• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : فكرة النظم بين وجوه الإعجاز * ـ القسم الثاني ـ .

فكرة النظم بين وجوه الإعجاز * ـ القسم الثاني ـ

عيسى متقي زاده / أستاذ مساعد في جامعة العلامة الطباطبائي

تطرّق الباحث في (القسم الأوّل) من مقاله إلى توضيح فكرة النظم، وأنّها من أبرز وجوه اعجاز القرآن التي وقف العلماء عندها طويلاً ولاسيما عـبد القـاهر الجرجاني، وعرّج على فكرة النظم قبل عبد القاهر الجرجاني. وفي هذا القسم (القسم الثاني) يشير إلى (فكرة النظم ومفهومه عند عبد القاهر الجرجاني).

فكرة النظم عند عبد القـاهر

ولد عـبد القاهر بجرجان إحدى المدن المشهورة بين طبرستان وخراسان وأنه كان فقيهًا‌ شافعيًا‌ ومتكلّمًا‌ أشعريًا.

«ولعبد القاهر مكانة كبيرة‌ في‌ تاريخ‌ البلاغة، إذ استطاع أن يضع نظريتي علمي المعاني والبيان وضعًا دقـيقًا، أمـا النظرية الأولى فخصّ بعرضها وتفصيلها كتابه «دلائل الإعجاز» وأما‌ النظرية‌ الثانية‌ فخصّ بها وبمباحثها كتابه «أسرار البلاغة». وينبغي أن‌ نلاحظ‌ منذ أول الأمر أن قسمة البلاغة الى عـلوم ثـلاثة، هي: المعاني والبيان والبديع لم تـكن قـد استقرت حتى عصر‌ عبد‌ القاهر». (المرجع نفسه، 160)

يحقق عبد القاهر القول في البلاغة والفصاحة‌، ليربطهما بالنظم.

«والبلاغة والفصاحة والبيان والبراعة، وكل ما شاكل ذلك مـمّا يـعبر به عن فضل بـعض القـائلين على بعض‌ من‌ حيث نطقوا وتكلموا، يقصد به وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما‌ له‌ كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين، وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هـوى‌ النفس‌،  وتنال‌ الحظ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد، وتطيل رغم‌ الحاسد‌، ولا‌ جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته‌ ويختار‌ له‌ اللفـظ الذي هـو أخص بـه وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلاً، ويظهر‌ فيه‌ مزية». (الجرجاني، 30)

ثم يعالج مشكلة اللفظ، ويرد على اللفظيين، ومشكلة المعنى، ويرد‌ على المعنويين‌ ليصل من وراء ذلك الى هدفه وفكرته التـي نـصب نـفسه وحياته لها.

«وهو يلقانا‌ بصحف‌ نقاشه ودفاعه منذ فواتح كتابه الى خواتيمه، فقد استهله بفصل عقده لتحقيق القـول ‌فـي‌ البلاغة‌ والفصاحة والبيان والبراعة وذهب فيه الى أن هذه الأوصاف لا ترجع الى اللفظ، وإنّما ترجع‌ الى النـظم وكـيفيات الصياغة وصورها وخصائصها». (شوقي ضيف، 126)

فيذهب الى أنه ينبغي‌ أن‌ ينظر‌ الى الكلمة قبل دخولها في التـأليف وقبل أن تصير الى الصور التي بها يكون الكلام‌ إخبارًا‌ وأمرًا‌ ونهيًا وتعجبًا، وتؤدي فـي الجملة معنى من المـعاني التـي لا سبيل الى إفادتها‌ إلا بضم كلمة، وبناء لفظة على لفظة، ولا يتصور أن يكون بين اللفظين تفاضل في الدلالة‌ حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها، حتى يقال‌ مثلاً‌ إن كلمة «رجل» أدل على مـعناها من‌ كلمة‌ «جمل» في دلالتها على معناها الذي وضعت له‌، وحتى تصور في الاسمين الموضوعين لشي‌ء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه، وأبين‌ كشفًا‌ عن صورته من الآخر، فيكون‌ الليث‌ مثلاً أدل‌ عـلى «السـبع»‌ المعلوم من «الأسد». (الجرجاني، 31)

وهل‌ يقع‌ في وهم أن تتفاضل الكلمتان المفردتان دون أن ينظر الى مكان تقعان‌ فيه‌ من التأليف والنظم، بأكثر من أن‌ تكون هذه مألوفة مستعملة‌، وتلك‌ غريبة وحشية، أو أن تكون‌ حـروف‌ هـذه أخف وامتزاجها أحسن، ومما يكد اللسان أبعد؟

وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة‌ فصيحة‌، إلا وهو يعتبر مكانها من‌ النظم‌ وحسن‌ ملاءمة معناها لمعاني‌ جاراتها‌، وفضل مؤانستها لأخواتها، وهل‌ قالوا‌: لفـظة مـتمكنة ومقبولة، وفي خلافه قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن‌ حسن‌ الاتفاق بين هذه وتلك من جهة‌ معناهما‌، وبالقلق والنبو‌ عن‌ سوء‌ التلاؤم، وأن الأولى لم‌ تلق بالثانية في معناها، وأن السـابقة لم تـصلح أن تـرتبط بالتالية في مؤداها». (المصدر نـفسه‌، 31‌)

وتـظل المـفردات سواء، لا فضل لإحداها‌ على صاحبتها‌ ما‌ دامت‌ منفردة إلا بأحد‌ الأمرين‌، أولهما: أن تكون واحدة منهما مستعملة، والثانية: غريبة وحشية، وثانيهما أن تكون واحـدة مـنهما أكـثر خفة‌ على اللسان‌ من الأخرى.

وفيما عدا ذلك فـلا تـمايز‌ بينها‌ الى أن‌ تأخذ‌ مكانها‌ من النظم، ومن ثم تتفاضل في مكان دون مكان، أو في تعبير دون آخر.

ويضرب مثلاً يـبين بـه أن الفـضل إنما يعود الى ارتباط الكلمات بعضها ببعض‌ وإلى ما بين معاني بـعضها وبعض من الاتصال والتلاؤم، قوله تعالى:

﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(هود‌، 44)

ويعلق عليها بقوله: «فتجلى لك فيها الإعـجاز، وبـهرك الذي ترى وتسمع، انك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع الى ارتباط هذه الكـلم‌ بـعضها‌ بـبعض وإن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، وهكذا الى أن تـستقريها الى آخـرها.

ان‌ شككت‌ فتأمل: هل ترى لفظة منها‌ بحيث‌ لو أخذت من بين أخواتها، وأفردت لأدت من الفـصاحة مـا تـؤديه وهي في مكانها من الآية؟

قل «ابلعي» واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى‌ ما‌ قـبلها، وإلى مـا بعدها‌، وكذلك‌ فاعتبر سائر ما يليها، وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة فـي أن نـوديت الأرض، ثـم أمرت، ثم في أن كان النداء بياء دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم‌ أن‌ أتبع نداء الأرض وأمـرها بـما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل: «وغيض المـاء» «فـجاء الفـعل على صيغة فعل» الدالة على أنه لم يغض إلا‌ بأمر‌ آمر، وقدرة‌ قادر، ثم تأكيد ذلك وتقديره بـقوله تـعالى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو ‌»استوت على الجـودي» ثـم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط‌ الفخامة‌ والدلالة‌ على عظم الشأن، ثم مقابلة «قـيل» فـي الخـاتمة، بقيل في الفاتحة.

أفترى لشي‌ء من هذه الخصائص التي ‌‌تملؤك‌ بالإعجاز روعـة، ويـحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقًا باللفظ من‌ حيث‌ هو‌ صوت مسموع، وحروف تـتوالى فـي النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب»؟ (الجرجاني، 23)

ويأتي بأمثلة أخـرى مـن الشعر يدلل بها على أن الألفاظ لا‌ تتفاضل مـن حـيث هـي‌ ألفاظ‌ مجردة، ولا من حيث هي كلم مـفردة، وإنـما تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشـبه ذلك مـمّا لا تعلق له بصريح اللفظ، ذلك أنك‌ تـرى الكـلمة تروقك، وتـؤنسك فـي مـوضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك، وتـوحشك فـي موضع آخر.

ويمثل لذلك بأمثلة شعرية ونثرية يثبت بها أن اللفظة ليس لها صـفة ذاتـية بحيث يمكن أن‌ نصفها‌ بوصف الفـصاحة والبلاغة.

وينكر على مـن يـرد البلاغة والفصاحة الى المعاني قائلاً: «اعـلم أن الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدّم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال بـاللفظ‌ وجـعل‌ لا يعطيه من المزية إن هو أعـطى إلا مـا فـضل عن المعنى، يـقول: مـا في اللفظ لولا المعنى وهـل الكـلام إلا بمعناه، فأنت تراه لا يقدّم شعرًا حتى يكون‌ قد أودع حكمة وأدبًا واشتمل على تشبيه غـريب ومـعنى نادر، فإن مال الى اللفظ شيئًا ورأى أن يـنحله بـعض الفضيلة لم يـعرف غـير الاسـتعارة». (المصدر نفسه، 165)

وينقل عـن‌ الجرجاني‌ في‌ المعاني كلام منه قوله: «المعاني‌ مطروحة‌ في‌ الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبـدوي، وإنـّما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسـهولة المـخرج وصـحة الطـبع وكـثرة الماء وجودة السـبك‌ وإنـّما‌ الشعر‌ صياغة وضرب من التصوير». (شوقي ضيف، 136)

«وعبد‌ القاهر‌ بذلك ينكر أن يكون للمعاني مزية في البـلاغة، كـما أنـكر بالقياس الى الألفاظ من حيث هي ألفاظ فـي مـستهلّ‌ كـتابه‌، فـالمعوّل‌ إنـما هـو على النظم والأسلوب والصياغة كما يدلّ كلام الجاحظ‌، ومضى يبرهن على رأيه بأن إعجاز القرآن للعرب عن معارضته وقعودهم عن محاكاته إنما كان لأوصاف نزل بها‌، وهـي‌ أوصاف‌ لم تكن في ألفاظه من حيث هي ألفاظ منطوقة بأصواتها وحروفها‌ وحركاتها‌ وسكناتها، وإنما من حيث المعاني المتصلة بتراكيبها وأساليبها، ويقول إن الصور البيانية تدخل في التراكيب والأساليب‌، فهي‌ جزء‌ فـي النـظم، وليست سرّ جماله، وإعجازه». (المرجع نفسه، 136)

ثمّ يذكر طائفة‌ من‌ أسرار‌ النظم ويهاجم أصحاب اللفظ ويقول: اعلم أني على طول ما أعدْتُ وأبدأتُ، وقلت وشرحت‌ في‌ هذا‌ الذي قام فـي أوهـام الناس من حديث اللفظ لربما ظننت أني لم أصنع شيئًا‌، وذلك‌ أنك ترى كأنه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده‌ على التـقليد‌ البـحت وعلى التوهم والتخيل وإطلاق اللفـظ مـن غير معرفة بالمعنى. قد صار ذلك الدأب‌ والديدن‌ واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد. وهذا الذي بيناه وأوضحناه كأنك ترى أبدًا حجابًا‌ بينهم‌ وبين‌ أن يعرفوه، وكأنك تسمعهم مـنه شـيئًا تلفظه أسماعهم وتنكره نـفوسهم، وحـتى كأنه كلما كان الأمر‌ أبين‌ كانوا عن العلم به أبعد، وفي توهم خلافه أقعد. وذلك لأن الاعتقاد‌ الأول‌ قد‌ نشب في قلوبهم وتأشّب فيها، ودخل بعروقه في نواحيها، وصار كالنبات السوء الذي كلما قـلعته‌ عـاد‌ فنبت‌. والذي له صاروا كذلك أنهم حين رأوهم يفردون اللفظ عن المعنى ويجعلون‌ له‌ حسنًا على حدة، ورأوهم قد قسّموا الشعر، فقالوا: إن منه ما حسن لفظه ومعناه، ومنه ما‌ حسن‌ لفظه دون مـعناه، ومـنه ما حـسن معناه دون لفظه، ورأوهم يصفون اللفظ‌ بأوصاف‌ لا يصفون بها المعنى ظنوا أن للفظ‌ من‌ حيث‌ هو لفظ حسنًا ومـزية ونبلاً وشرفًا وأن‌ الأوصاف‌ التي نحلوه إياها هي أوصافه على الصـحة، وذهـبوا عـما قدّمنا شرحه من أن‌ لهم‌ في ذلك رأيًا وتدبيرًا، وهو‌ أن‌ يفصلوا بين‌ المعنى الذي‌ هو الغرض وبـين ‌ ‌الصـورة التي يخرج‌ فيها‌، فنسبوا ما كان من الحسن والمزية في صورة المعنى الى اللفـظ، ووصـفوه‌ فـي‌ ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها‌ أنها ليست له كقولهم‌: إنه‌ حلي المعنى، وإنه كالوشي عليه‌، وإنـه‌ قد أكسب المعنى دلاًّ وشكلاً، وإنه رشيق أنيق، وإنه متمكن، وإنه على قدر‌ المعنى لا فاضل ولا مقصّر، الى أشـباه‌ ذلك‌ مما لا يشك‌ أنه‌ لا يكون وصفًا له‌ من‌ حيث هو لفظ وصدى صوت، إلا أنهم كأنهم رأوا بسلاً حرامًا أن يكون لهم‌ في‌ ذلك فكر وروية وأن يميزوا فيه‌ قبيلا‌ً من دبير» .(الجرجاني‌، 235‌)

مفهوم النظم عند الجـرجاني‌

عرض عبد القاهر لتعريف مفهوم النظم مرات فعرفه مرة بقوله: اعلم أن ليس النظم إلا‌ أن‌ تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم‌ النحو‌ تعمل‌ على قوانينه‌ وأصوله وتعرف مناهجه‌ التي‌ نهجت فلا تزيغ عـنها، وتـحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشي‌ء منها». (المصدر السابق، 55‌)

ومعنى‌ هذا‌ الكلام أن النظم هو مراعاة قوانين النحو‌، وعليه‌ فإن‌ الإعجاز‌ قد‌ تم‌ بسبب مراعاة قواعد النحو بدقة متناهية، وكل فـساد فـي النظم هو فساد في استعمال قواعد النحو.

وفي موضع آخر يعرف النظم بقوله: «وأمر النظم في أنه ليس‌ شيئاً غير توخي معاني النحو فيها بين الكلم وأنك ترتب المـعاني أولاً فـي نفسك ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك، وأنا لو فرضنا أن تخلو الألفاظ من المعاني لم‌ يتصور‌ أن يجب فيها نظم وترتيب في غاية القوة والظهور».(المصدر، نفسه، 164)

التعريف الثاني يـشرح الأول ويـتممه، وذلك لأنـه أضاف جانبًا مهمًا وهو عـلاقة تـرتيب المـنطوق بالمفهوم من جهة‌ وعلاقتهما‌ معًا بالناحية النفسية للمتكلم.

ولكي يبين نمط هذا الترتيب عمد الى التفرقة بين ترتيب الحروف والأصوات في نـطق الكـلمة وتـرتيب الكلمات في الجملة‌، وكشف‌ أن نظم الحروف هو تـواليها‌ فـي‌ النطق فقط وليس نظمها بمقتضى عن معنى، وأما الكلمات فيقتفي في نظمها آثار المعاني وترتيبها حسب ترتيب المعاني فـي النـفس، فـهو إذن نظم يعتبر‌ فيه‌ حال المنظوم بعضه مع‌ بعض‌ وليس هـو النظم الذي معناه ضم الشي‌ء الى الشي‌ء.

وعلى هذا الأساس يرفض عبد القاهر أن يتحقق الحسن في العبارات بسبب من العـلم بـاللفظ وحـده، أو بالمعنى وحده، وإنما يراه‌ متحققًا‌ بالنظم أي العلم بمواضع الألفاظ، لأنها لا يـمكن أن تـترتب إلا بمقتضى المعنى، فالذي يراه أن المزية والحسن يأتيان من جانب العلم باللغة مخطئ،  وغلطه يفضي به الى رفـع الإعـجاز‌ مـن‌ حيث لا‌ يعلم.(المصدر نفسه، 164)

رفض الجرجاني الإعجاز في المفردات إذ يرى أنه: «لا يـجوز أن يـكون فـي‌ الكلم المفردة، لأن تقدير كونها فيها يؤدي الى المحال وهو أن‌ تكون‌ الألفاظ‌ المفردة التي هـي أوضـاع اللغـة قد حدث في حذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف ‌‌فيها‌ قبل نـزول القـرآن وتكون قد احتضنت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها‌ إذا‌ كانت‌ متلوّة فـي القـرآن لا يـجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن».(المصدر نفسه، 250-251)

ورفضه أيضًا في معنى المفردات، لأن هـذا يـقتضي أن تكون معاني المفردات قد‌ تجددت وتغيرت وهذا شي‌ء‌ أبعد‌ من المحال.

ورفض أن يـكون الإعـجاز فـي الموسيقى الخارجية، وذلك لأن التعويل على ذلك ليس بأكثر من التعويل على مراعاة الوزن، وإنّما الفواصل في الآي-كما يـقول-كـالقوافي في الشعر، وقد‌ اقتدروا على القوافي فكيف لا يقدرون على فصول الكلام».(المـصدر السـابق، 252)

ورفـض أن يكون الإعجاز في الموسيقى الداخلية بأن لم يلتق في حرفه ما يثقل على اللسان. ورفض أن يـكون‌ الإعـجاز‌ فـي التصوير وخصص من أساليب التصوير الاستعارة لأنها أقوى الأساليب التصويرية وأصعبها وأدقـها فـي الاستعمال، لأنّ الاستعارة وإن كانت بهذه الخصوصية فإنها ليست عامة في القرآن فيقول: «فإذا بطل أن‌ يـكون‌ الوصـف الذي أعجزهم من القرآن شي‌ء ممّا عددناه لم يبق إلا أن يكون الاستعارة، ولا يمكن أن تجعل الاسـتعارة الأصـل في الإعجاز وأن‌ يقصد إليها، لأن ذلك يؤدي الى أن‌ يـكون الإعجاز في أي معدودة في مواضع من السـور الطـوال مخصوصة». (المصدر نفسه، 254)

وإذا امتنع ذلك فيها لم يبق إلا أن يكون في النظم والتأليف، لأنه ليس مـن‌ بـعد‌ ما‌ أبطلنا أن يكون فيه إلا‌ النـظم‌، وإذا‌ ثـبت أنه فـي النـظم والتـأليف وكنا قد علمنا أن ليس النظم شـيئًا غـير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم وجملة‌ القول‌ أن‌ الإعجاز مـحصور فـي النظم.

إنّ النظم عند الجرجاني‌ هـو‌ السلك الذي ينتظم كل الأدوات التـي سـبق أن رفض أن يكون الإعجاز بها مـفردة، ومـعنى ذلك أن الإعجاز يتم‌ بها‌ مجتمعة‌ في نظام واحد هو النظام، ولذلك يقول: «فإن قيل: قـولك‌ إلا النـظم يقتضي إخراج ما في القـرآن مـن الاسـتعارة وضروب المجاز مـن جـملة ما هو به مـعجز، وذلك ما‌ لا‌ مساغ له: قيل ليس الأمر كما ظننت بل ذلك يقتضي دخول‌ الاستعارة‌ ونظائرها فيما هـو بـه معجز، وذلك لأن هذه المعاني التي هي الاسـتعارة والكـناية والتمثيل وسـائر ضـروب‌ المـجاز‌ من‌ بعدها مقتضيات النـظم وعنها يحدث وبها يكون لأنه لا يتصور أن يدخل‌ شي‌ء‌ منها‌ في الكلم وهي لم يتوخ فيما بـينها حـكم من أحكام النحو، فلا يتصور أن يـكون‌ هـهنا‌ فـعل أو اسـم قد دخلته الاسـتعارة مـن دون أن يكون قد ألف مع غيره‌ ».(المصدر‌ نفسه،  300-301)

عندما حصر الجرجاني سر الإعجاز القرآني في النظم فإنّه لا‌ يـنكر‌ بـقية‌ الأدوات مـن أسباب الإعجاز، وإنما يرفض أن تكون هذه الأدوات بـنفسها مـفردة قـادرة على بـيان‌ وجـه الإعجاز، لأنها لا تملك في رأيه القدرة على أن تشتمل القرآن كله‌، بينما‌ النظم‌ الذي هو توخي معاني النحو في معاني الكلم يملك ذلك. ويستطيع أن يهيمن على تلك‌ الأدوات‌ كلّها.

ثـم يفصل القول في تعريف النظم ويقول: «اعلم أن ليس النظم‌ إلا‌ أن‌ تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت‌ فلا‌ تزيغ‌ عنها، وتحفظ الرسوم التـي رسـمت لك فلا تخلّ بشي‌ء منها، وذلك أنا‌ لا‌ نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر‌ الى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، وزيـد يـنطلق، وينطلق زيد، ومنطلق‌ زيد‌، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق‌ وزيد‌ هو‌ منطلق. وفي الشرط والجزاء الى الوجوه التي‌ تراها‌ في قولك: إن تـخرج أخـرج، وإن‌ خرجت خرجت، وإن تخرج فـأنا خـارج، وأنا‌ خارج‌ إن خرجت، وأنا إن خرجت‌ خارج‌. وفي الحال‌ الى الوجوه‌ التي تراها في قولك: جاءني زيد‌ مسرعًا‌، وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع،  أو وهو يـسرع، وجـاءني قد أسرع، وجاءني‌ وقـد‌ أسـرع. فيعرف لكل من ذلك موضعه‌، ويجي‌ء به حيث ينبغي‌ له‌، وينظر في الحروف التي تشترك‌ في‌ معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع كلاً من‌ ذلك‌ في خـاص مـعناه، نحو أن‌ يجي‌ بما‌ في نفي الحال‌، وبلا‌ إذا أراد نفي الاستقبال‌، وبإن‌ فيما يترجّح بين أن يكون وأن لا يكون، وبإذا فيما علم أنه كائن. وينظر‌ في‌ الجمل التي تسرد، فيعرف موضع الفصل‌ فـيها‌ مـن موضع‌ الوصـل‌، ثم‌ يعرف فيما حقه الوصل‌ موضع الواو من موضع الفاء وموضع الفاء من موضع ثم وموضع أو من مـوضع أم‌ وموضع‌ لكن من موضع بل. ويتصرف في‌ التعريف‌ والتنكير‌، والتـقديم‌ والتـأخير‌ فـي الكلام كله‌، وفي‌ الحذف، والتكرار،  والإضمار، والإظهار، فيضع كلاً من ذلك في مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى مـا ‌ ‌يـنبغي‌ له‌.(المصدر‌ السابق، 56)

«فالنظم يرتبط وثيق الارتباط بالنحو‌ كما‌ ترى‌، وليس‌ المقصود‌ بـارتباط‌ النـظم بـالنحو أن يخضع لتلك القواعد الجافة الشكلية من الرفع والنصب والجر والجزم، وتقديم الفعل على المفعول وتـأخيره عنه، وتأخير الخبر عن المبتدأ وتقديمه عليه.

إنه لا‌ يقصد في نظريته الجديدة الى شـي‌ء من هذا، ولكنه يـقصد الى النـحو البلاغي أو البلاغة النحوية، وبذلك يكون أول عالم أخرج النحو من نطاق شكلية وجفافه، وسما به فوق الخلافات‌ والتحملات‌ حول الإعراب والبناء، وبعث فيه دف‌ء اللذة الشعورية والعقلية معًا، وأخضعه لفكرة النظم، وأخـضع فكرة النظم إليه، وأصبح النظم الذي يرتبط بالنحو، أو النحو الذي يعود إليه النظم مباحث‌ في‌ الأسرار البلاغية، والنكات الفنية التي تدق في جاذبيتها وتحلق في تصويرها حتى تصل الى أرفع مراقي البيان، وذلك هو الإعـجاز الذي أذاب فـيه‌ الرجل‌ العالم عصارة أيامه ولياليه». (فتحي‌، 81‌)

ومن غير شك أن عبد القاهر فتح باب التذوق البلاغي على مصراعيه للدارسين والعلماء من معاصريه والمتأخرين عنه، وظلّ صاحب مدرسة في الإعجاز القرآني‌ حـددت‌ مـعالم الفكرة المعجزة التي‌ هي‌ النظم، والخروج بعلم النحو الى نمط خير مما كان عليه.

وأصبح التعريف والتنكير والتقديم والتأخير، والإفراد والتثنية والجمع، وغير ذلك من مسائل النحو لدقائق وأسرار يغوص فـيها العـقل البشري، ويتلذذ‌ بها‌ التفكير الإنساني في آيات القرآن، ومن ثم فهي مجال البحث الدقيق، الذي يستخرج دقائق فنية عبر الأجيال المتطاولة من كتاب اللّه المعجز.

ولا تأخذنا نشوة الإعجاب بعبد القاهر أن نـعترف‌ بـأنه‌ أصـبح كل‌ شي‌ء في مجال البـحث البـلاغي المـتعلق بقضية الإعجاز، فذلك شي‌ء لا سبيل لوصول عالم أو علماء بلوغ‌ مداه، وإنما هو ميدان فسيح لصراع القرائح في الحاضر والمستقبل وتلك‌ سـمة‌ خـاصة‌ بـالتعبير القرآني.

ومهما يكن من شي‌ء فقد دخل عـبد القـاهر من أوسع الأبواب في البحوث البيانية وأمسك ‌‌بيده‌ مفتاح الأمل، ليصل الى البغية الكبرى عن طريق النظم.(المرجع السابق، 81)

«وجـملة‌ القـول‌: إن لعبد القاهر الجرجاني الفضل الكبير في تعميق النظر في مـسألة الإعجاز القرآني لدرجة يمكن القول‌ بأنها لا تزال فريدة من نوعها الى يومنا هذا حتى بعد ظهور كتاب‌ إعجاز القـرآن للرافـعي وكـتاب‌ التصوير‌ الفني في القرآن لسيد قطب، غير أن أي طرح يبقي مرهونًا بـمعارف العـصر حتى عند العباقرة، وذلك عذر كبير للجرجاني في أن يقف عند مستوى تحليل جمال العبارة متجنبًا الحديث عـن‌ النـص ولا سـيما السورة القرآنية الكاملة».(رحماني، 60)

«ولعل النص الوحيد الذي تناوله كاملاً هو سورة الفـاتحة، إذ جـعلها مـثالاً لكون فصاحة النظم معنوية ولم يتعد في تحليلها مستوى الحديث عن‌ العلاقات‌ النحوية» (المرجع نـفسه، 6) كـقوله «وجـملة الأمر أن النظم إنما هو أن الحمد من قوله تعالى:

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مـبتدأ وللّه خـبر ورب صفة لاسم اللّه تالي+ ومضاف‌ الى العالمين والعالمين مضاف إليه،  والرحمن الرحيم صفتان كـالرب...».(الجـرجاني، 347)

نـتائج المقال

لإعجاز القرآن وجوه ابرزها فكرة النظم التي وقف العلماء عندها طويلاً ولا سيما عـبد القـاهر الجرجاني الذي‌ استطاع‌ ان يضع نظرية علم المعاني والبيان وضعًا دقيقًا يحقق فيهما القـول فـي البـلاغة والفصاحة ليربطهما بالنظم ثم يعالج مشكلة اللفظ، ويرد على اللفظيين، ومشكلة المعنى، ويرد على المـعنويين ليـصل‌ من‌ وراء‌ ذلك الى هدفه وفكرته التي‌ نصب‌ نفسه‌ وحياته لها وهي فكرة النظم. ان النـظم عـند الجـرجاني هو السلك الذي ينتظم كل الادوات، ومعنى ذلك ان الاعجاز يتم بها‌ مجتمعة‌ في‌ نظام واحد وهو النظم.

 

المـصادر والمـراجع

(*) مصدر المقال: http://www.ensani.ir

1- ابـن قتيبة‌: تأويل‌ مشكل القرآن، شرح وتحقيق: السيد صقر، دار إحياء الكتب العربية، بـيروت لا.ت.

2- ابـن منظور، لسان العرب.

3- أنيس، إبراهيم والآخرون‌: المعجم‌ الوسيط‌، المكتبة الاسلامية، استانبول، تركيا، لا.ت.

4- الجاحظ، أبو عثمان عـمرو‌: الحيوان، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

5- البيان والتبيين: لجثة التأليف والترجمة والنشر، المـجلد الأول.

6- الجـرجاني عبد القاهر دلائل‌ الإعجاز‌: تصحيح‌ السيد محمد رشـيد رضـا.

7- البـاقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب: إعجاز‌ القـرآن‌، دار المـعارف، مصر.

8- الخطابي، ثلاث إعجاز لقرآن رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق الأستاذ محمد خـلف اللّه‌ و د.زغلول‌ سلام‌، دار المعارف، مصر.

9- رحـماني، أحـمد: نظريات الإعـجاز القـرآني، مـكتبة وهبة، القاهرة.ط 1، 1998‌/ م.

10- الرماني: ثلاث رسـائل فـي إعجاز القرآن، تحقيق محمد خلف اللّه، وزغلول سلام.

11‌- الزمخشري‌، جار‌ اللّه: أساس البلاغة، تـحقيق الأسـتاذ عبد الرحيم محمود، دار المعرفة للطباعة والنـشر، بيروت، لبنان‌ 1979/ م.

21-شـوقي ضـيف: البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، مـصر، 1965 م.

31‌- عـبد‌ الجبار‌، أبو الحسن: المغني في أبواب التوحيد والعدل، الخاص بإعجاز القرآن، نشر وزارة الثـقافة والإرشاد‌ القومي‌.

41- فتحي، أحمد عـامر:فـكرة النـظم بين وجوه الإعـجاز فـي القرآن الكريم‌، منشأة‌ المـعارف‌، بـالإسكندرية، 1988 م.

51- الفيروزآبادي: القاموس المحيط، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، ط 1، 1991‌ م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقالة مرتبطة:

فكرة النظم بين وجوه الإعجاز* - القسم الأوّل -


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2368
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 06 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24