع الانسان لمحتواه الداخلي وبناء الانسان لنفسه، لفكره، لإرادته، لطموحاته، هذا البناء الداخلي يجب ان يسير جنبا الى جنب مع البناء الخارجي، مع بناء الابنية العلوية ولا يمكن ان يفترض انفكاك البناء الخارجي عن البناء الداخلي الا اذا بقي البناء الخارجي بناء مهزوزاً متداعياً.

ولهذا سمى الاسلام عملية بناء المحتوى الداخلي اذا اتجهت اتجاهاً صالحاً سمّاها «بالجهاد الاكبر». وسمى عملية البناء الخارجي اذا اتجهت اتجاهاً صالحاً بعملية «الجهاد الاصغر» وربط الجهاد الاصغر بالجهاد الاكبر، واعتبر ان الجهاد الاصغر اذا فصل عن الجهاد الاكبر فقد محتواه وفقد مضمونه، وفقد قدرته على التغيير الحقيقي، على الساحة التاريخية والاجتماعية.

إذن هاتان العمليتان يجب ان تسيرا جنباً الى جنب. واذا انفكت احداهما عن الأخرى، فقدت حقيقتها ومحتواها، وسمى الاسلام العملية الأولى، عملية بناء المحتوى الداخلي، بالجهاد الأكبر تأكيداً على الصفة الأساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحاً لهذه الحقيقة، حقيقة ان المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس، ولهذا سمي بالجهاد الأكبر. فإذا بقي الجهاد الأصغر منفصلاً عن الجهاد الأكبر، حينئذ لا يحقق ذلك في الحقيقة أي مضمون تغييري صالح.

القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي، قال سبحانه‏ وتعالى: ﴿ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما فِي قَلْبِهِ وهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وإِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ﴾ «سورة البقرة الآية 204- 205» يريد ان يقول بأن الانسان إذا لم ينفذ بعملية التغيير الى قلبه، الى اعماق روحه، اذا لم يبن نفسه بناء صالحاً لا يمكنه ابداً ان يطرح الكلمات الصالحة، الكلمات الصالحة انما يمكن ان تتحول الى بناء صالح في المجتمع اذا نبعت عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات، وإلا فتبقى الكلمات مجرّد ألفاظ جوفاء دون ان يكون لها مضمون ومحتوى.

فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها، للشعارات أبعادها، ولعملية البناء الخارجي أهدافها ومسارها.

إلى هنا عرفنا ان الاساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للإنسان، وهذا المحتوى الداخلي للإنسان يشكل القاعدة.

الآن نتساءل:

ما هو الأساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه؟ ما هي‏ نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للإنسان؟ وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسانية؟ المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية هو المثل الاعلى.

عرفنا ان المحتوى الداخلي للإنسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الارادة بالتفكير. وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلى. فإنها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية الى مثل أعلى للإنسان في حياته، للجماعة البشرية في حياتها. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية، وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي، فالغايات بنفسها محركات للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود اليه كل تلك الاهداف.

فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتدّاً تكون الغايات صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً او منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة ايضاً.

إذن المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية، وهذا المثل الاعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة الى الحياة والكون، يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون، على ضوء ذلك تحدد مثلها الأعلى.

ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى ومع وجهة نظرها الى الحياة والكون تحقق ارادتها للسير نحو هذا المثل، وفي طريق هذا المثل.

إذن هذا المثل الأعلى هو في الحقيقة ايضاً يتجسد من خلال رؤية فكرية، ومن خلال طاقة روحية تزحف بالإنسان في طريقه، وكل جماعة اختارت مثلها الأعلى، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق.

كما رأينا ان الحركة التاريخية تتميّز عن أي حركة أخرى في الكون بأنها حركة غائية، حركة هادفة، كذلك تتميز وتتمايز الحركات التاريخية انفسها بعضها عن بعض بمثلها العليا. فلكل حركة تاريخية مثلها الأعلى، وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات والاهداف، وهذه الاهداف‏ والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الأعلى.

والقرآن الكريم والتعبير الديني يطلق على المثل الأعلى في جملة من الحالات اسم الإله، باعتبار ان المثل الأعلى هو القائد الآمر المطاع الموجّه، وهذه صفات يراها القرآن للإله، ولهذا يعبر عن كل من يكون مثلاً أعلى، كل ما يحتل هذا المركز، مركز المثل الأعلى، يعبر عنه بالإله؛ لأنه هو الذي يصنع مسار التاريخ. حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ﴾ «سورة الفرقان الآية 43» عبر حتى عن الهوى بانه إله حينما يتصاعد هذا الهوى تصاعداً مصطنعاً فيصبح هو المثل الأعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد او لذاك.

فالمثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي آلهة في الحقيقة؛ لأنها هي المعبودة حقّاً، وهي الآمرة والناهية حقّاً، وهي المحركة حقّاً، فهي آلهة في المفهوم الديني والاجتماعي.

وهذه المثل العليا التي تتبناها الجماعات البشرية على ثلاثة اقسام:

القسم الأول: المثل الأعلى الذي يستمد تصوّره من الواقع نفسه، ويكون منتزعاً من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات، أي: إن الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع ان يرتفع على هذا الواقع وان يتجاوز هذا الواقع بل انتزع مثله الأعلى من هذا الواقع بحدوده، بقيوده، بشؤونه.

وحينما يكون المثل الأعلى منتزعاً عن واقع الجماعة، بحدودها وقيودها وشؤونها، يصبح حالة تكرارية، يصبح ـ بتعبير آخر ـ محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله الى المستقبل، بدلاً عن التطلع الى المستقبل، يكون في الحقيقة تجميداً لهذا الواقع، وتحويلاً لهذا الواقع من حالة نسبية، ومن أمر محدود الى امر مطلق لأن الانسان يعترضه هدفاً ومثلاً أعلى، وحينما يتحول هذا الواقع من امر محدود الى هدف مطلق، الى حقيقة مطلقة لا يتصور الانسان شيئاً وراءها، حينما يتحول الى ذلك، سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية سوف يكون المستقبل تكراراً للواقع وحيث ان هذا الواقع هو نفسه كان تكرارا لحالة سابقة، ولهذا سوف يكون المستقبل تكراراً للواقع وللماضي.

هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية الى ظروف مطلقة، لكي لا تستطيع الجماعة البشرية ان تتجاوز الواقع وان ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع.

تبني هذا النوع من المثل العليا له أحد سببين:

السبب الأوّل الألفة والعادة والخمول والضياع، هذا سبب نفسي، الألفة والخمول والضياع سبب نفسي، اذا انتشرت هذه الحالة النفسية: حالة الخمول والركود والالفة والضياع في قوم، في مجتمع، حينئذ يتجمد ذلك المجتمع، لأنه سوف يصنع إلهه من واقعه، سوف يحول هذا الواقع النسبي المحدود الذي يعيشه الى حقيقة مطلقة، الى مثل اعلى الى هدف لا يرى وراءه شيئاً.

وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تحدثت عن المجتمعات التي واجهت الانبياء حينما جاء الأنبياء الى تلك المجتمعات بمثل عليا حقيقة ترتفع عن الواقع وتريد ان تحرك هذا الواقع وتنتزعه من حدوده النسبية الى وضع آخر، واجه هؤلاء الانبياء مجتمعات سادتها حالة الألفة والعادة والتميع فكان هذا المجتمع يرد على دعوة الانبياء ويقول بأننا وجدنا آباءنا على هذه السنة، وجدنا آباءنا على هذه الطريقة، ونحن متمسكون بمثلهم الأعلى، سيطرة الواقع على اذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ الى درجة تحول هذا الإنسان من خلالها الى انسان حسي لا الى انسان مفكر، الى انسان يكون ابن يومه دائماً، ابن واقعه دائماً، لا أبا يومه ولا أبا واقعه، ولهذا لا يستطيع ان يرتفع على هذا الواقع.

استمعوا الى القرآن الكريم وهو يقول: ﴿قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَولَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ﴾ «سورة البقرة الآية 170».

﴿قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَولَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ﴾ «سورة المائدة الآية 104». ﴿قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ﴾ «سورة يونس الآية 78»، ﴿أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ «سورة هود الآية 62»، ﴿قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ويُؤَخِّرَكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى، قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ «سورة إبراهيم: الآية 10» ﴿بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وإِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ «سورة الزخرف الآية 22».

في كل هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم السبب الأول لتبنّي المجتمع هذا المثل الأعلى المنخفض.

هؤلاء، بحكم الألفة والعادة وبحكم التميّع والفراغ، وجدوا سنة قائمة، وجدوا وضعاً قائماً فلم يسمحوا لأنفسهم بأن يتجاوزوه، جسّدوه كمثل أعلى وعارضوا به دعوات الانبياء على مر التاريخ، هذا هو السبب الاول لتبنّي هذا المثل الأعلى المنخفض.

والسبب الثاني لتبنّي هذا المثل الأعلى المنخفض هو التسلّط الفرعوني على مرّ التاريخ. الفراعنة على مر التاريخ حينما يحتلّون مراكزهم، يجدون في أي تطلع الى المستقبل، وفي أي تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه، يجدون في ذلك زعزعة لوجودهم وهزّاً لمراكزهم.

من هنا، من مصلحة فرعون على مرّ التاريخ ان يغمض عيون الناس على هذا الواقع، ان يحول الواقع الذي يعيشه مع الناس الى مطلق، الى إله، الى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه، يحاول ان يحبس وان يضع كل الامة في اطار نظرته هو، في اطار وجوده هو لكي لا يمكن لهذه الامة ان تفتّش عن مثل أعلى ينقلها من الحاضر الى المستقبل، من واقعه الى طموح آخر أكبر من هذا الواقع. هنا السبب اجتماعي لا نفسي، السبب خارجي لا داخلي.

وهذا ايضاً ما عرضه القرآن الكريم ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي﴾ «سورة القصص الآية 38» ﴿قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى‏ وما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ «سورة الغافر الآية 29». هنا فرعون يقول: ما أريكم الا ما ارى، يريد ان يضع الناس الذين يعبدونه كلهم في اطار رؤيته في اطار نظرته، يحوّل هذه النظرة وهذا الواقع، الى مطلق لا يمكن تجاوزه. هنا الذي يجعل المجتمع يتبنّى مثلاً أعلى مستمدّاً من‏ الواقع هو التسلط الفرعوني الذي يرى في تجاوز هذا المثل الأعلى خطراً عليه وعلى وجوده.

قال اللّه سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى‏ وأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ * إِلى‏ فِرْعَوْنَ ومَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْماً عالِينَ * فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ﴾ «سورة المؤمنون: الآية (45- 47)»؛ نحن غير مستعدّين ان نؤمن بهذا المثل الأعلى الذي جاء به موسى لأنه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لهم. إذن هذا التجميد ضمن اطار الواقع الذي تعيشه الجماعة، أيّ جماعة بشرية، ينشأ من حرص أولئك الذين تسلّطوا على هذه الجماعة، على أن يضمنوا وجودهم ويضمنوا الواقع الذي هم فيه وهم بناته. هذا هو السبب الثاني الذي عرضه القرآن الكريم. والقرآن الكريم يسمي هذا النوع من القوى التي تحاول ان تحوّل هذا الواقع المحدود الى مطلق وتحصر الجماعة البشرية في أطار هذا المحدود، يسمي هذا بالطاغوت. قال سبحانه وتعالى: ﴿والَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ «سورة الزمر الآية (17- 18)». لاحظوا ذكر صفة اساسية مميزة لمن اجتنب عبادة الطاغوت.

ما هي الصفة الأساسية المميزة التي ذكرها القرآن لمن اجتنب عبادة الطاغوت؟

قال ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.

يعني لم يجعلوا هناك قيداً على ذهنهم، لم يجعلوا اطاراً محدوداً لا يمكنهم ان يتجاوزوه، جعلوا الحقيقة مدار همّهم جعلوا الحقيقة هدفهم ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه يعني هم في حالة طموح، في حالة تطلع وموضوعية، في حالة تسمح لهم بأن يجدوا الحقيقة. بينما لو كانوا يعبدون الطاغوت، حينئذ سوف يكونون في اطار هذا الواقع الذي يريده الطاغوت، سوف لن يستطيعوا أن يستمعوا الى القول فيتبعون أحسنه، وإنما يتّبعون فقط ما يراد لهم ان يتبعوه. هذا هو السبب الثاني لإتباع وتبنّي هذه المثل.

إذن خلاصة ما مرّ بنا حتى الآن: أن التاريخ يتحرك من خلال البناء الداخلي للإنسان، الذي يصنع للإنسان غاياته هذه الغايات تبنى على أساس المثل الاعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات. لكل مجتمع مثل أعلى ولكل مثل أعلى مسار ومسيرة، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد في تلك المسيرة معالم الطريق وهذا المثل الاعلى على ثلاثة أقسام، حتى الآن استعرضنا القسم الأول من المثل العليا وهو المثل الأعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعاً عن الواقع الذي تعيشه الجماعة، وهذا مثل أعلى تكراري، وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الأعلى حركة تكرارية، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل وقلنا بأن تبنّي هذا النوع من المثل الأعلى يقود الى أحد سببين بحسب تصوّرات القرآن الكريم:

السبب الأول سبب نفسي وهو الألفة والعادة والضياع.

والسبب الآخر سبب خارجي وهو تسلّط الفراعنة والطواغيت على مرّ التاريخ.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* المصدر: المدرسة القرآنية (مجموعة محاضرات قرآنية للسيّد الشهيد محمد باقر الصدر قدّس سرّه)، نشر: دار التعارف للمطبوعات‏، لبنان- بيروت،‏ ص 140ـ 157.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2390
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24