• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : شهر رمضان وعيد الفطر .
                    • الموضوع : التجلّيات الإلهية في المناجاة الشعبانية (*) .

التجلّيات الإلهية في المناجاة الشعبانية (*)

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

من ألذِّ أنواع النعيم في جنان الله تعالى الجلوس مع المؤمنين، يقول تعالى: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الصافات 44] وهذا الأنس جار في الدنيا والآخرة. وَرَدَ في الحديث الشريف أنَّ المؤمن لا يأنس إلا بالله سبحانه وتعالى أو - في الدرجة الثانية - بمؤمن مثله، والمؤمنان إذا التقيا كان التقاؤهما كالتقاء ماء الأمطار وماء الأنهار يتلاحمان مباشرة بمجرد نزول ماء المطر. وإنَّ بُطء ائتلاف قلوب الفجار كبطء ائتلاف قلوب البهائم، وإن طال اعتلافها على مِذْوَدٍ واحد.

ما هي الفلسفة في أن الله أعطى امتيازًا لبعض أيام السنة أو الأشهر أو الأماكن؟

عندما نراجع واقع أمورنا الحياتية، ونتساءل: ما الذي قدمناه لحياتنا العقبى؟ نجد أن الوظيفة، الأكل، الشرب، والمعاشرة مع الزوجات... هي السمة الغالبة، وكل هذا لا يصب صبًا مباشرًا في أمور الآخرة – باستثناء حال كون نية القربة إلى الله موجودة - والله تعالى، لطفًا بنا وكرامة وإحسانًا إلينا، جعل ليلة واحدة في السنة هي خيرٌ من ألف شهر.

وطبيعة الإنسان والأصل فيه أن يكون غافلًا، عجولًا ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء 37] ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء 11]، طبيعته ضعيفًا ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء 28]. والدليل على ذلك أن اللقاء الرسمي بين العبد وربه، وقمة ذكر الله الذي يتمثل في الصلوات اليومية نجد أن نسبة الإقبال على الله تعالى في هذا الموقف متدنية. نحن في غير الصلاة نعطي قلوبنا وأفكارنا لغير الله، هذا هين، ولكن في ساعة الله في الدقائق التي هي وقْف على رب العالمين... في الصلاة اليومية الواجبة... هذه الصلاة القصيرة؛ كم ثانية منها نعطي لله رب العالمين؟... وكلنا يعلم أو بعضنا أنه لا يرفع من صلاة العبد إلا ما أقبل فيها بقلبه، وإلا فهل يغش الله تعالى بهذه الركيعات التي نعلم واقعها؟... الجواب: أبدًا.

إنَّ مناسبة شهر شعبان وشهر رمضان... هي نوع من التعويض من هذه الغفلة التي نعيشها في طوال السنة، أنت عندما تكون مقصرًا في طوال السنة فالآن الفرصة في مثل هذه الليالي المباركة.

هناك روايات تقول من صام يومًا أو كذا يوم من شهر شعبان وجبت له الجنة. لا تستعظموا هذا الأجر، البعض يسمع هذا المقدار من الثواب فيصيبه التعجب، ألا تسمعون في بعض الجمعيات أو الأماكن يُجْرون بعض السحب، يسحب أحدُهم ورقة عشوائية من الصندوق وإذا به يُعطى ألفًا أو ألفين من الدراهم، فكيف يُعطى الفرد هذا المبلغ على ورقة عشوائية، ورب العالمين لا يعطيك هكذا امتيازات مجانية مقابل أمر بسيط! وهل يعز عليه سبحانه وتعالى أن يدخلك الجنة بعمل بسيط! رب العالمين هو صاحب القرار هو صاحب الجنة والنار، فله أن يعطي الجنة لمن صام يومًا من شعبان ما الذي يمنع ذلك؟ ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء 23] عندما نسمع هذه المضامين في كتب الدعاء علينا ألا نحتقرها، وأن لا نمر عليها مرور الكرام.

التهيئة لشهر رمضان:

بمقدار ما نتهيأ ونهيئ الأرضية في شهر شعبان، بمقدار ما نقطف الثمار في شهر رمضان. مثال توضيحي: إن شهر شعبان بمثابة الفلاحة قبل الزراعة، إن مرحلة البذر ومرحلة السقي لابد وأن تسبقها مراحل أخرى من إعداد الأرض ورش المبيدات الحشرية، ثم يأتي الفلاح ليبذر، فينزل عليه المطر وإذا به كما يقول عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [فصّلت: 39]؛ هل رأيتم مصداقًا لهذه الآية في الصحاري القاحلة؟ عندما يهطل المطر الكثير عليها، هل ترون فاكهة واحدة؟ أبدًا... لماذا؟... لأن الأرض غير مستعدة، لو هطلت عليها أمطار العالم لا يمكن أن ُتنبت... نعم، تنبت في البساتين الخاصة في المحميات، لأن صاحبها هيأها لذلك، فلا يحتاج إلا للقليل من الماء لتنبت من كل زوج بهيج. كذلك أنفسنا، وشهر رمضان شهر الأمطار الغزيرة خاصة في ليالي القدر، فأمطار شهر رمضان وسيولها مفيدة لمن هيأ الأرض وبذر البذرة الصالحة. وشهر شعبان فرصة جيدة لأن نهيئ أنفسنا لشهر رمضان.

مناجاة شعبان (مناجاة أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام):

«وَكَما اَرَدْتَ اَنْ اَكُونَ كُنْتُ، فَشَكَرْتُكَ بِاِدْخالي في كَرَمِكَ، وَلِتَطْهيرِ قَلْبي مِنْ اَوْساخِ الْغَفْلَةِ عَنْكَ». هذا الكلام من العرش، فقلوب الأئمة (عليهم السلام) محطات نزول الوحي بمعنًى من المعاني، يقول: «وَلِتَطْهيرِ قَلْبي مِنْ اَوْساخِ الْغَفْلَةِ عَنْكَ». الأوساخ لا تنحصر في الذنوب وفي الزنا والشرب والقمار وما شابه ذلك، الإنسان إذا مر عليه اليوم والليلة ولا يتوجه بقلبه إلى الله تعالى للحظات أو لثوان، فهذا قلب غير مطهر، غير نظيف، وعلى الأقل عندما نقف للصلاة علينا أن نستحضر وجوده عز وجل المهيمن على الوجود.

«وَاِنْ اَدْخَلْتَني النّارَ اَعْلَمْتُ اَهْلَها اَنّي اُحِبُّكَ» يا رب لئن عصيت جوارحي فجوانحي ممتلئة بحبك. إياك أن تيأس من القرب من الله تعالى حتى مع ارتكابك للمعاصي، عالم القلب يختلف عن عالم الجوارح، الإنسان قد يزل... الإنسان قد يعصي وقد لا يراقب جوارحه، ولكن تبقى الجانحة ممتلئة بحبه تعالى، علينا أن نمتلك هذا الحب، وإن دخلنا النار بمعاصينا.

«وَاَبْلَيْتُ شَبابي في سَكْرَةِ التَّباعُدِ مِنْكَ» الشباب مرحلة القوة والفتوة والنشاط والاختيار والعزم، الشاب عندما يصمم على عمل تجاري ثقافي نجده يفلح بشكل فائق؛ لأنه قمة من النشاط، لكن مع الأسف هذا النشاط وهذه القوة في كثير من الأحيان يُصبُّ في مصب غير مرغوب لله سبحانه وتعالى، وللأسف مرحلة الندم هي مرحلة الشيخوخة مرحلة ضعف القوى وضعف العزائم. تكملة هذه الفقرة من الدعاء «اِلـهي فلَمْ اَسْتَيْقِظْ اَيّامَ اغْتِراري بِكَ» هذه أيام مرحلة الشباب، حيث بإمكاننا أن نحوز على الكثير، أما أيام الشيخوخة فهي أيام الاجترار، وسُكْرُ الشباب هو الذي يجعلنا لا نعلم أين نعيش، السُكْرُ لا ينحصر في أنواع الخمر، فهناك سُكْرُ المقام وهناك سُكْرُ الشباب وسُكْرُ المال، وهي الأمور التي تسلب الإنسان ذهنه ونشاطه.

«اِلـهي ما اَظُنُّكَ تَرُدُّني في حاجَة قَدْ اَفْنَيْتُ عُمْري في طَلَبَها مِنْكَ» معنى ذلك أن هذه الحاجة المقدسة لا يمكن أن ُتعطى من خلال عمل أو عملين فقط. أحدنا يتوقع أنه لو بذل كل قواه في شهر رمضان أنه سيصل إلى مرتبة الفالحين المقدسين، والحال أن هذه النتيجة ليست نتيجة شهر واحد، إذًا لابد من الاستمرارية والمتابعة. بعض المؤمنين يحرزون تقدمًا جيدًا في شهر رمضان، ولكن للأسف بعد شهر رمضان أو شهرين منه تذهب تلك الحالات المتميزة من القرب من الله عز وجل، الإنسان الصادق في الطلب والقصد لا يمكن أن يعمل كذلك، فهل رأيتم تاجرًا يريد أن يحصل على ثروة كبيرة فيعمل في شهر يناير - مثلًا - وينام بقية أشهر السنة؟!... بطبيعة الحال لا يمكن، بل نجده يعمل لا يفتر من الصباح إلى المساء... ليلًا نهارًا. أما الأنس مع رب العالمين، والارتباط مع مكون السماوات والأرض... والعيش في رحاب رب العزة والجلال يحتاج إلى شهر واحد في السنة؟!.. وفي البقية نحن في إجازة، إلا أن الأمر يحتاج إلى متابعة.

يقول الإمام «أفنيت عمري في طلبها منك» فإذا كان الله لا يعطي هذه المقامات لأئمته إلا بالمتابعة، فكيف نُعطى نحن هذه المقامات بمجرد إحياء ليالي القدر وبعض الأيام من شهر رمضان؟! كل إنسان محاسب على ما هو عليه ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات 24] قفوهم خطاب للأنبياء وللأولياء ولعامة البشرية... عندما تُفتح ملفات أعمالنا، نرى الدقيق من أعمالنا فيقول المرء: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف 49] عندما يُعطى الإنسان كتابه ﴿فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة 25]. ﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة 26]. ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ [الحاقة 27]. ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة 28- 29] أين الحياة التي كان مشغولًا بلهوها ولعبها؟... عندما يفتح كتابه ويرى ما فيه، تكون عندها الفضيحة؛ يعصي الله عز وجل بأدوات الله. إنسان يعطيك هدية قيِّمة فتضرب بها وجهه. فكيف يكون تصرفنا هذا مع رب العالمين؟ هل هذه الآيات لسلمان...لعمار... لأبي ذر؟ إنها تبيان لكل شيء ﴿أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى﴾ [العنكبوت 51].

هذه الأيام، وهذه الساعات، هي أيام وساعات لا تقدر بثمن، أحدنا بإمكانه أن يغير مجرى حياته في مثل هذه الأيام. من باب المناسبة كنت عند الإمام الرضا (عليه السلام)، وفي مجلس التقينا بشاب يعيش حالة من الندم على الماضي، كنت أقرأ القرآن في المجلس، هذا المؤمن ضرب على وجهه أمامي، وقال: أهذه الآية في القرآن الكريم؟ هذه الليلة لا أنام من فرط تأثري بهذه الآية. في سورة نوح ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح 13] لماذا لا توقرون رب العالمين في سلوككم... توقرون الرئيس والوزير.... ولكن لا توقرون الله، كنت نطفة قذرة في أصلاب الرجال ثم في أرحام الأمهات ثم أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا، ثم تصبح طبيبًا أو تاجرًا . آية واحدة من القرآن الكريم يمكن أن تقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب، وفعلًا رأيت هذا الإنسان وقد أصبح إنسانًا آخر، يقول لي: أيقظتَني على واقع جديد، وقد غيرتُ حياتي كلها... وأصبح يعيش عالم آخر من عوالم التغيير.

قمة الجوائز تُعطى في شهر رمضان، نحاول تهيئة الأرض تهيئة الجو لاستقبال شهر رمضان، ليكون أوج اللقاء في ليالي القدر، فلو قدّر لنا كان لنا قمّة المقدّرات في هذ الليلة (إلهي إن أثبت اسمي في ديوان الاشقياء فاكتبني في ديوان السعداء) معناها أن الله كتب اسمي في ديوان الاشقياء وفي هذه الليلة يجري تغيير المقدرات، إذن لا نيأس من رحمة الله عز وجل ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر 53] إلا جريمة واحدة وهي الشرك به، ونحن على أضعف تقدير عصاة ولسنا كفرة ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة 186]

أحد العلماء الصلحاء الأبرار المعروفين في النجف الأشرف، كان دعاؤه في السجدة الأخيرة من صلواته اليومية، يقول الناقل كان يصلي ويتفاعل في صلاته إلى أن يبكي في أثناء الصلاة وعندما يصل للسجدة الأخيرة من صلاته وهي لحظات الوداع يضع رأسه على السجدة ويقول: (إلهي يا من كتب على نفسه الرحمة، يا من سبقت رحمتُه غضبَه، صلّ على محمد وآل محمد، وأفعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله) حمد الله... الصلاة على نبيه... ثم طلب الحاجة في عبارة موجزة جامعة.

الخلاصة:

1- إن الله تعالى، لطفًا بنا وكرامة وإحسانًا إلينا، جعل ليلة واحدة في السنة هي خيرٌ من ألف شهر، كما أعطى امتيازات مختلفة لبعض الأزمنة والأماكن... لأن طبيعة الإنسان والأصل فيه أن يكون غافلًا، عجولًا، ضعيفًا.

2- بمقدار ما نتهيأ ونهيئ الأرضية في شهر شعبان بمقدار ما نقطف الثمار في شهر رمضان.

3- الأوساخ لا تنحصر في الذنوب وفي الزنا والشرب والقمار بل في الغفلة عن ذكر الله أيضًا.

4- إن (القرب إلى الله) حاجة مقدسة لا يمكن أن ُتعطى من خلال عمل أو عملين فقط.

5- إذا كان الله لا يعطي مقامات القرب لأئمته إلا بالمتابعة، فكيف نُعطى نحن هذه المقامات بمجرد إحياء ليالي القدر وبعض الأيام من شهر رمضان؟!

6- إنَّ آية واحدة من القرآن الكريم يمكن أن تقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب.

7- إن قمة الجوائز تعطى في شهر رمضان، فلنعمل على تهيئة الأرض لاستقبال شهر رمضان، ليكون أوج اللقاء في ليالي القدر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المصدر: شبكة السراج على الانترنت ـ http://www.alseraj.net، بتصرّف يسير.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2347
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 04 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24