• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : الدلالة الصوتية في القرآن (*) ــ القسم الأوّل ــ .

الدلالة الصوتية في القرآن (*) ــ القسم الأوّل ــ

الدكتور محمد حسين علي الصغير

أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الكوفة

مظاهر الدلالة الصوتية

انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب، وتوهج العبارة في منظار حياتهم، وحدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله، وتناغم الحروف في تركيبه، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه، ومع دلالته السمعية من وجه آخر، فالذي يستلذه السمع، وتسيغه النفس، وتقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة والرقة، والذي يشرأب له العنق، وتتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر والشدة، وهنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً وإيجاباً.

وبيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها، والتي كونت كلمة معينة في النص، وبين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى، وتتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً، رقةً أو خشونة، حتى تدرك بين هذا وذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة، أو إذكاء الحفيظة، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية، ويستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً، أو بتناغم الكلمة وحدها، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه.

إن إيقاع اللفظ المفرد، وتناغم الكلمة الواحدة، عبارة عن جرس موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن، أو أثر عند المتلقي، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية: «التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها» 1. فتوحي بأثر موسيقي خاص، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض، ويستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة: الألم، البهجة، اليأس، الرجاء، الرغبة، الرهبة، الوعد، الوعيد، الإنذار، التوقع، الترصد، التلبث... إلخ.

ولا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ وإن اتحدا بالمعنى، لها استقلاليتها الصوتية، إما في الصدى المؤثر، وإما في البعد الصوتي الخاص، وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى، وإما بإقبال العاطفة، وإما بزيادة التوقع، فهي حيناً تصك السمع، وحيناً تهيئ النفس، وحيناً تضفي صيغة التأثر: فزعاً من شيء، أو توجهاً لشيء، أو طمعاً في شيء، وهكذا.

هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ، وهي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة، تكونت من حروف مختارة، فشكلت أصواتاً مختارة، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى، ومجالات عديدة، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس والنغم والصدى والإيقاع.

قال الخطابي (ت: 383 ـ 388 هـ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة: «لفظ حاصل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح، ولا أجزل، ولا أعذب من ألفاظه» 2.

وهذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ، والتأثير النفسي للكلمة، والمدلول الانفعالي بالحدث، وتلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها، وقد يطول الوقوف عند استقصائها.

وكان من فضيلة القرآن الصوتية أن استوعب جميع مظاهر الدلالة في مجالاتها الواسعة، وتمرس في استيفاء وجوه التعبير عنها بمختلف الصور الناطقة، وقد يكون من غير الممكن استحضار جميع الصيغ في استعمالات منها، أو ما يبدو أنه مهم في الأقل، وذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فيما أخال وأزعم، وقد يعبر كل نموذج منها عن مظهر فني، ليقاس مثله عليه، وشبيهه به، وبذلك يتأتى للباحث والمتلقي إلقاء الضوء الكاشف على أبعاد دلالة القرآن الصوتية، في تشعب جوانبها، وعظمة انطلاقها، مما يكوّن معجماً لغوياً خاصاً بمفرداتها، وقاموساً صوتياً حافلاً بإمكاناتها.

سيقتصر حديثنا عن مظاهر الدلالة في مجالات قد تكون متقابلة، أو متناظرة، أو متضادة، أو متوافقة، وهي بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتية في القرآن، وهذا ما تتكفّل بإيضاحه المباحث الآتية.

دلالة الفزع الهائل

استعمل القرآن طائفة من الألفاظ، ثم اختار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها، واستوحى دلالتها من جنس صياغتها، فكانت دالة على ذاتها بذاتها، فالفزع مثلاً، والشدة، والهدة، والاشتباك، والخصام، والعنف، دلائل هادرة بالفزع الهائل والمناخ القاتل.

1 ـ قف عند مادة «صرخ» في القرآن، والصرخة: الصّيحة الشديدة عند الفزع، والصراخ: الصوت الشديد 3، لتلمس عن كثب، وبعفوية بالغة: الاستغاثة بلا مغيث، في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا...﴾ 4، مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته، والاضطراب قد تجاوز مداه، والصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض، فلا أذن صاغية، ولا نجدة متوقعة، فقد وصل اليأس أقصاه، والقنوط منتهاه، فالصراخ في شدة إطباقه، وتراصف إيقاعه، من توالي الصاد والطاء، وتقاطر الراء والخاء، والترنم بالواو والنون يمثل لك رنة هذا الإصطراخ المدوي «والإصطراخ: الصياح والنداء والاستغاثة، افتعال من الصراخ قلبت التاء طاءً لأجل الصاد الساكنة قبلها، وإنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء والإطباق، ويوافق التاء في المخرج» 5.

والإصراخ هو الإغاثة، وتلبية الصارخ، وقوله تعالى: ﴿... مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ...﴾ 6، تعني البراءة المتناهية، والإحباط التام، والصوت المجلجل في الدفع، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً، ولا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله، ولا يغيثه مما نزل به، فلا إنقاذ ولا خلاص ولا صريخ من هذه الهوة، وتلك النازلة، فلا الشيطان بمغيثهم، ولا هم بمغيثيه.

والصريخ في اللغة يعني المغيث والمستغيث، فهو من الأضداد، وفي المثل: عبدٌ صَريخُه أمة، أي ناصره أذل منه 7. وقد قال تعالى: ﴿... فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ﴾ 8. فيا له من موقف خاسر، وجهد بائر، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة، ولا إجارة مما وقعوا فيه.

والاستصراخ الإغاثة، واستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ، وهو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به.

قال تعالى: ﴿... فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ...﴾ 9، طلب للنجدة في فزع، ومحاولة للإنقاذ في رهب، والاستعانة على العدو بما يردعه عن الإيقاع به، وما ذلك إلا نتيجة خوف نازل، وفزع متواصل، وتشبث بالخلاص.

2 ـ وما يستوحى من شدة اللفظ في مادة «صرخ» يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ...﴾ 10، لتبرز «متشاكسون» وهي تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورَدٍّ لا يستقران، وقد تعطي معناها الكلمة: متخاصمون، ولكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر، والجدل القائم، وقد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي والصفير في الشين والسين تعاقباً، تتخللهما الكاف من وسط الحلق، والواو والنون للمد والترنم، والتأثر بالحالة، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة والجدل والنقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة، والعنف والفزع من جهة، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى.

3 ـ وتأمل مادة "كبّ" في القرآن، وهي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى: ﴿... فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ...﴾ 11. فلا إنقاذ ولا خلاص ولا إخراج، والوجه أشرف مواضع الجسد، وهو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن.

والإكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل، قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ...﴾ 12.

والكبكبة تدهور الشيء في هوة 13، قال تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾ 14.

وهذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري (ت: 538 هـ) بقوله: «إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى» 15.

وقال العلامة الطيبي (ت: 743 هـ): «كرر الكب دلالة على الشدة» 16.

ومن هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر، وتفخيم الدلالة، وهذا أمر مطرد في القرآن، وقد يمثله قوله تعالى: ﴿... فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ 17. والمادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب.

الإغراق في مدّ الصوت واستطالته

هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول والمد والتشديد وبالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع، فإننا نجد القرآن الكريم يستعمل أفخمها لفظاً، وأعظمها وقعاً، فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها، لتستنتج من ذلك أهميتها وأحقيتها بالتلبث والرصد والتفكير.

من تلك الألفاظ: الحاقّة، الطّامة، الصّاخة. وقد تأتي مجرّدة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها، مثل: دابّة. كافة.

هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل، واصطكاك السمع بصداها المدوي، وأخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً: الأحداث، المفاجئات، النتائج المجهولة.

الحاقة الطامة والصاخة: كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي، والأداء الجهوري لسماع رنتها، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في جلجلة الصوت، وشدة الإيقاع، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ ودلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى، وهو يوم القيامة، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمطابقة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت والمعنى الحقيقي، فقوله تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ 18 إشارة إلى يوم القيامة، وعلم عليها فيما أفاد العلماء، قال الفرّاء (ت: 207 هـ): «الحاقة: القيامة، سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء» 19.

وقال الطبرسي (ت: 548 هـ) «الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين، وسميت بذلك، لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع، صادقة الوجود. وقيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم: " حاققته فحققته، مثل: خاصمته فخصمته»20.

وقيل: لأنها تحق كل إنسان بعمله. ويقال: حقّت القيامة: أحاطت بالخلائق فهي حاقة 21. فإذا رصدت الصاخة، رأيتها القيامة أيضاً، وبه فسّر أبو عبيدة (ت: 210 هـ) قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ﴾ 22. فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخَّ يصخُّ، وإما أن تكون مصدراً وقال أبو اسحق الزجاج: الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع، أي: تصمها فلا تسمع.

وقال ابن سيده: الصاخة: صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها، ومنه سميت القيامة.

ويقال: كأن في أذنه صاخة، أي طعنة 23.

وقال الطريحي (ت: 1085 هـ) الصاخة بتشديد الخاء يعني القيامة، فإنها تصخ الأسماع، أي تقرعها وتصمها، يقال: رجل أصخ، إذا كان لا يسمع 24. والمعاني كلها متقاربة في الدلالة، إلا أن الراغب (ت: 502 هـ) يعطي الصاخة دلالة أعمق في الإرادة الصوتية المنفردة فيقول: الصاخة شدة صوت ذي المنطق 25.

فيكون استعمالها حينئذ في القيامة على سبيل المجاز. فإذا وقفنا عند الطامة، فهي القيامة تطم على كل شيء 26. وإليه ذهب الزجاج: الطامة هي الصيحة التي تطم على كل شيء 27. وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها: طامة 28. قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾ 29. قال الطبرسي (ت: 548 هـ) «وهي القيامة لأنها تطم كل داهية هائلة، أي تعلو وتغلب، ومن ذلك قيل: ما من طامة إلا وفوقها طامة، والقيامة فوق كل طامة، فهي الداهية العظمى»30.

ولعل اختيار الطبرسي للداهية في تفسير الطامة باعتبارها داهية لا يستطاع دفعها، ولأن القيامة تطم كل داهية هائلة، لا يخلو من وجه عربي أصيل، فالعرب استعملت الطامة في الداهية العظيمة تغلب ما سواها، وأية داهية أعظم من القيامة لاسيما وهي توصف هنا بالكبرى.

إن موافقة أصوات الحاقة والصاخة والطامة لمعانيها في الدلالة على يوم القيامة، من أعظم الدلالات الصوتية في الشدة والوقع والتلاؤم البنيوي والمعنوي لمثل هذه الصيغة الحافلة.

ودلالة هذه الصيغة في: دابة، وكافة، على الشمول والكلية المطلقة يوحي بالمضمون نفسه في الإيقاع الصوتي، قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ 31، فشمل الخلائق كلها، وأصناف الأجناس المرئية وغير المرئية مما يدب أدركناه أو لم ندركه، علمنا طبيعة رزقه أو لم نعلم، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا...﴾ 32 يدل أن هذا الرسول العربي الأمين، لم يختص بزمنية، ولم يبعث لطبقة خاصة، فتخطى برسالته حدود الزمان والمكان، فكانت عالمية السيرورة، إنسانية الأحياء، البشارة في يد، والنذارة في يد، لينقذ العالم أجمع من خلال هاتين.

الصيغة الصوتية الواحدة

وظاهرة أخرى جديرة بالعناية والتلبث، هي تسمية الكائن الواحد، والأمر المرتقب المنظور، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة، بنسق صوتي متجانس، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه، وبصوتيته على كنه معناه، ومن ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى، في إطار الفاعل المتمكن، والقائم الذي لا يجحد.

هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق، ويبعثك صوتها من الجذور، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه، ولا خلاص منه، فهو واقع يقرعك بقوارعه، وحادث يثيرك برواجفه.. الصدى الصوتي، والوزن المتراص، والسكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون وعوالم وعظات وعبر ومتغيرات في:

الواقعة | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية، وكل معطيك المعنى المناسب للصوت، والدلالة المنتزعة من اللفظ، وتصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة.

1 ـ الواقعة، قال تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ 33.

وقال تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ 34.

قال الخليل: وقع الشيء يقع وقوعاً، أي: هوياً. والواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر 35.

وقال الراغب (ت: 502 هـ) الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع: جاء في العذاب والشدائد 36.

وقال الطبرسي (ت: 548 هـ) في تفسيره للواقعة: «والواقعة اسم القيامة كالآزفة وغيرها، والمعنى إذا حدثت الحادثة، وهي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة. وقيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة، أو لشدة وقعها» 37. وقال ابن منظور (ت: 711 هـ) الواقعة: الداهية، والواقعة النازلة من صروف الدهر، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة 38.

وباستقراء هذه الأقوال، ومقارنة بعضها ببعض، تتجلى الدلالة الصوتية، فالوقوع هو الهوي، وسقوط الشيء من الأعلى، والواقعة هي النازلة الشديد، والواقعة هي الداهية، وهي الحادثة، وهي الصيحة، وهي اسم من أسماء يوم القيامة، وأكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة والعذاب، وصوت اللفظ يوحي بهذا المعنى، وإطلاقه بزنة الفاعل، وإسناده بصيغة الماضي، يدلان على وقوعه في شدته وهدته، وصيحته وداهيته.

2 ـ القارعة، قال تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ 39.

وقال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ 40.

قال الخليل (ت: 175 هـ): والقارعة: القيامة. والقارعة: الشدة.

وفلان أمن قوارع الدهر: أي شدائده. وقوارع القرآن: نحو آية الكرسي، يقال: من قرأها لم تصيبه قارعة.

وكل شيء ضربته فقد قرعته. قال أبو ذؤيب الهذلي 41:

حتى كأني للحوادث مروة *** بصفا المشرق كل يوم تقرع

قال الطبرسي: وسميت القارعة، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن 42. والقارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب 43.

وأنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة 44.

وبمقارنة هذه المعاني، نجدها متقاربة الدلالة، فالقارعة الشدة، وقوارع الدهر شدائده، وكل شيء ضربته فقد قرعته، والقارعة تقرع القلوب بالفزع، وقلوب العباد بالمخافة، وأعداء الله بالعذاب، وهي في موضع كناية للتعبير عن القيامة، من أجل التذكير بصفة القرع، وكلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن، وتفزع القلوب بالشدة، تتوالى خلالها المترادفات والمشتركات، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة، وهي مجاورة لها في الشدة والهول والصدى والإيقاع.

3 ـ الآزفة، قال تعالى: ﴿أَزِفَتْ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ 45.

وقال تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ 46.

قال الراغب: معناه: أي دنت القيامة... فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها وضيق وقتها 47.

وقال الطبرسي: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ...﴾ 48. أي الدانية. وهو يوم القيامة، لأن كل ما هو آت دان قريب 49.

قال الزمخشري: والآزفة، القيامة لأزوفها 50. وفي اللغة: الآزفة القيامة، وإن استبعد الناس مداها 51. والآزفة: الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته.

ورقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر، وصفير الزاي من الأسنان، وانحدار الفاء من أسفل الشفة، والسكت على الهاء منبعثة من الأعماق، كالرقة في معناها في الدنو والاقتراب وحلول الوقت، ومع هذه الرقة في الصوت والمعنى، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه، ومن هذا التأفف هديره ورجيفه، فادناء يوم القيامة غير إدناء الحبيب، واقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد، أنه دنو اليوم الموعود، والحالات الحرجة، والهدير النازل، إنه يوم القيامة في شدائده، فكانت الآزفة كالواقعة والقارعة.

4 ـ الراجفة والرادفة، قال تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ 52 وتبدأ القيامة بالراجفة، وهي النفخة الأولى (تتبعها الرادفة) وهي النفحة الثانية 53.

وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك 54. قال الزمخشري (ت: 538 هـ) «الراجفة: الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفحة الأولى، وصفت بما يحدث بحدوثها (تتبعها الرادفة) أي الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفحة الثانية، أي القيامة التي يستعجلها الكفرة، استبعاداً لها وهي رادفة لهم لاقترابها. وقيل الراجفة: الأرض والجبال من قوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ...﴾ 55 والرادفة: السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها إثر ذلك» 56. وقال الطبرسي (ت: 548 هـ) الراجفة: يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق، والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض (تتبعها الرادفة) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى، وهي التي يبعث معها الخلق 57.

وبمتابعة هذه المعاني: النفخة الأولى، النفخة الثانية، الصيحة، التردد، الاضطراب، الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال، الواقعة التي تردف الراجفة، انشقاق السماء، انتثار الكواكب، الرعد إذا تمخض، بعث الخلائق وانتشارهم.. إلخ.

بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف والوجيف، والتزلزل والاضطراب، وتغيير الكون، وتبدل العوالم ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ 58.

فتعاقبت معالم الراجفة والرادفة مع معالم الواقعة والقارعة والآزفة، وتناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى والأوزان.

5 ـ الغاشية، قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ 59. وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس والحسن وقتادة 60.

قال الراغب (ت: 502 هـ) الغاشية كناية عن القيامة وجمعها غواش 61.

وقال الزمخشري (ت: 538 هـ): الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها، يعني القيامة 62.

وقال ابن منظور (ت: 711 هـ) الغاشية القيامة، لأنها تغشى الخلق بإفزاعها، وقيل الغاشية: النار لأنها تغشى وجوه الكفار. وقيل للقيامة غاشية: لأنها تجلل الخلق فتعمهم 63.

وبمقارنة هذه الأقوال، وضم بعضها إلى بعض، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها، وتعم الخلق بأفزاعها، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب، وقد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها، وتلبسهم أهوالها.. إلخ.

إذن، ما أقرب هذا المناخ المفزع، والأفق الرهيب لمناخ الواقعة والقارعة والآزفة والراجفة والرادفة، إنه منطلق واحد، في صيغة واحدة، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها، وصوت حافل تتساقط حوله مصاعبها، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية، في الشدائد، والنوازل، والقوارع، والوقائع، لتصور لنا عن كثب هيجانها وغليانها، وشمولها وإحاطتها: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ 64.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الفصل السادس من كتاب: «الصوت اللُّغوي في القرآن» للدكتور محمد حسين علي الصغير أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الكوفة- عن: موقع مركز الإشعاع الإسلامي للدراسات والبحوث الإسلامية، بتصرّف يسير.

1. إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ: 46.

2. الخطابي، بيان إعجاز القرآن: 27.

3. ظ: ابن منظور، لسان العرب: 4، 2.

4. القرآن الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 37، الصفحة: 438.

5. الطبرسي، مجمع البيان: 4، 410.

6. القرآن الكريم: سورة إبراهيم (14)، الآية: 22، الصفحة: 258.

7. ابن منظور، لسان العرب: 4، 3.

8. القرآن الكريم: سورة يس (36)، الآية: 43، الصفحة: 443.

9. القرآن الكريم: سورة القصص (28)، الآية: 18، الصفحة: 387.

10. القرآن الكريم: سورة الزمر (39)، الآية: 29، الصفحة: 461.

11. القرآن الكريم: سورة النمل (27)، الآية: 90، الصفحة: 385.

12. القرآن الكريم: سورة الملك (67)، الآية: 22، الصفحة: 563.

13. الراغب، المفردات: 420.

14. القرآن الكريم: سورة الشعراء (26)، الآية: 94، الصفحة: 371.

15. الزمخشري، الكشاف: 1، 41.

16. الطيبي، التبيان في علم المعاني والبديع والبيان: 474.

17. القرآن الكريم: سورة طه (20)، الآية: 78، الصفحة: 317.

18. القرآن الكريم: سورة الحاقة (69)، الآيات: 1 - 3، الصفحة: 566.

19. الفراء، معاني القرآن: 3، 179.

20. الطبرسي، مجمع البيان: 5، 342 ـ 343.

21. الطريحي، مجمع البحرين: 5، 147.

22. القرآن الكريم: سورة عبس (80)، الآية: 33، الصفحة: 585.

23. ابن منظور، لسان العرب: 4، 2.

24. الطريحي، مجمع البحرين: 2، 437.

25. الراغب، المفردات: 275.

26. الفراء، معاني القرآن: 3، 234.

27. ابن منظور، لسان العرب: 15، 263.

28. الطبرسي، مجمع البيان: 5، 433.

29. القرآن الكريم: سورة النازعات (79)، الآية: 34، الصفحة: 584.

30. الطبرسي، مجمع البيان: 5، 434.

31. القرآن الكريم: سورة هود (11)، الآية: 6، الصفحة: 222.

32. القرآن الكريم: سورة سبأ (34)، الآية: 28، الصفحة: 431.

33. القرآن الكريم: سورة الواقعة (56)، الآية: 1 و2، الصفحة: 534.

34. القرآن الكريم: سورة الحاقة (69)، الآية: 15، الصفحة: 567.

35. الخليل، العين: 2، 176.

36. الراغب، المفردات: 530.

37. الطبرسي، مجمع البيان: 5، 214.

38. ابن منظور، لسان العرب: 10، 285.

39. القرآن الكريم: سورة القارعة (101)، الآيات: 1 - 3، الصفحة: 600.

40. القرآن الكريم: سورة الحاقة (69)، الآية: 4، الصفحة: 566.

41. الخليل، العين: 1، 156.

42. الطبرسي، مجمع البيان: 5، 342.

43. المصدر نفسه: 5، 532.

44. المصدر نفسه: 5، 343.

45. القرآن الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 57 و58، الصفحة: 528.

46. القرآن الكريم: سورة غافر (40)، الآية: 18، الصفحة: 469.

47. الراغب، المفردات: 17.

48. القرآن الكريم: سورة غافر (40)، الآية: 18، الصفحة: 469.

49. الطبرسي، مجمع البيان: 4، 518.

50. الزمخشري، أساس البلاغة: 5.

51. ابن منظور، لسان العرب: 1، 346.

52. القرآن الكريم: سورة الإنسان (76)، الآية: 6 و7، الصفحة: 579.

53. الفراء، معاني القرآن: 3، 231.

54. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 4، 467.

55. القرآن الكريم: سورة المزمل (73)، الآية: 14، الصفحة: 574.

56. الزمخشري، الكشاف: 4، 212.

57. الطبرسي، مجمع البيان: 5، 430.

58. القرآن الكريم: سورة إبراهيم (14)، الآية: 48، الصفحة: 261.

59. القرآن الكريم: سورة الغاشية (88)، الآية: 1، الصفحة: 592.

60. الطبرسي، مجمع البيان: 5، 478.

61. الراغب، المفردات: 361.

62. الزمخشري، الكشاف: 4، 246.

63. ابن منظور، لسان العرب: 19، 362.

64. القرآن الكريم: سورة القيامة (75)، الآيات: 5 - 12، الصفحة: 577.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2279
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 08 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24